-->

الفصل الأول - ظلام البدر - دجى الليل




مقدمة..

بعد الكراهية والعناد تجاه بعضهما البعض جمعهما الحب وبدأت في إضاءة ذلك الظلام بداخله..
ولكن ماذا بعد اكتشافها الجزء المظلم منه؟ ماذا بعد اكتشافها ماضيه الذي لا يتقبله هو نفسه؟
ماذا بعد أن احب تلك البريئة وهو لا يريد أن يتلمسها ذلك الماضي المظلم؟
يعلم أنها ستعاني ولكنه لا يستطيع أن يبتعد عنها وتعلم أنها تحبه مهما كان ما يخفيه..

هل سينتصر حبهما أم سيكون الإنتصار للمنطق المطلق في عدم تقبل هذا الظلام؟!


❈-❈-❈


وأصبح يمشي في البساط فما درى..

إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي...

❈-❈-❈

الفصل الأول


مطلع شهر يونيو عام 1999

صف سيارته مثلما تعود كل صباح ووصد عيناه لثوان متذكراً العديد من الذكريات التي جمعتهما معاً ثم ابتسم بمرارة عندما تذكر ضحاكاتها وأسلوبها المرح في الحديث ثم تحولت ملامحه للإنزعاج عندما تذكر ما حدث لها فأطفأ محرك سيارته على عجل وهو يحاول جاهداً أن ينفض تلك الذكريات من مخيلته وهرول لداخل ذلك البيت الضخم وحاول التصرف طبيعياً حتى لا يبادر أحد ويؤلمه مجدداً ما إن رآه حزيناً.

"صباح الخير" تحدث لوالدته بنبرته المقتضبة الجادة التي تبدو خالية من المشاعر تماماً

"صباح الخير يا حبيبي" تحدثت والدته بإبتسامة لطيفة فأقترب منها مقبلاً جبينها "هتفضل كده سايبني ومصمم تعيش لوحدك بردو؟ أنا مش عارفة ايه لازمتها تيجي كل يوم الصبح تفطر معانا وتطلع على الشركة.. ما تخليك هنا وخلاص"

"أمي أرجوكي.. سبيني براحتي"

"ما أنا سايباك براحتك يا بدر بقالي سنين.. امتى بقا هتريحني.. لا عايز يا ابنى تكون جنبنا ولا تعيش حياتك زي أي راجل وتتجـ.."

"تاني؟! مفيش فايدة في الموضوع ده؟" صاح بدر الدين حانقاً بهدوء مقاطعاً اياها كاتماً غضبه بكل ما لديه من قدرة تحكم بالنفس

"تاني وتالت ورابع.. حرام عليك نفسك تفضل عايش كده وحداني، حتى فرحتي بولاد ابني البكري حرمتني منها، هتفضل كده لغاية امتى"

"أنا الموضوع ده مش عايز كلام فيه تاني، و اعتبري اني هفضل كده لغاية ما أموت!! ارتاحي بقا" صاح بصوته الرخيم

"يا حبيبي بص حتى لإخواتك البنات، كل واحدة متجوزة وقاعدة معايا هي وجوزها وأنت قلقني عليك ببعدك ده"

"بردو مش هنخلص، كل يوم نفس الموضوع لما اتخانقت.. ارحميني أرجوكي" أخبرها بملل وحنقة

"فيه ايه يا جماعة صوتكوا عالي كده ليه"

"أنا زهقت"

"عاجبك كده يا شاهي؟! عاجبك اللي أخوكي بيعمله ده؟"

"فيه ايه بس يا ماما؟" تسائلت شاهندة بحسن نية

"فيه إنها مصممة تفكرني بكل حاجة، مصممة على موضوع الجواز تاني، مصممة إني آجي أعيش هنا في البيت.. أريحكوا خالص ومتشوفنيش؟ يكون أحسنلكم كلكم"

"شوفتي يا شاهي؟ عاجبك كلامه ده"

"معلش يا ماما حقك عليا أنا" حاولت تهدئة والدتها "تعالى يا بدر نروح نجيب حمزة يفطر معانا" أمسكت بذراعه ليسير معها متآففاً بينما هزت نجوى رأسها في إنكار على ما يفعلاه.

"خليكي كده مقوياه عليا وأنا كل اللي نفسي فيه إني أشوفه مبسوط وعايش حياة طبيعية"


❈-❈-❈


"مش هنخلص بقا من قرف أخوكي ده كل يوم على الصبح" تحدث صوت ذكوري بإنزعاج لما سمعه لتوه

"معلش يا كريم.. ما أنت عارف أكيد ماما فاتحته في الموضوع بتاع جوازه ده" أجابته زوجته بينما ناولته سترته

"أنا مش فاهم تفكيره، الدنيا خلاص وقفت بعد الست هانم ما ماتت؟ ما يتجوز وخلاص ويريحنا من الخناق بتاع كل يوم الصبح"

"كان بيحبها أوي وأنت عارف كده كويس.. وبعدين يعني لو جرالي حاجة هتتجوز بعدي بسهولة؟" أحاطت عنقه في دلال ليقبل يدها بإبتسامة مقتضبة

"حبيبتي انتي بسبع أرواح.. متخافيش مش هيجرالك حاجة" أنزل يدها بخفة ثم توجه ليقف أمام المرآة

"كده بردو؟ دي كلمة تقولهالي.. ده أنا حتى على وش ولادة"

"ما أحنا من يوم ما اتجوزنا وأنتي على وش ولادة.. كان جرالك ايه يعني؟" ابتسم متهكماً وهو يُكمل ارتداء ملابسه "بقا فيه واحدة في الزمن اللي احنا فيه ده تجيب خمس أطفال؟" صاح ساخراً لتعبس هديل لكلامه

"وفيها ايه يعني.. صحيح النعمة تقيلة.. بص كده على شاهندة وحمزة بقالهم سنين مش عارفين يجيبوا طفل واحد، وبعدين بكرة ولادي دول اللي هيشيلوا كل حاجة معاك.. اديك شايف بدر مش عايز يتجوز بعد مراته ما ماتت، وشاهندة مبتخلفش، وزياد لعبي ومش بتاع التزام.. بكرة كل اللي شايلينه يبقا بتاعنا وولادنا هيساعدوك"

"مش ممكن تفكيرك اللي بتفكريه ده.. متعرفيش بكرة هيحصل ايه" هز رأسه ساخراً

"خليك أنت بس ورا تفكيري وأنت تكسب" صاحت بإنتصار

"طيب يالا يا حبيبتي عشان نلحق طقوس الفطار من الأول" أخبرها متهكماً ليتوجها سوياً للخارج.

❈-❈-❈


"يا بدر ما هي بردو نفسها تفرح بيك وماما كبرت ومبقتش زي الأول"

"ربنا يديها الصحة وطولة العمر.. بس هو مش بالعافية وانتي عارفة ان مستحيل حد يجبرني على حاجة"

"ابقا قولها حاضر ولا طيب ولا سايسها شوية.. مش لازم كل شوية خناقات"

"ما أنا ياما عملت كده.. وهي مبتبطلش تفاتحني في الموضوع ده، وشوية والاقيها تقولي سلم على بنت طنط.. وروح وصل فلانة وشغل الخاطبة ده أنا زهقت من كل اللي بتعمله؛ انا مش صغير ولا مراهق للكلام الفارغ ده"

سكتت شاهندة وهي تنظر بشفقة لأخيها ولا تدري ماذا عليها أن تقول، لطالما تحدثت معه بذلك الأمر ولم تحصل منه على أي أمل في أن يغير وضعه هذا

"طب روق ومتزعلش.. تعالى بس نفطر سوا وكلها نص ساعة وهنمشي.. أنا هحاول أكلمها وأخليها تبطل كلامها ده"

"بتاخديني على قد عقلي.. ماشي يا شاهي"

"ما خلاص بقا" ابتسمت له ثم قبلت وجنه "روق كده بس يا حبيبي دلوقتي.. وليك عليا نتعشى سوا أنا وأنت وحمزة برا النهاردة ويبقا خلصتك من خناقة بليل.. ها ايه رأيك بقا في أختك؟"

"حايليني أوي.."

"اضحك بقا يا رخم"

"ماشي.. يالا بينا" ابتسم لها هاززاً رأسه بإنكار ليتوجها سوياً للجميع.


❈-❈-❈


"يا صباح الفل يا ست الكل، ايه الجمال ده بس كله" صاح حمزة ثم قبّل يد نجوى

"صباح الخير يا حبيبي" ابتسمت له ثم توجه لمقعده بجانب شاهندة

"شايف بيعاملها ازاي" همست هديل لزوجها كريم بصوت يكاد لا يسمع ليبتسم لها الآخر ابتسامة لم تلامس عيناه وشرع الجميع في تناول الطعام

"هو زياد راجع امتى؟" تسائل بدر الدين لتجيبه والدته

"راجع الأسبوع الجاي، ده لسه مكلمني امبارح"

"مينفعش الدلع ده.. لازم يجي وينزل معانا الشغل، هيعتمد امتى ده على نفسه أنا مش عارف" صاح في صرامة

"وفيها ايه.. ماهو نجح السنادي ومـ.."

"يا أمي أنتي عارفة انه بقاله سنتين في سنة تالتة.. يعني نجاحه جي متأخر.. لازم يتشد عليه وكفاية دلع فيه"

"سيبوه براحته" تحدثت هديل "الشغل مش هايروح في حتة.. بكرة هايتعلم" حاولت أن تثني أفكارهم لأنها لا تريد لأي أحد التدخل بطمحوها الذي خططت له

"كلام بدر صح" صاحت شاهندة "لازم زياد يبتدي يعرف كل حاجة يا دودو وكفاياه بقا دلع لغاية كده، أنا مش فاهمة بس طالع لمين كده، وعموماً كلمني بردو امبارح واتفق معايا انه هيجي الشركة وهيبتدي ينزل طول الاجازة كلها"

"وأنت يا كريم شايف ايه؟!" تحدث بدر الدين لتتلاقى أعينهما وهو بالحقيقة لا يريد أن يستمع لرأيه ولكن لطالما شعر بالإنزعاج منه لا يدري لماذا!

"والله أنا مش عايز أتدخل يا جماعة بس هانت، ناقصله سنة وكده كده هينزل معانا وهيعرف كل حاجة.. الموضوع مسألة وقت" هز بدر رأسه متهكماً بينما لم يعجب ذلك كريم وأكمل تناول طعامه دون أن ينظر له حتى لا يظهر إنزعاجه

"طب يالا بقا يا جماعة عشان منتأخرش" صاح حمزة ليغير الموضوع لأن يعرف بدر الدين جيداً

"روحوا أنتو أنا مش قادرة أتحرك.. الحمل تاعبني خالص"

"حبيبتي ربنا يقومك بالسلامة.. معلش هانت كلها شهرين" صاحت والدتها

"والله يا ماما تعبانة جداً وطول الليل امبارح مش عارفة أنام"

"معلش يا دودو.. هو كده الحمل في السابع بيبقا متعب شوية، هانت وإن شاء الله آخر شهرين يعدوا وتقوميلنا بالسلامة" صاحت شاهندة بإبتسامة

"ده متعب جدا يا شاهي.. لما بردو تجربي غير الكلام" صاحت بدلال وتصنع لتبتسم شاهندة في مرارة

"طيب يا جماعة.. اشوفكم بليل.. باي" توجهت للخارج مسرعة ليلاحظ بدر الدين تأثر شاهندة ولحقها بعد أن نظر لهديل في لوم وغضب جم ولحقهم حمزة في صمت هو الآخر

"مكانش ليه لزوم الكلام ده يا هديل"

"الله يا مامي.. أنا عملت ايه طيب.. مكنتش أقصد حاجة" تصنعت البراءة

"لازم لما تيجي تعتذريلها"

"ماشي يا مامي.. معلش بعد اذنك هريح في اوضتي شوية" صاحت بإقتضاب وغادرت مسرعة لتتمتم في خفوت حانقة "عاملالي بس فيها فاهمة كل حاجة وكلامها لازم يتسمع.. حشرية!!"


❈-❈-❈


"يا صباح الخير يا احلى كوكي في الدنيا كلها" صاحت نور وهي تدلف غرفة والدتها حاملة صينية الإفطار

"بردو تعبتي نفسك؟ أنا كده هتعود على الدلع ده كل يوم بقا ولا ايه" أخبرتها والدتها بإبتسامة حنونة

"وفيها ايه يعني ما انتي شايلاني أيام الدراسة، وبعدين اتعودي، كل يوم هاصحى واحضر لكوكي حبيبتي الفطار وبعدين هانزل اروح الشغل" وضعت الصينية أمامها وشرعت في تناول الطعام

"شغل!!" صاحت والدتها بدهشة "وانتي يا بنتي ناقصك ايه عشان تشتغلي، الخير كتير، انتي ناقصك حاجة يا نوري يا حبيبتي ومخبية عليا؟"

"يا ماما دايماً خيرك مكفيني وزيادة، الفكرة ان زياد زميلي اللي شوفتيه معايا كذا مرة أهله عندهم شركات خدمات كبيرة واهي فرصة اتدرب شهور الاجازة عشان بردو ابقى اخدت على جو الشغل واخدت خبرة التدريب"

"طيب يا حبيبتي، أنا بس مش عايزاكي تتبهدلي لكن إذا ده كان كويس لمستقبلك أنا معنديش مشكلة، بس يا نوري لازم تاخدي بالك من نفسك وإذا حسيتي ان الموضوع لعب وهزار متكمليش تدريب ومتخليش حد يحملك جمايل.. أنا فاهمة إن زياد زميلك بس بردو خدي بالك كويس انتي بتعملي ايه" حدثتها والدتها ناصحة اياها بخوف أم فطري

"متقلقيش يا كوكي، وأنا بردو لو حسيت إن الموضوع مالوش لازمة مش هاكمل.. أوعدك يا حبيبتي"

"ربنا يوقفلك يا بنتي ولاد الحلال ويارب اطمن عليكي دايماً وأشوفك في احسن حال.. وبعدين أنتي هتعملي ايه في شركة الخدمات دي وأنتي أصلاً بتدرسي إدارة أعمال؟" تعجبت والدتها

"أنا هحكيلك يا كوكي وهافهمك شغلهم" ابتسمت لها نورسين ثم عانقتها وأكملا تناول فطورهما ولم تلاحظ أياً منهما من يسترق السمع ولم يعجبه ما يسمعه.


❈-❈-❈


"مش كفاية بقا يا بدر؟!" تسائلت شاهندة في ارهاق وملل وهي تدلك مؤخرة عنقها

"يا حبيبتي انتي اللي تاعبة نفسك وأنا قولتلك روحي من بدري"

"برضو؟! يعني مش هاتتعشى معانا؟" صاحت في حزن

"معلش سبيني براحتي"

"ماشي يا سيدي وأنا هاخترع لماما حجة واقولها عندنا عقود بتتجدد وبتتراجع!! عد الجمايل" ابتسم بدرالدين لها ابتسامة لم تقابل عيناه وهو يهُز رأسه في انكار وبعدها خلل شعره الفحمي وأكمل مطالعة ما أمامه متظاهراً بالإنشغال بينما لمت أخته حاجيتها استعداداً للمغادرة "أشوفك بكرة بقا واعمل حسابك انك هتقضي الويك اند معانا.. باي"

"سلام يا حبيبتي" أطلق شهيقاً وهو لا يزال بعد كل تلك السنوات يحاول أن يتعامل مع فرط اهتمام عائلته به ولكن لم يجد حلاً بعد.

وما إن غادرت شاهندة وتركته حتى خلع بدر الدين ربطة عنقه بعد أن طوى اياها بعناية ثم تناول الهاتف ليجري مكالمة هاتفية وما إن انتهى منها حتى نهض ليرتب أشياءه وجمعها استعداداً للمغادرة ولكنه فكر أولاً بأن يحتسي كأساً قبل الشروع في تلك الليلة التي خطط لها منذ اسابيع فهو يريد أن يفعل ذلك الشيء الذي لطالما أزاح الكثير من الضغوط عن رأسه وألهمه بعض السلام النفسي حتى يُكمل ذلك الروتين الذي لازمه منذ سنوات!

❈-❈-❈


توجه زياد خارج ذلك البار بعد أن شعر بالملل وتوجه لأحدى كبائن الهاتف خارجا من ذلك الملهى الليلي ثم اجرى اتصالا هاتفيًا بعد أن وضع بعض العملات بجهاز الهاتف

"آلو" اجبه صوت نسائي بنبرة هادئة

"نور.. وحشتيني"

"وانت أكتر يا زيزو.. أخبار أمريكا على حسك ايه؟" تسائلت متحدثة له في هاتف منزلها

"أنا زهقت أصلاً وهانت أنا راجع السبت وهننزل الشركة سوا يوم لحد"

"ومين سمعك، أنا نفسي أنت أو مريم تكونوا معايا بس الندالة بقا واخدة حدها معاكوا، كل واحد سافر وسابني"

"هي راجعة امتى صحيح؟"

"لا دي بترجع آخر الأجازة.. ما أنا قولتلك أنها دايماً بتقضي كل اجازة مع اهلها في إسكندرية"

"اه صح أنا نسيت.." لاحظ زياد احدى الفتيات ترتدي ثوباً قصيراً عارياً تتوجه لتدلف الملهى الليلي بإبتسامة جلجل صداها امتلئت بالعهر والدلال المزيف ولكن كان جسدها مثيراً للغاية كما أن خصرها المتمايل بتلك الطريقة عبث بعقله كثيراً فلم يكترث سوى لتخيلاته بقضاء الليلة معها

"زياد أنت معايا؟!" صاحت نورسين من الطرف الآخر

"ايه؟! معاكي!!.." اجابها بعد أن فاق من شروده ولكنه لم يتوقف عن النظر لتلك الفتاة حتى غابت عن عينيه "معلش يا نور هكلمك تاني، باي" أنهى المكالمة ثم توجه ليلحق بالفتاة بإبتسامته التي لطالما سحرت الفتيات، فهي آخر ليلة له هنا ولا يريد أن يضيعها من يده دون الاستمتاع قليلاً.

❈-❈-❈


شعر بالنشاط والحيوية مجدداً بعد أن أنهى اجازته الأسبوعية بتلك الطريقة، يعلم أن هذا سيوقعه بالعديد من المشكلات مع عائلته ولكن سيتصنع اللامبالاة مرة أخرى وسيمر الجدال كواحد من تلك الجدلات العديدة معهم.

خرج من حمامه ملتفاً بمنشفة قصيرة وتوجه ليرتدي ملابسه حتى يبدأ نفس الروتين الذي أصبح دوامة لا نهائية بالنسبة له.

نظر في ساعته ثم توجه للخارج مستقلاً سيارته وهو يحاول أن يستجمع تلك لشخصية التي يواجه بها الجميع، الجدية، الصرامة، عدم الإكتراث وأخيراً العديد والعديد من المبررات اللانهائية لعائلته حتى يتركوه وشأنه.

"صباح الخير" صاح دالفاً لغرفة الطعام لتقابله والدته بنظرة مليئة باللوم

"أنت كنت فين جمعة وسبت؟ عارف قلقتني عليك ازاي؟"

"معلش يا أمي كنت بفصل يومين.. حضرتك عارفة إن قرار إننا نوسع الشركة والمشاريع الجديدة واخدة كل وقتي.. معلش، الاجازة الجاية هكون معاكوا"

"كل مرة بتقول كدة وفي الآخر بتفضل بردو لوحدك" صاحت ليتنهد بدر الدين في آسى ثم أوصد عينيه ليحاول السيطرة على غضبه "هتفضل لحد امتى كـ.."

"بدر!! وحشتني يا كبير" تكلم زياد ليقاطع حديثهما ثم توجه نحوه ليعانقه

"حمد الله على السلامة! أخيراً رجعت ونويت تنزل الشركة"

"شوف هابهرك!! هاخد الموظف المثالي.."

"اما نشوف!"

"بس سيبك أنت السفرية دي كانت محتجاك.. شوية بنات إنما ايه!!"

"أنت يا ولد!! ازاي تتكلم كده قدامي وقدام أخوك الكبير؟!" صاحت والدته زاجرة ايه

"معلش يا نوجا.. سيبيني أعبر عن اللي جوايا" هز بدر الدين رأسه في انكار

"صباح الخير" صاحت شاهندة بإبتسامتها مثلما تفعل كل صباح وتبعها حمزة زوجها "حمد الله على السلامة يا زيزو.. مصحتنيش ليه لما جيت امبارح"

"قولت اسيبك نايمة وبلاش اقلقك" عانقها ثم عانق زوجها وبعدها توجه للمائدة "يالا بقا لحسن ميت من الجوع والنهاردة أول يوم شغل ليا ولزم أتغذى كويس، ولا عايزين البنات اللي عندنا يقولوا عليا مش حلو؟" ضحكت شاهندة ولم يعجب بدر الدين ما يفعله زياد كالعادة

"اتكلم كويس يا زياد ده مش اسلوب" تدخلت والدته بنبرة محذرة

"آسف يا نوجا.."

"خلاص هتيجي معانا النهاردة؟"

"طبعاً.. أنا وعدتك"

"حمد الله على سلامتك يا زياد.. هتروح فين كده؟" صاحت هديل التي انضمت لهم

"هبدأ شغل النهاردة.."

"يالا Good luck" أخبرته بإبتسامة مقتضبة فهي بالأساس لا تريد له الإندماج بالعمل

"صباح الخير يا جماعة" تحدث كريم ثم شرع الجميع في تناول الطعام ولم يغادر صباحهم تلك الأحاديث الجانبية وخطط نجوى والدتهم للعشاء اليوم وبالكاد تحمل بدر الدين كل هذا

"يالا أنا يادوبك ألحق أقوم علشان هعدي على بنت زميلتي هتيجي تتدرب النهاردة وهي متعرفش طريق الشركة كويس" صاح زياد وهو يجفف فمه باحدى محارم المائدة

"زميلتك دي ايه دي كمان!!" صاح بدر الدين حانقا

"معلش آسفة يا بدر هو قالي وأنا نسيت أقولك.. عموماً هي هتكون في الإدارة عندي متقلقش" حاولت شاهندة إنقاذ الموقف خوفاً من أن يبدأ غضب بدر الدين باكراً

"طب أنا هاسبقكم" اخبر الجميع بإقتضاب بعد عدم إقتناعه بحجة شاهندة الواهية ولم يعجبه تصرف زياد وعدم الرجوع إليه في أي قرار ثم غادر للخارج.



❈-❈-❈


 

"خدي بالك من نفسك وتطمنيني عليكي أول ما توصلي وتكلميني كل شوية وتعرفيني الناس معاكي أخبارها ايه وبيعاملوكي كويس ولا لأ"

"حاضر يا كوكي، دي المرة المليون اللي بتقوليلي نفس الكلام على فكرة" صاحت على عجلة من امرها حتى لا تتأخر بيومها الأول

"يا حبيبتي مش خايفة عليكي؟ مش لازم اطمن على بنتي الوحيدة بردو؟" تعجبت والدتها في حزن فزفرت نورسين في سأم

"حقك عليا.. هكلمك كل لما الاقي فرصة.. وهاديكي رقم المكتب أول ما أعرفه.. أنا بس مش عايزة أتأخر أول يوم" توجهت نحوها وعانقتها وقبلتها "يالا سلام"

"ربنا معاكي يا حبيبتي" ابتسمت لها والدتها "معاكي مفاتيح عربيتك وفلوسك وموبايلك؟"

"ايوة يا حبيبتي متقلقيش.. باي يا كوكي عشان متأخرش" توجهت نورسين للخارج ولازالت أمها تتابعها

"مع السلامة يا حبيبتي وخدي بالك من نفسك ومتتأخريش وأنتي راجعة ومتنسيش تسوقي على مهلك الدنيا مش هتطيـ.." بالكاد اختفى صوت والدتها بعد أن غُلق باب المصعد لتتنفس نورسين أنفاس عميقة وهي بداخلها تشعر بالتوتر من يومها الأول.

توجهت للمرأب لتنطلق بسيارتها البيضاء الصغيرة مسرعة حتى لا تتأخر وبنفس الوقت تتفقد ملامحها وشعرها بالمرآة كلما سمحت الفرصة ورن هاتفها فتفقدته لتجده زياد

"ايه يا زيزو فينك.."

"أنا جايلك اهو في الطريق"

"لا جايلي ايه أنا قربت أوصل أصلاً"

"هو احنا مش كنا متفقين إني هعدي عليكي؟" تعجب زياد متحدثاً لها

"لا ملوش لزوم وأنا أصلاً معايا العربية ومكنتش عايزة أتأخر في أول يوم"

"طيب بقيتي فين دلوقتي؟" سألها حانقاً وهو الذي كان يظن أنهما سيقضيا بعض الوقت سوياً قبل الذهاب للشركة

"خلاص هركن أهو"

"لا أنتي تدخلي الجراج على طول وفهميهم إنك بتشتغلي معايا وأنا قولتلك اركني في الجراج"

"طيب أوكي، مع إني كنت لقيت ركنة خلاص"

"اسمعي بس اللي بقولك عليه وأنا مسافة السكة وهاكون عندك.. أطلعي على شاهندة على طول"

"حاضر.. باي"

"باي" أنهى المكالمة وهو منزعج من تصرفها بينما هي توجهت للمرأب مثلما أخبرها ولكنها توقفت عند البوابة لتضع هاتفها على الكرسي بجانبها ولم تلاحظ أن هناك سيارة مسرعة خلفها وفجأة شعرت بإرتطام سيارتها بسيارة أخرى.

توجهت خارج السيارة على الفور لتلاحظ سيارة أخرى عملاقة غلفها السواد تماماً قد ارتطمت بمؤخرة سيارتها وقد حطمت مصابيح سيارتها وبعضاً من هيكل السيارة الخلفي.

"ايه الغباء ده؟ فيه حد يدخل الجراج بالسرعة دي!!" صاحت في ارتباك ليتوجه بدر الدين خارج سيارته منزعجاً من كلماتها

"أنتي ايه الأسلوب اللي بتتكلمي بيه ده، وبعدين حد يوقف كده في مدخل الجراج؟!" تحدث بهدوء لها لتنظر له في غضب ثم خلعت نظارتها الشمسية لتقع عيناه على أجمل زرقاوتان رآها بحياته

"أنا كنت بشيل الموبـ.." صمتت من تلقاء نفسها ثم عقدت حاجبيها "وبعدين أنت اللي غلطان!!" صاحت به وصر هو أسنانه في غضب

"أنتي في إدارة ايه؟!" تحدث كاتما غضبه ولم تفترق أسنانه بينما لاحظت هي مدى عجرفته الشديدة

"مالكش دعوة، وبعدين أنا هاعمل إيه في العربية دي دلوقتي؟" ابتسم بإقتضاب ثم وضع يداه بجيوبه ولأول مرة تلاحظ كم هو طويلاً للغاية بالرغم من أنها تعتبر طويلة بين النساء كما أزعجها ذلك الشموخ العجيب به.

"لآخر مرة هسألك أنتي في إدارة ايه؟!" سألها بهدوء مجدداً

"مالكش دعوة واتفضل اتصرفلي في العربية، ولا هو تبهدل للناس عربياتهم وتسيبهم"

"تمام، حركي العربية عشان أدخل الجراج" تعجبت من أسلوبه الغريب وكأنه ليس هو من أفسد سيارتها منذ قليل لترفع حاجباها في دهشة

"مش هاتحرك من هنا غير لما تجيب حد يصلحها" وقفت عاقدة ذراعيها أمامه وبمنتهى العناد الطفولي أصرت على موقفها ليومأ هو لها ثم توجه نحو سيارتها دالفاً اياها "ايه ده أنت بتعمل ايه؟" صاحت سائلة وهي تتابعه بينما هو ادار محرك سيارتها دالفاً للمرأب ليزداد غضبها ثم هرولت خلفه ولكن لم تلحقه وبينما هي تسير في نفس الإتجاه الذي ذهب به وجدته عائداً

"أنت ازاي تسوق عربيتي من غير ما تستأذن؟!" صرخت به وهي في قمة غضبها ولكنه لم يجيبها "هات المفتاح لو سمحت!!" حدثته وملامحها تعتريها مشاعر مضطربة بينما لم يعيرها أي اهتمام وتوجه لسيارته وهي بالكاد تلاحق خطواته وهي ترتدي ذلك الكعب الذي أعاق من خطواتها "أنت مش سامعني وأنا بكلمك؟!" صرخت به ومجدداً لم يلق لها بالاً وكأنها شفافة كالهواء.

توجه دالفاً سيارته بينما هي تمنت لو هشمت رأسه بطريقته المتعجرفة تلك ومظهره المزعج للغاية ولكنها لن تستسلم!!

وقفت أمام سيارته حتى لا يستطيع المرور فسيكون عليه الإرتطام بها ولم تتوقع أنه قد يفعلها ولكنها وجدته يتوجه نحوها بسرعة وكأنها ليست موجودة على الإطلاق.

لم تصدق ما أوشك على فعله، يبدو وكأنه لن يتراجع عن الإتجاه نحوها، هو يمزح، بالطبع يمزح، لربما يريد إخافتها لا أكثر، لن تتحرك، لن تسمح له بأن يفعلها، ستجبره على التوقف رغماً عن أنفه المتعجرف ولكنها لم تعلم من هو بدر الدين الخولي بعد!

ظلت واقفة مكانها وهو يتجه نحوها مسرعاً ولم يتوقف بينما هي ازدادت وتيرة تنفسها وقلقها بل ولأول مرة تشعر بالخوف الشديد مثل الآن وبالفعل بات هناك أقل من متراً واحداً بينها وبين سيارته وكاد أن يرتطم بها ولكنها في لمح البصر صرخت لتجد من يزيح جسدها عن الطريق.

"نور انتي كويسة؟!" صاح زياد في لهفة الذي تعجب منذ قليل لماذا السيارات متجمعة أمام المرأب في هذا الشكل ولا تتحرك أياً منها "أنتي ايه اللي كان موقفك كده؟!" صاح زياد مرة أخرى بها ولكنها من الصدمة التي تعرضت لها للتو لم تجيبه وظلت صامته بينما أخذت السيارات في التتابع متوالية دخل المرأب وازداد قلق زياد "نورسين ردي عليا ايه اللي حصل عشان توقفي كده؟!"

"مش .. عارفـة.. واحد كان هنا وخبطني.." بالكاد نطقت بعض الحروف ولكن قاطعهما بدرالدين

"قولتيلي بقا في إدارة ايه؟!" صاح بدر الدين صارراً أسنانه

"أهو هو ده الغبي اللي خبطلي العربية.. وكان ناوي كمان يخبطني بالعربية لولا أنت لحقتني" أخبرته في اندهاش مصحوب بالمفاجأة ثم عاد لها انفعالها مرة أخرى بينما تفقده زياد ليجده بدر الدين أخيه ولن ينكر أنه شعر بالقلق مما أطلقته عليه فهو لن يتهاون معها بالتأكيد!

"أنتي قولتي ايه دلوقتي؟!" تحدث بمنتهى الهدوء عاقداً كلتا يداه لقبضتان

" خلاص يا بدر معلش هي مكانتش تعرف أنـ..."

"اسكت خالص يا زياد وخليك برا الموضوع ده" قاطعه خالعاً نظارته الشمسية لينظر لزياد بغضب ثم سلط نظرته الثاقبة عليها

"معلش يا بدر ديه نورسين زميلتي اللـ.."

"مش قولتلك تسكت؟!" قاطعه هذه المرة دون أن ينظر له وظل ناظراً لنورسين التي ابتلعت وجلاً من مظهره الذي طغى عليه غضبه الآن ولم يستطع السيطرة على نفسه نهائياً "لآخر مرة هسألك انتي إدارة ايه؟!"

"أنا.. أنا.." تلعثمت قليلا من تأثيره المُهيب عليها وتلك الهالة التي قد تُصيب أيا من كان بالإرتباك ولكنها استجمعت شجاعتها لتُكمل "أنت اللي خبطني وبعدين.. أنا.. أنا معرفش أنا إدارة ايه" أكملت حديثها بصعوبة بعد أن سيطر التوتر عليها

"طيب! تستاهلي بقا اللي هيجرالك" ابتسم بإقتضاب مستفزاً اياها ثم ارتدى نظارته مرة أخرى وتركهما متوجهاً للمصعد وكأن شيئاً لم يكن.

"زياد مين بدر ده اللي فاكر نفسه ملك الكون؟!" سألته في انزعاج لتراه يبتلع قبل أن يجيب.

"ده بدر الدين الخولي.. أخويا الكبير.. والكل هنا بيعامله إنه هو الوحيد صاحب الشركة!" اجابها لينفرغ فمها مما سمعته وغرقت في صمتها دون أن تدري ماذا تفعل.

يُتبع..