-->

الفصل الحادي عشر : الفصل الخامس عشر - عتمة الزينة - الجزء الثاني من دجى الليل



الفصل الحادي عشر

 

"أهلاً يا شهاب ازيك؟" اجابت أروى هاتفها

"تمام.. انتي عاملة ايه؟" جاراها بالحديث حتى يصل لما يريده

"انا تمام.." صمتت لبرهة بينما تعطي له الوقت حتى يخبرها بسبب تلك المكالمة، فلابد وأنه يريد شيئاً ما

"متعرفيش زينة موبايلها مقفول بقاله فترة ليه؟!" تحدث بجرأة ونبرة واثقة 

"وأنت عايزها في ايه؟!" اجابت سائلة بتلقائية ليطبق هو أسنانه بعنف، فلولا أنه يريد معرفة ما حدث لكريم عمه وأنه يريد إرضاء والده لكان آراها من هو شهاب الدمنهوري

"أبداً.. كنت عايز أعمل زيارة تاني للمواقع قبل ما نمضي العقود.. كمان الموضوع طول وبَوخ اوي" 

"تمام.. هي عموماً سافرت المانيا تاني.. لو على المواقع والعقود ممكن أنا أتصرف.. شوف المعاد اللي يناسبك وبلغنا بيه"

"تمام.. هاخلي الـ Assistant (المساعدة) تبلغكوا بالمعاد.. سلام"

انهت المكالمة مع شهاب لتشعر وكأنها كادت أن تنفجر من كثرة الغيظ!! زينة.. زينة.. زينة..

بالمنزل والدتها لا تنفك تتحدث عنها والعمل وقت سليم أصبح بأكمله لها، بالطبع مفتقرة الخبرة تلك الغبية لا تعرف شيئاً، دائماً تريد من يكون بجانبها حتى يعلمها كل شيء، والآن شهاب الدمنهوري يسأل عنها!! 

هي لا تعرف من هي أروى بعد، ولكنها ستعمل جاهداً على توضيح ذلك لها المرة المقبلة، فقط لتعود من سفرها المذعوم وستريها من هي أروى الدمنهوري.. تلك الصغيرة لن تتحكم بالجميع حولها، لابد وأنها تزيف كل ما تفعله وتؤدي دورها ببراعة حتى يقع الجميع بخدعتها ويصدقوا أنها تلك الحساسة الصغيرة.. 

لن تترك لها الفرصة حتى تصبح الأهم!! لن يحدث!! لن تتنازل عن حلمها ببساطة بين ليلة وضحاها.. إن كانت زينة عقبة الآن بطريقها ستعمل بجدية على ازاحتها منه او حتى لو كلف الأمر أن تنتهي منها تماماً.. 


--

 

        

يلعن ذلك اليوم الذي توجب عليه أن يتعامل مع هؤلاء الحثالة!! يلعن عمه بينه وبين نفسه الذي جعله يتعامل مع تلك المغرورة!! لو فقط تسنح الفرصة لكان أجبرها أن تركع أسفل قدماه لتقبلهما وهي خائفة مرتعدة وهو يتفنن في اذلالها.. سيحدث كل هذا ولكن بعد أن ينول مراده من تلك العائلة أولاً..

ارتشف من قهوته الساخنة ثم شرد بأرض مكتبه وهو يفكر جيداً كيف سيستقطب زينة نحوه.. مظهرها أوحى له أنها ليست مثل تلك الفتيات المغرورات، ملابسها وتصفيفة شعرها وكل شيء بها يوحي أنها ليست مثل الطبقة اللاتي يتعمد أن يكسر كبرياءهم، ولكنها ترعرعت بين هؤلاء الأثرياء!!

نهض وهو يجوب مكتبه ذهاباً واياباً ليُفكر بخطته.. تلك الفتاة بعدما قضى معها يوماً كاملاً كانت على طبيعتها للغاية، ولكنها تبدو أنها ترتعب من أمراً ما.. هناك شيئاً بينها وبين والدتها.. لا تتقبل التحكم مطلقاً.. مترددة كثيراً بل وتفعل كل شيء وعكسه..

سليم يكن لها مشاعر عدة، يرى غيرته التي تتأجج بعيناه كلما تحدثت زينة لشهاب أمامه، كما أنه يتذكر ملياً عدم تقبلها لتصرفاته.. إذن عليه أن يبدأ معها بزيارتها لعمه، لشركته، ثم سيعرف جيداً كيف يستقطب اهتمامها.. تلك الفتاة لا تجد من يستمع لها، بالطبع كوالدة مثل والدتها وأخت مثل أختها بشخصيتها المغرورة الفظة ورجل متحكم للغاية كسليم لن تجد نفسها بينهم..

سيستمع لها، سيستقطبها، سيصل لما يريده وبعدها سينتقم منهم جميعاً.. لا يعرف أحد منهم كم يعاني كلما نظر لهؤلاء الحثالة، لا يعرف أحد أن شهاب الدمنهوري لم يخلق بعد من يرغمه على شيء.. أسيأتى احد تلك الأطفال ليرغموه على إبرام عقداً معهم لسنوات!!

ابتسم متهكماً على تلك الخُطة التي تخيلها برأسه، لقد فكر كثيراً في الأمر، لابد من أن يحقق غايته أولاً فقط إرضاءاً لوالده وبعد ذلك سينتقم من الجميع واحداً واحداً.. 

"ايوة يا وليد فيه ايه؟" اجاب بحنق بعد أن انتشله رنين هاتفه من تفكيره العميق

"مالك بس.. أصل بقالك فترة لا حس ولا خبر.. ايه يا عم ما براحة علينا شوية.. ولا دنيا رجال الأعمال واخداك مننا؟" تحدث له وليد بتلقائية بعد أن تعجب من تلك النبرة الفظة التي يحدثه شهاب بها

"وليد بص.. والدي تعبان اليومين دول والشركات كلها مسئوليتها عليا ومش فاضي أنا لأي حاجة" 

"ايه.. الـ boss خلاص قرر يسيبه من الكار وعجبه البدلة والكرافتة؟!" سأله وليد بتهكم ليحاول شهاب السيطرة على انفعاله وهو قد نفذ صبره من وليد فهو لم يعد في حاجة ليتاجر في الممنوعات ولكنه لا يريد أن يُخبر بها وليد صراحةً لأن الكل يعلم أن من يسير بهذا الطريق لن ينتهي منه أبداً

"أكيد لأ.. بس أنت عارف إني مبحبش العك.. صاحب بالين كداب يا وليد"

"ما طول عمرك كنت صاحب بالين يا شهاب! بس أحب أفكرك ان سكتنا دي محدش بيطلع منها غير بالموت" أخبره بجدية محذراً

"كنت صاحب بالين لما كل حاجة كانت صغيرة، إنما دلوقتي الغلطة تودي في داهية.. وملوش لزوم تفكرني بالكلام ده أنا عارف أنا بعمل ايه كويس.." تريث لبرهة بينما سمع ضحكة ساخرة كتعقيب من وليد على كلماته "مش شهاب الدمنهوري اللي يهزر يا وليد عشان تضحك على كلامه.." أطبق أسنانه بغل شديد 

"أنا شايف إنك مش عايز تشوفني يجي من أكتر من شهر، وفيه ناس كتيرة عايزة تنفذ.. لو عايزني أتصرف من غيرك أنا معنديش مشكلة"

"أنت مصمم بردو على التليفون! ماشي.. اتصرف زي ما تحب.. بس يكون في علمك في حاجة كبيرة اوي مستنياك.. والحاجة دي تقريباً بكل سنين عمرنا اللي فاتت.. عايز تستنى براحتك.. مش عايز بردو براحتك.. وأنت حر في الأول وفي الآخر"

"ماشي يا شهاب هستنى.. أما نشوف آخرتها" عقب وليد على كلمات شهاب متآففاً

"سلام وهاكلمك تاني" 

أنهى مكالمته وهو يبتسم بخبث شديد.. منذ دقائق كان يفكر بهؤلاء الحثالة وانتقامه منهم، ومنذ ثوان كان لا يطيق التحدث لوليد.. أمّا الآن فيبدو وأن شهاب الدمنهوري سيضرب عصفورين بحجر.. ماذا لو مزج انتقامه من تلك العائلة بتخلصه من وليد!! تبدو خطة منطقية حتى ينتهي من الجميع! 

عليه فقط أن ينتظر عودة تلك الفتاة، يبدأ في تنفيذ كل ما خطط له، وبعدها سينعم بخاطراً هادئاً لا تشوبه شائبة ولا يعكره لا وليد ولا هؤلاء الأطفال المزعجين..

 

--

يوليو 2018.. 


"ماذا بعد كل هذا الإشتياق أسودي العزيز؟ لأول مرة أنا مشتاقة للعودة.. لأول مرة أشعر وكأنما هناك شيئاً ينقصني.. لم أعد أشعر بالراحة بعيداً عن منزل خالي بدر الدين، أشتقت لتلك الضحكات وذلك الدفء.. لا أدري ماذا يحدث لي..

لا زلت لا أعلم من تلك الفتاة الجديدة بداخلي.. أود حقاً أن اراها بوضوح، أود أن أكتشف ملامحها أو ألاحظها ولو من بعيد.. أتصدق أنني حقاً تلك الفتاة التي لا تنزع هاتفها من يدها؟ أتصدق أنني لا أستطيع النوم دون أن أتحدث لشاب.. لا هو ليس شاب.. بل رجل رائع لديه القدرة على رسم الإبتسامة على شفتاي.. من هي تلك الفتاة التي تحيا بداخلي منذ أسابيع؟ 

يا للسخرية.. لا أنفك أسألك عني وعن من يعيشون بداخلي.. أنا حقاً ممتنة لأنك تتحملني أسودي العزيز.. والآن دعني أحدثك قليلاً عن سليم!

هو يسمعني.. يمازحني.. يكترث لأجلي.. يهتم بمعرفة كل التفاصيل عني.. يستمع ليومي بأكمله.. بل ويساعدني عندما أتردد بإختيار الأشياء أو بإتخاذ قرار، وأفضل شيء أنني لا أشعر بأنه يتحكم بي مثل الجميع.. هو مختلف عن كل من تعاملت معهم، حتى خالي نفسه.. أشعر مؤخراً كم هو مختلفاً لدي عن كل ما تعاملت معهم يوماً ما..

أتظن أنني قد نما بداخلي نوعاً من الإعجاب؟ أم كل ذلك مجرد تعود؟ أم إهتمام؟ أو ربما أنا أحبـ.." وصدت الدفتر بسرعة وخفقات قلبها تزايدت بجنون.. لم تستطع الإطناب أكثر.. عبثت بأصابعها بتوتر ورغماً عنها ابتسامة مهتزة طرقت باب شفتاها.. لأول مرة بحياتها أوشكت على الإعتراف بمشاعرها تجاه شخص.. تجاه رجل.. ولم يكن سوى ابن خالها سليم!!

انبعثت بملامحه السعادة ولم يتوقف عن الإبتسام ولو للحظة واحدة وهو يراها أمامه جالسة أمام نهر شبريه، لقد كان يحفظ كل تفاصيل يومها الذي اعتادت أن تخبره عنه، علم أنه سيجدها الآن هنا بهذا المكان.. تعجب كثيراً ماذا كانت تكتب ولكنه سيعلم عاجلاً أم آجلاً.. 

تحدث لأحد بجانبه بالإنجليزية ثم استند على احدى أعمدة النور عاقداً ذراعيه وعكست أحدى أقدامه الأخرى لينظر في استمتاع وهو يتلهف لرؤية رد فعلها على أولى مفآجأته لها..

لقد أستأجر فرقة موسيقية بأكملها لتعزف لها أحدى أحب المقطوعات لديها، منذ أن كانت صغيرة وهي تسمعها بل وتعشقها ولطالما أعادت سماعها وكأنها لا تمل منها أبداً، مقطوعة تبدو سعيدة، مقطوعة تشبه زينته القديمة الزاهية بألوانها المختلطة وبقهقهاتها التي يعشقها.

كانت لازالت غارقة في تفكير عميق ولم تنتبه من غفلتها إلا عندما لاحظت رجلان يبسطون بساطاً أرضياً أحمر قانياً ثم أخذ بعض العازفون الذين قاربوا العشرون فرداً في عزف المقطوعة وهي لم تدري من أين آتى هؤلاء بينما أقترب منها رجل يبدو نبيلاً للغاية يرتدي بزة رسمية ليدعوها للرقص فابتسمت له وهي تنظر حولها بإستغراب لكل ما يحدث حولها..

"لقد عرفنا أنكِ تحبين هذه المقطوعة كثيراً من شخص يهتم لأجلك.. هل من الممكن أن تخلدي تلك الذكرى بمشاركتي هذه الرقصة أيتها الحسناء؟!" ابتسم لها بلباقة بعد أن أخبرها بألمانية رسمية للغاية لتجد نفسها تضحك وقبلت عرضه لتبدأ بالرقص معه لتجده أنه يبدو محترفاً للغاية كراقص دولي!

أخذت في الرقص وهي مندهشة تماماً من الشخص الذي يهتم لأجلها ثم فجأة استدارت وهي ترقص لتتعجب بإلتفاف جميع العازفون حولها في دائرة منتظمة بملابسهم الرسمية لتندهش لماذا يحدث لها كل ذلك! هل فازت باليانصيب؟ حسناً.. هي تتخيل لا محالة.. كل ما يحدث حولها مجرد نسج خيالها ليس إلا..

استدارت بخفة مجدداً تبعاً لخطوات الرقصة الشهيرة على تلك المقطوعة وعند إكمالها الدائرة وجدت صفاً من الرجال يرتدون بزات رسمية أقربهم إليها جلس راكعاً على احدى ركبتيه يُمسك بصندوق صغير يبدو وكأنه به هدية ما وخلفه حوالي ستة رجال آخرون كل منهما يُمسك بصندوق يبدو به هدية والعجيب أنهم يقفون بطريقة غريبة فالأول راكعاً ومن خلفه أطول قليلاً وهكذا حتى رآت الأخير واقفاً تماماً لتبتسم في تعجب شديد ليقدم لها الرجل الأول يده ليعطي الصندوق إليها لتضيق ما بين حاجبيها في تعجب وهي تنظر للصندوق وتوقفت عن الرقص تماماً 

"كل عام وأنتِ بخير.." اخبرها بالألمانية ثم ابتسم لها لتأخذ الصندوق بتردد ليفر هو سريعاً ويتقدم من خلفه ليركع أمامها ويعطيها الصندوق بيده ويخبرها بإبتسامة رسمية مثل الأول وهكذا حتى وصل الرجل الأخير لها وأعطاها أكبر صندوق بينهم وهي لا تدري لماذا يحدث لها كل ذلك 

"من أجلكِ عزيزتي.. كل عام وأنتِ بخير آنسة زينة" ابتسم لها ليرتفعا حاجبيها في دهشة وتتوسع زرقاوتيها، هي لا تعرف هذا الرجل ولم تره يوماً ما.. كيف يعرف اسمها؟ وبلحظة غادر وبالكاد نظرت لتبحث عنه وفجأة انطلقت الكثير من البالونات الملونة بألوان عديدة من شاحنة ما وكلها طُبع عليها اسمها لتنظر حولها في اندهاش شديد لتجد أن كل الناس يجتمعون حولها وينظرون ومنهم من يصفق بيده وهنا قرر سليم أن ينتشلها من حالة الصدمة والتعجب تلك ليتوجه خلفها 

"كل سنة وانتي طيبة يا زوزا" همس بجانب أذنها لتلتفت وعينيتيها متوسعتان في فرحة وتركت تلك الصناديق لتقع أرضاً وتلقائياً وجدت نفسها تحتضنه في عناق حاوطت به عنق سليم بكلتا ذراعيها حتى شعر بشدة اندفاعها نحوه ليستمعا سوياً لكل ذلك الجمهور الذي يشاهدهم يصفق لهما لتهمس هي باسمه

"سليم.. سليم أنت.. انت هنا بجد؟" سألته في دهشة

"وحشتيني يا زينة" همس لها ليفترقا قليلاً 

"وانت كمان وحشتني اوي"

"كل سنة وانتي طيبة" أخبرها بإبتسامة لتتوسع ابتسامتها 

"أنت بجد افتكرت!!" نظرت لها والفرحة تتراقص بأعينها ليومأ لها "بس ده لسه بكرة مش النهاردة" همست له ليومأ لها مجدداً في تفهم 

"قولت ما دام بكرة السبت وبعده الحد منخليهوش يوم واحد.. نخليه اتنين" ابتسم لها لتنظر له في غير تصديق والإبتسامة لا تغادر شفتيها بينما بدأ العازفون في العزف مجدداً مقطوعة أخرى ولكن الحانها أختلفت كثيراً عن الأولى فهذه كانت هادئة للغاية وقدم سليم يده لها لتقدم هي الأخرى يدها حتى أصبحت يد سليم تحتوي خاصتها وشرعا سوياً في الرقص وبدأ هو جذبها بحرص وخفة حتى استقرت بين أحضانه بالكامل..

نسيا أنفسهما.. لا يُصدق أنه يستنشق رائحة شعرها وهو يحاوط خصرها بين يداه بالكامل، أخيراً هو معها، مع زينة حياته التي تكملها وتتمها بتلك الإبتسامة الرائعة التي تمثل له شمس حياة جميلة..

لا تُصدق أنه يفعل كل ذلك من أجلها، غرقت في توتر رهيب، وجهها اكتسى بالحمرة ولكن لما؟! لأنه ابن خالها؟ أم لأنها كادت للتو أن تعترف بمشاعرها له؟ أم أنها في حالة انتشاء مما رآته بالدقائق الماضية؟ أيمكن أن يشعر بخفقات قلبها التي تتعالى من اقترابهما الشديد هكذا؟ ماذا سيظنها إذا شعر بها الآن؟

"حاسة بيا يا زينة؟ حاسة بنبض قلبي عامل ازاي؟ حاسة أنا بحبك قد ايه؟ أنا خلاص مش عايز حاجة من الدنيا كلها وأنتي في حضني.. ياااه لو تفضلي كده على طول!! لو بس تعرفي قد ايه أنا بحبك.. بحبك يا زينة.. بحبك اوي ومبقتش قادر اعيش بعيد عنك ولو لحظة واحدة.. غبتي عني تسبوعين بس كنت بتعذب فيهم.. امتى بقا تكوني جنبي على طول" تمتم عقله لتزداد شدة ذراعاه تلقائياً حول خصرها وكأنه يريد أن تلتصق به وألا تغادره أبداً وقد شعرت زينة بمدى دفء جسده وأنفاسه المتلاحقة الدافئة التي شعرت بها على جانب جبهتها وتثاقل جفنيها رغماً عنها لتقترب منه أكثر وجسديهما لا زالا يتناغمان على تلك المعزوفة الرائعة وودا لو أستمرا أكثر بهذا التقارب..

"هو ليه كده كل حاجة اتغيرت معاه.. أنا متلخبطة أوي.. حاسة إن رجليا مش قادرة اقف عليها.. وليه قلبي بيدق بسرعة كده.. طب ابعده واقوله ابعد؟ بس لأ!! أنا مش عايزاه يبعد.. أنا مبسوطة وهو جنبي كده.. لأ أنا مش مبسوطة وبس.. أنا عمري ما اتبسطت بالشكل ده أبداً.. أنا ايه اللي بيحصلي بالظبط.. أنا بحب سليم ولا ايه؟!" سألت نفسها مراراً بينما تلامس جانب وجهه بجبهتها لا يهون الوضع عليها أبداً وازداد توترها وتوصيدها لعيناها ثم توقف العازفون ولكنهما لم يبتعدا..

"يا اغبيا كنتو طولوا شوية.. افف!!!" صاح سليم حانقاً بنفسه 

"أنا يا اما بكتب يا اما بحلم.. اكيد ده حلم!! مش حقيقي لأ!" تحدثت لنفسها بينما في النهاية اضطرا أن يفترقا بعد أن صفق لهما الجميع ليقرر سليم الإفراج عن حدقتاه لينظر لها حتى تستمتعا بملامح صغيرته التي يعشقها ليرى تحول وجهها للكدرة ليبتسم في سعادة ثم بدأت هي في فتح جفنيها ببطئ حتى تلاقت زرقة بحور عيناها بنظراته التي ينهال منها العشق لتتوسع ابتسامته 

"كل سنة وانتي طيبة" همس لها لتنهال أنفاسه الدافئة على وجهها وهي لأول مرة تختبر مثل هذا الشعور

"وأنت طيب يا سليم" أخبرته ليلاحظ أنفاسها الرقيقة التي انهالت في هرجلة وعدم انتظام ليقرر أن يهون الأمر عليها

"طب يالا نلم الهدايا دي ونشوف هنكمل يومنا فين؟!"

"يالا" همست له بينما أطرقت بنظرها للأرض

"طب مش بتتحركي ليه؟ تخيلي لو عرفتي إن بدر هنا وواقف بيتفرج عـ..."

"ايه!!" صاحت مقاطعة اياه لتتحول نظراتها لنظرات نارية وهي تنظر له وتغيرت ملامحها بينما ابتعدت عنه في صدمة "خالو هنا فعلاً يا سليم؟!" سألته في جدية شديدة ليقهقه هو 

"يعني واخدك في حضني ورقص وحاجة مسخرة تقوليلي خالو هنا!! بضحك عليكي" 

"بقا كده يا سليم.. ماشي.. أنا هاسيبك وامشي" تحدثت له بإصرار وتوجهت لتجمع حقيبتها ودفترها بينما هو آخذ يلملم الصناديق من على الأرضية وهرع خلفها مسرعاً 

"استني يا مجنونة" تمتم وهو يلحقها بخطوات واسعة ولا يدري إلي متى ستستمر هي في السير ولكنه سار بجانبها ولاحظ ملامحها المنزعجة

"يا مُزة!!" ناداها لترمقه بإنزعاج وأكملت خطراتها وكأنها لا تكترث له "يا واد يا حلو أنت يا أبو عيون تدبح" نظرت له مجدداً نظرة عابرة وحاولت التحكم في ابتسامتها وملامحها لتتصنع الجدية المزيفة "طب يا جميل حن علينا بأي حاجة طيب" صاح بنبرة لعوب وابتسامة اذابت قلبها لتتوقف وعقدت ذراعيها ثم التفتت لتنظر له بإنزعاج مُزيف

"عايز ايه يا سليم؟!" رفعت احدى حاجبيها وهي تنظر له

"عايز اشوف الضحكة الحلوة تاني.. ولا المفاجأة كانت بايخة اوي ومعجبتكيش؟" تحدث لها لتتنهد 

"لا عجبتني طبعاً.. بس اتضايقت بجد منك.. لازم تبطل حركاتك دي.. عارف أنا بجد خوفت لا يكون فعلاً خالو معاك" تحدثت بتلقائية 

"طب ولو خالو موجود.. فيها ايه يعني؟!" هز كتفاه وابتسم لها منتظراً اجابتها

"لا طبعاً يا سليم.. واقفين بنرقص وقريبين اوي من بعض.. ممكن يفهم غلط وبعدين انت عارف خالو وغيرته"

"يفهم ايه غلط بالظبط؟" صاح غامزاً لها ونظر لها نظرة ماكرة

"يعني.. يفهم مثلاً إن.. إن أنا وأنت.. " حمحمت وهي لا تدري ماذا عليها أن تقول "بص بقا هو بيغير علينا كلنا وخلاص.."

"اطمني يا ستي.. زمانه قاعد مع نوري وسيدرا" طمأنها بكلماته لتنظر هي له بلوم 

"بجد متعملش حركاتك دي تاني ومتهزرش في موضوع خالو ده بالذات.."

"خلاص اوعدك.." 

"مش يالا بقا نتعشى ولا ايه؟" سألها لتومأ له وأكملت طريقها ليوقفها "استني أنا معايا عربية.. تعالي نمشي من هنا" أومأ لها في اتجاه المرأب الذي ترك به السيارة لتتبعه وهي تهز رأسها بإنكار فكل ما حدث لها اليوم يشابه الحلم تماماً..

سارا سوياً والصمت ثالثهما، لقد تخبطت أفكارها كثيراً، ارتسمت ملامح السعادة على وجهها وهي تتذكر أنها منذ قليل كانت تُفكر به، تتذكر كل ما مر عليهما سوياً قبل سفرها، وبعدها في خلال ثوانٍ معدودة وجدته أمامها، للحظة بينها وبين نفسها شعرت أن كل هذا كثيراً عليها، هي حقاً لم تكن تحلم بأن يحدث لها كل ذلك..

سرق بعض النظرات لها أثناء سيرهما معاً ليبتسم في سعادة من ملامحها التي تدل على سعادتها بكل ما حدث، ود لو يحيطها بذراعه، أن يقربها لقلبه الذي يخفق لها بجنون، تمنى أن يتخلص من تلك الحواجز التي تمنعهما من أن يصبحا معاً..  

تنهد وهو يُملي عيناه من وجهها الذي افتقده تلك الأيام الماضية، تألمت طيات قلبه الملتاع وهو بداخله يود أن ذلك الحلم الذي لطالما حلم به ليلاً ونهاراً أن يُصبح حقيقة، يشعر بالخوف من أن كل تلك السعادة التي يشعر بها تتبدد بين ليلة وضحاها، يتأكد بداخله أنها لا زالت على حالتها التي كانت عليها منذ سنوات، نعم تحسنت قليلاً ولكن يا ترى هل تشعر بالمثل تجاهه؟ هل تُكن له نفس المشاعر أم فقط تشعر بالسعادة لمجرد اهتمامه بها أكثر من الجميع؟

تنهد مجدداً وهو يُفكر أنه لا زال أمامه الكثير من الوقت حتى يتأكد تماماً أنها تحمل نفس المشاعر له وأنها تريد وجوده بجانبها بمثل الطريقة التي يتمناها هو لنفسه..


--

"نور حياتي كلها.. هتنامي كده وتسبيني؟!" همس بدر الدين بأذن نورسين لتلين شفتيها بإبتسامة بينما عانق خصرها بذراعيه لتلتفت هي له وتمعنت بوجهه ملياً

"ما أنت اللي كنت مشغول.. مش فاهمة ليه فجأة هبت في دماغك تتابع الشغل تاني.. قولت أسيبك بقا براحتك" 

"يولع الشغل على الدنيا كلها عشان خاطر العيون الحلوة دي.. مش كنتي تقوليلي بردو إنك عايزاني؟ كنت ممكن أسيب كل اللي في ايديا علشانك"

"ممممـ.. ايه الرومانسية دي كلها يا ملك الكون؟ اللي يشوفك وأنت مكشر ومركز أوي في الشغل ميقولش ان ده هو هو اللي بيكلمني دلوقتي، حسستني إن بدر الدين الخولي بتاع زمان هو اللي قاعد بيشتغل" ضيقت عيناها وهي تتفحص ملامحه ليتنهد هو في سأم 

"من الآخر كده ابنك زينة خلاص لحست دماغه.. وهو مش في الساحل ولا حاجة، هو سافرلها ألمانيا ومحدش يعرف غيري.. عشان كده قولت اتطمن على الدنيا لا يكون بيعُك ولا حاجة"

"سولي حبيبي استحالة يعمل حاجة غلط.. واكيد انت اتأكدت بنفسك ولا طلع بيعُك ولا حاجة" ابتسمت له في استفزاز خاصة وهي تنطق اسم سليم بدلال زائد لتنزعج ملامح بدر الدين 

"فعلاً.. الدنيا كويسة" أخبرها بإقتضاب وهو يزفر في ضيق 

"ايه.. الغيرة اشتغلت تاني؟" رفعت احدى حاجبيها ليرمقها بسوداوتين منزعجتين

"نورسين بطلي تستفزيني" أخبرها محذراً

"بقا فيه حد يغير من ابنه.. ما تبطل بقا يا بدر" تحدثت له لتقترب منه مستندة على صدره وهي تنظر له بمرح من ملامحه المنزعجة

"بصي.. أنتي عارفة إنك انتي وسيدرا بالنسبالي خط أحمر.. مبحبش أنا الأسلوب ده" عقد حاجباه في غضب وهو لا يتقبل مزاحها

"أنت هتقلبها جد بقا ولا ايه ما خلصنا.." زفرت في تآفف ليرمقها بنظرة جانبية متفحصة ثم أعاد مرمى بصره للسقف وهو فجأة شعر بأن الجميع حوله يحاولون بشتى الطرق أن يثيرون غيرته "ماشي يا بدر كمل اوي في هطلك ده.. ولعلمك شاهي وحمزة جايين يتعشوا معانا بكرة.. متنساش تصدرلي الوش الخشب بقا قدامهم!" تفقدت ملامحه لمرة أخيرة بعد أن اخبرته بحنق ثم التفتت حتى توليه ظهرها وهي تتمتم "مجنون ده عشان يغير من ابنه.. مش هايكبر ابداً!!"

"عايزة توصلي لإيه يا نورسين؟" جذبها لتتوسد السرير بظهرها وتوسعت زرقاوتيها وهي تتفقد وجهه عندما اعتلاها لتدرك لبرهة ذكرها ببدر الدين الخولي الذي عرفته منذ زمن سحيق، تلك النسخة القاسية منه 

"مش عايزة اوصل لحاجة.. أنت بقيت Over اوي.. مش كل شوية حوار الغيرة ده" 

"انتي لسه عارفاني النهاردة ولا ايه بالظبط، انتي عارفة بالذات الموضوع ده بيضايقني ازاي" نظر لها بسوداوتي اتسمتا بالقسوة اللاذعة وغضبه عاد مجدداً ليسيطر عليهما لتعودا لتلك الطريقة التي لطالما ارتعد لها الجميع لتبتلع نورسين في تردد قبل أن تنطق بأي كلمة قد تزيد من غضبه

"سليم ده ابني البكري.. وابنك.. تفتكر هـ.."

"ولا ابنك ولا ابن الجيران، لمي الدور الليلادي" صاح لها بلهجة محذرة ثم تركها وتوسد السرير خلفه لتستمع لصوت أنفاسه المتلاحقة انزعاجاً لتتنهد هي في ذلك الصمت الذي تبغضه كثيراً ما إن ساد بينهما واقتربت منه دون أن يبادر هو وتوسدت صدره برأسها وارتفعت زرقاوتيها لوجهه ليبادلها النظرات ولكن في صمت مشحون بغيرته العمياء

"أنا بحبك يا بدر، ومبحبش نشد كده مع بعض أياً كان السبب ايه" همست برقة ثم حاوطت صدره بيدها ومررتها عليه بلطف وأخذت تمرمغ رأسها بصدره العريض

"أنا كمان بحبك، بس بطلي تستفزيني" أخبرها بإقتضاب 

"لا يا بدر مبتحبنيش.. لو بتحبني كنت شوفت أنا بحبك ازاي وكنت استحالة تعمل حركاتك دي، وبعدين مكنتش نكدت على مُزة حلوة كده زيي قاعدة مستنياك من الصبح لغاية ما تخلص وفي الآخر عشان بهزر معاك تضايق وتقلب الهزار جد.." تحدثت بنبرة امتلئت دلالاً ليزفر هو في سأم

"طيب خلاص متزعليش" حاول أن يسترضيها ولكن بإقتضاب

"لأ.. أنت يا بدر مصمم تقلب الهزار بجد وتضايقني.. نام بقى!" أخبرته بإقتضاب وتصنعت الحُزن ليزفر هو في حنق

"بت أنتي!!" تحدث بجدية بعدما اعتلاها مرة أخرى "لو مظبطيش وعديتي الموضوع رد فعلي مش هايكون كويس" تفقدت ملامحه وابتلعت وهي تحاول منع ابتسامتها من الظهور وتصنعت العبوس

"لا بجد زعلانة منك" همست بدلال مجدداً لتراه يسحق أسنانه 

"بردو.." رفع احدى حاجباه وهو ينظر لها بتحدي "أنتي اللي جبتيه لنفسك بقا" ابتسم بمكر لينقض على شفتيها بقبل نهِمة لم تخلو من بعض العضات اللطيفة لتلك الكرزيتان وفرق شفاههما قليلاً ليهمس أمام شفتيها "وحشوني اوي من الصبح"

"لا أنت بتكدب.. ابعد يا بدر أنا لسه زعلانة منك بجد" همست بدلال مجدداً "مش كل شوية تغير من سليم لما اتكلم عنه بالطريقة دي"

"يلعن أبو سليم.. مبسوطة كده" همس بنبرة انطلقت بها مشاعره المهتاجة خلال أنفاسه الساخنة ليلثم شفتيها مرة أخرى وكانت أطول من المرة الفائتة ثم ابتعد عنها بأنفاس لاهثة 

"طيب خلاص.. ابعد بقا وسيبني أنام" همست له بإغراء ليرفع احدى حاجباه في تحدي وهو يتفقد ملامحها بنظرة لن تتقبل الرفض حيال هذا الأمر..

"تنامي مين؟! مفيش نوم للصبح يا نوري.. اللي يبدأ بحاجة يا ريت يكون قدها للآخر.." ابتسم بخبث وكاد أن يلتهم شفتيها مجدداً في قبلة محمومة 

"أنا مبدأتش حاجة واوعى بقا" تغنجت أكثر لتسمع زفرته التي امتزجت بضحكة منخفضة 

"اتدلعي كمان وأنا مخرجكيش من الأوضة دي لشهر قدام.. استحملي نتايج دلعك بقا" اقترب منها مرة أخرى قبل أن تبدأ بالكلام ليقبلها بشغف وجاب لسانه أنحاء فمها وبالرغم من شعوره أنها قاربت على الإختناق بقبلته إلا أنه منعها أن تترك شفتاه ووصد عيناه في استمتاع بمحاولاتها في الفرار من تلك القبلة المجنونة ودفعته بكل ما أوتيت من قوة ليبتعد في النهاية وهو ينظر لها بأعين نصف مغلقة 

"بدر.." همست بنبرة أنثوية دفعت ألهبة الإثارة بكل قطرة دماء بداخل عروقه 

"أبو بدر اللي هتموتني دي" همس مجدداً أمام شفتيها ليلقي بثقل جسده فوقها ثم انتقل لعنقها ليلثمها بشفتيه الخبيرتين لتبدأ هي في إطلاق آنات المتعة الشديدة التي يكيلها لها خاصة عندما اندمجت أنامله بالعبث بأنحاء جسدا الملتاع للمساته التي تعشقها وكانت تنتظرها منذ الصباح.

--

        

حدق بتلك الزرقاويتين أمام عيناه وكأنما يعوض ما فقده تلك الأيام المنصرمة، لم يكن يتوقع أنه سيشتاق لها بمثل تلك الطريقة، لم يفعلها من قبل، أهذا لأن علاقتهما تحسنت قليلاً قبل سفرها، أم أنه يقع بعشقها أكثر يوماً بعد يوم.. لا يدري ولا يريد أن يعرف، كل ما يريده هو أن يظل غارقاً في تلك التفاصيل التي يعشقها أكثر وأكثر يوماً بعد يوم..

"ايه؟ مش بتاكل ليه؟" تسائلت وهي تتفقده بزرقاوتيها في تعجب 

"ها.." استيقظ من شروده ولهاً بها "هاكل اهو" ابتسم لها بإقتضاب ليحاول تلاشي الحرج الذي أصابه عندما أدرك أنه حدق بها أكثر من اللازم ولكن ابتسامته استمرت، وكأنما شفتاه تأبى التخلي عن تلك السعادة التي أصابته منذ رؤيتها

"بجد يا سليم كانت مفاجأة حلوة أوي.." تريثت تاركة الطعام وأخبرته بإبتسامة ثم شردت بطبقها "تعرف عمر ما حد عمل كده معايا، ولا عمر حد عمل حاجة علشاني.. يمكن بس بابا الله يرحمه وخالو و.." توقفت عن الكلام وهي لا زالت شاردة ليتفقدها سليم بحرص

"ومين كمان يا زينة؟!" سألها بتدقيق لترفع عيناها له 

"وأنت يا سليم.. طول عمرك كنت كويس أوي معايا" ابتسمت له لتتوسع ابتسامته 

"عشان تعرفي إن طول عمري حنين إنما أنتي بعيد عنك طوبة" أخبرها بطريقة دفعت الضحكة لشفتيها الكرزتين

"حرام عليك.. أنا مش طوبة ولا حاجة، أنا بس كـ.."

"عارف يا زينة عارف" قاطعها ليوقفها عن الحديث بينما احتوى كفها الرقيق بكفه فوق طاولة الطعام، لقد ظنت أنه يوقفها فقط، ولكنه أطال بلمسته وكأنه لن يترك يدها أبداً، وهذا بالفعل ما أراده.

"سليم.. احنا مش هانكمل العشا ولا ايه؟!" همست سائلة بعدما شعرت بأن المدة التي لامس بها يدها قد طالت عن اللازم

"لا هانكمل" همس شارداً بعينيها ثم تنهد بعمق لتشعر هي بالخجل وبنفس الوقت شعرت بالريبة من تصرفه الذي يعد جديداً

"أنت هتفضل ماسك ايدي كتير؟" زفر مطولاً بينما رفع أنامل عن يدها ببطئ وشرع في الإنشغال بطعامه مجدداً وقبل أن تلامس الشوكة التي امتلئت بالطعام أوقفته زينة التي كانت تحاول تقييم تصرفه منذ قليل لتضيق عيناها سائلة

"أنت بقيت بتعمل حاجات غريبة.. مفاجآت ورقص ولسه سايب ايديا.. فيه ايه يا سليم؟!" ألقى الشوكة من يده ثم حدق بعيناها بجسارة 

"متستعجليش يا زينة.. سيبي الدنيا ماشية زي ما هي ماشية.. حاولي متسألنيش عن حاجة دلوقتي خالص" بالرغم من تلك النظرة بعيناه إلا أن نبرته المتوسلة المليئة بالترجي جعلتها تغرق بالحيرة من أمرها لتضيق ما بين حاجبيها لتفكر في اجابته الغريبة على سؤالها حتى تستنج منها اجابة أخرى ترضيها واخذت تعيد ما أخبرها به مراراً
"مش قولتلك متفكريش؟!" نظر لها متفحصاً اياها لتبتسم بتوتر فهي لم تكن تظن أبداً أن هناك من يلاحظ او يستمع عقلها المزدحم بذلك الضباب الفكري الدائم الذي لا تتسلله اشعة شمس النقاء أبداً.

"حاضر.. مش هفكر خلاص" لا تدري لماذا همست مذعنة بسهولة ويسر دون أن تتجادل معه؛ لا تدري لقد أصبحت شخصية جديدة تماماً معه.. تطرقت الابتسامة لشفتيها مرة أخرى ثم تنهدت في إشراقة من تلك الزرقاوتان ليتعجب سليم لملامحها وردة فعلها "بص.. أنا هاسمع كلامك بس المرادي؛ هاخلي كل حاجة ماشية زي ما هي ماشية ومش هسألك على الموضوع ده تاني.. بس يكون في علمك، أنا هافضل مستنية منك اجابة على سؤالي.."

"هجاوبك يا زينة حاضر.. هجاوبك" زفر متحدثا وهو يحدق بزرقاويتيها

"اما نشوف" ضيقت عيناها له وابتسامتها تتوسع ليهز رأسه بإنكار

"طب يالا بقا عشان تشوفي باقي الحاجات" نهض مخرجاً من جيب سترته بعض الأوراق المالية ليتركها على الطاولة بجانب الطعام ثم جذب يدها بخفة ليحثها على النهوض.

"باقي حاجات ايه؟ احنا رايحين فين تاني؟" انسابت تلك النظرات الزرقاء من حدقتيها وهي تنظر له بجدية ليجذب هو معطفها وساعدها في ارتدائه لتستجيب هي له

"فكرك عيد ميلاد اي حد ولا ايه؟ يالا بينا يالا" احتوى يدها بيده لتراه يحتوي يدها ويده الأخرى قد امسكت بحقيبتها ودفترها الأسود وانطلق بها بخطواته الرشيقة الي الخارج وهي لا تصدق ما يحدث حولها.

--

 

فاقت من غفلتها على صوت تلك الأبواق التي اندفعت من السيارات لتنبها أن إشارة المرور قد سمحت لها بالسير بينما السيارات أمامها قد تركتها خلفها بمسافة شاسعة لتشرع هي في التحرك بسيارتها وأدركت أن تفكيرها به قد تحكم بها كلياً بعد آخر مرة لها معه.

صفت سيارتها على جانب احدى الشوارع الهادئة في عتمة الليل ثم أطفأت المحرك ونظرت على الكرسي بجانبها لتلمح تلك العقاقير التي عليها الالتزام بها حتى نهاية الأسبوع كي تتعافى تماماً من شبه حالة الاغتصاب تلك التي تعرضت لها ووجدت ضحكة خافتة تعبر عن سخريتها من نفسها وهي تستعيد تفاصيل تلك الليلة منذ شهر كامل وتلك الطريقة التي بدت كأذى خالص وكأنه ينتقم من شيء ما بجسدها هي؛ ولكن ما ذنبها؟ ما الذي فعلته حتى يصبح بتلك الطريقة البشعة؟ لماذا عليه أن يؤلمها بتلك الدرجة حتى تذهب للطبيب؟ 

ابتسمت في وهن ولم تسمح لعيناها المتلألئة بالدموع بأن تتركها تعبر اهدابها؛ تعلم أنها لم يكن أمامها سوى هذا الطريق حتى تصبح ما أصبحت عليه، أو بالأحرى ما أصبحت عليه عائلتها!

لماذا عليها تحمل كل تلك المشقة وذلك العناء؟ تشعر بالتقزز من الرجال جميعاً؛ تشعر كلما نظر اليها رجل كم هي رخيصة للغاية.. لقد اعتادت أن تشعر بكل تلك المشاعر منذ سنوات بل وعرفت كيف تتعامل معها جيداً؛ ولكن الآن أصبحت تشعر بالخوف!

شهاب الدمنهوري! كان لغزاً بالنسبة لها كلما تذكرت كيف كانت تستميت حتى تصبح عاهرته لقد حاولت بمنتهى الحرص والعناية أن تحصل على اهتمامه، تتذكر ذلك اليوم عندما تأنقت للغاية وحاولت أن تستجمع كل ما لديها من قدرة على الإقناع بمصاحبة فتنتها وأسلوبها الذي يمتاز بالرقي وكأنها تتقدم في مناظرة ما حتى تصبح رئيسة لدولة ما..

ليتها ما وافقت قدميها حتى تسير نحوه؛ ليت عيناها ما لمحت ذلك الكائن المسمى بشهاب.. ليت عقلها توقف عن العمل حينها وبهذه اللحظة تمنت أنها لو فقدت عقلها قبل أن تقع عيناها عليه.

وإذا لم توافق أين كانت ستكون الآن؟ أين كانت ستصبح والدتها الآن؟ وأخيها الصغير، أخيها الرجل الذي ينظر لها وكأنها هي طوق النجاة الذي أخرج حياتهم من الظلمات إلي النور.. ابتسمت في وهن مجدداً عندما تذكرت أن عُرسه سيقام بعد أسبوعين.. كم تمنت لو كان كل شيء مختلف.. تمنت للحظة لو ظلت سلمى الفتاة البشوشة البريئة ذات الابتسامة المشرقة ولكنها كان عليها أن تصبح عاهرة محترفة حتى تصل إلى ما وصلت له الآن.

تلك السيارة.. وظيفة أخيها.. ذلك المنزل الضخم بأحد المناطق الراقية الذي يظن أخيها وأمها أن عملها يدفع لها إيجاره كميزة من مميزات وظيفتها! علاج والدتها الذي يحتاج الكثير من الأموال والممرضات اللاتي يرافقنها.. لن تملك كل ذلك لو غادر شهاب الدمنهوري حياتها..

أغدق عليها بالأموال ولكن ماذا يأخذ مقابل ذلك؟ لقد ظنت ببداية الأمر أنها ستكون بضع ساعات من المتعة المحرمة مع عاهرة محترفة مثلها وسينتهي الأمر ولكن لا.. هذا الرجل ليس مثل الرجال الذين اعتادت هي أن تبيع لهم جسدها.. يريد المقابل أن تحتوي عنفه وتتقبله.. يريد ألا يستمع لكلمة لا مهما فعل.. يريد كل مرة أن يجعل الأمر أسوأ وأسوأ حتى يدمرها تماماً ويبدو أن عنفه يتصاعد ولا نهاية له أبداً..

لم تستطع كبح دموعها أكثر من ذلك وهي ترى جسدها أسفل جسده العاري الذي يتصبب عرقاً وهو يدفع بكل ما أوتي من قوة بداخلها؛ تشعر بثقل جسده مجدداً.. ترتجف عندما شعرت بأصابعه تخترق ثنايا خصرها.. لم تعد تتحمل ذلك.. كيف لها أن تبتعد؟ كيف لها أن تتركه؟ كيف لها أن تشكو بأنها لم تعد تحمل تلك الآلام بعد كل مرة فرغ منها..

حاولت تجفيف دموعها وإيقاف نحيبها وإيقاف عقلها عن التفكير.. لقد اختارت هذا الطريق، لقد بدأت هي، هي من عرضت نفسها عليه ببداية الأمر.. عليها أن تتحمل الآن حتى ولو تحول الأمر لأسوأ؛ حتى ولو أسوأ من تلك المرة الغريبة الماضية.

--

        
"سليم.. أنت فاهم إن ده طريق البيت؟!" همست سائلة باستغراب شديد بعد صمت غريب للغاية دام بينهما منذ أن غادرا ذلك المطعم وفرغا من تناول العشاء ولكن عندما لاحظت أنهما اقتربا للغاية من منزلها لم تستطع أن تُكمل ذلك الصمت الذي كرهته حينها بينما التفت هو لها مضيقاً عيناه متنهداً بنفاذ صبر لأنها لطالما لم تعطيه الفرصة ولكنه ابتسم لها مهمهماً بالتأكيد على كلماتها لتهز هي رأسها في إنكار وتمتمت بابتسامة "أنت بقيت غريب أوي يا سليم"

"غريب ازاي يعني؟" عقد حاجباه باستفهام ملتفتاً إليها بلمحة خاطفة ثم أعاد نظره للطريق أمامه وكله أذان صاغية منتظراً منها إجابة

"مبقتش فاهمة ولا عارفة أنت عايز توصل لإيه بالظبط.. شوية تغير معاملتك معايا لدرجة تخليني أكرهك، وبعدين تتحول معايا وتعاملني بأحسن طريقة ممكن حد يعاملني بيها وحسيت حتى بعدها إننا أصحاب قريبين.. فجأة تخليني ألعب، تعلمني الشغل، أصحى الاقيك نايم جنبي طول الليل، وبعدين لما سافرت بقيت بتكلمني تقريباً كل ساعة.. وفي الآخر تيجي تعملي كل المفاجآت دي وتقولي لسه فيه كمان.. ودلوقتي مروحني البيت وأنت ساكت أوي ومقولتليش حرف حتى من ساعة ما خلصنا عشا زي ما تكون مش عايز تتكلم معايا.. "

تريث قليلاً قبل أن يجيبها، نظم شهيقه وزفيره وهو يحاول اختيار الكلمات بعناية بعقله قبل أن يتفوه بها، يريد بكل ما أوتي من قوة ألا يُفسد تلك الليلة، يتمنى من كل طيات قلبه أن تبقى لك الليلة واحدة من أفضل الذكريات التي ستتذكرها دائماً.. يتذكر كل كلمة تفوهت بها، زرقاويتيها المتعجبتان ونبرتها اللحوحة في التوصل لاعتراف منه تجاه كل ما يفعله معها ولكنه سيحاول ألا يتسرع مذعناً بعشقه لها الآن.. يريد أن يتمهل قليلاً.. نعم كل ما يحدث بينهما منذ عدة أسابيع يجعله يشعر وكأنما قد ملك الكون بين يداه ولكنه يريد التأكد أن زينة تعشقه مثلما يعشقها، ليس لمجرد اهتمامه بها ومراعاة مشاعرها تشعر بالامتنان نحوه.. يريد منها اعتراف وتصرفات امرأة واعية تعلم جيداً ما تريده وليس مشاعر امتنان مجردة من العقل ومشوشة من فتاة صغيرة..

"أنا هقولك يا زينة" زفر وهو يجذب مكابح السيارة اليدوية بعد أن صفها أسفل منزلها وقرر أن يجيب على كل جزيئية من حديثها الطويل الذي لم يغفل منه ولو حرف واحد ثم التفت بمقعده ليحدق بزرقاويتيها المنتظرتان اجابة تحررها من حيرتها الدفينة تجاه كل ما يفعله معها..

"لما عاملتك بطريقة غريبة أول ما رجعتي من السفر بعد موت والدك سيف الله يرحمه.." انتظر لبرهة لاختيار كلماته محممًا ثم تابع

 

"لأ أنا اخترت كلامي غلط، أنا معاملتكيش بطريقة غلط" ضيقت ما بين حاجبيها وتحفزت داخلياً حتى أوشكت على مقاطعته بكلمات لاذعة رافضة لجملته وتلك الأبحر الزرقاء بين جفنيها اهتاجات بموجات من الإنزعاج الشديد ولكنه بادر بإكمال حديثه حتى يجيبها بما يظن أنه سيشفي جراح حيرتها الملتاعة 

"أنا مكنتش عارف أتعامل معاكي.." تنهد في راحة شديدة بعد أن لانت ملامحها وعادت تلك البحور للهدوء مرة أخري "كنت حاسس ساعتها إني هاخسر زينة للأبد.. حسيت بفشلي وافتكرت إني مش هاعرف أبداً أتعامل معاكي وكنت بتعامل بنفس الطريقة اللي بتعامل بيها مع الكل" تنهد بهدوء وبداخله شعر بالراحة للحصول على اهتمامها الذي طغى على ملامحها 

"بعدها قعدت مع نفسي كتير، وصممت مخسركيش يا زينة، افتكرت كل حاجة ما بينا من أيام ما كنا أطفال لغاية ما كبرنا.. قولت أغير طريقتي معاكي وفعلاً ده جاب نتيجة.. وأنتي بنفسك أعترفتيلي أنك حسيتي اننا قريبين.. أنا طول عمري بعتبرك أقرب حد ليا من كل الناس اللي حواليا، يمكن أقرب حد ليا في حياتي هو بدر وبعده أنتي على طول.. مش هاكدب عليكي إني كنت أكتر حد مضايق لما عرفت إنك هتسافري تكملي دراستك برا.. ومعندكيش فكرة كنت قد ايه مخنوق وانتي بعيدة.. حسيت إن جزء كامل من حياتي وذكرياتي سابني ومشي بين يوم وليلة، كنت متعصب ومهموم، مكنتش عايز أكلمك خالص وقتها لمجرد العِند والعصبية اللي كنت فيهم عشان أنتي سيبتيني وسافرتي وبالرغم من كل اللي كنت حاسس بيه أنا اللي روحت لبابا وجوز عمتي سيف الله يرحمه عشان يتدخلوا في الموضوع ويخلوا عمتي توافق على سفرك مرة واتنين وتلاتة لغاية ما عرفوا يتفاهموا معاها.. مكنتش قادر أشوفك نِفسك في حاجة وعايزاها اوي وتتحرمي منها تاني!" زفر بحرقة منزعجاً عندما تذكر تلك الأيام بينما هي عيناها فاضا بالصدمة الشديدة ليندفع لسانها هامساً بمصاحبة حدقتان كُسيا بالدموع الحبيسة 

"سليم أنت بجد عـ.."

"لما رجعت نتعامل تاني كويس كنت قررت إني أحاول تاني معاكي، مش شرط إني لما أكون في علاقة بحد وفجأة يحصل مشاكل أو فتور ما بيني وما بين الشخص ده يبقا هو اللي غلطان وأنا اللي صح.. عدت التفكير في كل حاجة بعملها معاكي وكل كلمة بقولهاك وفعلاً لما طريقتي معاكي اتغيرت رجعنا زي زمان ويمكن أحسن" قاطعها قبل أن تبدأ بالحديث حتى لا تشعر بأنه فعل لأجلها شيئاً وأدانها به، أراد أن تشعر أنها لا يعيبها شيئاً وأن أغلب عبء ذلك الوقت العصيب بينهما يقع على عاتقه هو وحده 

"بس أنا أتغيرت يا سليم.. أتغيرت وبقيت وحشة اوي و.."

 

انهالت احدى دموعها بغتة وهي تهمس بنبرة مرتجفة مهتزة ولأول مرة بحياتها تشعر وكأنها كتاب مفتوح واضح المعالم أمام شخصاً آخر سوى دفترها الذي تعترف له بكل شيء،

"لأ مش وحشة واياكي تقولي كده تاني على نفسك" قاطعها وأمسك باحدى يديها في قوة وكأنه ينقل إليها دعماً وقوة خفية عبر لمسته وبأنامله جفف تلك الدمعة المباغتة التي انسابت على وجنها "الموضوع كله إنك كبرتي يا زينة.. كبرتي وشخصيتك اتغيرت.. انتي سافرتي وانتي عندك تمنتاشر سنة ورجعتي وانتي عندك تلاتة وعشرين سنة.. خمس سنين، حياة لواحدك، أب وأم وأخوات وقرايب مشغولين.. طبيعي تتغيري جداً، ولسه كمان هتتغيري أكتر!! وبعدين ما أنا أتغيرت وشخصيتي بقت صعبة أوي في الشغل، كلنا مرينا بوقت في حياتنا بيخلينا نتغير!" تنهد متريثاً وهو ينظر لملامحها التي عادت للهدوء بعد تأثر جلي وعواطف عديدة قرأها بمقلتيها 

"أنا لما كنت كويس معاكي من غير عصبية ونرفزة حسيت إني بتعامل مع أحسن بنت في الدنيا.. بنت ضحكتها تخلي أي حد قدامها مبسوط، بنت ذكية وشاطرة ومعتمدة على نفسها وجريئة بس بحدود.. عمرك ما كنتي وحشة ولا هتكوني يا زينة.. اللي شايفك وحشة أو ممكن يحكم عليكي إنك وحشة يبقا هو اللي عنده مشكلة مش أنتي.. اوعي تفكري في كده تاني" نظر لها وهو يحاول بشتى تعبيراته وملامحه أن يداري ذلك العشق الذي تصرخ به عيناه، يلجم نفسه بلهيب من التحكم اللاذع حتى لا يجذبها رغماً عنها ويحتويها بين ذراعيه كي يخفف عنها كل ما تشعر به، أراد أن يبدو كلامه منطقياً أكثر من أن يكون كلامه ممتلئ بجمل لن ينطق بها سوى من كان متيماً بمن أمامه..

"بجد أنا عمري ما قولت كده لحد.." همست بعد أن تبادلا نظرات لبرهة ود كلاهما لو دامت أكثر "أنا فعلاً مش عارفة أقولك ايه.." ابتسمت في وهن ولكنها كانت ابتسامة تعبر عن راحتها الشديدة من حديثهما سوياً "شكراً يا سليم إنك بـ.."

"متقوليش شكراً أبداً بالذات ليا أنا، أنا بقولك الحقيقة" قاطعها مبتسماً لها وشعرت بضغطة لطيفة من يده لتتوسع ابتسامتها "مش هانكمل بقا يومنا ولا ايه؟!" أخبرها سائلاً ثم غمز لها بمرح عندما لاحظ أنه لا يُفصله سوى عشرة دقائق عن منتصف الليل

"يالا.." ها هي لا تدري ما الذي سيفعله سليم بمنزلها الآن في مثل ذلك الوقت ولكن بعد كل ما بدر منه مؤخراً أصبحت تثق به ولا تكترث لما سيفعله لاحقاً.

تركا السيارة وتوجها للصعود لشقتها التي تمكث بها طوال الخمس سنوات الماضية وبالرغم من أن السعادة غمرته إلا أن القلق الذي بداخله آخذ يتصاعد طردياً كلما أقترب الوقت الذي قرر أن يواجهها به بواحدة من أصعب تلك الذكريات التي لطالما آلمتها..

دلفا منزلها وانتظر هي لتضيء الأضواء لتتجول عينا سليم الذي بدت سوداء الآن كعينا والده وأخذت تتفقد محتويات الشقة التي بدا على تفاصيلها أنها تحتاج للتغير أيضاً مثل مالكتها.. فكل ذلك السواد والتفاصيل الباردة غامقة اللون تفتقر للحياة مثلما رأى  زينة عند عودتها من السفر..

"تعالى اتفرج على باقي الشقة" ابتسمت له بعد أن توجهت لتشعل التدفئة المركزية وبدأت في خلع معطفها وأما هو فبدأت ساقاه بأخذ خطوات ليتفقد الشقة التي تكونت من غرفة نوم واحدة كبيرة نوعاً ما وغرفة معيشة ضخمة تحتوي على مطبخ على الطراز الحديث وتلفاز وأريكتان كبيرتان ومكتبة تضم كتبها الدراسية بالإضافة إلي عدة كتب أخرى وهناك ثلاثة أرفف بها تضم كتب سوداء ليس موضحاً عليها أية كتابة ليعقد حاجباه في استغراب عن ماهية تلك الكتب ولكنه ترك الأمر جانباً وزفر في حُزن على تلك الحالة التي تعيش بها من يعشقها قلبه.. لقد أدرك أن حياة تلك الفتاة طوال السنوات الماضية قد سيطر عليها الحُزن الشديد.. كل ما حولها اتشح بالسواد، يبدو وأن ذلك السواد سيطر عليها خارجياً كما طغى بداخلها

"أعملك حاجة تشربها؟!" أفاقه صوتها الذي آتى من مسافة قريبة ليشعر هو بدفء المكان فخلع معطفه الثقيل 

"عندك ايه يتشرب؟" التفت نحوها بعد أن أمسك بأحدى الأوشحة التي وجدها بغرفة نومها وشعر أنها ستلتفت له فأخبأ الوشاح بجيب بنطاله الخلفي حتى لا تراه وأخذ يقترب منها 

"ممكن قهوة أو شاي أو hot chocolate باللبن" همست مقترحة

"تمام.. hot chocolate" أخبرها لتبتسم له والتفتت لتشرع في صنيع مشروب الشوكولا الساخن بينما أقترب هو منها للغاية ولكنها لم تشعر به بعد 

"ايه عجبتك الشقة؟" أخبرته سائلة لتتجاذب معه أطراف الحديث وهنا أقترب للغاية وأمسك بالوشاح وأحاط به عينيها من خلفها لتتعجب هي بصدمة "ايه يا سليم أنت بتعمل ايه؟!" تحدثت سائلة 

"الشقة جميلة زي صاحبتها.. وهتعرفي أنا بعمل ايه دلوقتي حالاً.." همس مجيباً اياها لتبتلع هي في توتر بالرغم من أنها تثق به ولكنها لا يُعجبها أن تظل غامضة العينان هكذا وهو يُحرك جسدها بلطف ليدفعها لمنتصف الغرفة وتعجبت هي أكثر عندما سمعت طرقات على الباب

"ايه ده.. مين هيجي دلوقتي؟!" تعجبت مجدداً ليبتسم سليم في توتر 

"هتعرفي.." اجابها ثم ابتعد عنها ليتفقد الطارق الذي كان على اتفاق معه مُسبقاً ثم سمعت ارتطام الباب فأدركت أن الطارق إما غادر وإما دلف وأصبح معهما الآن فهي لم تتبين سوى صوت خطوات وصوت ضوضاء بسيطة تندفع احتكاك كأوراق أو ما شابه ثم سمعت ما يبدو وكأنه ارتطام شيئاً ما وبعدها ساد الهدوء مرة أخرى ولم يتخلله سوى صوت خطوات مجدداً ويبدو وكأنما هناك من استقر خلفها 

"زينة.. ، أنا حبيت تبدأي يوم عيد ميلادك بأكتر حاجة بتحبيها.. كل سنة وأنتي طيبة" همس بالقرب من أذنها لتشعر بأنفاسه الدافئة التي انهالت بجانب أذنها ثم شعرت به يحل ذلك الوثاق حول عيناها "يارب تعجبك" همس مجدداً ولكن بتوتر شديد تلك المرة لتشعر هي بالصدمة الشديدة مما تراه أمام زرقاوتيها وبعد صمت دام للحظات شعرت هي بأن جسدها أصبح كقطعة من قاع الجحيم، غضبت كثيراً مما وقعت عيناها عليه، تلاحقت أنفاسها في انزعاج شارفت عيناها هلى ذرف الدموع من كثرة الغضب تسارعت خفقات قلبها حتى كادت أن تهشم قفصها الصدري، وذلك الشعور الذي انفجر بسائر دمائها يدفعها للدخول بتلك الحالة العصيبة التي لطالما مرت بها.. أما هو فكان يموت رعباً من ردة فعلها التالية ومرت عليه ثواني الانتظار كسنوات مريرة مؤلمة

"ليه.. ليه يا سليم" همست بحزن وقبل أن يتحدث هو التفتت له بغضب ساحق ثم صرخت به "امشي اطلع برا"

--

الفصل الثاني عشر

 

"زينة اهدي أرجوكي" أخبرها بعد أن تحولت ملامحه للفزع بعدما رأى  ملامحها التي تحولت تماماً لتصبح فتاة أخرى بعد تلك الفتاة السعيدة التي كانت معه منذ دقائق أقترب منها لتبتعد هي عنه 

"فكرك إن كده بتغيرني؟ بترجعني زينة بتاعت زمان؟ ويا ترى مين بقا اللي قالك تعمل كده؟ خالو ولا ماما حنت عليا فجأة.. أنسى يا سليم وأنسوا كلكوا.. زينة بتاعت زمان استحالة ترجع.. اتفضل خد الزفت ده وأطلع برا" صرخت به بمنتهى الغضب وهو كل خوفه أن يتحول غضبها لأحدى نوبات الصرع الهيسترية التي تصيبها وحاول التحكم في ملامحه قدر المستطاع ثم حدق بتلك الأبحر التي اهتاجت بموجات من الغضب والخوف بآن واحد، لقد رأى  الخوف بعينيها، سيعمل أن يطمئنها بكل ما أوتي من قوة...

"مش احنا اتفقنا قبل كده اننا مش هنعند وخلاص؟ مش تعرفي الأول أنا ليه جبتلك التشيللو ده؟" همس بهدوء وهو ينظر لها بصدق 

"هتكون جبته ليه غير انك عايز تفكرني بجزء من حياتي أنا عايزة أنساه!! محدش يا سليم هيقدر يرجعني تاني زي زمان، ولا حتى أنت!! وأنا هثبتلك كويس إن أنا قد كلمتي دي" صرخت به مرة ثانية وتوجهت نحو التشيللو ثم رفعته وكادت أن تلقيه أرضاً ولكن سليم اندفع نحوها بسرعة ليقف خلفها واحتضن جسدها في ثوان وأمسك بكلتا يديها حتى لا تهشمه أرضاً

"لأ مش هاتمنعني.. أنا بكره الزفت ده ومبقتش بطيقه.. مبقتش أعرف أعزف عليه.. سيبني لو سمحت كفاية بقا" تحدثت بنبرة منتحبة بعد أن انهمرت دموعها رغماً عنها ليقترب سليم منها أكثر حتى تلاصق جسديهما معاً وهمس بأذنها 

"زينة.. أنا مجبتوش علشان كل ده.. أنا جايبه عشان عايز اسمعك واشوفك وانتي بتعزفي.. وحشتيني اوي، وحشتي عنيا اللي كانت بتشوفك مبسوطة، وحشتي وداني اللي كنت بسمعك بيها.." 

"لا أنت كداب.. أنا موحشتش حد.. أنتو بس وحشكوا زينة الضعيفة اللي مبتقدرش تتكلم واللي الكل بيغصب عليها كل حاجة.. مش هاتشوفوها تاني أبداً.. عمركوا ما هتلاقوها تاني" تكلمت بوهن وبكاء مرير ليأخذ سليم من بين يدها التشيلو ثم أزاحه بعيداً والتفت لينظر لها محتوياً وجهها بين كفيه وحدق بعينيها الباكيتين ونظرات التأكيد تنهال من عيناه 

"أنا عمري ما كدبت عليكي.. عمري ما كنت عايز أشوفك مضايقة أو بتعيطي... آه وحشتني زينة القديمة بس أنا مش رافض الجديدة اللي اتغيرت.. أنا قابلها بكل اللي فيها بكل اللي بتحبه وبتكرهه.. وعشان تصدقي كلامي لو عايزاني ابعد التشيلو خالص بعيد عنك وارميه هارميه.. بس أنا كنت عايز أشوفك مبسوطة يوم عيد ميلادك وعارف إنك من زمان وأنتي بتحبي التشيلو.. كنت عايزك تتبسطي وأنتي بتعزفي بيه.. بس خلاص أياً كان اللي أنتي عايزاه هاعملهولك.. ومحدش يعرف إني هنا ولا مامتك ولا أي حد غير بابا وهو اتبسط جداً بأني هنا وميعرفش أنا جبتلك ايه.." تحدث لها بصدق وهو لا يزال محاوطاً وجنتيها بيداه وتبادلا النظرات في صمت لتتوقف هي عن البكاء ونظرت له بأنفاس متلاحقة أُنهكت من البُكاء

"طب ارميه لو كلامك صح.. طلعه برا الشقة كلها لو سمحت" همست له ليتفقدها لبرهة ثم أماء لها بالموافقة

"حاضر.. اللي أنتي عايزاه أنا هاعمله.. اوعدك إن مفيش حد هيغصب عليكي حاجة أنتي مش عايزاها  بس أنتي كمان اوعديني متعيطيش كده تاني عشان خاطر أي حاجة.." همس لها وبداخله يتمزق لرؤية ملامحها الباكية بتلك الطريقة وتركها ليُمسك بالتشيلو ليضعه في صندوقه مرة أخرى أسفل زرقاوتيها ثم توجه بخطوات بطيئة نحو الباب حتى يخرجه ولكن صوتها الهامس الذي عاد للبكاء مرة ثانية أوقفه 

"أنا خايفة اوي.. أنا خايفة أعزف تاني.. أنا عمري ما حبيت حاجة في حياتي واتعلقت بيها قد التشيلو" شهقت بين بكائها ليلتفت لها سليم الذي ترك التشيلو بجانبه أرضاً وتفحص ملامحها ليرتجف قلبه داخله من تلك الملامح المتمزقة آلماً "أنا مش عايزة أعزف لارجع أتعلق تاني، والاقي كل اللي حواليا رافضني، أنا من جوايا نفسي أعزف ليل نهار، نفسي كنت ادخل معهد موسيقى .. بس ماما هترفض ومش هاتسكت والكل هايشوف إن كلامها صح.. أخواتي هيتريقوا عليا وهيقولوا اني تافهة ويتريقوا.. أنا خايفة اوي يا سليم ارجع لنفس الشخصية الضعيفة اللي الكل بيتحكم فيها وبيفرض عليها كل حاجة.. خايفة أواجه كل ده تاني.. أنا مقصدش إنك كداب أو حاجة أنا بس.. تعبت.. أنا خـ.." قاطع كلماتها مهرولاً نحوها ليعانقها بكلتا ذراعيه وهي تنتحب على صدره ليشعر بتمزقه داخلياً من تلك الحالة التي أصبحت بها وأخذ يربت على شعرها في حنان ولطف 

"هشششش... خلاص يا زينة، متخافيش، مفيش حاجة هتحصل" حاول تهدئتها بينما اشتد بكاءها ليزفر في غضب من فشله في أن يوقفها عن البكاء

"أنا بقيت خايفة من كل حاجة، خايفة أعمل اللي بحبه، خايفة اسمع كلام حد، حتى اللبس اللي بحبه بقيت خايفة البسه، بفكر في الحاجة مليون مرة لغاية ما بحس إن راسي هتنفجر، أنا تعبت يا سليم من كل حاجة بتحصل ليا، ليه الكل بيجبرني على حياة كاملة أنا مش عايزاها" تحدثت بين إنتحابها ونبرتها امتلئت برجفات البكاء وصرخات الآلم ليتحول شعور سليم للأسوأ

"متخافيش، هتعملي كل اللي نفسك فيه ومحدش هيقولك لأ على حاجة ومحدش يقدر يجبرك على أي حاجة انتي رفضاها" ابعدها عن صدره قليلاً للوراء ثم حاوط وجهها بكفيه وهو يحدق بزرقاوتيها بتأكيد ونظرة ثاقبة وكأنه ينظر إلي أعماقها "بصي،  أنتي كبرتي خلاص، مبقتيش صغيرة، سهل إنك ترفضي حاجة، سهل تقولي لأ ببساطة، من حقك تعملي كل اللي نفسك فيه وكل اللي بتحبيه ما دام دي حاجة مش غلط.. تقدري تقوليلي لو رجعتي تعزفي تاني عمتي هتعمل ايه؟ هتزعق؟ هتقولك بطلي؟! ولا يهمك كل ده.. أنتي مبقتيش صغيرة.. زمان أنتي طاوعتيها بما فيه الكفاية وسمعتي كلامها، من حقك دلوقتي تعملي كل اللي أنتي عايزاه.. من غير ما تحملي نفسك خوف وضغوط وتفكير وعياط وخناق تقدري بسهولة تعملي اي حاجة.. أنا جنبك ومش هاسيبك ومش هاسمح لحد يتحكم فيكي تاني، بس قبل كل ده أنتي بإيديكي تعملي اللي أنتي عايزاه من غير ما تهتمي برأي حد" تنهد لتنظر هي له بعد أن توقفت عن البكاء بالرغم من آثاره على ملامحها التي دفعتها للتحول للون الأحمر ليومأ لها بأنها تستطيع فعل كل ذلك

"التشيلو ورايا، لو روحتي عزفتي واتبسطتي مين هيقولك لأ؟! مين هيرفض؟!" أخبرها سائلاً بإستنكار

"ما أنا لو رجعت تاني هتعلق بيه وماما مش هـ.."

"انسي بقا ماما هتقول ايه وهتزعق وهتتخانق.." قاطعها ليزفر في إنزعاج "ولو قالت واتخانقت وزعقت وانتي اتعاملتي بهدوء وسيبتيها ومشيتي وروحتي عملتي اللي أنتي عايزاه هيحصل ايه.! هتقول لأ تاني؟! وماله ما تقول بـ..."

"أنت ليه مش عايز تفهم!! أنا الكل بيرفضني، بيحسسني إني مجنونة عايشة ما بينهم!" قاطعته صارخة بحرقة 

"لأ محدش رفضك.. لو رفضينك مكنوش اتدخلوا في حياتك، كانت مامتك زمان سابتك تسافري بسهولة، الكل محتاجلك، لو مكنتش محتجالك مكنتش قالتلك تدخلي هندسة، مكنتش منعتك من التشيلو.. مكنتش عملت حاجات كتيرة اوي.. أنتي اللي فاهمة غلط.. الكل عايزك تكوني على مزاجهم لكن مش رفضينك.. عايزينك بذكاءك وشطارتك بس من وجهة نظرهم.. عايزينك تلبسي احسن حاجة وتكوني احسن حاجة بس بالطريقة اللي شايفنها صح، وبإيديك متكونيش على مزاج حد غير نفسك يا زينة.. تبقي أنتي بألوانك والتشيلو والموسيقى اللي بتحبيها وضحكك وهزارك ولبسك اللي بيميزك عن كل البنات.. أنتي بس مميزة لكن مش كل الناس بتشوف ده.. كفاية إن أنتي تشوفي ده، كفاية إن اللي بيحبك بجد يشوف ده، واللي ميعجبهوش هو حر.. خليكي زي ما انتي ومتتغيريش، اعزفي والبسي اللي تحبيه واعملي كل اللي في دماغك ما دام مش حاجة غلط ولا هتأذيكي لكن متتغيريش عشان حد.. متتغيريش أبداً غير عشان نفسك" 

تفحص زرقاوتيها بعد أن أنتهى من إلقاء تلك الكلمات عليها لتعيدها هي مراراً وتكراراً بداخل عقلها لتشعر أنه محق تماماً، محق تجاه كل كلمة، ولكنها لن تستطيع فعلها بين يوم وليلة، احساسها برفض والدتها لها، رفض أختها لها، ولكن ماذا لو بدأت الآن؟ ماذا لو احتوت ذلك التشيلو بين ذراعيها، ماذا لو فعلت كل ما اعتادت أن تحبه وتكترث لأجله!! لن يشعر أحد بالسعادة سواها هي وكذلك لن يشعر أحد ولن يكترث سواها هي أيضاً عندما يسيطر عليها الحزن وتستولى عليها دوامة الأفكار التي تحتل رأسها طوال الوقت..

أخذت شهيقاً عميقاً ثم زفرته لتبتعد عن سليم ثم توجهت بخطوات سريعة تتسم بالتصميم الشديد واحتوت على الإنتقام من ذلك الضعف نحو التشيلو الذي أحضره لها منذ قليل وذكرها بنفسها الضعيفة التي كانت تحاول التغلب عليها وتخفيها منذ سنوات ثم أمسكت به وجلست على احدى الكراسي أسفل نظر سليم الذي هدأ قليلاً بداخله بعدما شعر أن كلماته لها ربما غيرت شيئاً بداخلها وارتقب منتظراً عودة ولو شبحاً من تلك الفتاة التي لطالما عشقها بجنون..

عدلت من جلستها لتجلس مستوية الظهر، باعدت بين ساقيها قليلاً، أخذت نفساً عميقاً ثم زفرته ببطئ، يراها سليم أسفل عيناه وهو يدرك أنها متوترة، يدرك أنها تعاني تلك الصعوبات التي لا تنتهي بداخلها، تحاول القضاء على نزاع استمر لما يقارب ثمانية سنوات من عمرها الصغير، منذ أن هشمت والدتها التشيلو الخاص بها إلي فرض قرارات حياتية مصيرية كان عليها هي اتخاذها إلي سنوات الوحدة والعُزلة التي تعانيها إلي الآن..

تشعر بإرتجافة داخل نفسها، ارتجافة لا تدري ما القادم بعدها، ارتجافة صوب المستقبل القريب، إذا حقاً كلمات سليم لها منذ قليل صحيحة وهو محق تماماً إذاً هي ستقبل على حرب محتمة لا محالة، وإذا كانت كلماته خاطئة فقط ليسعدها بمناسبة يوم ميلادها فماذا سيكون شعورها بعد أن تلمس بأناملها أكثر الأشياء الغالية على قلبها منذ أن كانت صغيرة؟!

وصدت زرقاوتيها تعتصرهما بشدة، ستترك التردد والعِناد، ستترك تلك الذبذبة التي تقضي على حياتها ولو للحظات، ستستمتع من أجل نفسها ولو لمرة واحدة، فلتتخلى عن تلك المعاناة اللعينة التي تُفسد عليها حياتها وليترفق بها ذلك الصداع اللعين الذي يهشم رأسها من كثرة التفكير في القادم والآت.. ستبتعد عن الذبذبة والتخبط المريعان وستتشجع وستفعلها.. لقد قست على نفسها كثيراً بالسابق وعاهدت أناملها ألا تلمس التشيلو مجداً ولكنها هذه المرة ستخون نفسها وتنكث العهد فهي تستحق ولو قليلاً من المتعة حتى ولو بعزف مقطوعة صغيرة..

تنفست مجدداً ونكست برأسها تتفقد الأربعة أوتار الخاصة بالتشيلو وهي تمرر أناملها عليها لتتأكد من إحكام شدها بعناية وابتسمت بوهن لأنها لا زالت تحافظ على أظافرها قصيرة ومشذبة بعناية كما العازفين ثم رفعت رأسها وتجاهلت تلك المسام المرتعدة بجسدها بأكمله وخفقات قلبها المرعوب ووصدت عيناها وهي تمسك بالقوس وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تتحكم في ارتجافة يدها لتجد نفسها تشرع في العزف لأول مرة منذ سنوات..

لانت شفتاه في ابتسامة عذبة وهو يراها أسفل نظره تتغلب على واحدة من أكبر مخاوفها، ها هي صغيرته تعود للعزف مرة أخرى، ها هي تطرب أذناه بتلك الموسيقى التي يشعر وكأنها مختلفة عن أفضل العازفون في الكون بأكمله لأنها هي من صنعها وليس أحد سواها، تتمايل خصلاتها عند كل تحرك مع وجهها البريء وتفاصيله التي يعشقها ليشرد بها أكثر ويشعر أن العالم حوله مكتمل ولا ينقصه شيء أبداً..

فتنتها بطريقتها هي التي تمتزج بالأنوثة المميزة والبراءة بآن واحد تجبراه على الإستسلام والإذعان لأياً ما أرادته هي، رقتها المتناهية في العزف وكأنها شخصية أخرى تماماً، حورية هي بُعثت من احدى بحور الجنة وهي تتحرك بذلك اللطف لتنسج بأناملها معزوفة ملائكية لم يستمع للأفضل منها أبداً.. أحقاً يستمع أم يغرق عشقاً في بحور تلك الفتاة؟! لا يعلم ولا يكترث لأي شيء سوى أنها أمامه تفعل شيئاً تحبه وتريده منذ صغرها..

يلاحظ السعادة بحدقتاه تغمرها، يلاحظ تلك العلاقة الفريدة بين أناملها وبين أجزاء التشيلو تظهر مرة أخرى على ملامحها، يرى العشق الخالص الذي تصرخ به كل خلية من جسدها كلما لامس القوس بين أناملها أوتار هذا التشيلو، ولكن لماذا رمت القوس من يدها؟ أهي بخير؟ لماذا لا تستطيع أحتواء التشيلو؟ 

أقترب منها مهرولاً وقبل أن ينهال عليها بعبرات التأكد ما إذا كانت تشعر بخير ارتفعت له زرقاوتان احتبستا بالدموع التي انهالت على كلتا وجنتيها ما إن تلاقت أعينهما وتشبعت بإبتسامة أفرجت عنها أخيراً وحررتها في النهاية بعد سنواتٍ سُجنت بها ظلماً وقهراً، ابتسامة تمنى لو رآها منذ سنوات، منذ ثماني سنوات..

"سليم.. أنا.. أنا لسه بعرف أعزف.. أنا.." همست بنبرة مهتزة ولكنها كانت سعيدة ثم أنقذ تلك التشيلو من بين يديها وقدميها حتى لا تسقط أرضاً ليسندها على واحدة من تلك الأريكتان بغرفة معيشتها ثم اقترب منها مجدداً ليسلط نظره عليها وعيناهما تلتقي في نظرة لم تشاركها من قبل مع أحد على وجه الأرض وفجأة تحولت نبرتها للسعادة الطاغية "أنا لسه زي ما أنا يا سليم.. أنا متغيرتش.. أنا لسه بحب التشيلو" تحدثت كفتاة في العاشرة من عمرها وموجات السعادة تتلاطم  من تلك الأبحر بين جفنيها ليجذبها سليم من يدها بلطف وكأنها كادت أن تقع أرضاً بعد شعورها بأن جسدها أصبح كالهلام من ذلك الإحساس الذي لم تشعر به منذ الكثير من الوقت لتجد نفسها تستقر وتستكين بين ذراعاه في عناق محموم بالكثير من العواطف التي لا يستطيع أياً منهما التعبير عنها..

"عرفتي يا زينة.. عرفتي إنك عمرك ما كنتي مبسوطة بحاجة قد التشيلو؟!" همس بأذنها وهو يستمتع بقربها الشديد محتوياً اياها بين ذراعاه ووصد عيناه في نشوة سعادة من امتلاكها هكذا بالقرب من قلبه الذي يخفق بجنون من أجلها

"شكراً.. شكراً بجد يا سليم" همست هي في امتنان لأنه السبب في شعورها بتلك السعادة "أنا عارفة إني بتخانق وبعند مع الكل بس أنا متأكدة إنك كنت عايز تشوفني مبسوطة و.."

"هششش.." قاطعها وهو يمرر أنامله على رأسها وهي لازالت بين ذراعاه وبالرغم من أنه لم يشعر أبداً بمثل تلك السعادة وأنفاسها الرقيقة ترتطم بعنقه عند تحدثها وكنه أوقفها عن الكلام "أنا عارف.. بس متقوليليش شكراً" همس هو الآخر ثم ابعدها عنه قليلاً حتى يُملي عيناه من زرقاوتيها السعيدتين ورغماً عنه وجد نفسه يتفقد ملامحها بأكملها من أعلى جبينها حتى تلك الكرزيتان المرسومتان بعناية ليتلمس أسفل ذقنها بجرأة وحدق بزرقاوتيها الدامعتين مجدداً "أنا بالذات يا زينة متشكرنيش.. أنا عايز أشوفك مبسوطة على طول"

ابتسمت له بعذوبة ثم ارتجف جسدها برفق على اثر بكاءها الذي انتهى وبادلته النظرات التي لا تدرك ما معناها.. أنفاسه الدافئة التي لا تتوقف عن مداعبة ملامح وجهها بلطف جعلتها تشعر بشيء جديد للغاية عليها لم تختبره من قبل..

لا تدري لماذا تسارعت أنفاسها في غير انتظام وهي تنظر له، لماذا هي متوترة، أهذا بفعل أنفاسه؟ ربما لتقاربهما الشديد غير المألوف؟ ما الذي يحدث لها بالقرب منه؟ ما الذي يتغير بينها وبين سليم؟ هي تعرفه منذ أن كانت طفلة.. ابن خالها الذي كان يلاعبها ويمرح معها ولكن ماذا حدث؟ ماذا تغير؟ تشعر وكأنها ستسقط أرضاً لا محالة لو ترك ملامسة ذقنها بتلك الطريقة.. ولماذا عينتاه أصبحتا داكنتان للغاية هكذا؟! لماذا أنفاسه تزداد بتلك الطريقة وتتسارع وتحولت للسخونة الشديدة لتنعكس على شفتيها وتسبب لها الإرباك أكثر وأكثر..

حاول أن يوقف تلك الرغبة المُلحة التي انفجرت بداخله على تذوق تلك الكرزيتان التي تبعثر رجولته ولكن دون جدوى، حاول أن يهدأ من وتيرة أنفاسه التي ازدادت وكأنه فر من مسابقة عدو لتوه ولكن لا يستطيع.. رغبته تجاهها تزداد.. عشقها يدفع قلبه للجنون.. عيناه تنهل الآن من تلك الملامح البريئة التي رافقت أحلامه ولوهلة ود لو أن أحلامه كلها تتحول الآن لحقيقة.. ماذا سيحدث لو تذوقها وهي أمامه الآن؟ كل قطرة من دماء عروقه وصلت لحد الغليان وتصرخ ب أن يُقبلها علّ تلك اللوعة تستكين قليلاً.. إبهامه الذي يلامس بشرتها الدافئة يذعن له أنها مستعدة له تماماً.. تشعر مثله.. حسناً سيستجيب لذلك القدر الذي استعمر قلبه منذ صباه وحتى احتل رجولته الكاملة فعشقه لها يصرخ به ويحتم عليه أن يتملك شفاهها بين شفتاه وألا يتركها أبداً..

متى لامست شفتاه شفاهها؟ ما الذي يحدث؟ لماذا تشعر وكأنها تحلق بالسماء؟ أهذا ما تشعر به كل فتاة يٌقبلها رجل؟ لماذا لم يتسنى لها اختبار تلك المشاعر من قبل؟ لماذا تأخرت إلي الآن؟ لماذا لا تستطيع أن تملي زرقاويتيها من ملامحه الرجولية؟ عيناها لا تساعدها أبداً.. ألهذا الحد قد غرقت بتلك اللحظة وتبدو وكأنها لن تستطيع الهروب منها للأبد وستظل سجينة تلك القُبلة للأبد؟ قلبها يكاد يهرب من قفصها الصدري، تسارعت خفقاته في جنون وهي تستنشق أنفاسه الساخنة التي تتملكها باستمتاع شديد..

خلل أصابعه بين خصلات شعرها يقربها منه، يستنشق أنفاسها بلوعة تمنى لو تنتهي منذ سنوات، يريد أن يلتهمها بشفاهه لتصبح بداخله للأبد، لن يظن أنه سيستطيع تمالك نفسه بعد تلك القبلة، أكان مصاباً بالحمق والغباء حتى يحرم نفسه ويجبرها ألا تقترب ممن يعشقها قلبه؟ لماذا أنتظر كثيراً؟ لماذا لم يقبلها من قبل؟ 

خفقات قلبه تتسارع، هيسترية لذيذة اندفعت بدمائه كالبركان، لا لن يتوقف، لن يسمح لنفسه مجدداً أن يمنع كل خلية بجسده من هذه اللذة.. لماذا تريد هي الابتعاد؟ لماذا تدفعه بعيداً عنها؟ ألا تريده؟ ألا تشعر بجسده الذي يصرخ آلماً كي لا تبتعد عنه؟ أهي بهذا الغباء حتى لا تشعر به؟ أهي عمياء؟ ألا ترى كم هو غارقٌ بعشقها؟ ألا تشعر بتلك الأنفاس التي كادت أن تهلكه وتودي بحياته لو ابتعدت عنه مقدار أنملة؟ واللعنة لماذا تصمم دفعه بعيداً عنها؟ أتظن أن يداها التي تتلمس صدره ستجعله يبتعد؟ ألا ترى أنه كفتي يدها الرقيقتان وهي تلمسه بتلك الطريقة تدفعه كي يعمق هذه القبلة أكثر وأكثر؟ لا لن يستطيع أن يكبح جماح رجولته عنها وهي تصرخ بتلك اللوعة بين قبلتيهما..

"سليم!!" همست بأنفاس متقطعة لاهثة بعنف بعدما دفعته بكل ما أوتيت من قوة ليتفرقا جفناه بعد أن سيطرت عليهما نشوة السعادة بقربها وامتلاك شفتيها بين شفتاه ونطقها لأحرف اسمه التي تبدو الآن كسمفونية صُنعت خصيصاً من أجله ليتفقدها بحدقتين غابتا في أبحرٍ من الابتهاج والنشوة للظفر والانتصار بملاقاة شفتيها أخيراً في وعيها بتلك الطريقة ليجد وجهها ممتزجاً بحمرة قانية صاحبت الكُدرة وكأنما فُقد في لوعة من تلك القبلة التي بعثرت كيانهما معاً والآن أدرك أنها كانت تحتاج للتنفس والهواء ليس إلا..

لمحها لثوان بينما تلتقط أنفاسها وتعيد الهواء لرئتيها مرة أخرى ولكنها ستكون مخطئة لو ظنت أنه سيتركها لتبتعد عنه مرة أخرى.. أهدابها المتلاقية لتخفي تلك الزرقاويتان المليئتان بالرغبة وثدييها اللذان يعلوان ويهبطان بسرعة ولسانها الذي رطب كرزيتيها هكذا، كل ذلك يصرخ به أن يعاود تلك القُبلة مرة أخرى..

هي الآن تحلق بالتأكيد.. كيف أستطاع حملها بكل تلك السهولة لتجد ساقيها تحاوطا خصره؟ وما ذلك الأنين الذي تحرر من حنجرتها ليُسجن بين قبلتيهما الشغوفة؟ أهي بفعل اصطدامها بالحائط خلفها أم هي شهوة وإرادة منها في المزيد؟ 

لأول مرة بحياتها تختبر مثل هذه المشاعر.. تريده.. تريد المزيد منه.. لا تكترث لأي شيء سوى ذلك.. تصرخ بنفسها.. تحاول زجر نفسها أن تتوقف.. أن تزجره صارخة ليبتعد عنها.. ولكنها تجد ذراعيها يحاوطا عنقه وتقربه منها لتبادله القبلات!!

أتعشقه هي الأخرى؟ جسدها يذعن له بذلك.. شفتيها تبادله.. حرارة جسدها تدفع بركانه الداخلي أن يعكس لهيبه الذي عذبه لسنوات.. ذلك الأنين من شفتيها يجعله تدرك أنها استسلمت له تماماً.. تشبثها به هكذا يدفعه للمزيد والمزيد..

 نظرت له بأبحر بين جفنيها غابتا عن الوعي بما يحدث لها وسيطر عليها الاحتياج الشديد له لتجده يعتليها وينظر لها بسوداويتين غلفتا رغبة ممتزجة بشيء لم تستطيع تبينه ولا تدري متى حملها حتى يحضرها هنا أسفله على سريرها وأقترب منها بشفتين شغوفتان لتذوق كرزيتيها مجدداً..

تناغمت السنتهما في هذه القبلة بينما دون تحكم أو وعي منه انسابت واحدة من يداه ليتلمس نهدها ليجد يده الأخرى تمسكت بخصرها لتطوقه هي بذراعيها وهي تلهث بقوة بين قبلتيهما وبدأت آنتها تصاحب أنفاسها اللاهثة لتدفع عقله للجنون ولم يستطع أن يصمد أمام تلك المشاعر ولا تلك الفِتنة اللامتناهية التي تكيلها لها دفعة واحدة ولا ترفق على رجولته أبداً لتقسو عليه وتبدد كل ما امتلك من عقل وحكمة دون شفقة منها أو رحمة..

فرق قبلتيهما لتشهق هي في متعة وشبق للمزيد والمزيد بينما دفن هو وجهه بعنقها ظناً منه أنه يحاول التحكم بنفسه ولكنه كان أحمق لقد ارتفعت آنتها لتقع على مسامعه كلهيب مستعر اندفع لرجولته بثواني واندفع لشفتيه ليجعلهما محمومتان بنيران الرغبة وبدأ دون تحكم منه أن يلثمها بشهوة واحتياج لأن يكتشف معالم جسدها ويذوقه متنعماً بامتلاكها أسفله..

تائهة في تلك الرغبة التي لم تختبرها من قبل، ذاهبة في أعمق محيطات الجنون الماجن بتملك المزيد من تلك المشاعر التي لم يسبق لها تجربتها، أجبرتها كل ذرة احساس بجسدها أن تطلق صيحات المتعة التي تسللت عنوة من بين كرزيتيها لتشعر بتعالي سخونة جسده حتى كادت تلهبها وتحرق جسدها أسفله من كثرة تلك اللذة التي اندفعت بها وأصدر عقلها الغائب تماماً إشارات لأناملها كي تخلل شعره الفحمي وتدفع رأسه كي تتوغل أكثر بعنقها..

لماذا لا تشفق عليه؟ لماذا تخلت من كل معاني الرحمة والعطف؟ لماذا لا تترفق برجولته قليلاً؟ لماذا تدفع هذا الهوس بكل ذرة دماء تجري بعروقه؟ ألا تشعر بقلبه يكاد يهشم صدره؟ لماذا تدفعه بصياحها وآنتها وتحركاتها أسفله للمزيد؟!

كفر بالمنطق بعدما فسد عقله تماماً وذهب ليحلق بالسماء السابعة ولم يتحكم به سوى غريزته ورغبته بتلك التي يعشقها أسفله كي يفعل المزيد والمزيد!! رغبتها واستجابتها له والشبق الذي يغلف نبرتها وجسدها الملتهب أسفله يدفع يداه لا إراديا حتى يعريها تماماً من قميصها القطني الأسود الذي وجد نفسه يخلعه عنها في ثوانٍ ليتلاقى سواد عيناه بسواد صدريتها الذي أحتوى نهدان ليخفي بياضهما على استحياء.. فبالكاد أخفى أكثر مما ظهر..

حاوطها بذراعيه ليحررها من تلك الصدرية وهو يوزع قبلاً بدءاً من شفتيها مروراً بذقنها وذلك التجويف بمنتصفه لتهبط شفتاه في تناغم تلقائي في لثمات لعنقها الذي تنبض به عروقها في لوعة من تلك اللثمات ليجد نفسه يهبط لأسفل ملتقياً بثدييها سامحاً لنفسه بتذوقها..

لا تستطيع التحمل أكثر، تريد الشعور بجسده الدافئ منعكساً على جسدها، تريد منه المزيد من التقارب وتريد أن تتعمق أكثر في أبحر تلك اللذة التي لم تكن تعرف طريقها من قبل، تعرف أنها جريئة، تتمرد على المنطق، تنافي كل الآداب التي لطالما حافظت عليها، تعبر كل تلك الحدود التي وضعتها لنفسها من قبل والآن ستكسر تلك القيود وامتدت كلتا يداها لتحرره من قميصه القطني هو الآخر ليساعدها هو في التخلص منه ثم عاد للثماته بينما هي ألهبت جحيم جسده ودفعت كينونة رجولته للتحكم به وبها وبالموقف نفسه..

"سليم!!" همست بأنفاس لاهثة غائبة في الشهوة عندما لامست واحدة من يداه أعلى ملتقى ساقيها فوق بنطالها الأسود ليهمهم بين شفتاه وأسنانه التي احتوت واحدة من سفاح جبالها الوردية  كي يتيح للسانه تذوقها مغمض عيناه كي يحتفظ بمشاعر تلك اللحظة للأبد ويتذكرها طالما يستطيع التنفس

 

"سسـليـم!!" همست بشهوة تصرخ وكادت أن تحركه حتى يحررها ويحرر نفسه من تلك الآلام اللذيذة ولكن مهلاً، أبهذا الشكل وبتلك الطريقة يريد أن تكون أول مرة لهما هكذا؟ هذا ليس ما تخيله لكلاهما.. لا لن يدع تلك الشهوة المحمومة بينهما وذهاب عقليهما كي يتحكما بهما.. لن يرضى لمن عشقها قلبه منذ صباه أن تكون هذه هي مرتهما الأولى.. لقد أقسم لنفسه أنه لن يحظى بها أبداً سوى وهي عروس بفستانها الأبيض وبسعادتها لإختيارها اياه ومشاعر حب قوية متبادلة بينهما، وليس لتملكها لحظة سعادة عابرة لإهتمامه بها..

نهض مسرعاً لاهثاً بعنف ليطبق على أسنانه بقسوة وتملكه الغضب بعدما أضطر بمشقة بالغة أن يبتعد عنها وأخذت كل ذرة من دماءه تصرخ به ألا يفعل ولكن كان عليه أن يُسيطر على نفسه لتفيق هي وتنظر لسوداوتيه بصدمة وبنفس الوقت زرقاوتان التهبتا بنيران الغضب لإبتعاده المفاجىء عنها وشعرت بالخجل الشديد عنما أدركت أن نصفها العلوي دون ملابس تماماً فأخفضت رأسها في استحياء ليقرأ ذلك بملامحها وذراعيها اللذان حاوطا ثدييها لتخبئهما عن مرمى بصره ليندفع هو ممسكاً بأحدى الشراشف على سريرها ليلقيه عليها فجذبته هي لتغطي جسدها وهي لا زالت لا تستطيع أن تنظر بعينيه وعاد عقلها لها وهي في صدمة تامة كيف تركته يفعل بها كل هذا بل واستجابت له بمنتهى السهولة..

لا يدري كيف ارتدى قميصه مرة أخرى وبداخله لازالت نيران الإثارة تتحكم به ولكن كان عليه المغادرة حتى لا يتطور الوضع بينهما أكثر من ذلك فاقترب منها ممسكاً برأسها ثم قبلها قبلة طويلة على جبينها ثم أراح جبينه على مقدمة رأسها ووصد عيناه لثوانٍ ليهمس لها

"اوعي تزعلي مني.. أنا لازم امشي دلوقتي.. نامي بدري عشان قدامنا يوم طويل بكرة.. تصبحي على خير" أخبرها ثم ابتعد عنها مجبراً قدماه ومُكرهاً كل ذرة بجسده أن تبتعد بسرعة ليآخذ معطفه ويذهب خارجاً تاركاً اياها بألممزقه إرباً بداخله..

--

        

أحكمت تلك الشراشف حولها وهي في حالة ذهول شديدة وصدمة لا تدري من نفسها أم من سليم أم من كل ما فعله من أجلها أم من كل ما يحدث حولها هي لا تدري!!

جلست القرفصاء على سريرها وعقدت ذراعيها بمصاحبة الغطاء وبالرغم من زرقاويتيها الشاردتان إلا أنها ترى بوضوح داخل نفسها، نعم هي تدرك تماماً بمّ تشعر.. لأول مرة منذ أن كانت طفلة صغيرة هي تشعر بالسعادة..

نهضت لتقفذ على سريرها كفتاة صغيرة بالثامنة حتى سقطت تلك الأغطية عنها لتدرك أن نصفها العلوي لا يغطيه أي شيء لتقهقه على مظهرها ثم جذبت قميصها القطني لتحتضنه قبل أن تقوم بإرتدائه فللتو كانت يدا سليم من تلمس هذا القميص.. 

فرغت من ارتدائه وتوقفت عن القهقهة لتتلمس شفتيها بأناملها وهي تتذكر شفتا سليم عندما قبلها تلك القبلات المجنونة لتتثبت ابتسامتها كفتاة مراهقة بالسابعة عشر من عمرها وشردت لتعيد تذكر كل شيء وهي تبتسم وتحمر خجلاً تارة وتارة تعض على شفتاها وتارة تعبث بخصلات شعرها وبالرغم من أنها لطالما دفعت جميع من أعجب بها بعيداً إلا أنها لأول مرة تشعر بتلك المشاعر المنفجرة بداخلها..

"آلو.." اجابت هاتفها الذي أخرجها صوت رنينه من شرودها ومعاودة رؤية كل ما حدث بينها هي وسليم مرة أخرى 

"زينة.. نمتي ولا لسه صاحية؟" تحدث سليم سائلاً لتوصد عيناها وكأنه يراها أمامها وشعرت بجفاف حلقها لتحمحم بخجل ثم تمالكت نفسها وعملت على تهدئتها وأقنعت نفسها بتقبل الواقع فهو ليس معها ولا يراها

"ممم.. لا لسه صاحية" همست في ارتباك بالرغم من أنها حاولت التغلب على حالة التوتر تلك

"مش قولنا هننام عشان قدامنا يوم طويل بكرة؟ منمتيش ليه بقا؟!" عاد ذلك المرح الذي يتصف به لنبرته لتندفع إبتسامة الخجل إلي شفتيها وتنهدت قبل أن تجيبه 

"لا كنت من شوية هاشرب Hot Chocolate بس فيه حد عطلني" 

"مين ده اللي يعطل زوزا القمر عن حاجة هي عايزاها.. مين الكلب ده اللي عطلك وأنا اموتهولك؟!!" تصنع عدم المعرفة سائلاً بمزاح 

"متشتمش طيب" همست له بعد أن تحول لون وجهها للحمرة بخجل "ده لسه عاملي مفاجأة عشان عيد ميلادي وبسطني جداً" 

"ده واضح كده إنك بتعزيه اوي بقا وشكلك مبسوطة بسببه.. يا ترى مين سعيد الحظ ده؟" سألها مجدداً ليشعر بزفرتها التي ملت من أسئلته 

"مالكش دعوة يا رخم" أخبرته بإقتضاب وإنزعاج زائف

"عشان خاطري تقوليلي.." أخبرها بتوسل 

"لا مش هاقولك ومالكش دعوة"

"طب بلاش عشان خاطري.. عشان خاطر بدر طيب.. أنا عارف إنك بتحبيه.."

"ممم.. بردو لأ" 

"بقا كده يا زوزا أهون عليكي.."

"اه تهون عادي" تغيرت ملامحها بإبتسامه وهو وهي يزيفان العراك هكذا 

"بقا كده بردو.. ماشي يا ستي.. قومي يالا اعملي الـ Hot chocolate وأنا معاكي.. وهقنعك بردو ولازم اعرف مين اللي خلاكي مبسوطة اوي كده" رغماً عنها وجدت قدميها تقودها تلقائياً نحو المطبخ وشرعت في صنع مشروب الشوكولا

"اسكت بقا يا سليم وكفاية استعباط .. ما أنت عارف كل حاجة" همست له بخجل

"لا بس عايز اسمعها منك" اخبرها بإبتسامة 

"اف!!! ما قولنا خلاص بقا" تنهدت وهي لا تدري لماذا يلح عليها هكذا 

"إن كان ليا خاطر عندك" توسلها مجدداً ليستمع لتنهيدتها 

"أنت يا سليم!! خلاص اتبسطت؟!" اجابته أخيراً بإنزعاج 

"معندكيش فكرة.. الفرحة مش سيعاني" 

"يا سلام وده من ايه؟" سألته بتلقائية

"عشان عمري ما اتبسطت مع حد أبداً زي وأنا معاكي.. وبجد كنتي وحشاني اوي ولسه وحشاني حتى وانا بكلمك.. وأنا معاكي وأنتي في حضني كمان كنتي وحشاني" همس بنبرته الرجولية لتوصد هي عيناها بشدة وأحمر وجهها خجلاً ولم تستطع التوقف عن الإبتسام "ايه روحتي فين؟!" سألها ليسم حمحمتها من الطرف الآخر 

"معاك اهو" همست بخجل 

"لا واضح اننا مش واخدين على سماع الكلام الحلو بس اجمدي بقا عشان فيه دلع كتير اوي بقا داخل علينا" همس بمكر ليزداد خجلها

"اشمعنى يعني؟!" سألت بإستهجان مازح صاحب ابتسامتها الخجولة 

"يعني اللي يلاقي زوزا قدامه وميدلعهاش يبقى حرام عليه.. مش بذمتك حرام عليا مدلعش القمر ده" توسعت عيناها واستمع لضحكاتها 

"لا أنت كده Over بجد" 

"طب روحي كده بصي في المراية للعيون الحلوة دي وقوليلي مدلعهاش ازاي" همس لها لتتنهد هي

"طب كفاية بقا يا سليم عشان مش عارفة أرد على كلامك الحلو ده أقولك ايه" أخبرته بصدق بينما فرغت من إعداد مشروب الشوكولا الساخن وتوجهت مرة أخرى لسريرها 

"متقوليش حاجة.. أنا بس عايز أشوفك مبسوطة واسمع ضحكتك دي اللي بموت فيها" 

"وبتموت فيها بقا ليه يا ترى؟!" سألته بخجل ولكن لم يمنعها من أن تتعرف أكثر على كل ما يبدر منه بجرأة 

"علشان هي جميلة اوي زي ما هي كده وتستاهل إن كل اللي حواليها يموت فيها مش أنا بس.. ومش هننام بقا ولا ايه؟!" غير مجرى الحديث بعد أن استشعر بأنها لن تنهي تلك المكالمة إلا بعد خوضها في كل ما حدث

"لا مش عايزة أنام.. خلينا نتكلم شوية" أخبرته بتوسل 

"نتكلم للصبح كمان يا ستي.. طلبات الزوزا أوامر" ساد الصمت لبرهة بينما سمعا أصوات أنفاسهما خلال المكالمة 

"قوللي هنعمل ايه بكرة؟!" توسعت عيناها في حماس 

"لا سيبيها مفاجأة"

"سليم بطل رخامتك دي.. قوللي بقا عشان خاطري" بالرغم من دلالها التلقائي الذي ظهر بنبرتها وبعثر رجولته إلا أنه لن يخبرها

"تؤ تؤ.. لا مش هاقولك" 

"يا ساتر عليك.. طب غششني شوية طيب" 

"ممممم.. أغششك" همهم وهو يُفكر ثم تابع "قوليلي ايه أكتر حاجات كنا بنحبها واحنا صغيرين.. يمكن تقولي حاجة من الحاجات اللي هنعملها بكرة" توسعت عيناها وهي تحاول التذكر

"كنا بنحب نقرا كتب سوا.. و .. ونتفرج على أفلام سوا ونعمل movie night"

"وايه كمان يا زوزا؟!"

"وكنا بنحب نلعب عجل ونتسابق، ونلعب تنس سوا، وكنت بتحب تكلمني عن مامتك، وكنت بتحبني أضحك وأنت بتهزر مع خالو ولما كـ..." أكملا حديثهما سوياً لساعات الصباح الأولى من اليوم.. ساد بينهما ذلك المزاح الطفولي الذي استعاداه سوياً مرة أخرى.. أخبأ كلاً منهما مشاعره خلف تلك القهقهات تارة وخلف الخجل تارة أخرى..  

أحس أنه في طريقه لإستعادة تلك الفتاة التي يعشقها.. عاهد نفسه على ألا يبالغ معها مرة ثانية في أي شيء، لن يبالغ بعصبيته، لن يبالغ بصمته، لن يبالغ بتلك الشهوة التي تحكمت به هذه الليلة.. فقط سيبالغ بشيء واحد، هو إسعادها!!

 

--

 

"أسودي.. أسودي.. أسودي.. أفضل صباح لك من أسعد فتاة بالكون بأكمله لم تسعد من قبل مثلها ولن يسعد بعد مثلها..

أنا أحلق من كثرة السعادة وأرفرف بجناحان من الفرحة بالسماء السابعة.. ليت الله خلق لنا خمسون سماء حتى استطيع التحليق بهم جميعاً.. 

حقاً لن أستطيع أن أعبر لك بحفنة كلمات.. لا بل أنا لا أستطيع أن أصف سعادتي بملايين الكلمات.. لا بل بمليارات الكلمات والجمل المتراصة بجانب بعضها البعض.. آه عزيزي، ما الذي أكبر من المليار؟! أياً كان.. استمع إلي.. فوقتي محدودو للغاية لأن سليم على وشك الوصول!!!! : )

أمس كان أفضل يوم بحياتي بأكملها منذ أن ولدت إلي الآن.. أتدري ماذا فعل سليم من أجلي!! وآه لو تدري ماذا فعل معي.. !!

لو فقط رأيت تورد وجنتاي وقصصت عليك بالتفصيل جميع ما حدث أقسم لك لن تتركني إلا وأنا مهشمة الأصبع من كثرة تلك المشاعر والأحداث والتفاصيل التي سأغرقك بها.. 

والآن لنعود للوراء قليلاً.. إلي بداية ليلة أمس، تماماً أمام نهر شبريه.. أظن أنك تتذكر أنني كدت أن أعترف لك بحبي تجاهه وأنا كالحمقاء المختلة  وصدت غلافك وفررت من الإعتراف بهذا.. والآن وأنا بكامل قواي العقلية أعترف لك صديقي العزيز أنني أخطو أولى خطوات عشقي لذلك الرجل الجذاب المسمى بسليم.. 

لقد شردت جالسة أفكر بكل شيء إلي أن فاجئني.. أترى؟! لقد أغفلت ولأول مرة أن أعترف لك مثلما أفعل كل سنة، اليوم هو يوم ميلادي.. فلتتحلى ببعض الذوق وأخبرني كل عام وأنتي بخير .. غبي.. لا تتذكر أبداً.. على كل حال أتدري ماذا فعل كأولى مفاجآت يوم ميلادي.. لقد احتل شارعاً بكامله من أجلي.." 

تنهدت بسعادة والإبتسامة لم تفارق وجهها ولا شفتاها أخذت تتذكر كل التفاصيل التي حدثت ليلة أمس، رقصهما سوياً بتلك الشاعرية، نظرات سليم لها التي ستتذكرها للأبد عندما تناولا العشاء، وأمّا منذ بداية وصولها شقتها إلي نهاية الليلة لينهيا المكالمة التي حقاً لم تنتهي فلقد غالبهما النعاس وسقطا هاتفيهما من يديهما فهذا هو الجزء المفضل لها بالأمسية بأكملها.. كتبت بدفترها وهي تسارع الوقت لتحاول الإنتهاء بسرعة قبل وصوله فهي الآن على موعد معه!!

 

--

        

انتظرها وهو يعكس ساقاً أمام الأخرى مستنداً على سيارته بجسده الممشوق حتى يقضيا اليوم معاً كما اتفقا بالأمس واختار أن يبقى منتظراً بالأسفل حتى لا يعاود تكرار ما فعله.. يبدو أنه أصبح غير قادراً على التحكم بسيطرته على نفسه أمامها ولم تعد مشاعره تقاومها أبداً.. 

سيحافظ بكل ذرة قوة وتحمل لديه على ألا يتجاوزا أية حدود مرة أخرى، لقد أدرك جيداً ذلك الإنجذاب الجسدي بينهما أكثر من مرة وتأكد ليلة البارحة أن طالما هما بمفردهما لن يستطيعا إلا التجاوب لذلك الإنجذاب!

خرجت من البوابة الأمامية لبناية شقتها التي تمكث بها ليراها ترتدي كنزة صوفية حمراء اللون تعكس زرقاوتيها وهي تحكم رباط المعطف الأزرق حول خصرها ليتفقد بقية مظهرها ببنطالها الجينز المتسع وملمع الشفاة الوردي البسيط ولون الطلاء السماوي وتلك الإبتسامة المشرقة التي استهلت بها لقائهما ليبادلها الإبتسامة وقد لمح بعينيها أن زينته الزاهية بألوانها التي تدفع من أمامها للبهجة قد عادت الآن!

"صباح الخير يا زوزا" أخبرها وهو يحدق بزرقاوتيها بعد أن أقترب منها متخذا بعض خطوات نحوها ولكنها تهربت بنظرتها بعيداً عنه ولكن دون غضب أو انزعاج

"صباح الخير يا سليم" همست لتبادله وبداخلها تموت من تلك اللحظة التي ستنظر له بعينيه، فبالرغم من قضاءها طوال الليلة الماضية في التسامر معه عبر الهاتف ولكنها لا تستطيع أن تنظر له بعد ذلك الجموح المتهور الذي اجتاحهما في لحظة.. لحظة من الإنجذاب الشديد..

"ايه نمتي كويس؟" سألها وهو يتفقد ملامحها المحببة لقبه ولم يستطع مقاومة ملامسة وجنها بإبهامه وسبابته في لطف 

"آه.." همست مجدداً وقد فرغت من تصنع أنها تغلق معطفها وتبحث بحقيبتها القماشية عن شيء ما وتنظر بهاتفها لتتفقده والآن ساد الصمت الغريب وهي لا زالت لا تستطيع رفع نظرها إليه 

"فيه ايه يا زينة؟ بصيلي.." تحدث لها لتحمحم بإرتباك ورفعت نظرها في توتر

"مفيش حاجة" غمغمت بإقتضاب 

"متقوليش إنك لسه محرجة ومكسوفة من اللي حصل امبارح" وكأنه قرأ ما يدور بعقلها ليتورد وجهها بالكامل لتحمحم وقبل أن تستطيع التفوه بأي شيء حاول هو بدوره أن يزيح ذلك الثقل من على كتفيها "واحدة حلوة أوي، بتمنى أشوف ضحكتها وأشوفها سعيدة، شفايفها وعينيها وجمالها يجننوا، كنت معاها لوحدي.. وأنا راجل بردو وليا احتياجات.. وغصب عني مقدرتش أمسك نفسي" طأطأت رأسها للأسفل وهو يعيد على مسامعها ما حدث ليلة أمس واللعنة هو يتحدث بجرأة وبصوت مسموع بل وينظر إليها مجدداً..

"سليم لو سمحـ.." تحدثت بنبرة مرتبكة للغاية تموت حرجاً ولكنه قاطعها هامساً بنبرته الرجولية

"أنا غلطت أنا عارف.. عارف إن أنا اللي بدأت.. بس الرحمة حلوة يعني!!" نظرت له بزرقاوتين انطلق منهما شرار التعجب وكأنها هي من يقع عليها عبء ما حدث "بس بذمتك تقدري تنكري إني جامد وكل البنات هتموت عليا؟!" ابتسم لها بمكر شديد بينما رمقته بإنزعاج 

"وده معناه مثلاً إني أول ما أشوفك هجري عليك واتشعلق في رقبتك ولا ايه؟!" استقامت بوقفتها وهي تنظر له بإستنكار وعقدت ذراعيها 

"نسيتي امبارح كنتي عاملة ازاي؟" سألها وعيناه تنظر لها بخبث مازح لترفع حاجبيها هي في نفي تام لكلماته وتحفز شديد وهي لا زالت تتصنع الغضب فقرر هو أن يرفع من سقف ذلك المزاح "سليم.. سليم.. آآه.. سليم" همس وهو يقلد نبرتها في مناداته ليلة أمس عندما اعترتهما تلك اللحظة من الإثارة ليتحول وجهها بأكمله ليشابه الجمر المتقدة ودفنت وجهها بيديها في قمة الخجل ليقترب هو منها هامساً بأذنيها 

"بس ورحمة أمي، وحياة بدر عندي، ووحياة العيون الزرقا اللي بتجنني دي يا مُزة عمري ما سمعت اسمي بالحلاوة دي.. ده أنا ابتديت احب اسمي بعد امبارح!" وجدت نفسها تبتسم تلقائياً لكلماته ليجذبها هي لتتوسد صدره بينما شرد خياله متخيلاً اياها زوجته وهما يحظيا بتلك المتعة وتمنى بشدة أن يقترب ذلك اليوم ليزفر بحرقة وهو لا يريد أن تبتعد عن قلبه الذي تتعالى خفقاته تلقائياً كلما رآها 

"ايه يا جميل! الحضن عاجبك اوي ومش قادرة تبعدي؟ تحبي نطلع نكمل فوق؟!" رمقها بمكر وابتسامة جذابة عابثة على شفتاه لتبتعد هي عنه وهي تزجره بموجات غضب لاذعة انهمرت من أبحر عيناها

"سليم!!" صرخت به ليقهقه على انفعالها 

"طب يالا عشان ورانا حاجات كتيرة النهاردة" لانت ضحكاته لتتحول لإبتسامة هادئة

"لا" عبست ملامحها "مش رايحة معاك في حتة" أخبرته بحنق وكادت أن تلتفت لتعاود أدراجها لشقتها ولكنه تقدم ليجذبها من يدها موقفاً اياها وتوجه أمامها لينظر لها بجدية

"متزعليش مني.. عارف هزاري سخيف وتقيل.. بس مبقتش قادر اتحكم في احساسي ومشاعري قدامك يا زينة" تقابلت أعينهما بصدق ليتبادلا النظرات بينما شابك أصابعه بأصابع يدها وهو ينظر لها بعشق شديد 

"سليم.. أنت حاسس بإيه بالظبط؟" بالرغم من بساطة السؤال إلا أنه لا يستطيع إجابته الآن، لا يستطيع التفوه بحرف حتى يثق تماماً أنها تريده وتعشقه مثلما يعشقها وليس مجرد انجذاب لإهتمامه الزائد وولعه بها

"مش قولتلك تسيبي الدنيا ماشية زي ما هي ماشية ومتستعجليش حاجة؟.." تنهدت وهي ترى الإجابة بعينيه ولكنها تريد سماعها منه بمنتهى الوضوح لتتنهد هي "ومش يالا بقا ولا هنفضل واقفين كده كتير؟" عقد حاجباه وهو ينظر لها بحنق متصنع وهو بالحقيقة يزيف غضبه ويحاول بشتى الطرق أن يلهي عقله عن تلك الكرزيتان اللاتي تدفعاه لتقبيلها بشراهة 

"ماشي يا سليم يالا.." همست بالنهاية له لتتوجه نحو سيارته بينما بعدت عنه وتفرقت أصابعهما ليتنهد هو متمتماً

"صبرني يارب وإلا هامشي وانا سايبها هنا حامل!!"

 

--


        

أنهى مكالمته الهاتفية ليعقد حاجباه ولكنه لا يريد إظهار إنزعاجه أمامها حتى لا تلاحظ هذا فهو أراد أن يُسعدها وألا يُعكر أي لحظة عليها حتى تتذكر هذان اليومان للأبد بسعادة ثم عاد ليقف أمامها ليلمح الحُزن الجلي بعينيها.. لقد حان وقت الرحيل.. لقد وصل لتلك اللحظة التي لا يكره أكثر منها.. بالرغم من تأهبه الشديد منذ صغره وترسيخ أمه لتلك اللحظة بداخله منذ سنوات حياته الأولى إلا أنه يكره الإفتراق عن من يحبهم لتعبس ملامحه في انزعاج رغماً عنه!

"ايه؟ مالك اتضايقت كده؟!" تعجبت زينة لملامحه المنزعجة

"لا حوار في الشغل" تنهد وقرر أن يخفي عليها مكالمته مع نورسين ثم غير مجرى الحديث تماماً "اتبسطتي بجد يا زينة؟!" همس سائلاً وهو يعبث بوجنها لتومأ له بالموافقة

"عمر ما حد بسطني أوي كده" اجابته بصدق 

"طب ليه شكلك زعلان؟!" همس سائلاً بإنزعاج لرؤية زرقاوتيها تفيضان بالحزن 

"مش عايزاك تمشي يا سليم" عانقته بغتة وهي تتعلق بعنقه محاوطة ذراعيها حولها بكل ما استطاعت من قوة ليبادلها العناق في حميمية "هتوحشني اوي.."

"انتي كمان هتوحشيني ومش قادر استنى الأسبوعين الجايين لغاية ما ترجعي مصر تاني" همس لها بصدق وهو يبتلع تلك الغُصة بحلقه ثم ابعدها قليلاً ليتفقد ملامحها للمرة الأخيرة "كلميني كل يوم يا زينة.. كل شوية.. حتى لو اتشغلت عنك غصب عني كلميني أرجوكي" همس بتوسل لتومأ هي له بالموافقة

"حاضر.. هكلمك.. وهاقرفك كل شوية بكلامي.. أنا أصلاً يا سليم مفيش حد بقا قريب أوي مني كده غيرك" جذبها بعناق لعله هو الأخير ثم همس بأذنها بمزاح ونبرة لعوب حتى يغير من ذلك الجو المشحون بتلك العواطف التي تفيض من كلاهما 

"بقولك ايه يا جميل.. تيجي أفكني من السفر ونطلع على الأوتيل ونكمل ليلة امبارح؟!" 

"سليم!!" ابتعدت عنه لتزجره بنظرة نارية ليقهقه على انفعالها 

"خلاص خلاص.. خدي بالك من نفسك ولو احتاجتي اي حاجة تكلميني على طول"

"حاضر" همست له متنهدة على مزاحه الذي لن يكف عنه ابداً "أول ما توصل كلمني" أخبرته بتوسل بعد أن سمعت النداء الخاص برحلة الطيران التي سيعود على متنها 

"هتفضلي صاحية خمس ساعات يا زينة!!" توسعت عيناه في جدية وانزعاج "الساعة دلوقتي عشرة وأنتي عندك جامعة الصبح.. روحي نامي"

"مش هاعرف.. وكده كده لسه ورايا كذا حاجة هاعملها.. وبردو عايزة اتطمن عليك ومتناقشنيش بقا في المواضيع دي" شعر بنبرتها المنزعجة وكأنها تغلف بها تمردها على أحكام الآخرين

"ماشي يا عندية" جذبها ليقبل جبهتها بعد عناق آخير 

"توصل بالسلامة" تفقدته بزرقاوتيها وكأنها تحفظ ملامحه 

"الله يسلمك يا زوزا.. باي يا حبيبتي" تورد وجهها بأكمله لتلك الكلمة التي أول مرة يناديها بها وأخفضت بصرها في ارتباك وتوتر لترفع بصرها له وفي لمح البصر وقبل أن تدرك ما يحدث حولها لم تجده؛ فنظرت حولها بعد أن فاقت من ارتباكها لتدرك بالنهاية أنه أختفى تماماً من مرمى بصرها وغادر للعودة..

 

--


        

لاحقاً هذه الليلة بمنزل بدر الدين..

"نعم يا اخويا أنت وهي!!"

 

صاح بدر الدين بغضب لينهض بجسده الفارع أمام عينا شاهندة وزوجها وتوأمها وكذلك أمام كلاً من سيدرا ونورسين لتبتلع الأخيرة في خوف وهي تراه يعود لذلك الرجل المخيف بنظرته الثاقبة التي يرتعد لها أعتى الرجال بينما الأولى حاولت أن تكتكم دموعها بعدما رآت ردة فعل والدها "خدي جوزك وولادك يا شاهندة وروحي.. أنا معنديش بنات للجواز" سحق أسنانه بقوة وعبست سائر ملامحه لتتبادل نورسين وشاهندة النظرات المتوترة لتومأ لها بأن تذهب وأنها ستحاول معه ونهضت لتهرول خلفه وهي تلعن عناد شاهندة بداخلها وانفجرت خلفها سيدرا بالبكاء..

لقد نصحتها أن يكون هذا العشاء وتقدم أدهم لسيدرا بوجود سليم ولكن شاهندة رفضت وظنت أن انفعال بدر الدين سيكون أهون من ذلك ولكنها كانت مخطئة..

 

"بدر" نادته بعد أن دلفت غرفة المكتب الخاصة به لتجده يجلس بالظلام الدامس الذي لم يتخلله سوى بصيصاً من الضوء الآتي من النافذة وتوجهت نحو الحائط حتى تنير الأضواء

"متولعيش النور وسيبيني لوحدي" همس لها بنبرة مقتضبة عكست بها ملامح غضبه اللاذع لترتبك من صوته الهادر الذي ذكرها بأيام قد ظنت أنها قامت بنسيانها للأبد ولكنها تقدمت نحوه وجلست بجانبه ولامست يده بحذر 

"أدهم يا بدر شخص كويس ومش هنلاقي احسن منه لسيدرا وشاهي كـ.."

"نورسين!" نهض منادياً اسمها بنبرة ارتجف لها جسدها وهو يُشدد نطقه على كل حرف بإسمها "اياكي!! اياكي أنتي ولا شاهي ولا جنس مخلوق يفتح السيرة دي قدامي مرة تانية.. أنا مش عايز كلام في الموضوع ده.. أنا بحذرك وياريت توصلي تحذيري للكل.. أول وآخر مرة تفتحي في الكلام ده تاني.. ويالا اتفضلي اطلعي برا وسيبيني لوحدي" هدر صوته الرخيم الذي تغلف بالغضب الشديد لتنبعث الرهبة أكثر في نفس نورسين 

"بس يا بـ.."

"جرا ايه مالك؟ مالكو كلكو؟ هو عشان اتغيرت واتعاملت معاكو كويس هتنسو بدر الدين الخولي ولا ايه" صاح بغضب شديد لتتعالى خفقات قلب نورسين وخاصة عندما أقترب منها وهو عاقداً حاجباه لينظر لها تلك النظرة المخيفة التي حاولت منذ زمن أن تنساها ولكنها ها هي الآن تعود لترعبها "برا حالاً.. مش عايز أشوف وش حد للصبح!!!" تحدث من بين أسنانة المُطبقة في عنف وقسوة وهو يُمسك بذراعها حتى شعرت بأنه يؤلمها وأنفاسه اللاهثة الغاضبة جعلتها تنظر له في وجل شديد صاحب الحزن بل والعتاب 

"حاضر يا بدر الدين" همست بنبرة امتلئت بخيبة أمل شديدة فهي لم تتوقع ولو بأسوأ احلامها أن هذا الرجل الذي نسته تماماً قد يعود يوماً ما..

دفع ذراعها من بين قبضته في عنف وولاها ظهره وهو يحاول التغلب على تلك الحالة التي انتابته ثم خر بجسده متهاوياً على الأريكة ما أن استمع لمغادرتها وانغلاق الباب..

"ايوة يا سليم" جففت تلك الدمعة التي تهاوت فجأة 

"ايه يا ماما مال صوتك انتي كويسة؟!" تسائل سليم في لهفة 

"شاهندة وحمزة كانوا هنا من شوية وفاتحوا بدر في موضوع أدهم وسيدرا وبدر من ساعتها اتحول ومش عارفة اكلمه كلمة حتى" تحدثت وهي تحاول أن تتماسك ولكن نبرتها المهتزة دفعت الريبة لقلب سليم

"طب هو عملك حاجة؟!" أطبق أسنانه بعنف 

"لأ.. بس.. بس أنت لازم تتفاهم معاه.. أنت جي امتى؟!" سألته ليزفر هو في ضيق وهو يشعر بأن نورسين تخفي الحقيقة

"أنا هاتحرك حالاً.. مسافة السكة.. سيبيه لوحده خالص وأنا لما اجي هتصرف" 

"ماشي يا حبيبي تيجي بالسلامة.. سوق براحة يا سليم ومتتسربعش" أخبرته وتصنعت أنها لا تعرف بحقيقة سفره لألمانيا.

"حاضر متقلقيش.. سلام" أنهى تلك المكالمة ثم برع بإخفاء قلقه وتحكم بإتقان في ملامحه ثم التفت لزينة حتى يودعها قبل مغادرته..

 

--

الفصل الثالث عشر

 

تنهدت بعمق وابتسامة سعيدة عذبة زينت شفتاها ثم ازاحت خصلاتها خلف أذنها وشلالات من الإبتهاج انجرفت من زرقاوتيها وعضت على شفتيها وسن القلم الذي امسكت به خلف نقطة مهتزة تركت آثارها على السطر الفارغ بدفترها لتزفر بعمق وشرعت بالكتابة..

"أيها الصديق الذي تحملت الكثير والكثير من آفات آلامي.. أيها الأسود الذي حوى بداخله جروح ودموع.. يا من سمعت لشكواي دون كلل أو ملل.. أبشر فإن تلك الأيام قد ولت..

أتتذكر ذلك العصر الضبابي الذي لم تتخلله أشعة الشمس المشرقة ولو ليوم واحد؟ أتتذكر السنوات العجاف؟ أتتذكر البكاء الذي دوى بصخب حتى ارتجفت أوراقك في رعب؟ أبشر.. لقد ماتت تلك السنوات.. اندثرت.. انتهت بلا رجعة..

صديقي.. دعني أقص عليك الأمر منذ البداية.. منذ الوهلة الأولى إلي الآن.. دعني أعطر تلك السطور الفارغة بعبير جناتٍ من الورود التي ندر تواجدها في زمننا الحاضر.. دعني أقص عليك قصة.. ربما قد استمعت لبعضاً من تفاصيلها بالسابق ولكنني أريد الإطناب معك اليوم.. أمامي أربعة ساعات حتى يصل سليم ولدي بعض القهوة وكلمات كثيرة وأسطر فارغة لا تعد ولا تحصى ومزاج رائق ومناسب للتحدث.. هيا صديقي فلنبدأ بالقصة أو دعني أصيغ ما أريد أن أقصه عليك بـ "الفضفضة"!

كان هناك فتى.. فتى دخل بين عائلة الخولي فجأة.. دون مقدمات ودون طفولة يمر بها معنا.. آتى سليم بدر الدين الخولي، ابن خالي، ليكن بيننا.. أو هكذا أخبرونني..

لقد كنت صغيرة للغاية، صغيرة لدرجة عدم التحدث بجمل مفهومة.. تقول والدتي وأخواتي أن عمري وقتها كان في حدود سنتين..

لا أتذكر بالطبع ما هي تلك التعابير التي ارتسمت على وجوه الجميع عندما تعرفوا عليه، لا أتذكر أول لقاء جمعه بعائلتنا، ولكن ما أتذكره هو ملاعبته اياي..

لقد بدأت أن أكون وقتها بالرابعة أو الخامسة أنا حقاً لا أتذكر!! ربما السادسة!! أياً كان.. كل ما أعرفه فقط أنه كان بجانبي.. يغدق عليّ بالهدايا العديدة.. يهرول معي.. يقرأ لي قصصاً طفولية، يعلمني كيف أقود دراجة، يعقب على كل ما أفعله، لا يتوقف عن رسم الإبتسامة والضحكة على وجوه الجميع..

يمزح مع الكبير والصغير، ينهال منه الحنان دون انقطاع، آخى الجميع كأنهم أخوته هو، لم يميز أبداً بين أحد.. نظر له الجميع وقتها بأنه "كبير العائلة" المرتقب..

لا أدري كيف نما ذلك الفتى وكبر بنفس الطريقة ليكن نِعم الأخ، الصديق، الأبن، الطالب، الحفيد.. لا أعرف ولكن كل ما أتذكره أن صفاته الحميدة كبرت معه لتحوله من فتى رائع إلي رجل عظيم!!

لتوي علمت أنه وقف بجانبي حتى أسافر وأحصل على حريتي المزعومة وأتخلص من تحكم الجميع، لتوي علمت كم يعتبرني الأقرب له بين الجميع.. لتوي أدركت كم كنت حمقاء للغاية بمعاملتي الفظة له عندما عدت من سفري وقت وفاة أبي..

لقد كنا متلاصقان طوال حياتنا، أو لربما أنا من تعمدت ترك منزل والدتها لتقضي الوقت بمنزل خالي بدر الدين، كيف لي أن أنسى جميع تلك الأوقات بصحبته وتلك الذكريات التي جمعتنا سوياً وأهرول لذلك التمرد العنيد بداخلي حتى أظهره عليه وأعامله به وأدعه يتسبب بقطع تلك الصلة التي ميزتنا منذ الصغر..

يا لي من حمقاء حقاً!!

هل أخبرتك عن ذكاءه؟ حسناً ربما التالي سيدعك تعلم..

حاصلاً على المرتبة الأولى بالقرب من الجميع بل وقلوب أغلبهم، وأعلى منصباً بشركة عائلتنا، وكذلك حاصلاً على الإمتيازات الجامعية، حاصلاً على الإنتباه والتحكم ولكن بودٍ وليس بخوف.. بالإضافة إلي كل تلك المجموعة الباهرة من المناصب والدرجات آتى سليم مجدداً ليدخل حياتي الموحشة الجديدة، لا بل آتى ليقتحمها ويعيد فعلته..

آتى ليحصل على كل ذرة دماء بي..

نعم هذا إعتراف.. أنا التي أسألك من أنا!! أنا التي لا تدري ماذا تريد!! وجدت أخيراً الشخص الوحيد الذي فك وحل احجيتها السخيفة.. لقد أكتشفت سليم من جديد..

كيف له أن يبث تلك السعادة بداخلي دون صعوبة؟ كيف أصبحت أوقاتي معه أفضل وأمتع؟ كيف له من بين الجميع أن يصل للتفاهم والتناقش معي دون خلافات أو نزاعات ومجادلات شتى؟ كل شيء أصبح أيسر بوجوده؛ لقد بدأ أن يغير معاني الدنيا بعيني.. لقد جعلني أريد الحياة!

هل أخبرتك ماذا أحضر من أجلي ليلة أمس؟ لا.. والأهم هل قصصت عليك ما فعله من أجلي اليوم؟ هيا لأخبرك.. وأرجوك صديقي العزيز تحمل تلك القصة بكل تفاصيلها.. يبدو أنني سأعيدها عليك كثيراً حتى تشعر بالملل مني وستحطم رقماً قياسياً في احتواءك على صفحات بحبر يعيد ويكرر هذان اليومان..

فلنبدأ بليلة أمس.. ويا لها من ليلة.. لقد كنت أنا البطلة بسطور حكايتي.. لقد كنت أنا الأميرة بإحدى القصص الرومانسية الخيالية الحالمة ولكن دون رداء منفوش..

فاجئني بمقطوعتي المفضلة.. أمام النهر.. بتلك البقعة التي قضيت بها خمس سنوات أشكو لك وتتساقط دموعي.. بنفس المكان استطاع أن يحول كل آلم لفرحة وكل عبرة إلي ابتسامة.. وكل ذكرى كرهتها إلي أسعد ذكرى بحياتي سأتذكرها إلي يوم مفارقتي هذه الحياة بإبتسامة..

بساط أحمر، رجال غاية في الوسامة والأناقة يراقصوني، فرقة أوبرا كاملة من أجلي.. جعلني أشعر بأنني أهم فتاة بالكون..

الاعين سلطت علي كملكة جمال يوم تتويجها؛ باللونات طُبعت عليها اسمي تتطاير في الهواء؛ راقصني هو وعانقني كمعشوقته التي يستعد للتضحية من أجلها ولكن دون أن يعبر ولو بحرف جعلني أشعر بأنني الفتاة الوحيدة بالكون بأكمله..

أتعلم ذلك المشهد بتلك الأفلام الرومانسية عندما يقترب البطل من البطلة ليراقصها وعند أول لمسة ونظرة بينهما يختفي الجميع من حولهما ويبقى هو وهي فقط؟! لقد عايشته، بكل ما فيه .. لقد توقف الزمن من حولي .. لم أرى سواه .. لم أشعر بنسيم الهواء البارد .. لم أستمع إلي الموسيقى .. فقدت الشعور بكل ما حولي وكأنني في مكان سحيق بعيد عن إتصافه بالحياة .. بمجرد إقترابه شعرت أنني بحلم، داخل رواية خيالية.. أو ربما بالجنة..

تجاهل تنهيدتي السخيفة تلك التي شابهت تنهيدات المراهقات واستمع إلي التالي..

مفاتيح سيارة سأجدها في انتظاري بمنزل خالي بدر الدين..
قلادة من الذهب الأبيض منقوشة بأسمي باللغة الإنجليزية..
خمسة براويز عجت بصوري السعيدة بمفردي ومع عائلتي ومعه التي لا أتذكر أياً منها حقاً..
سوار كُتب عليه "
my colorful girl" (فتاتي الملونة) زين بأحجار ملونة؛ جميعها ألواني المفضلة..

 

روياتي المفضلة منذ صغري إلي أن سافرت المانيا على ذاكرة متنقلة..
وبالنهاية.. صندوقاً عج بالملابس الملونة التي اعتدت أن ارتديها..

 

كانت تلك أولى هداياتي منه.. وبعدها يشاركني بعشاء لا أستطيع وصفه إلا بعشاء عاشقان..

مزاحه الذي يستطيع أن يحول مزاجي في لمح البصر.. نظراته لي.. شروده بي.. ملامسته ليدي في حميمية لم أشاركها أحد بحياتي.. أنامله التي جففت دموعي.. لم أرى سوى العشق الخالص بعيناه..

لا ليس هذا كل شيء؛ هناك المزيد والمزيد.. استمع إلي رفيفي..

صعدنا سوياً لتلك الشقة التي مكثت بها لسنوات وحيدة أبكي كالبلهاء وأقص عليك قصص بمذاق العلقم المر.. وكبراعته بكل شيء محى تلك السنوات وكراهيتي لهذا المكان ليستبدل مكانته بقلبي وجعله مكاني المفضل دائما حتى جعلني أريد أن احتفظ بهذا المكان للأبد بما فعله..

سأتوقف حالاً عن إثارتك بتلك الكلمات وسأقص عليك التفاصيل.. هيا معي عزيزي فلتبتسم مثلي وأنت تستمع إلي التالي..

لقد عانيت كثيراً، الجيع حولي يحاولون تزيين قراراتهم المتحكمة في عيني بينما يطفئون زينتي التي اندثرت مع كل قرارا وحكم علي.. لقد تخليت عن الكثير مما أُحب وأعشقه وأجد به راحتي .. لقد فارقت كل ما تمثله نفسي .. وكم كان فراقاً موحشاً..

عاد سليم ليأخذ بيدي، لتتحرك شفتاه بكلماتٍ أقنعتني لن أنكر هذا، كان بعينيه إصرار غريب على أن أتلمس التشيلو مرة أخرى ولكن بالرغم من إصراره الغريب لم أشعر أن كلماته تجبرني بل على النقيض تماماً، كانت كلماته كشفاء لأوجاعي..

تجرأت ليلة أمس وواجهت خوفي منذ سنوات، واجهت ذلك التعلق المسموم بتلك الآلة التي مثلت لي حُلماً منذ نعومة أظافري، جلست وتلمستها لأجد الراحة تسري بسائر جسدي كله.. كنت أشعر بالظمأ الشديد في يوم لم تغيب شمسه في متصف نهار صيف وبالنهاية ارتويت..

كيف لهذا الرجل أن يبدل بي كل شيء بين ليلة وضحاها؟ كيف ببضعة كلمات أستطاع أن يواجهني بتلك القديمة التي عملت جاهدة على أن أخفيها بعيداً عن أعين الجميع؟ صديقي العزيز أنت تعرف أنني تجاهلت هذه الفتاة منذ سنوات.. كانت تريد العديد من الأشياء ولم أستجيب لمطالبها .. كانت تصرخ وتصرخ وقسوت عليها كثيراً ولم ألتفت لصرخاتها .. كيف يأتي هو بفترة قصيرة الأمد هكذا ليواجهني بها بمنتهى السهولة؟ لماذا كل شيء أصبح بذلك اليُسر معه؟ لماذا أصبحت أنا بتلك الطريقة معه؟ أهو افتقاد للإهتمام؟ إنجذاب؟ أم أنني أخطو أولى خطوات العشق معه؟

تجاهل أرجوك تورد وجنتاي وتنهيداتي وابتساماتي وأستمع لي أرجوك .. ربما أجد معك الجواب .. أو ربما أنا أريد من يستطيع سماعي دون ملل..

ليلة أمس.. ليلة أمس.. لا أدري ما الذي حدث لي!! كيف لي أن أدع رجل يقترب مني بتلك السهولة؟ كيف سمحت له لا بل الأسوأ كيف سمحت لنفسي أن أعانقه بشدة وأستسلم أمام قبلته التي أنتقلت من قبلة إلي مداعبات إلي فرضه سيطرته بالكامل على جسدي؟ أهذا هو الأسوأ؟ أم أن الأسوأ أنني أريد تكرار الأمر معه؟ واللعنة أين تلك الفتاة التي توقف الرجال عن التمادي معها؟ أين ذهبت ارادتي؟

كنت أشعر بالغضب كلما حاول رجل أو شاب التقرب مني أو الإثناء على مظهري أو ملامحي، أما سليم قبلني وقارب أن يجردني من جميع ملابسي بتلك الرغبة المجنونة التي تبادلناها سوياً.. وها أنا أتذكر وابتسم.. لا أشعر بالغضب.. هل لديك فكرة أين ذهبت تلك الفتاة؟

لا أستطيع نسيان نظراته التي دفعت جسدي للإرتجاف، ذلك اللهيب الذي يسري بدمائي كلما تذكرت جسده الذي بدا ساخن للغاية.. يداه التي تنقلت على جسدي دون تروي لتجعلني كالجمرة بقاع الجحيم .. وليس هناك أي داعٍ لأخبرك عن تلثيماته التي قاربت أن أفقد وعيي بسببها ..

غادرني بلحظة، تركني شبِقة للمزيد منه، للمزيد من تلك المشاعر التي لم أواجهها من قبل، تركني بتوسل واعتذار خفي بنبرته التي كلما تذكرتها أشعر أن جسدي ارتمى بقاع بركان، أحقاً يكترث لأجلي؟ أحقاً يكترث ألا أستاء أو أغضب؟ أحقاً أنا حمقاء ولم أحاول منذ سنوات أن أقترب منه وأدع لنفسي الفرصة كي تتسلل تلك المشاعر لقلبي؟

يحادثني ويمازحني كأصدقاء، بل كمراهقان.. يمكث طوال الليل بعد سفره لي وذلك اليوم الطويل عليه ليتحدث معي بشتى الأشياء .. يسامرني، يجعلني أشعر لأول مرة بتلك المشاعر الوليدة التي تولد بقلب الفتيات .. لقد اهتاج نبض قلبي لكلماته .. خفق وخفق تأرجح وتزلزل قلبي لتلك الضحكات وتلك الكلمات التي لم أتشاركها من قبل بحياتي .. ليلة كاملة من أجمل كل شيء إلي أن غفيا جفناي لأستيقظ وأستمع لأصوات أنفاسه على الطرف الآخر من الهاتف.. يا لنا من مراهقان!!

توقف الآن ولا تحدق بي .. وأخبرني حقاً لماذا يفعل رجل كل ذلك من أجل فتاة؟ لا هو لا يريد أن يستدرجني وإلا كان فعل ذلك منذ الكثير من الوقت .. ولا يريد علاقة ليلهو بها وإلا كان ليأتي هنا منذ سنوات .. لا أجد تفسيراً سوى أنه يعشقني .. ولكن لماذا لا يصرح بها بصوتٍ عالٍ؟ لماذا لا يخبرني بعشقه؟ لماذا يريد التريث؟ لماذا يضعني أمام كل تلك الأسئلة؟ وهل حدث كل ذلك فجأة أم أنه كان يشعر بهذا منذ سنوات وشردت أنا بذاتي وتقوقعت على نفسي فلم آرى عشقه هذا؟!

وكأنني أحتاج للمزيد من الأسئلة والغموض وأنا التي لا تدري من هي!!..

دعك من كل هذا وأبدأ بسماع تفاصيل اليوم، يومي الذي أستقبلت به شخصاً لم آراه منذ سنوات، وقفت بالمرآة لأجد زينة القديمة تعود، تعود بإبتسامة سعيدة وبألوانها المفضلة وبخجل من أن آراه مرة ثانية بعد ما حدث ليلة أمس.. أقسم لك أنني كنت أريد الهروب عندما التقت عيني بعينيه.. كنت أشعر بالتردد، بالخوف، بتلاطم مشاعر عدة متناقضة كثيرة لا نهاية لها..

تحول هذا الرجل من ابن خالي وصديق الطفولة يوماً ما إلي رجلاً آخر نظرته إلي تربكني وبنفس الوقت تجعلني أشعر وكأنني أنا الفتاة الوحيدة على وجه الأرض!! يا لو تعلم أنني كدت أسقط أرضاً أمامه صباح اليوم وقدماي كانتا كالهلام.. ليأتي هو ويبدد كل ذلك بمزاح وابتسامة جعلتني أنظر إليه من فرط انجذابي له ولإبتسامته الرائعة..

لا.. لم يكن يوم ميلاد عادي .. لقد ذكرني من أنا .. لقد تبارينا بمسابقة درجات كالأطفال تماماً أو كما عهدنا أن نتبارى بمنزل خالي أو منزل جدتي .. لقد ذكرني بأجمل أيام حياتي يوماً ما .. لقد تناولنا المثلجات سوياً، لا أنا لا أبالغ!! سوياً بمعنى أننا لعقنا نفس المثلجات سوياً حتى فرغنا منها تماماً .. أرجوك لا تدعي التقزز صديقي الأسود .. أنت فقط لا تدري كلما شعرت بأنفاسه الساخنة ومذاق شفتاه المُخلف على المثلجات كان جسدي يرتجف داخلياً، نظراته وهو يراقبني أتناولها دفعت وجهي للتحول كالجمرة المتقدة وكم كنت محظوظة حقاً لأنني لم أكن معه بمفردي بشقتي وإلا!! .. لا .. لن أخبرك ما كان ليحدث لو أنني كنت بشقتي .. تكفي تلك القبلة التي شُل على اثرها جسدي بأكمله .. تكفي تلك الشرارة بعيناه عندما ألقى المثلجات أرضاً ثم جذبني إليه في قبلة لا أستطيع وصفها..

ما الذي يحدث لي كلما قبلني؟ كلما حدث أشعر وكأنني اريد أن التصق به طوال عمري وألا ابتعد عنه!! ولماذا أرى الغضب جلياً بعيناه عندما يبتعد عني بالنهاية؟ صديقي أنا أشعر بالخجل.. أشعر بالإحراج وأنا أعترف لك.. بالمرتان.. بالقبلتان ابتعد هو عني بينما كنت مستسلمة له للغاية!! لا أدري ما الذي علي فعله تجاه هذا الشعور بإنجذابي بشدة نحوه!!

دعك من كل تلك الحيرة اللذيذة وأخبرني.. ألم تلاحظ شيئاً أيها الأسود؟ أم أنك تفتقد بقية تلك التفاصيل السوداء؟ حسناً.. لقد كان وقت التغيير الشامل .. ليس بداخلي ومشاعري بل بكل ما يحيط بي أو هكذا جعلني سليم أشعر.. انظر حولك عزيزي.. أترى تلك الألوان العديدة؟! الأريكة التي تشابه لون السماء، وجارتها التي تشابه ألوان الورود ببستان خلاب..

تلك الصور، تلك الشراشف، الوسائد الملونة، الستائر الأنثوية، تلك الزينة المعلقة على الجدار.. بالطبع أنت ستكرهها ولكن نقدم معي وصافح تلك الفتاة؛ أحب أن أعرفك على زينة الدمنهوري الأصلية.. هذا ما أعتدت أن أحبه وليس السواد المعتم الذي دفنت به نفسي منذ سنوات..

أنظر لهذا البساط الملون.. سأفتقده حقاً عند سفري .. أريد بشدة أن آخذه معي عند عودتي .. أم لا .. سأبتاع واحداً مثله .. سأبتاع العديد من الأشياء الجديدة معه.. كما سأختبرها أيضاً..

أتدري!! لقد تحدث لي عن والدته مجدداً.. لقد وعدته أننا سنذهب لزيارتها سوياً عند عودتي .. بالرغم من تلك الشخصية التي يتملكني عقلي بها إلا أنه تحول لطفل صغير مجدداً .. يتغلغل بأفعاله وكلماته الحنونة بداخل كل نقطة دماء بعروقي وأشعر أنه يبهرني بشخصيته الجذابة وفي لمح البصر يعود لذلك الصديق والطفل الذي أعتدت أن أعرفه لسنوات..

أجد به كل ما قد أتمناه في الرجل الذي حلمت به منذ صغري .. ولكن متى سينطق بعشقه لي؟ ماذا ينتظر؟ وإلي متى سنسجن أنفسنا في هذه المرحلة .. هذه المرحلة ما قبل الإذعان والإعتراف بالعشق .. دعني أجد لك مسمى أفضل .. ما قبل الحب .. ما قبل الإعلان .. تلك المرحلة اللذيذة من الخجل والمزاح والإرتباك .. أو دعني أصيغها بمرحلة "الإستعباط!!"

لا أستطيع أن أُكمل.. لا أريد تذكر وقت مغادرته.. ولا أستطيع أن أنتظر عودتي.. أنا أتلهف لأصبح معه مرة أخرى..

سأقص عليك البقية لاحقاً.. ربما أعيد لك كل ذلك مرة أخرى.. دعني الآن حتى أغرق في نشوة لذيذة وأنا أعيد تذكر كل ما حدث بيننا بهذان اليومان.. دعني أتذكر كل ما فعله من أجلي.. دعني لأعيش قليلاً بتلك الأحلام الوردية .. دعني أطرب أذناي مجدداً بنبرته وهي تناديني "حبيبتي"..

--

فتح عيناه عندما أيقظته المضيفة بالطائرة، لا يُصدق أنه وصد عيناه يُفكر بها ليغالبه النوم بمثل هذه السرعة.. يبدو وأنه من كثرة تفكيره بها قد رآها في حلمه، كم كان حلماً رائعاً .. حلماً به تلك التفاصيل التي شابهت اليومان الماضيان بالإضافة للكثير من ضحكاتها التي يعشقها..

تفقد الوقت بعد أن فاق من شروده بها مجدداً وبعد أن هبطت الطائرة شعر كأنه كالمنوم مغناطيسياً فتفكيره بها لا يتوقف، يمشي بين الناس، ينهي الإجراءات، انتظر حقيبته واستلمها ولكنه لا يزال لا يستطيع التركيز بأي أمر أو شيء سواها هي وحدها..

- لسه صاحية؟!

أرسل رسالته على احدى وسائل الإتصال ولم يبادر بمهاتفتها قلقاً من أن تكون نائمة بمثل هذا الوقت.. وقد غفت بالفعل ولكن الإهتزاز الذي وضح وصول الإشعار بهاتفها جعلها تستيقظ، فهي كانت تنتظر وصوله بفارغ الصبر

- اه..

- أنت وصلت؟

تفقد سليم هاتفه لتتوسع ابتسامته وهو يستقل احدى السيارات الخاصة بالمطار لتقوم بتوصيله للمنزل ثم أجابها

- اه

- طب مكلمتنيش ليه يا رخم؟!

- خفت تكوني نايمة واصحيكي

حدق بشاشة هاتفه بينما عقد حاجباه شيئاً فشيئاً لأخذها وقت طال لمدة خمس دقائق بينما يرى أسفل اسمها أنها تقول بالكتابة فتعجب مما قد تكتبه بكل ذلك الوقت وفجأة وجدها تهاتفه فأجابها على الفور..

"سليم.." نادته بنبرة نعسة "حمد الله على سلامتك"

"الله يسلمك يا حبيبتي" همس مخبراً اياها لتتورد وجنتيها وتتوسع ابتسامتها وقد شعر هو بأنفاسها المضطربة إثراً على كلمته وتأكد أنها قد خجلت بسبب تلك الكلمة ليتابع هامساً بخبث ونبرة جذبتها أكثر له في لمح البصر "ايه؟ مكسوفة عشان بقولك يا حبيبتي؟!"

همهمت بالموافقة مجيبة فهي لا تستطيع مجاراته في هذا وهمسة لضحكة خجولة تفلتت منها لتتوسع ابتسامة سليم على الطرف الآخر

"بقولك ايه.. اجمدي كده عشان لسه فيه دلع كتير اوي، مش كل اما اقولك حاجة ولا اقرب منك تبقي طماطماية كده.." ضحكت مجدداً بينما شعر أنها تريد النوم من ضحكتها النعسة المُرهقة "مش يالا تنامي بقا ولا ايه؟!" سألها وهو يحاول أن يبدأ بنهاية المكالمة

"لأ.. خليك معايا شوية" همست بنبرة نعسة مجدداً

"زينة!! أنتي عندك جامعة الصبح ولفينا كتير اوي النهاردة والساعة زمنها عندك بقت خمسة الصبح.. اقفلي وادخلي نامي" اكتسبت نبرته نوعاً من الجدية ولكن دون مبالغة

"لأ عايزة أكلمك شوية" همست بدلال ليزفر سليم في ضيق

"خمس دقايق بس وتقومي تنامي.." حدثها بجدية

"هتعمل ايه بكرة يا سليم؟" سألته ونبرتها المُرهقة تزعجه

"تقصدي النهاردة؟!"

"تقريباً"

"ابداً.. عايز ارجع اركز في الشغل عشان كنت مشغول اوي عنه الفترة اللي فاتت وفيه موضوع كده مهم هاكلم بدر فيه واحتمال اروح اتغدى مع ميرال و.."

"ميرال مين دي؟!" حسناً.. لقد ذهب النعاس وحل مكانه الغيرة بنبرتها ليضحك سليم بداخل نفسه وقرر رفع سقف ذلك المزاح قليلاً

"تقدري تقولي مراتي المستقبلية" كتم ضحكته وهو يسمع أنفاسها المرتبكة "مقولكيش بقا حتة مُزة!! رهيبة، طول بكيرفات، وانا بموت في النسوان الكيرفي، وضحكة قمر كده يا لهوي عليا.. وباباها صاحب بدر من زمان يعني يعرفوا بعض وكان فيه شغل ما بينهم و..."

"تصبح على خير يا سليم!" قاطعته بنبرة حزينة وأنهت المكالمة ليضحك على ردة فعلها وانتظر حتى يصل لمنزل والده ثم اتصل بها مرة والثانية حتى انقطع الإتصال تماماً ليتنهد هو في غير تصديق وهز رأسه في إنكار بينما أرسل لها رسالة صوتية

" لو ميرال مراتي المستقبلية تفتكري اسيبها واسافر واعمل لغيرها عيد ميلاد؟ أنا مفيش غير واحدة بس اللي عايز اتجوزها.. يمكن مع الوقت تعرفي هي مين.. بس أنا مش عايز استعجل حاجة معاها.. عايزنا ناخد وقتنا في كل حاجة ونتبسط بكل وقت بيعدي علينا!" تنهد في سأم "يارب الحمار يفهم بقا.. وياريت تنامي علشان جامعتك.. وأول ما تصحي تكلميني.." زفر في انزعاج ثم توجه لداخل المنزل وقد علم أنه سيخوض جدالاً مع بدر الدين وسيحاول بشتى الطرق أن يقنعه بخطبة سيدرا لأدهم!

--

 

القى ذلك القلم من يده بعد أن أنهي تصميماً عمل عليه بجهد وحرفية لما يقارب فترة ليست بالهينة ثم زفر بعمق وأعاد ظهره بكرسيه ودلك عنقه فهو لا يزال مستيقظاً منذ ثلاثة أيام وقد أنتهى تماماً من وضع اللمسات النهائية على تصميمه الذي لطالما كان متيقن أنه سيحتاجه يوماً ما وأدخره للوقت المناسب وها هو سيفيد في خطته للإطاحة بعائلة الخولي وكذلك وليد .. للأبد ..

فرك عيناه وهو يجذب هاتفه ثم نهض بمنزله وأخذ يسير وهو يُرسل للمساعدة الشخصية الأوقات المناسبة بالنسبة له لعقد عدة اجتماعات، واحداً مع شركة الخولي وآخر مع بعض المهندسين بشركته كي ينفذوا ذلك التصميم الذي أنهاه لتوه وبضعة اجتماعات غيرهما..

والآن يتبقى عليه العمل مع وليد.. سيراه.. سيحدثه.. وسيقنعه بكل شيء.. بالرغم من أن وليد قد بدأ في هذه التجارة قبل منه ولكنه ليس واسع الحيلة مثل شهاب.. هو يتأكد من ذلك جيداً.. ليس لديه تلك النظرة البعيدة التي يُقيم بها الأمور.. لذا سيلعب على تلك النقطة..

ذلك الرقم الذي يملكه شهاب ليس مسجلاً باسمه.. جيد جداً .. يريد الوصول لأحدى العاملين بشركة الهاتف حتى يدمر سجلات هذا الرقم تماماً وينقل اسمه لأحدٍ ما.. أحداً يعلم من سيكون جيداً لقد فكر بالأمر كثيراً وما هي إلا أيام قليلة حتى يُنفذ كل ما أراد.. تلك العائلة الملعونة أستنفذت من تفكيره الكثير!

ألقى بهاتفه على احدى الطاولات ببهو منزله ثم توجه للخارج عاري الصدر، لا يرتدي سوى بنطالاً باهت اللون قد حرر زره الأعلى ليسقط أسفل خصره بالكاد يخفي ما أسفله وجذعه بأكمله يلمع بمصاحبة قطرات العرق رغماً أن الاجواء ربيعية الا أن هذه عادته..

وجد قدماه تسير نحو المسبح وبالرغم من رغبته الشديدة بالنوم إلا أنه فكر كثيراً بخطواته القادمة، يحسب كل خطوة ويُرتب عقله أن بكل خطوة قد يتحول فجأة الطريق أمامه لطريقاً وعِراً به الكثير من العقبات لذا لكل خطوة جعل طريقان، إما يميناً أو يساراً.. ولكل طريق خطتان، خطة أساسية وأخرى بديلة.. تلك العائلة لن تكون سهلة أبداً، ذلك الرجل بدر الدين الخولي الذي رآه يتحول مائة وثمانون درجة من رجل يلاعب ابنه الصغير وكأنه بالثامنة من العمر لرجل تبدو عليه قسوة وجدية لاذعتان..

انطلقت ضحكة خافتة من شهاب بمنتهى السخرية والإحتقار عندما تذكر سليم، لقد فكر يوماً ما أنه الكبير بين الجميع، الرجل صعب المراس المتحكم بكل شيء ولكن يبدو أنه يتصنع تلك الشخصية ليس إلا! يبدو وأن والده هو العقل المدبر لكل شيء وما سليم سوى دمية تتحرك كيفما شاء والده..

على كلٍ لن يثق بتحليلاته، ومنذ متى وهو يثق بأحد؟! هو حتى لا يثق بنفسه، ولن يعتمد على التخمين بهذه اللعبة.. زفر ثم جلس ليتسطح بظهره على ذلك المقعد المسطح أفقياً ووصد عيناه وهو يُفكر بشدة وكأنما يعطي أوامر لعقله بالعمل بالرغم من شدة إرهاقه وصراخات عقله بأن يدعه يستريح ولو لساعتان ولكن عليه أن يراقب الجميع.. سليم، والده، وليد، أروى، إياد، وزينة.. ستعود حتماً لن تبقى للأبد بالخارج.. ولكن ماذا يعرف عنها؟ كيف سيجذبها إليه؟ لقد أشتاق لوالده.. كما أنه عليه أن يراجع الوضع المالي لأول ثلاثة شهور من العام.. لقد تأخر.. أين هاتفه؟! زفر بسأم بعد أن تحسسه بجيبه وهو موصداً لعيناه ولم يجده!! لماذا تركته بالداخل أيها الأحمق!!

تآفف من نفسه.. سلمى!! لقد قسى عليها آخر مرة.. متى كانت آخر مرة ضاجعها بها؟! منذ شهر او اكثر.. ربما .. لا يدري .. أهي بخير .. لماذا يكترث لعاهرة؟! سيهاتف وليد .. سيبدأ بالبناء ليتخلص من الجميع .. يريد النوم بشدة.. ولكن عليه العمل .. شحنة الممنوعات والإتفاق عليها .. أيفعلها بنفسه.. لا بل وليد هو من سيتولى كل شيء.. يكفي أنه من سيوفر له النقل .. سيقنعه أنه لديه المشتري .. لا لن يقنعه .. ولكن ذلك سيغريه أن ينفذ جميع ما يريده شهاب دون ارتياب .. مبلغاً من المال ، مبلغاً ضخماً وسيوافق .. والدته!! يُفكر بالأمر منذ أسبوعان.. لقد أعاد والده التحدث بالأمر.. هل سيراها؟! لا لن يراها!! لن يفعلها ولو بعد مائة سنة.. يستحيل.. هي اختارت وهو الآن من حقه الأختيار.. رأسه تؤلمه.. ولكن عليه استكمال العمل.. جسده اللعين لماذا لا يتحرك؟! هو يحاول النهوض منذ دقائق ولكن ماذا يحدث له؟! افترقت شفتاه وانتظمت أنفاسه ليغرق بالنوم.. أو ربما فقد وعيه مؤقتاً..

 

--

 

        

"الحمد لله إني لقيتك صاحي يا بدر" صدح صوت سليم بتلك العتمة التي غرق بها بدر الدين منذ ساعات وكاد أن يضيء الأنوار ليوقفه صوت والده الهادر

"متولعش الزفت وامشي اطلع برا دلوقتي" وقعت نبرة والده عليه لتدفعه للزفر في انزعاج وإدراك أن مهمته لن تكون سهلة

"حاضر خلينا قاعدين في الضلمة علشان الحاج بدر يتبسط.. إنما أمشي أطلع برا دي صعبة اوي عليا.. مش قبل ما احكيلك اللي حصل.. ياااه .. ده أكتر قرار صح اخدته في حياتي.. كان لازم اروحلها من زمان.. مش تلفت نظري يا جـ.." توجه بخطواته وبرته المرحة السعيدة نحو والده ليقاطعه بدر الدين متحدثاً بتحذير بين أسنانه المطبقة

"قولتلك امشي اطلع برا" شدد على كل حرف وهو يزجره ليأتي سليم ويجلس بجانبه ثم اراح ظهره على الأريكة التي جلس عليها بدر الدين بجسد مسترخي على عكس الأخير الذي شبك أصابع يداه وكأنما يكظم نفسه عن اقتلاع رأس أحد ما عن جسده وأقترب بجذعه من ركبتيه ليستند بكوعيه عليهما

"خير فيه ايه؟!" تحولت نبرة سليم للجدية

"مش هاتكلم دلوقتي في حاجة وقولت امشـ.."

"مش احنا أصحاب؟ مش بحكيلك على كل حاجة؟ والمفروض إن أنا ابنك الراجل الكبير؟ ناوي تخبي عليا يا بدر؟" تحولت نبرته للإستعطاف ولكنه استمع لزفرة والده المنزعجة ثم خلل شعره حتى كاد أن يقتلعه لينهض كالمجنون

"سليم!! مش وقت الكلام ده .. قولتلك اطلع برا" علت نبرته في غضب بينما تعامل معه الآخر بحيلة

"حلو.. لا بجد حلو اوي.. عملت بوصية ليلى اللي وصتهالك يا .. بـد.. أقصد يا بابا.." تصنع الآسى والحزن بنبرته ونهض بخطوات متريثة ليتجه صوب باب المكتب وكأنه سيغادره وأكمل حيلته الماكرة بينما الآخر شعر وكأنما رأسه ستنفجر، ها هو ستضيع منه ابنته الوحيدة لذلك الفتى الذي لا يتذكر متى دخل حياتهم ويأتي سليم ليذكره بليلي ووصيتها!! أحقاً أخطأ؟ وما تلك الليلة اللعينة ليحدث بها كل تلك الأحداث؟ ولماذا يريد الجميع إغضابه بهذا الشكل؟ أيريدونه أن يقوم بقتل أحد؟! أم يريدون القضاء عليه بما يفعلوه؟

"حتة العيل ابن شاهندة اللي مولود اول امبارح جي وعايز يخطب أختك.. أختك اللي لسه متمتش عشرين سنة.. عارف يعني ايه؟!" صرخ به وقد احتقن وجهه بدماء الغضب وكأنما كادت عروقه أن تنفجر ليوقفه والتفت إليه سليم وهو يكاد يقسم أن لمعة عيناه تظهر بتلك الظُلمة فتشجع وأقترب منه

"طب عايز حد يضحك عليك ويخاف من الشويتين دول ولا يتكلم معاك كلمتين بجد؟!" حدثه بجدية وهو يحاول أن يتبين ملامحه بالظلام الذي تخلله شعاعاً من الضوء الخافت الذي تسلل من النافذة بنما تلاحقت أنفاس بدر الدين في غضب عارم حتى سمعها سليم ولكنه لن يترك والده "بنتك.. أختي الصغيرة.. خلاص كلها شهر وهتخلص امتحانات سنة تالتة هيبقا ناقصلها سنة وتخلص.. أدهم .. تربية شاهي وجوزها اللي مفيش احسن منهم، ابنهم إنسان شاطر ومتفوق ومحترم.. وهو كمان قدامه سنة ويخلص جامعة.. ممكن افهم ايه مشكلتك بالظبط؟!" نظر له دون توقع أن بدر الدين سيصل غضبه إلي تلك الدرجة

"أنت بتستعبط ولا ايه؟ أنت فاهم كلامك ده معناه ايه؟!" أمسك بمقدمة قميص سليم ليهتز جسده بين يدي والده ولكنه بقيَ ثابتاً على وقفته وهو حتى لم يخرج يداه خارج جيبي بنطاله..

"عارف.. معناه إنك هتموت من الغيرة عليها ومش قادر تصدق إنها كبرت وبتتجوز" أخبره بهدوء بينما شعر بدر الدين بغليان الدماء برأسه

"جواز! جواز ايه اللي تتجوزه بنت امبارح دي.. ده يادوب بيقولوا خطوبة وانت بتقولي جواز! اتمسى يا ابن ليلي وامشي من وشي السعادي" نهره بعنف ولكن سليم لن يتركه إلا وهو مقتنع تماماً

"بدر.. خد بالك غيرتك دي اللي بتتكلم مش عقلك" ابتسم بوجهه ليصل بدر الدين لأقصى درجات الإستفزاز

"قولتلك امشـ.. "

"مش ماشي يا بدر.. ما تلم الدور بقا.. العيال بيموتوا في بعض من قبل ما يدخلوا مدرسة.. ما تروق كده يا وحش" قاطع صياح والده

"أنت عيل ابن كلب صحيح.. أنا دمي محروق وانت بتهزر.. ورحمة ابويا يا سليم لو ما اتلميت هرتكب فيك جريمة.. غور امشي من قدامي" صرخ به بدر الدين وتركه خلفه ليهرول سليم متعلقاً بعنق والده

"بس ايه الحمشنه دي كلها.. بتحسسني اني بطة بلدي قدام زوزا" أخبره بمرح ليرمقه بدر في ذلك الظلام بنظرة انزعاج "بص بس يا معلم أنا هاقولك ليه الواد أدهم أكتر واحد مناسب للبونبوناية بتاعتنا.. تعالى بس تعالى وفك التكشيرة دي" دفعه رغماً عنه حتى يجلسا على الأريكة سوياً 

"متحاولش يا سليم.. أنا مش موافق" تحدث له بإقتضاب ولكن قد قل إنفعاله قليلاً

"استنى بس واسمعني.. بلاش غيرتك تعميك يا بدر، هو مش أدهم ده مولود على ايدك وابن شاهي اللي معندكش حد في غلاوتها؟!" سأله بهدوء بينما زفر والده في غضب شديد "رد بس عليا من غير عصبية على الفاضي" 

"ايوة.. كلامك صح بس بردو ميدلوش الخـ" تحدث بحنق وانزعاج بالرغم من صحة ما تفوه به سليم

"طب الواد والبت بيحبوا بعض من وهما في اللفة، عيل ابن ناس، شاطر في دراسته، وبكرة نشوفله اي حتة تلمه في الشركة، ولما بيشوفني بيتخض ولما بيبصلك بيترعب، يعني استحالة في يوم عقله يسوله يزعل بنتنا" قاطعه وهو ينظر له بينما لم تهدأ أنفاسه المتلاحقة الغاضبة

"شاهي هتبقا حماتها.. حمزة هيكون حماها.. وأدهم هيكون هنا مكاني بعد لما امشي مم البيت واتجوز لما تحب تاكل حد على قفاه" لانت شفتاه بإبتسامة مرحة بينما تحولت ملامح بدر الدين للصدمة الشديدة

"تمشي فين؟" تحدث سائلاً بصدمة

"ايه يا ريس مش ناوي تجوزني زوزا ولا ايه؟" عقد سليم حاجباه وهو ينظر لوالده في جدية يتصنعها

"هجوزهالك.. بس ايه هامشي دي؟" سأله بمنتهى الجدية وقد تركه الغضب تماماً وتملكت الصدمة من ملامحه أكثر لتتطغى عليه

"نروح بيتنا بقا واسيبلك سيدرا وأدهم" ابتسم بتلقائية وبلاهة وكأنما يتحدث بأمر طبيعي للغاية ليعقد بدر الدين حاجباه

"بيتك هنا يا سليم! مش هاتخرج منه أبداً" أشاح بنظره بعيداً وكأنما شرد بأمر آخر

"اوبااا.. بدور مش هيقدر على بُعدي ولا ايه؟" نظر لوالده بإبتسامة مازحه ولكنها تحمل العديد من تلك العواطف التي لطالما تشاركاها ليرمقه بدر الدين بنظره نارية ثم أشاح بنظره مجدداً بمنتهى الغضب فأكمل سليم حديثه "فكرك نجوى يوم ما أنت ما بعدت كانت مبسوطة؟ ويوم ما هديل عمتي بعدت كانت فرحانة مثلاً.. دي سنة الحياة.. جوز ولادك بقا وأفرح بيهم وبولادهم يا أبو سليم" ابتسم لوالده منتظرا تغير ملامحه بينما ازدادت عقدة حاجبي الآخر

"كلكوا خلاص كبرتوا وعايزين تسبوني! ماشي يا سليم" أخبره بنبرة صرخت بالحزن أكثر منها غضباً ليقترب سليم منه ثم أحاط كتفيه بذراعه

"نفك التكشيرة دي بقا ونزأطط شوية.. الخطوبة بعد الامتحانات بتلت ايام.. ايه رأيك؟" عاد بدر الدين لغضبه مرة أخرى وقبل أن يتحدث بادر سليم بالحديث "عشان زوزا تكون معانا في الخطوبة.. وحياة نورسين عندك لا توافق" توسله وهو يرسم ملامح البراءة على وجهه

"ماشي" أخبره والده بإقتضاب بعد صمت دام لبرهة "ماشي يا ولاد الكلب لما اشوف اخرتها معاكم! بس مفيش جواز غير لما ابن امبارح ده يتخرج ويشتغل فترة محترمة"

"ابن امبارح ده احنا نمرمطه.. اهم حاجة رضاك يا معلم.. اخنا نطول بدر يوافق.. أخيراً هنلمهم بدل ما هم ماشين يسرقوا.. يااااه هم وانزاح يا اخي" زفر براحة واكمل مزاحه لتعود ملامح الغضب مجدداً لتتغلب على وجه بدر الدين

"يسرقوا! العيال دي كانت بتعمل ايه يا سليم؟" صاح سائلاً بإنفعال شديد

"يا حاج أنت مخلف سوسن يعني! اخرهم النادي والمول اللي بعدينا بكام محطة وبيلفوا ويرجعوا تاني وانا دايماً لازقلهم! فكرك هسيب سيدرا للواد الملزق ده.. ده انا كنت دبحته" أطبق بدر الدين أسنانه وهو يخاول أن يكبح غضبه بكل ما أوتي من قوة
"بقولك ايه بقا هو انت مش شايف غير سيدرا ولا ايه.. ابنك اللي مسافر ده مش تطمن عليه عمل ايه مع الزوز َلا خلاص من لقى احبابه يعني؟ وعلى فكرة الاهتمام مبيطلبش" حاول أن يغير مجرى الحديث وقد نجح بذلك

"هببت ايه يا حيلتها!" حدثه سائلاً بسخرية

"الزوزا اتبسطت.. كانت طايرة من الفرحة.. وخلتها تعزف زي زمان وحاجة هايلة.. تخلص بس امتحاناتها وتفوق كده وانا اروح اخطبها على طول"

"طب ما تتلحلح وتروح تخطبها في اجازتها اللي جاية دي"

"صعب يا بدر" اخبره متنهداً بينما تلاقت أعينهما لينظر لوالده بحيرة وجدية "مش قبل ما اتأكد انها عايزة سليم نفسه.. مش سليم الشهم اللي بيضحكها وبيخرجها من اللي هي فيه، زينة متلخبطة اوي يا بابا واشك اصلاً انها عارفة هي عايزة ايه" صمت مبتلعاً ثم سادت لحظة من هدوء فسليم يفكر ملياً بالخطوة القادمة معها بينما والده يتفحصه بعناية ليهز رأسه في انكار

"نفسي اعرف اخر حنيتك دي ايه! اللي يشوفكوا وانتوا ماسكين في بعض مايشوفكش دلوقتي" اخبره بتهكم وبداخله يتألم لرؤية ابنه متعلقاً بعشق يؤرقه ليلاً ونهاراً

"كله هيبقا تمام متقلقش" تبسم لوالده بإقتضاب وهو ينهض ليغادره

"خد هنا ياض انت محكتش حاجة.. ايه اللي حصل لما روحتلها؟" تعجب سائلاً وهو يتابعه بعيناه الثاقبتان وهو يستشعر مغادرته

"هحكيلك بالتفصيل الممل بس بعد ما ارجع بكرة من الشغل وكمان يادوب انام ساعتين احسن هلكان من السفر ولازم اصحى عشان هافطر انا وميرال سوا"

"ميرال!" عقد بدر الدين حاجباه في استفسار

"ايوة ميرال.. لازم اعرف بينها وبين شهاب ايه"

"ناوي تنقل العطا من زينة لميرال ولا ايه؟" سأله بسخرية

"اكيد لأ" أومأ بإنكار "بس الكائن ده مش مريحني وهي لما شافته مكانتش على بعضها"

"تلاقيها قصة حب فاشلة ولا حاجة.. مش اكتر.. انت مكبر الموضوع" هز كتفاه واردف "ويمكن بتحاول تنخرب وراه عشان غيران على حبيبة القلب منه" غمز له ليزفر سليم في حنق

"يادي النيلة.. انا مش غيران يا بدر.. تصبح على خير" غمغم في سأم ثم اشاح عنه وجهه تاركاً غرفة المكتب وتوجه لغرفته

"وأنت من أهله" اجابه ثم تمتم "ويجوا يقولولي اني بغير.. جيبتك يا عبد المعين صحيح!" نهض بدر الدين مبتسماً بسخرية ثم تذكر للحظة كل ما بدر منه تجاه نورسين وشاهندة ليزفر في سأم.. فهو الآن فقط يدرك فداحة ما  فعله وعليه أن يُصلح الأمر مع الجميع!

--

الفصل الرابع عشر

منتصف سبتمبر 2018..

جلس بمكتبه دافناً وجهه بيداه وكأنما يريد أن يختفي عن أعين الجميع!! لماذا لا يعود للوراء منذ أسبوع، فقط سبعة أيام، كان كل شيء على أفضل وجه، والده ووالدته كانا بأفضل حال، سعادة أخته الصغيرة عندما علمت بقبول والدها خطبتها من أدهم لازالت تطغى على وجهها الي الآن، ولكن كيف له أن يعايش تلك الأجواء بينما علم بحقيقة هذا الرجل الذي أوشك على الإندماج بجميع عائلته!!

زفر في حيرة وهو لا يدري كيف يمكنه إقصاء شهاب الدمنهوري من حياتهم إلي الأبد! لا يدري إلي متى يستطيع إخفاء الأمر عن والده كلما سأله ماذا وجد عندما تحدث إلي ميرال! يوماً بعد يوم يشعر وكأنه أقترب من إنتهاء جميع الأعذار، يشعر وأن والده يقرأ ملامحه التي تريد أن تصرخ بحقيقة هذا الحقير، يتمنى لو وقف أمام الجميع ليخبرهم أن شهاب الدمنهوري الشريك المؤكد وابن عم أولاد عمته رجل سادي حقير لا يُمكن لأحد أن يتعامل معه!

عاد مجدداً ليفكر ملياً بكل ما أخبرته به ميرال، ارتجافها وهي تقص عليه كل ما حدث بينها وبين شهاب، ارتجافها بل ورعبها المُفزع وهي تخبره بتلك الطريقة التي هددها بها، توسلها له ألا يُخبر أحداً، بكائها الهيستري وهي تتذكر تلك الأفعال المشينة التي فعلها بها!! ماذا لو رجل بتلك الشخصية تعرض لأيٍ منهم؟ ما يفعل ذلك بفتاة يستطيع أن يفعل العديد والعديد فهو شخص قد تجرد من كل معاني المروءة والكرامة ليفعل مثلما فعل، ماذا لو كانت أروى هي من فعل بها ذلك؟ واللعنة!! ماذا لو أن زينة مكانها؟!

نهض بغضب ليُلقي كل ما على مكتبه أرضاً وتوالت أنفاسه في عصبية لمجرد تلك الفكرة التي ارتطمت بعقله كشاحنة مسرعة وهو لا يدري ما تلك الحجة التي عليه أن يختلقها كي يُقنع الجميع ليعرضوا عن فكرة مشاركته، لا يستطيع أن يبوح بالحقيقة خاصةً وأنه يحجب نفسه وراء تلك الصورة لرجل الأعمال الناجح، وصورة والده تلك التي ليس عليها غبار، ويأتي ذلك الكائن ليدلف حياتهم حتى يجعله يحتجب خلف أعذار واهية كلما آتى ذكره!! من كان ليُصدق أن رجل مثله بهذا المقدار من الدناءة!

"آلو" أجاب هاتفه دون أن يرى هوية المتصل وتمنى بكل ما لديه أن تنتشله تلك المكالمة من أفكاره

"وحشتني يا سليم" أخبرته زينة لتلين شفتاه في شبح ابتسامة باهتة ليتنفس براحة وهو يستمع لصوتها وأدرك أنها بخير

"وأنتي كمان يا حبيبتي وحشتيني أوي" تحدث معها وهو يتوجه لأحدى الأرائك في مكتبه ليلقي بجسده عليها في ارهاق

"ايه ده مال صوتك؟!" تعجبت سائلة

"مفيش أنا كويس أهو"

"يا سلام.. يعني عايز تقنعني إن سليم ده هو هو سليم اللي كان معايا من أسبوع؟"

"آه أهو أنا تمام"

"أنت كداب يا أبو صلاح!" صاحت مازحة وهي تخبره بتلك الجملة الشهيرة بأحد الأفلام بينما كان هو قائلها معظم الأوقات

"ده أحنا بقينا بنقلد كمان بقا" ضحك بخفوت عندما أستمع لما قالته

"مالك بجد؟!" عادت للجدية مرة أخرى بينما نبرتها كانت مليئة بالتوسل الشديد

"أبداً.. شوية ضغط شغل"

"طب ما تسيبك من الشغل وتجيلي تاني" أخبرته بخبث ليرفع سليم احدى حاجباه في تعجب وطغت على شفتاه ابتسامة ماكرة

"اجيلك.. خدتي عليها بقا كده شكلك.."

"ومخدش عليها ليه بقا؟!"

"شكلك كده لسه مبسوطة من اللي حصل"

"يعني عيد ميلاد ودلع وهدايا وفُسح .. مظنش إن فيه حد ممكن ميتبسطش بكل اللي حصل"

"عيد ميلاد .. دلع .. هدايا .. فُسح .. نسيتي أهم حاجة كده شكلك" مازحها بخبث

"تقصد ايه يعني؟!" تصنعت عدم المعرفة

"سليم.. سليم.. آه.." تحدث بمزاح مقلداً نبرتها لينعش تلك اللحظة التي كلما تذكرتها تلعن نفسها لتحدثها بتلك الطريقة وقتها، هي بالحقيقة لا تستطيع نسيانها، ولا تدري لماذا يصمم أن يتحدث بهذا الأمر كثيراً لتشعر هي بالخجل مجدداً

"تصدق إنك رخم!!"

"زمانك بقيتي طمطماية دلوقتي.. لما أنتي بتتكسفي ومش قد الكلام بتجيبي السيرة ليه؟" ضحك عالياً بينما دلفت أروى غرفة مكتبه بنفس الوقت

"يا سلام!! أنت اللي جبت السيرة مش أنا" صاحت بإنزعاج

"لا يا شيخة.. ماشي.." أخبرها بينما هدأت ضحكته وعادت ملامحه للجدية الشديدة عندما أدرك أن أروى تقترب بإتجاهه "خليكي معايا ثواني" أخبرها وحدق بأروى "نعم يا Miss أروى.. محتجاني في حاجة؟!"

"كله وافق على الـ meeting مع شهاب عشان نمضي العقود .. ناقص Confirmation (تأكيد) بتاعك على الميعاد" تحدثت له برسمية بينما أحترقت بداخلها وهي لتوها لاحظت أنه كان يتحدث لفتاة فتأكد شكها بعد أن لاحظته طيلة الأسبوع الماضي وهو يتحدث بهاتفه ولا يتركه من يده أبداً

"آه أنا عرفت بس معنديش وقت.. لما الاقي وقت مناسب هبلغكوا.." أخبرها برسمية هو الآخر ليرى ملامحها تتحول للإنزعاج

"معلش بس كلنا شايفين إن الموضوع آخد كتير اوي، ومينفعش نظهر بالصورة دي قدامه"

"وأنتي أو غيرك هتعرفوني ايه اللي ينفع وايه اللي مينفعش.. أتفضلي بعد اذنك على مكتبك وهابقا ابلغكوا بالميعاد اللي أنا فاضي فيه" صاح بلهجة امتلئت تحذيراً وزجر نافياً لأي نقاش محتمل

"لا ما واضح فعلاً إنك مش فاضي ومشغول أوي" تمتمت وهي تنظر لهاتفه وأعادت نظرتها لعيناه لجزء من الثانية ثم فرت لتغادره وبالكاد أستطاع سليم التحكم بغضبه وحاول أن يكظمه بكل ما لديه من قوة وحتى تأكد أنها غادرت عاد للتحدث لزينة

"أيوة يا زينة معاكي" زفر حانقاً لتستشعر زينة انفعاله بنبرته

"ايه يا سليم.. مالها أروى؟"

"مفيش.. عمالة تزن على موضوع العقود اللي ما بينا وبين شهاب" أخبرها بإقتضاب وهو يحاول أن يُخفي إنزعاجه الجلي بنبرته

"يااه!! أنتو لسه ممضتوش العقود.. هو الموضوع ده أتأخر كده ليه ولا ده الطبيعي يعني؟!" سألته بتلقائية لينهض هو في عصبية بالغة ليخلل شعره الفحمي في غضب

"جرا ايه يا زينة انتي كمان.. ما يتأخر ولا يتحرق، أنا مش فاهم أنتو بتستعجلوا الموضوع ده ليه" صرخ بها لتتعجب زينة من ردة فعله

"ما براحة بس هو حصل ايه لكل ده أنا بسأل عادي، بتزعق كده ليه؟!" أختلفت نبرتها كثيراً فلتوه قد غضب عليها وهي لم تفعل شيئاً ليلعن نفسه لما فعله وزفر بإرهاق شديد، فيبدو أن ذلك الأمر ومحاولاته العديدة للإبتعاد عن شهاب تماماً تُفسد عليه كل شيء وتدفعه للغضب بسبب وبدون

"زينة، أنا أصلاً مش قابل الموضوع ده ومش مرتاح لشهاب.. ياريت يرجع في كلامه ونخلص منه خالص" تحدث بإنزعاج وهو يحاول أن يُهدأ من أنفاسه ولكنه رغماً عنه يريد البوح ولو بمقدار بسيط من ذلك العبء الذي يحمله بداخله..

"أنا مش فاهمة أنت بتكرهه كده ليه" تحدثت بتعجب بعد أن ساد الصمت بينهم لوقتاً ليس بالقليل "مع إني لما اتعاملت معاه حسيته عادي جداً.. شكله كويس كمان" وكانت جملتها تلك بمثابة إشعال فتيل غضبه وقضت على كل ذرة احتمال بداخله

"كويس!! كويس ايه يا زينة أنتي متعرفيش حاجة.. واياكي تجيبي سيرته تاني.. فاهمة ولا لأ!!" صرخ بعنف بينما تصلب جسد زينة بأكمله واندفعت الدموع لتغلف زرقاوتيها فهي لأول مرة تستمع لنبرته تلك، نعم لقد تشاجرا من قبل ولكن تلك المرة كانت مختلفة كثيراً عن المرة السابقة ولكنها لا تدري ما السبب بغضبه ذلك.. لقد أعادت حديثها له بعقلها وهي تحاول أن تتذكر أي كلمة أو شيء ربما أخبرته به دون قصد لتغضبه بهذا الشكل ولكنها لم تجد أي خطأ بحديثها..

"لو سمحت بعد اذنك متكلمنيش كده، أنا معملتش حاجة، وأصلاً مش فاهمه ايه سبب عصبيتك دي.." بالرغم من أن كلماتها تبدو وكأنها تدافع بها عن نفسها إلا أن نبرتها كانت مترجية بدلاً من أن تبدو كجدال

"أنتي تسمعي الكلام وخلاص!! بالذات الموضوع ده متجبيش سيرته تاني! فاهمة؟!" تناسى ذلك العهد الذي أخذه على نفسه عندما يتعلق الأمر بزينة ولم يتذكر سوى كل ما قصته عليه ميرال ليرى زينة مكانها وهو يكاد يحترق غضباً ولا تدري زينة لماذا يتحدث لها بتلك الطريقة وكأنها مخطئة ولكنها تأكدت من عدم فعل شيئاً وانهمرت دموعها اثراً على نبرته الغاضبة وصراخه بها وقد شعر هو ببكائها ولكنه لم يكترث سوى لتلك الكلمة التي وصفت بها شهاب للتو، فهي حقاً لو تعلم ما هي حقيقة هذا الرجل لما تحدثت عنه أبداً هكذا..

"طيب يا سليم.. أنا لازم اقفل عشان عندي حاجة مهمة في الجامعة.. سلام" هذا ما وجدته مبرراً مقنعاً ثم أنهت المكالمة ليطبق سليم على أسنانه في غضب وغيظ شديدان وهو لا يدري كيف له أن يفقد هدوءه مع الجميع وخاصةً زينة ودفعها للتحدث بمثل ذلك الحُزن والارتجافة التي طغت على نبرتها وكل هذا بسبب ذلك الرجل الذي آتى من اللامكان ليفسد عليه حياته بأكملها!

 

--

      

ماذا لو أعادت أدراجها حتى تصرخ بوجهه وتصب عليه كل ذلك الغضب الذي تآكلها؟ لقد سأمت أفعاله، سأمت عدم اكتراثه وعدم شعوره بها.. لماذا لا يلاحظ كل ما تحاول هي فعله من أجله؟ لماذا لا يلاحظ تلك المشاعر التي تحاول أن تظهرها؟ ومن هي تلك التي أصبح يتحدث معها ليلاً نهاراً؟

أصبح ملتصقاً بهاتفه بشدة، لا يتركه أبداً، هي حتى تتذكر أنه أصبح يحمله معه في كل مكان تقريباً حتى ولو ذهب للحمام!! ما الذي تغير هكذا فجأة، لم يكن هذا سليم.. لم يكن هكذا!! أحقاً أنه هناك فتاة احتلت عقله؟ أيمكن أنه قد وقع لفتاة أخرى سواها؟

زفرت بانفعال وهي تحاول أن تهدأ من أنفاسها المتلاحقة ودمائها التي احتقنت غيظاً حتى تستطيع التفكير.. عليها أن تفعل شيئاً وبسرعة.. لن تتركه هكذا حتى تبادر أخرى وتنتصر بكل تلك الأملاك يوماً ما!!

حسناً عليها معرفة من هي تلك الفتاة حتى تجعلها تندم، ستفعل أي شيء، أياً كان، بطريقة مشروعة أو بغيرها حتى تبعدها عنه.. تلك الضحكة التي استمعت لها، ملامحه عندما رآته بعينيها، تصرفاته مؤخراً تدل على أنه عاشق لتلك الفتاة..

لا لا يمكن هذا أبداً.. زجرت نفسها ونهت عقلها عن التفكير بمثل تلك الطريقة.. لا يمكن أنه وقع في عشق فتاة بمثل تلك السرعة، سليم الخولي لن تزعزعه فتاة لتسرق عقله وتسيطر عليه وعلى وقته بل وتجعله يهمل بعمله بوقت قصير كهذا.. مجرد علاقة عابرة، علاقة عابرة ليس إلا.. أو هذا ما حاول عقلها أن يخبرها به كي تهدأ قليلاً..

عليه أن يلاحظها، ستثير غضبه، غيرته، ستناقشه، ستبكي أمامه، ستفعل كل شيء ممكن، بمكر أو بصدق أو بطرق ملتوية، لن تستسلم ولن تقلع أبداً عن فكرة زواجها المحتوم من سليم .. هكذا فكرت!

"وهو ماله اتحمق اوي كده لما جبت سيرة موضوع العقود؟! أكيد فيه مصيبة ورا الموضوع ده" فكرت كثيراً وهي تكاد تموت حتى تعرف ما السبب وراء كل ما يفعله سليم لتتريث لبرهة وبداخلها إصرار رهيب على التوصل لتطور بعلاقتها مع سليم فهي لم يعد يكفيها أنها ابنة عمته ومدير عام الشركات!! لن تقبل بهذا بعد الآن!

"بقا كده.. ماشي .. بكرة تعرف إن مش أروى يا سليم اللي تخسر .. بتعامل معاك بهدوء وبعقل .. بس أنت بقا باللي بتعمله ده بتستفزني .. وأنا موتي وسمي اللي يعاندني يا سليم!! أنا بقا هاوريك كويس أنا مين" اخذت نفساً ملئت به رئتيها وتوجهت مسرعة لتلم حاجيتها من غرفة مكتبها بينما لاحظتها مساعدتها الشخصية تغادر على عجالة

"ساعتين وراجعة.. عندي مشوار مهم" بادرت لتجيب عيناها المتسائلتان وهي تتوجه للخارج ولأول مرة رغماً عن سليم شاء أم أبى ستجعله يلاحظها!!

 

--

        

"العمال حسابهم يتقفل النهاردة والفلوس تتصرفلهم حالاً يجوا يقبضوا.. وادي لكل واحد حافز نص شهر زيادة" تحدث شهاب برسمية شديدة مملياً آوامره على مدير المالية بشركته

"حاضر يا بشمهندس"

"ابعتلي تقارير الضرايب .. معاك لغاية آخر اليوم"

"تحت أمرك حاضر.. فيه حاجة تانية اقدر اعملها؟!" سأله الرجل بتهذيب ليومأ له شهاب بالنفي

"شكراً"

"العفو حضرتك.. بعد اذنك.." غادره الرجل ليزفر شهاب في راحة بعدما ادرك أنه في ظرف أسبوع واحد فقط قد أنهى ذلك المبنى الذي سيساعده في الإطاحة بكل ما يمت بصلة للخولي..

ابتسم نصف ابتسامة وهو شارداً بعيناه يتخيل وجوه تلك الأطفال عندما يقعوا في ذلك الشرك الذي ينصبه لهم بإتقان شديد، يتخيل وجه وليد وهو محاطاً بتهم عديدة يحتاج لسنوات كي يحصل بها على أحكام مخففة في الأغلب بعد قصر المدة ستصبح خمسة وعشرون عاماً..

وصد عيناه وهو يستند بظهره في كرسي مكتبه الوثير وأخذ الإستمتاع يطغى على ملامحه شيئاً فشيئاً وهو يتخيل ذلك الفتي الصغير المسمى بسليم مفرغ فاهه والصدمة تعتلي ملامحه بكل تلك التهم المنسوبة إليه..

نهض بشبح ابتسامة منتصرة اعتلت شفتاه في لحظة ثم عبست ملامحه سريعاً عندما تذكر بدر الدين الخولي.. لجزء من الثانية شعر أن هذا الرجل لن يترك ابنه وعائلته في مثل هذا المأزق.. ولكن لا.. لن يدع تلك الشكوك كي تؤثر عليه أبداً..

عرف أنه عليه أن يبدأ بالتحرك وآخذ أولى قرارات الإنتهاء من تلك العائلة للأبد، وكذلك معرفة ما الذي حدث لكريم عمه، لربما بالأساس هو أقترب من تلك العائلة الملعونة لأجل رغبة والده ولكن الآن الأمر أصبح يُشكل عليه عبئاً من نوع آخر تماماً، لو فقط كان يعلم أن الأمور ستؤول لما يشعر به في هذه اللحظة لما بدأ معهم تلك الشراكة المزعومة، ولكن عليه أن ينهيها مهما كلف الأمر..

"أروى.. عاملة ايه؟!" هاتف أروى، يعلم جيداً أن مثل تلك الفتاة المغرورة هي من ستساعده بما يريد، فبالطبع هي من تود أن تكون الفضلى بكل شيء والمتحكمة بمجريات الأمور لذا تحدث إليها هي ولم يختر سواها

"أنا كويسة.. ازيك يا شهاب عامل ايه؟!" اجابته بنبرة متآففة فلقد آتى لتوه بوقت غير مناسب تماماً

"تمام.." انتظر لبرهة وهو لا يدرك ما سبب نبرتها تلك ولكنه أكمل على كل حال "مش هانمضي العقود بقا ولا ايه.. الموضوع اتأخر أوي، ومعلش بالرغم من أنتو ولاد عمي بس أنا مش هاقدر أسيب شغلي متعطل أكتر من كده" انتظر وكأنه يلتقط نفسه ولكنه أراد استشعار اثر تهديده الخفي بالرغم من أن نبرته لا يتجلى بها ذلك ولكنه أيضاً استشعر بأنها لا تمانع تلقي كلماته فتابع "أنتي فاهمة أكيد يمكن أكتر مني يعني ايه مجمعات سكنية خدماتها ممتازة والمجمعات السكنية اللي محدش بيهتم بيها وأنا مش هاقبل سمعة مش تمام على الـ compounds بتاعتنا.." نطق كلماته الأخيرة بمنتهى الحزم ولكنه كان هادئاً، غامضاً كعادته

"أوك يا شهاب، أنا هاشوفلك الموضوع ده وهاخلصه قريب" أخبرته بإنزعاج حاولت أن تخفيه ولكنها باءت بالفشل، كما أنها ودت أن تنتهي من تلك المكالمة حتى تنتهي من خطتها المُسبقة

"مش هاستنى تخلصيه قريب أو يحصل تأخير تاني، معاكم لغاية آخر الأسبوع.. لو مكنش فيه ما بينا قرابة كنت هاتصرف تصرف تاني!! ياريت أسمع بكرة بالكتير ميعاد التوقيعات" تحدث بنبرة لينة بينما كادت أن تنفجر أروى من كثرة الإستفزاز

"أنت ازاي بتـ.." صاحت بعصبية ولكنها توقفت من تلقاء نفسها عندما خطر على بالها فكرة لتبتسم بمكر بينما عقد شهاب حاجباه متعجباً لنبرتها "ياريت لو فاضي تعدي عليا كمان ساعة في الشركة وأنا هاخلصلك كل حاجة النهاردة"

"تمام اتفقنا" أخبرها ليدرك أنه تسرع بذلك لإرادته أن ينهي الأمر فزفر بهدوء محاولاً تمالك غضبه

"أنا هاستناك كمان ساعة، معلش هاقفل عشان ورايا حاجات.. باي" أنهت مكالمتها معه دون إعطاءه الفرصة للإطناب أكثر ليصر الآخر أسنانه في غضب لاذع.. لم يخطر على باله أنه سيتعرض لموقف مماثل من تلك الفتاة التي تشابه الفتيات الأخريات اللاتي تلقين منه أسوأ المعاملات التي يمكن لرجل أن يعامل بها إمرأة ولكنه ابتسم في تشفي.. شهاب الدمنهوري حتماً سينتقم!!

أخذ ما أحتاج إليه ثم أنطلق مسرعاً حتى يكن على الموعد معها تماماً فهو لا يحبذ التأخير أبداً ولا يتصف به أبداً.. وقد نوى بداخله أنه سيحيك هذا الأمر بعناية وكأنما يتوقف على حياته.. فهو منذ أن رأى  تلك العائلة وهي تجعله يشعر بالتقزز من نفسه لأنه ينتسب إليهم بل والغضب الشديد لمجرد فكرة أنهم ربما يكونوا أفضل منه حالاً..

 

--

        

جلس مكفهر الملامح وهو لا يُصدق أنه قد انطلق منه شبحه الغاضب ليُفسد الأمر على من يعشقها قلبه، يتذكر نبرتها الحزينة المهتزة عندما صرخ بها ليزجرها عن ما تقوله، لو فقط تعلم كم أن هذا الرجل حقيراً لما كانت لتتفوه بما قالته!!

زفر في انزعاج وتآفف تجاه نفسه قبل أن ينفعل على زينة، فهو قد وعد نفسه مسبقاً ألا يتعاملا سوياً بمثل تلك الطريقة، فخاصةً زينة لا تستحق منه مثل تلك المعاملة وهو آخر من يريد أن يراها حزينة على وجه الأرض!

"زينة أنتي كويسة؟!" تحدث سائلاً ما ان اجابت مكالمته

"أنا تمام" أجابت بإقتضاب فهي لم تتخلص بعد من ترسبات مكالمته السابقة ومعاملته اللاذعة لها

"أنا مكنتش أقصد أتعصب عليكي" تنهد بسأم ثم تابع "متزعليش" أخبرها ثم ساد الصمت بينهما ليتعجب من عدم تلقي أي ردة فعل تُذكر منها "زينة .. أنتي معايا؟!" سألها بعدما ظن أنها أنهت المكالمة

"آه معاك.."

"شكلك لسه زعلانة.. ما قولنا خلاص بقا!!" أخبرها بينما هي لم تقبل بعد محاولته لإسترضاءها

"مش هاقبل يا سليم إني أتعامل بالطريقة دي.. وبعدين أنا مغلطتش.. أنت اللي أول ما جبت سيرة شهـ .. "

"خلاص.. حقك عليا متزعليش" قاطعها بنبرته المتوسلة ما ان آتت على ذكر اسم ذلك الكائن الذي كلما تذكر ما فعله بميرال غلت الدماء بعروقه، وهو لن يخاطر الآن بالتحدث عنه فهو لا يضمن ردة فعله وماذا قد يحدث بينه وبين زينة إذا تحدثت عنه الآن.

"أول وآخر مرة يا إما لو عملت كده تاني أنا مش هـ.."

"بتهدديني يعني يا زينة؟!" قاطعها سائلاً بنبرة امتلئت مزاحاً وبدأ مزاجه في التغير والعودة لذلك الرجل الذي قضت الأيام الماضية لا تفكر في أحد سواه

"أعتبره زي ما تعتبره.. تهديد بقا ولا هزار.. زي ما تحب" أخبرته بإبتسامة تمنى لو رآها مرتسمة على شفتاها أمام عيناه

"لا ده احنا بقينا بنتكلم بقلب ميت بقا.. ولا بتتدلعي عليا يعني؟!"

"ممم.. اعتبره بردو زي ما تحب"

"ياااه!! للدرجادي؟! ده احنا بقينا واثقين من نفسنا جامد اوي بقا"

"ممكن" أخبرته بإقتضاب

"بس الدلع ده اخرته وحشة.. خدي بالك من نفسك بقا"

"يا سلام!! واخرته وحشة ليه بقا؟!" تعجبت بصدق من نبرته المُحذرة

"علشان لو كنتي هنا قدامي وبتتدلعي الدلع ده مكنتش هاسيبك في حالك على فكرة وكان هايحصل حاجات هتعجبك اوي" همس مجيباً بنبرة ساحرة مازحة علمت جيداً خلالها ما يقصده بها "زي الحاجات اللي حصلت كده في شقتك يوم عيد ميلادك!! فكراني هاعرف امسك نفسي ولا ايه وانتي بتدلعي قدامي كده؟! أنا مش جامد اوي كده يعني، أنا غلبان خالص وأصعب على الكافر" همس مجدداً بمزاح لتتوسع الإبتسامة على شفتيها وتورد وجهها خجلاً لتسأل نفسها لماذا عليه أن يُذكرها بهذا الأمر، فهي بالحقيقة لا تستطيع نسيان تلك اللحظة بينهما!

"هو أنت مش هاتبطل بقا تجيب سيرة الموضوع ده وتتكلم فيه كل شوية؟!" زجرته ولكن نبرتها تحمل الإبتسامة والحرج بآن واحد

"وهو يعني اللي يجرب يقرب منك تفتكري يقدر يبعد؟!" سألها هامساً ووجد نفسه يبتسم وقد تناسى تماماً سبب صراخه عليها منذ قليل "الشفايف الحلوة ديه والعيون الل بلون البحر.. ولا لما نطقتي اسمي بـ.."

"على فكرة بقا، أنا كنت عاملالك مفاجأة وكنت هاقولك ايه هي في المكالمة اللي فاتت، بس لما كلمتني كده وزعقت قررت مقولكش عليها!" قاطعته مسرعة فهي حقاً لا تستطيع تحمل تغزله بها بهذا الصوت المسموع، فلقد تمزقت خجلاً من كلماته التي يطرب أذانها بها ولا تستطيع أن تواجهها أكثر من هذا..

"ايه ده، ايه ده؟! أنتي بتعملي الحركات دي عليا؟!" رفع احدى حاجباه في تصميم

"اه بقا.. فكرك أنت بس اللي بتعرف تعمل مفاجآت ولا ايه؟!" حدثته في تباهي

"طب افرضي المفاجآة معجبتنيش؟! هتعملي ايه ساعتها"

"متأكدة أنها هتعجبك"

"مش بقولك بقينا واثقين من نفسنا اوي؟! شكلي كده دلعتك زيادة عن اللزوم.. يالا ما علينا.. العيون الحلوة دي متستاهلش مني غير كده" أخبرها ليتورد وجهها خجلاً مرة أخرى وامتنت للغاية لأنه لم يكن أمامها وعضت على شفتاها وحاولت أن تفكر فيما عليها قوله ولكنها قد شعرت بعدم وجود كلمات كافيه لمواجهة غزله الذي لا ينتهي "أنا آسف يا زينة.. متزعليش مني على اللي حصل.. أنا مضغوط اوي اليومين دول" أخبرها في توسل واحتياج لأن يشارك ولو جزءاً ضئيلاً بما في داخله

"خلاص مش زعلانة.. والضغط كله هيروح أنا متأكدة وهترجع تضحك وتهزر تاني" أخبرته بصدق

"مش بقولك بقينا واثقين من نفسنا .. أنا اللي جبت ده كله لنفسي .. مفيش دلع تاني بقا أبداً .."

"مش هاتقدر صدقني .."

"ده لوي دراع ده ولا ايه"

"لا.. أنا واثقة فيك بس مش أكتر"

"لا لا .. ده كتير عليا اوي"

"مش كتير ولا حاجة"

"طب مش هتقوليلي ايه المفاجآة؟!"

"لأ.."

"ممم.. ماشي يا زينة.. هانت .. كلها أسبوع وهتيجي واستحالة أسيبك تعملي الحركات ديه قدامي"

"لما نشوف .."

"مش ممكن الثقة اللي بتتكلمي بيها.. بس ماشي اتدلعي عليا كمان" أخبرها لتبتسم ولم تستطع إكمال حديثها معه بتلك الطريقة

"مش كفاية بقا معاكسة لغاية كده واروح أكمل اللي ورايا؟!" سألته بخجل

"ما انتي اللي وحشاني اوي.. أعملك ايه؟!" أخبرها هامساً ليزداد خجلها

"أنت كمان وحشتني" همست بنبرة رقيقة لتتوسع ابتسامة سليم

"يادي النيلة عليا وعلى سنيني" غمغم حانقاً

"ايه فيه ايه؟" تعجبت زينة سائلة

"مش عارف اختك مالها النهاردة بيا.. بتكلمني وانا لازم ارد عليها.. اصل أروى دايماً بتجيلي بالمصايب"

"طيب خلاص روح رد عليها ونبقا نتكلم تاني لما نفضى"

"بس أنا عايز اتكلم معاكي" توسل كالطفل الصغير لتضحك زينة تلك الضحكة الرائعة التي يعشقها

"روح شوف المصايب ولما تحلها ابقا كلمني"

"ربنا ما يجيب مصايب احسن خلاص أنا زهقت"

"لا خير متقلقش.. يالا روح باي"

"خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.. باي"

أنهى مكالمته مع زينة بينما امتعضت ملامحه وهو ينظر بشاشة هاتفه ويرى اسم أروى أمامه ثم زفر في إرهاق واجابها..

--

        

"مش ناوية ترضي عني يعني.. أسبوع بحايل فيكي" اعترض بدر الدين طريق نورسين إلي المطبخ لترمقه هي بإنزعاج مصطنع

"بعد اذنك حاسب خليني اعدي" عقدت ذراعيها وهي تشيح بزرقاوتيها عنه

"يوووه بقا.. ما خلصنا يا نوري" زفر حانقاً فهو منذ مغادرة شاهندة وحمزة وأدهم الأسبوع السابق وهي لا زالت لا تتحدث معه

"قولت حاسب لو سمحت" تحدثت بجدية شديدة بينما بداخلها ودت لو هرولت لتستقر بين ذراعيه

"طب أنا مش فاهم.. قولت اني متزفت موافق.. متضايقة ليه لغاية دلوقتي؟" سألها متحدثاً بسأم لتعود هي لترمقه بنظرة غير مصدقة

"بدر الدين ابعد عن طريقي خليني اعدي" صاحت وهي تقف منتصبة بشموخ وأشاحت بزرقاوتيها بعيداً عن عيناه لتجده يقترب منها دون حتى السماح لها بالرفض أو القبول وبلحظة وجدت شفاهه تحتوي شفتيها دون مقدمات 

"متزعليش بقا" همس بعدما فرق قبلتهما بعد أن احتاجا للهواء 

"لا يا بدر اللي أنت عملته ده مش طبيعي.. لو سمحت ابعد" همست له ونبرتها حقاً لم تعد تحمل أياً من تلك القوى التي اتسمت بها نبرتها منذ قليل

"حقك عليا.. ما أنتي عارفة بغير عليكي أنتي وسيدرا ازاي، عايزاني استحمل حتة عيل جايلي بيتي وعايز يتجوز بنتي الصغيرة بسهولة كده" توسل لها وهو يحدق بزرقاوتيها

"بس مينفعش أبداً اللي أنت عملته مع شاهي وحمزة جوزها" تحدثت بتآفف مصطنع وهي تحاول أن تبتعد عن ذراعيه اللذان طوقاها بشدة ولكنها لم تعد تملك السيطرة لتبتعد عنه 

"متنشفيش دماغك بقا.. ما أنا كلمتهم واعتذرت وحتى هما بقوا بيكلموني عادي.. ده مفيش حد صعب أوي كده زيك" زفر في ملل لترمقه هي بجدية 

"طب وسيدرا.. حد يكسر فرحة بنته كده!! كنت مبسوط وهي بتعيط قدام الناس؟" 

"سيدرا مرزوعة اهي فوق عماله تختار الفستان اللي هتلبسه.. ونسيت أصلاً اللي حصل.. يعني كل اللي حواليا مبسوطين وانتي لسه منشفة دماغك!! ما تفكيها بقا يا نوري" زفرت في انزعاج ثم اعادت زرقاوتيها لثاقبتاه السوداوتين 

"وسليم يكلمك كلمتين توافق لكن أنا ماليش لازمة!!" أخبرته بدلال طفلة صغيرة حزينة بل وتشعر بالغيرة لأنه استجاب لسواها

"يعني أنتي زعلانة عشان سليم!!" همس بمكر بينما تلمس أسفل ذقنها بأنامله وهو يبادلها النظرات 

"ولا سليم ولا سيدرا.. حاسب بقا" أخبرته بدلال وهي تحاول دفعه بعيداً عنها 

"نوري يا حبيبتي اعقلي وكفاية خصام أسبوع لغاية كده.. أبو العيال على اللي جابهم.. أنا لو أعرف إننا في يوم هنزعل سوا بسببهم مكنتش خلفت.. أهدي بقا كده وعدي الموضوع على خير علشان بوختي أوي معايا"

"يا سلام!!" صاحت بجدية وهي تنظر له بعينتين متسعتين اثر تهديده فهي من لها الحق بالتهديد وليس هو "ولو معدتش الموضوع يا بدر هتعمل ايه؟!" عقدت ذراعيها أمام صدرها ليبتسم لها بمكر وعيناه تحملا بريق الخبث 

"لاحظي إني ماسك نفسي بقالي فترة ومش هاستحمل دلع أكتر من كده.. لو معدتيش الموضوع هاغتصبك يا حبيبتي ولا هيفرق معايا ولاد ولا زعل ولا غيره" أطلقت ضحكة منتصرة ليعقد حاجباه متفحصاً ملامحها التي تحولت تماماً للإنتصار والسخرية تجاهه 

"ولا هتعرف"

"لا ده أنا أعرف وأعرف أوي.. تحبي تجربي يا روحي؟!" همس لها بأحدى أذنيها بعد أن أقترب منها لتقترب هي الأخرى من احدى اذنيه 

"مش هاينفع نجرب يا بدور.. ظروف نسائية يا حبيبي" أخبرته هامسة ثم انخفضت بجسدها من بين ذراعيه لتفر بعيداً لتتركه خلفها وهي تضحك بينما غمغم هو في إنزعاج 

"الله يحرق العيال على الجواز.. كانت شورة سودا أنا عارف"

 

--

        

"افندم يا Miss أروى.. خلتيني استناكي وقولتي موضوع مهم!! خير فيه ايه؟!" صاح بعدما دلفت أروى مكتبه وهو كان يتوقعها ولكنه لم ينظر إليها وتحدث موليها ظهره

"أنا و Mr شهاب اتكلمنا النهاردة و..." التفت سليم الذي شعر بغليان الدماء بعروقه ما ان استمع لاسم شهاب ولم يتبين حقاً بقية حديث أروى له ولكنه منذ أن التفت لها وقعت عيناه على ما أغضبه بالفعل.. 

ما تلك اللعنة التي ترتديها؟ لماذا تشابه العاهرات بملابسها تلك؟ يقسم أنه يستطيع أن يرى نهديها بأكملهما!! لم يكن يوماً من الرجال الذين يعترضون على ملابس النساء فهي حرية مطلقة لكل إمرأة ولكن أروى تبالغ بشدة فيما أخترته لترتديه.. وما الذي يفعله هذا اللعين بجانبها؟ من الذي سمح لشهاب الدمنهوري بأن يأتي الآن لمكتبه حتى دون علمه؟ عقد حاجباه فهي لم تكن ترتدي ذلك منذ ساعتان.. تأتي الآن بصحبة هذا الحقير وهي ترتدي هذا!! فقط لو تعلم ما الذي قد يفعله بها لما اختارت ذلك المظهر بصحبته أبداً..

"اتفضلوا" أشار سليم أمام مكتبه لهما بالجلوس وبعد أن أعاد متعلقات المكتب التي القاها أرضاً قبل وجود أروى وشهاب بقليل وحاول السيطرة على انفعاله أمامهما ثم جلس ليرى ما الذي يريداه 

"بكرة أنا سألت الـ assistant وقالتلي انك فاضي.. أظن يوم مناسب جداً علشان نمضي العقود ونبدأ الشغل" تحدثت أروى بينما لاحظ شهاب تصرفات سليم المنزعجة 

"بغض النظر عن إنك مرجعتليش الأول بس لسه هشوف باقي الـ.."

"أنا عرفت إن وقتهم يسمح وظبطت المعاد!! بكرة الساعة حداشر مناسب للكل!" قاطعته ليصر سليم أسنانه في غضب 

"تمام.. مفيش مشكله" تحدث بإقتضاب وهو حقاً بداخله يريد أن يقتل أروى لفعلتها، فهو لا يستطيع إبداء السبب الحقيقي لرفضه التعامل مع شهاب الذي لا يزال إلي الآن صامتاً لم يتفوه ولو بحرف

"أنا اتفقت إن أول دفعة هنستلمها مقدم على آخر الإسبوع و Mr شهاب معندوش مشكلة" أخبرته أروى ليومأ سليم بالموافقة بينما بداخله لهيب يلتهم دماءه وحاول بقدر المستطاع الحفاظ على هدوءه "كويس إننا خلاص اتفقنا.. بعد اذنك" نهضت وهي توشك على المغادرة ليرى شبح ابتسامة اعتلت شفتا شهاب كالظافر بشيء ما وينظر له بإنتصار لينهض هو الآخر وقدم له يده ليصافحه ليرمقه بإحتقار شديد وبداخله لا يريد حقاً أن تتلوث يداه بمصافحة شخص مثله ولكنه حافظ على تلك الرسميات التي يتبعها وقدم يده ليصافحه بإقتضاب 

"آه صحيح أنا بقالي شوية بكلم عاصم واياد مش بيردوا.. لو وصلت لحد فيهم قولهم إني هاتعشى برا ومش هروح غير متأخر.. يالا يا شهاب" أخبرت جملتها الأولى لسليم الذي استغرب تصرفها ولكن كلمتها الأخيرة التي ترجح أنها حتماً ستذهب مع شهاب ليتآكله الغضب 

"رايحة فين يا أروى؟!" سألها بإنفعال شديد وقد تناسى تلك الرسميات التي سنها هو ووضع قواعدها بنفسه ليتبعها الجميع 

"كنت متفقة أنا وشهاب نتعشى سوا يا Mr سليم" شددت على كلمتها الأخيرة وكأنها تذكره بأنها لم تنسى من هو سليم الذي وضعته للتو في مأزق، فهي بالنهاية تبقى ابنة عمته، عائلته، لن يسمح لهذا الحقير بأن ينفرد بها وحدها.. يقتله الخوف ما ان عاود هذا الحقير فعلته معها مثلما فعل بميرال

"تمام.. وأنا كمان نفسي أكسر جو الشغل.. ممكن اتعشى معاكم؟!" ابتسم بإقتضاب وهو يحاول السيطرة على غضبه ولم يكن أمامه حل آخر

"طبعاً ممكن.." ابتسمت أروى له وهي بداخلها تشعر بلذة الإنتصار ظناً منها أنها أثارت غيرته ليرمقه شهاب بنظرة جانبيه بداكنتيه البنيتين ولانت شفتاه في سخرية تجاه سليم الذي نظر له بإحتقار شديد ثم جمع هاتفه ومفاتيح سيارته وانطلق معهما حيث ذلك العشاء اللعين!

 

--

        

"أسمعت عزيزي كلماته لي؟ أأدركت الآن أنه يكترث لي؟؟ بالطبع لقد فهمت كل شيء، لقد رأيت بسطورك أن سليم أصبح يهتم بي وكأنني أنا الهواء بالنسبة له!

يعتذر لي عن غضبه الغير مبرر.. بالمناسبة لماذا غضب هكذا؟! ما الذي حدث له في ثوانٍ ليتحول من ذلك الرجل اللطيف لآخر عصبي ومنفعل؟! لماذا يكره شهاب ابن عمي؟! .. حسناً سنترك هذا حتى أحدثك عنه لاحقاً..

ولكن استمع لي الآن.. أنا لم أعد أستطيع التريث ولا الإنتظار.. أريد أن آراه.. أريد أن أرى تلك الإبتسامة، مزاحه، ضحكته، نظراته لي التي تجعلني أشعر ويكأنني أفضل الفتيات على وجه الأرض.. لذا سأخبرك بالتالي..

ستقلع طائرتي الليلة، أو لنقل في فجر غد.. لأول مرة أشعر بتلهفي للعودة ولرؤية رجل.. لا تغضب علي لقد تفقدت أموري بالجامعة وأستطيع أن أنتهي من تلك الدراسات لاحقاً.. كنت سأسافر بعد اسبوع ولكن صدقني صديقي الوحيد، أشعر بأن الإشتياق له يُمزقني إرباً.. لم أعد أطيق الإنتظار..

سأحملك معي غداً.. عندما أدخل مكتبه، عندما يراني.. عندما تتلاقى أعيننا وأريدك أن تحفظ تلك اللحظة للأبد عن ظهر قلب.. أريدك أن تسجل بعناية ملامحه وتحفرها بين طيات سطورك بحبر لا يجف ولا يتأثر بأي شيء أبداً حتى أعود لتلك الأسطر كلما أشتقت له..

أرجوك أخبرني أنني أخترت القرار الصائب، أرجوك أصرخ بي وأنت تتمنى حظاً سعيداً لمخبولة مثلي.. تمنى لي أن يصرخ أحدنا بالآخر مذعناً بعشقه.. لا أدري متى تنتهي مرحلة "الاستعباط" التي حدثتك عنها.. تجاهل تنهيدتي وخذ بيدي وأنت تقلني لبر الأمان من تلك المشاعر التي لا تملك شفقة ولا رحمة على قلبي الذي لأول مرة يخفق بهذا الجنون عندما رأيت اسمه أو حدثته او حتى تذكرت ذكرياتنا سوياً..

أيها الأسود إلي متى سأصمد بين لهيب هذا العذاب اللذيذ؟ أين لي بقدرة تحمل؟ متى سأستطيع أن أتواجد معه بصفته حبيبي أمام الجميع؟ لماذا كلما سألته يجيبني بأنه لا يريد الإستعجال؟ أسودي أرجوك أجبني إن كنت حقاً صديقي الوحيد على وجه هذه الكرة الأرضية اللعينة!!

لماذا أتوسل لك يا ذو السطور الفارغة التي أخط أنا بها كل شيء؟ أنت لا تجيبني أبداً، لا تستطيع إخباري عن سليم وعن علاقتي به، ولم تستطع مساعدتي من قبل عندما سألتك كثيراً من أكون، ولم تحاول حتى أن تشير لي تجاه ما أريده كلما سألتك ماذا أريد!..

ولكن لقد توصلت مؤخراً إلي الحقيقة.. دون مساعدتك بالمناسبة أيها الأسود..

لقد سألتك من أنا!! أنا فتاة تغيرت عديداً مرات ومرات بداخل إعصار الحياة المستمر الذي لا يملك ولو ثانية من رحمة أو سأم كي يتوقف..

وما الذي أريده؟! أريد أن آراه وأن أضع نهاية وتعريفاً لتلك المشاعر المحمومة المندفعة من كلاً منا..

ولكن دعني أقر بأنك ستبقى الأقرب لي ولن أتوقف عن إخبارك بكل تفاصيل حياتي.. فأنا أحبك أكثر من الجميع.. ربما هناك شخصاً واحداً فقط أصبحت أعشقه بجنون..

نعم أنا أعترف لك بأنني قد وقعت بعشقه.. أنا أعشق سليم.. 

احتفظ أسودي العزيز بذلك الإعتراف وسأكمل لك البقية بعد رؤيته.. وداعاً الآن.. علي حزم حقائبي حتى أستطيع اللحاق بالطائرة..


دمت بخير صديقي الأسود.. إلي اللقاء عزيزي.."

 

 

--

             

الفصل الخامس عشر

 

"أنتي اتجننتي ولا في حاجة لحست مخك.. ايه اللي انتي عملتيه ده النهاردة؟" صرخ سليم بأروى التي لم تهتز بها ولو شعرة واحدة

"أنا معملتش حاجة غلط.. ممكن تفهمني ايه اللي مضايقك اوي كده؟" اجابته سائلة بهدوء مميت

"لا ده انتي بتستهبلي بقا.. مش فاكرة إنك جبتي شهاب لغاية مكتبي من غير حتى ما تبلغيني انه جي معاكي.. مش فاهم يعني بتلوي دراعي ولا ايه بالظبط؟" صرخ بها مجدداً

"والوي دراعك ليه؟ كل اللي حصل ان فرصة كويسة كانت هتضيع من ايدنا وانا حليت الموضوع.. بالعكس ده انا اقنعته بعد ما كان هيسبنا.. ده بدل ما تشكرني جي تزعقلي" احتدت نبرتها قليلاً ولكن دون مبالغة

"أشكرك ايه! ما كان يغور في ستين داهية الكلب ده" صاح بغضب وهو لا يصدق انه كاد أن يقترب من التخلص من شهاب وتأتي هي الآن حتى تفيد الأمر تماماً وود لو يقتل أروى على فعلتها لتضيق هي بين حاجبيها في تعجب

"هو ده سليم اللي بيكلمني اللي خايف على مصلحة الشغل أكتر مني؟ سليم اللي استحالة يسيب فرصة كبيرة زي دي تضيع من شركتنا؟ بصراحة مستغرباك أوي.." هزت كتفيها بإنكار ثم ابتسمت بسخرية لتتابع حديثها "ولا أنت بقا فيه بينك حاجة وبين شهاب علشان كده كنت رافض تمضي معاه العقود؟!" نظرت له بتساؤل واستفسار ليدرك سليم أنه في ثورة غضبه أصبح مُطالباً بإعطاء الإجابات والتفسيرات

"أنا!! فيه حاجة بيني وبين القذر ده؟" نظر لها بغير تصديق

"اللي يشوفك وأنت بتقول عليه الكلام ده ميقولش غير كده" ابتسمت بتهكم وهي تحدق بعينيه لتبادل نظرته الغاضبة بأخرى منتصرة

"لا أنتي أكيد أتجننتي.. بس يكون في علمك أنا عاملتك بإحترام قدامه عشان عيب اننا قرايب نظهر بصورة زفت قدامه، المرة الجاية يا أروى مش هعديهالك بالساهل أبداً.." صاح بها بغضب لتتوسع ضحكتها

"أنا مش فاهمة أنت بتعمل كل ده ليه.. واهو شهاب زي ما أنت ابن خالي أهو قريبي وابن عمي.. أنت بتبالغ أوي يا سليم!" أطبق أسنانه في غضب حتى كاد يهشمها

"أنتي بتقارني ما بين واحد عرفك من وانتي طفلة وواحد لسه عارفاه أول امبارح لأ وايه.. رايحة تتزفتي وتاكلي وتهزري معاه وأنتي بمنظرك ده وهدومك اللي معرياكي.. أنتي خلاص فاكرة نفسك محدش ليه حكم عليكي ولا ايه؟!" تحدث لها بمنتهى الغضب ما ان انتعش بذاكرته كلمات ميرال له وشعر بالخوف على ابنة عمته

"وأنت مالك بهدومي ولا اروح اهزر مع مين.. مش كان برا الشغل؟ ايه اللي يضايقك في كده؟!" تحدثت بهدوء ومكر ظناً منها في أنها تقترب في الإلتفاف والسيطرة عليه وبدأت تحيك تلك المؤامرة حوله وضيقت الخناق عليه في هذه المجادلة.. ولم ترى أنها بدت كالأفعى تماماً..

"مالي اني ابن خالك وان مينفعش تكوني مع راجل غريب بالمنظر ده" تحدث بصدق وخوف فهي بالنهاية تبقى عائلته

"لا بجد.. أنت غيران يا سليم؟!" نظرت له وهي تنتظر اجابته بتلهف ولكن آتى إياد ووالدتها مهرولان اثر صوتيهما

"ايه يا ولاد فيه ايه اللي بيحصل هنا؟!" تدخلت هديل

"أبداً يا مامي.. سليم مبقاش عاجبه حاجة خالص" رمقت أروى والدتها بخبث لتغمز لها وقد فهمت هديل ولكن دون أن يلاحظهما أحد

"لو سمحتي يا عمتي عيب أوي اللي أروى ده بتعمله.. كل واحد حر اه بس فيه حدود"

"هو ايه اللي حصل يا سليم؟!" تحدث إياد سائلاً بقلق ولهفة واضحان

"ابقى أسأل أختك.. تصبحوا على خير.. وابقي البسي هدوم يا أروى بكرة متنسيش" ابتسم بتهكم ليغادرهم وهو كاد أن ينفجر غضباً من كل ما يحدث حوله اليوم!!

 

 

--

        

"سليم يقصد ايه بكلمته دي؟!" توجه إياد لأخته بالسؤال وهو يرمقها جيداً ويتفحص مظهرها

"يقصد اللي يقصده.. هو مش صاحبك؟ ما تروح تسأله" اجابته ببرود وغرورها المعهود

"وأنتي ايه الزفت اللي لابساه ده.. اياكي أشوفك بالمنظر ده تاني.. سامعاني ولا لأ.!" صاح بعصبية شديدة بين أسنانه المُطبقة

"لا والله!! شكلك كبرت ونسيت إنك بتكلم أختك قدامي.. أنت بقا الراجل اللي هيقولنا نلبس ازاي ونعمل ايه؟!" هنا تدخلت هديل بعصبية ونبرة محتدة

"أنتي مش شايفة يا ماما منظرها.. فعلاً سليم عنده حق!"

"آه بقا قول كده.. كالعادة إياد بيمشي ورا اي حاجة يقولها سليم وهو مغمض!!" ابتسمت له بسخرية "بص يا إياد أختك مش صغيرة عشان تاخد رأي حد تلبس ايه ومتلبسش ايه.. واياك تاني تدخل في حياتها وتعمل كبير عليها.. ولا أنت مش عارف تعمل كبير على بدر وسليم جاي تعمل كبير علينا.."

"تصدقي أنا فعلاً غلطان إني خايف على أختي لو حد شافها يبصلها بصة مش كويسة!! طول عمرها بتلبس عادي يعني وانا متكلمتش غير لما دخلت البيت بمنظرها ده.. بس فعلاً أنا غلطان يا أمي إني بعمل حساب لمنظرها قصاد الناس.. بس ماشي.. اعملوا اللي أنتو عاوزينه وزي ما بتحذريني يا ريت تحذريها انها متبقاش تيجي تعيط لو حاجة حصلتلها.." تحدث متهكماً ليتركهما سوياً ولكنه التفت مرة أخيرة ليلقي المزيد على مسامعهما "أو أقولك.. ابقي خليها تعيطلك أنتي وعاصم!!" رمقهما بحزن غائر حبيس بعينيه ثم تركهما دالفاً للمنزل مرة أخرى..

"تفهميني حالاً كل اللي بيحصل وايه اللي أنتي بتعمليه ده حالاً.. أظن كفاية أوي كلام أخوكي اللي سمعته من تحت راسك!!" حدثتها والدتها بإنفعال

"كل اللي فيها إني خليت سليم يغير شوية.. مش هو ده اللي أنتي كنتي عايزاني أعمله من زمان؟ وأهو أديكي شايفة النتيجة.. كان قدام عنيكي واقف بيغلي"

"أنتي عملتي ايه بالظبط؟!" ضيقت هديل ما بين حاجبيها وتلهفت ملامحها لمعرفة تفاصيل كل شيء

"هاحكيلك يا مامي بس أكيد مش هنا.. تعالي ندخل وأنا أفهمك كل حاجة.. كمان لازم تكلمي خالي ضروري.. أنا مش هاسيب اللي حصل النهاردة ده يعدي على خير ولازم كل اللي بخططله يحصل"

"طيب اتفضلي قدامي" أخبرتها بسأم وتلهف واضح لمعرفة ما فعلته ابنتها لتتوجها سوياً للداخل بينما تحيكا كل منهما مؤامرة جديدة لتصلا لمرادهما..

 

 

--

        

"ازاي بمنتهى التخلف اقول كده عليه قدامها.. والصبح كان قدام زينة من غير ما اخد بالي.. وبابا عمال يزن عليا بسبب زفت الطين اللي اسمه شهاب ده ويسألني عرفت ايه من ميرال.. حتة الحيوان ده ليه هيموت كده ويدخل ما بينا، ولو هو شايف نفسه كبير اوي ليه مستنينا عشان العقود ولا الزفت" فكر وهو يقود سيارته متجها لمنزل والده ليصيح فجأة وهو يضرب مقود السيارة يلكمه بعنف

"غبي!! غبي!!" أطبق أسنانه في عصبية مبالغ بها وهو يصف نفسه ليشعر بإندفاع الدماء المغلي برأسه ليرن هاتفه الذي أجابه دون تفقد هوية المتصل

"افندم!" اجاب بعصبية

"فيه ايه بس يا سليم ما تهدى كده شوية" تحدث إياد بهدوء على الطرف الآخر من الهاتف

"فيه إن اختك بتصغرني قدام شهاب الزفت ده.. جايالي تجبرني اننا نمضي العقود معاه وبتستذكى عليا.. لا ورايحة تقعد مع واحد قذر زيه.. الله أعلم كان ايه اللي حصل لو مكنتش أنا معاهم بمنظرها ولبسها ده" صاح بغضب تعجب على اثره إياد

"سليم!! دي اختي يا ابني وبنت عمتك.. أروى استحالة تعمل حاجة غلـ.."

"يا ابني افهم أنا مشكلتي مش في اروى" قاطع سليم تلك الحدة التي سمعها في نبرة إياد وأدرك أنه قد فهم كلماته على محمل الخطأ "بص يا إياد.. أنت بتثق في كلامي أظن بعد العمر اللي ما بينا ده كله.. صح؟!"

"أكيد يا سليم بس مـ.."

"شهاب ده واحد قذر وحقير ومش هيجي من وراه خير أبداً ومتسألنيش عرفت منين" قاطعه مجدداً ليزفر بقليل من الراحة بعد ذلك الثقل الذي لا يزال يحمل منه الجزء الأكبر ولكنه للتو قد فرغ ولو جزءاً ضئيلاً منه بمشاركته هذا لإياد.

"هو عمل ايه بالظبط؟" تعجب إياد الذي عادت نبرته للهدوء ولكن القلق كان جلياً بصوته

"قولتلك متسألنيش .. وياريت يا إياد تاخد بالك معايا منه.. ده إنسان مش كويس ومش عايز أسيبه كده يدخل ما بيننا" انتظر ليسمع من إياد ما يطمئنه بعد أن ساد الصمت لفترة لا توصف بالقليلة ليستمع بالنهاية لتنهيدته

"ماشي يا سليم.. بس لازم تفهمني كل حاجة في يوم وأنا عارف إنك مش بتخبي عليا حاجة"

"حاضر.. اديني وقتي بس"

"طيب .."

"أنا داخل على البيت .. سلام دلوقتي.."

"سلام"

أنهيا مكالمتهما بينما كل واحد منهما تسيطر الأفكار المتضاربة على عقليهما..
فإياد لا يدري ما الذي دفع سليم لتلك الثورة على أروى، نعم هي بالغت بما ترتديه؛ ولكن ما الذي يعرفه عن شهاب ولا يريد البوح به!

هو لطالما كان رجل هادئ، لا يتعجل الأمور؛ ولكن ما رآه اليوم من سليم جعله يريد معرفة ما يخفيه اليوم قبل غداً؛ لا يعرف كيف له أن ينتظر بعدما سمع تلك النبرة من سليم الذي لطالما لم يأخذ أصعب الأمور إلا بمزاح وهدوء.. لابد وأن هناك شيئاً كارثياً يعلمه سليم وحده ولا يستطيع إياد سوى الإنتظار..

أمّا عن سليم فلقد غرق في دوامة من الغضب والخوف على عائلته بأكملها وخاصة الفتيات.. أروى، زينة، وسيدرا.. ماذا لو تعرض لهن بتلك الحقارة التي عامل بها ميرال؟ لن يستطيع بين يوم وليلة يأتي من اللامكان ليواجه شهاب ويخبره بأنه سادي وعليه ألا يتعامل مع عائلته!! قد يفضح أمر ميرال فالرجل الذي يفعل ذلك بإمرأة لن يتوانى ولو للحظة واحدة أن يخرج تلك التسجيلات إلي النور وسيقضي تماماً على مستقبلها ومستقبل عائلتها.. 

وحتى إذا أوصل الأمر للسلطات المختصة قد يفلت منها بأية طريقة ملتوية، رجل مثله لن يكون بمثل هذا الغباء.. هو حقاً لا يدري لماذا يطلق عليه ويصفه برجل، فليس هناك رجل خقيقي يفعل فعلته!! ولماذا لا تثق به عائلته، لقد كان حامياً للجميع، كان أخاً لهم ولم يعاملهم سوى بالحسنى دائماً.. ماذا فعل تجاه أروى حتى تعانده بمثل هذه الطريقة اليوم؟ ولماذا دافعت عنه زينة اليوم بمنتهى الحدة؟ فقط يتبقى أن تأتي سيدرا لتخبره أن شهاب الدمنهوري هو رجل جيد وهو فقط يكرهه من منطلق اللاشيء..

زفر في غضب وهو يصف سيارته بمنزل بدر الدين وشعر وكأنما ضاقت عليه الأرض وقد خليت رأسه من الحيل.. ذلك الإمتعاض الذي شعر به والتقزز كلما تذكر شهاب أو تعامل معه أصبح يسيطر عليه بمجون حتى قارب أن يدفعه لقتله أمامه دون إكتراث للعواقب التي قد تقع على اثر تصرف مثل ذلك..

ترجل من سيارته وهو يطالع هاتفه الذي اتصل عن طريقه بزينة ولا يدري لماذا تآكله القلق عندما لم تجيب فأرسل لها برسالة مكتوبة على احدى وسائل الإتصال الإجتماعي وانتظر أن تراها بفارغ الصبر وهو يتجه نحو البوابة ولكن أوقفه صوت والده الرخيم 

"أهلاً أهلاً بسبع البرمبة.. مالك ومال أروى يا سليم؟!" صاح بدر الدين بتهكم ليتوقف سليم واتجه نحوه 

"طبعاً وصلتك الإخبارية.. أكيد عمتي مبتصبرش على الخراب"

"مالك رايح تزعق في البنت ليه؟ وبعدين أنت ايه قصتك مع شهاب؟" 

"يوووه بقا شهاب شهاب مش هاخلص أنا النهاردة" صاح متآففاً بينما جلس بجانب والده وقد لاحظ بدر الدين الملامح المنزعجة بل والمُرهقة التي ترتسم على وجه ابنه 

"اهدى بس كده يا ابن ليلي وفهمني فيه ايه؟" حاول أن يخفف عنه تلك الملامح المرتسمة على وجهه 

"أروى رايحة تتفق معاه من ورايا على معاد نمضي فيه الزفت العقود، وجابتهولي المكتب من غير حتى ما تعرفني انه جي معاها، لا ولابسة تقريباً من غير هدوم ورايحة تسهر معاه" أخبره بحنق بالغ وانفعال ثم أشاح بنظره إلي هاتفه ليتفقد رداً من زينة التي لم تجيبه 

"واد أنت.. أنت تعرف ايه عن شهاب بيعفرتك اوي كل ما بتيجي سيرته؟ أنت من ساعة ما قعدت مع ميرال وهي قالتلك حاجة وأنت مخبيها عني.. مش ناوي تشركني في الحوار ولا خلاص بقيت كبير وعايز تحل كل حاجة لوحدك؟" حدثه مستفسراً بهدوء ليلتفت له سليم وحدق بعينا والده الثاقبتان 

"بص أنا مش هاخبي عليك.. آه أعرف عن بلوة سودا.. وملوش لازمة إني أحكيلك.. ولا احكي لغيرك.. بس أتأكد يا بابا أن البني آدم المقرف الواطي ده مش هيجي من وراه خير أبداً.. وأنا هافضل وراه لغاية ما يخرج من وسطنا زي ما دخل وسطنا" حدث والده وقد رأى  بدر الدين الصدق بعينيه ليزفر مُفكراً وقد توقفا عن تبادل الحديث لبرهة ليعود سليم لتفقد هاتفه مرة أخرى وقد لاحظه الآخر 

"طب مش تتعامل بهدوء.. عارف هديل مكلماني تقولي ايه؟! دي دماغها شايفة إنك بتتحكم في بنتها وفي خطواتها.. بترمي كلام نسوان.. من الآخر عايزة توصلني إن ابني ملوش حق يغير على بنتها لأن أصلاً مفيش ما بينهم حاجة تخليه يعمل كده" أخبره ليرفع سليم عيناه التي شابهت عينا والده ونظر له في صدمة جلية وابتسم بسخرية

"لا دول اتجننوا رسمي!! تصدق فعلاً أنا غلطان اني مردتش اسيبها مع واحد حيوان زي ده" صاح بغضب بينما نهض ليغادر والده ليوقفه جاذباً ذراعه ثم جذبه بأكمله بعنف ليقع جالساً بجانبه مرة أخرى

"هو أنا مش عارف المك ولا ايه ياض.. شوية تتنرفز على زينة وشوية اختها!! ما تهدى كده وتعقل!! أنت صغير ولا ايه يا سليم؟!"

"يا بابا أنا خايف عليهم مش أكتر" زفر ليوصد عيناه وأتكأ بظهره على المقعد الخشبي خلفه وأخذ يفرك عينتاه بيده في إرهاق واضح 

"خاف بس بعقل مش بهبل وعصبية.. وبعدين اللي مش عارف يعمل حاجة يطلب المساعدة.. أنا اهو قدامك ممكن تحكيلي ولو مش عايزني أساعدك يبقا تهدى وتفكر وتتصرف براحة علشان تعرف تحل.. لكن مش عافية هي" حاول والده التخفيف عنه قليلاً ليومأ له ابنه بالموافقة

"عندك حق.. أنا زودتها شوية" همس لوالده بإذعان وعاد ليتفقد هاتفه مجدداً

"ويا ترى بقا فيه ايه في الموبايل أهم مني عشان كل كام ثانية تبص فيه؟" حدثه بتهكم

"زينة مبتردش.. مش فاهم راحت فين دي" 

"ابو قلب حنين قلقان على مزته!! الساعة واحدة الا تلت يا سليم!! زمانها نامت" أخبره بضحكة خافته ليحدق الآخر بوالده 

"عندك حق.. أنا نسيت إن الوقت أتأخر" أخبره بجدية ليعود بدر الدين ليمزح معه 

"واضح إن معايا حق النهاردة في حاجات كتيرة أوي.. كلمتها النهاردة؟!" 

"ايوة كلمتها.. هي كويسة الحمد لله" 

"كويسة الحمد لله!! ياض اتلحلح بقا وقولها اجازتك الجاية هنتخطب ولا اي كلمة عدلة تبل بيها ريق البت"

"ما قولتلك يا بدر إني مش عايز أستعجل حاجة.. النهاردة مثلاً اول ما جبت سيرة شهاب طلعت فيا، زينة لسه مش مظبوطة، ممكن بين يوم وليلة ترجع تاني لنفس شخصيتها لما رجعت ساعة عزا باباها.. لازم تتأكد هي بنفسها أنها بتحبني بجد مش عشان شوية كلام حلوين وهدايا ومكالمات ووقت حلو يبقا خلاص كده بتحبني" 

"لا يا واد تقيل اوي.. لما نشوف آخرة مسلسل العشق الممنوع ده معاك انت وهي"

"العشق الممنوع!! أنت بتتفرج على مسلسلات تركي من ورانا ولا ايه يا عم الحاج؟" صاح سائلاً بإبتسامة

"أمك يا أخويا مبتسبش مسلسل تركي إلا وتفضل تتفرج عليه.. قرفتني والله"

"معلش بقا يا كبير.. ضريبة الجواز والحب"

"حب!! حبها برص" حدثه بإنزعاج 

"أوبااا!! شكلكوا لسه متصالحتوش من يوم حوار سيدرا وأدهم" ضحك سليم بخفوت ليرمقه بدر الدين بتآفف 

"اه يا أخويا لسه قالبة عليا!! متبقا تتوسطلي كده بكلمتين حلوين" أخبره بإبتسامة امتزجت بالتوسل

"بدر الدين الخولي مش عارف يتعامل مع مراته وبيطلب من اتوسطله.. هبقا أشوف مواعيدي ولو عندي وقت فاضي هبقا أحط الموضوع ده في جدول أعمالي" تحدث بزهو لتنزعج ملامح بدر الدين وتتحول للغضب بدلاً من الجدية

"جدول أعمالك يا ابن الكلب!!" أخبره بإنفعال ليجذبه وهو يلف ذراعه حول عنق سليم كمن سيخنقه 

"خلاص خلاص ورحمة أمي لاكلمها أول ما أصحى الصبح" 

"ايوة كده أظبط.. جتك البلا في شكلك.. غور نام ياض كفاية عليك لغاية كده" أخبره بإمتعاض بينما ترك عنقه 

"يالا تصبح على خير" أخبره وهو ينهض ليقف أمامه "بس بردو متنكرش إن نوري بتعزني أكتر منك ولو مش بتحبني مكنتش جيت تقولي اتوسطلك" أخبره في تحفز 

"حبك برص يا ابن الكلب" صاح وهو ينهض ليفر سليم مهرولاً للداخل يتظاهر بالخوف ما إن لحقه ولكن توقف بدر الدين عن متابعته وجلس مجدداً وغرق بالتفكير الشديد بأمر شهاب الدمنهوري وما الذي قد أكتشفه سليم عنه حتى يحاول أن يبتعد عنه هو والجميع بهذه الطريقة!

 

 

--

 
استيقظ سليم على صوت نورسين التي دلفت غرفته لتوقظه فقد ترك ملاحظة لها على باب الثلاجة بأن توقظه لأنه عاد متأخراً بالوقت وفتح عيناه بصعوبة فهو لا يزال يشعر بالإجهاد من كل ما يحدث حوله

"صباح الفل يا نوري" همس بنعاس

"صباح الفل يا حبيب نوري.. ايه أحضرلك الفطار" صاحت وهي تفتح ستائر غرفته حتى ينساب ضوء الصباح للغرفة

"ماشي.. بقولك ايه يا نوري محتاجك كده في مصلحة" حاول طرد النعاس عنه وهو ينهض جالساً بسريره لتقترب نورسين وتجلس أمامه

"خير يا حبيبي فيه ايه؟!" ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر له بإهتمام

"بدر يا عيني متشلوح من غيرك اليومين دول وشكله زعلان اوي.. صالحيه بقا بدل الوش العكر اللي باجي أشوفه كل يوم بليل ده"

"آه.. عايزني أصالحه ومش قادر عليا فباعتك ليا" تحدثت له بنبرة امتلئت بالحدة والتحفز "لا.. مش مصالحاه دلوقتي خالص" تحولت ملامحها المشرقة للعبوس

"ما خلاص بقا يا أبو قلب أبيض أنت.. بذمتك موحشكيش بدور والهزار معاه؟!" غمز لها لتنظر له ببراءة صادقة

"آه وحشني طبعاً" أخبرته ولكنها تداركت ما قالته لتتابع بنبرة نافية لكلمتها السابقة "بس ده ميمنعش أنه زودها أوي معايا ولازم يتعلم الأدب.."

"يا ستي علميني أنا الأدب وصالحي الراجل.. ده بقا عامل زي اليتيم من غيرك"

"زعلان أوي على أبوك ومش زعلان على اللي عمله معايا!! ماشي يا سليم!! أنا رايحة أحضـ.."

"استنى بس يا جميل" أوقفها جاذباً يدها في رفق عندما رآها تنهض بعدما كادت أن تغادره "والله أنا مسكتلهوش.. بس خلاص بقا المسامح كريم.. وبعدين أنتي عارفة إنك روحه أصلاً.. حد يعرف يعيش من غير روحه اسبوع وشوية؟! وكمان أنتي بتموتي فيه.. لمي الدور بقا وسامحيه ولو عمل حاجة تاني أنا اللي هتصرف!" أخبرها وهو يحدق بزرقاوتيها لتنظر له بحيرة

"غلبتني بالكلمتين دول.. ماشي يا سليم!! هاشوف الموضوع ده" أخبرته بإقتضاب ليومأ بالإنكار

"لا يا مزتي أنتي هتصالحيه عشان بدر ملوش غيرك.. مش لسه هتشوفي"

"خلصنا با ابن بدر"

"يعني وعد خلاص هنزل أفطر معاكوا الاقيكوا كويسين؟!"

"هشوف"

"يا جميل بقا متتقلش وغلاوتي عندك كفاية بقا عقاب عليه لغاية كده.. الراجل كان غيران على بنوته بردو" زفرت وهي تتفقده بعينتيها 

"حلفتني بالغالي وبتسبتني!! خلاص يا سليم هصالحه.. ارتحت كده؟!" أخبرته بإنزعاج ليومأ بالموافقة ثم أقترب منها ليقبل يدها الممسك بها لتصيح هي بإنزعاج "يووه بقا يا سليم متكبرنيش كده!"

"ربنا ما يحرمني منك يا أحلى ماما في الدنيا" ابتسم لها لتبادله الإبتسامة

"طيب يالا يا حبيبي اجهز علشان متتأخرش"

"عيوني يا واد يا جميل أنت يا أبو عيون مفيش زيها"

"يووه بقا عليك يا بكاش أنت" فرت ناهضة للخارج وهي تتحدث "مش هخلص أنا من كلامك الحلو ده أبدا.. مفيش فايدة" أكملت متمتمة وهي تتوجه للخارج تحت أنظار سليم الذي ابتسم ليتحدث لنفسه

"يا ترى يا زينة ممكن نوصل لليوم اللي أعيش فيه معاكي وولادنا تكبر ونفضل نحب بعض كده زي بدر ونور!!" تنهد بإبتسامة وهو يتمنى مثل تلك الحياة التي يحياها بصحبة والديه ثم نهض عن سريره ليتوجه للحمام الملحق بغرفته حتى يستعد لليوم الذي تأكد أن كل ما فيه من أحداث تجعله يشعر بأنه لن يستطيع الفرار من ملاقاة ذلك الكائن ذو الطلة الكريهة الذي أصبح لا يكره مثله في الحياة!

 

 

--

        

أنتهى شهاب من إكمال مظهره بربطة عنق قد صنعها مصمم شهير للأزياء لتماثل تلك البدلة الرمادية الصارخة بالفخامة فهو اليوم لابد أن يذكر الجميع أنه مهندس شهير ذائع الصيت ولا يقل عنهم ثراءاً ولا فخامة.. كما أن عليه التأنق ليجذب أنظار أروى له..

ابتسم وهو يتذكر طريقتها معه بالأمس، أنثى تريد إثارة غيرة ذكر آخر، أتظن أنه لم يفهمها ولم يلاحظ ما تحاول تلك الفتاة فعله؟! يا لها من حمقاء!! لقد أدرك ما تخطط له تلك الفتاة التي تظن نفسها ذكية وأن ليس هناك من يرى ما تحاول فعله.. حسناً فليمرح قليلاً مع هؤلاء الأطفال.. واحد يعشق فتاة وأختها تحاول أن تثير غيرته.. يا له من مسلسل درامي.. فليلهو مع الجميع قليلاً طالما أن كل ما يحدث حوله يسير في ذلك الطريق الذي خطط له.. ليس لديه مانع بذلك أبداً..

جلس بشرفته وهو يتناول قهوته الصباحية في فنجان مزخرف لربما يعود للعصور الوسطى، فقد اقتناه من احدى المزادات بفرنسا، تليق به الفخامة لا محالة، ولماذا لا تليق به وهو من عمل جاهداً على تحقيقها وها هو قد وصل إليها وحقق كل ما أراد؟! 

توسعت ابتسامته ثم وضع الفنجان على المنضدة وأخذ ينظر مرمى البصر بذلك القصر الذي صممه والده، يا لها من متعة للناظرين، بيوم ما ستأتي زينة هنا لغرفته وقد تنبهر بكل تلك المناظر التي يتم الاعتناء بها بأموال طائلة.. أم أنها لن تنجذب بمثل تلك الأشياء؟! أياً كانت ما ستشعر به تلك الفتاة وأياً كا ما يلفت نظرها سيفعله حتى يصل لما يريده.. ستكون هي من تهديه لطريق عمه لا محالة وستكون هي سبب إطاحته بذلك الفتى المغرور سليم!

زفر وهو يحاول أن يرتب أفكاره وينظم ما عليه فعله، نعم سيقوم بتوقيع العقود، وبعدها عليه أن يدعوا أولاد عمه للإحتفال، ها هي أول صفعة على وجه سليم، سواء آتى معهم أم لا، عليه أن يدع الجميع يتعرفون على شهاب الدمنهوري، ومع من يتعاملون فعليهم جميعاً الإلتفات إلي أن شهاب الدمنهوري هو الكبير بينهم، الأغنى، الأنجح، والأفضل..

عليه الليلة يتحدث مع وليد عن تلك الصفقة من الممنوعات التي ستكون بمثابة واحدة من أكبر الصفقات التي سيتفقا عليها.. عليه أن يقنعه تماماً بكل ما فيها، كما عليه دفع وليد لأن ينفذ كل ما يريده إلي النهاية .. كما عليه الإنتهاء هو الآخر!! 

أمّا غداً فعليه أن ينتخب احدى هؤلاء الأطفال ليقوم بتسليمهم تلك الأماكن بالمجمعات السكنية التي أعدها خصيصاً لشركتهم والتي كذلك ستكون نهاية عائلة الخولي تلك.. ود لو ذهب مع زينة حتى ينفرد بها قليلاً ولكنه لن يؤخر الأمر أكثر من ذلك، فعليهم احترامه شاؤوا أم آبى احداهم ولكن عليهم أن يعرفون مع من يتعاملون!

أما عن زينة فليس عليه سوى الإنتظار، فلقد عرف من أروى أنها أوشكت على العودة فقط أيام معدودة وسينفذ كل ما برأسه حتى أنه سيقوم بإسعاد والده.. ولربما بعد كل تلك السنوات سيجتمع بعمه..

ابتلع في انزعاج ناهضاً وتوجه ليمر على شركته أولاً ثم لشركة عائلة الخولي وحاول أن يُثني تفكيره عن رغبته الشديدة بالعائلة وتواجد أناس حوله.. أدرك جيداً أن عليه التوقف للإستماع لتلك الطفولية الشديدة بداخله.. فتلك العائلة لن يملكها أبداً وكان وقت امتلاكها منذ سنوات وليس الآن أبداً.. فمن مر عليه سنوات من الوحدة والجهاد منفرداً يستطيع تحمل الكثير وليس في حاجة لأحد كي يشعر معه بالألفة والحياة!!

--

        

"لا أصدق أنني استطعت التوقف عن الحديث إليه كل تلك الساعات المنصرمة.. أشعر وكأنها سنوات... أسودي لا تنظر لي بمثل تلك النظرات المستفسرة.. نعم أنا أتحدث عن سليم!! من غيره يا تُرى؟!

أنظر أنا أحبك كثيراً صديقي الأسود.. أيها الرفيق أنا فضلت أن أتناول فطوري هنا بالمطار حتى أتحدث لك وأبوح لك ببعض أفكاري قبل الذهاب إليه اليوم..

أتدري أنه أرسل لي رسالة بأنه يريد الإطمئنان علي!! بل وأخرى صباحاً تعبر حقاً عن قلقه الشديد.. ولن أخبرك عن تلك المكالمات التي قصدت ألا استجيب لأي منها ليلة أمس وكذلك اليوم صباحاً.. ها هو يحدثني للمرة السابعة والساعة لم تتعدى العاشرة صباحاً بعد!!

أتصدق رفيقي أنه أصبح هناك من يهتم بفتاتك ذات الرداء الأسود؟! أتصدق أنه أصبح بيومي من يكترث لأجلي؟ أتصدق حقاً أنني تركت ألمانيا بتلك السرعة حتى أراه؟ أتتذكر أن جلوسي وحدي هو أكثر ما أصبحت أوده في تلك الحياة منذ سنوات ليأتي ذلك الرجل الساحر ليغير كل ما أحب وأريد بمنتهى السهولة.. لا بل يسعدني كذلك..

ها أنا أخبرك أنني لا أستطيع الإنتظار حتى آراه بعيني.. أنتظر تلك اللحظة عندما تتقابل أعيننا.. أخبرني صديقي.. أستكون مثل تلك النظرات بأحدى الروايات والأفلام الرومانسية؟! أسيسعد بحضوري ورؤيتي؟ ياااه صديقي أموت شوقاً لتلك اللحظة.. أود أن التهم فطوري وكذلك ألتهم تلك الأسطر حتى أنتهي من إخبارك بكل ما أحمله من مشاعر تجاه ذلك الشاب الرائع الذي بمنتهى الغباء لم ألاحظ عشقه لي.. أنا حمقاء أعرف.. ليس هناك داعٍ لتصرخ بي عزيزي..

أنظر أنا سأذهب الآن لأنني أمامي يوم طويل للغاية.. أعدك أنني مساءاً سأخبرك بكل ما سيحدث اليوم بيني وبينه.. فقط فلتبتهل من أجلي بقليل من الدعاء ألا تعكر أسرتي اليوم بأكمله علي.. دمت كاتم أسراري أيها الرفيق.. وداعاً أسودي!"

وصدت دفترها وأخذت تتناول فطورها الذي أحضره لها النادل وبداخلها طاقة إيجابية لم تشعر بها منذ سنوات.. تشعر بالسعادة ولا تبارح الإبتسامة شفتيها كلما فكرت بتلك اللحظة التي ستقابل سليم بها.. تنهدت وهي تفكر فيما عليها فعله، فعليها أن تتأكد أن سليم اليوم بالشركة وليس بمكان آخر.. 

"يا صباح الفل يا خالو.. وحشتني اوي.. عامل ايه؟!" تحدثت بهاتفها بعد أن أجابها بدر الدين 

"الزوزا حبيبة خالو.. وحشتيني.. عاملة ايه يا حبيبتي؟"

"تمام يا خالو.. وحشتوني كلكوا ونفسي أشوفكوا.. طنط وسيدرا وسليم عاملين ايه؟" 

"يا بت عليا أنا.. قال سليم قال!!" صاح بعقله ولكنه أجابها مسرعاً "كله تمام.. نورسين كالعادة بتحضر للغدا الأسطوري بتاعها، وسيدرا في الجامعة وسليم في الشركة" 

"أنا وحشني أكل طنط نور جداً بقا.. مفيش زيه هنا خالص.."

"يا زوزا نوري دي مفيش زي أكلها أبداً.. ولا في مصر ولا ألمانيا"

"هانت يا خالو وهارجع وهاخليها بقا تعملي كل اللي نفسي فيه"

"يا سلام.. واحنا عندنا كام زوزا.. الزوزا تؤمر واحنا ننفذ"

"وحشني دلعك ليا يا خالو اوي.."

"يالا واديني مستنيكي اهو عشان لما تيجي ادلع براحتي بقا.."

"أنا خلاص كلها كام يوم وتلاقيني عندك.. الأيام بتعدي هوا" 

"ماشي وأنا مستنيكي.. أخبار جامعتك ايه؟!"

"تمام.. كده هاخلص اخر الأسبوع واجي وبعدين هاقعد شهر في مصر وارجع تاني اسبوعين كده اخلص فيهم الإمتحانات"

"بالتوفيق يا حبيبتي"

"يارب.. سلملي عليهم كلهم.. استئذنك بقا عشان عندي محاضرة"

"اتفضلي يا حبيبتي وخدي بالك من نفسك"

"حاضر.. باي.."

"باي يا حبيبتي" أنهى بدر الدين مكالمته ليتمتم "قال سليم عامل ايه!! مش قاعدين مرزوعين بيرغوا ليل ونهار.. يخربيت السهوكة" نهض وهو يتوجه للمطبخ حيث نورسين وقرر أن يحاول التحدث معها 

"الحلو بيعملنا ايه النهاردة؟!" سألها بنبرته الدافئة وهو يقترب منها ويحيط خصرها بذراعاه بعد أن ترك فنجان قهوته أمامهما على المنضدة التي تتوسط المطبخ ودفن وجهه بعنقها ليستنشق تلك الرائحة التي أشتاق إليها 

"بعمل أكل يعني يا بدر.."

"بحب التفاصيل أنا.. كلميني بتعملي ايه.." همس بنبرة أغرتها كثيراً بصحبة أنفاسه الدافئة التي لفحت عنقها 

"بعمل روستو ورز بالخلطة وشوية سلطات وحبة محشي ورق عنب عشان سليم بيحبه"

"طب وأبو سليم ملوش شوية محشي فلفل عشان بيحبه اوي هو كمان وبيعشق اللي بتعمله؟" ازدادت نبرته إثارة من نوعاً خاص وقد أشتاقت له بالفعل

"حاضر.. اللي نفسك فيه هعملهولك.." أخبرته وقد بدا على نبرته التأثر من التصاقه الحميم بها 

"لسه زعلانة يا نوري؟!" همس سائلاً ليشعر بإماءة رأسها بالإنكار 

"تؤ.. خلاص محصلش حاجة" همست بصعوبة فأنفاسه التي أصبحت ساخنة قد أثرت عليها بشدة

"طب أخبار الظروف النسائية ايه؟!" 

"مفيش"

"حلو أوي عشان وحشتيني.." بدأ في أن يُقبلها بعنقها لتبدأ هي في الشعور بإنعدام الجاذبية أسفل منها 

"هاقولك على حاجة ومتزعلش؟!" سألته بينما همهم إليها مجيباً ولكنه لم يتوقف عن تقبيلها "مكنش فيه ظروف أصلاً.. كنت بضحك عليك" أخبرته ونبرتها تحمل الإبتسامة 

"بقا كده" غمغم بين قبلاته التي أنهاها بتلثيمة اتصفت بالتوحش وبلمح البصر حملها بين ذراعيه

"يا مجنون بتعمل ايه.. احنا أطفال يعني يا بدر على الحركات دي.."

"وهو يعني أنتي لسه بيجيلك ظروف وممكن تجيبيلي بيبي وفكرك متجوزة راجل عجوز ولا ايه.. ده أنا لسه جامد أوي وهثبتلك.. بس امسكي نفسك أنتي بس وصدي قدامي" 

"هتشوف يا حبيبي.. بس إياك تتعب أنت.. واهو فرصة سليم وسيدرا مش موجودين" همست بدلال وهي تهمس أمام شفتاه بعد أن أحاطت عنقه بذراعيها 

"ده أنا هخلي صوتك يجيب آخر الشارع صبرك عليا بس.." همس ثم التهم شفتاها ليقبلها بنهم وهو يصعد بها الدرج ثم ابتعد قليلاً ليغمغم أمام شفتيها "وحشتيني يا نوري.. متزعليش مني تاني"

"وأنت كمان وحشتني اوي" همست ثم جذبت رأسه لها لتقبله وهي لا تدري كيف لها أن تتوقف عن عشق هذا الرجل الذي لا يتوقف عن النمو بداخلها ولعنت نفسها لإبتعادها عنه تلك الأيام المنصرمة..

 

 

--

        

تفقد شهاب الجميع، سليم كالعادة يبدو متأنقاً ولكن حاول ألا يزعجه ذلك.. يدرك بأعماقه أنه أفضل منه على كل حال بل لا يقل ثراءاً عنه.. وأما تلك الفتاة تلك فهي منذ الأمس وهي تتصرف تصرفات عجيبة وكذلك مظهرها المبالغ به وزينتها الثقيلة أدرك خلالها أنها لا زالت تحاول أن تثير غيرة سليم.. وعاصم بالطبع كالعادة منعدم الشخصية مهزوزاً منتظراً أن يبدأ غيره في تناول بدء الإجتماع قبله.. أما عن إياد فهو يختلف كثيراً هذه المرة، نظراته المتفحصة تلك جديدة عليه تماماً.. لكن لربما سيتغير كل ذلك بعد ما خطط له اليوم..

ابتسمت أروى بداخلها وهي ترى الإنزعاج ينهمر كالبحور الهائجة من عينا سليم، تظن أن خطتها تنجح، تظن أنه نجحت في إثارة غيرته عليها بعد ما فعلته ليلة أمس.. ولكن هناك المزيد لتفعله على كل حال.. فهي لن تتوقف حتى يصبح زوجها بيومٍ ما..

"اتفضل يا Mr شهاب.. امضي أنت الأول.. أظنك راجعت العقود مع المحامي بتاعك من بدري" تحدث له سليم ليومأ شهاب له بهدوء وجذب الأوراق ليوقع عليها تحت أنظار سليم المتفحصة وما ان انتهى حتى قدم الأوراق إليه بأنامله ليرفع حاجباه له بأن يوقع هو الآخر ليبتسم له سليم بسخرية لا يدري شهاب ما سببها ولكن أوقف سليم صوت الباب الذي أعلن عن دخول شخص للغرفة فحول عينتاه نحو الباب ليراها أمامه وهو لا يُصدق أنها قد آتت دون أن تخبره مسبقاً ثم التفت باقي الحاضرون لها ليتعجب إياد لحضورها المبكر، واستغرب عاصم قليلاً، بينما تآففت أروى التي ظنت أنها عادت لتسرق منها وقت سليم أما شهاب بسرعة ملاحظته لتلك النظرة المتلهفة من سليم نهض مسرعاً تجاهها ليقدم يده إليها

"زينة.. حمد الله على السلامة.. جيتي في وقتك بالظبط.." ابتسم لها تلك الإبتسامة الوقورة التي يستطيع تزييفها ببراعة شديدة ليصر سليم أسنانه في غضب من مجرد ملامسته ليدها بهذا الشكل وقرر التدخل بسرعة..

يُتبع..