-->

الفصل السادس : الفصل العاشر - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل



الفصل السادس

 

"تحبي تفطري ايه؟!" تسائل إياد بابتسامة بينما لاحت عيناه بين قائمة الطعام مرة وبين عيناها العسليتان مرة أخرى لتتنهد هي ونظرت له باستفسار ممزوجاً بالجدية بعد أن رفعت نظرها عن كتابها لتتلاقى أعينهما

"إياد أنا مش جاية هنا علشان أفطر، أنا عندي حاجات كتيرة ولازم أخلصها!" أخبرته بهدوء ثم أعادت نظرها مرة أخرى لكتابها

"أكيد أكيد" حمحم بجدية وتفقدها لثوانٍ ثم أكمل "بس يعني لسه اليوم طويل واحنا لسه بدري.. افطري الأول وبعدين كملي مذاكرة براحتك" حاول الابتسام مجدداً لتنظر له بعد أن زفرت في ضيق

"لو سمحت، أنا جاية هنا عشان ابعد عن دوشة البيت، وقت ما أحب آكل هابقا آكل، ممكن متشغلش نفسك بيا خالص وتسكت عشان أعرف أركز" حدثته بجدية شديدة ليشعر هو بالإهانة من كلماتها تلك وكأنما يجبرها لفعل شيء ما ولكنه لن يتقبل تلك الطريقة التي تتحدث هي بها بتلك السهولة 

"وأنا جاي هنا عشان اقعد معاكي!! وهتفطري!! ومش عايز نقاش!" أخبرها كذلك بمنتهى الهدوء والجدية ولم تبارح عيناه قائمة الطعام بينما هي نظرت له في غرابة ودهشة من طريقة حديثه فهي لم تسمعه من قبل يتحدث بتلك النبرة فلطالما عهدته ليناً هادئاً ولكن كلماته تلك كانت جديدة عليها للغاية

"أنت ايه الأسلوب اللي بتتكلم بيه ده يا إياد؟! معلش أنا آسفة بس مش هاسمحلك تكلمني بالطريقة دي!" حدثته بنبرة محتجة على كلماته السابقة ليرفع هو رأسه باحثاً بعيناه عن النادل ليطلب لهما الطعام دون الإكتراث لرأيها وما أن أشار للنادل حتى ازداد تعجبها واندهاشها وتريثت لترى ماذا هو فاعل وعقدت ذراعيها بعد أن ألقت بقلمها على المنضدة ونظرت له بجدية وتعالت أنفاسها الغاضبة عندما سمعته يقوم بالطلب بدلاً منها وانتظرت حتى أصبحا وحدهما لتسأله في إنزعاج "ممكن أفهم ايه اللي أنت عملته ده دلوقتي؟!" 

"أنا هافهمك حالاً.. لأني بصراحة يا أسما مش هاقدر أسكت أكتر من كده" ضيقت حاجبيها وهي تتفحصه في اهتمام لحديثه الغريب الذي شعرت أنه ورائه أمراً هاماً خاصةً وأن إياد كان منفعلاً على غير العادة، لذا قررت أن تترك له الفرصة للحديث وظلت تنظر له بينما تفقد عيناها لبرهة وابتلع ثم شرع بالحديث مرة أخرى ليخبرها عن كل مشاعره تجاهها.

 

--

 

   

"يعني ايه ماخدش قرار غير لما أرجعلك.. امال ايه لازمة إن أنا مديرة والمفروض مسئولة عن أقسام! مش فاهماك بصراحة" صاحت زينة بنبرة عالية نوعاً ما بوجه سليم 

"أنا اللي مش فاهمك، أنا مش شايف حاجة صعبة في كلامي، محدش بياخد هنا خطوة أو قرار من غير ما يرجعلي" كره منذ أن دلفا مكتبه وهما يتجادلان بتلك الطريقة وكأنهما أصبحا ألد عدوان بالتاريخ فنهض واضعاً يداه بجيبيه في منتهى الشموخ ووجه لها ظهره ولكنه في حقيقة الأمر كان يتجاهلها ويحاول تجاهل نظراتها المنزعجة بسببه، فهو آخر شخصاً على وجه الأرض يريد أن يراها غاضبة أو حزينة بسببه ولكن هو لم ولن يتهاون بخصوص العمل أبداً.

جُن عقلها تماماً من اختلافه الشديد معها، حتى أنها أعادت كل تصرفاتها وكل ما فعلته معه منذ الصباح بل منذ ليلة أمس حتى ترى ما سبب صلابته في التعامل بتلك الطريقة، لقد ظنت أنها أخطأت بحقه لذا أخذت تراجع كل ما بدر منها تجاهه!

لقد عادت مستاءة من حديث والدتها، نعم لقد بالغت قليلاً في انفعالها، ولكنه صعد لغرفتها وعانقها بتلك الطريقة الغريبة تماماً، ومنذ ذلك الوقت إلى وصولهما الشركة لم تنفعل ولم تبالغ بشيء، لذا ما الذي وراء معاملته لها بتلك الطريقة؟! من هذا الذي يقف أمامها؟ أهو سليم ابن خالها الذي لطالما كان ضاحكاً مبتسماً بنظرته تلك التي تعكس متعة الحياة، أم هو شخص قاس لا يعرف الرحمة، أم هو ذلك الحنون الذي ضمها إليه عندما لاحظ أنها ليست بخير؟!

"اتفضلي قدامك لسه ربع ساعة على ما الـ Meeting يـ.."

"لا بس أنا مش هاقبل أتعامل بالطريقة دي يا سليم" قاطعته بحدة، أياً كان من يقف أمامها هي لن تقبل أن يُفرض عليها شيء أبداً، وبنفس الحين نظر هو لها نظرة أخافتها بالفعل! ترى تحرك كفيه من عصبيته البالغة التي عبر عنها بسحقه لأسنانه، أختلفت ملامحه عن سليم الذي تعرفه، لا تدري لماذا يفعل كل ذلك فهي لا تفهم بعد!!

ود أن ينتهي من ذلك الصمت العجيب والتفت لينهي اجتماعهما ولكنها حتى لم تدع له الفرصة لقول شيئاً.. قاطعته، مرة ثانية، منذ أن آتت لهنا، وتناديه بإسمه مجدداً، أتناست ما أملاه عليها؟ أتتصنع الغباء يا تُرى؟ أم أنها لاحظت كم يعشقها لذا تتدلل؟ لا يسمح لأحد بهذا وحتى لو زينة نفسها فهو لن يسمح لها أن تتعامل معه بتلك الطريقة، عليها تعرف بالطريقة السهلة التي رفضتها من الواضح، أو بالطريقة الصعبة، أنه هنا المسئول عن كل أمر كبيراً كان أم صغيراً!

"لا أنتي باينك ناوية تخليني أتعامل معاكي بعصبية، مش قولت فيه ألقاب؟ ومش قولت متقاطعنيش؟!" صرخ بها وبالرغم من اندفاع كتفيها بغتة للهجته القاسية ولكنها نهضت وواجهته بمنتهى الجرأة والتحدي

"وتتعامل معايا بعصبية ليه؟ أنا مش فاهمة ايه جو الألقاب والهبل ده، ولو مش عاجبك إني آخد قراراتي بنفسي وأكون مسئولة عن اللي شغالين في الأقسام اللي هاكون مديرة عليها فممكن تدورلك على حد تاني، يا إما ليه أصلاً من الأول قبلت إنك تعين حد مسئول.. واضح إني ضيعت وقتي فعلاً.. ووقتك" همست كلمتها الأخيرة بلهجة استفزازية للغاية مما آثار حنقه أكثر وكادت أن تغادر ولكنه أوقفها جاذباً ذراعها في قوة ليلحقا حاجبيها في دهشة "ايه ده أنت بتعمل ايه؟!" تحدثت غير متقبلة لمسكته تلك على ذراعها

"اسمعي كلامي كويس وافهميه، مش أنا اللي هتعامل بالطريقة دي، ولا هاقبل حد لسه معندوش خبرة ولا احتك بشغل قبل كده في حياته انه ياخد قرارات، لما تبقي الأول تثبتي جدارتك ساعتها ممكن اديكي صلاحيات بحدود، إنما أنتي عايزة من أول يوم تبقي مديرة بالساهل كده؟! اوعي تكوني فاكرة إننا عشان قرايب والشركة شركتنا فخلاص بقا نقلبها سلطة.. أنا معنديش في الشغل تهاون، يا تحافظي على التعامل بحدود وإحترام يا إما متلزمنيش، حركات الدلع مبتنفعش معايا ولا القرابة وكل حاجة ليها حسابها، ولو مش عاجبك ممكن تتفضلي برا!" صاح بها بإنفعال وهو ينظر لها بتلك النظرات الجامدة التي انهال منها نيران غضبه بينما زرقاويتيها لم تعد تصدق أن هذا سليم بل ويحدثها بتلك العصبية من بين أسنانه المتلاحمة ويقبض على ذراعها بعنف..

"ابعد ايدك عني.. احترام ايه وحدود اللي بتتكلم عنها وأنت ماسكني وبتتعامل بالأسلوب ده، فكرك بطريقتك دي هاكمل هنا ثانية واحدة.. حاسب من وشي" صرخت بوجهه بعينتين متسعتين دهشة وغضب بآن واحد وزاد هو من سحق أسنانه وتعالت أنفاسه الغاضبة حتى شعرت هي بانعكاسها على وجهها وحاولت الإفلات من قبضته بأي طريقة ولكنها لم تستطع ولم تتبين لماذا لم يتركها وينظر لها بتلك الطريقة العجيبة جداً بالنسبة لها وبعد أن شعرت بالمزيد من الغرابة في ذلك الموقف الذي هي به كادت أن تتحدث ولكن قاطعهما من طرق على الباب مسرعاً ودلف دون إعطاءه الأذن!!

 

--

      

استيقظ بمنتهى الراحة التي لم ينعم بها منذ الكثير من الوقت بمزاج رائق للغاية ثم فرغ من استحمامه وتناول فطوره وارتدى احدى بزاته الرسمية الصارخة بالثراء ونثر عليها بعضاً من عطره الذي لا يستخدمه إلا هؤلاء فاحشي الترف وأمسك بمفتاح احدى سياراته التي كلفته بضع ملايين من الجنيهات وتوجه لمرأبه بخطواته التي بدت واثقة واصطحب تلك الحِدة التي تنهال من بنيتيه الثاقبتين وكان بمنتهى الاستعداد لملاقاة عائلة الخولي بأكملها وكذلك أولاد عمه المزعومين.

تذكر مرة ثانية كل تصرفاتهم بالمرات السابقة الذي رآهم بأجمعهم وأخذ يسترجع شخصياتهم بذاكرته مجدداً ليزفر في ضيق من هؤلاء الأطفال كما يسميهم ولعن بداخله على ذلك الموقف الذي هو به معهم ولكنه لا يزال يُفكر بحيلة حتى يبتعد عنهم وبنفس الوقت يريد معرفة ماذا حدث لعمه في أقل وقت. 

كما تذكر أن عليه مهاتفة وليد فهو لم يره منذ بعض الوقت ولا يريده أن يشعر بتغير في تصرفاته، حتى الآن!! فقام بمهاتفته حتى يُطمئنه كما عليه أن يعرف إذا قام به بخصوص الشحنة الأخيرة.

"يااه، أخيراً افتكرتني؟!" تحدث وليد بقليل من التهكم 

"حوارات الفروع زادت عليا ومشغول شوية، عامل ايه؟!" اجابه شهاب بهدوء شديد 

"أنا تمام.. أنت ايه الأخبار؟!" 

"تمام.. عملت ايه في آخر موضوع، مشي تمام؟!" سأله شهاب وهو لا يزال متحكماً بنبرته الهادئة التي لطالما بدت لمسامع الجميع أنها هادئة 

"اه الشحنة اتسـ.."

"مش قولت بلاش الكلام د في التليفون؟!" قاطعه ناهياً بلهجة حادة 

"أنت محبكها اوي، نفسي افهم ايه اللي اتغير، متخلنيش بقا أقول ولا يوم من أيام زمان" أخبره بضيق زافراً "بجد أنت بقيت غريب اوي" 

"لا غريب ولا حاجة، الموضوع وما فيه إن شكل كده فيه حاجات بتحصل اليومين دول ومش عايز حد ياخد باله أو يشك في حاجة، مش عايز العيون تفتح علينا دلوقتي"

"حاجات ايه دي اللي بتحصل؟!" تسائل وليد في تعجب بتلقائية

"مفيش.. بس عشان اسمنا تِقل في السوق آخر تلت سنين أنت عارف محدش هيسبنا، عشان كده لازم نهدي اللعب شوية"

"لا نهدي ايه!! ده أنا عندي بقا حاجة بس دي ممكن نقفل عليها للأبد.. صفقة من الصفقات اياهم اللي ميتعوضوش" أخبره وليد في حماس بينما التوتا شفتا شهاب في سخرية شديدة لم يشعر بها وليد 

"تمام.. بس خليها تستنى شوية.. واكيد هتبقا صفقة هايلة" توسعت ابتسامة شهاب التي لم يرها وليد ولم يرى ما خلفها من نظرات خبيثة امتزجت بالإنتصار

"لا ده احنا كده بقا عايزينلنا قاعدة عشان ترسيني على الحوار"

"اكيد هنقعد" أخبره بإقتضاب

"اجيلك الشركة؟!" تسائل وليد بعفوية 

"ما قولنا سيبك بقا من جو الشركة.. شوف تحب نتقابل فين وأنا هاجيلك"

"تمام.. هاكلمك كده على بليل ونتفق"

"تمام.. يالا سلام عشان داخل اجتماع" 

أنهى شهاب المكالمة وهو يصف سيارته وبداخل رأسه يُفكر بكل أمر، أولاد عمه، عائلة الخولي، هذا الكائن الذي لم يكره مثله المسمى بسليم، وكذلك أيضاً وليد.. يريد أن ينتهي من الجميع، في نفس الوقت، بأقل الخسائر ولكن عليه أن يحيك خطته جيداً ويدرسها بحرفية بل وسيضع خططاً بديلة.. ولكن لا زال الوقت مبكراً على كل حال، سيتريث وسيتعامل بمنتهى الهدوء حتى يتبين الجميع على أشكالهم الحقيقية!

 

--

 

      

"أصل أنتي متعرفيش هو أسلوب سليم كده.. Formal (رسمي) اوي في الشغل ولو حتى أخته هيعاملها بنفس الأسلوب.. شديد جداً" تحدثت أروى بغرورها المعهود لزينة أختها التي تركها سليم لتوه ما أن رأى أروى تدلف مكتبه منذ قليل

"آه ما واضح فعلاً.. بالذات لما علا صوته عليكي وشخط فيكي.. بس حتى لو أنتي وغيرك بيسمحوا يعاملهم بالطريقة دي أنا عمري ما هاقبل كده أبداً" تحدثت زينة بنبرة مرتفعة مليئة بالغضب فلماذا تحدثها أروى وكأنها أنتصرت لتوها بشيء ما، فهو نفس الشخص الذي صرخ بوجهها عندما دلفت مكتبه قبل أن يسمح لها بالمرور.

"هو بقا ده سليم" ابتسمت لها بإقتضاب وابتسامتها غير مُرحبة تماماً "التعامل معاه صعب جداً.. وأنا بردو كنت حاسة إنك مش هاتعرفي تتعاملي معاه" نظرت لها زينة لتبتلع في حنق ثم تركتها وتوجهت للخارج على مضض لتبتسم أروى بخبث عندما غادرت زينة.

شردت بنظرها بعيداً لتعقد ذراعيها ولا زالت الابتسامة تعتلي شفتيها في مكرٍ شديد وحدثت نفسها كما تفعل مراراً وتكراراً فهي تريد كل شيءٍ لها، ولن يستطيع أحد أن يقف أمام ما تريد، فما وضعت عليه عيناها وقررت على أن تظفر به دائماً ما تنتصر على أياً كان من يواجهها!

"فاكرة نفسها هتعرف تتعامل زيي من أول يوم، شكلها كده هبلة، من أول ساعة ودخلت لقيتهم ماسكين في بعض زي ما يكون هيموتها، كده تمام اوي.. كده كده آسر وعاصم مفيش منهم فايدة، واللي كنت خايفة منها طلعت ملهاش أي لازمة، وكالعادة إياد بيريح دماغه وحتى لو عصلج هو في الآخر بيمشي ورا سليم زي الأعمى.. مفضلش غير إن أنا وسليم نتجوز وبكرة كل ده هيبقى بتاعي أنا لوحدي، وكويس أوي إن أمي في صفي! خليها كده مقتنعة إني ماشية بدماغها وخللي كل واحد بقا تعجبه دماغه.." توسعت ابتسامتها في سعادة شديدة بينما تفقدت الوقت لتفكر أن عليها الذهاب لسليم!



--

 

     

"لا يا خالو أنا مش هاكمل.. ده مش أسلوب يكلمني بيه.. أنا هامشي دلوقتي حالاً وقولت بس أعرف حضرتك عشان كنت متفقة معاك" تحدثت بإنفعال شديد وهي تجمع أشياءها في تحركات مهرجلة

"جرا ايه يا زوزا، اهدي كده واعقلي.. عارفة اللي اتجنن واتعصب عليكي ده أول ما رجله بتخطي برا الشركة بيقلب حنين تاني، وبعدين ده فاكر الكل عامل علينا مؤامرة، علشان كده بيبقا عامل فيها شديد وخايف على الشركة من اي غلطة.. فبيعمل حِمش من أول يوم.. اعقلي كده، وأنا اللي كنت فاكرك ناصحة وهتعرفي تتعاملي، بس أقولك سليم بيعزك أكتر واحدة في اخواتك انتي وإياد وأنتي عارفة انكوا اقرب اتنين ليه.. نضحك بقا كده ونبطل عصبية وعلشان خاطري بلاش عند مع سليم في الشغل، واللي انتي نفسك فيه تعالي قوليهولي وأنا اعملهولك.. اتفقنا؟!" زفر بدر الدين في عدم إحتمال لما يحدث، فلم يمر شهراً بعد إلا وأن كلاهما يتجادلان فيما بينهما كالأطفال

"بس.. بس يا خالو لأ أنا مش هارضـ.."

"طب هاقولك، ابن الكلب ده تاني لو علا صوته عليكي أنا اللي هابهدلهولك.. اتفقنا يا حبيبتي؟!" قاطعها وهو لا يُصدق أن تلك الفتاة لم تعد تحتمل أن يفرض عليها شيئاً حتى ولو كان في مصلحتها هي قبل أن يكون في مصلحة أحد آخر

"ماشي يا خالو بس المرة الجاية أنا فعلاً هامشي" اقتنعت بكلام بدر الدين وهي واثقة أنه لن يدع أحد ليعاملها بسوء

"كلها شوية وهتسافري تاني، وكمان حبة كده على ما تتعودي على طريقة سليم في الشغل وصدقيني أنا اللي هاجي اشتكيلك منه بعد كده" حاول أن يُطمئنها بتلك الكلمات ولكنه يشعر بأنفاسها المهزوزة من الطرف الآخر

"خلاص ماشي.."

"روق كده يا جميل وأضحك وكله هيكون تمام"

"حاضر"

"يالا يا حبيبة خالو روحي كملي شغلك ووقت ما تحتاجي حاجة كلميني"

"خلاص ماشي.. باي" 

"فيه يا بدر؟!" تحدثت نورسين بملامح سيطر عليها القلق

"ابنك الهباب الزفت رايح ينكد على البنت من أول يوم.. ادي ياختي اللي هيطبطب عليها وحنين.. جه يكحلها عماها" حدثها بتهكم بينما عبثث في هاتفه 

"جرا ايه يا حبيبي.. نسيت أنت كنت ازاي في شغلك؟" تفحصته حتى استدعت انتباهه فرفع وجهه ليحدقا بأعين بعضهما البعض وضيقت هي زرقاويتيها

"بس مش كده يا نوري.. أنا مكنتش قفل اوي كده"

"لا يا حبيبي كنت أسوأ من كده" ابتسمت له بإنتصار ويقين ليزفر هو في ضيق عاقداً حاجباه 

"تصدقي أنا غلطان إني بحكيلك على حاجة.. أنا رايح اديله الوصايا العشرة بدل ما يخربها وأنا مش ناقص وجع دماغ"

"روح يا حبيبي روح" اخبرته لتبتسم "احسن.. دوق بقا شوية من عمايلك.. ده أنت كنت منكد على الشركة كلها" تمتمت في خفوت ثم نهضت لتتوجه لمحادثة شاهندة.

 

--

دلفت أروى مكتب سليم بعد أن سمح لها بالدخول لتتوجه نحوه في حرصٍ شديد وهي تنتقي تلك الكلمات التي ستحدثه بها فهي لا تود أبداً أن تخسر سليم لأي سبب.

"خير يا Ms أروى؟!" تحدث لها ناظراً لها بنظرته الجدية تلك التي تحمل خلفها الكثير 

"هو بس لو ممكن ننسى Ms و Mr دي ثواني وبُصلي على اني بنت عمتك يعني مش واحدة غريبة.. أنا بس مكنتش عايزاك تضايق مني" أخبرته وهي تتصنع الآسى الزائف 

"أنتي عارفة كويس إني بعرف أفصل بين سليم اللي جوا الشركة وسليم ابن خالك.. فملوش لازمة الكلام ده يا Miss أروى" حدثها بإقتضاب وتفحصها لثوان ثم أعاد نظره لحاسوبه ولكنها أقتربت منه على غير المعتاد ولمست كتفه وهي تتغنج بطريقتها بينما هو لم يشك ولو للحظة بها وظن أنها فقط تريد أن تصبح الأجواء أفضل قبل بدء الإجتماع

"طيب لو قبلتي عزومتي نتغدى سوا النهاردة هاعرف إنك سليم ابن خالي.. ها؟! قولت ايه؟!" ابتسمت له وهي تقترب منه ليومأ لها لكن دون أن يقول شيئاً حتى لا يمزج العمل بقرابتهم "ايوة بقا كده يا سليـ.."

"مش قولت طول ما احنا في الشـ.." قاطعها لتقاطعه هي بدلال

"عارفة عارفة، منستش الألقاب ولا حاجة، أنا بس بهزر معاك يا اخي.. فكها شوية متبقاش كده" أصدر هاتف سليم اهتزازاً على مكتبه لتلعن هي حظها وحقدت على من ضيع تلك الفرصة عليها دون حتى أن تعرف من هو 

"روحي عشان خلاص ربع ساعة والإجتماع هيبدأ" أومأ لها بوجهه لتحاول هي بصعوبة الحفاظ على ابتسامتها "ايوة يا بابا" تحدث سليم بهاتفه بينما توجهت هي للخارج وعبست ملامح وجهها لإضاعة تلك الفرصة من بين يداها ولكنها بالنهاية ستحظى معه اليوم ببعض الوقت.

"يا حتة جزمة عملت فيها ايه؟!" سأله بدر الدين بإنفعال

"طبعاً هتجري عليك وتشتكيلك.. عموماً أنا عملت معاها زي ما بعمل مع أي حد" نهض ثم وضع يده بجيبه والأخرى أمسكت بهاتفه ليتجول بغرفة مكتبه 

"بقا يا بقف حد يعمل في حبيبة القلب كده؟! وعاملي فيها العاشق الولهان وبتاع وأنت أصلاً طربش" 

"بص يا بابا أنت عارفني مبحبش حد يدخل في أسلوبي في الشغل، وزينة بالذات لو عاملتها بطريقة مختلفة الكل هياخد باله وأنا مش عايز حد يعرف حاجة دلوقتي"

"طب بص يا سليم.. القسوة بتاعتك دي هتقفلها منك وبكرة تشوف! يا ابني البنت محتاجة حد يطبطب عليها مش يشخط وينطر"

"يعني امبارح تقولي خليك جامد ودلوقتي تقولي طبطبة؟! يعني اعمل ايه يا بدر كده عشان كلامك مش مفهوم؟!" تنهد بدر الدين وهز رأسه في إنكار

"لما تكونوا لوحدكوا حاجة ولما يبقا فيه ناس حاجة.. خليك ذكي بقا شوية، حتى لو ناوي تكون تقيل متبقاش قاسي"

"ممممـ.." همهم بإقتضاب متهكماً "ماشي يا أسامة يا منير.. أشوف شغلي وارجع اكمل أنا والنجوم وهواك ده بليل معاك"

"جتك البلا!! عيل اهطل"

"سلام يا بابا" انهى سليم المكالمة وهو يعلم بقرارة نفسه أنها تفتقد الحنان، لو فقط تتركه يقترب منها لعوضها عن كل تلك القسوة التي عانت منها وسيجعلها تنسى تلك الأوقات العصيبة التي يبدو وأنها هي السبب وراء تغيرها بهذا الشكل.

أمسك بحاسوبه وقرر أن يدع ذلك جانباً للتفكير به في وقت لاحق وتوجه لقاعة الإجتماعات ليلتقي بذلك الكريه الذي لم يرق له منذ الوهلة الأولى.

 

--

 

        

تفحص الجميع بعينيه البنيتين الثاقبتين ولا يزال كل واحد منهم كما هو، عاصم لا زال يحاول السيطرة على مجريات الأمور ولكنه ليس ذلك الرجل الذي يستطيع فعلها، الفتاة المغرورة كما هي، يا ليتها فقط تُهان ببشاعة أسفل قدماه، سيتلذذ لغاية، ولكنها ليست غبية، يلمح ذكائها الشديد، لربما غرورها وتعجرفها يليقا به ولكن تلك النظرة بأعينها تُنبأه أنها ليست من تفعل شيئاً مبني على الأهواء، ليست من تقع في الحب ولا الفتنة بشخصية أحد ما ولطالما كانت كلماتها مُغلفة بالعديد من الأسباب والدوافع، وكأنما كل كلمة تنطق بها تحمل معنيان، يا تُرى ما الذي دفعها لعقد الإجتماع اليوم وبتلك السرعة الشديدة؟!

وسليم بالطبع كما هو، لا يزال كالقائد، بل كلاً من شاهندة وزوجها أناباه عنهما، لا يزال يسيطر على كل شيء برسمية شديدة وجدية مبالغ بها، يجعله هو نفسه يتعجب، أهذا الرجل هو من كان يلاطف أخته الصغيرة ليلة أمس، أهذا من كان يهرول بطفولة خلف فتاة كالطفل الصغير؟! أم ذلك الرجل الجدي وما بنظراته تلك لزينة؟!

وماذا عن تلك الفتاة أيضاً؟! أطنبت في الحديث تارة والآن هي صامتة تماماً كالبيت المهجور، للحظة رآى شيئاً ما بطريقتها أنثوياً للغاية والآن هي تتكور على نفسها وتركت تلك الجلسة المستقيمة المغرورة، وما هذا الذي ترتديه؟! أهي دائماً ترتدي مثل تلك الأشياء؟! لقد رآها أمس أيضاً ترتدي قميصاً أكبر من حجمها هي شخصياً.. تنظر له بزرقاوتين جريئتين ثم تعود لتشرد بعيداً بنظرات خجولة لا يدري من أين آتت؟! بالرغم من أنه لا يريد أياً منهم أن يحتل على تفكيره ولكن إلي هذه اللحظة مثّلت له زينة لغزاً.. وسيعرفه عاجلاً أم آجلاً.. كما يعرف كيف يطوع الرياح لما تشتهيه نفسه هو الآخر..

أين ذلك التابع على كل حال؟! إياد.. ما الذي دفعه لعدم الحضور، ألم يكن منصاعاً لسليم؟! ما الذي حدث حتى جعله غائباً اليوم! يغلي عقله بالأفكار بينما وجهه هادئاً ساكناً فارغ من الملامح مثلما تعود دائماً..

"تمام كده أظن.. ناقص نمضي العقود.." ابتسمت أروى التي تحدثت بينما لم يعيرها شهاب اهتمام بالرغم من استماعه لها جيداً وانفجرت ضحكته بداخله فها هو اقترب من الحصول على أول ما يريد

"أظن العقود بعد ما اخد نظرة كده على المواقع وأشوف شغلكم ماشي فيها ازاي.." تحدث ثم نظر لسليم ومنها إلي زينة التي عليها هي أن تذهب معه فهذا هو اختصاصها، ثم أعاد بنيتاه لسليم الذي رآه هو الآخر يحاول التحكم في ملامحه.. وكما أن شهاب يظن أنه سيعرف ما يريد وسيترك الجميع وشأنهم قبل إبرام أية عقود معهم.

"بس احنا مش محتاجين إنـ.."

"لا من حقه" قاطع سليم عاصم الذي بدا وجهه كالنيران المتقدة، ولكنه لم يعرف أن سليم يتمنى ألا يبرم معه عقوداً حتى لا يتعامل معه أبداً، فهذا المسمى بشهاب بطريقته وهدوئه اللاذع ونظراته غير المريحة لا يُطمئنه أبداً 

"تمام.. أنا فاضي النهاردة..زينة؟!" نظر لها بتساؤل 

"تمام أنا معنديـ.."

"لو سمحت يا Mr شهاب احنا هنا بنحافظ على الألقاب.. يا ريت أنت كمان تعمل كده!" قاطع زينة بل قاطع تلك النظرات المتبادلة بينهما التي لم تروقه وقد اكتفى منها منذ مدة ليست بالقليلة "ممكن نحدد معاد ونشوف فيها المواقع" أخبره بحزم لتستمع زينة لذلك وتلعن داخل نفسها على تحكمه الزائد فهي من عليها أن تقوم بتلك الجولة معه وهو بمنتهى السخافة يتدخل فيما يخصها 

"ممكن نروح حالاً أنا فاضية" صاحت زينة بلهجة حادة قاصدة أن تتحداه فهو لن يفرض عليها شيئاً أبداً ونهضت لترتسم شفتا شهاب بابتسامة تكاد تُلاحظ ولكن سليم لاحظها ونهض شهاب هو الآخر متنفساً كالذي ظفر بحرب لتوه، حسناً لتكن أول معركة تافهة ينتصر بها ولكنه انتصر عليه على كل حال، بينما شعرت أروى بالفرحة، فيبدو أنها ستكون بمفردها مع سليم اليوم، ها هي تخلصت من زينة وتبقى فقط عاصم الذي ستستطيع إلهاءه بمنتهى السهولة.. ولكن تلاشت فرحتها في ثوانٍ تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة فهي لم تظن أنه سينهض هو الآخر ليذهب معهما..

 

--

الفصل السابع

 

تفحصته بزرقاويتيها وهي تنظر لنهوضه المفاجئ الغاضب وحركاته التي غُلفت بالغضب الملحوظ، طريقته لجذب هاتفه ووضعه بجيب سترته الرسمية وكذلك تخلليه لشعره الفحمي بأصابعه وهي تتعجب لماذا غضب! حسناً.. لربما أنها اتخذت قراراً دون أن تعود له به.. ولكن هذا حقها على كل حال، أيظن أنه سيتحكم بها؟! لا، لن يحدث ذلك ولو بعد مائة آلف عام ولن تتغير أبداً.

إذا يريدها أن تعمل معه بتلك الطريقة التي تتسم بالتحكم العارم بكل أمر، إذن عليه أن يبحث عن أخرى، ليست هي من تسمح بأن يتحكم بها أحد، فيكفي تلك التحكمات الصارمة التي تحملتها لسنوات ولن تترك الفرصة لأحد كي يتحكم بها مجدداً.

"سليم.. أنت رايح فين؟!" همست سائلة حتى لا يلاحظهما أحد بينما أروى وعاصم علما مسبقاً أنه لن يدع قرارها المفاجئ بالذهاب لتفقد العمل بأحدى المواقع يمر على خير دون تدخله، أمّا شهاب فقد ترجم تصرفاته في لمح البصر، لقد رآى غيرة الرجال بعيناه وبلغة جسده، هو يشعر نحوها بشيء ما.. جيد جداً.. هذه فرصته التي لن يتركها أبداً دون أن يُعكر صفو حياته عليه كما فعلها هو معه من قبل، فإذا كان عليه أن يفرغ غضبه المكتوم من سليم نفسه على سلمى، فليريه هو كيف سيفرغ غضبه مما سيفعله اليوم مع زينة، بل وأمام عيناه! 

نظر لها سليم نظرة لولا أنهما كانا متواجدان بالقرب من الجميع لصرخت من الخوف الشديد الذي اعتراها، لوهلة ظنت أنها لطالما هي ستعمل بصحبة سليم سيكون الأمر أهون، أمّا بعد تصرفاته الغريبة اليوم تمنت لو أنها لم تستمع لبدر الدين أبداً..

"أتفضل يا Mr شهاب أختار الموقع اللي تحبه.. تحب تروح فين بالظبط؟!" لم يعيرها سليم أي أهتمام بينما سلط نظرته الثاقبة المهنية بعيني شهاب البنيتين الذي تحدث بثقة مجيباً اياه

"عندكوا مواقع في أكتوبر.. هيكون قدامنا اختيارات كتيرة هناك" نظر له متفحصاً اياه بينما تلذذ بداخله من ذلك الغضب الملحوظ البادي على ملامحه 

"تمام اتفضل" تحدث له بإقتضاب وتوجه نحو الباب ليتوجه كذلك شهاب الذي مشي بخطوات واثقة نحو الباب لتتعالى أنفاس زينة في هرجلة لتهمس لشهاب

"هو أنت راكن فين؟!"

"في الجراج B12" اجابها عاقداً حاجباه متعجباً من سؤالها

"استناني طيب أنا هاجي معاك" همست له مجدداً ولاحظتهما أروى التي صدح صوتها لتوقف الجميع 

"أنا ممكن اجي معاكم واهي فرصة أشـ.."

"لو سمحتي يا Miss أروى أنتي عندك شغل واجتماعات أهم بدل اللف على المواقع.. اتفضلي شوفي شغلك" قاطعها بنبرة حازمة انفجرت على أثرها غضباً بداخلها لمعاملته لها هكذا أمام الجميع وكأنها ليست ذو شأن لتكتم ذلك الإنفعال بداخلها لتقوم بتبديله بابتسامة 

"عندك حق يا Mr. سليم، بعد اذنكم" استأذنت من الجميع وقد قامت بآخذ حاسوبها وهاتفها وتوجهت للخارج بسرعة بينما بداخلها ثارت كل قطرة من الدماء بعروقها وأقسمت أنها لن تدع ذلك الموقف يمر مرور الكرام دون أخذ ردة فعل مع سليم!

أمّا عن عاصم فهو كالعادة لا يملك ذلك الحضور الطاغي ولا شخصية القائد بداخله لذا جمع أشياءه في هدوء تام ولم يلاحظه أحد بل تركوه خلفهم وتوجه الجميع للخارج وأستقلوا المصعد.

ساد ذلك الصمت المريب لا يقاطعه سوى مزيج من العطور الرجولية الطاغية وأنفاس ثلاثتهم غير المنتظمة، أنفاس شهاب التي شعرت بالراحة الشديدة، أنفاس زينة المترددة مما تفعله، وأنفاس سليم التي تمزقت غضباً وحقداً على أفعال تلك الصغيرة التي لو أستمرت ستقتلهما يوماً ما!

أعلن صوت رنين جرس المصعد عن الوصول للمرأب لتستأذن زينة بسرعة حتى تتهرب من سليم وتنجح بخطتها للذهاب مع شهاب بدلاً منه، فهي لا تريد أن تتعارك بخصوص عمل هي لا تريده بالأصل!

"هاروح التواليت وهاجي" تحدثت معلنة دون أن تنظر لأي منهما وترجلت من المصعد لتتركهما خلفها مسرعة وابتعدت حتى تتخلص من الجميع.

انزوت لركن بعيد عن اتجاه المرأب ثم وضعت يدها على صدرها تزفر بعمق شديد وهي تحاول أن تنظم أنفاسها المهرجلة، هي لا تدري ما الذي تفعله، وما الذي جعلها تتخذ قراراً كهذا وهي بالفعل منعدمة الخبرة تجاه كل ما يدور حولها، فهي لم تقم بزيارة المواقع ولا تعرف كيف لها أن تتعامل بحرفية مع عميلٍ ما ولا تعرف ما الذي جعلها تندفع بتلك الطريقة في وجه سليم، ولكن اجابتها الوحيدة على تلك الأسئلة المتواترة على رأسها هي أنها لا تريد أن تترك الفرصة لأحد أن يفرض تحكماته عليها، سليم، أخواتها، وبالطبع قبل الجميع والدتها..

زفرت مرة أخيرة ثم توجهت وهي تتفقد بزرقاويتيها موضع سيارة سليم الذي صف به سيارته صباحاً وأطمئنت بداخلها أنه بعيداً تماماً عن موضع سيارة شهاب الذي أخبرها به منذ قليل وتوجهت نحوه ثم دلفت السيارة ونظرت له لتتلاقى ثاقبتاه بعينيها البريئتين 

"تمام.. ممكن نمشي دلوقتي.." حاولت التحكم في ملامحها التي توترت لبرهة واستعادت ملامحها الطبيعية ليرمقها لثانية ثم شرع في القيادة مغادراً المرأب ولم يكترث أياً منهما لذلك الذي يحترق غضباً منتظراً اياها بسيارته.

 

--

 

        

"طب ما أنا عارفة وملاحظة من زمان أوي.. وماما كمان ملاحظة.." ابتسمت له في ود ليندهش الآخر رافعاً حاجباه وقاطع ذلك الصمت الذي ساد لثوانٍ النادل الذي قام بوضع الطعام أمام كلاً منهما لتبتسم له في امتنان "ميرسي" أخبرته ثم أعادت عسليتيها لإياد الذي شعر بتلجم لسانه وتعالت خفقات قلبه في توالي شديد لتضحك بخفوت على ملامحه التي غاب منها الدماء فقررت الرفق عليه بالنهاية وتحدثت هي حتى تشيح تفكيره عن تلك الحيرة التي وقع فيها 

"بص يا إياد أنا مش عايزاك تقلق.. ماما مش رافضة أي حاجة بالعكس دي مأيده جداً الموضوع وبتحبك اوي، وأنا هاكدب لو قولتلك إني مش حاسة بمشاعر من ناحيتك ومن زمان كمان، سيبك من فرق السن ما بيننا، وسيبك من إنك بتحاول تخبي.. أنا.. أنا مش بس بهتم بمذاكرتي وجامعتي.. أنا بحس على فكرة" ابتسمت له ليحدق هو بعسليتيها وللحظة شعر بالإطمئنان من كلماتها 

"يعني أنتي كمان بتحبـ.."

"استنى يا إياد" قاطعته مسرعة "أنا لسه قدامي جامعة، فيه مستقبل كبير أوي بعيد عن عيلة الخولي نفسي اختاره لنفسي، بلاش نتسرع في حاجة.. لو هتقدر تستنى شوية أنا هاكون أسعد إنسانة في الدنيا.. معلش أنا مقصدش حاجة بس كل واحد عنده أولويات في حياته وأنا لغاية دلوقتي مش عايزة أركز في حاجة تانية لأن صاحب بالين كداب!" 

"عايزاني استنى يا أسما لغاية امتى؟! أنتي عارفة أنا عندي كام سنة على الكلام اللي أنتي بتقوليه ده؟! عايزاني استنى ايه تاني أكتر من كده؟!" 

"تمانية وعشرين سنة وتلت شهور وخمس أيام" ابتسمت له لتعود رأسه للخلف عاقداً حاجباه في تعجب "أرجوك يا إياد إن كنت بتحبني زي ما بتقول تصبر شوية لغاية ما أخلص جامعة وأفهمك على كل حاجة وساعتها تقدر تختار.. بس أنا مش هاقدر التزم بأي ارتباط دلوقتي عشان مظلمكش ولا أظلم نفسي معاك لأن غصب عني مش هاقدر ادي كل حاجة وقتها" 

"مش معنى إني بحبك يبقا تستغلي ده على فكرة!" تحدث بجدية لتبتسم هي له في غير تصديق 

"استغل!!" اقتبست كلمته لتكررها ولكنها قررت أن تطنب في الحديث اليوم بمنتهى الإيضاح وكذلك قررت أن تأخذ الفرصة بمواجهته بكل شيء حتى لا تترك أياً من التفاصيل غير واضحة وهي بالرغم من كل خططها المستقبلية إلا أنها تريده هو الآخر مثلما يريدها "أنا هافهمك على كل اللي بفكر فيه، وساعتها ليك الإختيار!" 

 

--

 

        

زفر كل ما برئتيه من هواء وهو يحاول أن يهدأ من نفسه لكنه لا إراديا سحق أسنانه غضباً من أفعالها اليوم وخاصةً أمام شهاب ذلك الذي لم يشعر تجاهه بالراحة منذ أول يوم وقعت عيناه عليه وكلما لاقاه كلما شعر بعدم الراحة أكثر وأكثر، لابد وأن خلف تلك الملامح الهادئة ونظراته الثاقبة شيئاً ما لا يعمله ولكنه سيحاول أن يعرفه بأقصر وقت ممكن، ولن يدعه هكذا دون أن يفلت من بين يداه حتى يدري جيداً مع من يتعامل!

ازداد غضبه وتعالى كلما فكر فيما حدث بينهما، هو لا يريد أن يُفسد الأمر بينهما، لا يريد أن يعاملها بتلك الحدة حتى تكرهه، سيأتي حتماً يوماً ما الذي سوف يعترف لها بكل ذلك العشق الذي يقيده بداخله منذ سنوات تجاهها ولكن شخصيتها العنيدة الجديدة تلك ستفسد الأمر تماماً بينهما ولن تتقبل مشاعره، وكذلك لن يتنازل هو عن شخصيته التي تتسم بالشدة والقسوة في العمل، كل من يعمل معهم صغيرين بالسن، يفتقرون للخبرة، وكذلك هو أيضاً بالرغم من أنه أكبرهم سناً ولكنه لم يعمل إلا منذ سنوات ولن يترك فرصة أبداً للفشل أمام أحد ولن يسمح بأخطاءهم هم كذلك.. 

شعر بمرور الوقت يزداد وتعجب من تأخر زينة الذي لم يتوقعه فأخرج هاتفه من جيبه حانقاً واتصل بها وبعد عدة ثوانٍ اجابته في هدوء. 

نظرت لهاتفها الذي صدح في ذلك الصمت الغريب الذي دام بينهما منذ أن دلفت سيارة شهاب الذي لم يلتفت لها ولو لمرة واحدة ووجدت أن المتصل سليم الذي بالرغم من محاولتها لتجنبه إلا أنها بنفس الوقت تود أن تثبت له أنه لا يستطيع التحكم بها!

"الو"

"أنتي كل ده مخلصتيش؟! ولا نسيتي إن ورانا شغل؟!" تحدث بين أسنانه في ضيق وحاول ألا يظهر انزعاجه من تصرفاتها في نبرته 

"لا طبعاً.. أنا مشيت من بدري مع شهاب" حلقت زرقاويتيها لترمق شهاب للحظة أمّا عن سليم فهو أقترب من أن يهشم هاتفه بين يده غيظاً وغضباً منها. 

"تمام!! هبعتلك عنوان الموقع" أنهى المكالمة في هدوء لاذع حتى قلبت زينة شفتيها تعجباً من أسلوبه الذي أنهى به المكالمة، وكانت بالفعل محظوظة لأنها لم تكن بجانب سليم، فلو كانت معه الآن لكانت رآت ماذا يعني الغضب بكل ما يحمله من معانٍ بل وتصرفات.

شرع في قيادة سيارته بسرعة جنونية حتى يلحق بهما وهو يحاول أن يسلط تركيزه على الطريق بين المزيد من المحاولات لتناسي ما فعلته هي معه ولكن بلا فائدة!! وهو لن يترك فعلتها أن تمر دون أن تعلم جيداً كيف تتعامل معه، فهي للتو جعلته أحمقاً أمام نفسه وحتى أمام شهاب الذي بالطبع استمع للمكالمة التي حدثت للتو، ولن يتقبل أبداً أن يبدو بذلك المظهر أمام أحد وأقسم لنفسه أنه سيعمل بكل جهده على أن تعرف هي مع من تتعامل، ولكن عليه التخلص فقط من هذا اليوم!.

 

--

        

"انا مش فاهمة الإنسان ده بجد" تمتمت بخفوت وهزت رأسها في تعجب لتزفر في ضيق

"بتقولي حاجة؟" تسائل شهاب دون أن يرمقها وسلط نظره على الطريق وانتظر ليسمع بعناية نبرتها التي ستتحدث بها حتى يستطيع فهمها جيداً

"مش عارفة سليم ماله من النهاردة الصبح وهو غريب.. أصل مش طبيعي طريقته اللي بيعاملني بيها دي وأنا استحالة اسمحله إنه يتحـ.." توقفت عن الكلام من تلقاء نفسها فهي لن تبوح لأحد هكذا بمنتهى السهولة عن كرهها الشديد بأن يتحكم بها أحد "يمكن عشان النهاردة أول يوم ليا في الشغل مستغربة بس كل حاجة" حاولت أن تتدارك الموقف أمّا هو فقد علم جيداً أنها تحاول إخفاء الأمر 

"أنتي عمرك ما روحتي المواقع قبل كده؟!" سألها بهدوء ومجدداً دون أن ينظر لها ليلاحظ تحركها بالكرسي جانبه والتفاتها الكامل له وكأنها طفلة صغيرة جالسة بالسيارة 

"اه عمري ما روحت!! فيه مشكلة يعني؟!" تحدثت له بلهجة حادة ليتدارك هو الموقف ببضعة كلمات ولولا أنه يحاول التعرف عليها لكان صفعها بكل ما لديه من قوة حتى تختار بعناية المرة القادمة طريقة تحدثها معه 

"أكيد لأ.. أنا بس بسأل! أصل بصراحة شايف إن فيه بينكم وبين بعض مشاكل في الشغل.. ودي حاجة مطمنش أي حد يجي يشتغل مع شركتكم" تحدث بنبرة حملت الإستهزاء والسخرية في طياتها لتقطب زينة جبينها في اعتراض على كلماته فهي بالرغم من عدم اتفاقها مع أخواتها وعدم قبولها للعمل في شركة عائلتها وبالطبع عدم تقبلها لطريقة سليم إلا أنها لن تدع شخصاً لا تعرفه بعد يتوجه لها بالتحدث بتلك الطريقة عن عائلتها

"لا كله تمام ما بينهم أنا بس اللي مش عايزة اشتغل واكيد مش هاكمل معاهم، مجرد فترة مؤقتة" أخبرته ليطلق هو ضحكة لم تتحرك لها تقاسيم وجهه كما آتت تلك الضحكة لتعبر عن الإستهزاء التام "وأنت بتضحك كده ليه، لو مش عاجبك كلامي ممكن أمشي على فكرة وتروح تقابل سليم هناك!" صاحت في انفعال بينما تحكم هو في هدوءه وهو لولا أنه لا زال يتعرف على الجميع ويدرس تصرفاتهم لقام بإلقاءها حرفياً من سيارته دون اكتراث لها!

"يعني مستعجب ايه اللي يجبرك تشتغلي.. وايه كمان اللي يجبرك تستحملي سليم!" هز كتفاه متصنعاً التعجب

"عادي.. أنت مثلاً أكيد بتضطر إنك تعمل حاجات مش عايزها عشان خاطـ.."

"أنا مبقبلش حاجة تتحكم فيا ولا بضطر أعمل حاجة عشان حد، ولو فعلاً حد عاملني في الشغل زي سليم ابن خالك كنت مكملتش دقيقتين ومشيت!" لقد قاطعها، حسناً، لقد طرقت كلماته بعنف على ذلك القيد الذي تحاول أن تتخلص منه منذ سنوات عديدة، بل وشعرت أن بالرغم من غرابة شخصية ذلك الرجل أمامها إلا أنه يشبهها نوعاً ما..

عقدت حاجبيها وشردت في الطريق وعادت للصمت التام وأخذت تفكر بكلامه، الهذا الحد كان واضحاً أن سليم كان يتحكم بها أمام الجميع.. بتلقائية شديدة أعادت ظهرها للوراء وجلست معاكسة لأحدى ساقيها فوق الأخرى لتبدو في غاية الأنوثة الذي كادت أن يصرخ لها عقل شهاب فهو لا يستطيع معرفة ماهية شخصية تلك الفتاة بعد!

بالرغم من تصرفاتها المتضادة، نبرتها المتغيرة، تلقائيتها تارة وحديثها الذي يبدو منمقاً تارة أخرى، اندفاعها وتريثها المتلاحقان، لاحظ شهاب أن كلماته تلك قد تركت تأثيراً بها نوعاً ما ودفعها للسكوت ليبتسم بداخله لمعرفته وإدراكه أولى خطوات إفساد الأمر على سليم من ناحية ومن ناحية أخرى عرف أنه أقترب من النجاح بإستمالة زينة نحوه ليعرف منها كل ما يريده في أسرع وقت!!

 

--

 

        

ترجلا من السيارة عند وصولهما الموقع وللحظة تفقدت زينة شهاب في تعجب شديد وكأنها ليست كانت في دوامة الصمت خاصتها ثم توجهت نحوه لتقف أمامه 

"هو ليه عمي مجاش معاك؟! مش المفروض هو صاحب كل حاجة؟" سألته بتلقائية شديدة

"مشغول في المجموعة.. بس ممكن لو عايزة تشوفيه تتفضلي في أي وقت، الموضوع مش مترتب يعني إنه ميجيش" اجابها متفحصاً عيناها اللاتي عادتا لبرائتهما مرة ثانية بينما تحدث بثقة وبساطة حتى لا يدع مجالاً للشك في تصرفه هو وأبيه

"معلش آسفة بس أنتوا يعني فجأة كده افتكرتونا، ما احنا كنا قدامكم من سنين.. اشمعنى دلوقتي؟!" تعجبت أكثر بعدما أطالت تفكيرها بكل شيء طوال الطريق الذي استغرق قرابة الساعة والنصف بين الزحام وعقدت ذراعيها في تحفز بابتسامة متهكمة!

"من غير اشمعنى" قلب شفتاه في عفوية "وبعدين أصلاً أنتي فاهمة غلط، أنا كل دراستي وأول شغلي كان برا فمكنتش موجود في مصر، ووالدي ياما كلم والدتك وهي اللي كانت بتصده ورفضت إننا يكون بنا أي زيارات أو معاملات.. وعشان تتأكدي ان كل حاجة تمام، أنا جيت وعزيت ومعنديش أي مانع أشوفكم وقعدت معاكم في النادي وطبعاً تقدري تقابلي والدي في أي وقت" بالرغم من ألفاظه التي بدت غريبة عليها للغاية بنطقه والدي ووالدتك بدلاً من الألقاب الدارجة كـ "بابا ومامتك" قد صدقته تماماً فهي تعمل كم أن والدتها متحكمة وبالطبع هناك أمراً ما حول تمنعها من معرفة عمها وابن عمها 

"أنت هتقولي على ماما وحركاتها" تفلتت الكلمتان من بين شفتيها في تلقائية دون أن تدري ما الذي دفعها للتمتمة بذلك ولكنها تداركت الأمر سريعاً "يالا بينا ندخل نشوف الناس بتعمل ايه" ابتسمت له بإقتضاب وتقدمته وكأنها تعلم ما الذي تفعله جيداً..

لم تكن ترى ذلك الذي ينظر لهما بمنتهى الغضب وهو كالجاهل تماماً لذلك الحديث الذي يدور بينهما ويحاول أن يكبح جماح غضبه الذي لو صبه على أياً منهما لن ينتهي الأمر سوى بمصيبة أو كارثة حتماً..

اتصل بها منتظراً أن تجيبه ولكنها ضيقت ما بين حاجبيها في إنزعاج بسبب معاملته معها منذ بداية اليوم وقررت ألا تجيبه ثم أنهت المكالمة في حنق ليتصاعد غضب ذلك الذي يرمقهما من على بُعد فهي حتى لا تريد التحدث له فأخذ خطوات غاضبة نحوهما ولكن تعثرت زينة بسبب تلك الملابس اللعينة غريبة الشكل التي ترتديها وكادت أن تقع ليسرع سليم كي يلحق بها ولكن اسندها شهاب مسرعاً في تلقائية ليتصلب الذي يشاهدهما وقد احتدم غيظه واستشاط غيرةً وغضباً وما أن استعادت توازنها التفتت بين يدي شهاب لتنظر له هامسة

"شكراً"

"العفو" أخبرها ولكنه لم يتركها من بين يداه لتنفجر حمرة الغضب لتكسو ملامح سليم وأكمل نحوهما مقسماً بداخله أنه لن يترك زينة اليوم إلا وهي تعي جيداً كيف تتعامل معه! 

 

--

 

        

"ايوة يا مامي.. زينة دي مش ممكن، لو بس تعرفي كانت بتتكلم ازاي قدام شهاب لولا إن سليم لحقها كذا مرة كانت بوظت الدنيا!!" 

"يعني ايه الكلام اللي أنتي بتقوليه ده؟! وأنتي واخواتك كنتو فين؟!" تحدثت هديل بمنتهى الإنزعاج لأروى التي تحدثها على الهاتف

"إياد مجاش.. وحضرتك عارفة أسلوب سليم مسبناش نتكلم في الإجتماع غير في الحاجات اللي تخصنا بس.. بس هو لحق الدنيا قدام شهاب، بس بردو ممضوش العقود"

"احسن في داهية يارب ما يمضوها.. أنا فاهمة شهاب وابوه دول كويس، عدم وجودهم احسن، أختك فين دلوقتي؟!" 

"نزلت مع سليم وشهاب الموقع" أخبرتها وتصنعت البراءة 

"ايه ده من أول يوم؟! ازاي ده يحصل؟ وانتي كنتي فين، ازاي تسيبيها كده؟ ده مش بعيد بجنانها تخرب كل حاجة وتطلعنا متخلفين قدام عمك وابنه"

"اهدي بس يا مامي ومتتعصبيش.. لو كنت صممت على إني أروح معاهم كان سليم اضايق مني.. أنا كنت اقدر اتحجج بمليون حجة، بس لو عاديت سليم قدام حد وبالذات ابن عمنا مكنش هيعديها بالساهل.. أنا بسمع كلامه وممشية الدنيا ما بينا بالهدوء عشان أنتي فاهمة بقا!! سليم مش هينفع معاه أبداً البنت اللي تعانده وتقوله لأ.. بالذات في الشغل!"

"ماشي يا أروى أمّا نشوف.. والزفتة التانية دي أول ما ترجع تجيبيها وتيجي على هنا وأنا حسابي بقا معاها شكله تِقل اوي" أخذت أنفاس متلاحقة غاضبة "اقفلي لما أشوف اخوكي اللي المفروض الكبير راح فين!!"

"ماشي يا مامي.. باي.."

ابتسمت أروى بمكر شديد وهي تظن بداخلها أنها تستميل سليم لها بتلك التصرفات وتوسعت ابتسامتها وهي تراجع مرة أخرى بعقلها تصرفاتها وكلماتها التي تنوي أن تتحدث بها مع سليم اليوم على موعد غدائهما المزعوم وقامت بمهاتفته حتى يتفقا إلي أين سيذهبا، ولكنها لم تدري بعد أن كل هذا سيذهب مع الريح في هذا اليوم العاصف الذي قارب سليم على قتل أحداً به من كثرة غضبه!.



--

"ممكن أفهم كنت فين كل ده؟!" صاحت هديل بإنفعال في وجه إياد الذي آتى لتوه بصحبة أسما دالفاً المنزل وأخفضت يدها بهاتفها الذي أوشك على الإتصال بإياد.

تلجم لسان إياد لثوانٍٍ فهو بالطبع لا يريد مواجهة والدته أنه كان مع أسما للتو.. ليس خوفاً منها بل كُرهاً لتلك الجدالات التي لا تُسفر عن أية حلول مع والدته وتحكمها اللاذع الذي تود عن طريقه أن تتحكم في كل ما يدور حولها!

"أنا يا هديل اللي بعته مع أسما مشوار.. أنتي عارفة مبحبش أخليها تسوق لوحدها" هنا تدخلت شاهندة التي هاتفتها أسما وأخبرتها بكل ما حدث بينها وبين إياد منذ الصباح، فهي لا تخفي عن والدتها شيئاً وزفر إياد في راحة شديدة لتدخل خالته وإنقاذها له

"يا سلام.. نسيب بقا الشغل عشان خوفك اللي ملوش داعي؟!" التفتت لشاهندة التي رفعت حاجبيها في تعجب لطريقة هديل الغاضبة 

"جرا ايه يا هديل فيه ايه، ما الولاد مع بعض في الشركة مجتش من كام ساعة يعني، وهو أنتي لو احتاجتي حد من ولادي ولا أنا ولا حمزة عمرنا أتأخرنا عليكي.." عقدت شاهندة ذراعيها في تحفز ثم أومأت لأسما بحزم التي امتثلت كلماتها على الفور  "اطلعي يا أسما كملي مذاكرتك" ثم التفتت لإياد لتتابع "معلش يا إياد استنى أنا عايزاك!" أومأ هو لها في تفهم 

"بصي يا هديل.. خلاص الولاد قربوا على امتحانات Midterms واللي أنتي بتعمليه في البيت ده مينفعش.. بعد اذنك العصبية والزعيق تكون في اوضتك او اوضة حد من الولاد.. كفاية بقا مشاكل.. وراعي إن ماما بتسمع كل حاجة وهي كبرت وحرام عليكي التوتر اللي بتعمليهولها بزعيقك كل ساعة والتانية ده" تنهدت شاهندة في انزعاج ثم توجهت نحو إياد وكادت هديل أن تتحدث لها ولكنها أعطتها ظهرها ممسكة بذراع إياد "تعالى عشان عايزاك في موضوع مهم" أخبرته وتركت هديل خلفها التي كاد جسدها أن يخرج بخاراً كثيراً من كثرة إحتراقها غيظاً..

"ماشي يا شاهندة!! كان ناقصني كمان انتي وولادك يا انسانة يا حشرية.. وربنا لا أوريكي أنتي كمان!" تمتمت في غيظ ثم توجهت لغرفتها وصفعت الباب خلفها في غضب.

 

--

 

        

لقد تآكل الغيظ دماء أروى التي هاتفت سليم لمرتان والثالثة كان قد وصد هاتفه وقد احترقت حقداً وغضباً فها هي الساعة قاربت التاسعة ليلاً وتناسى أمرها تماماً وكذلك زينة لا تجيب هاتفها هي الأخرى وتريد أن تعرف ما الذي يحدث بأي طريقة وخاصةً أن والدتها هديل لا تترك ثانية تمر دون السؤال عن أختها وعن حالها مع سليم وعن كل التفاصيل التي تحدث بالشركة ولقد أرهقت من كل شيء.. كل ما تتمناه أن تتركها هديل وشأنها حتى تستطيع أن تتصرف مع سليم بذهنٍ خالٍ من كل تلك الأشياء التي تريدها والدتها..

-

أمّا عن بدر الدين فقد تآكل قلبه القلق فلا يستطيع الوصول لأي منهما وهو يعلم بقسوة سليم وانفعالاته اللانهائية بخصوص كل ما يتعلق بتفاصيل العمل التي يريدها بحرفية شديدة، فلقد كانت زوجته نورسين محقة، لقد ورث ذلك عنه.. بالرغم من اطمئنانه بأن سليم لن يدع مكروهاً يصيب زينة ولكن لبرهة تذكر محادثته لزينة صباح اليوم ليزفر حانقاً فقد تتحكم عصبية سليم بها ووقتها لن يدري عن من سيدافع!

-

تقلب إياد ربما للمرة الآلف بسريره بمنتهى السعادة التي لم تطرق قلبه من قبل، لم يكن يدري أن الأمر سيكون بتلك السهولة، خالته شاهندة تلك سهلت عليه الأمر كثيراً ولبرهة تمنى لو أنها هي والدته بدلاً من هديل، لقد أخبرته كيف عليه أن يتعامل مع أسما تلك الفترة ريثما تنتهي من جامعتها، بل وكيف عليه أن يكسب إعجابها وودها أكثر.. وبالرغم من أنه كان متردداً بعد ما سمع من أسما كل تلك الكلمات التي لم يتوقعها من فتاة بعمرها، خططها المستقبلية وبناء شركة بأكملها، اعتمادها الشديد على نفسها بالرغم من أنها قد نشأت بعائلة لا تريد المزيد من المال ولكن أفكارها الرائعة دفعته للتردد لأنه عليه أن ينتظر المزيد من الوقت بينما جعلته بنفس الوقت فخوراً أمام نفسه أنه قد وقع بالحب مع فتاة مثلها!

-

دوت ضحكات شهاب الذي كان بطريقه لملاقاة وليد، يبدو أن تلك الفتاة التي لا تتقبل التحكم ستكون صيداً سهلاً للغاية، لاحظ كلما ذكر شيئاً عن والدتها كم تتغير ملامحها، يبدو أن علاقتهما ليست بأفضل حال.. ولقد آتى هو في الوقت المناسب حتى ينتشلها من بين يدي تلك الظالمة التي قد منعتها عن معرفة عائلة والدها، ستكون خطة عظيمة.. تنهد في راحة شديدة وهو يتذكر تقاسيم وجه سليم الذي شعر بالغيرة عندما توجهت له زينة بالحديث أكثر من مرة بل ومزاحها المتكرر معه أثناء تناولهم الطعام سوياً والتواعد أمامه بلقاءه قريباً وتبادل أرقامهما سوياً، لقد كاد سليم أن يحترق أسفل عيناه، ولكنه سيتريث، لا يريد أن يرى إحتراقه الآن.. سيفعلها لاحقاً وبأكثر الطرق آلماً له..

-

زمجرت مكابح سيارته عالياً ما ان وصلا منزل بدر الدين وانطلق من السيارة بمنتهى الحقد والغيظ وبركان غضبه كان عليه الإندلاع الآن بعد أن كبته طوال اليوم بأعجوبة.. ذهب بخطوات واسعة نحو مقعدها الآخر من السيارة وهو يستعيد برأسه كل ما مر اليوم منها تجاهه، لقد أثارت غضبه، خالفته، عصت أوامره بالعمل.. كل هذا كان سيكون هيناً.. أمّا أن تثير غيرته عليها بكل تلك الأفعال أمام عيناه مع شهاب اليوم، حسناً لقد فتحت على نفسها للتو فوهة الجحيم التي لن تستطيع الصمود أمامها وستحرقها في لمح البصر ولن يكترث حتى لطريقة معاملته معها، سيكون قاسياً، غاضباً، صلداً، سيكون كيفما يكون معها ولكنه لن يتقبل أبداً أن تفعل ما فعلته اليوم وستتعلم ألا تكررها مجدداً..

 

--

الفصل الثامن

 

"ايه اللي أنت بتعمله ده أنت اتجننت؟!" صرخت بوجهه عندما جذب ذراعها في عنف ثم صفع باب السيارة ودفع بجسدها بصلابة ليرتطم بالسيارة واقترب منها ناظراً لها ثم صاح بوجهها

"أنتي عيلة صغيرة على كل اللي عملتيه ده النهاردة؟ ايه طفلة؟ مش عارفة تميزي بين الالتزام والأفورة والصح والغلط؟! ومش نبهتك إنك متاخديش قرار من غير ما ترجعيلي؟ ايه بقا اللي جاب سيرة إننا فجأة كده ننزل مواقع.. لو مش عاجبك اسلوبي اتفضلي امشي، إنما تتعديني وتكسري كلامي اللي نبهتك عليه من أول دقيقة ليكي في الشركة.. ايه بتستعبطي يا زينة ولا ايه مش فاهمك؟!" صرخ بوجهها بنبرته الرجولية التي قد استمع لها جميع من بالمنزل وشعر بدر الدين بالقلق الشديد عندما رآه بتلك الحالة من شرفة غرفته

"يا اهطل يا ابن الغبي.. ايه اللي أنت بتهببه ده بس" تمتم ثم توجه مسرعاً للأسفل حتى ينقذ الموقف 

"يا سلام!! لا يا سليم اعرف إنك بتكلم واحدة زيها زيك في الشركة، لما أنت اللي مش عاجبك أسلوبي أنت المفروض اللي تغير من أسلوبك، وبعدين ايه الـ Over اللي عملته؟! وايه اللي ملتزمتش بيه؟! أنت راكب دماغك كده ليه وبتتحكم في كل اللي حواليك بالطريقة الزفت دي.. لو هما شوية هُبل ومستحملينك يبقا يكون في علمك أنا مش هاقبل طريقتك دي واياك تمد ايدك عليا بالطريقة دي تاني.. أنا بحذرك، احترم نفسك يا سليم! فاهم ولا لأ؟!" صرخت هي الأخرى بوجهه ليسحق هو أسنانه غضباً بينما كلمتها الأخيرة تركته مندهشاً رافعاً احدى حاجباه في تمرد

"احترم نفسي عشان جريتك من دراعك برا العربية.. وهو شهاب بيه لما كان ساندك ده كان اسمه ايه؟! ولما هو فضل سايب ايده عليكي كان اسمه ايه؟ مقولتيلوش يحترم نفسه ليه ولا عاجبك اوي وداخل دماغك عشان كده سيبتيه يعمل اللي هو عايزه؟ عشان كده رايحة تهزري معاه قدامي ومسخسخة على روحك من الضحك اوي واحنا بناكل وكل شوية تمسكي في دراعه قال ايه يا عيني هتقعي.. لما تحترمي نفسك أنتي الأول ابقي تعالي اتكلمي على الاحترام"

"لا أنا محترمة غصب عن عينك .. وبعدين أنت مالك ما أهزر مع اللي أهزر معاه براحتي"

"مالي إني ابن خالك يا هانم وعيب اللي أنتي عملتـ.."

"وهو ابن عمي ومفرقش عنك حاجة" هنا قاطعته لتنفجر حمرة الغضب بوجهه مجدداً 

"بقا أنا يا زينة بتقارنيني بواحد حيوان زي ده"

"ماله يعني.. أنت أحسن منه في ايه؟! ليه شايف نفسك أحسن من الكل؟ وبعدين بطل بقا تكبير للمواضيع ومتتعاملش معايا تاني احسنلك غير في اطار الشغل ده لو كملت معاك أساساً.. فاهمني ولا أعيد كلامي تاني؟؟"

"جرا ايه يا ولاد صوتكوا سمعته كل الفلل اللي حوالينا" هنا تدخل بدر الدين الذي حاول أن يُبعد سليم من أمامها 

"سيبني يا بابا"، "سيبني يا خالو" صاحا في نفس الوقت ليرفع بدر الدين حاجباه في دهشة 

"بصي يا زينة، وكويس إن بابا حاضر وسامع كلامنا، لو ماتعدلتيش واتعاملتي بإحترام ونفذتي كل اللي بقول عليه في الشغل أنا هيكون ليا تصرف تاني.. اعتبري إن النهاردة كان درس ليكي وده أول وآخر تحذير!! ياريت متنسيش الكلام ده وتفهميه كويس وتفهمي إن عشان كان أول يوم ليكي النهاردة أنا مردتش اهزئك قدام الناس!" صاح بها وأنفاسه التي تثاقل غضباً تتابعت في سرعة جنونية دفعت صدره أسفل قميصه الرسمي ليعلو ويهبط بطريقة غريبة لم يرها بدرىالدين أبداً على ابنه من قبل.

"بص أنت يا سليم، انا معدولة وبتعامل بإحترام ومش أنا اللي هتقبل باللي يقولها اعملي ومتعمليش.. واعتبر بردو ده أول وآخر تحذير ليك.. مش أنا اللي هتتعامل بالإسلوب ده.. ويكون في علمك لو بس فكرت تهزئني قدام حد أنا مش هاسكت وهارد الكلمة بمليون!! وعشان ده كان أول يوم تجربني في الشغل وتعرف إسلوبي هعديها بمزاجي.." صرخت هي الأخرى بوجهه ثم رمقته بنظرة غاضبة بينما كانت زرقاوتاها الغاضبتان قاربت ذرف الدموع "بعد اذنك يا خالو" استأذنت من بدر الدين لتوجه ظهرها لها وتغادرهما على الفور!

"خد ياض يا اهطل تعالى هنا" أقترب بدر الدين من سليم محاوطاً عنقه بذراعه ليجذبه نحوه 

"بابا مش وقت هزار الله يخليك" صاح سليم بضيق واضح وعقدة حاجبان جلية

"يا غبي.. حد يعمل في البسكوتة دي كده؟! ما براحة يا عم الشرس مش كده!" أخبره بدر الدين وهو لا يزال يقربه منه بينما حاول سليم الإفلات منه ولكن لم يدعه والده 

"بص متجبليش سيرتها الساعادي لحسن أطلع أولع فيها" تحدث بأنفاس متثاقلة وغيظ واضح 

"جرا ايه ياض هتتنرفز على ابوك كمان ولا ايه؟! ولا فاكرني مبقتش قادر عليك يعني؟!" حاول بدر الدين تصنع الجدية بينما سودواتاه المازحتان وشفتاه اللاتي لانتا في ابتسامة لم تدعا سليم إلا بزفرة حانقة "اهدى يا وحش وقولي ايه اللي حصل خلاك كده؟" ترك بدر الدين عنقه ثم دفعه بخفة من ذراعه لأقرب أريكة بحديقة منزله "تعالى تعالى فهمني واحكيلي براحة كده"

"يا بابا مش ممكن، عِند في كل حاجة، بتصغرني قدام الكلب اللي اسمه شهاب الدمنهوري ده، وبتضحك وبتهزر معاه ولا كأنهم متربيين مع بعض، وتروح الموقع من غيري وتسيبني وتروح معاه، وأصلاً أخدت القرار ده فجأة، وقال ايه نروح نتغدا معاه.. أنا مش فاهم ليه بتعمل كده، بس ورحمة أمي لو ما لمت نفسها لا هيكون ليا تصرف تاني معاها خالص!" أخبره بين أنفاسه الغاضبة المغتاظة من أفعالها جالساً مباعداً بين ساقاه متكئاً بأحدى يداه على فخذه شارداً في الفراغ وهو يتذكر كل أفعالها اليوم ليزداد سخطه تجاهها

"غيران يعني ومحموق اوي!!" أومأ بدر الدين في تفهم ماططاً شفتاه ليلتفت له الآخر بعينتين اتسعتا دهشة واحتدمتا حنقاً

"غيران ايه يا بابا بقولك عـ.."

"لما تيجي تعمل حركاتك دي تروح تعملها على زينة مش عليا، أنا بابا يالا.." قاطعه ثم وكزه على ذراعه ليتابع "كل الهري اللي أنت قولته ده بتتكلم عن طريقتها مع شهاب ومتغاظ إنك معرفتش تكلفتها قدامه.. ومن غير ما تقول أنا فاهم إنك بتفصل كويس بين الشغل وأي حاجة تانية، علشان كده مستحملتش واتضايقت واتجننت كده لما الموضوع جه من ناحية زينة.. اهدي يا سليم! زينة عمرك ما تعرف تكسبها بالأسلوب ده أبداً" زفر سليم ثم التفت لينظر بالفراغ أمامه مرة أخرى 

"أنا زهقت بجد.. زينة رجعت واحدة تانية، شوية هادية وشوية مجنونة، ساعات احس إننا بنقرب وفي أغلب الوقت بشوفها بتبعد عني، تصرفاتها مبقتش اقدر اعرفها، بقت غريبة اوي أكتر من الأول حتى.. يعني زمان كنت شايفها مختلفة عن كل البنات وذكية وهادية وعاقلة.. إنما دلوقتي مبقتش عارفها خالص زي ما تكون واحدة بقابلها من اول وجديد وعمري ما عرفتها قبل كده! وكله كوم والكلب اللي اسمه شهاب ده كوم.. فيه حاجة مش مريحاني من ساعة ما شوفته" لانت نبرته وهو يتحدث لأبيه وفاضت بالآسى والحزن 

"استنى بس.. بالنسبة لزينة أنت فِكرك هي عارفة نفسها؟ ولا مبسوطة باللي هي فيه؟ زينة نفسها مش عارفة هي عايزة ايه! تعرف امبارح لما أقنعتها بالهدوء وبراحة إنها تشتغل في الشركة زي ما هديل عايزة، البنت قِبلت الكلام عشان اسلوبي معاها كان هادي وحنين، لكن هي أصلاً مش عارفة هي عايزة ده بجد ولا لأ.. كلامها كله بيقول إنها معندهاش خطط مثلاً إنها تشتغل أو تعمل حاجة معينة، مهزوزة ومترددة في كل حاجة ما عدا حاجتين هي متأكدة أوي منهم، إن محدش يفرض عليها حاجة، وإنها تبعد عن كل اللي هنا بأي طريقة!" تنهد بدر الدين ثم استدعى انتباه سليم ليُكمل كلامه له

"بص يا سليم، مش هاقولك تكون حنين امتى ولا تكون شديد وتقيل معاها امتى، إنما زينة عشان تكسبها لا تفرض عليها حاجة ولا تحسسها إنها مُجبرة تكون معاك! وامسك أعصابك شوية يا اخي!" تفقده سليم بعينتين امتلئتا حيرة وتردد وقد لان غضبه وحنقه اللاذعان، ولكن جملة والده الأخيرة حولت تلك النظرة لنظرة مستفسرة سائلة 

"مش دي اللي تطلع عليها غيرتك بالمنظر ده.. ويوم ما تعمل حاجة تخليك تغير عاملها ببرود وهدوء ويوم ما تيجي تقولك مالك ابقا اتعصب يا عم بس مش كده.. البت بسكوتة هتتكسر في ايدك يا ابو قُصة أنت"

"قُصة!!!" كرر كلمته في تعجب ليتلمس جبينه وقد وجد بعض الخصلات بالفعل قد تناثرت على جبينه 

"روح يا عم احلق ولا حطلك شوية Gel.. أقولك، قوم كده استحمى واهدى وخش اتعشى من أكل امك الفظيع ده.. واعمل حسابك إننا محتاجين نرجع الـ Gym تاني.. أكلها ده هيبوظلنا كل حاجة"

"لا معلش يا بدر.. أنت اللي بتعجز مش أنا وشكلك هتملى قريب"

"اعجز مين ياض.. تحب أقوم أجيبك على الأرض دلوقتي" جذب عنقه مرة ثانية بذراعه اللتي لا زالت قوية ويده الأخرى تحولت لقبضة صلبة تعبث برأسه فوق شعره

"خلاص يا عم undertaker خلاص.. سيبني بقا"

"قوم يالا اتعشا ونام واعمل حسابك إننا رايحين النادي بكرة الصبح.. يالا على ما أشوف المجنونة التانية! تصبح على خير"

"وأنت من أهله"

 

--

دلفت تلك الغرفة التي اعتادت أن تمكث بها في منزل بدر الدين وقد استشاطت غضباً من كل ما حدث معها اليوم وأسلوب سليم اللاذع معها، تحكمه اللانهائي، ماذا فعلت هي ليعاملها بتلك الطريقة؟! تلك الأيام الماضية قد قاربت على تصديق أن أسرة بدر الدين بأكملها هي الأقرب لها من بين جميع أفراد تلك العائلة، ولكن ما فعله سليم اليوم قد تعدى حدود استيعابها وأصبح غير مقبول بالنسبة لها.

لربما هي اقتنعت قليلاً بكلام خالها الذي أقنعها به ليلة أمس، لربما ظنت أن العمل بالشركة قد يضمن لها ولو لمحة من ذلك المستقبل الذي تتخيله وتتصوره لنفسها ولكنها أدركت بعد كل ما حدث اليوم أنها ابتعدت بُعداً تاماً عن كل ما تمنته وخططت له في حياتها!

نهضت بطريقة هيستيرية لتجمع كل ما يمكنها أن تحتاجه بدلاً من الذهاب لمنزل العائلة الذي يمكث به أخواتها ووالدتها، هي حتى لا تكترث لما ستأخذه أو حتى ستبتاع الأغراض التي ستحتاجها عند عودتها لألمانيا، ستتحمل أي شيئاً كان ولكنها لن تكمل عملاً أم حياةً مع تلك العائلة.

اغرورقت زرقة عينيها بالدموع كلما عصفت على ذاكرتها بعضاً من تلك الجمل الكريهة التي طالما وجهتها لها هديل والدتها وكل أمر كان يخص حياتها، من هواية لدراسة لسفر وحتى لطريقة تربيتها لها وتمييز أخواتها جميعاً عنها وهي لا تدري لماذا ينظر لها الجميع وكأنها عالة عليهم أو كأنها غريبة الأطوار فهي حقاً لم تبالغ في شيء من قبل..

"بردو الزفت التشيللو دي.. مش قولتلك مليون مرة سيبيها من ايدك واتفضلي شوفي مذاكرتك.. هاتيها بقا كده.."

"بس يا ماما النهاردة الخميس و.."

"من غير بس.. اياكي أعرف إنك روحتي من ورايا تستقوي بسيف ولا بدر ولا جدتك عشان تجيبي واحدة جديدة" صرخت والدتها محذرة ثم أخذت تهشم الآلة على الأرضية "وادي اهى عشان ترتاحي خالص.. اما تبقي تخلصي دراستك واللي وراكي ابقي روحي بقا شوفي المزيكا بتاعتك"

تذكرت ذلك اليوم العصيب الذي صممت هديل فيه على تكسير تلك الآلة لأشلاء وهي لم تستطع سوى البكاء، فسيف والدها لم يكن متواجداً بالمنزل من أجل العمل، لم تعرف وقتها لماذا هي عليها أن تتخصص بالقسم العلمي حتى تدرس مواد لا تحبها حتى تكن مهندسة يوماً ما.. لماذا هي دوناً عن بقية أخواتها من تقسو عليها والدتها بتلك الطريقة؟!

فها هو إياد التحق بكلية التجارة باللغة الإنجليزية، وهذا عاصم قد التحق بكلية الإعلام، وأروى منذ أن عرفتها وهي مصممة على الإلتحاق بكلية إدارة الأعمال، وآسر بالرغم من سوء مستواه الدراسي لا تعامله بنفس الطريقة، لماذا إذن هي؟!

انهمرت الدموع على وجنتيها وهي تتذكر مدى تحكم هديل عندما ودت زينة أن تدرس بالخارج وبالرغم من أنها لم تكلفها أموالاً لحصولها على منحة مدفوعة ولكن كالعادة رفضت رفضاً قاطعاً أن تدرس زينة بالخارج حتى انتشلت هي نفسها تلك الفكرة من رأسها تماماً ولكن لولا وجود سيف وبدر الدين لاهما بجانبها لما كانت تركتها هديل وشأنها..

تلك الأيام كانت الأصعب عليها، كانت تعاني بها من كثرة النوبات المتتالية التي لم تفارقها ولو لليلة واحدة، تلك الليالي تأكدت أنها تكره صوت والدتها وقراراتها وتحكماتها وأرائها وكل ما يتعلق بها لتبدأ دموعها في تكوين غمامتان أمام زرقاويتيها وبدأت نبرتها في النحيب بصوت هامس..

"ماما يا بابا مصممة مسافرش، هي ليه بتعمل كده فيا، أنا جبت مجموع كويس وجيالي منحة، هي عايزة ايه مني تاني بس، ليه مش موافقة؟"

"معلش يا زنزون اهدي.. أكيد هي مش عايزاكي تبعدي عنها وتبقي جنبها وخايفة علـ.."

"لا يا بابا أرجوك، ماما عمرها ما خافت عليا ولا فرق معاها أنا بعمل ايه ما دام على مزاجها عمرها ما هتقولي لأ.. لو سمحت متحاولش تقنعني بالكلام بتاعك ده، أنا زهقت منها، زهقت من انها رافضة كل حاجة في حياتي بعملها، اشمعنى أنا؟ أنا ذنبي ايه؟! إنك مدلعني شوية عشان أنا الصغيرة؟ أنا مش عايزة دلع، أنا عايزة الناس تسيبني في حالي، ألبس بإختياري وأدرس بإختياري وأعمل ولو لمرة حاجة نفسي فيها.. حرام بقا يا بابا، حرام اللي هي بتعمله فيا ده، أنا مبقتش مستحملة، ليه كده بس.." قاطعته ثم اجهشت بالبكاء بصوت عالٍ بنهاية حديثها وصاحب دموعها صراخ هستيري ولم يتوقف وقتها إلا عند إحضار الطبيب..

عادت من تلك الذكرى المفجعة لأرض الواقع لتشعر بإنعصار خلف قفصها الصدري وهي تتحرك بهيسترية بالغرفة لا تدري أتجمع أشياءها أم لا.. هي لا تدري ما تريده، لقد وقعت في حفرة ما تفصلها عن الواقع ولا تشعر بها سوى بالآلام التي تنغرس بصدرها وكما أن عقلها لم يعد يساعدها أبداً بتذكره لتلك المواقف..

"ايه يا حبيبتي بتعيطي ليه بس؟!" تحدثت نجوى سائلة لحفيدتها التي قاربت عامها السابع للتو 

"ماما مش عايزاني البس الهدوم اللي بحبها ولبستني اللبس ده.." 

"طيب متعيطيش وأنا هاجبلك كل اللبس اللي انتي عايزاه" أحتضنتها كي تكف عن البكاء

"لا هي قالتلي متقوليش لحد، وزعقتلي جامد، وقالتلي ده مش لبس عيد ولبسي وحش وجابتلي لبس من عند أروى"

"مين قالك إن حد هايعرف حاجة.. بصي روحي لخالو بدر وقوليله إنك عايزة تروحي تقعدي عنده وأنا هاجيلك هناك وكل يوم هاننزل نشتري اللي احنا عايزينه.. أتفاقنا؟!" ابتسمت لها نجوى لتومأ الصغيرة بالقبول ثم ازاحت نجوى دموعها بعيداً "يالا روحي بس اقعدي جنب بابا وماما وبعدها بشوية روحي لخالو بدر" 

"حاضر يا تيتا" 

لا تدري من أين آتت تلك الذكري السيئة برأسها، فهذه كانت أول مرة تعترض هديل على ملابسها الملونة بطريقة غريبة ولكنها لم تكن الأخيرة، حتى ملابسها وما ترتديه تتحكم به، إلي متى ستظل معترضة ومتحكمة في حياتها هكذا؟!

"مامي أنا زهقت زينة كل شوية بتعيط وعايزة بابا" تحدثت أروى بإنزعاج

"سكتيها ولا شوفيلها صرفة أنا مش فاضية وبشتغل.. يالا انتوا الاتنين من هنا وأنتي أختها الكبيرة واتحملي المسئولية ومش عايزة حد فيكوا يقرب من هنا طول ما أنا بشتغل" أخبرتها هديل بإنزعاج لتذهب اروى متوجهة نحو عاصم وهمست شيئاً ما بأذنه ثم عادت أروى بإتجاه زينة 

"زنزون اطلعي في اوضتك وبابا جاي خلاص" ابتسمت لها بسماجة لتتوقف زينة عن البكاء فوراً 

"بجد" صاحت زينة في فرحة طفولية لتومأ أروى لها فاندفعت تلك الصغيرة على الدرج الداخلي للمنزل حتى تنتظر والدها الذي ظنت أنه سيأتي قريباً مثلما أخبرتها أختها وما إن دلفت حتى استمعت لصوت المفتاح بالباب يُعلن عن إغلاقه من الخارج، بينما سمعت همس كلاً من أروى وعاصم خلف باب الغرفة لتُكمل صراخها وحدها لوقت طويل ولم يجيبها أحد ولم يفتح لها الباب سوى خالتها شاهندة التي عادت في وقت متأخر.

لا تعرف لماذا تتذكر كل تلك الذكريات الكريهة الآن، لقد حاولت انتشالها من رأسها مرات لا نهائية وقد ظنت بالفعل أنها قد نستها تماماً ولكن يبدو أنها كانت تخدع نفسها، فتلك التفاصيل الصغيرة لا زالت تتذكرها وتنتعش برأسها من حين للآخر ولن تتركها أبداً ولكن الآن قد تشتت عندما سمعت طرقات على باب غرفتها..

"سيبوني لوحدي.. أنا هامشي من هنا ومش هاكمل شغل في الشركة دي" صرخت بهيستيرية ولم تتبين حتى من الطارق ولكن تصاعد قلق بدر الدين الذي تعجب من نبرتها التي عرف أنها قد تأثرت بفعل البكاء واندفع داخل الغرفة دون مقدمات لتقع عيناه على حقيبة سفر قد أُلقيت بها بعض الملابس وأغراض أخرى بعشوائية تامة.

"زينة اهدي يا حبيـ.."

"لا يا خالو مش هاهدى" قاطعته صارخة وهي لا زالت تبكي "أنت كل مرة تفضل تقنعني، كل مرة تفضل تهدي فيا، بس لغاية امتى هافضل اجري عليك عشان اقولك الحقني؟ بابا مات خلاص، فاهم يعني ايه؟ يعني مش هينقلك حاجة يوم ما ماما تضايقني تاني، محدش هيقولك حاجة غيري، وهافضل أنا الصغيرة التافهة الغريبة النكدية اللي بتروح تستنجد من وراها بالناس.. لا أنا مش هاعمل كده، أنا مش هافضل صغيرة ومش هاسمع كلام حد تاني.. حرام عليكو بقا، ليه؟ ليه هي عايزة دايماً تتحكم في كل حاجة؟ ليه مش من حقي أختار وأكون إنسانة؟ ليه سليم عاملني كده؟ وليه أنت عايزني أفضل موجودة، كلكوا عيشتو من غيري خمس سنين.. انسوني بقا وسيبوني في حالي.. أنا تعبت من كـ..." شهقاتها المتلاحقة وبكاءها الهيستيري الذي بالكاد استطاع بدر الدين تبين بعض الكلمات من خلاله لم يتركها إلا متحكماً بأنفاسها المتوالية في سرعة شديدة انتهت على اثرها بالصراخ المتلاحق وما أن سمع كلاً من سليم ونورسين وسيدرا صوتها الصارخ حتى اندفع الجميع نحو غرفتها!

"بابي فيه ايه؟!" صاحت سيدرا في اندهاش ثم اندفعت نورسين للداخل لتحاول معانقة زينة التي لا زالت تصرخ بطريقة غريبة ولكن كلتا يداها تشنجتا بطريقة غريبة أمامها وكأنها تمنع أي احد من الإقتراب نحوها أمّا سليم الذي قد تمزق قلبه لملامحها التي يتذكرها جيداً كلما عانت قبلاً من تلك النوبات حتى اندفع للخارج مسرعاً ليحدث الطبيب.

"نورسين.. خدي سيدرا وأخرجي برا" تحدث بدر الدين آمراً بلهجة محذرة لتومأ نورسين التي فشلت للتو في تهدئة زينة وبدأ كل ما من وجهها ويدها وعنقها في التحول للون الأزرق

"يالا يا حبيبتي.. هي هتكون كويسة.. تعالي معايا" همست نورسين لإبنتها لتومأ سيدرا لها في تفهم ولكن لا زالت ملامحها متجهمة ومستفسرة عما يحدث لزينة فهي لم تراها من قبل بتلك الهيئة، هي فقط تتذكر أنها كانت مريضة بتلك النوبات ولكنها لا تتذكر ما كان يحدث لها بكل التفاصيل فلقد كان ذلك منذ سنوات.

لم يحدث له من قبل أن يغضب تجاه نفسه بتلك الطريقة فقط لسماع صوتها الصارخ وهو يظن بداخله أن كل ما هي به الآن من تلك الهيستيريا هو السبب به، لم يقصد أن يؤثر غضبه عليها بتلك الطريقة، لو كان فقط يعرف ما قد يحدث لها إن غضب عليها بتلك الطريقة لما كان فعلها أبداً.

أنهى مكالمته مع الطبيب ثم توجه بوجه احتقنت به الدماء لغرفة زينة أخذاً خطوات واسعة وهو بداخله مستعد لفعل أي شيء حتى تتوقف عن تلك الحالة التي يظن أنه هو السبب بها. 

دلف الغرفة في انفعال ليلتفت بدر الدين إليه ولا زالت زينة على حالتها تلك بين البكاء الشديد الهيستيري الذي يتسلله الصراخ ويداها المتشنجتان يمثلان عازلاً أمامها وكأنها تحصن نفسها من الجميع!

"سلـ.."

"بابا سيبني مع زينة" قاطعه بجدية ليتعجب بدر الدين 

"بس لـ.."

"ارجوك يا بابا سيبني وأنا هاتصرف معاها" صاح مجدداً مقاطعاً أبيه ولكن بداخله كان يتمزق قلبه لرؤية ملامحها وجسدها الذي تشرب بالزرقة وسماع صوتها الباكي الذي دفع كل قطرة دماء بعروقه للإنتفاض غضباً. 

تريث بدر الدين لبرهة ولأول مرة يواجه ذلك رد الفعل من سليم، بالرغم من قربهما الشديد وعلاقتهما التي تشابه صديقاً وصديقه ولكن رؤية تقاسيم وجهه وملامحه وتلك النظرة بعيناه لم يسعه إلا التصرف كصديقه الآن وسيترك كونه أباً ووالداً له لاحقاً حتى يتحدثا معاً وترك له الغرفة على مضض ناظراً له بسودواتيه نظرة لا تبشر بالخير ولم يكترث الآخر لأياً ما سيحدث وكل ما أراده هو تهدئة تلك التي انزوت بأحدى أركان الغرفة أرضاً ولم يعد يتحمل أن يراها بتلك الهيئة.

وصد الباب خلف والده ليسحق بدر الدين أسنانه غيظاً وتوقف عن التحرك لبرهة وتثاقلت أنفاسه في غضب من تصرف سليم فمهما كانت مشاعره نحوها هو لا يزال في منزله ولا يحق له أن يتواجد معها وحدها بتلك الطريقة وخاصةً وهو متواجد تحت نفس السقف وكاد أن يعاود أدراجه ويخرجه من الداخل ولكن أوقفته نورسين التي لاحظت تشبع ملامحه للغضب لتهمس له بابتسامة مقتضبة ونبرة واثقة

"اهدا واستنى وتعالى معايا.. سيبهم سوا سليم هيعرف يتصرف" 

نظر لها بجدية شديدة ولم يعجبه واقع تلك الكلمات التي سقطت على مسامعه ولكن يعرف كم أن غضبه لاذع قد يدفع حالة زينة للأسوأ لذلك ترك كل ذلك جانباً وزفر في حنق وتابع طريقه متوجهاً للخارج وكذلك تبعته نورسين في صمت.

 

--

        

توجه سليم نحوها ثم جلس بجانبها أرضاً وأسند رأسها إلي صدره ليحتويها به واحاط ذراعاه حولها رغماً عنها ورغماً عن تلك الصرخات والتشنجات التي يشعر بانعكاسها على جسده بأكمله وقربها منه بشدة حتى تلاصق جسديهما ثم أخذ يهمس بأذنها بعض الكلمات التي يظن أنه ستهدأ من روعها نوعاً ما بعدما أخذت تلك النوبة بعض الوقت وتمنى بداخله أن ربما كلماته ستعيدها إلي الواقع

"زينة.. زينة.. اسمعي.. بصي، اللي أنتي بتعمليه ده مش هيغير حاجة، بصي لازم تكوني قوية، عشان نفسك قبل أي حد.. فوقي من العياط وفوقي من كل الكلام ده، سمعاني يا زينة؟!" لاحظ تشنجاتها تزداد بين يداه ليحاول هو السيطرة على ذلك الغضب الذي تزايد بداخله عندما تزايد ارتجافها بين يداه 

"زينة!!" صرخ بها ليسترعي انتباهها وأمسك برأسها محدقاً بتلك الزرقاوتين اللاتي تقتلاه بحبات اللؤلؤ الصافي تلك التي تتهاوى على وجنتيها "فوقي .. افتحي عينك وبصيلي .. واسمعي كلامي ده كويس" كوب وجنتيها بين كفيه ثم صرخ بها غاضباً حتى يشعر بأي استجابة منها وها هي قد توقفت عن التشنج وكأنها خرجت من غيبوبة الصرع الشديدة خاصتها التي غابت بها وانعزلت بداخلها بعيداً عن العالم وعادت تلك النظرة المتحدية بزرقاويتيها التي تشعبت بحمرة البكاء 

"أنا ماشية.. مش هافضل هنا.. انتو ليـ.."

"مش حل إنك تمشي.. الحل إنك تواجهي" صرخ بها ليقاطعها بإنفعال وقد اقترب بدر الدين مجدداً من الباب وكاد أن يدلف ولكن نورسين قد منعته "هتفضلي لغاية امتى تجري وتبعدي؟ فكرك إن ده حل؟ فاكرة إن كده هديل هتبطل ولا أروى ولا أنا نفسي هبطل.. متضعفيش.. قومي وصرخي في وشنا كلنا، لكن متجريش وتبعدي وتحملي نفسك ضغط.. كفاياكي بقا، هتفضلي لغاية امتى كده؟! زينة!! أنتي قوية، عيشتي لوحدك برا خمس سنين، من غير ما تيجي هنا ولا مرة، من غير ولا زيارات ولا مقابلات، يعني بتنفذي اللي في دماغك.. سواء اللي قدامك وافق أو موافقش انتي بتعملي اللي انتي عايزاه، اللي يزعقلك مرة زعقيله مليون.. متقبليش حاجة عكس إرادتك ولا تسيبي حد يتحكم فيكي، بس بردو متهربيش، عمر ما الهروب كان حل.." لانت نبرته وهدأت عندما تلاقت تلك الزقاوتان الباكيتان بعسليتاه الداكنتان للغاية بينما تبادلا الأنفاس المتثاقلة فلقد أنهكا، هي بتحملها كل تلك الأفكار والذكريات السيئة أمّا هو فلم يعد يطيق تحمل رؤيتها بهذه الحالة ولا ذلك الضعف. 

سمعا طرقات على الباب وبكل ما اوتي من قدرة على سيطرة بمشاعره أخفض يداه عن وجنتيها ثم نهض لتنهض هي الأخرى وامسكت بيده في وهن ليجلسها على احدى الكراسي بالغرفة ولكنها أشاحت بنظرها للأرضية فلقد تضارب كل شيء داخل عقلها وكأنها في حالة انعزال وغيبوبة عن الواقع، أم هي مدركة ما يحدث حولها؟! هي حقاً لا تعلم.

"ايوة" توجه سليم ليفتح الباب لتتلاقى داكنتاه بعينا والده السوداوتان وقد رأى بهما حنقه الشديد

"الدكتور جه.. اطلع برا الأوضة وسيب نورسين معاها" حدثه بجدية وحزم ناظراً له بغضب ثم توجه تاركاً اياه ليتبعه سليم شاعراً بالضيق من تلك النظرة التي وجهها له أبيه للتو. 

 

--

 

"عاجبك ابنك واللي بيعمله ده؟!" تنهد بدر الدين سائلاً بينما توسد ثدييها ضامماً جسدها إليه بقوة 

"ما تهدى بقا، أنت مش اتكلمت معاه وطالعلي بتضحك؟ ولا قلبت تاني وغيران بقا؟!" همست له في تحفز ليرفع نظره إليها واحدى حاجباه قد صاح بالإعتراض لينتفض في إنكار

"هغير من ابني؟!"

"اه هتغير من ابنك.. هو فيه زي سولي وحنيته.. عشان بس كان عامل زي الأسد ساعة ما زينة تعبت وكلم هو الدكتور وهو اللي عرف يفوقها أنت غيرت شوية، عايز تسيطر أنت على الكل وتعمل كل حاجة بنفسك.. بس نصيحة مني خليه هو بقا يبتدي يعمل كل حاجة.. سيبه هو هيعرف يتصرف كويس معاها عشان زينة محتاجاه، وبعدين يا ذكي بدل ما تفهمها وهي طايرة، ده واخد من المنبع، زي ما اخد منك الشغل وزي ما عارف يسيطر على سيدرا وممشي الدنيا حواليه زي الألف، تفتكر مش هيقدر عليها.. اديله فرصته بقى"

"خليكي كده مقوياه عليا.. وابقي اديله فرصته ياختي براحتك.. أنا هنام" زفر في ضيق ثم تركها وووجه ظهره لها متكئاً على جانبه "يالا تصبحي على خير" 

"ملك الكون!!" همست له بدلال بعد أن نهضت على ركبتيها وداعبت صدره بأناملها بعد أن احاطته بذراعها "هتنام زعلان مني عشان شايفة سولي شبهك.. مش أنت الأساس بردو ولا ايه؟!" همست بأذنه في غنج ثم داعبت أسفل أذنه بأناملها لتمررها على لحيته وعنقه بلمسات ماكرة وقد أدرك جيداً ما تحاول هي فعله وخاصةً بعد تلك القبلة التي لثمته بها على عنقه.

"بلا زعلان بلا مش زعلان.. يالا نامي" تصنع الضيق منها ولكنها لن تستسلم له بتلك الطريقة

"ممم.. ما أنت عارف إني مش هاقدر أسيبك نايم زعلان" همست له مجدداً بينما أكملت مداعبة صدره بأناملها واقتربت للغاية منه حتى لامس ثدييها ظهره وأكملت توزيع تلك القُبل على عنقه "بس يا ملك الكون لو نمت زعلان مني أنا مش هسامح نفسي وهمنع نفسي من أكتر حاجة بحبها.. وعشان خاطرك ممكن أبطل قلة أدب معاك 3 شهور لو حابب عشان تصالحني!" همست له بمكر بين قبلاتها وهي تعي جيداً أنه سيعترض على ما أخبرته به لتوها بل وسيغضبه 

"نعم ياختي.. تلت شهور ايه؟!" التفت ليعتليها في ثوانٍ 

"مش أنت مش عايز تصالحني؟!" تصنعت العبوس وأشاحت بنظرها للأسفل لتهمس له مُكملة بتلك النبرة التي بعثرت رجولته 

"لا بقولك ايه هتبصيلي كده وتعملي زعلانة هافضل أعمل في قلة أدب لغاية ما تجبيلي سندس!!"

"سندس مين دي؟!" نظرت له بزرقاوتان مدهوشتان 

"بنتي اللي هاجيبها منك حالاً" ابتسم لها بخبث وهو يتفحص زرقاوتاها بسوداوتيه الثاقبتان 

"أنت اتجننت!! سليم داخل على تلاتين سنة تقولي سندس!" تحدثت له بجدية وقد غابت نبرتها اللطيفة المتددللة

"مش عاملالي فيها جامدة ونازلة بوس وحركات ودلع.. أنا بقا هبطلك العادة دي" 

"مش كنت زعلان من ابنك؟! أنا غلطانة إني كنت بحاول أصالحك! حاسب ده"

"احاسب ايه!! يحرق ابني على بنتي على الدنيا كلها.. ده أنتي مش هاتتحركي لحظة من هنا غير لما اخد كل قلة الأدب اللي أنا عايزها!" 

"بدر" صاحت بدلال مرة أخرى "ده كان عشان سليم  مـ.."

"ولا بس ولا مبسش.. أنتي مش هتنامي للصبح! وسيبك بقا من الدوشة والعيال والهري ده وركزي معايا اوي!" همس مقاطعاً اياها أمام شفتيها ثم بدأ في تلثيماته التي جعلتها تبتسم بين قبلتهما ثم حاوطت عنقه بذراعيها لتجذبه نحوها أكثر وشرعت في مبادلته هي الأخرى.

 

--

ابتسم بخفوت خوفاً من أن يتفلت منه ولو همهمة بسيطة قد توقظ تل التي بين ذراعيه وهو يتذكر كلمات نورسين له واتفاقهما دون أن يعلم والده ببقائه بجانب زينة طوال الليلة حتى تستيقظ هي وتجده بجانبها.

تفقدت عيناه ملامحها الهادئة النائمة وأنصت لتلك الأنفاس المنتظمة ثم ضمها وقربها إليه أكثر بين ذراعيه ولم يستطع ولو للحظة واحدة النوم أو الإستسلام لذلك النعاس الذي يعارك جفناه ليخفضهما حتى لا يترك تلك اللحظات تتفلت وتنسلت وأراد أن يستمتع بذلك القرب منها وهي بين يداه!

أتكأ بذقنه بهدوء على مقدمة رأسها وأخذ يُفكر كيف سيجد تلك الطريقة حتى تعود زينة لتسطع مرة أخرى مثلما كانت يوماً ما! يشتاق لضحكتها، لتلك الحيوية التي كانت تنطلق بها أمام عيناه، يشتاق لمناقشتها التي كانت لطالما تطرحها على والده بسبب شيئاً ما قرأته أو شيء أعجبها، يريد أن يستمع لتلك النبرة المفعمة بالحيوية مرة أخرى، يريد رؤية ذلك البريق بعينتيها مرة ثانية..

لقد سأم وحدتها وطول صمتها غير المألوف عليه، يتألم كلما رأى تغيرها اللاذع بسبب والدتها، لم يكن يتوقع أبداً أنها ستعود بهذا الأسلوب الذي غاير تماماً زينته القديمة التي عهدها، يرى الآن الطريق لها وعراً وشاقاً للغاية عليه ولكنه لأجلها سيتكبد كل ذلك العناء حتى تعود تلك العتمة الظاهرة بعيناها لما كانت عليه من قبل، يريد أن يرى تلك البهجة السعيدة والحيوية بزرقاويتيها مرة ثانية وسيفعلها عاجلاً أم آجلاً..

يفكر بالعديد من الأشياء والأفكار التي يمكن أن يساعدها ويستعيدها من خلالها، لقد طرأ حتى العلاج النفسي على عقله، ولكن ربما لن تتقبل بسهولة تلك الفكرة بل وستعود للعناد والتحدي، عليه أن ينتظر قليلاً بعد، وسيعيدها لتلك الفتاة مرة أخرى ولكن كل ما أراده أكثر من أي شيء في هذه اللحظة أن يحظى بالمزيد من قربها منه ولا يكترث لأي شيء قد يحدث لاحقاً.. وصد عيناه متنهداً بعمق ثم ضمها إليه أكثر ولم تمر ثوانٍ حتى سيطر عليه النوم!



--

احتسى من كأسه ثم وضعه مجدداً أمامه على البار الجالسان عليه وتفقد شهاب بعناية أمام عيناه وهو يتعجب له كثيراً فدائماً ما كان شهاب بالنسبة له كاللغز الغريب الذي لم يستطع حله أبداً! 

"ايه.. بقيت businessman مشهور ومش فاضيلنا ولا ايه؟!" تحدث وليد سائلاً بسخرية 

"ولا مشهور ولا حاجة، المشاريع كترت بس" رفع شهاب نظره من هاتفه بعد أن وضعه بجيب سترته الداخلي

"آآآه.. قول كده.. عشان خاطر المشاريع بقا موقفلنا أي حاجة جديدة؟ ما هي دي مشاريع حلوة بردو واحنا عارفين اللعبة سكتها ايه، فأيه بقا؟" 

"بص.. أنا عندي فكرة كويسة، لسه عايز أكلمك فيها، الموضوع هياخد وقت وعايزله مكان بس صدقني لو عملناها ممكن نشطب بعدها" 

"نشطب.. قول بقا إنك عايز تشطب.. لكن اللي زيي كده مينفعش يشطب أبداً"

"مظنش فيه ما بيننا الكلام ده .. بس الحوار تقيل ومش سهل .. لينا قاعدة بقا كبيرة"

"لا كده واضح إن اللعب احلو اوي، القاعدة امتى طيب؟"

"سيبني اظبطها وأقولك" اجابه شهاب بإقتضاب كالمعتاد ولم يفصح عما يدور في خاطره 

"تمام" أومأ وليد له بالموافقة "صحيح.. عملت ايه مع البت اللي اسمها ميرال؟!" 

"هاعمل ايه يعني.. زيها زي غيرها واستحالة تقرب من حد فينا تاني"

"أنا مش عارف أنت ازاي كده بجد، تفتري ليه على النعمة، بغض النظر عن ميرال يعني أنها كانت أسخف واحدة فيهم وكانت هتموت عليك اوي، بس أنت تمسك الواحدة من دول تربطها وتعلقها وتيجي تجري وراك تاني وفجأة بيختفوا.. أنا بجد مش فاهمك.. ازاي فجأة بتبعدهم كده ويبقوا فص ملح وداب؟" نظر له في تساؤل ليهز شهاب كتفيه ثم اجابه بهدوء

"ولا واحدة فيهم قدي.. عشان كده بيختاروا يبعدوا" 

"لا جامد يا عم أنت ياللي مفيش حد قدك.. قوللي بقا.. ايه حوار ولاد عمك ده؟ أنت مقولتليش يعني" تسائل وليد في تلقائية بالرغم من علمه بأن شهاب ليس من يتحدث كثيراً.

"يعني.." قلب شفتاه ثم حدق ببنيتاه الثاقبتان في عينا وليد "شايف ان شركتهم كويسة وعايزنا نقرب من بعض في الشغل"

"طيب وفيها ايه؟ ما تشتغل معاهم، ولا همّ مش كويسين؟"

"مش بالعها.." هكذا اجابه بمنتهى الإقتضاب ثم غيّر مجرى الحديث تماماً "بص.. اهدى بعد اخر موضوع عشان مش عايزين حد يفتح عينه علينا.. لغاية ما اظبطلك الموضوع اياه وارسيك على كل حاجة"

"يااااه.. دلوقتي مش عايزين عنين حد تفتح علينا، فين بس ايام زمان لما كنا عايشينها بالطول والعرض والمواضيع مكانتش بتاخد معانا وقت.. ياما نفسي ترجع شهاب القديم! موضوع رجل الأعمال ده من ساعة ما رجعت مصر وهو غيرك"

"وهو انا من ساعة ما جيت هنا مش بردو المواضيع كبرت؟"

"كبرت بس!" اخبره في مزاح "لا ده أنا المفروض اقولك يا معلم، فين بس ايام ما كنت انا اللي معرفك السكة دي.. بس لا عمري ما كنت اتخيلك تكون كده في يوم.. بقيت خطر بصراحة" صاح بإعجاب حقيقي

"ولا خطر ولا حاجة.. انا بركز بس.. عموماً لينا قاعدة تانية واصبر زي ما قولتلك ومتستعجلش .. أنا هاسيبك عشان الحق اروح .. سلام"

توجه شهاب مغادراً ليترك وليد خلفه متعجباً من أسلوبه الذي يزداد غموضاً يوماً بعد يوم!! لم يكن هكذا بالسابق أبداً ولكن بتلك السنوات الأخيرة قد تغير كثيراً، يُدرك وليد جيداً أنه لا يستطيع الوثوق به بشكل تام ولكن ما يعلمه جيداً أن شهاب لطالما كان من نوع الرجال الذين لا يكترثون سوى للأموال ولذلك هو لن يخسره أبداً وخاصةً بعدما أصبح ذلك الكيان الذي يحيط شهاب به نفسه يُسهل على وليد الكثير والكثير!

 

--        

فاقت على أشعة الشمس التي تسللت من نافذتها وهي تشعر بآلم رأسها الذي لا يُطاق وفتحت عيناها لتصطدم زرقاويتيها بوجهه سليم الذي كان يعانقعها بكلتا ذراعيه لتضيق ما بين حاجبيها في غضب وكادت أن تصيح به لتوقظه ولكن شيئاً ما أوقفها.

تذكرت كل ما حدث منذ البارحة، طريقته معها، تلك الذكريات التي انهالت على رأسها دون تواني، وجود سليم بجانبها وتحدثه لها بطريقة اختلفت تماماص عن أي أحد من قبل..

تنهدت وهي تتفقد ملامح وجهه وخصلاته الفحمية التي انهالت على جبينه في تمرد، تعجبت كثيراً لذلك الشخص الذي أمامها، تلك الكلمات التي أخبرها بها ليلة أمس، لم يواجهها أحد من قبل بحتمية أن تكون قوية، أن تواجه الجميع، أن تنفعل مثلما أرادت، أكانت حقاً تتهرب كما أخبرها؟ لا .. هي لا تتهرب .. هي تريد من الجميع أن يتركوها وشأنها وألا يتحكمون بها!

انخفضت زرقاوتاها لتتفقد سائر ملامحه وشعرت بإنتظام أنفاسه الدافئة حتى توقفت مقلتيها على شفتاه المنفرجتان قليلاً لتتنهد مجدداً وهي تشعر أنها غارقة بالحيرة، لماذا هي مسالمة أكثر من اللازم هكذا معه؟ لماذا أيضاً هو بجانبها الآن ومتى آتى إلي هنا؟ قطبت جبينها وهي تحاول تذكر ما حدث ليلة أمس بعد أن رآت الطبيب ولكن ذاكرتها لم تسعفها ولم تعاونها بتاتاً..

شعر بتلك الأنفاس الرقيقة التي ارتطمت بوجهه على غير العادة فهو لم يسبق له من قبل النوم بجانب أحد سوى والده ففتح احدى عيناه بصعوبة وترك الأخرى مغلقة ولم تستطع زينة منع تلك الضحكة التي انطلقت منها على مظهره المضحك..

"ممم.. ده أنا طلعت بضحك اهو.. صباح الخير" همس بنعاس وهو يشعر بالسعادة فهو لم يستمع لتلك الضحكة منذ سنوات 

"صباح النور" همست بين ضحكتها ليستمع لنبرتها التي لا زالت تحمل همهماتها الضاحكة 

"عاملة ايه كده؟! بقيتي احسن؟" همس سائلاً وهو لا يزال يشعر بالنعاس ثم أغمض عينه مرة ثانية وقربها منه أكثر لتحمحم زينة 

"كويسة بس يا سليم أنت ازاي نايم معايا هنا، وبعدين أنت أصلاً جيت امتى؟!" تسائلت في ارتباك وحاولت ابعاد جسدها عنه 

"يعني قولت أغير جو كده، ما أنا بنام في اوضتي كل يوم يعني، فحبيت أخد لفة في البيت!!" اجابها مبتسماً ولا زال موصداً عيناه لتضيق هي زرقاويتيها وهي تدرك أنه يمزح 

"ويا ترى خالو بقا عارف إنك بتغير جو في أوضتي وعلى سريري ولـ.."

"لا خالو ايه!!" نهض مسرعاً وترك محاوطة جسدها بذراعيه ليجلس القرفصاء أمامها وقاطعها وقد تنبهت حواسه تماماً ونسي ذلك النعاس الذي كان يُسيطر عليه منذ قليل "خالو لو عرف واحد فينا هيتقطع رقبته!" 

"طب لما هي فيها قطع رقبة، نمت هنا ليه يا سليم؟!" نظرت له بإستفسار ثم نهضت هي الأخرى لتجلس أمامه وهي تحاول معرفة لماذا فعل ذلك وأخذت تتفقد ملامحه التي تحولت للجدية الممتزجة بشيء ما لم تتبينه ولكنها تابعته بنظراتها وتفحصت عيناه في جرأة 

"مقدرتش اسيبك امبارح" تنهد مجيباً اياها وحدق بعينيها اللاتي تقتلاه بنظراتها المترددة ولمعة الحزن بهما ليلاحظ ملامحها بدأت في أن تعبس ولكنه قد أخذ عهداً على نفسه ألا يراها حزينة مرة أخرى منذ البارحة "متضايقيش.." حاوط وجنتيها بكفيه الدافئتان ولم تعد هي تتحمل تلك التصرفات الغريبة اتي تلاحظها اليوم منذ أن استيقظت 

"أنا عارف إني زودتها معاكي امبارح .. وأنتي لسه متعرفيش مين سليم .. ممكن نتفق على حاجة؟!" تفحص زرقاويتيها منتظراً اجابتها وتقبلها لكلماته ولكن عيناها وهي تتحركا بتعجب بتلك الطريقة لا يساعداه أبداً "ممكن تعرفي الأول مين سليم؟! ممكن أقولك تتعاملي ازاي مع كل الناس اللي حواليكي؟ ممكن تشيلي من دماغك خالص إن حد يتحكم فيكي عشان أنا عمري ما هاسمح لحد بكده؟!" لم يستطع انتظار اجابتها ونطق مصرحاً بكل ما يتمنى أن يراه يتغير بها حتى تعود لتلك الفتاة التي يعشقها منذ سنوات وتعالت أنفاسه متوتراً، نعم هو يحبها، ولكن لا، هذا ليس بالوقت المناسب ليخبرها بكل ذلك

"أنت بتعمل كل ده ليه يا سليم؟!" حاولت إخفاض يداه من على وجنتيها ولكنها لا تدري لماذا وجدت نفسها تتمسك بيداه تلامسهما على تريث وشيئاً ما بعيناه جعلها تتأنى وتحدق بهما وكأنما توقفت عن الشعور بكل ما يدور حولها 

"أنا بعمل كل ده عشان عايز أشوفك احسن، عشان يا زينة أنتي تستحقي حياة أحسن من كل اللي أنتي بتعمليه في نفسك ده ومن كل الضغوط اللي بتسبيها تتحكم فيكي، عشان أنا بعد اللي حصل امبارح مش هاقدر استحمل اشوفك مضايقة تاني، وعشان أنـ.."

"زينة.. صحيتي؟!" قاطعهما ذلك الصوت لتنهض زينة مسرعة في ارتباك شديد تاركة سليم خلفها لتحمحم وهي حقاً لا تكترث كيف يراها سليم الآن وكل ما أكترثت به هو كيف سيراها الجميع بعد إدراكهم أنها قد نامت طوال الليلة الماضية مع سليم بسرير واحد!!! 

 

--

الفصل التاسع

"تعرف يا سيف.. أنا طول عمري كنت شاطرة، وطول عمري طموحة.. نفسي ابقا ناجحة اوي ويبقالي كيان أنا وأولادي ويبقوا ناجحين وشاطرين ونكبر سوا وكمان جوزي كان نفسي نبقا عيلة كبيرة.. بس الراجل اللي اخترته يفضل جنبي طول حياتي وأبو أولادي دمر نفسه في عيني وحرم نفسه من أولاده بنفسه، كنت فاكره إن تفكيره زي تفكيري عشان كان شاطر وذكي.. إنما لاقيته طماع واستغلالي مش أكتر، خياناته اللي مكنش بيبطلها وقذارته في انه يطلع مصلحة على حساب سمعته وسمعة شركة أهلي.." ابتلعت بمرارة بينما نظر لها سيف في حُزن لتآلمها البادي على ملامحها وتركها لتتحدث له بكل ما يجول بداخلها

"مكنتش اصدق في يوم انه ممكن يتخلى عني وعن ولاده عشان خاطر حتة بنت صغيرة شافها حلوة في عينيه.. تعرف يا سيف، لو كانت بس بالنسباله نزوة وشالها من دماغه يمكن كنت سامحته.. متستغربش ان بشخصيتي الجامدة دي هيبقا صعب عليا اسامح اللي بحبه.. بس.." تنهدت وهي لا تدري حقاً ماذا عليها أن تقول

"أنا آسفة يا سيف، المفروض مكنتش أقولك الحاجات دي، أنا بحبك والله، وربنا عوضني بيك.. عارفة إنك هدية من ربنا لأولادي ويمكن أنا مش حنينة عليهم زيك ولا هادية زيك.. بس.. أنا في لحظة حياتي اتدمرت، زينة على ايديا وباباها مش جانبي وحسيت ان المسئولية كلها عليا والبنت كانت اصعب واحدة في اخواتها.. وصدقني لولاك أنا مكنتش هاقدر أعيش.. أنا معرفش أصلاً ازاي لقيت راجل زيك.. أنا آسفة لو بفضفضلك بـ.."

"هششش" قاطها ثم جذبها لصدره وهو يربت على ظهرها في حنان "هديل أنا بحبك بشخصيتك القوية وطموحك وذكائك وانك بتقدري على المجهود الجبار بين الشغل والأولاد ومامتك.. أنا أصلاً اللي مش عارف لقيت زيك ازاي.. وانتوا اللي دخلتوا حياتي هدية من ربنا بعد ما مات جوايا أمل اني يبقا عندي طفل واحد لقيت خمس اطفال مرة واحدة بيقولولي يا بابا.. أنا بحبك وبحب كل حاجة فيكي، بحب اسمع وجعك وحكياتك وحتى وأنتي بتزعقي بحبك وبحب صوتك وحتى وأنتي مكشرة كمان.. اوعي تقولي تاني أبداً إنك المفروض متحكليش واياكي تعتذريلي.. وبعدين لو أنا مش جنبك وبسمعلك، مين يسمعلك؟!"

لانت شفتاها في ابتسامة وهي تتذكر تلك اللحظات بينهما منذ سنوات لتتهاوى دموعها دون إنقطاع وهي تشعر بأنها وحيدة للغاية، تريده مجدداً بملامحه البشوشة وهدوئه المحبب لقلبها، تريد أن ترتمي بصدره مرة أخرى، تقص عليه كل ما أرادته في الحياة، تخبره عن ذلك المستقبل الذي تحلم به، لقد أشتاقت له كثيراً!!

تمنت لو عادت لتلك الأمنيات البسيطة التي قد تمنتها من قبل أن يحدث الكثير، لقد قطعت وعداً على نفسها منذ أن أكتشفت خيانات كريم المتعددة لها بأن تتغير كلياً، خارجياً وداخلياً.. ولكن بين يوم وليلة أن تنقلب الأمور رأساً على عقب وأن يضيع ذلك المستقبل الذي رسمته لنفسها ولأسرتها لم يكن هيناً عليها أن تتقبل تغير الأوضاع، لم تتقبل الواقع وقتها بتلك السهولة وما حدث منذ سنوات..

جففت دموعها بصعوبة ثم شردت في الفراغ وللحظة خارت قواها، للحظة فكرت أنه ربما أبناءها لن يكونوا كما تصورت وتخيلت لسنوات، ولكنها تريد الأفضل لهم، تريد أن تراهم الأفضل بين الجميع، تريد أن ترى بأعين الناس نظرات التمني أن يكونوا مكانهم، ولكن كيف وكل واحد منهم يتصرف على هواءه دون أن يتكاتفا ويتقاربا؟! عليهم جميعاً أن يكونوا معاً وسوياً بالرغم من كل شيء، لن تتركهم أبداً هكذا.. ولكن كيف وهي التي لم تتعلم اللين والحنان يوماً؟!! لا يفرق لديها الطريقة المتبعة، على كل حال لقد صممت منذ زمن أنها ستستعيد ذلك الحلم المخملي الذي لطالما حلمت به منذ الأزل ولن يقف أمام حلمها أحد أبداً..

 

--

"أأيوة.." حمحمت بتوتر ثم اجابت منادية بصوت مرتفع قليلاً

"طيب ممكن ادخل؟!" تسائلت نورسين لتتعالى أنفاس زينة في ارتباك لتلاحظ أقتراب سليم منها

"متخافيش.. هي عارفة إني هنا من بليل!" ابتسم لها ثم تفقدها لثوانٍ وذهب بنفسه ليفتح الباب "صباح الفل يا نوري" ابتسم سليم لها

"صباح الخير يا حبيبي.. يالا روح غير هدومك بسرعة وخد شاور عشان تلحق بدر، هو بيجهز وهيجيلك عشان تروحوا النادي" أخبرته بابتسامة وتوجه هو في طريقه لخارج غرفة زينة ثم أخذت نورسين تتصرف بتلقائية "زينة يا حبيبتي يالا فوقي كده وانزلي عشان تفطري.. محتاجة حاجة اجيبهالك؟!"

"لا شكراً يا طنط" حاولت زينة الابتسام ولكن شفتاها تصلبتا في توتر

"ما قولنا بلاش طنط دي.. بس سيبك من الحوار ده دلوقتي ويالا عشان النهاردة عايزين نخرج سوا، ايه رأيك بقا؟!" نظرت لها بزرقاوتين امتلئتا حماس لتومأ لها زينة ولكن لا زالت ملامحها متجمدة فأقتربت منها نورسين واحاطت ظهر زينة بذراعهيا "مالك يا حبيبتي؟!"

"هو.. هو خالو يعني يعرف إن سليم كان هنا و.."

"متخافيش محدش يعرف غيري" همست لها بغمزة من احدى عيناها مقاطعة لكلماتها لتبتسم زينة وبدأت في الهدوء قليلاً

"طيب.. هو ليه يا طنط سليم فضل معايا؟! ليه عمل كده؟"

"متكبرنيش بقا بطنط بتاعتك دي تاني.. سامعاني ولا ايه؟!" تنهدت وتصنعت الغضب دون مبالغة "ما تقوليلي يا نور ولا يا نوري!!بس هعديهالك تاني.. سليم كان قلقان اوي عليكي وشايف انك اتضايقتي امبارح بسببه عشان مشاكل الشغل دي وخاف تقلقي بليل وتكوني لوحدك.. يالا اجهزي على ما احضرلكوا الفطار وانزلي بسرعة"

"حاضر" ابتسمت لها نورسين بتلقائية ثم تركتها وتوجهت للخارج وعاملتها بطريقة طبيعية للغاية وكأن لم يحدث شيء ليلة أمس تماماً بل وكأن كل ما حدث كان طبيعياً ويحدث للجميع لتتعجب زينة بداخلها من هذا المنزل الذي كل من يقطن به يتقبلها مثلما هي بدون أية تعليقات أو تحكمات لاذعة على عكس والدتها وأخواتها!

ترددت لدقائق وهي لا تستطيع مواكبة الأحداث التي مرت بسرعة شديدة حولها منذ أمس إلي الآن وشعرت أنها ستقع بمزيد من الحيرة فقررت ترك ذلك الأمر جانباً وتوجهت للحمام حتى تستعد لما اقترحته نورسين بالرغم من أنها لا تحبذ التنزه كثيراً.

 

--

"ايه لسه مش على بعضها؟" تفقدها سليم بنظرة تعرفها نور جيداً

"هتجنن يا عيني ومرعوبة لا بدر يعرف.. بس سيبك شاكلها هادي كده ومبسوط" ضحكت بخفوت ثم غمزت لها بأحدى أعينها

"لا بدر يعرف ايه.. ده أنا اروح فيها" همس لها وتحولت نظرته للجدية 

"ياخواتي يا ناس على حبيبي اللي خايف من بابي" داعبته ممرة يدها على وجنه 

"استني بس أنتي بتهزري ولا ايه.. لو عرف بجد يا ماما الموضوع مش هيعدي أنتي عارفة غيرته وبالذات انه بيعتبر زينة زي سيدرا بالظبط" تحولت ملامحه للقلق والجدية

"متخافش مش هيعرف حاجة.. هو لسه في الحمام.. اجري انت بس على اوضتك ويالا عشان تنزل تفطر معانا.. وعد الجمايل يا سولي يا حبيبي" غمزت له وكادت أن تتركه فجذب يدها ليقبلها

"إلهي ما انحرم منك أبدا يا نوري يا جميلة"

"ماشي يا اخويا.. يالا اخفى بقا قبل ما يشوفك" ابتسمت له ثم تركته لتغادر لتعد لهم الإفطار ولكنه اوقفها

"هي بجد مبسوطة؟! يعني هي قالتلك ايه؟" تسائل بحماس 

"ده احنا واقعين اوي بقا.. مقالتش حاجة عموماً بس شكلها وعنيها بتقول.. انجز بقا بدل ما بدر يجي ويقلب علينا احنا الاتنين"

"يا ساتر.. حاضر اهو خلاص ماشي.."

--

"أشتقت لك أسوَدي .. أرجوك ألا تتعجب، لا تسأل لماذا لأول مرة بحياتي أخبرك بأنني أشتقت لك .. حسناً، ربما أشعر بالإحتياج لك ومزاجي رائق نوعاً ما .. لا تقلق ولا تستغرب كلماتي السابقة .. سأقص عليك بعد الأشياء التي حدثت ربما نستطيع التوصل لحل جلي لسؤالي المعهود، قد توحي إلي تفسيراً ما لكل ما يحدث لي .. 

أنسى صفحاتي السابقة وكل ما عهدت أن أخبرك به، وأرجوك أنسى تلك الطريقة الحادة التي اعتدت أن أصب غضبي اللاذع عليك كلما ارتبت وسئمت نفسي عن طريقها .. دفتري الأسود العزيز، رفيق دربي الموحود استمع لي، ومن حسن حظك هناك أخبار جيدة...

أتتذكر، قبل سفري، عندما عانيت وحدي .. لا أدري لماذا حظي بائس للغاية هكذا حتى انتسب لتلك العائلة التي يلهو كل فرد منها في ليلاه ولكن على العموم لقد تقبلت ذلك .. اذعنت لكوني الفتاة الصغرى لتلك الأسرة الغريبة التي لا يكترث أي فرد بها للآخر! سوى أبي ولكنه كما تعلم، لقد ذهب هو الآخر وتركني وحدي.. 

هذا ليس موضوعنا، ولكن أتتذكر تلك الحالة المذرية التي كانت تغتالني فجأة وتنتشلني من أوجاعي لأوجاع وفزع أسوأ، حسناً .. لقد واجهتها مجدداً .. بالطبع ستتعجب وستسألني أين تلك الأخبار الجيدة التي أخبرتك عنها!! أنتظر قليلاً أيها الأحمق سأخبرك!

ليلة أمس لقد واجهتها، لا أدري لماذا أتتني بعد أن ودعتها منذ سنوات ولكن يبدو أن أحداً منا أشتاق للآخر، لا أدري أنا أم هي .. لن أكذب عليك لقد تألمت مجدداً .. ولكن لأول مرة بحياتي أكون ممتنة لتلك البغيضة!

لقد استيقظت ووجدته بجانبي، لا أدري لماذا بقى بجانبي طوال ليلة أمس؟! لأول مرة أشعر بأن هناك من يكترث لأجلي .. هل لديك تفسيراً لذلك؟!!!

لقد استيقظت ولوهلة شعرت بأن .. حقاً لا أدري ماذا علي أن أقول .. لأول مرة لا أدري ما هي الكلمات الصائبة لتعبر عما أشعر به.. ولكن ما أعرفه أن جزءاً ما بداخلي استكان فجأة .. هناك ما جذب تلك الشخصية القوية التي أظهرها للجميع وقيدها ولم تستطع الإنطلاق!!

لقد استيقظت يوماً عندما كان ستيفن بغرفة الجلوس بشقتي بألمانيا، لم أتقبله يوماً ما كما تعرف .. أم تريد العودة لتلك الصفحات؟! على كلٍ، ستجدها بصفحاتك والآن دعني أتابع .. 

كما تتذكر وتعرف يومها سمحت له ببقاء الليلة بمنزلي كإمتنان ليس أكثر كان ذلك بسبب ما فعله معي  عندما أنهى عراكاً محتماً بيني وبين هذا الشاب السخيف دايفيد وقلني للمنزل في ساعة متأخرة، أتتذكر يومها ماذا فعلت؟ أتتذكر بمّ أخبرتك؟

أنت تعرفني أكثر من الجميع، أنت تعرف أنني لست تلك الفتاة التي تسمح للرجال بالمبيت معها والتواجد بجانبها، إذن، عليك أن تُفسر لي لماذا استيقظت هذا الصباح بمثل هذا الهدوء وتلك السكينة؟

أتتذكر لقد أمعنت النظر لتفاصيله .. مهلاً!! أتقبلته لأنني أجده أكتسب وسامة غير معهودة؟ أنا أعرفه منذ الأزل، نعم منذ زمن سحيق ولكن أعترف الآن أنني منذ عدت وهناك شيئاً به تغير، شيئاً بملامحه يجذبني .. ولكن أحقاً كنت هادئة للغاية لأنني انجذبت لملامحه؟!

لا .. لا .. أرجوك لا تخبرني بأنني مثل تلك الفتيات الساذجات اللاتي تعجبن بمظهر رجل .. لا تقل لي ذلك أرجوك!!! أنت تعرفني جيداً منذ سنوات .. هيا أرجوك أخبرني ما هذا الذي أفعله؟ من تلك الشخصية التي تحاول الظهور هكذا فجأة؟ 

سخيف!! صامت!!! ولا تقل شيئاً أبداً .. وداعاً أيها الغبي.. أنا على موعد ما للتنزه، وأقسم لك إذا لمحت شبحاً من ابتساماتك المستهزئة سأقتلك بيدي المجردتين!! أنتظرني سأخبرك بالمزيد الليلة.. وداعاً الآن.. أحدهم يطرق الباب!

 

--

"منزلتيش تفطري ليه؟!" تسائل سليم وهو ينظر لها عندما فتحت الباب الذي طرق عليه منذ ثوان

"مممـ.. كنت بغير بس عشان طنط نور قالت اننا نازلين!"

"لو سمعتك بتقولي طنط دي هتموتك على فكرة" تفحص زرقاويتيها بابتسامة 

"اقولها ايه بس" ابتسمت في استفسار

"عايزة تجنني بدر، قوليلها يا نوري قدامه.. هيولع" أشار بيداه لتتوسع ابتسامتها 

"واجنن خالو ليه بس؟! أنا هاقولها قدامه يا طنط ومن وراه هبقى اقولها يا نور وخلاص"

"لا لا تعالي ننكشه على الصبح.. هيبقا منظره مسخرة"

"استنى بس يا سـ.."

"لا استنى ايه تعالي بس" قاطعها ثم جذبها رغماً عنها ليوجهها حيث غرفة الطعام وبجسدها النحيل لم تستطع مقاومته وتآففت وصاحت بعبارات النهي

"سليم مش كده.. متشدنيش طيب"

"تعالي بس تعالي ده احنا هنضحك من هنا لغاية بليل على اللقطة دي" أخبرها بابتسامة ثم همس لها "قولي كده صباح الخير يا نوري وبصي لبدر واضحكي بقا"

"لا طبعاً مش هاعمل كده" همست له هي الأخرى بعد أن اقتربت من الجميع والأعين تحولت لهما 

"لا هاتعملي.. وإلا هاقول لبدر اننا نمنا جنب بعض امبارح!!" حاول إدعاء الجدية على ملامحه لتتوسع زرقاوتاها 

"صباح الخير يا زوزا.. نمتي كويس؟" ابتسم لها بدر الدين سائلاً ولكنه لاحظ توترها بطرف عينه وظن أنها فقط محرجة مما حدث ليلة أمس أمام الجميع.

"صباح الخير يا خالو.. اه الحمد لله نمت كويس " بادلته الابتسامة في هدوء وأشاحت بنظرها للطبق أمامها ولكن قد قرر سليم مسبقاً ألا يتركها لحالة الشرود تلك.

"واحدة بقا صباح الخير يا نوري وبدور هيقلب.. يالا اسمعها منك.. ها.. هاتيجي اهى" همس لها لتنظر له هي بزرقاوتين جادتين "يا اما هقوله اننا كنا سوا امبارح طول الليل وانتي عارفة بقا دماغ الرجالة ودماغ بدر بالذات" ابتسم لها بخبث ليزداد حنقها ثم ضيقت زرقاويتيها بما معناه أن سليم يمزح ليس إلا.

"طب أنا هوريكي بهزر ولا لأ" همس لها ثم شرع في تناول الطعام "صباح الخير يا بدر.. فاتك انت اللي حصل امبارح بعد ما نمت" تحدث بتلقائية بينما ابتلعت زينة في توتر

"صباح الخير.. ايه اللي حصل بعد ما نمت؟" تسائل بدر الدين وقد تنبه لكلمات سليم

"ابداً.. بعد ما نمت انت امبارح طلعت انا وروحت أنا عشان أنامـ.."

"صباح الخير يا سيدو.. صباح الخير يا نوري" هنا صاحت زينة بنبرة مهتزة عالية حتى تمنع سليم عن الاسترسال بحديثه بل وتجذب انتباه الجميع.

"صباح الخير يا زوزا" بادلتها سيدرا على الفور وهي ترفع عيناها عن هاتفها لثانيتين بابتسامة عذبة ثم أعادت نظرها لهاتفها الذي يبدو وكأنها تطالع به احدى مواقع التواصل الإجتماعي.

"صباح الخير يا حبيبة نوري" ابتسمت لها نورسين

"حتى انتي كمان بقيتي بتقولي نوري.. ما تتلموا بقا، هلاقيها منك ولا من الزفت التاني" تحدث بدر الدين بامتعاض ليرمقها سليم بنظرة انتصار

"استنى بس يا بدر، ده يا ريت ما نمت بدري، كان فيه حتة ماتش امبارح فاتك، ازاي تفوت ماتش لليوفي؟! بصراحة لازم تتفرج عليه تاني" ابتسم سليم بخبث لزينة التي اندفع الحنق بدمائها وعلمت أنه انتصر عليها وجعلها رغماً عنها تغضب بدر الدين "اه صحيح متنساش معاد الـ gym بتاعنا النهاردة، متقلش بقا في الأكل، أنا عارف اي حاجة نوري بتعملها مش بتشبع منها خالص غير لما تخلص الأكل كله، وبعدين واضح وزنك زاد اليومين دول" نظر لوالده نظرة جانبية قاصداً المزاح 

"لا واضح إن نظرك ضعف.. بص لنفسك وقارن نفسك بيا، أصلاً وأنا في سنك ده كنت أحسن منك، وبعدين لما تبقا توصل لسني وتبقا نفس الفورمة الجامدة دي ابقا تعالى اتكلم"

"ما خلاص بقا يا بدور، ولا يعني عشان سولي حلو والبنات مبتشلش عنيها من عليه في الرايحة والجاية بتقول الكلام ده؟!" هنا تدخلت نورسين بابتسامة 

"بصراحة يا مامي أنا كل ما سليم يجيلي الجامعة البنات مبتشيلش عنيها من عليه"

"يا اخواتي حبيب مامي ده اللي مجنن البنات" ربتت نورسين بيدها على ذراع سليم الذي ابتسم لوالده في غيظ بينما شعر بدر الدين بالغضب من حديثهم عنه لتنظر له نورسين وقد فهمت تلك النظرة جيداً 

"فرحانين بيه اوي، الله يرحم!! أنا أصلاً غلطان إني قاعد في وسطيكوا، وأنت ياض أنا مش رايح معاك الـ gym وهاروح لوحدي" تحدث بحنق بعد أن نظر للجميع بإمتعاض وأكمل طعامه 

"بطل بقا حقد.. هتاخد زمنك وزمن غيرك ولا ايه.. وبعدين تعالوا ناخد رأي زوزا.. ايه رأيك في سليم؟! مش حلو بذمتك ومحافظ على جسمه وشكله؟!" تورد وجه زينة بالكامل وهي لم يحدث لها من قبل أن تكون بنفس ذلك الموقف أبداً لتبتسم نورسين بداخلها وغمزت لسليم دون أن يلاحظ أحد ليدرك ما تفعله نورسين 

"ممم.. سليم كويس، يعني.. شكله بيروح الـ Gym ومواظب كمان ودي حاجة كويسة عشان صحته" تمنت بداخلها أن يبدو حديثها طبيعي وحاولت الإجابة دون أن يظهر عليها الإعجاب الشديد بمظهر سليم الذي قد أختلف كثيراً عن السنوات السابقة 

"وخالك يعني مش كويس؟ خلاص بدر مبقاش يعجب حد.. متشكرين يا زوزا هانم" تحدث بدر الدين معقباً على كلماتها 

"لا يا خالو أنت مفيش زيك.. الكبير كبير بردو" صاح الجميع تعقيباً على كلماتها بعبرات الإعجاب بل وضحكت سيدرا كذلك وتهللت ملامحهم لتشعر زينة أنها لم تعايش تلك الأجواء من قبل 

"لا زوزا كلامها صح بابي طول عمره بياخد باله من نفسه" تحدثت سيدرا 

"أوبا بقا، واضح أن خالو ليه معجبين كتير واحنا مش واخدين بالنا" صاح سليم بإعجاب "قطع علينا بقا يا عم بدر.. وانتي يا نوري.. خدي بالك بقا من عم الجامد ده لواحدة كده ولا كده تخطفه منك"

"مين دي اللي تخطف.. ده أنا أموتها بإيديا"

"ايوة يا عم، شايف الغيرة، الله يساهله يا سيدي" أخبره سليم بضحكه امتزجت بنبرته الرجولية لينظر له بدر الدين بحنق

"عينك أنت بس.. سيبنا في حالنا وروح شوف حالك بعيد يا حلو يا مقطع السمكة وديلها"

"أنا مقطع السمكة وديلها بردو.. ده أنا غلباااان" أخبره بمزاح لتضك سيدرا

"يا سولي ده أنت بس لو توافق هتلاقي بنات قد كده حواليك، كل البنات بتيجي تسألني مين ده لما بتجيلي ويفضلوا يكلموني عنك.. إنما أنت تقيل زيادة عن اللزوم" 

"بس يا سيدو سيبي سليم كده زي ما هو، مش رمرام وعارفة انه زي بدر في الموضوع ده، هي واحدة بس وهيقفل عليها.. هذا الشبل من ذاك الأسد" 

"ماشي يا مامي.. يا بختها من دلوقتي" 

"بختها مهبب.. قال زيي قال، ده ولا يجي ربعي حتى" 

"جرا ايه يا بدر، كارهني ليه كده من الصبح نفسي افهم، أنا مش ابنك بردو؟ حسسني طيب بحنان الأب في اي حاجة مش كده يعني" تكلم سليم مازحاً وزينة لا تفارقها الابتسامة من تلك الكلمات التي تسمعها فهي قد نست تلك الأجواء منذ سفرها، فهي لا تجدها سوى ببيت خالها فقط.

"حنان الأب!! طب يالا ياض اطلع اجهز عشان اوريك حنان الأب في الـ gym، اراهنك مش هتعرف تعمل زيي"

"هنشوف يا بدر.. بس ماتجيش أنت تتعب في الآخر" 

"اه يا بدر صحيح.. أنا وسيدرا وزينة وشاهندة هنروح نعمل Shopping النهاردة.. وهنتغدى برا، انتوا كمان اتغدوا برا عشان مفيش اكل النهاردة" تحدثت نورسين لتنزعج ملامح بدر الدين 

"من لقى احبابه يعني.. ماشي يا نورسين"

"ما خلاص يا عم بدر متحبكهاش كده.. ده احنا بقالنا كتير مقعدناش مع بعض ولا مش قادر على بعد نوري.." غمز له سليم ينهض بدر الدين وصاح متجهاً لأعلى 

"بردو ديل الكلب.. نفسي تبطل تقول نوري دي.. وانجز يا ابن امك انت عشان منتأخرش" ضحك الجميع اثراً على كلماته 

"يا سولي براحة بقا عليه، متغيظهوش كده" تحدثت له نورسين بتوسل

"ده أنا هجننه.. صبرك عليا بس.. لسه كمان لما نقضي اليوم سوا، هيجي يقولك الحقيني" 

"سولي صحيح بابا وافق على موضوع السفر ولا لسه؟!"

"هاكلمه النهاردة"

"ماشي بس علشان الحق احجز.. يالا أنا هاقوم الحق اجهز عشان اغير بسرعة.. باي يا سولي"

"باي يا حبيبتي"

"وانا كمان، هاطلع اخد shower عشان ملحقتش الصبح وكنت بجهزلكم الفطار.. ساعة بالكتير وهنروح نعدي على شاهي.. متتأخريش يا زوزا علشان نلحق اليوم من اوله"

"حاضر يا طنط"

"بردو طنط؟ حوشها عني يا سليم عشان بنت عمتك بتكبرني اوي بصراحة.. يالا سلام، اشوفك بليل بقا" ابتسمت زينة في احراج بينما توجهت لأعلى ليتبقا زينة وسليم بمفردهما 

"اعملي حسابك اننا اللي هنشيل الأكل عشان احنا كده اتدبسنا"

"كان ايه لازمته بقا الكلام اللي انت قولته، كنت بتضحك عليا وخلاص؟!" سألته زينة بإنزعاج واضح بعد أن التفت بكرسيها وهي تتفقد ملامحه وعقدت ذراعيها في تحفز 

"كلام!! كلام ايه ده؟!" تصنع عدم المعرفة وتناول ما تبقى من طعام في صحنه 

"لما قولت انك هتقوله اننا نمنا سوا امبارح" توسعت زرقاويتيها في غضب

"امتى انا قولت كده؟ لا مش فاكر اني قولت الكلام ده" تظاهر بأنه لا يعرف ما تتحدث هي عنه وتناول بعض الاطباق ناهضاً لتفعل زينة مثله ثم توجه نحو المطبخ لتتبعه بخطوات منزعجة

"سليم انت هتستعبط!! طب اياك بقا تعملها تاني وساعتها انا اللي هاقول لخالو بنفسه، مش فاهماك يعني كنت بتهددني ولا تقصد انك تضايقـ.." تحدثت له ونبرتها تصيح بالاعتراض ليضع هو ما بيده داخل غسالة الاطباق والتفت لها مسرعاً بينما هي لا زالت تحمل بعض الاطباق بيدها

"اعمل ايه بالظبط تاني؟" قاطعها سائلاً ونظر له بخبث

"اياك تنام جنبي تاني.. سامع ولا لأ؟" زجرته بإنزعاج ونبرتها جدية للغاية

"ولو نمت جنبك تاني؟" سألها وتوجه نحوها ليلاحظ توترها ولكنها تصنعت الشجاعة 

"لا مش هاقبل وهاروح اشتكي لخالو"

"وهتقوليله ايه؟" اقترب منها اكثر حتى كادت تنعدم المسافة بينهما لتعود هي للخلف حتى ارتطم ظهرها بجرانيت تلك الجزيرة التي تتوسط المطبخ

"هقوله اني صحيت ولاقيتك جنبي و.."

"وفضلتي تبوصيلي وواضح ان الموضوع كان عاجبك اوي وصحيت مبسوطة وبتضحكي" قاطعها لتضيق ما بين عيناها في انزعاج وتعالت انفسها في توترمن اقترابه الشديد منها

"لا الكلام ده مش صح ولو سمحت ابعد عني"

"ولو مبعدتش؟" نظر لزرقاويتيها متفحصاً كلتاهما بنظرة خبيثة امتلئت استمتاعاً بملامحها المتوترة بسبب اقترابه منها بينما ضيق بينهما المسافة أكثر وزينة تنظر له نظرات متعجبة كثيراً ولأول مرة ينعقد لسانها بينما تلك الصحون التي كبلت كلتا يداها لم تدع لها الفرصة للتحرك بسهولة خاصة وأن كل ما يحدث أمامها كان جديداً عليها تماماً، لم يعاملها سليم هكذا من قبل مما تركها واقعة في الإندهاش والحيرة أكثر.

"سليم لو سمحت ابعد شوية.." آتت نبرتها مهتزة لا تدري لماذا! لقد توقعت من نفسها أن نبرتها ستأتي زاجرة ناهية بمنتهى الغضب والشدة ولكن قد أدهشتها تلك النبرة المهتزة التي اندفعت على لسانها

"ابعد ليه يا زينة؟!" همس لها لتتوسع عيناها وهي لا تدري لماذا نبرته الهامسة اختلفت الآن كثيراً؟ لماذا تبدو عيناه هكذا؟ ومنذ متى وهو يقترب منها بتلك الطريقة الغريبة تماماً؟

لقد تيبس جسدها، لقد حارت تلك الزرقاوتان، لقد تاهت تماماً في تلك السودواتان امامها، ذلك الشعور بتلك الأنفاس الدافئة لم تختبره قبلاً بمثل تلك الطريقة، كما أن تلك الأنفاس المتواترة في عدم انتظام منها يشعرها بالتوتر الذريع، لا تدري هي لا تشعر بالضعف، ولا بالكراهية تجاهه، هي تشعر بشيء غريب.. فقط تريد معرفة ما هو ولكن لا تستطيع بعد تفهم ما يعتريها من مشاعر غريبة!

"ما تردي.. عايزاني ابعد ليه؟!" همس مجدداً وأعينهما تتلاقيان في شعور جديد لكلاهما، هي تشعر بالغرابة أما هو فلم يشعر بتلك السعادة من قبل في حياته بأكملها!

"سليم.. أنت يا بني آدم فينك؟ فين اللي كان مقطع السمكة وديلها من شوية؟!" تخللت تلك المشاعر صوت بدر الدين الرخيم الذي آتى من مسافة تبدو وكأنها قريبة لتتوسع عينيها أكثر بينما لعن سليم بداخله، لا يريد الابتعاد عنها، حتى ولو رآه والده، لا يكترث، يريد البقاء بالقرب منها، لا يريد لتلك اللحظة أن تنتهي أبداً

"سليم.. أرجوك ابعد.. خالو هيشوفنا" همست بأنفاس متوترة ثم ابتلعت وهي تنظر له في توسل ورغماً عن سليم ابتعد من أجل تلك النظرة المترجية بعيناها 

"ده أنا مقطع السمكة وديلها والحوت وديله والكائنات البحرية كلها.." صاح بصوت مرتفع وهو يبتعد عن زينة بعد أن رمقها بنظرة جعلت الدماء تتجمد في عروقها فهي لا تدرك ماذا يقصد بها ولكنها تشعر بالغرابة تماماً من أفعال سليم اليوم منذ الصباح وما أن تركها وابتعد حتى تنفست الصعداء.. "ايه يا كبير.. جاهز؟!" توجه نحو والده الذي لتوه قد هبط الدرج الداخلي للمنزل ولم يلاحظ ما يبدو غريباً أبداً.

"ده أنا هاخلي الـ Gym كله يضحك عليك.. يالا يا اخويا"

"هنشوف يا بدر، بس افتكر انك خليتها كده.. شكلك هتزعل النهاردة"

"قدامي يالا!" 

"يالا.. طب كرامة ابنك يا حاج ولا اي حاجة"

"انجز ياض!!"

"بعدك يا كبير" قدم يده ليتقدمه بدر الدين متوجهاً للخارج وتبعه هو والقى نظرة مجدداً على زينة التي لم تنظر له ولكنه أدرك جيداً أنها كانت واقعة بالحيرة من امرها لترتسم شفتاه بابتسامة عذبة وأكمل طريقه متوجهاً للخارج!

 

--

"خطوة.. يا صاحب الخطوة.. خطوة.. امشيلي لو خطوة.. ده أنت عالقلب ليك سطوة.. خطوة.. يا صاحب الخطوة" تعالت أصواتهن جميعاً وهن ترددن كلمات احدى الأغنيات بتلك السيارة التي قادتها سيدرا وهي تغني وتمرح مع كلاً من والدتها وعمتها شاهندة بينما ارتسمت ابتسامة في عدم تصديق على شفتي زينة وهي لا تدري ما تلك الأغنية ولكن يبدو أنها ذائعة الصيت كثيراً واخذت تتفقد وجوههن وهي لا تصدق كذلك أن كلاً من خالتها وزوجة خالها أصبحتا كالمراهقات وكأنهن بعمر سيدرا

"ايه يا زوزا ما تغني معانا، ولا خلاص بقيتي مواطنة المانية يعني؟" سألتها نورسين لتبتسم زينة

"لا يا طنط أبداً.. أنا بس مش عارفة الأغنية دي" أجابتها بإحراج

"لا بقا انتي عايزالك درس حلو في اغاني اليومين دول وبعدين بقا ما تبطلي طنط طنط دي.. كبرتيني قدام سليم النهاردة، بذمتك ينفع كده يا شاهي؟"

"لا ده أنتي شكلك ناوية على موتك، كله إلا أنك تقولي لنور يا طنط.. ممكن تاكلك اساساً"

"والله مامي دي سكر.. بقا المزة دي يتقالها طنط.. يا بنتي ده شكلها أصغر مننا اساساً، وكله بقا كوم واني اقول انها مامتي قدام حد كوم تاني.. أأمنلك امسحي كلمة طنط من قاموسك خالص" 

"سيدو معاها حق" أشارت شاهندة معقبة على كلمات ابنة اخيها "بس احسنلك اسمعي كلامها عشان مش مسئولة عن اللي هيحصل" 

"فيه ايه يا جماعة!! انتو بتخوفوني كده ليه؟!" ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر بوجوهن جميعاً وكذلك نظرت لسيدرا بمرآة السيارة الداخلية 

"ما براحة يا جماعة متخوفوش البنت.. هتقلبوا الموضوع جد ولا ايه؟.. ماتخافيش يا زوزا يا حبيبتي.." اقتربت منها فجأة لتحتضنها "انا بس بحس اني بكبر زيادة بس غير كده متقلقيش.. ان شالله تقوليلي يا تيتا حتى انا موافقة.. واحنا يعني عندنا كام زينة.. ده أنا معـ.." 

تعجبت زينة لتلك الكلمات التي تذكرتها كما تعجبت لتلك الطريقة التي تتعامل كلاً من شاهندة ونورسين معها هي وسيدرا فكلتاهما لا تفرقان بينها وبين سيدرا، طوال اليوم لم تسمع ولو كلمة واحدة تعكر صفو ذلك المرح الذي تنعم به منذ استيقاظها..

لانتا شفتاها بابتسامة هادئة وهي لا تصدق تلك الطريقة التي تتحدث بها نورسين معها، هي لا تتذكر متى آخر مرة ذهبت للتسوق مع أحد، ولكن كل ما تتذكره هو قسوة هديل بلسانها الذي تنهال منه الحروف القاسية تجاهها وتجاه اختيارتها منذ أن كانت صغيرة..

رغماً عنها وجدت رأسها يُعيد تذكر تلك اللحظات التي مرت طوال اليوم بينها وبين نورسين وشاهندة وسيدرا ثم تلقائياً وجدت عقلها يقارن بين مواقف هديل معها وبين ما اختبرته اليوم.. 

"يا بنتي بقا متتعبنيش حرام عليكي.. ايه اللي أنتي بتختاريه ده؟ بقا فيه بنت في سنك تلبس اللبس الغريب ده.. مليون لون في بعض.. أتفضلي قدامي أما نغير القرف اللي اختارتيه ده بسرعة.. لسه باقي اخواتك هجيبلهم هدوم" 

اعترى ملامحها الإنكسار عندما تذكرت كلمات والدتها اللاذعة عندما شاهدت مرة اختياراتها بعربة التسوق بأحدى المحلات التجارية للملابس كما تذكرت خطواتها المتسرعة وتلك الطريقة التي أخذت بها الملابس التقليدية لأي فتاة بعمرها لتضعها بتلك العربة وكأن كل ما تريده هو أن تنتهي من عبأ تلك الفتاة عليها..

"زوزا خلصتي ولا ايه؟!" نادتها نور بابتسامة وهي تتوجه نحوها وقد رمقت عيناها تلك العربة التي امتلئت بالملابس السوداء مجدداً!! فهي لم تعد تقتني سواها 

"ايه بقا الذوق الجامد ده.. هيبقوا عليكي حلوين موت.. بس بصي كده شوفت شميز يجنن.. نفس درجة لون عنيكي.. لو لبستيه مع skirt سودا او بنطلون اسود High waist هيبقوا تحفة.. تعالي كده نبص عليه.. ولو معجبكيش خدي حتى رأي سيدرا وشاهي"

توسعت ابتسامتها وهي لا تصدق أن نورسين وسيدرا وشاهندة اقنعنها بتلك الملابس الملونة وتلك الأحذية الأنثوية، كل شيء كان أسهل معهن، مرحهن وضحكاتهن وتلك الطريقة المحببة اللاتي اتخذنها معها لتجد نفسها لم تشعر سوى بأنها فرد منهن! كم تمنت بينها وبين نفسها أن تجد ذلك الحنان وتلك الطيبة بوالدتها هديل ولكن لا تعلم لماذا هي غير باقي الأمهات حولها؟

تنهدت وهي جالسة على احدى الارائك الخشبية بديقة منزل خالها بدر الدين وأخذت تعيد تذكر تلك اللحظات التي مرت بيومها وللحظة شعرت بالإنتصار بينها وبين نفسها أنها استطاعت أن تقضي يوماً طبيعياً بين الجميع، يبدو وأنها لازالت تستطيع المرح قليلاً بل والتظاهر بعكس تلك العاصفة التي تهب بداخلها طوال الوقت دون انقطاع.. ولكن رغماً عنها وجدت رأسها تتجه بها نحو ذلك التغير الشديد الذي لمسته بطريقة سليم معها منذ أن عادت وأخذت تتذكر كل تلك الأوقات التي مرت عليها بصحبته..

 

--

في صباح نفس اليوم..

"مبقتش عارف والله يا بابا.. هي لسه حساسة زي ما هي.. عارف مخلياني أحس أن كل حاجة هتكون صعبة معاها، بالذات بعد ما النوبات دي رجعتلها امبارح، عارف ده بيخليني اقلق اكتر من كل حاجة وبيخليني أفكر كتير، يا ترى عاشت ازاي لوحدها كل السنين دي؟ وكمان كانت بتجيلها الحالة دي وهي لوحدها ولا لأ؟!" تحدث سليم لوالده مكملاً سرد تلك المشاعر التي يشعر بها عليه بينما ارتدى قميصه القطني الرياضي بعد أن فرغا سوياً من التمرن بالصالة الرياضية بالنادي الذي يذهبوا إليه دائماً.

"ايوة اكتئب بقا وخد الموضوع جد وقولي يا بابا.. اللي يشوفك دلوقتي ما يشوفكش امبارح وانت معاها في اوضتها وبتبعد الكل عنها حتى انا.. اكبر وافهم بقا إن زينة عايزة حد يعاملها بهدوء وبراحة.. وفي نفس الوقت لازم تجمد كده وتبقا قدها ومتسبش الامَر تخرج عن ايدك.. جرا ايه مالك ما تنشف ياض ولا انت معرفتش تتعلم مني حاجة خالص" أخبره بدر الدين وهو يعقد رباط حذاءه بعدما شعر بأن الحديث قد امتلئ بالحزن وهو لا يريد أن يسقط سليم بتلك الحالة 

"انشف!! ماشي يا بدر أنا غلطان إني بفضفض معاك يعني وبحكيلك عن كلاكيعي!! ماشي يا عم.. أنا أروح لنوري هي اللي هتقدر تسمعني وتحتويني" ابتسم لوالده بخبث ليرى ملامح الضيق تعتري وجهه ثم أخذ حقيبته ممسكاً بها

"نوري تاني.. ده أنا هموتك النهاردة.." نهض ثم توجه نحوه بخطوات مسرعة ليتوجه سليم هو الآخر آخذاً خطوات ليبتعد عنه هو الآخر "خوفت دلوقتي وبتبعد عني.. ماشي ياض يا ابن الكلب بس وحياة أمك ما سايبك النهاردة.." أمسك بدر الدين بحقيبته هو الآخر ثم تحولت خطواتهما للهرولة وكذلك حاول بدر الدين اللحاق بسليم الذي سبقه للخارج  

"جرا ايه يا بدر.. مش كنت هتموتني من شوية.. ايه مبقتش قادر تجري ورايا؟ اجي اساعدك؟" صاح سليم ضاحكاً بينما اكمل هرولته التي بدأت في أن تصبح عدواً صريحاً

"عشان سبقتني.. بس ساعة ما امسكك متبقاش تزعل بقا من اللي هيحصلك" صاح بدر الدين وهو يعدو خلف سليم 

"قال ازعل قال.. ما خلاص بقا عجزت يا عم بدر" صاح سليم محدثاً والده وهو يضحك في سعادة ولا يصدق أن بدر الدين لا زال يتمتع بتلك الفكاهة 

"عجزت.. ده أنا اخلف سبعة زيك ياض" صاح بدر الدين الذي شعر بلذة الإنتصار عندما شاهد سليم وهو يرتطم برجل ما ثم قدم يده وهو يُمسك بسليم "قفشتك!! ده أنا هاعمل من فخادك بطاطس محمرة" لهث مخبراً اياه وتوقف بينما وجد سليم ينظر لذلك الذي ارتطم به فحلقت سودواتاه لتتفقد ملامح ذلك الرجل متعجباً لصمت ابنه الذي استبدل مزاحه وضحكه معه

"ازيك يا شهاب!" قدم سليم يده ليصافحه بينما نظر له بدر الدين بتفحص شديد ببنيتيه الحادتان لتلاقي سوداوتي بدر الدين اللاتي تخللاتاها نظرة جامدة وكأنما تحاول التغلغل لداخل شهاب وتبحث بأعماقه عن شيء ما

"بدر الدين الخولي.. والدي!" قدم سليم والده لشهاب بينما للحظة وقع شهاب بالحيرة!! والده، بدر الدين الخولي، يهرول خلفه كفتى بالعشرينات من عمره "شهاب الدمنهوري.. كلمتك عنه يا بدر قبل كده" أكمل سليم حديثه بينما آخذ خطوة للجانب ليفسح لهما المجال كي يتصافحا ليندهش شهاب بداخله من مناداة سليم لوالده دون القاب حتى غابت الكلمات تماماً عن لسانه

"ازيك يا شهاب" مد بدر الدين يده ليصافح شهاب الذي فاق على صوت ذلك الرجل الرخيم 

"ازيك يا بدر بيه" صافحه هو الآخر وملامح الجميع تحولت للجدية الشديدة واخذ كلاً من بدر وسليم ينظرون له نظرات تفحص ليسيطر هو على ملامحه التي لم تعكس أياً مما يشعر به واخذ ينظر لبدر الدين الخولي ذلك الرجل الذي لطالما سمع عنه الكثير وحاول أن يعرف من هو ولكن لم يستطع فهو الآن قد اختلف تماماً بملامحه الصارمة والجدية عن ذلك الفتى الذي كان يجري خلف ابنه، لا بل صديقه منذ ثوانٍ..

عيناه الثاقبتان السوداويتان لم يراهما بأحد من قبل، أدرك شهاب أنه ليس سهلاً أبداً أن يتعامل مع ذلك الرجل، شيئاً به غريب، وكأنه يستطيع التحول تماماً لشخصية مختلفة في لحظة واحدة! لبرهة شعر بأنه سعيد الحظ كي يتعامل مع سليم بدلاً من والده! 

"ايه ده Uncle بدر.." صاح صوت انثوي من خلف شهاب وهو يحاول التذكر بسرعة، هو يعرف صوت تلك الفتاة التي تهلل وجه بدر الدين لها، ولكن لا يتذكر تماماً من هي.. حاول مجدداً ولكن بالنهاية أخرجه بدر الدين من تلك المحاولات عندما ابتسم وتوجه بسوداويته لتلك الفتاة بل وأخذ خطوة نحوها ليترك شهاب خلفه بقليل

"ياااه ميرال عثمان بنفسها.. عاملة ايه يا حبيبتي؟!" للحظة أطبق أسنانه في غضب ليلاحظ سليم ملامح شهاب التي تحولت تماماً ولكنه لا يدري لماذا يظهر الغضب فجأة هكذا على وجه شهاب وأدرك أن هناك شيئاً ما يدعوا لذلك التغير بينما انشغل بدر الدين في مصافحة ميرال "وحشاني اوي.. والدك عامل ايه؟!" أكمل بدر الدين حديثه لها 

"الحمد لله بخير.. حضرتك عامل ايه؟!" ابتسمت له بينما لم تلاحظ من هو ذلك الرجل الذي لا يزال موجهاً ظهره اليها

"أنا تمام.. كنت مع سليم في الـ Gym ويادوبك اهو هنروح نتغدا" 

"ازيك يا ميرال عاملة ايه؟!" توجه سليم نحوها ليصافحها 

"تمام.. أنت أخبارك ايه وسيدرا وطنط، كله كويس؟!" ابتسمت له بلباقة 

"اه كلهم بخير.. تعالي أعرفك.." اقترب سليم بصحبة ميرال ليقفا أمام شهاب "شهاب الدمنهوري.. قريبنا" قدمه لها ثم أردف "ميرال عثمان.. عائلتنا تعرف بعض من زمان ولينا business مع بعض" 

ابتلعت ميرال في صدمة وكأنما تجمدت الدماء بعروقها وهي تنظر بخوف في وجه شهاب الذي نظر لها نظرة ثاقبة ارعبتها ليتعجب سليم عاقداً حاجباه لتلك الملامح التي اعترت ميرال فجأة والآن تأكد أن هناك شيئاً ما بين كلاً منهما وعليه أن يعرفه عاجلاً

"أهلاً.. ازيك؟!" قدم يده ليصافحها لتمد هي يدها في تردد 

"تتـ ـمام.. ازيك يا شهاب!" بالكاد نطقت وقد لاحظ سليم توترها الشديد الذي لابد وأنه وراءه دافع قوي بينما انشغل بدر الدين بمكالمة على هاتفه وحلقت عسليتي سليم لملامح شهاب التي عادت مجدداً خالية من أية مشاعر ولكن تأكد بداخله أن هناك أمراً ما بينهما ولا يدري لماذا شعر وكأنما يتوجب عليه أن يعرفه، فتوتر ميرال ذلك وملامحها المرعوبة لابد وأن هناك شيئاً خلفها وسيعلمه هو ولن يتوانى عن معرفته.. فلربما بتلك الصدفة البسيطة سيجد مبرراً حتى يتخلص تماماً من شهاب الدمنهوري فهو لم ولن يروق له وتمنى أن يتخلص منه اليوم قبل غداً!!

 

--


الفصل العاشر

 

"يعني عايز تفهمني انك مخدتش بالك من طريقته؟ ولا طريقة ميرال؟ زي ما تكون قبل ما اندها تسلم عليه انسانة وفجأة من ساعة ما شافته بقت انسانة تانية.. ماخدتش كمان بالك لما عزمتها تتغدى معانا فضلت مصممة انها تمشي وانت عارف ميرال من زمان وهي دايماً بتحبك واستحاله كانت ترفض تقعد معانا.. انا حاسس ان فيه حاجة ما بينهم! " تحدث سليم لوالده ليضيق بدر الدين ما بين حاجباه

"بص انا مشوفتش اللي بتقول عليه ده خالص.. يمكن لما اتشغلت في مكالمتي مع نور حصل كل اللي بتقول عليه ده.. بس اللي انا متأكد منه ان شهاب ده مش مريح ومش سهل خالص" اخبره بدر الدين وقد تحولت ملامحه للجدية والتفت نحو سليم الذي كان يقود السيارة دالفاً منزلهم "تفتكر هيكون فيه ايه يعني؟"

"مش عارف.. بس هاعرف.. شهاب ده انا مش طايقه من ساعة ما شوفته، فيه حاجة كده مش مريحاني" همس سليم وكأنما يفكر بشيء ما لتبدو نبرته غامضة

"من ساعة ما شوفته ولا من ساعة ما شوفت زينة معاه؟" نظر له مضيقاً عيناه متفصحاً سليم لتتحول ملامح الآخر للإنزعاج الشديد

"يوووه بقا!! لا من ساعة ما شوفته!! ارتحت كده؟!" 

"ياض.. أنا بابا ياض!! تروح تمثل على اي حد تاني ما عدا حد فاهمك وعارفك زيي.." ابتسم له في مكر انزل انزل.. تعالى نروح للمزة اللي قاعدة لوحدها هناك دي" ترجلا من السيارة بينما زفر سليم في حنق بالغ، فهو كلما يتذكر ما حدث أمس وكيف كانت زينة تتعامل مع شهاب يشعر وكأنما هناك بركاناً ثائراً بداخله

"حبيبة خالو قاعدة لوحدها في الساقعة دي بتعمل ايه؟!" فاجئها بدر الدين لتلتفت هي له بابتسامة وملامح متهللة 

"خالو.. حمد الله على سلامتك... أبداً قاعدة عادي، والجو حلو على فكرة مش ساقعة ولا حاجة"

"اه بقا خلاص بقيتي واخدة على جو المانيا.. ماشي يا زوزا"

"ازيك يا زينة؟" تحدث سليم  لها لتبتسم له في هدوء

"الحمد لله.. ايه، عملتوا ايه في الـ gym النهاردة؟ بعد الخناقة اللي كنتو عاملينها الصبح دي؟" 

"طبعاً سليم مقدرش يكمل زيي وقالي يالا كفاية نمشي.. مفيش زي خالك والله يا حبيبتي.. سليم ابن خالك خِرع حبتين وحنين مش طالع زي ابوه خالص" ضحكت زينة ليشرد بها سليم وهو لا يصدق أنه أخيراً يستمع لتلك القهقهات التي تمنى سماعها منذ سنوات، وبالرغم من أن والده جعله مزحة أمامها لكنه في منتهى السعادة بتغيرها عن الأيام الماضية

"حبيبي أنت يا خالو ولا عمر حد هيكون بدر الدين الخولي تاني" هرعت نحوه لتقبله على وجنه ثم احتضنته ليعانقها في حنان وملامحه تهللت بكلماتها 

"ايوة احضنوا بعض اوي وخليكو كده اجي انده نوري تاكلكو انتو الاتنين.." صاح سليم وعقد ذراعيه وهو يشاهدهما سوياً ثم عدّل وقفته في شموخ "ولا أقولك ايه يا بدر.. خليك أنت مع زينة حبيبتك وأنا اروح بقا اسهر مع نوري واحضنها كده وادلع فيها" 

"تروح فين يالا!! قال تدلع نوري قال" تحدث بدر الدين بجدية وقد تحولت ملامحه للإنزعاج من كلمات سليم "حاسبي كده معلش يا زينة.. وأنت اياك المحك بقا جنب نورسين للصبح، وياريت كمان شوية ملقاكش لازقلنا" نهض بدر الدين ليضحك سليم بينما انتابت زينة نوبة من الضحك حتى قاربت عيناها على ذرف الدمعات 

"لا والله!! عاجبك اوي كلامه؟!" نظر لها بدر الدين بإنزعاج وسوداوتاه تتسائلان عما يضحكها للغاية هكذا بينما اماءت زينة نفياً برأسها يميناً ويساراً

"أصل.. أصل.." حاولت التحدث بين ضحكاتها "أنت وسليم عمالين تقولوا هتروحو لنور وهي.. وهي" حاولت تهدئة ضحكاتها "هي نامت من بدري.. لا أنت هتقعد معاها ولا سليم حتى!" أكملت ضحكاتها بينما انفجر سليم ضاحكاً مرة أخرى وتجهمت ملامح بدر الدين 

"قريت فيها يا اخويا.. ده أنت عيل رخم جتك نيلة.. تصبحي على خير يا زينة" رمقه بدر الدين بنظرة بغيضة لتصاحب ملامحه المنزعجة ثم توجه ليدلف المنزل بينما توجه سليم ليجلس بجانب زينة وهو يحاول تهدئة ضحكاته

"مش ممكن.. خالو لسه لغاية دلوقتي بيغير عليها، لأ ومن مين! منك!" تحدثت زينة بابتسامة ونبرة تحمل آثار ضحكاتها 

"طبعاً يا بنتي وهو بدر الدين يوم ما يغير، هيغير من مين، لازم حد شبهه" 

"يا سلام!! أنت مش شبهه بقا خالص"

"ومين بقا اللي قالك كده؟!" التفت نحوها لتلتفت زينة لتنظر له وهي عاقدة ساقيها لتجلس القرفصاء 

"أنا اللي بقول.. أنت بتضحك كتير اوي من وانت صغير وبتهزر وقريب مننا كلنا و.."

"قريب من مين بالظبط؟!" قاطعها وهو يتفحص زرقاويتيها

"من سيدرا ونور واخواتي وانا وحتى شاهي وادهم واسما وكمـ.."

"يعني انتي شايفة ان انا قريب منك؟" تفحص ملامحها بعناية بعد أن قاطعها وهو متلهفاً أن يستمع لإجابة سؤاله بينما انعقد لسانها فجأة كما أنه رأى محاولتها للإجابة كلما اجتمعتا شفتاها الكرزيتان للتحدث ولكنها تتوقف، يبدو وأن سؤاله لم تكن تتوقعه أبداً!!

"اكيد.. يعني انت بردو بتعاملني كويس وبتقرب مني زي اخواتي كلهم وأدهم وأسما" حاولت أن تجيب بحصافة بينما ارتسمت ابتسامة على شفتي سليم ليردف معقباً على اجابتها وعيناه الداكنتان الآن شابهتا عينا بدر الدين تماماً

"تفتكري بعاملك زيهم؟"

"يعني ايه؟" تعجبت وزرقاويتيها يبحثا بملامحه عن اجابة

"يعني.. انتي غيرهم يا زينة.. غيرهم كلهم" ثقبت تلك الداكنتان زرقاويتيها وقد تحولت ملامحه للجدية ولكن دون قسوة أو صلابة "زينة.. أنا اعرفك اكتر من كل اللي حواليا، حتى سيدرا أختي.. أنتي اكبر منها وقضيت معاكي وقت اكتر منها، دايماً كنتي بتيجي هنا في البيت ودايماً كنا بنقعد سوا وحتى لعبنا وضحكنا كان سوا، خروجتنا وسفرياتنا مع بابا وماما.. دايماً كنتي جنبي يا زينة وعمري ما عرفت حد زيك! عشان كده أنتي غير الناس كلها بالنسبالي" همس لها ثم تنهد بينما تعجبت زينة كثيراً لكل ما سمعته.

لا تدري ماذا عليها القول ولا بم تخبره!! لأول مرة بحياتها تلاحظ أن هناك أحد يهتم بها بل ويتذكرها هكذا، لم تسمع ما يضاهي تلك الكلمات من اياً مما حولها من قبل..

شردت بزرقاويتيها وهي غارقة في نشوة من تلك الكلمات التي تركت اثراً محبباً على نفسها وبداخلها بل شعرت بأنها تريد أن تهرول لتكتب تلك الكلمات بدفترها الأسود حتى لا تنسى منها أي حرف..

"ايه روحتي فين؟" سألها سليم هامساً لتلتفت هي اليه لتتفقد ملامحه وتعجبت بداخلها كيف أن عيناه الآن تبدو سوداء وبالصباح عسليتان رائقتان 

"مفيش.. أنت فعلاً مش شبه خالو خالص."

"ازاي يعني" عقد حاجباه وهو ينظر له نظرة امتلئت بالاستفسار

"هو عنيه سودا لكن انت عنيك عسلي"

"يعني هو بس الشبه في لون العين؟!" سألها بسخرية "ماشي يا ستي أنا مش شبهه في حاجة.. اروح اطلبلك ايده يعني عشان تتبسطي؟!" 

"بس يا سخيف" تحدثت بإنزعاج ثم ضربته بخفة على ذراعه وقبل أن تخفض يدها أمسك بها سليم ثم حدق بزرقاويتيها

"بقولك ايه.. سيبك بقا من بدر عشان انا بغير.. ومش هيفرق معايا خالص أنه ابويا"

"سليم!! بتغير ايه أنا مش فاهماك يعني تقصد ايه بكلامك ده؟" تعجبت كثيراً لكلمته ليتنهد هو ثم اراح جسده على الأريكة الخشبية الجالسان عليها وشرد بتلك السُحب التي حجبت القمر الساطع خلفها على استيحاء ليستلهم كلماته التالية مما يراه أمامه بينما تعجبت هي أكثر مما يفعله ولصمته ولكنها تفقدت ملامحه فلم ترى سوى جانب وجهه وعنقه التي برز بها ذلك النتوء وذقنه الرجولية التي يبدو وأنه لم يحلقها ليومان ولكنه أكسبته مظهراً جذاباً، وقبل أن تشرد تماماً به آتاها صوته ليفيقها من غفلتها

"بغير عشان مش عايز حد يقرب منه اكتر مني وبغير عشان عايز اكون قريب ليكو كلكو أكتر منه" حاول أن يخفي مشاعره بتلك الإجابة لتبتسم زينة ثم تحدثت له

"دي أنانية بقا"

"يعني أنتي شايفاني أناني؟!" التفت لها مضيقاً تلك الداكنتان وهو ينظر لها ملياً

"بصراحة لأ عمري ما شوفتك أناني.. بالعكس بقا"

"ايه العكس بقا؟!"

"يعني.. دايماً افتكر إنك كنت بتجلنا لعب وتفضل تلعب مع الكل وكنت بتحبنا كلنا.."

"ياااه.. لسه فاكرة يا زينة؟!"

"اكيد فاكرة.. بس ده ميمنعش إنك اتغيرت شوية عن زمان" التف بجلسته ليجلس القرفصاء مثلها وهو يمعن النظر لتلك الملامح التي يعشقها وبدلاً من أن يسألها كيف تغير ود أن يتغلغل بداخل تلك الفتاة أكثر

"طب ما احنا كلنا بنتغير.. أنتي مثلاً أكتر حد اتغير فينا من واحنا صغيرين.. ولا شايفة ايه؟!" تفقدها ليرى الإنزعاج بدأ أن ينعكس على ملامحها وكادت أن تغير جلستها حتى لا تصبح في مقابلته وجهاً لوجه فأمسك بيدها "استني يا زينة.. مش عايزك تضايقي من كلامي بس كلنا الطبيعي اننا نتغير، وإلا ميبقاش كبرنا!! مش صح كلامي؟!" تركها لتفكر لبرهة ثم نظرت له وكأنها تستمد اجابتها من ملامحه 

"أنا اتغيرت، وانتي، واخواتك، وسيدرا وحتى بدر اتغير.. عادي يا زينة انك تتغيري والصح أن كل اللي بيحبك وحواليكي يتعاملوا مع التغيير ده.. لا الحل انك تبعدي ولا الحل ان اللي قدامك ميقبلش، لازم نلاقي حل وسط" تعجبت من تلك الكلمات لتتعجب وهي بداخلها شعرت أنها ضائعة بين تلك الكلمات، فبالرغم من أن كلماته تبدو منطقية إلا أن كلماته أيضاً تبدو كدعوة لشيء ما، أسيبدأ الآن بمحادثتها عن أنها تغيرت عن الماضي ولم تعد تلك الفتاة التي يعرفها وكل ذلك الهراء الذي لا نهاية له؟! لا هي لن تقبل أبداً أن يتحكم بها أحد حتى ولو كان سليم يعد من أفضل الناس بتلك العائلة بأكملها!

"بصيلي يا زينة وركزي معايا" افاقها من تلك الأفكار تلك اليد التي تلامس يدها بل وشدت عليها قليلاً لتغرق تلك الزرقة بتلك السودواتان امامها "أنتي حلوة زي ما انتي، بشخصيتك وبضحكك وبلبسك وكل حاجة فيكي حلوة، أنتي واحدة مفيش حد شبهك، مش معنى إنك بعيدتي كام سنة عننا اننا نكون مش بنحبك او نسيناكي، بالعكس بقا، أنا مثلاً وبابا وماما وسيدرا واياد وشاهي مبسوطين إنك رجعتي تاني، مش بنتحكم فيكي وبتقولك اقعدي لا! احنا نفسنا ان انتي تقعدي عشان وحشتينا اوي وبقينا مبسوطين لما رجعتي تاني" تفقدها ليرى اثر كلماته عليها بينما هي لا تصدق حقاً أنهم يكترثون لها

"ومش معنى اني اتغيرت ابقا بقيت وحش، ما اديكي اهو شوفتيني في الشركة عامل ازاي ولما روحنا فضلنا نتخانق ده معناه مثلاً انك بتكرهيني؟ او خناقك معايا معناه انك بتتحكمي فيا؟!.. لازم كل واحد يقبل انه اتغير واللي قدامه يتعامل معاه، بس في نفس الوقت محدش يتحكم في التاني ولا يفرض رأيه على التاني.. فهمتي اقصد ايه؟" لبرهة تريثت ثم بالنهاية وجدت نفسها تومأ له بالموافقة على كلماته ليبتسم سليم في هدوء 

"التغيير حلو، بس أهم حاجة اوعي تتوهي جواكي من التغيير ده ومتبقيش عارفة نفسك.. اتغيري زي ما تحبي بس اعرفي انتي عايزة ايه.. مش كل حاجة تحصل تتاخد قفش وخناق.. عرفتي قصدي يا زينة؟!" ظل ناظراً لتلك الزرقاوتان اللاتي قد غرقت في الحيرة من امرها ولكن كلماته قد لمست بداخلها اكثر ما كان ولا زال يؤرقها، فهي لا تدري من هي ولا تعرف ماذا تريد حقاً؟!! ولكنها بالنهاية اماءت له بالايجاب

"عارفة مع انك اتغيرتي اوي من ساعة ما رجعتي بس ضحكك اللي كان من شوية ده فكرني بزينة وفكرني ببنت عمتي اللي كنت بلعب معاها كل يوم ونفضل سهرانين سوا في اجازة الصيف.. ودلوقتي زينة اللي بتكلم معاها عبارة عن Mix بين الاتنين.. مش مهم أنا شايفك ايه على قد ما هو مهم انك بقيتي انتي، بشخصيتك، بنضجك، بتفكيرك.. أنتي مميزة وغير الكل بس ان كان ليا خاطر عندك حاولي متاخديش كل حاجة على اعصابك، اه اتغيري زي ما تحبي بس بلاش ترجعي كلام كل اللي قدامك انه عايز يتحكم فيكي، لأن انتي بشخصيتك القوية يا زينة تقدري تقولي لأ ببساطة ومتقبليش حاجة مش عايزاها.. بس اهم حاجة انه ميكونش عِند وخلاص" ابتلعت ثم ضيقت ما بين حاجبيها وقد شعرت أن كل تلك الكلمات كثيرة للغاية عليها لتدركها مرة واحدة ليرى هو تلك الحيرة التي وقعت هي فيها

"يعني مثلاً.. أنا وانتي في الشغل.. اه يمكن طريقتنا واسلوبنا عكس بعض بس اللي انا شايفه انك بتنعدي وخلاص، حتى مفكرتيش لثواني انك تفهمي اللي قدامك قبل ما ترفضي اسلوبه وطريقته وبتنعدي وبس.. تعالي اقولك على حاجة حلوة.. جربي معايا وانا بنفسي هجرب معاكي، ادي لنفسك فرصة تفهمي اللي قدامك واسلوبه واعرفي كويس انتي عايزة ايه وبعدين ناقشيه فيه بهدوء من غير عِند ونرفزة، وأنا هاعمل زيك بالظبط، وساعتها شوفي الدنيا هتبقا احسن ولا لأ.. اتفقنا؟!" دقق النظر لعينتيها وهي لازالت واقعة ببؤرة صمتها ويبدو أنها تفكر ولكنها ادهشته وهي تقدم يدها له لتصافحه 

"اتفقنا"

"يعني خلاص دي معاهدة سلام من غير خناق ونرفزة وعصبية؟!" توسعت عيناه وهو ينظر لها لتومأ له بابتسامة لتقتبس من كلماته

"ايوة!! معاهدة سلام!!"

"يبقى اتفقنا" قدم يده لها واحتوى يدها بينها وهو يصافحها ليتبادلا الابتسامة وكلاهما قد نما بداخله شعوراً جديداً للآخر.

 

--

"يعني أنا عايزة أفهم ايه الهبل والزفت اللي بيحصل ده!! أنت وهو مش كبار.. ازاي سايبين اختكو كده من يوم ما رجعت وهي عند بدر.. ويعني ايه كمان متروحش الشركة واعرف امتى كمان في آخر اليوم!! انتو بتستهبلوا؟" صرخت هديل بكلاً من أروى وعاصم 

"أصل يا مامي أنا كنت مشغولة اوي والله، وكنت فاكراها في موقع ولـ.."

"فاكراها!! ده انتي بتخمني كمان؟" قاطعتها بينما نظرت لعاصم بحدة "وانت مش اخوها الراجل الكبير، ازاي متبقاش عارف اختك فين؟ وازاي مش فارق معاك انها مش قاعدة معانا في نفس البيت؟"

"ماما لو سمحتي اهدي، أنا النهاردة كنت براجع المناقصات اللي هندخلها و.."

"مناقصات!! لكن اختك مش مهم تعمل ايه! مش مهم انا قولتلكوا ايه! سايبين طبعاً الهانم بدر يعملها غسيل مخ وسليم بيلعب بيكو ويديكو شغل ومحدش فيكو فايق لحاجة" قاطعته هديل بعصبية شديدة

"فيه ايه يا ماما صوتك جايب اخر الشارع" هنا تدخل اياد

"تعالالي يا كبير اخواتك.. اهلاً وسهلاً.. زينة اختك فين يا اياد؟!" نظرت له بحنق بالغ

"عند خالي يا ماما وكلنا عارفين الكلام ده"

"ومش شايف ان المفروض ده بيتها وتكون في وسط اخواتها ولا كمان مش شايف ان اللي اختك بتعمله ده غلط؟!" هنا زفر اياد في سأم وبدأت العصبية في السيطرة عليه

"لا يا ماما مش شايف انها غلط" اجابها بحدة وتقدم نحوها وقرر بداخله أنه لن يصمت بينما نظرت له هديل رافعة احدى حاجبيها "شايف ان ده اكتر حاجة صح لزينة انها تقعد مع حد عارف يتعامل معاها، تيجي البيت هنا تعمل ايه؟ قوليلي؟! تعمل ايه؟ تفضل قاعدة في وسط اخواتها اللي كل واحد منهم في وادي، ولا تقعد مع آسر اللي سافر، ولا تفضل تسمع زعيقك ليها وانتي بتجبريها على كل حاجة مش عايزاها.. سيبيها في حالها بقا حرام عليكي! سيبي كل واحد يعيش زي ما هو عايز"

"وكمان ليك عين تعلي صوتك وتقولي حرام عليا!! ده أنت مشوفتش ريحة التربية.. أنت ازاي تتكـ.."

"فعلاً مشوفتش ريحة التربية، لأن أبويا اختفى واللي افتكرت عوضنا بغيابه هو كمان مكنش فاضيلنا بسببك، وانتي طول عمرك كنتي بتهتمي بالشغل لا ولسه عايزانا كلنا نكون نسخة منك.. ياريت والله الاقيلي مكان زي زينة ولا الاقي تربية زي اللي هي بتشوفها من خالي ولا أم زي مرات خالي.. صدقيني كان زماني بقيت واحد تاني خالص" التقط اياد انفاسه بعصبية وهو ينظر لها بلوم

"أنت قليل الأدب" صرخت هديل بوجه ابنها اياد زاجرة اياه "وهو أنا كنت بعمل كل ده علشان مين؟ مش علشانك أنت واخواتك؟! تيجي دلوقتي تقولي بدر ومراته.. لا ده واضح انك كمان معمولك غسيل دماغ مش هي بس!!"

"ايه ده يا جماعة فيه ايه؟" هرولت شاهندة نحو هديل وابناءها وتبعتها اسما 

"لو سمحتي متدخليش بيني وبين ولادي، ولا أنتي طول عمرك تحبي تكوني حشرية وبس؟"

"ماما لو سمحتي متقوليش لطنط كده!" تحدث اياد قبل أن تتابع شاهندة حديثها مع هديل

"لا والله كمان كبرت وبتقولي اعمل ايه ومعملش ايه.. حلو اوي اللي بيحصل ده!"

"طب هديل معلش اياً كان اللي بتتكلموا فيه الوقت اتأخر وماما ممكن تقلق لو سمحتي اهدي ومـ.." بالرغم من محاولة شاهندة في تهدئة الأمور وذلك الصراع القائم إلا أنها قاطعتها

"ايوة بقا ادخليلي بطقم الحنية.. ماما .. وبدر .. والولاد.. وست شاهندة المضحية الكبرى"

"ايه الاسلوب اللي بتتكلمي بيه ده.. لو سمحتي بقا اتكلمي بأسلوب كويس.. ما دام بقا وصلتي للكلام بالطريقة دي أنا مش هاقبل كل ساعة والتانية خناق في البيت، لا صحة ماما تستحمل ولا ولادي عايزاهم يذاكروا ويعيشوا في الجو ده.. بعد اذنك دي تكون آخر مرة تعلي كده فيها صوتك وسط البيت.. ليكي اوض انتي والولاد اتكلموا فيها براحتكوا، واهو بالمرة عشان مبقاش اتحشر في كلامكم" تحدثت شاهندة لأختها بعصبية تحت أنظار الجميع وكادت أن تغادر ليتبعها اياد وهو يعلم جيداً أنها حزنت من تلك الكلمات التي سمعتها وخاصة امام ابنتها

"استني بس يا طنط مـ.."

"ايوة ايوة.. اجري وراها، ما هو واضح ان بدر وسليم خلاص خلوك شخشيخة في ايديهم، وواضح انهم موصينك كمان على شاهندة.." صاحت هديل ليلتفتا لها 

"ايه اللي انتي بتقوليه ده يا هديل، انتي اتجننتي؟!" سألتها في صدمة مما تفوهت به منذ قليل

"اتجننت.. لا يا حبيبتي انتي اللي مجنونة من زمان ببدر ومراته وولاده وهو عايز يمشي الدنيا كلها على مزاجه.. لدرجة يا عيني مبقتيش واخدة بالك من اللي بيحصل حواليكي، زمان قلبك الحنين كان هو اللي بيخليكي تحني على بدر انما دلوقتي انتي مش شايفة ولا عارفة اللي بيحصل، ولادي بيحصلهم غسيل دماغ من سليم بيه وبدر الدين باشا علشان كله في الاخر يبقا ليهم وتحت طوعهم، اصحي بقا وفوقي للي بيحصل حواليكي"

"انتي ايه اللي انتي بتقوليه ده؟!" توسعت عينا شاهندة وهي لا تصدق اياً مما يسقط على مسامعها

"اللي بقوله ان خلاص بقا كل حاجة زادت عن حدها، زمان بدر دخل بيتنا وقبلناه وقولنا اخونا، انما دلوقتي عايز يسيطر هو وسليم على كل تعب وشقى امي وابويا، لا ده بعده، واذا كان هو فاكركوا نايمين فانا صحياله وفايقاله اوي.. هو نسي نفسه ولا نسي بسببه عيشنا في قرف بسبب امه ولا ايه.. لو كان ناسي ممكن افكره بكل الـ.."

"اخرسي يا هديل!! انتي اتجننتي" صرخت شاهندة بها "انتي بتتكلمي عن اخونا الكبير، اخونا اللي فضل طول عمره بيحارب علشانا، انتي نسيتي كان بيدافع عننا ازاي؟ نسيتي وقفته جنبك وانتي كنتي نايمة في بحر العسل نوم وفوقتي على اللي عمله كريم ولا افكرك؟! اياكي اسمعك تجيبي سيرته بالاسلوب ده، والكلام اللي قولتيه ده اياكي تكرريه تاني.. سمعاني ولا لأ؟!"

تبادلت كلتاهما النظرات بينما أسما وكذلك ابناء هديل لم يفهم أياً منهم ما تحدثت به شاهندة ووقع الجميع بالحيرة بينما رمقت شاهندة هديل بنظرات أقرب للإستحقار لتلتفت مغادرة اياها وتبعها اياد بعد أن نظر لوالدته وهو لا يصدق أنها تفعل ما تفعله لتنضم اليهما أسما وتركوها بصحبة عاصم وأروى ثم غادروا للأعلى.

 

--

دلفت أسفل الأغطية على سريرها وهي تُمسك بدفترها الأسود لتتنهد وثغرها يعتليه الابتسامة وتشعر وكأن كل ما مر عليها اليوم من أحداث كثيراً عليها.. هل الأحداث هي الكثيرة أم تلك السعادة التي تشعر بها هي الكثيرة؟! لا تدري حقاً ولكنها ودت من طيات قلبها لو أن تستمر هذه السعادة إلي الأبد..

"أتدري أسودي، أنا سعيدة، سعيدة للغاية، سعيدة لدرجة أنني أُفكر بإحتضانك قبل أن أقص عليك كل ما حدث اليوم، منذ الوهلة الأولى التي قرر جفناي ترك النوم والإستيقاظ إلي خمسة عشر دقيقة فاتت..

لا أدري من أين أبدأ ولكنه كان يوماً مفعماً بالعديد من الأشياء السعيدة، حسناً عليّ أن أن أكمل حديثي عن سليم ولكن لنتركه للنهاية لأنه أصبح بالنسبة لي لغزاً لا أستطيع تبينه..

لقد ذهبت صباح اليوم بصحبة زوجة خالي نورسين وابنتها وخالتي شاهندة، أتدري أين ذهبت معهم؟ أتدري ماذا كنت أفعل؟ حسناً.. فلتعدني أنك لن تضحك ولن أرى أي سخرية من سطورك الفارغة عنما أخبرك عن تفاصيل يومي.. لقد اتفقنا ولقد وعدتني، أعمل أنك لن تسخر مني.. حسناً.. لقد .. ذهبت .. للتسوق!! 

أعلم أنك لا تصدق مثلي تماماً.. ربما تظن أنني مريضة أو أهذي للإعتراف بذلك ولكن لأول مرة أشعر وكأنني فتاة طبيعية، تمرح وتبتاع الملابس الملونة وتضحك وتمزح مع الجميع.. 

لن أكذب هذه المرة، لقد أشتقت لضحكاتي، أشتقت لرؤية الحياة بشكل مختلف قليلاً، لا زلت كما أنا بنفس تساؤلاتي وتعجبي من نفسي ولكنني لأول مرة منذ فترة كبيرة وأشعر وكأنما أريد الحياة، أريد البقاء هنا لوقت أكثر..

يبدو أنني تسرعت قليلاً بإتخاذ قرار السفر والعودة مجدداً لألمانيا نهاية هذا الشهر، لا أدري، ربما لو فقط عشت يوماً مثل هذا لكانت أفكاري تغيرت..

والآن حاول أن تُهمل تلك التنهيدة العميقة التي استمعت لها واعطيني كامل تركيزك، لدي سؤال لك، لا تقلق، لن أسألك هذه المرة من أنا ولن أسألك ماذا أريد، لدي هذه المرة سؤال جديد للغاية.. بم أشعر تجاه سليم؟!

ممم.. إنه ابن خالي، لقد تحدثت لك عنه من قبل ولكن اراه تلك الأيام بمنظور مختلف، أرى كل شيء به وكأنني تعرفت عليه مؤخراً وليس منذ سنوات سحيقة، ملامحه أصبحت تجذبني بشدة!! اللعنة! أهذا اعتراف مني بأنني منجذبة له؟! 

حسناً.. لنعترف بالحقيقة.. هو جذاب وقد يجذب أي فتاة يريدها ولكن هل هو منجذب لي؟! أقصد أيشعر مثلما أشعر أنا؟ أم أنه يعاملني مثلما يعامل الجميع؟! لا أظن، ليتك كنت معي عندما تحدث لي من قليل وأخبرني أنني غير الجميع بالنسبة له.. انتبه لي عزيزي الأسود وأرجوك أن تتجاهل تلك التنهيدات وتلك الكلمات التي ارتعشت بها يديّ.. أنا أشعر بالتوتر الآن فتحملني أرجوك..

سليم منذ الصباح وهو يعاملني بطريقة جديدة، أشعر بإهتمامه، لربما أرى مشاعره، أكاد أقسم لك أنه يشعر تجاهي بشيء، ولكن أتدري عندما أنظر لطريقته مع الجميع أرى أنه يهتم بجميعنا، لا يهمل أحد أبداً.. لا أدري ماذا يريده، ولكن الأهم بمّ أشعر أنا تجاهه؟ يبدو وكأنني لدي المزي لأخبرك عه الفترة القادمة، بل أنني عقدت معاهدة سلام معه!! لا تقلق.. الآتي بين طيات صفحاتك سيكون أفضل من تلك الصفحات السابقة.. أنا أشعر بذلك.. انتظرني يا أسودي وسأخبرك بالمزيد والآن دعني حتى أنام.. سعيدة.. دون بكاء.. دون حزن.. دون وجع..

ليلة سعيدة عزيزي.."

 

--

 

        

عرف أنه ستتوقف قدماه اليوم هنا، سيدلف من تلك البوابة وحتى وإن لم ينطق بها ولكن تلك البنيتان ستبحث عن إجابة بوجه أبيه، لن يكون سهلاً أبداً عليه أن يصرخ بوجه ويقول له أين كنت؟ لن يستطيع أن يسأله لماذا لا نملك ذكريات مثل أي شاب وأبيه؟ تلك البؤرة السوداء بداخله لن تستطيع الصياح بنبرة باكية حتى تسأله لماذا لا نملك علاقة مثل تلك العلاقة بين بدر الدين وابنه؟

علم أن ما رآه سيؤثر حتماً عليه، علم أنه سيأتي مهرولاً حتى يبحث عن إجابات، ولكن أنّى له هذا وهو الذي تؤلمه كرامته بشدة وتتعالى الأنفة التي بداخله حتى يُعبر عما يشعر به.. لا لن تصبح حياته وكل ما يشعر به بتلك السهولة، لن يتغير شهاب الدمنهوري أبداً.. سيظل ذلك الرجل الذي يكرهه هو نفسه قبل الجميع وسيظل ملتاعاً من كل ما يشعر به ولن يريه للنور أبداً وسيكتمه بين طيات سواده الذي يكتظ به داخل نفسه..

ترجل من السيارة دالفاً من بوابة ذلك البناء الضخم للغاية وهو أقل ما يُقال عليه أن قصراً باهراً.. ابتسم متهكماً لثانية واحدة.. قصر الدمنهوري.. يا له من اسم يليق بأن يكن كنية عظيمة لعائلة عريقة.. ذلك القصر المُشيد بأجود مواد البناء وأشرف عليه أفضل مهندسي البلدة وتلك الأموال التي تصرخ من كل جانب منه بداية بأرضه الرخامية التي صُرفت عليها الملايين ونهاية بتلك الأسقف الشاهقة التي صممها والده خصيصاً فلقد توقف الجميع عن بناءها الآن.. كل تلك الفخامة، تلك المساحة الشاسعة، التماثيل المنحوته، الحدائق التي تليق بأن تصبح محمية طبيعية، مرأب السيارات الذي يعج بأغلى سيارات في العالم بل هناك نسختان من سيارات نادرة لم يصنع منها سوى نسخ محدودة فقط في العالم بأكمله.. عظيم .. كل ما تقع عليه عينه يتصف بالعظمة ولكن أين هي العائلة؟! أين تلك العائلة التي تحمل اسم الدمنهوري..

لا عائلة، لا أحد.. فقط هو ووالده والعاملون بذلك القصر الضخم.. ليس إلا..

سخر من كل ما وقعت عيناه عليه ودلف من تلك البوابة ليلمح عنايات، إمرأة في آواخر الأربعينات من عمرها، مديرة منزل والده وكالعادة توجهت نحوه بابتسامة رسمية فهي لم تلتحق بهذا القصر سوى منذ عشر سنوات، منذ أن التحقا بتلك الطبقة المخملية، منذ أن اكتظت حسباتهم البنكية وصرخت بالأموال الطائلة، أو للتوضيح، منذ أن أصبح شهاب الدمنهوري من أكبر تجار الممنوعات.. 

"مساء الخير يا شهاب بيه.. حضرتك تحب أبلغهم يحضرولك العشا؟" سألته برسمية ليومأ لها بالإنكار ثم سألها

"كرم بيه فين؟!" 

"في اوضة مكتبه حضرتك."

"قهوة بعد اذنك.. هتلاقيني معاه" أخبرها ثم توجه نحو غرفة مكتب والده وطرق الباب طرقه خفيفة ثم ولج بعدها مباشرة لتتهلل ملامح ابيه عندما رآه

"شهاب.. يااه.. شكلك ناوي على بيات معايا النهاردة.. عامل ايه يا حبيبي؟"

"تمام.. أنت ايه اخبارك؟!" 

"والله يا ابني مكدبش عليك.. أنت عارف الضغط والسكر مبهدلني ودلوقتي كمان مبقتش أقدر ادوس على رجلي.. والخشونة مبقتش تخليني أقدر اتحرك.. شكلها كده خلاص يا شهاب.. مش هيبقا فيه كرم الدمنهوري تاني"

"بعد الشر" عقد حاجباه وبدت نبرته قاسية جامدة فارغة من اي مشاعر تذكر بالرغم من أنه بداخله لا يطيق فكرة أن يفارقه والده بعدما هدأت حياتهما نسبياً.. بعدما أصبح بجانبه..

"عارف.. أنا حاسس إن أنا في آخر أيامي يا شهاب.. حقك عليا.. أنا اخدتني الدنيا وما فيها.. حققت حلمي إني أكبر ويبقى عندي أكبر سلسلة مشاريع مباني في البلد.. كان نفسي نبقا عيلة كبيرة.. كان نفسي نكون أسرة كبيرة بس ده مقدرتش أحققه.. كان نفسي دلوقتي يكون جنبي أمال.. كان نفسي أخلف منها بدل الواحد خمسة.. بس هي اللي اختارت، وأنا في حياتي كلها مقدرتش ابص لست تانية، مقدرتش اتخيل إن ست تانية بدالها تشيل اسمي.. يالا ربنا يوفقها في حياتها ويباركلها في اولادها"

نهض شهاب وهو يستمع لتلك الكلمات من والده موجهاً له ظهره، واخذ يطبق على أسنانه بشدة حتى اوشك على تحطيمها، لا يريد أن يتحدث بمثل ذلك الأمر الآن، لماذا عليه أن يذكره بأول جراحه في تلك الحياة؟ لماذا يتحدث بذلك الآن؟

"محاولتش صحيح تشوفهم يا شهاب ولو مرة واحدة؟!" تابع كرم الحديث 

"لا ومش هحاول ومتجيبش سيرة الموضوع ده تاني.." أخبره بنبرة لا تحتمل النقاش

"طب معرفتش حاجة لسه عن كريم؟" حاول أن يغير مجرى الحديث ليزفر شهاب بحنق

"لا لسه معرفش" 

"طيب عشان خاطري يا ابني أنا عايز أعرف ولاده وأشوفهم قبل ما أموت.. حاول تخليهم يجوا يقعدوا معايا شوية.. لغاية ما نوصله.. حتى احس ان ليا حد في الدنيا دي يعرفني"

"طيب.. هحاول حاضر" اجابه بإقتضاب لاذع "أنا عندي شوية شغل هاروح اكملهم في اوضتي.. محتاج مني حاجة؟!" لم ينظر لوالده فهو لن يستطيع تحمل المزيد من الآلام والأوجاع اليوم!

"لا يا حبيبي.. تصبح على خير"

"وأنت من أهله" 

توجه مسرعاً للخارج وهو يكاد ينفجر من كثرة تلك الآلام التي تنهش به من الداخل حتى أنه لم ينتبه لعنايات التي كانت تحمل قهوته وكاد أن يصطدم بها ولكن صوتها أفاقه وأنتشله من أفكاره الموجعة قبل أن تُسكب الصينية بأكملها أرضاً

"أنا آسفة يا شهاب بيه مكـ.."

"حصل خير" قاطعها مسرعاً ثم أمسك بفنجان قهوته وغادر على عجل وهو يلتهم درجات ذلك السُلم العملاق بسرعة شديدة وكأنه يريد الإختفاء بعيداً عن الجميع!

دلف غرفته صافعاً الباب خلفه بشدة ليلمح وجهه الذي يكرهه بشدة في احدى المرايات العملاقة بغرفته ولم يكن منه سوى أنه القى بالفنجان بتلك المرآة وتوجه على عجل لشرفة غرفته على تلك البرودة بالجو تهدأ قليلاً من ذلك الإحتراق المدوي بداخله..

لماذا عليه أن يتذكر كل ذلك؟ لماذا هذا الحرمان الذي يعاني منه منذ الصغر؟ لماذا لا يوجد أحد بجانبه؟ لماذا عليه أن يحترق وحده؟ لماذا رأى ذلك المسمى بسليم ينعم بتلك الحياة مع والده وهو لا؟ لماذا لا يملك حياة عادلة؟ لماذا عليه أن يعاني من كل ذلك الحقد وحده؟ شعر وكأنه سينفجر حتماً لا محالة، عليه أن يفجر هذا بشيء ما.. نعم!! عليه أن يُحضر سلمى الآن بأية طريقة..

أخرج هاتفه من جيبه ليرسل لها برسالة قصيرة بيد ترتجف غضباً ثم ذهب مسرعاً للمرأب حتى يلتقي بها، لا يستطيع التحمل أكثر من هذا، كل تلك الآلام وذلك الحقد المستعر بداخله عليه أن يصبه بداخلها.. 

 

--

 

"طب وفيها ايه يا حبيبتي لما نرجع بيتنا مش فاهم؟" تحدث سيف لهديل متعجباً

"مينفعش يا سيف.. ازاي هاسيب ابن بدر هنا في البيت لوحده.. مش لازم نعرفه الأول؟" اجابت هديل دون الأخذ في الاعتبار تلك الكلمات التي انسابت مباشرة من عقلها.

"لوحده! ازاي وبدر ومراته وماما وشاهندة وجوزها موجودين.. ممكن نقضي معاهم اليوم وبعدين نسلم ونروح بيتنا.."

"ايه.. انا اقصد يعني نطول في القاعدة كام يوم عشان ميحسش انه وحيد وان ليه قرايب وكده.. انت عارف ان الولد عمره ما قعد معانا عشان كده مش عايزة امشي بسرعه المرادي" استطاعت بسهولة ارتجال تلك الإجابة ولكنها لم تفصح عما يدور بخلدها

"خلاص يا حبيبتي اللي تشوفيه.. نقعد اسبوع كمان وماله ميجراش حاجة"

-

نظرت لذلك الفتى الصغير الذي شابه والده للغاية؛ مجيئه اليوم يذكرها عن تلك القصص التي لطالما قصتها والدتها عليها عن ذلك اليوم الذي دلف به بدر الدين منزلهم..

ولكن تقارنهم.. بدر الدين كان يشعر بالرعب وفقاً لما قصته عليها والدتها اما ذلك الفتى الذي قد سبق عمره بتلك الطريقة التي يتحدث بها وتلك الضحكات بل وأحيانا ردوده الدبلوماسية تجعلها تندهش وما يجعلها تجن هو مرض والدته الذي يتعامل معه بمنتهى العقلانية وبنفس الوقت تشعر بالخوف ما أن استمر هذا الفتى بتلك الطريقة فسيصبح أولادها دون فرصة تُذكر بلا محالة..

من أين هذا الفتى؟ بين يوم وليلة يُصبح لبدر الدين نجلاً في التاسعة من عمره! هذا ما لم تتخيله يوماً ولم يكن في حسبانها ابدا.. أن يكون الحفيد الاول الذكر البكر لوالديها هو ابن بدر الدين وليس ابنها! ولكن لترى؛ لربما ستتبخر كل تلك المخاوف مع الوقت وكل ما تشعر به من خوف مجرد خيال ليس إلا!

-

"بصراحة يا جماعة انا كده خلاص.. اتطمنت على الشغل بما فيه الكفاية، واظن سليم دلوقتي يقدر بسهولة يشيل المسئولية وانا اكيد هاكون معاه لو احتاجني في حاجة، وطبعاً بعد مني شاهندة وحمزة وهديل وسيف وزياد كلكم موجودين.. عشان كده قررت اني هتنازل عن منصب رئيس مجلس ادارة المجموعة لسليم؛ وهو بقا عليه يعلم ولاد عماته بعده" تحدث بدر الدين لتبتلع هديل في صدمة شديدة وجف حلقها بينما بدأ الجميع في التجاوب معه وكأنما ما فعله شيئاً عاديا للغاية بل وكأنه أمراً يسعدهم.

"ايوة بقا عشان تفوق للبنات.. ماشي يا سيدي" اخبرته شاهندة بابتسامة مرحة

"بصراحة سليم شاطر اوي يا بدر؛ وأنا دايماً كنت بستعجب من وهو صغير كان بيفضل يراقب كل كبيرة وصغيرة لغاية ما بقا بيقول آراء كويسة جداً.. أنا شايف انه قرار كويس جداً بصراحة" أخبره حمزة وامتلئت نبرته تأييداً لكلمات بدر الدين

"هو سليم فعلاً حد عاقل جداً وبيعرف يوازن الأمور.. وكمان عشان تخصصه هندسة هيعرف كمان ياخد باله من المواقع واظنه شرب الإدارة من المنبع نفسه" هنا ضحك الجميع بعدما أدركوا ان سيف قد قام بإطراء بدر الدين لتوه بينما سيطر الوجوم على وجه هديل

"يعني بردو كده حبيب تيتا مش هشوفه خالص.. من الجامعة للشغل؛ طب استنى بس يخلص جامعة مش كده بقا؛ عايزين تحرموني منه؟" تحدثت نجوى بنبرة امتلئت حزناً

"يا أمي متقلقيش، انتي عارفة سليم مهما كان مشغول استحالة ينسى حد مننا؛ وانتي عارفة إنك بالنسباله حاجة كبيرة؛ ده مش بعيد يسيب الشغل ويجيلك" أخبرها بدر الدين بينما تنهدت هي

"يالا.. ربنا يوفقه" تكلمت هديل بابتسامة سمجة وكانت مقتضبة للغاية بينما هي حقاً لم تقصد تلك الكلمات بحذافيرها بل ودت العكس تماماً.

-

"يعني ايه مش عايزك تنزلي شغل مكاني؟ اتجنن في دماغه ده ولا ايه؟" صاحت هديل سائلة بحنق بالغ

"بيقول لازم اتدرب الأول.. أنا مش فاهماه بجد" اجابتها أروى ابنتها متمتمة بنبرة امتلئت اعتراضاً

"نسي نفسه ولا ايه ابن امبارح.. ما هو كان ماسك مكان بدر وهو في سنك.. ولا اتدرب ولا هباب.. هيعمل علينا كبير َلا ايه ابن بدر وليلى!" تعالت أنفاسها غضباً

"معرفش بقا يا مامي.. بس بصي هو بيقول انه نزل كتير مع باباه الشغل واتعلم.. أنا شايغة ان احسن حل اروح الفترة الجاية معاكي لغاية ميبقالوش حجة"

"هيمشينا على مزاجه ولا ايه.. أنا هعرفه ان مـ.. "

"استني بس يا مامي.. " قاطعتها بهدوء "حضرتك كده ممكن تعملي مشكلة والموضوع يكبر؛ وبعدين بردو مهما اتدربت استحالة حد يعرفني كل كبيرة وصغيرة غير حضرتك.. يبقا احسن حاجة اني اكون معاكي.. وكمان مش هيكون حد غريب معايا وحتى لو غلطت في حاجة حضرتك هتعرفيني الصح أول بأول.. صدقيني كده احسن!" حاولت اقناعها بتلك الكلمات

"ماشي يا أروى.. بس دي أول وآخر مرة تسيبيه هو لا بدر يتحكموا فيكي كده ويمشوا رأيهم" تحدثت بإقتضاب

"حاضر يا مامي.."

-

دلفت غرفتها وهي في ذروة غضبها.. ماذا تظن نفسها تلك الفتاة المدللة من قِبل الجميع؟ أتظن أنها ستدعها تُفسد ذلك المستقبل الذي رسمته لها ولأولادها منذ سنوات؟

ظلت تأخذ خطوات واسعة بالغرفة مجيئاً وذهاباً ولولا أن سيف حال بينها وبين زينة الآن لكادت أن تدمرها بغضبها تماماً..

هي لا تريد العلاقة بينهما بتلك الطريقة.. لا تريد أن تصل الأمور لذلك؛ ولكن هي لا تنظر بعيداً أبداً.. زينة ليست أروى! ألا تدري أن بتخصصها بمجال الهندسة ستكون بعد سنوات نداً لسليم؟ ألا ترى أنها ستخلف سيف يوماً ما عندما يتقاعد! كانت تلك الفرصة الوحيدة امامها حتى يتخصص احدى ابناءها بنفس تخصص سليم..

زينة هي أصغرهم، الوحيدة التي لازالت أمامها الفرصة بأن تدرس هذا المجال.. لابد لها أن تلتحق بالهندسة خاصة وهو الآن من يتحكم بكل شيء.. مثل والده تماماً!

-

تذكرت كل تلك المواقف، كل تلك الذكريات غير المحببة، شعرت بحرقة الغضب، إلي متى سيظل بدر الدين هو محرك الترس الرئيسي لهذه العائلة؟ إلي متى سيظل الجميع يعاملونه هو وابنه كمن لهم الحق بكل شيء؟

ألا يكفي تقبل أمهم له وتربيته ومعاملته مثلم، لا بل أفضل منهم جميعاً؟ ألا يكفي كل تلك السنوات الفائتة عندما كان الجميع رهن إشارة منه؟ ألا يكفيه التحكم بكل ما يملكون تلك السنوات الفائتة؟ لقد زاد كل ذلك عن تحملها.. لن تترك له كل ذلك بسهولة..

أليس هذا هو حقها؟ أليست هي والدتها من أعانت والدها على بناء تلك الشركة مجدداً بعدما أخذت وفاء والدة بدر الدين كل شيء؟ هذا حقها هي وأولادها، نعم حقها، شاهندة لا تكترث، زياد سعيد للغاية بإدارته فروع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ماذا عنها هي وأولادها؟ أسيظل بدر الدين وبعده ابنه يتحكمون بحقها؟ إلي متى؟ أيظنون أنهم محور هذا الكون بأكمله أم ماذا؟

لا، لن تتركهم ليتمادوا، لن تفعلها، لن تترك لهم الفرصة بإستمرارهم في استقطاب زينة وإياد نحوهم بهذه السهولة.. سيرى الجميع من هي هديل، وحقها ذلك لابد وأن يعود لها مرة أخرى..

 

--

وقف شارداً في ذلك الهواء البارد بشرفة غرفته مرتدياً احدى القمصان البيضاء دون إغلاق أياً من أزرارها وصدره يعلو ويهبط بإنتظام وبالرغم من أن عيناه مفتوحتان إلا أنه لا يرى سواها أمام عيناه، لا يرى سوى تلك الأعين الزرقاء وهي تنظر له تارة بغضب وتارة بإمتنان وأخرى بحزن ومنذ قليل بسعادة وتردد..  يُعيد بمخيلته كل ثانية مرت عليه بصحبة زينة منذ أن عادت حتى منذ نصف ساعة ماضية، تذكر كل ابتسامة ارتسمت على شفاهها، كل نظرة من زرقاواتيها.. تصرفاتها وتحركاتها.. كل ذكرى مرت عليهما معاً بتلك الأيام المنصرمة.. امتلئ سعادة بالغة وهو يشعر بتحسنها معه، بإقترابه مجدداً مرة ثانية معها.. الليلة تأكد أن زينة التي لطالما وقع بحبها لا زالت موجودة بمكان ما..

كم يتمنى لو فقط يستطيع أن يعدو ذاهباً لغرفتها حتى يوقظها وتصبح زوجته الآن.. ود لو ذهب لها وأخبرها كم هو متيماً بعشقها منذ الصغر، يريد أن يصرخ متألماً من عشقها، من تلك المرات التي تهاوت بها دموعها أمامه، يشعر بالوجع كلما مرّ رجل آخر بجانبها، لو فقط ترى تلك النيران وهي تتآكله طوال السنوات الماضية بمجرد أن يُفكر بأن ربما هناك لها أصدقاء رجال وزملاء.. لو تدري كم مرة حسد كل من يحيط بها وهو لا!! 

تنهد موصداً عيناه مطلقاً زفيراً براحة مطلقة، لقد أشتاق إليها، يعلم أنها سافرت فقط منذ أسبوعين ولكن لم يعد يتحمل الإبتعاد عنها أكثر من ذلك.. تذكر معاهدة السلام تلك التي اتفقا عليها منذ اسبوعان لتلين شفتاه بابتسامة ملتاعة لرؤية زرقة البحور بعينيها وهو يعيد تذكر تلك الذكريات التي جمعتهما منذ أن تغيرت طريقتها معه..

قضاؤهم أفضل الأوقات سوياً بالعمل، انتظارها مغادرة الجميع حتى تنظر له بأعين متسعة وهي تخبره بأنها لا تدري كيف تتصرف ببعض الأمور، انصاتها له بعناية وهو يخبرها كيف تتعامل مع المواقف بل والجميع.. يشعر بسعادة طاغية عندما كانا يقضيان الوقت بمفردهما حتى وقت متأخر بالشركة والمواقع لتعرض عليه تفاصيل العمل.. حسناً.. لقد كانت بالنسبة له غير الجميع.. لطالما كانت مميزة بالنسبة له.. لقد كسر بعض القواعد لأجلها، فهي من تناديه دون ألقاب عندما يصبحا بمفردهما.. هي الوحيدة التي يذهب المواقع من أجلها حتى يحظى ببضعة ساعات معها ليتناولا الغذاء أو العشاء سوياً..

لقد أشتاق لتلك اللحظات معها، أشتاق لمزاحها، لصوت تلك القهقهات الرقيقة التي تطرب أذناه، يريد أن يرى تلك الكرزيتان تنفرجا لتكشفا عن أجمل ابتسامة رآها بحياته.. لم يعد يطيق الإنتظار أكثر.. أمسك بهاتفه وعلم جيداً ما توجب عليه فعله..

"ايه يا عم.. صاحي ليه لغاية دلوقتي؟" ناداه بدر الدين عندما لاحظه لا زال بغرفة المكتب بمنزلهما لهذا الوقت

"وحشتني أوي يا بدر.." رفع نظره لوالده ثم همس متنهداً

"جرا ايه يا وحش.. ده يا دوبك لسه مسافرة من أسبوعين.. لا اجمد، ده لسه مش هتيجي غير كمان اسبوعين زيهم" اقترب نحوه بابتسامة عذبة "الحب بهدلة يا اخويا.. فوق بقا عشان لسه عندك هم ما يتلم" 

"هم ايه بس يا ساتر يارب.. ايه اللي حصل تاني؟"عقد سليم حاجباه ناظراً لبدر الدين بإهتمام

"ولا أعرف.. أنت يا أخويا اللي شغلت نفوخك وقعدت تقولي شهاب وراه بلاوي وبتاع واكيد فيه حاجة بينه وبين ميرال.. أنت اللي المفروض تعرفني وصلت لإيه معاها.. ده فات شهر بحاله وأنت محلك سر" هز كتفاه ليومأ له سليم في تفهم

"بصراحة أنا مقبلتهاش غير مرتين تلاتة ودايماً واحد فينا مشغول ومبلحقش اكلمها عن الزفت ده، وأنا كنت بشغل زينة دايماً وبقضي معاها وقتها قبل ما تسافر وما صدقت اقتنعت انها تتعلم الأول قبل اي حاجة.."

"وبعدين يا حنين.. ناوي على ايه؟!" اسند بدر الدين ذقنه على كفه وهو ينظر لإبنه بشماتة ليتآفف سليم من مزاح والده 

"متقلقش.. هاعرف كل حاجة عنه.. بس لما ارجع من السفر"

"سفر!!" تعجب بدر الدين رافعاً حاجباه في دهشة "على فين العزم؟!" 

"أنا رايحلها يا بابا.. مش هاستنى لغاية ما تيجي.. كمان متنساش، زينة عيد ميلادها كمان يومين"

"مممم.. مش قولت الحب بهدلة" تنهد له وهو يخبره في مزاح ليرمقه سليم في ضيق "بس فكرة حلوة.. روحلها ياض وابسطها.. بس إياك ترجع متخانق معاها وبوزك شبرين" غمز له ليبتسم له سليم بعدما تأكد من تأييد والده لقراره 

"عيب عليك يا كبير.. ده أنا ابنك بردو" غمز له هو الآخر

"يا عم اتهد بقا.. ده أمك عرفتها شهرين وهوب اتجوزتها.. ايش جاب لجاب!!" تحدث بغرور 

"ماشي يا عم.. خليك معايا بقا كده والنبي واسمع البرنامج الجاي ده وقولي هتتبسط باللي هاعملهلها ولا لأ.."

"قول يا حنين قول.. اما نشوف اخرة حنيتك دي ايه"

"هاقولك.."


يُتبع..