-->

الفصل الواحد والعشرون - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل



الفصل الواحد والعشرون

 

استيقظ بسريره الوثير بمنتهى النشاط والحيوية وملامحه رائقة للغاية ونهض بهدوء ثم نظر لتلك التي أجبرها ليلة أمس أن تتخذ من الأرضية القاسية فراشاً لها ولم يكن لديها أي اختيار آخر سوى النوم عارية بتلك الطريقة أو ممارسة الجنس معه مرة أخرى ولكن بعنفه اللانهائي..

وكزها بقدمه العارية لتستيقظ هي بفزع فقد غالبها النوم ونظرت اليه في وجل وارتباك ليبتسم لها بملامح سعيدة ثم تحدث لها

"مبروك لأخوكي.. عقبالك" ابتسم متهكماً ثم ألقى عليها احدى الاوراق "مينفعش بردو مناسبة حلوة زي دي تعدي من غير ما اعمل الواجب" أشار لها لتُمسك بالورقة فأخذتها بتردد شديد لتجد مبلغ مالي في حساب جديد تماماً غير الذي تملكه بالفعل وقد صُعقت من ذلك المبلغ الذي أعطاه اليها.

"أنا داخل الحمام.. عايز اخرج مشوفش وشك.." رماها بتلك الكلمات القاسية ثم تركها وغادر لتتساقط دموعها وهي تتابعه بعينتيها كلما تذكرت تلك الإهانات الصعبة التي لم يتوقف عن رميها بها أمس.. ومجدداً هذا الرجل يدهشها بأنه لديه الأسباب الجديدة والعديدة ليؤلمها بها.

هو لم يبالغ بممارسته للجنس ولم يبالغ بطرق عنفه التي تجعلها لا تستطيع الوقوف على قدميها ولكنه فعل ما هو أسوأ، تلك الكلمات التي استمعت لها طوال الليلة الماضية ذكرتها بتلك الحقيقة المُرة التي تحاول نسيانها كل صباح، ذكرها بكونها فتاة ليل باعت شرفها للنقود، ذكرها بدور شهاب الدمنهوري في حياتها الذي يتمتع بجسدها ثم يلقي لها العديد والعديد من الأموال التي لا نهاية لها.. كما ذكرها لما فعلت ذلك بالأساس منذ البداية.. ليأتي بنهاية الليلة ليذكرها بما كان سينتهي إليه حالها لولا وجوده بحياتها.. كانت لن تجد ما سترتديه وستتتخذ من الأرض العارية فراشاً لها..

انهمرت دموعها وهي تتوجه مسرعة إلي الأريكة بالخارج التي تركت ملابسها بالأمس جانبها ثم ارتدتها مرة أخرى كي تغادر منزله.. هي حتى لا تشعر وكأنها تريد أن تفعل طقوسها تلك التي اعتادت عليها بإرتداء الملابس النظيفة التي تحملها معها دائماً وتبدلها كلما أنتهت ليلتها مع احدى الرجال.. فماذا تفعل الملابس النظيفة بجسد وروح قد احتوتها أسوأ الأوبئة والقاذورات..

مرر أصابعة بشعره القصير أسفل تلك المياة الدافئة موصداً لعينيه في راحة شديدة بكل تلك الإنتصارات التي يشعر بأنه يحققها واحداً تلو الآخر مع زينة..

يرى تغير ملامحها، ترددها، استماعها له وذلك الشرود الذي تغرق به كلما ألقى إليها حفنة كلمات لها تأثير شديد على أوتار عقلها الهشة، لم يكن يظن أبداً أنه سيحرز تلك الإنتصارات بتلك السرعة الشديدة معها..

يبدو حقاً أنها طفلة صغيرة، طفلة قد عانت من تلك المعاملة التي تتلقاها من أسرتها وكأنهم يتعمدون أن ينبذونها.. حسناً إذن هي المنبوذة بتلك الأسرة وها هو الرجل الذي سيحتويها عقلاً وروحاً ودعماً بين ذراعيه.. ولكن عليه أولاً أن يتخلص من سليم بحياتها تماماً حتى تأتي هي مهرولة إليه.. سيفعلها عند عودة هذا الطفل المغرور.. عليه الإنتظار قليلاً فقط!!

أطلق زفيراً أسفل المياة لتتفرق أمام شفتيه وهو يُفكر أحقاً كل ما وصله من معلومات عن سليم لا تحمل أية أسباب قد يفتح طريقاً بها أمام زينة لترتاب به!! لا يُصدق ذلك.. ولكنه سيفعلها عاجلاً أم آجلاً.. فقط الوقت هو كل شيء بالنسبة له في هذه اللعبة السخيفة!

وصد المياة ثم توجه للخارج بعدما أعد تلك الخُطة التي سيدفع زينة خلالها لقضاء الأيام القادمة معه.. إذا كان مرض أروى المزعوم ذلك هو من يأخر سليم عن العودة إذن فسينتظر عودتهما حتى يبدأ بتفريقهما تماماً.. لن ينتصر عليه هذا الطفل المغرور أبداً بأخذ لعبته الجديدة منه!! لن يتركها له شاء أم آبى وسيريه ذلك جيداً..

 

 

--

 

        

"فين زينة يا بدر؟" نظرت له هديل بمنتهى الغضب ما إن دلفت منزل بدر الدين وعقدت ذراعيها في تحفز فهي كادت أن تحترق منذ مكالمة ليلة أمس مع أروى ليعقد هو حاجباه وتعجبت نورسين مما تفعله 

"زينة في اوضتها فوق لسه مصحيتش" اجابها بهدوء شديد وهو يتفرس ملامحها ومنتظراً منها الكلمات التالية التي ستفسر تماماً سبب مجيئها بمثل هذا الوقت الباكر

"والله.. أوضتها.. وهي مش المفروض ليها أوضة عندي ولا أنا مش قادرة أوفرلها أوضة في بيتي ولا ايه بالظبط؟" صاحت بنبرة لا تدل سوى على العراك 

"هديل هو فيه ايه؟ ايه الأسلوب اللي أنتي بتتكلمي بيه ده؟ ما هي زينة من زمان وهي بتبات عندنا يعني.. شكلك مضايق ليه بس هو فيه حاجة حصلت!" تسائلت نورسين بإبتسامة هادئة لترفع هديل احدى حاجبيها في سُخرية 

"بصي يا نور.. الموضوع ده يخصني أنا وبدر.. يا ريت تنقطيني بسكاتك.. " أخبرتها بنبرة غير ودودة على الإطلاق وابتسمت بإستهزاء لها بينما توسعت عيني نورسين في تعجب من تلك الإهانة التي تلقتها

"هديل!" صاح بدر الدين بصوته الرخيم مُحذراً اياها "متنسيش إنك في بيتي وبتكلمي مراتي.. تتكلمي عدل وبإحترام وتوطي صوتك ده" حدثها بحزم لترمقه هي في إنزعاج 

"وهو بيتك لما أنت فتحه لبنتي زي الأوتيل ومبسوط أوي بقعدتها جنبك وسايبها تعمل اللي على مزاجها يبقى من حقي أنا كمان آجي وأربيها هنا براحتي.. يا إما بقا كل واحد يتلم في بيته ويخليه مركز مع ولاده" حدثته بنبرة استفزازية ليزفر هو في حنق 

"من امتى واحنا بنعمل فرق بين ولادنا يا هديل!! مش عيب كلامك ده؟" سألها مستنكراً بحزم 

"أنا أقولك من امتى يا بدر.. من ساعة ما أنت وأبنك بقيتو الكل في الكل وعايزين تمشوا الناس كلها على كيفكم بقا فيه فرق.. من ساعة ما أنت مكحوش على بنتي وابني وبتعملولهم غسيل دماغ وبقا فيه فرق.. تقدر تقولي ليه زينة وإياد بس اللي بيجولكوا دايماً؟ لأنهم هُبل ومش عارفين لعبتك أنت وسليم.. بس أنا عارفاها كويس.. وأوعدك يا بدر أن مفيش حاجة من اللي في دماغك هتحصل.. كفاية بقا اللي أنت عملته وأخدته زمان.. لو كنت فاكر إنك بمسلسل إنك ضحيت علشان شركتنا ده زمان يديلك الحق في إنك تكحوش على كل حاجة فتبقا غلطان.. أنا فاهماك كويس اوي.. أنا مش شاهندة ولا ماما الغلبانة اللي بيضحك عليهم يا بدر.. فوق.. أنا هديل! وعمري ما هاسيبك توصل للي في دماغك!" نظر لها بثاقبتيه بمنتهى اللوم بعدما أستمع لصياحها بتلك الكلمات القاسية التي توجهها هي إليه ليسحق أسنانه غضباً ثم رمقها بإحتقار شديد 

"أنا هاعمل حساب إنك لسه زي ما أنتي.. أختي الصغيرة اللي ولادها كلهم ولادي.. بس لآخر مرة بحذرك يا هديل، اتكلمي بأدب وأفهمي كويس أنك بتكلمي أخوكي الكبير  ووطي صوتك ده!" نظر لها بدية وحاول بكل ما أستطاع من قوة ألا يبالغ بغضبه عليها

"هاوطي صوتي.. ماشي.. وسع لما أروح أجيب بنتي.. أصلها فلتت مني ومعرفتش أربيها بسببك أنت ومراتك" رمقت نورسين بإحتقار ثم أعادت تسليط نظرتها على بدر الدين لتكمل حديثها بتلك النبرة الإستفزازية "بس اوعدك يا بدر إني هاعيد تربيتها من أول وجديد.. ودماغها اللي أنت بتبخلها فيها السم دي كل يوم أنا هاعرف ازاي أعالجها.. وإذا كنت فاكر إن أيام زمان اللي سيف بيوقف فيها جنبك فهي خلاص ماتت زي ما صاحبها مات.. وأنا مش سيف يا بدر افتكر ده كويس.. أنا كنت بعمله حساب وبسمع كلامه عشان هو جوزي.. إنما مخططاتك دي بقا تنساها خالص وتشيلها من دماغك" أخبرته بتلك الكلمات لتتعالى أنفاسه الغاضبة شيئاً فشيئاً لتتعداه هو ونورسين وتتوجه للأعلى حيث غرفة ابنتها.

"ايه يا بدر الكلام ده!!" تمتمت نورسين في صدمة شديدة 

"مش جديد عليها!" همس هو في آسى ولكنه تبعها مسرعاً لتتبعه نورسين هي الأخرى، فهو لا يدري كيف ستتعامل مع زينة..

 

 

--

 




"ادخل.." صاحت أروى عندما طرق سليم على باب الغرفة التي تمكث بها وادعت الإعياء 

"صباح الخير" ابتسم لها بإقتضاب وهو يضع ملابسها على الأريكة "الـ Dry Clean Service جابوها.. عاملة ايه دلوقتي؟ بقيتي أحسن؟!" سألها وهو بداخله يتمنى أن تتحسن كي يسرع بالعودة 

"يعني أحسن بس لسه جسمي كله مكسر وحاسة بدوخة" تحدثت بنبرة متعبة مزيفة

"ألف سلامة عليكي" نظر لها بتلقائية وابتسامة ودودة "تحبي أجيبلك الفطار لو مش قادرة تقومي ولا نفطر برا؟" 

"لا ممكن أقوم عشان بصراحة زهقت من قاعدة السرير.." أخبرته ثم ابتسمت له "أنت عارفني يعني يا سليم أنا مش بتاعة قاعدة خالص"

"أنتي هتقوليلي" هز رأسه في إنكار وتوسعت ابتسامته "لف لف لف.. مبتبطليش" أخبرها ثم نظر لها بمزاح لتضحك بخفوت يتلائم مع مرضها المُزيف بتمثيلها البارع

"أعمل ايه طيب.. مش أحسن ما ابقى كسلانة وقاعدة ساكتة وقافلة على نفسي اوضتي ومبعملش أي حاجة مفيدة!" أخبرته وهي تقصد بتلك الكلمات زينة ليتعجب سليم لبرهة عند استماعه لتلك الكلمات ولكنه فضل أن يغير مجرى الحديث بينما نهضت هي في بطئ

"تقدري نرجع النهاردة؟!" سألها وهما يتجهان للخارج سوياً ليتناولا الطعام 

"ممكن كده على آخر اليوم لو اتحسنت نسافر بليل.."

"ان شاء الله تكوني أحسن!" ابتسم لها بإقتضاب وجلس على المائدة التي وضع عليها الطعام مسبقاً

"ايه أخبار الدنيا هنا.. أنا بقالي يجي شهر مجيتش.. كله تمام في الموقع؟!" قررت أن تتجاذب أطراف الحديث معه وبدأت بالعمل

"آه تمام.. أنا عديت كده بسرعة على كل موقع شوية وكله ماشي كويس.. والحمد لله إن الخبر ده كان غلط وإلا كانت هتبقا مصيبة، الموقع اللي جنبنا الدنيا فيه معكوكة"

"أنا مش عارفة بس هتفضل لغاية امتى أنت اللي شايل كل حاجة" همست له بتأثر مُزيف "أنا عارفة يا سليم إن لولا وجودك جنبنا مكنتش فيه حاجة مشيت كويس.. وأنا والله بعمل اللي بقدر عليه ومبتأخرش.. بس صعب نلاحق كده لوحدنا على كل حاجة" نظرت له مُدعية الإرهاق لتتنهد 

"عارف يا أروى إنك شاطرة في الشغل.. وأكيد لو متابعناش كل حاجة بنفسنا الدنيا هتخرب وهتلاقي آلف مين بيسرق وبيطلع مصالح على حسابنا"

"كلامك صح" شردت وهي تمتم بكلماتها ولكنها انتهزتها فرصة لخططها الكريهة التي لا نهاية لها "بس المفروض تشد على زينة شوية.. هي بقت مسئولة عن المواقع، لازم كمهندسة تسافر هنا وهنا وتتابع كل حاجة وتنزل وتشوف الدنيا بعينها.. هي فين صحيح؟!" نظرت له بمكر مخفي وهي تدعي التلقائية

"كانت بتستلم المواقع مع شهاب والمفروض خلصوا امبارح" انزعجت ملامحه لمجرد إتيانه على ذكر اسمه لتنتهز أروى الفرصة عندما لاحظت تغير ملامحه 

"مش أنت قولت إنك عرفت عن شهاب حاجات مش كويسة؟!" تسائلت مُدعية التعجب وهي تضيق ما بين حاجبيها "ليه مبعتش أي مهندس تاني غيرها؟!" تظاهرت بالعفوية وهي تسأله بينما كانت الحقيقة أنها تريد أن تُغضبه من تصرفات زينة

"خلاص هي راحت واللي حصل حصل" اجابها بإنزعاج ولم يبادلها حتى النظرة بينما ترك الطعام من يداه 

"انا بس مش فاهمة زينة هتفضل لغاية امتى كده مش عايزة تسمع كلام حد.. أكيد بردو أنت فهمتها إنك عرفت حاجات مش كويسة عن شهاب" تنهدت في آسى مُزيف "دماغها الناشفة دي وعندها اللي مش بتبطله أبداً.. مفيش فايدة فيها خالص معرفش لغاية امتى كده هتفضل مبتسمعش كلام حد.. ولا حتى أنت ولا كأنها عاملالك لازمة.. ده احنا كلنا بنسمع كلامك واستحالة نـ.." 

"أروى!! قولت خلاص!" نظر لها نظرة مُحذرة اتقدت بنيران الغضب لتتدعي الحُزن بعد أن قاطعها

"فيه ايه يا سليم بتبصلي كده ليه؟ ما أنت عارف دماغها وطريقتها.. ده جزائي يعني إني بفضفضلك بالكلام وخايفة عليها وعلى شغلنا" ادعت البكاء وتأثر ملامحها "ليه بتعاملني كده؟ أنا ذنبي ايه طيب؟ هو أنا مهما حاولت بردو مفيش فايدة؟! ليه دايماً بتفهمني غلط وبتتعصب عليا!!" انهمرت من عيناها دموع التماسيح خاصتها ونكست رأسها للأسفل وهي تُفكر بداخلها، "مش زينة الزنانة أم دمعة قريبة هي اللي عاجباك أوي.. أستحمل بقا!" 

"أروى أنا مقصدش.. أنتي اللي كلامك نرفزني!" حدثها بأنفاس متعالية غضباً لتنظر له بأعين ماكرة احتضنت داخلها الحُزن الكاذب 

"نرفزتك عشان بقولك الحقيقة؟ عشان خايفة عليها وعلى شغلنا؟ أنت ليه مش عايز تقبل مني كلمة زي ما أكون عدوتك؟ أنا أكتر واحدة في إخواتي بخاف عليهم وبحبهم .. وأكتر واحدة في الشغل بسمع كلامك.. أنت ايه بقا حرام عليك.. ليه بتعمل فيا كل ده!! عشان يعني خالو وطنط نورسين مدلعين زينة من زمان فأنت بتسمع كلامهم؟ ولا عشان أنت وزينة أصحاب وقريبين من بعض بتعاملها هي معاملة وأنا معاملة؟! أنا غلطانة.. غلطانة إني بعاملك بإعتبار إنك الكبير اللي فينا وبقول للكل يسمع كلامك وباخد بالي من كل حاجة بتقول عليها وبنفذها.. الظاهر إن الكويس مبقاش بينفع معاك يا سليم!! أنا آسفة إني كلمتك بصراحة وأعتبرتك قريب مني.." نظرت له بآسى بعد أن صرخت به في حُرقة ليتضاعف غضبه هو الآخر بينما نهضت أمام عيناه وهي لا تزال تُزيف تحركاتها وهي تجهش بالبكاء وغادرت للداخل حيث غرفتها لتصفع الباب خلفها لتتوقف عن البُكاء تماماً وابتسمت في خبث لتتمتم 

"إن مجاش صالحني ميبقاش سليم الحنين!! أنا بقا هاشوف.. زينة العبيطة ولا أروى.. واديني مستنية.. احسن.. مش لازم نرجع دلوقتي واهي فرصة ابعده عنها!"



 

--

        

 

"أنتي اتجننتي ولا ايه؟!" صاح بدر الدين الذي دلف الغرفة مهرولاً عندما رآى هديل تصفع زينة التي نظرت لوالدتها في صدمة وكذلك فعلت نورسين 

"سيبني لو سمحت ومتدخلش.. أنا عمري ما اتدخلت في ربايتك لولادك.." التفتت له وشرار الغضب يتطاير من عيناها "وأنتي" صرخت بإبنتها بعدما أعادت نظرها لها "ايه البجاحة اللي أنتي فيها دي؟ مش أخوكي كلمك وقالك تروحي على البيت!! ايه اللي جابك هنا؟!" 

"هديل.." صاح بدر الدين بها وهو يرى تغيرات ملامح زينة أمامه 

"قولتلك بقا متدخلش .. ايه يا أخي بقا قرفتني في حياتي.. ما تبعد عننا وتسيبنا في حالنا بقا، ولا هو مفيش غيرك يعني اللي عنده ولاد!" نظرت له مجدداً وكاد بدر الدين أن يصفعها لما تقوله ولكنها التفتت لتجذب يد زينة لتتجه معها للخارج "قدامي يا هانم!!" 

"ماما أرجوكي استني بس هاخـ.."

"اخرسي مش عايزة اسمع صوتك.." صرخت لتقاطعها وهي تتجه بها للخارج

"حاجتي بس هاخدها" همست ودموعها تنهمر وهي تحاول أن توقفها "أنا حتى مش لابسة حاجة في رجلي" أخبرتها في توسل لتترك يدها على مضض..

"ثواني وتيجي.. أتفضلي" صاحت بها في غضب 

"هديل مينفعش اللي أنتي بتعمليه في البنت ده.. ومتنسيش إنك لغاية دلوقتي في بيتي!! تتعاملي بإحترام!" صاح بها في حزم وهو إلي الآن لا يريد إطلاق غضبه عليها 

"بيتك أنا سايباهولك اشبع بيه! لكن بنتي أعاملها بمزاجي.. مش أنت اللي هتعلمني يا بدر أربي ولادي ازاي!" 

"لأ أعلمك.. ما دام صغيرة ومش فاهمة أنتي بتعملي ايه يبقا واجبي أعلمك"

"طبعاً بدر بيه اللي شايف نفسه ملاك نازل من السما استحالة يغلط نفسه أبداً وبيدي لنفسه الحق إنه يتحكم في الكل.. أنا مش شاهندة يا بدر اللي هتيجي تضحك عليها بكلمتين.. مش أنا اللي هسيبلك بنتي زي ما هي سابتلك ابنها!! انسى!" احتد بينهما النقاش ليتعالى غضب بدر الدين 

"أنتي اتجننتي.. ايه الكلام اللي أنتي بتقوليه ده؟" صاحت نورسين ولم تعد تستطيع الإنتظار أكثر 

"خليكي على جنب أنتي كمان ومتقرفنيش"

"ما تتكلمي بإحترام يا هديل ولاحظي إني لسه ماسك نفسي قدامك.. كلمة زيادة ورد فعلي مش هيعجبك"

"لا تصدق خوفت!!" ابتسمت بتهكم ثم عادت نظرتها للجدية "أنا آخر مرة هقولهالك.. ولادي تبعد عنهم خالص.. لا زينة ولا غيرها" نظرت زينة لوالدتها في غير تصديق وهي تبكي بينما ملامح بدر الدين تحولت للغضب الشديد 

"ولادك!! على أساس إنك بتعامليهم كويس.. ده أنتي مبهدلاهم كلهم.. أكبري بقا واعقلي.. ولا عايزة تكوني نسخة من كريم!! صدقيني لو كان موجود لغاية دلوقتي مكنش أختلف عنك كتير" حدثها بصوته الرخيم بين أسنانه الملتحمة غضباً لتتوقف زينة عن البكاء في صدمة ولأول مرة يأتي خالها على ذكر والدها الحقيقي أمامها 

"زي كريم بقا ولا غيره مش بتاعتك.. أنا أربيهم زي ما أنا عايزة.." نظرت له بغضب ثم سلطت نظرها على زينة لتومأ لها "قدامي على بره" أخبرتها لتعود الدموع لعينتيها وهي بداخلها العديد من الصراعات المختلفة.

تلك المجادلة التي حدثت بين والدتها وخالها تعني أنه سيحرم عليها أن تزوره أو تكون بجانبه، وعودة والدتها لقسوتها معها معناها أن هناك معاناة جديدة من نوعها تنتظرها، وأما عن والدها الحقيقي فهي حقاً لا تعلم ما الذي يقصده بذلك!! أكان والدها سيئاً لهذا الحد معها هي وأخوتها؟! 

لا تدري كيف خرجت من منزل خالها وكيف دلفت السيارة، هي حقاً تستمع والدتها تصرخ بشيء ولكنها لا تستطيع إدراك كلماتها أثر عقلها المشوش بكثرة الأفكار..

"هو خالو كان يقصد ايه وهو بيقولك نسخة من كريم؟!" التفتت لوالدتها سائلة بعد أن عادت لأرض الواقع وكأن كل ما تكترث له هو ذلك الأمر

"شوف البجاحة!! بكلمها في ايه وتقولي ايه؟ ما تفوقي بقا من شغل الإستعباط اللي أنتي فيه.. فوقي شوية واعرفي مصلحتك فين.. بصي لأختك وشوفيها عاملة ازاي.. يا ريتك في نص ذكائها.. إنما كلمة تجيبك وكلمة توديكي زي الهبلة!! أكبري بقا" صرخت بها بحرقة لتنهمر دموع زينة أكثر

"كلمة تجيبني وكلمة توديني عشان محتاجة أعرف خالي يقصد ايه عن بابا؟ أنا من حقي أسأل عنه حتى لو أنتي مختلفة معاه بس في الأول وفي الآخر ده بابا.. حرام عليكي يا ماما أنا مش هبلة ولا غبية.. حرام عليكي الكلام السم اللي كل شوية بتسممي بيه بدني ده.. أنا تعبت بقا.. لا سايباني في حالي في البيت، ولا سايباني في حالي عند خالو؛ يوم ما بسافر مبتكلمنيش حتى تعرفي احوالي ايه ولا عايشة ازاي زي ما تكوني عايزة تخلصي مني.. عايزة بس تخليني أسمع كلامك حتى لو كرهاه أو مش موافقة عليه، أهم حاجة عايزة تتحكمي في كل اللي حواليكي حتى لو ده بيأذيهم.. أنتي ليه بتكرهيني كده؟ ليه مبتحبنيش؟ ليه بتحسيسيني اني اسوأ واحدة في أولادك؟ ليه مبيفرقش معاكي تهزئيني قدام الناس؟ من زمان وأنتي كده.. دايماً كل اللي عايزاه وبعمله غلط وكمان بتعاقبيني عليه.. مهما سمعت كلامك مفي فايدة.. أنتي ليه بتعملي معايا كل ده؟ بس أقولك، أنا هريحك مني خالص.. حاضر يا ماما هخلصك من أكتر حد بتكرهيه في حياتك!" صزخت وهي تبكي بهستيرية وفي لمح البصر فتحت باب السيارة أثناء قيادة والدتها لها

" وقفي العربية... وقفيها والا هرمي نفسي عشان أخلصك" صرخت مجدداً بعد أن فتحت الباب وكادت أن تصدم به احدى السيارات التي تسير بجانبهم لتوقف هديل السيارة بسرعة "أنا هبعد عنكم كلكم ومحدش هيعرف طريقي.. أنا هخلصكوا مني ومش عايزة أعرف حاجة عن حد" صرخت بوالدتها ثم صفعت باب السيارة وعبرت الطريق ثم أختفت عن عينا هديل أسفل عيناها لتشعر الأخرى بالذهول والصدمة تجاه كل ما يحدث وتركت ابنتها تغادر أسفل عينتاها المتقدتان بالغضب.

ألا تستطيع تلك الفتاة أن تكف عن غبائها أبداً، حماقتها اللاذعة لا تدعها ترى بين تلك السطور كل ما يحدث في كتيب الحياة حولها، إلي متى ستظل تتصرف تلك التصرفات؟ ألا يوجد رادع لكل ما تفعله من اندفاعات؟ لقد تركها سيف الدين بعد أن دللها كثيراً، هو من ساعدها كي تسافر بعد أن حصلت على تلك المنحة بألمانيا، نعم لقد رضخت له، ولكن ليس لبدر الدين، لن تدعه ليتحكم بكل شيء.. أيظن أن تمثيلية كبير العائلة تلك ستقع في براثن تصديقها؟! أيظن أنه مثلما نجح بالأمس في التحكم بكل مجريات أمور العائلة ستترك لها الفرصة ثانية؟! 

لقد تحملت، وتحملت، ولن تتحمل أكثر من ذلك.. لن تدعه ليتملك مستقبل تلك العائلة.. إذا ثابر هو من أجل تأسيس كيان لتلك العائلة فقد فعلت هي الأخرى.. لقد تركت أطفالها صغاراً، لقد كدت ولقد اجتهدت.. مثله تماماً.. أيريد الآن أن يحصل على كل شيء؟! أيريد أن يستقطب أبناءها تجاهه واحداً تلو الآخر.. هو يحلم إذن!!!

فكرت في حقد ثم انعطفت لتبحث عن ابنتها التي علمت أنه يتوجب عليها أن تعيد هيكلة رأسها العنيد هذا مرة أخرى.. ستجدها وستأتي بها.. ووقتها لن يوجد من يُفسدها عليها.. لن تترك أطفالها لأحد كي يتملكهم بدلاً منها.. ولن تترك كل ذلك الكيان التي رسمته منذ أعوام عدة لنفسها..




--

      

 

"انا بس مش فاهمة زينة هتفضل لغاية امتى كده مش عايزة تسمع كلام حد.. أكيد بردو أنت فهمتها إنك عرفت حاجات مش كويسة عن شهاب" 

"دماغها الناشفة دي وعندها اللي مش بتبطله أبداً.. مفيش فايدة فيها خالص معرفش لغاية امتى كده هتفضل مبتسمعش كلام حد.. ولا حتى أنت ولا كأنها عاملالك لازمة.. ده احنا كلنا بنسمع كلامك واستحالة نـ.." 

تذكر كلماتها منذ قليل وهو يخلل شعر في عصبية وهو لا يدري إلي متى ستظل تلك المقارنة بينهما، كلمات أروى لا تنتهي ومن لا يعرف زينة جيداً قد يقتنع تمام الإقتناع بتفكيرها ومنطقيتها.. فالنظر ظاهرياً إلي زينة قد يُلهم الجميع للحكم على زينة هكذا 

"زينة غيرنا، وعارفة إنها متدلعة أوي، وفعلاً هي مش بتعرف تتصرف وماشية بدماغها ومش بتحب تشارك حد في حاجة، ودايماً قرارتها غريبة ومش بتسمع كلام حد.. بكرة لما تعرف إن كان معاك حق هتندم، الكل عارف قد ايه أنت بتحبنا وبتخاف علينا وعايزنا كلنا نكون كويسين، هي لسة صُغيرة اوي ومش شايفة ده.. بكرة لما تفهم كلامك هتقدر عصبيتك.."

كما تذكر كلماتها أمس ليجن عقله من كثرة التفكير بكلمات أروى وتصرفات زينة، وخوفه الشديد على كلتاهما.. فقط مجرد تصور أن يجذب أحداهما كما فعل كميرال، كيف ستكون نهاية أحداهما؟ وحتى لو أخبر إياد أو والده كيف سينظرا لميرال؟ بالطبع سيسألاه كيف علم بهذا؟ ما هو دليله؟ لم يرى أحداً منهما كيف بكت تلك الفتاة، بالرغم من جرأتها الشديدة في الذهاب لمنزل رجل مرة واثنان، وبالرغم من اختيارها غير الصائب لعشق هذا الحقير، ولكن العشق يسيطر دائماً على الإنسان ليتركه يفعل كل ما كان بعيداً عن المنطق والعقل ملتهماً بطريقه العادات والتقاليد بل والأخلاق أيضاً..

أيستطيع سليم أن يهدد شهاب بذلك وفضح أمره؟ فكر بهذا ليبتسم بسخرية، حقير مثل ذلك الكائن لن يدع نفسه لتشوبه شائبة أمام الجميع، أين الدليل على اتهامه؟ وماذا لو هدده، ألن ينفذ هو الآخر تهديده حو ميرال؟ والدها ومركزه الإجتماعي وسمعة عائلتها بأكملها قد تتدمر وستنهار حياتهم!! وأين الحُجة التي يملكها كي يبعده عن الجميع؟ يتوارى في صورة رجل الأعمال الشاب الطموح المجتهد هو وأبيه بما يملكه، يتخفى في دور ابن العم الذي يريد الإقتراب من أقاربه، يتعامل بحذر وإكتراث شديدان ويستطيع حتى التحكم بملامحه، رجل كهذا لن يكون التعامل معه سهلاً أبداً..

يُريد رجل على نفس المستوى من الحقارة القذرة والخطط التي تحاك بأنياب أفعى مسمومة كي يوقعه في فخ لا يستطيع القيام منه، ولكن هذا ليس أنا!!

 

فكر سليم ليزفر ووصد عيناه في آلم وهو يتذكر حفنة الذكريات القليلة التي تركتها له ليلي والدته، رسخت بداخله الرجل الشهم، الذي يتخذ من الجميع أصدقاء وأشقاء، علمته كيف يمزح، نقلت له تلك الإبتسامة المرحة وذلك الذكاء الإجتماعي بدمائها التي تسري بعروقه، أخبرته كيف يقترب ويعتني من والده ويتخذه صديقاً بدلاً من أب.. وقد نجحت بكل ذلك.. ولكن لم ترسخ بداخله ذلك الخبث والتفكير الماكر والدهاء ليوقع من أمامه بهوة عميقة لا نهاية لها..

 

شعر أنه يكاد يفقد عقله من كثرة التفكير بهذا الحقير، لقد سأم التفكير به، يشعر وكأنه كالمشلول كلما فكر أن زينة أو أروى قد تتعرضا للأذية على يداه.. أين ابتسامته ومرحه وإقترابه من الجميع؟ لقد أصبح طوال الوقت قليل الحيلة، عابساً، غاضباً، يصب مشاعر الخوف بإنفعال على الجميع.. هذا ليس الرجل الذي ربته ليلى، ولا ذلك الشبل الذي ترعرع في عرين بدر الدين الخولي!! يعلم أنه يحتاجه، يعلم أنه يريد أن يقص عليه الكثير والكثير من كل ما عرفه من ميرال، نعم!! ليس هناك ضرر من طلب المساعدة.. الكل يأتي على ذكر دهاء والده وذكاءه وتصرفه بحكمة في العديد من الأمور!!

 

ود أنه لو تصرف دون مساعدة منه حتى يشبهه تماماً ولكن عليه أن يتركه تلك المرة ليتصرف، لا ضرر من طلب المساعدة عندما نحتاج لها، أليس هو صديقه قبل والده؟ أليس و كبير العائلة الذي يلجأ له الجميع؟ أليس هو أقرب شخص له على وجه الأرض؟ لا ضرر إذن من التحدث معه والبحث بمساعدته عن حل لتلك الكارثة التي قد تحدث في لمح البصر..

تنهد وهو يومأ برأسه، حل هذا الحقير هو صُنع مكيدة وحيلة لا يستطيع الخلاص منها ولو بعد سنوات حتى يبتعد عن الجميع ويتركهم وشأنهم.. سيقترح على أبيه أحدى الأفكار التي آتت على عقله لربما يدعمه أو لربما يخبره بما سيترتب عليها .. سيهاتفه أولاً، لقد أشتاق للتحدث معه على كل حال، حتى مزاحهم أشتاق له 

"أيه يا بدر باشا.. فرحان إني مطرقك ومفضيلك الجو.. طب أسأل على ابنك ضناك طيب"

 

 تحدث بهاتفه وهو يحاول استدعاء المرح لنبرته وتناسى كل تلك العواصف التي تدور بذهنه

"ازيك يا سليم" آتاه صوت بدر الدين ليدرك أن نبرته ليست على ما يرام 

"مالك يا بابا فيه ايه؟ أنت كويس؟" سأله بجدية 

"تمام" اجابه مجدداً بإقتضاب

"بابا صوتك مش كويس.. فيه ايه؟!" سأله مجدداً بلهفة ليطول صمت بدر الدين وهو بالكاد يمنع نفسه بأعجوبة عن الغضب الذي لو تركه ليتحكم به لن يصبح سوى ذلك الرجل بالروح القاتمة المظلمة التي اعتادها منذ زمن 

 

"سليم أقفل دلوقتي" صاح بدر الدين بين أسنانه الملتحمة ليحاول تمالك غضبه 

"مش قافل غير لما تقول فيه ايه!!" أعترض الآخر بنبرة منزعجة منفعلة ليزفر بدر الدين حانقاً وصرخ مجيباً

 

"هديل جت وضربت زينة قدامي وخدتها ومشيت، وأنا لو كنت اتكلمت كنت هامسكها أموتها، وكمان ضايقت نورسين بالكلام!! عرفت فيه ايه؟ اديني قولتلك، اتفضل بقا سيبني واقـ.."

 

وجد بدر الدين المكالمة تنتهي لينظر بالهاتف بعدما أخفضه من على أذنه ليحاول الإتصال بسليم ولكنه وجد هاتفه غير متاح!!

"أروى.." ناداها بمنتهى الغضب بعد أن هرول نحو غرفتها وهو بنفس الوقت يطرق الباب 

"لا يا سليم أنا لسه زعـ.." تحدثت وهي تتصنع البكاء ظناً منها أنه قد آتى ليُحدثها ولكنه قاطعها 

"قدامك خمس دقايق.. لو مجتيش وسافرتي معايا هسيبك هنا.. أنا مستني في العربية" حدثها بحزم غاضباً ثم توجه بخطوات سريعة حيث السيارة وقد نظر بساعته ليشرع في انتظار تلك الخمس دقائق!!



--


      

"إلي متى ستكرهني والدتي؟ إلي متى سأظل الطفلة الصغير غير الذكية بنظرها؟ لماذا تريد أن تراني في معاناة دائمة؟ أرى ذلك الرضاء اللانهائي بعنتيها كلما رآتني أبكي.. أهذا كل ما تريده حقاً؟!

لماذا فعلت ذلك؟ لأنني مكثت عن خالي.. أخيها؟ ليوم واحد فقط؟ وما الجديد إذن؟! أنا حتى أتذكر ذكريات كثيرة ببيت خالي، طفولة بأكملها معه هو وزوجته، صحبة دائمة من سليم.. أتذكر حتى أن تلك القيم والأخلاق تعلمتها ببيت خالي وليس بيت والدتي ووالدي!

أين كانا هما على كل حال؟! كانت والدتي دائماً مُرهقة من كثرة العمل؟ دائماً منشغلة؟ دائماً تصرخ على الجميع لإعطائها جواً هادئاً تستطيع العمل به؟ 

وأين كان والدي سيف الدين؟ كان يتبعها.. بالعمل، بالمنزل، بواجبات اجتماعية قليلة، وأحياناً يواسي الجميع ويبحث عن حلول وسطية ليراضيها ويراضي الجميع..

صديقي الأسود ها أنا أقرر.. لن تتحكم بي والدتي بعد الآن.. أليست هي قوية الشخصية؟ التي لا تتقبل الرفض.. إذن فليرى الجميع أنني ابنتها.. تلك الشخصية التي يظنها الجميع ساذجة وغبية ستصبح قوية.. تلك التي تقول نعم وتوافق بهدوء ستقول لا وآلف لا!! 

لن أترك عينتاي لتذرفا الدموع، لن أدع صراخها يعبث بعقلي.. سأكون أينما أود أن أكون.. وسأفعل ما أريد فعله.. ولن يمنعني ولن يوقفني أحد أبداً عما أنتويه!

رفيق تعاستي وبكاءي ستظل أنت الوحيد منذ الآن فصاعداً من يرى دموعي.. أما الآخرين فلن أسمح لهم برؤية ضعفي أكثر من هذا! أعترف لك بهذا لأنني أبكي وأنا أخط كلماتي بسطورك ولكن ستكون أنت الوحيد من أبوح له وأكتم بين سطوره تلك الدمعات التي تخفف جزءاً ضئيلاً من حزني..

ها أنا أعود لكوني غريبة مثلما كنت طيلة خمس سنوات.. لنجعلهم ستة سنوات.. أو أكثر.. أو لربما تلك ستكون حياتي..

لقد حاولت أن أتقبل الجميع دون عناد، دون مجادلات ومناقشات، ولكن أنظر لي وأخبرني ما الذي تغير.. لا شيء يتحسن ولا حتى أنا!

دعني أحملك حتى نذهب سوياً في تلك الرحلة المؤلمة، ستكون لي ملاذي، وسأكون أنا ملجأك ولن نترك أحداً ليتحكم بنا.. 

لن تخبرني مجدداً بأن أكون هادئة، أن أبتسم وأمرح وأعود لتلك الفتاة الصغيرة البائسة التي يتحكم بها الجميع، لن أستمع لك ولن أصبح ضعيفة مرة أخرى.. لقد حاولت مرة وأنت تراني الآن جالسة كالمشردة بأحدى المقاهي بالصباح، أبكي كالبلهاء على قسوة أمي معي ولكن أعدك لن أكون تلك الحمقاء مرة أخرى..

"سأعمل جاهدة منذ الآن على أن أصبح زينة الغريبة التي لا يتقبلها الجميع.. وسأحيط نفسي مجدداً بتلك الهالة التي تمنع الجميع من الإقتراب، حتى لو أنني سأعاني كل يوم معك، ولكن وحدي أنا وأنت أفضل بكثير من أن أكون ضعيفة أمام الجميـ.."

أهتز هاتفها وكادت أن توصده ظناً منها أنها والدتها أو احدى أخواتها ولكنها فوجئت بشهاب يهاتفها فأجابته بهدوء لاذع ولكن صوتها لا يزال يحمل آثار البكاء.. ولكنها لن تظهر بمظهر الضعيفة مثلما وعدت نفسها، لن تبكي أمامه، ولن تدع أحد ليشفق عليها!!

"أيوة يا شهاب.." أجابت مكالمته بأنفاس مشتتة بين شهقات بكائها التي كادت أن تندثر بطيات عتمة قلبها الذي يبدو وكأنه لن يرى ولو بصيصاً من الضوء بهذه الحياة أبداً..

 

 

--

 


  

لقد سأمت البحث عن تلك الطفلة العنيدة التي تشابه أباها تماماً في الإختفاء بمنتهى البراعة، ساعتان بأكملهما من البحث عنها!! إلي أين ذهبت تلك الغبية البلهاء؟! 

فكرت وقد تآكلها الغضب مما تفعله.. لن تكون كنسخة من والدها، ولن تتكرها لتصبح واحدة، أتظن بتفوقها الدراسي وسهولة تعاملها مع الجميع سوى أُسرتها، وشخصيتها تلك التي تشابه كريم ستتركها لتكون مثله؟! 

لن تنتظر لتجدها تتفوق عليهم، مكرها الذي تظن أنها تبرع به واختفاءها خلف صورة الفتاة الصغيرة الطيبة سلسة المعشر تفهمهما جيداً.. لقد انطلى ذلك عليها مرة واحدة فقط .. ولن تتركها لتتمادى حتى تصبح نسخة من والدها!

ابتسمت بتهكم عندما تذكرت تشبيه بدر الدين لها بأنها نسخة من كريم!! ألا يرى أن ابنته تشابهه بكل شيء؟ حتى الشبه والملامح والشخصية وذلك الإنطلاق والوجه الذي تنبعث منه الطاقة والحيوية؟ ألا يرى حتى أنها تمشي مثله؟ ألا يرى إماءتها وهي تتحدث مثله؟ 

"غبي.. غبي ومش شايف الحقيقة.. هي اللي نسخة منه مش أنا يا بدر.. ومش هاسيبها تسيطر على كل حاجة .. فاكرة أنها هتنجح لوحدها وعايزة تدوسني أنا وأخواتها زي ما أبوها عمل في أهله زمان .. فاكرة لما تقرب منك هتعرف تتحكم في كل حاجة .. فاكرة بشوية العياط إني هصدقها .. لو أنت صدقتها تبقى غبي .. مش شايف قد ايه انها نسخة من كريم .. مش شايف إنها هي اللي بتحاول تلعب في دماغك مش أنت اللي بتلعب في دماغها .. يمكن تقدر على إياد، يمكن تقدر حتى على أروى .. إنما زينة!! استحالة!! لو محدش وقفلها هتطيح بالظبط زي ما أبوها عمل.. وأنا مش هاسيبها ولا هاسيبك.. صحيح!! مش غريب إن أنت اللي عرفت تتصرف مع كريم، ولا غريبة إن زينة قريبة منكم.. يمكن أنتو التلاتة شبه بعض.. بس ماشي يا زينة، واستناني يا بدر.. إن مدمرتلكوش كل اللي بتفكره فيه مبقاش أنا هديل!!"

فكرت ثم توجهت للعودة لمنزل نجوى حتى تجتمع بكلاً من إياد وعاصم!! لن تترك تلك الفتاة لتفعل ما برأسها.. كم أنها تظن بغباءها أنها ذكية.. للتو أنشغل سليم عنها بسفره لتتجه فوراً لبدر الدين.. ستريها أن كلاً من بدر الدين وابنه لا يملكان ولو ذرة مما تستطيع هديل فعله..

تآكلتها الأفكار كثيراً وأخذت تُفكر أثناء عودتها للمنزل بما عليها فعله مع تلك الفتاة، لتعود مجدداً وتخبر نفسها أنها لو مثل أروى لما كانت هي بذلك الوضع!! تلك الفتاة الذكية التي تكترث لأخواتها وتعمل ليلاً نهاراً بكل الطرق حتى لا يذهب مجهود والديها سُدى.. زفرت في إرهاق شديد وهي تدلف من بوابة المنزل الرئيسية وبداخلها أقسمت أنها لو رآت زينة أمامها ستقتلها غضباً على تلك الطريقة التي تركتها بها وذهبت..

دلفت المنزل بعد أن صفت سيارتها أمام باب المنزل دون إكتراث في همجية شديدة ودلفت لترى كلاً من عاصم وإياد كادا يتجهان للخارج لتنظر لكلاً منهما بحزم وجدية 

"شوفولي أختكوا راحت فين!! وملكوش رجوع إلا لو هي معاكم.. الحيوانة فتحت باب العربية وهي ماشية ونزلت زي المجنونة!! اتصرفوا وشفوها في انهي داهية!" توسعت عينا إياد في تعجب وخوف عليها بينما نظر لها عاصم في إندهاش

"ماما أنتوا اتخانقتوا؟!" سألها إياد مضيقاً عيناه وهو يبحث بوجه والدته عن الحقيقة، فهو يعلم جيداً أن زينة لن تتجرأ على فعل ذلك إلا بسبب مجادلة لا نهاية لها مع والدته 

"الهانم لازقة في بيت خالك.. عشان جبتها قال ايه يا عيني أعصابها مش مستحملة.. أتفضل روح شوفها فين!!" استمعت شاهندة لتلك النبرة التي صاحت بها أختها لتشعر بالقلق على ابنة أختها، كيف لزينة أن تتركها هكذا بتلك الخطورة لتعلم أنه حدث شيئاً بالتأكيد بمنزل بدر الدين ولربما عادت زينة له لتتوجه على الفور لتهاتف نورسين قبل أن تتحدث لهديل! فهي تعلم أن الحديث معها لن يكون جيداً أبداً ولن تخرج منه بمساعدة تُذكر لمعرفة أين ذهبت زينة!! 

 

--

 

 

"عينيكي باين عليها، كل السجاير المحروقة اللي قدامك دي.. مش عايزة بردو تقوليلي مالك؟!" حدثها شهاب بنبرة هادئة وهو يتمعن بكلتا بنيتيه بملامحها وخاصة زرقاوتيها التي تحاول أن تخفيهما بعيداً عن عينتيه كما أنها تُجاهد بشدة حتى تستطيع منع دمعات عيناها عن الهطول المباغت على وجنتيها.. فلقد قررت منذ ثوانٍ وأخذت على نفسها عهداً ألا تدع ضعفها على مرأى من الجميع "اتخانقتي بس مع مين يا زينة؟ ولا مش حاسة إن أنا الشخص اللي عايزة تحكيله؟!" سألها مجدداً لتتلاقى هي مع بنيتاه بزرقاوتين متمردتين وقد قرأهما شهاب بسهولة 

"لو جايلي عشان تقعد معايا فاديني اهو قاعدة معاك.. ولو جايلي عشان تعرف تفاصيل عن حياتي فملهاش لازمة.. ممكن تقوم تمشي! أنا مش محتاجة اللي يواسيني.. وأظن إن أنا كبيرة كفاية إني أكون لوحدي.. اتفضل امشي لو عايز!" اجابته بنبرة متمردة لاذعة تمتلئ بحرقة الغضب ثم أشاحت بنظرها بعيداً عن عينتيه، وحسناً؛ لم يكن يتوقع ذلك الرد منها ولكنه علم أنها تود الهروب من الأمر، ومن الجميع.. لقد رآها لا تجيب على هاتفها أكثر من مرة وتركته بلا إكتراث.. ولكنه لديه الحل لتلك الصغيرة

"طب بقولك ايه! تحبي تغيري جو وتسافري؟!" نظر لها تلك النظرة التي لطالما نظر بها لواحدة فقط على وجه الأرض ولأول مرة يشعر أنه أحتاج للإقتراب من فتاة أخرى مجدداً بعد سنواتٍ عديدة.. ظل ناظراً لها منتظراً اجابة من تلك الزرقاوتان المتمردتان لتأخذ هي شهيقاً وتريثت لبرهة ثم زمت شفتيها وغرقت بالتفكير "انسي كل المشاكل، والدراسة، وقرايبك.. كام يوم تغيري فيهم جو مش هيضروكي في حاجة!" اقترح عليها مجدداً بخبث لم يتضح منه ولو ذرة وأستطاع أن يُخفيه ببراعة لتزفر هي بعمق ثم نظرت له 

"بس نسافر دلوقتي حالاً!!" أخبرته ليلمح الجنون الخالص بتلك الزرقاوتان

"يالا بينا!" ابتسم لها بإقتضاب لينهضا سوياً وجمعا أشياءهما ليهتز هاتفها مجدداً ليقرأ شهاب اسم سليم على شاشة هاتفها فأنهى المكالمة مُسرعاً ثم أغلقه تماماً لتنظر له زينة في تعجب وبإندفاعية شديدة صاحت به 

"ايه ده، ازاي تعمل كده؟ افرض كنـ.."

"هنبعد عن كل المشاكل يا زينة.. كل الناس.. هنغير جو" قاطعها وهو ينظر لها بتصميم لتتنهد هي ونظرت له في حيرة 

"أنت كمان أقفل موبايلك!" عقدت ذراعيها في تحفز ليرفع حاجباه في اندهاش شديد وابتسم لها 

"اقفليه أنتي.." اعطاه هاتفها لتتسلل الإبتسامة لشفتيها ثم تناولته من يده التي قدم لها بها هاتفه لتوصده تماماً واتجها سوياً نحو وجهة غير معلومة بالنسبة لها، أما هو فعلم إلي أين سيذهب بتلك الصغيرة جيداً..

لا، لن يتدخل بهذا العراك الدائم بين أخيه ووالدته، ولن يبحث عن تلك الصغيرة.. يكفيه سنوات من استماعه لصياحهما سوياً .. سيذهب لأصدقاءه .. لن يتواجد بالعمل نهائياً اليوم وسيدعي بأنه يبحث عن أخته مثلما فعلت هديل..

ماذا حصل على إتباعه لأوامر والدته طوال تلك الأعوام؟ نفس الصرخات ونفس المشاحنات ونفس هذا السيناريو الذي أصبح محفوظاً عن ظهر قلب.. ولن يُرهق هو نفسه بالمثابرة..

في نهاية اليوم يتركها إياد ويذهب، وتدلف أروى غرفتها، وزينة ينتهي بها الحال بمنزل خالهم بدر الدين، وآسر غائباً دائماً.. حتى سيف الدين أصبح غير موجود!! ويأتي سليم بالنهاية ليُفرض سيطرته بطريقته المازحة مع الجميع..

لقد سأم تلك الحلقات المكررة والمشابهة، ولن يقف ليستمع لهم على كل حال.. فلقد حاول كثيراً وفشل وليس هناك جديد بأحوال تلك العائلة بل ولن يحصل على أية شيء سوى المزيد من المجادلات..

فكر عاصم وهو يقود سيارته دون وجهة محددة ليطرد جميع تلك الأفكار عن رأسه، فبالنهاية سيتدخل أحد غيره وستعود زينة.. مد يده لهاتفه كي يرى أين تجمع أصدقاءه اليوم للذهاب إليهم ولم يعد يكترث بما ستفعل والدته حتى لو علمت أنه لم يبحث عن زينة..

ألقى هاتفه بمؤخرة السيارة عندما لم تجبه زينة بمنتهى الغضب ونظرت له أروى في تعجب شديد بل وخوف، هي تعلم أنه يصرخ وهو غاضب، يلقي بتعليمات وأوامر على كل من حوله ولكن هدوءه المصاحب لغضبه بتلك الطريقة جعلها تُفكر آلف مرة قبل أن تُخرج ولو كلمة واحدة من شفتيها!!

"سليم اهدى بس و.." توقفت من تلقاء نفسها وهي تبتلع في وجل عندما نظر لها بتلك الطريقة ليزجرها عن متابعة كلماتها لتبتعد عن عينتيه القاتمتين اللتان أنهال منهم جحيم الغضب ولم تجد سوى الإنتظار حتى تستطيع معرفة لماذا غادر بمثل تلك السرعة وظل يقود بتلك الجنونية..

"يا ترى ايه يعني اللي هيكون حصل خلاه يعمل كده؟!! ده أنا حتى مش عارفة أكلم مامي وأكيد لو بعتلها message ممكن ياخد باله!!" فكرت بداخلها وهي تحاول معرفة سبب تلك العصبية المبالغ بها "يكون مثلاً حاجة حصلت بين شهاب وزينة عشان كده اتعصب؟ ما هو بردو قال إن شهاب مش كويس... وبعدين شهاب ده كمان وراه ايه؟! أنا لازم أعرف!!" تنهدت وهي تستكمل فكرها "بس ممكن تكون مكالمتي لمامي امبارح بليل هي السبب مثلاً.. بس بردو استحالة مامي تقول لحد إني كلمتها وقولتلها على حاجة.. هي مش هاتعمل كده أبداً.. ولا تكـ.." قاطع تفكيرها تلك المعالم التي دلت أنهما يتجهان لمنزل نجوى والتي تمكث به كلاً من هديل وشاهندة وأولادهما لتلمح سليم بجانبها بطرف عينيها وقد أدركت أنها ستعرف السبب الآن!!

"بصي يا شاهي مفيش حل غير إنك تكلميها بهدوء.. أنتي عارفة هديل، العصبية معاها ملهاش لازمة" تحدث حمزة بهدوء وآسى لتلك التفاصيل التي أستمع لها وقد قصتها شاهندة زوجته عليه منذ قليل

"أنا مش مصدقة.. هي هتفضل كده لغاية امتى؟ ده بدر مسابش حد إلا ووقف جنبه.. حرام عليها اللي عملته فيه هو ومراته، وزينة.. زينة ذنبها ايه في كل اللي بيحصل ده؟ وإياد يا عيني اللي عمال يتخانق معاها تحت.. حرام عليها اللي بتعمله في ولادها ده" أخبرته بآسى وشارفت على البكاء

"معلش يا حبيبتي أنتي فاهمة دماغ هديل و.."

"طب حمزة سلام دلوقتي.. فيه خبط على الباب مش طبيعي" أنهت شاهندة مكالمتها مع حمزة مسرعة عندما سمعت تلك الطرقات على باب منزلهم وكأنما المنزل بأكمله سينهار إثراً لتلك الطرقات ولا تزال في ذهول تام بعد معرفة تفاصيل ما حدث بمنزل بدر الدين من قليل وهرولت للأسفل لترى أهذا بدر الدين أم زينة أم أحداً غيرهما.. 

"بدر.. أنت هنا؟" دلفت نورسين غرفة المكتب بمنزلهما وهي تبحث عنه لتجد الغرفة مظلمة تماماً 

"امشي وسيبيني لوحدي يا نورسين" صاح بنبرة جامدة لتتنهد هي وبالكاد أوقفت نفسها عن البكاء.. فكل ما قصته على شاهندة لم يكن سهلاً أبداً أن تتفوه بتلك الإهانات التي وُجهت لها ولزوجها..

"بس يا بدر أنا كنت هاقولـ.."

"بقولك ايه بقا.. لما أقول امشي يبقا تمشي" قابلها بسوداوتيه المُرعبتان لتُذكرها بذلك الرجل الذي آتى مباشرة من تلك الغرفة بأسفل منزله القديم لتبتلع في خوف ونظرت في حُزن وعدم تصديق لتلك القبضة على ذراعها ثم أعادت زرقاوتيها الممتلئتين بالدموع لقاتمتيه وهي تنظر له بلوم شديد "أرجوكي.. أرجوكي متضطرنيش أعمل حاجة متعجبكيش.. أطلعي برا يا نورسين لو سمحتي" صاح بمنتهى الغضب الذي كتمه بصعوبة شديدة لينعكس على فكان ألتحما غضباً وملامح صارمة لم يتحول لها وجهه منذ ما يقارب أعواماً عديدة ظنت أنها أنتهت للأبد ولمحته لمرة أخيرة وهو يُخفض قبضته عنها ثم تركها خلفه وتوجه مبتعداً لتنهمر هي دموعها في حُزن على كل ما يحدث..

 

يُتبع..