-->

الفصل الثاني - ظلام البدر - دجى الليل





الفصل الثاني

"يعني اللي شوفته ده كان..؟؟!" توقفت عن الكلام من تلقاء نفسها ليهُز زياد رأسه بموافقة على ما فهمه من ملامح الصدمة الواضحة على وجهها عند إدراكها بمن يكون ذلك الرجل الذي تشاجرت معه للتو "بس برضو هو.. هو يعني.. محدش بيسوق بالسرعة دي وهو داخل جراج.. هو غلط!!"

"خلاص يا نور وأنا هاخلي شاهندة تكلمه والموضوع هيعدي على خير"

"بس هو غلطان!" صاحت بإنفعال طفولي بملامحها البريئة

"محدش يقدر يطلع بدر أخويا غلطان أبداً!"

"طب هتشوف!! أنا بقى هاوريه.. أنا هاثبتله إنه غلطان وهاتكلم معاه" أخبرته بتحفز وإصرار ببراءة وطفولية وقررت داخلها بأن تذهب وتطيح بكتلة الكبرياء والشموخ تلك التي رآتها منذ قليل بالرغم من التوتر والإرتباك الذي اندلع بسائر حواسها عندما رآته

"يا ستي ده بدر.. متحطيهوش في دماغك عشان محدش هيقدر عليه"

"طب أنا هاوريك!!"

"ممم.. Good luck with that! بس اوعي لا تزعلي أنتي"

"هو فاكر نفسه ايه يعني" زفرت بحنق مما أدى لنفخ وجنتيها في طفولة

"سيبك منه، هنقضي اليوم كله كلام عن بدر ولا ايه.. وعلى فكرة شكلك زي القمر النهاردة.. غير ما بتبقي في الجامعة خالص" ابتسمت له بإقتضاب لمجاملته ثم تذكرت أنه ذلك المتعجرف معه مفاتيح سيارتها ولا تملك أياً من أشياءها كما تذكرت أن عليها مهاتفة والدتها وإلا ستشعر بقلق عليها لا نهائي.

"أنا عايزة مفاتيحي اللي معاه، هو مكتبه فين؟!" رمقته بزرقاويتين متسعتين في استفسار

"لا انسي انك تيجي جنبه النهاردة ويُستحسن طول ما انتي بتدربي هنا متجيش جنبه، كفاية انك قولتي عليه غبي وسمعها بودانه، حاولي تتحاشيه على قد ما تقدري"

"أنا مش فاهمة يعني بدر ده ايه، ملك الكون وأنا مش واخدة بالي؟!"

"هو شخصيته غريبة.. أحسنلنا نفتكره ملك الكون ونبعد عن طريقه" نفخت وجنتاها في براءة وهي تشعر بالغيظ من كل ما حدث

"سيبك منه وتعالي يالا نطلع زمان شاهي جت وهي هتحل كل حاجة، وخديها نصيحة مني لو عايزة تتقي شر بدر صاحبي شاهي، هي الوحيدة اللي بتقدر عليه، وكمان هتتدربي في الإدارة اللي ماسكاها وكده كده هي لذيذة وطيبة اوي وهتحبيها، انسي بقا اللي حصل ويالا بلاش زعل في اول يوم" ابتسم لها تلك الإبتسامة الساحرة التي تؤثر على جميع الفتيات عدا هي!

"يالا بينا"

❈-❈-❈


"خلاص بقا يا بدر اعتبرها عيلة وغلطت، دي من دور أخوك الصغير" تحدثت له شاهندة بينما لم يعيرها هو اي اهتمام يُذكر وتظاهر بالإنشغال أمام حاسوبه بينما بداخله يحترق غيظاً من تلك الفتاة "طب حقك عليا أنا واديني المفتاح عشان فعلاً كل حاجتها في العربية ومحتاجاها"

"تيجي تعتذر على اللي عملته وأنا اديها المفاتيح" أخبرها بعد أن نظر لها نظرته تلك التي لا تحتمل النقاش وقد عرفتها شاهندة جيداً

"أنت مكبر المواضيع كده ليه، كان ايه يعني اللي حصل لكل ده" زفرت في سأم لينظر لها بإنتصار

"هو ده اللي عندي! وسيبيني بقا عشان محتاج أخلص اللي ورايا، مبقاش ورانا حاجة من الصبح غير عيلة صغيرة جاية تتدرب وهتقرفنا بقا!"

"يا ساتر عليك يا بدر لما بتعند!"

"روحي على شغلك.. ومتنسيش النهاردة فيه اجتماع أنا وأنتي وكريم وحمزة عشان فيه لخبطة كده مش عجباني!" أخبرها وهو يوجهها دافعاً اياها نحو الباب وما إن أغلقه حتى هز رأسه في إنكار "زفتة اللي قفلتلي اليوم دي!"

توجهت شاهندة لمكتبها ثم عادت وملامح وجهها لا تدل على الخير أبداً لتلاحظها نورسين وكذلك لاحظها زياد الذي أدرك أنها لم تنتصر بحربها التي خاضتها للتو مع اخيه

"مداكيش المفاتيح؟!" سألتها نورسين لتومأ لها بالإنكار

"عايزك تعتذريله" أخبرتها في قلة حيلة

"مكتبه فين يا شاهي لو سمحتي؟!" سألتها في تحفز عاقدة ذراعيها

"آخر دور" اجابتها ليصيح زياد مندهشاً

"أنتي فعلاً هتعتذريله؟!"

"اعتذرله.. مش عارفة.. أنا هاتكلم معاه وخلاص علشان اخد المفاتيح" أجابته بتلعثم وتوجهت للخارج على الفور

"مجنونة!!" صاح زياد

"أنا مش عارفة هو مكبر المواضيع كده ليه وهو موضوع تافه وصغير"

"أنا لولا إن بدر أخويا كنت كسرتله عضمه على اللي بيعمله معاها ده"

"لا والله!! ده ايه بقا ده إن شاء الله؟! بتحبها وبتغير عليها ولا ايه؟!" اندهشت متعجبة لتجد زياد يحك مؤخرة رأسه تلقائياً وابتسم لها

"بصي يا شاهي، مش حب، بس حاسس إن دي الوحيدة اللي أقدر أتجوزها وأنا مطمن"

"جواز!!!" صاحت في إندهاش رافعة حاجبيها

"عارف إني لازم أخلص الجامعة الأول بس.."

"بس ايه، اللي يشوفك دلوقتي ميشوفكش الصبح وأنت بتتكلم على البنات" قاطعته شاهندة "اعقل يا زياد وأعرف كويس أنت عايز ايه بالظبط وأوعى تظلم بنات الناس معاك" تنهد زياد ناظراً لها في حيرة

"أنا عايزها.."

"أنت فاتحتها في حاجة؟!"

"لأ!"

"طيب اهدى كده واعقل وشوف هي كمان عايزة ايه ومتستعجلش على حاجة"

"اما نشوف" أخبرها باقتضاب شارداً بينما هي توجهت لتجلس على مكتبها وتبدأ في العمل.

❈-❈-❈


ازدردت وهي لا تدري ما الذي يؤخرها عن أن تطرق باب مكتبه وتدخل حتى تتحدث معه وتحصل على مفتاح سيارتها منه، أخذت نفساً عميقاً ثم طرقت الباب ولم تنتظر رداً وولجت مكتبه وهي تتشبث بكل ذرة ثقة بداخلها.

لم تصدق تلك الفخامة التي يصرخ بها مكتبه الذي يبدو عصرياً لغاية، هي بالأصل لم تتوقف عن الإندهاش بمستوى الشركة ككل ولكن مكتبه كان شيئاً آخر.

حائطان بأكملهما زجاج، يرى مكتبه ذلك المنظر الخلاب الذي يتوسطه بحيرة صناعية وحولها مساحات خضراء شاسعة، حائط بأكمله خلف مقعده امتلئ بكتب شتى لا تظن أنه أنهاها قراءة، بينما خشب الأرض الرمادي وذلك الأثاث الأسود العصري المطعم بالإكسسوارات الفضية كان غاية في الأناقة.

نست ما آتت من أجله وهي تطلع تفاصيل مكتبه الضخم وزرقاوتاها تجوبان المكان بأكمله ولم يخرجها من شرودها غير صوته الذي آتى لتشعر وكأنما صعقة أصابتها

"لا كله هيوقف لغاية ما اجتماع بليل ده يخلص، بكرة هبقى اشوف، طيب سلام!" ابتلعت مجدداً ما إن أدركت أنه ينهي مكالمته وعليها أن تفاتحه بالحديث

"لو سمحت عايزة مفاتيحي" تحدثت إليه وهي تحاول ألا تنظر له مباشرة فهي لم تنسى تلك النظرة الغريبة الثاقبة التي تخللت روحها صباح اليوم ولكنه لم يجيبها وتظاهر بالإنشغال لتذهب هي بالقرب من مكتبه ووقفت أمامه "لو سمحت المفاتيح!" همست بنبرة مرتبكة لتجده يرفع رأسه وينظر لها بتلك العينان الثاقبتان لتبتلع مجدداً في توتر ثم أخفضت رأسها ناظرة للأرض

"لما تتكلمي معايا تتكلمي بأدب!" أخبرها بهدوء لترفع هي حاجباها في إندهاش ثم نظرت له مباشرة

"لا مسمحلكش لوسمحت.. أنا بتكلم بأدب دايما، لو سمحت المفاتيح بعد اذنك" ارتفع صوتها دون شعورها بتلقائية تامة

"نبرة صوتك توطى وأنتي بتكلميني بدل ما أعلمك الأدب من أول وجديد" تحدث بهدوء مرة أخرى لتنفعل هي من تلك الكلمات الموجهة إليها

"لا لو سمحت!! أنا مغلطتش فيك من الصبح وأنـ.."

"كدابة!" قاطعها بصوته الرخيم لتتسع تلك الزرقاوتان التي لم يرى مثلهما بحياته من قبل وظل محدقاً بعينيها بنظرته التي يعلم أنها تبعث الخوف في نفوس من أمامه لتتوسع مقلتيها وحلقا حاجباها في دهشة

"أنت ازاي تقولي كده وفاكر نفسـ.."

"الصبح قولتي ايه؟!" في لمح البصر توجه نحوها مقاطعاً اياها لتجده هي واقفاً أمامها مُجبراً رأسها على النظر للأعلى لفارق الطول بينهما

"قولت إنك غلطت، لأنك فعلاً غلطان" صاحت بإنفعال لا تعلم من أين واتتها الجرأة على ما تفعل

"وايه كمان؟" ظل ناظراً لها واقترب منها خطوة لتغضب هي منه ولكنها بنفس الوقت شعرت بالتوتر

"أنك.. كنت بتسوق بسرعة وغلطان وهتتصرفلي في العربية" تحدثت في غضب مصحوب بالإرتباك ليقترب منها أكثر

"ولما كنتي بتكلمي زياد قولتيله ايه عليا؟"أقترب هو منها ثانية لتشعر هي بتوترها يزداد وازدادت وتيرة أنفاسها

"قولتله إنك خبطني" اجابته بتلقائية بينما لاحظت أقترابه منها مجدداً لتبدأ هي في أخذ خطوات للخلف

"انتي قولتي ايه بالحرف؟.. عيدي تاني عشان عايز أسمعك كويس" ظل يقترب منها بينما هي حاولت التذكر وبمنتهى التلقائية تذكرت واجابته

"قولتله إنك الغبي اللي خبطتني وده فعلا لأنك غـ.." توقفت من تلقاء نفسها وازدردت ريقها في توتر وخوف من ملامحه عندما تأكدت الآن أنها أخطأت بحقه ولكن عيناه الثاقبتان لم يجعلا الأمر عليها هيناً، وكأنما هناك شيئاً بنظرته تلك تتغلغل بداخلها مسببة عاصفة ضارية فابتعدت للخلف عله يتوقف وأعادت نظرها للأرض ولكن هذا ليس ما خطط له هو، يريد أن يكتشف ما بتلك الزرقاوتان العجيبتان.

"اعتذري حالاً!" آمرها بين أسنانه المتلاحمة

"أنت غلطت!" همست هي في وجل من ملامحه ليتوجه هو نحوها أكثر لتستمر في أخذ خطوات للخلف حتى شعرت بإرتطام ظهرها بإحدى الحوائط الزجاجية وكادت أن تسقط لتجده بتلقائية يمسك بخصرها خشية من أن تسقط وهنا تلاقت أعينهما وكأنما توقف الزمن للحظات، لم يرى مثل تلك الأعين، كم كره تلك الخصلة التي سقطت لتعكر صفو استمتاعه بالنظر لتلك الزرقة وتخفيها خلفها، ولكنها هي سرعان ما لاحظت ذلك الوضع الغريب الذي جمعها معه وفي ثوانٍ استعادت توازنها حتى جذبت يده بعيداً عن جسدها

"اعتذري!!" آمرها بصوته الرخيم الخافت لتومأ له بالإنكار

"لأ أنت اللي كنت سايق بسرعة وخبـ.."

"مش هكررها تاني" نظر لها نظرة محذرة مقاطعاً اياها وهو لا يزال يسيطر على أعصابه

"لأ مش هعتذر أنا معملتش حاجة وأنت كمان غلطت وهتجيب المفاتيح وابعد عنـ.."

"اعتذري!!" صاح بها صارخا والغضب يتطاير من عينيه بعد أن أمسك بكلا ذراعيها بقوة لتتلاحق أنفاسها في توتر وهي لأول مرة تواجه مثل هذه الشخصية.

"أنا آسفة" صاحت مسرعة وتمنت لو تتخلص من منظره المهيب هذا أمامها بأي طريقة حتى لو بالإعتذار له.

ابتسم نصف ابتسامة ونظر لها بإنتصار بعدما حقق مبتغاه ولكن هناك شيئاً بها أجبره على أن يكون قريباً منها فلم يبتعد واكتفى بإرخاء قبضتاه قليلاً بينما هي نظرت للأرض لتتحاشى تلك العينان الثاقبتان.

"اياكي تنسي أنا مين وممكن أعمل فيكي ايه، بدر الدين الخولي تتعاملي معاه بأدب وتاخدي بالك كويس بتتكلمي معاه ازاي!! أنتي عيلة صغيرة جاية تتدرب شهرين وهتمشي اخر الاجازة، فاكرة نفسك هتغلطيني في مكتبي وشركتي اللي أنتي جاية تتدربي فيهم، نصيحتي ليكي إنك تمشي على الصراط المستقيم وأحسنلك متشوفيش قلبتي عشان هيكون يوم أسود على دماغك يوم ما تفكري توقفي قدامي، أنا ممكن أنسفك في ثواني!! فاهمة ولا أعيد تاني؟!" عاد لهدوءه مرة أخرى بينما هي تعجبت لكل ما أخبرها به فهي لم تكن تتوقع كل تلك الكلمات اللاذعة منه

"لا وعلى ايه، مش عايزة تدريب ولا حاجة و.. ويعني شركتك ومكتبك وكل ده اشبع بيهم، وأنت.. أنت كمان تتعامل معايا بأدب، ملكش أي حق تلمسني كده بعد اذنك، حاسب لو سمحت.." صاحت به في انفعال بينما تلعثمت مرة أخرى ولكن هنا نظرت له ولم تفترق زرقاوتاها عن عيناه السودواتان المزعجتان ودفعته بعيداً بكلتا يداها ولكنه لم يتحرك ولو مقدار أنملة

"أشبع بيهم!!" رفع احدى حاجباه مكررا كلماتها

"لو سمحت ابعد عني وهات مفاتيحي وأنا هامشي من هنا ومش هاتشوفني تاني أبداً" تحدثت في وهن وقلة حيلة بعد أن فكرت بأن ذلك هو الحل الوحيد حتى تتخلص من وجودها معه.

"فاكراني عيل هتضحكي عليه زي زياد، مش كده؟!" نظر لها تلك النظرة الثاقبة مجددا لتشعر وكأن الموت أهون لها من أن تتحمل النظر لذلك الرجل أمامها، هي فقط تريد أن تتخلص من ذلك الوضع وتلك النظرات الغريبة "فاكرة أنك زي ما دخلتي في دماغ زياد حركاتك هتخيل عليا أنا كمان، ده بعدك!" عقدت هي حاجبيها لما يقوله

"ابعد عني واديني المفاتيح" أخبرته بأنفاس متوترة

"اياكي أشوفك بتهوبي بس جنب الشركة تاني، وزياد ده أحسنلك تنسيه خالص وتشيليه من دماغك" جذبها من احدى ذراعيها ليجبرها على السير وتوجه خارج مكتبه لتلاحظ سكرتيرته الشخصية ذلك وعيناها صرخت بالدهشة ولكن لن تتجرأ على التدخل في الأمر وأكتفت بمتابعتهما بعينيها.

"لو سمحت سبني، أنت ايـ..."

"اخرسي خالص واياكي اسمع حسك" آمرها مقاطعاً اياها لتتعجب هي مما يفعله معها ودلف معها للمصعد الذي ضغط به على الزر المؤدي للمرأب ثم دفعها لترتطم بأحدى جدران المصعد الداخلية وهي لا تدري ما الذي حدث لكل ذلك وكيف له أن يعاملها بتلك الطريقة وندمت أشد الندم أنها آتت هنا، ولكن كلماته تلك لا تستطيع نسيانها بسهولة ولن تدع الفرصة دون أن ترد عليه.

توقف المصعد ليجذبها مجدداً بقسوة وتوجه نحو سيارتها التي قادها بنفسه صباح اليوم ثم ألقى بمفتاح سيارتها أرضاً أمامها لتتعجب لسبب كل ذلك

"اياكي أعرف إنك جيتي هنا تاني" صاح محذراً لتلتقط هي المفتاح من على الأرض ثم واجهته بكل ما أمتلكت من شجاعة

"لعلمك أنا أصلاً مش هاطيق أهوب ناحية الشركة دي، ويكون في علمك أخوك فضل سنة يتحايل عليا عشان آجي أتدرب هنـ.."

"أخرسي.." قاطعها ولم يكترث لبراءة عينيها التي احتجبت خلف غيمة من الدموع "حركاتك دي مش هاتدخل عليا.. غوري في داهية من هنا واياكي أشوف وشك تاني" ترقرقت زرقاوتاها بالدموع لتنساب على كلا وجنتاها دون تريث

"أنت شخصية مش كويسة وإنسان قليل الذوق وقليل الأدب علشان تعاملني كده!! وأنا مبعملش حركات، وأشبع بشركتك كلها، وابقا أسأل أخوك بنفسك، ده يعني لو كنت تعرف حاجة عنه" ألقت بتلك الكلمات التي لا تعلم من أين آتت ودلفت بسيارتها وتوجهت مسرعة للخارج.

❈-❈-❈


خلل شعره الفحمي وهو يتذكر تلك الزرقاوتان وكأنه لا يزال يلمح تلك الزرقة الجلية حوله بكل مكان، تلك المقلتان المليئتان بالدموع، تلك اللحظة التي انسلتت دموعها لترسم شلالات على كلتا وجنتاها، يعرف جيدا أنه لم يشعر بالشفقة من قبل على احد ولكن هناك شيئاً ما بداخله يخبره أنه كان قاسياً معها بلا داع!

ابتلع وهو يتذكر وصفها له بتلك الصفات ليعقد حاجباه منزعجاً فلم يخبره أحد بهذا من قبل، ولكن آتت هي في دقائق قليلة لتتجرأ وتفعلها دون خوف أو تردد.

ولكن هذا هو بدر الدين، لا يزال دائما وأبدا بداخله ذلك الجزء الذي لن يتوانى عن حماية عائلته، أخيه الصغير الذي ولابد أنها تتحكم بعقله، لربما سحرته بجمالها الذي لن ينكره ولكن لن يتركه ليقع فريسة سهلة لينفذ لها كل ما تتمناه، كما أن شاهندة كانت ولازالت أطيب إمرأة على وجه الأرض وبالطبع لن يتركها لتقع في مكيدة بنت صغيرة لم يتعدى عمرها عشرون عاماً.

قاطع أفكاره تلك الجلبة التي حدثت عندما رأى كلاً من شاهندة وزياد أمامه فنظر لكل منهما بعيناه الثاقبتان وعلم جيداً أنهما آتيا بسبب تلك اللعينة الذي ظن أنه تخلص منها لتوه.

"نورسين فين؟ من ساعتين كانت المفروض معاك، راحت فين يا بدر؟" سألته شاهندة في تحفز وهي لتوها علمت من سكرتيرته الشخصية كيف غادرت مكتبه.

"معرفش! اسألوها.." تصنع عدم المعرفة ليغضب زياد وابتسمت شاهندة في سخرية

"كل الشركة شافتك وانت نازل معاها الجراج، قولتلها ايه عشان تمشي يا بدر؟" نظرت له بأعين متسائلة

"كلموها أسألوها.." اجابها ببرود ليزداد غضب زياد

"مبتردش وبعدين موبايلها اتقفل، أنت أكيد زعلتها؛ قولتلها ايه؟" سأله في انفعال ليرفع بدر حاجباه مندهشاً من ردة فعل أخيه ثم أراح جسده في كرسيه واجاب بمنتهى البرود حتى يرى ما هي دوافع زياد تجاه تلك الفتاة

"تغور في ستين داهية ويجي عشرة بدالها"

"مينفعش كده يا بدر وهي معملتلكش حاجة وكان ده ممكن يحصل مع أي حد غيرها، أكيد أنت قولتلها حاجة خليتها تمشي" تحدث زياد له بعصبية ليرفع بدر الدين احدى حاجباه

"وأنت محموق عليها أوي كده ليه؟ عيلة صغيرة زي دي متعصب علشانها ليه كده؟" ابتسم نصف ابتسامة لم تلامس عينه وتحدث بتعجرف متسائلاً

"لو سمحت متقولش عليها كده، وآه اتحمق عشانها و.."

"محدش يجيب سيرتها قدامي تاني ومش هتعتب باب الشركة برجليها" قاطع أخيه بصوته الرخيم دون أن ينفعل مثله وأعاد نظره لحاسوبه

"بس أنا محتجاها" تحدثت شاهندة ليرفع نظره لها بنظرة فهمتها جيداً "أنا مش بتحداك يا بدر ولا بعاندك، بس البنت شاطرة، هتعرف تتعامل مع كل الموردين، وجايبة امتياز التلت سنين اللي فاتت، وأنت عارف إن الـ Assistant بتاعتي مشيت ومحتجاها معايا"

"لا بقا، ده أنتو زودتوها أوي، أنا مش عايز أسمع سيرتها تاني، وأنا قولت انها مش هتهوب هنا تاني يعني مش هتهوب هنا وابقوا وروني مين هيكسرلي كلمة" صرخ بهما بعد أن شعر وكأنهما يتحدياه

"وأنا بقول انها هتكمل تدريبها هنا، هي مش شركتك لوحدك" هنا تدخل زياد لينظر له بدر الدين في تحدي بينما نظرت له شاهندة في صدمة

"زياد.. عيب اللي أنـ.."

"لا مش عيب" قاطع زياد أخته التي كانت تحاول أن تزجره "العيب إن بدر الدين باشا متحكم في حياتنا، متحكم في كل حاجة بنعملها، بيعمل كل اللي على مزاجه وكأننا كلنا عيال صغيرين، الشركة دي بتاعتنا زي ما هي بتاعته.. وإذا كان زي ما بيقول انه عايزني انزل واعرف الشغل يبقى ليه بيتصرف معايا اني عيل، لأ ده مش معايا بس، مع الكل.. وأنا بقولك يا بدر لو نورسين مرجعتش أنا مش هعتب أنا كمان الشركة دي برجلي أبداً"

صاح منفعلاً ولم يدرك إلي من يتحدث وانصدمت شاهندة من كلامه الذي ألقاه بوجه بدر الدين وكاد أن يغادرولكن أوقفه صوت أخيه الرخيم

"وأنت ليه عاملها خاطر أوي كده؟ تهمك في ايه؟ فيه ايه ما بينكم؟!"

"ايوة عاملها خاطر، وتهمني أوي لأنها في يوم من الأيام هتكون مراتي!" اجابه بإصرار وتحدي بينما أوصدت شاهندة عيناها في خوف مما سيحدث لاحقاً بين كلاً من أخواتها

"لا والله وكبرت ورايح تجيبلنا واحدة لا نعرف أصلها ولا فصلها وعشان ضحكت عليك بكلمتين صدقتها وعاملها قيمة أوي.. لما تبقا راجل وتعرف تتحمل مسئولية وتعرف تحكم على نوايا الناس ابقا تعالى قول دي هتبقا مراتي"

"راجل غصب عنك.. وهو يعني مافيش راجل غيرك، أنت زمان في نفس سني بين يوم وليلة أتجوزت اللي اخترتها ومحدش وقف قدامك، أنت ايه.. هتفضل تتحكم فينا لغاية امتى؟ مفيش كبير غيرك خلاص؟ تعمل كل اللي على مزاجك إنما احنا لأ؟! ولا هو يعني عشان ابونا مات هتبيع وتشتري فينا.. يا أخي أنا قرفت من وجودك في حياتنا، ياريتني ما كان ليا أخ زيك، كان يوم أسود يوم ما دخلت بيتنا، كفايـ.."

قاطعه بدر الدين بصفعة قوية انتهى معها كلامه بينما صُعقت شاهندة لما حدث لتحاول التدخل وكادت أن تتحدث ليشير لها بدر الدين بسبابته محذراً اياها

"امشي اطلع برا وحصلها، مش عايز أشوف وشك تاني" آمره بمنتهى الهدوء لينظر له تلك النظرة الثاقبة وهو يرى وجه أخيه الصغير محتقناً بالدماء وأسنانه كادت أن تتهشم من كثرة صره لها.

"هحصلها، ومش هتشوف وش حد فينا تاني، ومن دلوقتي أنت مالكش أخ اسمه زياد ولا أنا ليا أخ اسمه بدر الدين!"


❈-❈-❈


سمع طرقات على باب مكتبه لتدخل شاهندة وهي تنظر له على حذر وبنفس الوقت فاضت عيناها شفقة عليه وهو لا يكره أكثر من تلك النظرة بحياته فأشاح بنظره عنها بعيداً.

"بدر أنت لسه مـ.."

"لو سمحتي يا شاهندة سبيني لوحدي" أخبرها دون أن ينظر لها لتبتلع هي

"ما أنا سايباك بقالي كتير، وأنت عارف إن اللي حصل ده كان غصب عن زياد، ده عيل صغير و.."

"عيل صغير وغلط وعمره ما هيبقا راجل أبداً بعمايله دي" قاطعها ولا يزال محتفظًا بهدوءه

"أنت بردو كنت ممكن تفهمه وجهة نظرك في البنت بهدوء"

"أفهمه ايه يا شاهي، ده خلاص كبر، أنا مكنتش زيه وأنا في السن ده، ناوي يعقل امتى!"

"بس ارجع وأقولك انت اتسرعت في حكمك على البنت، على فكرة إنسانة طيبة وكويسة وشاطرة وبنت ناس و.."

"أنا مش فارق معايا الزفتة دي.. أنا فارق معايا أخويا اللي مضحوك عليه.. عيلة صغيرة فرحانة بإنها هتتجوز زياد الخولي وطمعانة فيه وكان شكلها باين عليه اوي انها جاية تتمحك فيه" قاطعها مُصرا على وجهة نظره بنورسين

"تتجوزه ازاي بس وهو حتى مقلهاش حاجة ولا فاتحها في الموضوع، لسه بـ.."

"وهي اللي زي دي محتاجة يقولها ولا يفاتحها؟ ده شغل بنات مش تمام وعرفت تلعب عليه كويس اوي، ولعلمك يا شاهندة أنا متأكد بنسبة مليون في المية إنه نزل الشركة الأجازة دي عشان خاطرها هي وبس"

"طيب وفيها ايه لو هي انسانة كويسة وبتشجعه يكون انسان احسن!"

"بتشجعه!!" ابتسم متهكماً مكرراً لما قالته "البنت دي بتلعب على تقيل وطمعانة فيه وبكرة تشوفي.. وعموماً أنا مش هاتكلم في الموضوع ده تاني"

"أنا عارفة إنك مضايق وإن الكلام اللي قاله زياد كان مـ.." نظر لها نظرة مُحذرة لولا أنه أخيها الذي تعرفه لكانت ارتجفت خوفً من ملامحه

"اياكي تكرري كلمة واحدة.. ولو سمحتي سيبيني يا شاهي دلوقتي" أعطاها ظهره ثم أخبرها بتلك الكلمات لتلمس شبحاً من الحزن بنبرته لتتوجه نحوه ثم قبلت كتفه في ود أخوي

"هسيبك عشان تهدى.. بس عارف إني هافضل قلقانة عليك.. حاول تكلمني لما تكون أحسن.. تصبح على خير يا بدر" أخبرته ثم غادرت لأنها تعلم جيداً لن يكون في صالح أحد أن يقترب منه الآن ولطالما كان هذا طبعه يهدأ وحده دائماً.

❈-❈-❈


"نور أنتي فين؟ قافلة موبايلك ليه؟ أنا كنت هموت من القلق عليكي!" تحدث زياد بلهفة

"متقلقش أنا كويسة.. بس بعد اذنك يا زياد أنا مش هكمل التدريب"

"بدر قالك ايه؟" سألها بعد برهة من الصمت وهو يمتلئ غضباً من اخيه ليحصل هو الآخر على صمتها لدرجة أنه ظن أنها أنهت المكالمة "نور أنتي معايا؟" صاح سائلاً لتجيبه

"أنا معاك.. وبدر مقاليش حاجة واداني المفتاح ومشيت، وأنا غلطت فيه بصراحة.. عموماً حصل خير بس معلش انا قراري اني مش هاكمل" كانت تلك هي الكلمات التي ظنت أنها ستنهي الموضوع تماماً

"نور!! أنتي بتخبي عليا اللي قالهولك بدر؟!"

"زياد أنت عارف احنا أصحاب ازاي ولا يمكن أخبي عليك حاجة، بس معلش أنا حسيت إني قلبي أتقبض من ساعة ما دخلت الشركة دي، ويا سيدي أنا زي الفل أهو، وعلى فكرة موبايلي كان مقفول عشان فصل شحن، متقلقش كله تمام!" حاولت أن تطوي تلك اللحظات التي مرت عليها مع ذلك الرجل الغريب وشرعت في تناسيها بالفعل ووجدت أن هذه هي أول خطوة نحو ما تريده.

"طب لو احنا أصحاب وبقولك عشان خاطري تيجي معايا بكرة، هترفضيلي طلبي؟!" سألها بنبرة متوسلة ليسمع تنهدها من الطرف الآخر

"ربنا يسهل، ومعلش هاقفل معاك دلوقتي لأني طالعة البيت.. باي"

❈-❈-❈


"كان ينفع اللي أنت قولتهوله ده؟ مهماً كان ده أخوك الكبير، مكنش ينفع تكلمه بالطريقة دي، نسيت ده مين؟ نسيت وقف جنبنا ازاي بعد ما بابا ما مات ولولاه كانت كل حاجة هتتهد؟ نسيت يا زياد أنك طول عمرك بتبصله على إنه باباك مش أخوك الكبير وبس؟" صاحت شاهندة في انفعال

"يا شاهي أنا منستش بس بردو بدر بيزودها أوي! وأنا مكنتش متوقع أنه يعمل كده مع نور" تنهد في حزن

"أنت لازم تعتذرله بكرة، وأياً كان اللي ممكن يحصل ما بينكم مينفعش تقول لبدر بالذات كده"

"خلاص هعتذرله، بس أنتي كمان ساعديني وحاولي تقنعيه إن نور ترجع، مينفعش أطلع عيل قدامها!"

"أنت كلمتها؟" ضيقت عيناها وهي تنظر له

"ايوة كلمتها والغريب أنها مصممة أن بدر معملش حاجة وأنه اداها المفتاح عادي وسابها تمشي" تعجبت شاهندة لما تسمعه

"مممم.. طب سبلي بدر وأنا هتصرف.. بس أهم حاجة تعتذرله الصبح أول ما يجي"

"خلاص أتفقنا"

تعجبت هديل من ذلك الحديث بين كلاً من شاهندة وزياد ومن نور تلك وما الذي حدث؟ وماذا كانت تقصد شاهندة بتلك الكلمات عن بدر؟ ولماذا يجب على زياد أن يعتذر له؟

أخرجت هاتفها لتتصل بسكرتيرتها الشخصية التي تنقل لها كل ما يحدث ولكنها لم تجب لتبتسم في خبث وتحدث نفسها "يا خبر دلوقتي بفلوس بكرة يبقا ببلاش!"

توجهت لتغادر وهي مصممة بداخلها على أن تعرف كل ما حدث اليوم.

❈-❈-❈



تلاحقت أنفاسه بعد أن هشم كل ما وقعت عليه عيناه بغرفته، وقف ليلتقط أنفاسه ليلاحظ تلك الإبتسامة بالصورة المعلقة أمامه على الحائط لينظر للصورة وامتلئت عيناه بالدموع المكتومة التي تأبى أن تفر منها ليتحدث للصورة بصوته المتحشرج

"وحشتيني أوي، كان نفسي تبقي معايا النهاردة، كان نفسي أفتح الباب وأجري عليكي أحكيلك كل اللي حصل، لسه كل حاجة زي ما هي، لسه محدش قابلني زي ما أنا، لغاية أمتى هفضل كده، أنا فكرت كتير أبعد عنهم بس مبقدرش، ليه كل الناس بتفهم خوفي عليهم غلط إلا انتي، ليه سيبتيني يومها ومشيتي؟ مكنتيش يعني عارفة إني من غيرك مش هاقدر أعيش؟!" سحق أسنانه وهو يبتلع في آلم ثم وصد عيناه يعتصرهما وهو يُفكر في أحداث اليوم بأكمله وأكثر ما آلمه هو كلمات زياد له.

توجه لمكتبه حيث البار الخاص به وسكب كأساً ليتجرعه مسرعاً ثم أمسك بالكوب وأخذ يضغط عليها بقبضته حتى تهشمت وأختلطت شظايا الزجاج بدماءه وآخذ يسترجع العديد من الذكريات المؤلمة مراراً وتكراراً.

❈-❈-❈


للمرة الآلف تقلبت في فراشها وهي تعيد كل ما حدث اليوم، تذكرت كل ما فعله، هيئته التي أزعجتها، ربما وترتها، أهذا لأنها لم ترى رجل مثله من قبل؟ لماذا يبدو مُخيفًا هكذا؟ وكيف لها أن تعود لتلك الشركة وتخسر كرامتها بعد كل ما فعله بها؟ لماذا كل ذلك الكره والتحكم من ذلك الرجل؟ لا يشبه أخيه المرح في أي شيء وكأنهما ليسا بأخوة على الإطلاق، تذكرت كيف كانت كلماته بغيضة لا تطاق وكأنه يكرهها بسبب شيء ما، لا تعرف ما الذي قصده بأنها قد خدعت زياد، وصدت عيناها لتحاول النوم ونفض كل تلك الأفكار بعيدا عن عقلها ولكنها رآت تلك السوداوتان تحدقا بها ففتحت عيناها على الفور وكذلك الضوء بجانب سريرها وهي تتعجب لماذا تتذكر نظراته الآن لتتنهد في سأم وهي لا تعلم ما قرارها بعد لتحاول مجدداً ترك كل هذا للصباح بينما كل ما أرادته فقط هو الحصول على قسط من الراحة..

يُتبع ..