-->

الفصل السادس - ظلام البدر - دجى الليل




الفصل السادس

"نور.. خليكي هنا ومتتحركيش!!" آمرتها خوفاً عليها من رؤية يُسري الآن فقد يحدث مالا يُحمد عقباه.. تنهدت بعد أن اتخذت قرارها بأنها ستفعل كل ما بوسعها حتى تتخلص من ذلك الرجل..

ارتدت وجه الشجاعة خاصتها ثم توجهت للأسفل دون حتى أن تطالب بدر الدين بأن يذهب معها لينظر بدر لنورسين في سخرية بينما قتلتها هي تلك النظرات التي لطالما شعرت بعدها وكأنما روحها أُختُرقت وأقترب منها بينما هي نظرت للأرضية حتى لا تحدق أكثر بعيناه مطأطأة رأسها

"خليكي هنا ومتتحركيش" همس بصوته الرخيم متهكماً مُكرراً كلمات شاهندة "بس بكرة هرميكي عنده بإيديا وارجعك مكان ما جيتي بنفسي" همس لها لتتجمع الدموع بعيناها دون أن تقابله بهما ولكنه كره تلك الدموع التي تستطيع ذرفها بسهولة وتخدع بها الجميع.

توجه خارج الغرفة ليتبع أخته بعدما رمقها بنظرات الحقد والكره، أكانت كراهية؟ أم انزعاج لملامحها الخائفة وبكائها الذي شعر منذ الوهلة لأولى أنها كلما بكت أمامه تصاعدت وتيرة ضربات قلبه.. تريث للحظة حتى يعاود انضباطه وهو ممتلئ غضباً وتسائل بنفسه لماذا يحدث له ذلك كلما رآها؟! ولكنه ذكر نفسه سريعا بأنها نطقت بمنتهى السهولة ما إن تحدث لها بالطريقة الصالحة للتحدث مع النساء اللاتي شابهنها!

"نور مش هتخرج برا البيت ده.. مش هتروح معاك في حتة.. بعد اللي شوفته منك في المستشفى استحالة اخليك تقرب منها!" صاحت شاهندة بنبرة قاطعة ورافضة تماماً بينما سمعها بدر الدين الذي دلف لتوه وأصبح قادراً على رؤيتهما.

"نور دي بنتي وأنا اللي مربيها.. يعني ايه بتمنعيني تكون معـ.."

"متقولش بنتك.. واتفضل امشي اطلع برا" قاطعته بإنفعال

"وأنا هبلغ عنكو وهرفع قضية وهقول إنكوا خاطفينها.. وبكرة تشوفي أنا هاعمل فيكوا ايه، هو إجبار ولا إيه؟" صاح هو الآخر بإنفعال مهدداً ليبتسم بدر الدين متهكماً ثم توجه نحوه ووقف أمامه بطوله الفارع وظل يتفحصه بعيناه الثاقبتان بينما شاهندة كاد قلبها أن يتوقف من كثرة الخوف.. تمنت ألا يحدث شيئاً يجعله يكتشف الحقيقة.

"أنت تحترم نفسك، وأنت بتتكلم جوا البيت ده تتكلم بإحترام ولغاية دلوقتي أنا سايبك ومش عايز اطردك برا، وأعرف كويس إنك حتى لو رفعت قضية مش هتاخد مننا لا حق ولا باطل.." حدثه بهدوء نافى غضبه العارم الذي تملكه منذ دقيقتان ولا يدري هل تدخل من أجل أخته أم من أجل نورسين!

"يا سلام!! ايه الإإفترا ده.. ليه تحرموني من بنتي، بأي حق تاخدوها مني" صاح وهو يزيف كل حرف نطق به

"وأنت بقا واللي عملته معاها كان ايه؟ مكنش افترا.." نظر له بدر الدين يتفحصه وهو يرى حقيقة ذلك الرجل واستطاع أن يتبين كذبه بسهولة، بينما شاهندة شعرت بالرعب وهو كاد أن يقترب من معرفة الحقيقة

"أنتو فهمتوا غلط.. أنا مكنتش بعملها حاجة.. أنا بس كنت بحاول أخـ.."

"أطلع برا بيتي حالاً واياك تهوب من نور أو حد من ولادي" هنا دلفت نجوى بمنتهى التحفز "انصحك تبعد عن عيلة الخولي ونور.. واوعى تهوب من هنا مرة تانية.. زينب.. اندهي الحرس" تنفست شاهندة الصعداء بعد تدخل نجوى فهي الوحيدة من عرفت حقيقة الأمر.

"فاكرين نفسكو ايه.. أنا مش هاسكت على كل ده.. وهاعرف ازاي اخد نور منكم.. بكرة تشوفوا" صاح بينما توقف حارسان خلفه وكادا أن يُمسكوا به بينما صاح "سيبوني أنا هاخرج لوحدي زي ما جيت.. ويكون في علمكم هنتقابل تاني وساعتها هاعرف اخد نور منكم ازاي.."

"خدوه" صاح بدر الدين وهو واقفاً بشموخ واضعاً يداه بجيبي بنطاله بغرور وما ان غادر حتى توجه لشاهندة "عاجبك؟ جيلنا واحد منعرفش هو مين وبيهددنا في بيتنا وكله بسبب زفتة هانم.. يارب تكوني مبسوطة" كادت أخته أن تجيبه ولكن تدخلت نجوى

"بدر لو سمحت.. متكلمهاش بالطريقة دي قدامي.. شاهندة مغلطتش لما حبت تساعد بنت صغيرة، أنا فاهمة وعارفة إنك خايف علينا من اي ناس غريبة.. لكن كده الموضوع زاد عن حده معاك.. ومالكش دعوة بالموضوع ده خالص طول ما أنا عايشة ولسه فيا الروح أنا مسئولة عن البنت دي" أخبرته بحزم لينظر لها بدر الدين بآلم امتزج بغضبه

"أنا مش فاهم.. مش فاهم عملتلكوا ايه كلكوا عشان تدافعوا عنها اوي كده.. اعملوا اللي تعملوه وأنا غلطان" توجه للخارج مغادراً لتهرول شاهندة خلفه لتلحقه

"بدر استنى.. أنا مكنـ.."

"ابعدي عني الساعادي" صاح مقاطعاً اياها وهو بطريقه لتعاود هي ادراجها للداخل بينما أقتربت منها نجوى ونظرت لها ابنتها نظرة امتنان

"متخافيش.. محدش هيعرف حاجة عن اللي حصل في المستشفى.. وطول ما أنا جنبكم محدش هيقدر يأذيكم" عانقتها في حب بينما احتمت شاهندة بذلك الحضن الدافئ ولكن لم تلحظ أياً منهما كريم الذي استمع لكل شيء وابتسم بخبث دفين

"كنت حاسس بردو إن فيه حاجة!! بكرة هاعرف كل حاجة.." همس بخفوت متمتماً ثم وضع يداه بجيباه ومشى يدندن بشيء ما.

❈-❈-❈

"أنا أمي تكلمني كده عشان الزفتة دي؟!" صاح متحدثاً لنفسه "ماشي، أنا هوريكي" صاح ثم بعث برسالة نصية لأحد ما وأخذ يقود كالمجنون تماماً عائداً لمنزله.

ترك سيارته بالباحة الأمامية ثم توجه دالفاً منزله بمنتهى الغضب وهو يخلع سترته ملقياً اياها أرضاً وخلع ربطة عنقه واضعاً اياها بجيب بنطاله الخلفي وتوجه لمكتبه..

أشعل حاسوبه وهو يعيد كل ما توصل له من معلومات على بريده الإلكتروني عن تلك الفتاة وعائلتها.. مستواها المعيشي ليس مثل عائلته ولكنه لا يستطيع أن يقول أنها فقيرة، بينما تلك الشركة التي يملكها يُسري تبدو وكأنها ستُفلس حتماً، فوضعها المادي ليس بجيد نهائياً!! إذن لماذا آتت من اللا شيء لتدخل حياتهم هكذا فجأة.

اخرج احدى سجائره مدخناً اياها وتوجه لبار مكتبه ليسكب بعضاً من الويسكي بكأسه وتجرعه مرة واحدة ولم يتوقف عن التفكير في تلك المحتالة الصغيرة التي تحدثت فجأة هكذا أمامه بمنتهى السهولة وكأنها لم تكن مريضة تحت تأثير صدمة شديدة ليتمتم لنفسه

"هاعرف انتي وراكي ايه بالظبط.. ويوم ما توقعي تحت ايدي مش هارحمك" ابتسم متهكماً توجه لغرفته ومنها إلي ذلك الباب السري الذي لا يعلمه غيره ليهبط درجاً في الظلام الدامس ذلك ثم أشعل الأضواء الخافتة ليرى تلك العاهرة التي أرسل لها برسالة منذ ساعة.

نظر لجسدها العاري وجلستها وانتظارها له المليء بالخضوع ليبتسم وازداد سواد عيناه ثم تحدث بهدوء "كويس إنك متأخرتيش وإلا أنتي عارفة كان هيحصلك له" توسعت ابتسامته ثم توجه نحوها جاذباً اياه من شعرها لتنهض أمامه

"مدي ايدك" آمرها لتفعل فأخرج ربطة عنقه ليقيد يداها ودفعها حتى سقطت أرضاً وبدأ في خلع حزامه الجلدي ثم ثناه على يداه لتبدأ انفاسه في التثاقل وازداد لمعان سودواتاه في ظلام حتى بدا مُرعبا للغاية.

❈-❈-❈


"أنا خايفة.. خايفة أوي يا شاهي.." همست وهي تبكي لتعانقها شاهندة

"متخافيش.. مش هيقدر يهوب ناحيتك" فرقا عناقهما لتنظر لها شاهندة مضيقة عيناها "ايه بقا! كان لازم خناقة مع بدر عشان اسمع صوتك الحلو ده تاني"

"أنا مش عارفة ازاي ده حصل" اجابت في ثوان وهي تتذكر ما حدث لها معه منذ قليل "زي ما يكون لساني نطق لوحده من غيرما اتحكم فيه" ابتلعت ثم عضت على شفتاها "هو ليه دايماً بيكرهني؟ ليه دايماً فاهمني غلط؟!"

"سيبك من بدر، ده مقتنع دايماً بنظرية المؤامرة.. متحطيهوش في دماغك.. بس هو والله طيب جداً" ابتسمت نورسين بإقتضاب على كلمات شاهندة

"اوي.. بالذات وهو عامل فيها ملك الكون!!" صاحت نورسين وبرقت زرقاواتها وهزت رأسها في تهكم لتضحك شاهندة على ملامح وجهها ولم تستطع التوقف عن الضحك

"ملك الـ إيه؟" تحدثت بين ضحكاتها "يالهوي لو سمعك بتقولي عليه كده.." ظلت تضحك لتنفجر فجأة نورسين بالكلام

"مش طبيعي أبداً بوقفته وبصاته دي.. إنتي في إدارة ايه!! اأنا مش بسمح بالتهريج والهزار.. مش في مدرسة احنا.." نهضت لتقف مثله ثم ضيقت عيناها لتبدو مثل عيناه المخيفتان تلك وصاحت وهي تحاول تقليد نبرته الذكورية لتستمر شاهندة في الضحك

"يخرب عقلك.. ده أنتي طلعتي مسخرة" هدأت ضحكاتها وهي تنظر لها في ود بينما نظرت لها نورسين بتلك الأبحر المتسائلة بعيناها

"هو ليه دايماً كده جامد ومبيضحكش ولا يهزر"

"يااه دي قصص طويلة اوي بقا هاحكيلك بس تعالي الأول ناكل حاجة لحسن أنا واقعة من الجوع"

"أوك.."

توجهتا سوياً للمطبخ الذي وجدته نورسين عملاقاً للغاية، وبدا وكأنه احدى مطابخ مسابقات الطهي العالمية من كثرة تلك الأدوات المتواجدة به، بينما ذوق تلك المسطحات والجزيرة الضخمة به والأخشاب التي صنع منها كبائنه كان رفيعاً للغاية.

"ها بقا نفسك تاكلي ايه؟؟ أنا نفسي مش رايحة لغدا النهاردة اللي عملته زينب وعايزة آكل حاجة تانية.. ولعلمك أنا نيلة أساساً ومش بعرف أطبخ بس هحاول عشان خاطرك" أخبرتها شاهندة وهي تتفحص محتوى الثلاجة الضخمة "تاكلي اومليت وجبنة شيدر؟" التفتت لها بأعين متسائلة لتضحك نورسين

"لا بقا موضوع الطبخ ده سيبهولي.. وريني كده فيه ايه" نظرت لها شاهندة في دهشة وأفسحت لها المجال لتبدأ نورسين بالتحرك بحرية وتفقد محتويات المُبرد والثلاجة "بيكاتا فراخ بالمشروم والكريمة ورز بني!!" نظرت لشاهندة في تحفز

"لا ده أنتي الشيف نورسين واحنا مش واخدين بالنا بقا"

"ده أنا بعملها تحفة.. يالا بس ساعديني عشان مش عارفة مكان الحاجة طلعيلي الرز وقوليلي التوابل فين والحلل والطاسات وكده؟" أخبرتها بينما أمسكت بالمشروم بيدها وأخرجت الدجاج من المبرد وآخذتا تعدان الطعام سوياً بإشراف من نورسين وهما تضحكان وتتسامران سوياً

"ايه ده؟!" صاحت نجوى لتلتفتا كلتاهما على صوتها "بتعملوا ايه؟!" تصنعت الجدية

"حضرتك أنا كنت بـ.."

"لا متحاوليش.. كده انتي هتبوظيلي كل حاجة" قاطعتها في صرامة لتتوتر نورسين وهي تنظر لها بإحراج وكادت شاهندة أن تتحدث بينما سبقتها والدتها "الريحة حلوة اوي وهتخننوني بقا!! عاملين بزيادة؟" لمعت عينا نجوى وتوجهت نحوهما ليضحكن ثلاثتهما سوياً وآخذت ترص الأطباق معهما وأخرجت بعض العصير لتضعه على المائدة

"الله.. ايه الريحة الحلوة دي على بليل كده" انضم لهن حمزة الذي آتى بسبب تلك الرائحة الشهية "أنا كده مش هعرف أركز ولا أخلص شغل غير لما آكل من اللي بتعملوه ده"

"حماتك بتحبك يا حبيبي" صاحت شاهندة

"بتموت فيه" أضافت نجوى بينما بدأت نورسين في توزيع الطعام في الأطباق وساعدهن حمزة بسكب العصير في الكؤوس وجلسوا معاً ليتناولوا الطعام.

❈-❈-❈

ازاح حبات العرق التي تدلت على عيناه ثم خلل شعره الفحمي وترك حزامه ليقع أرضاً بجانب حذاءه وهو ينظر لجسد تلك المرأة بعد أن أطلق العنان لكل ما بداخله من كبت عميق ينعكس راسماً تلك اللوحة البديعة كما رآها ثم خلع قميصه ملقياً اياه أرضاً بجانبها وابتسم بتشفي وانتصار ثم تركها وصعد لغرفته مرة أخرى ومنها لحمام الغرفة الملحق بها.

خرج ليرتدي ملابس غير رسمية فاختار قميصاً قطنياً رمادي اللون وبنطال جينز كحلي اللون وحذاء ضخماً أسود من احدى ارقى بيوت الأزياء العالمية وقتها وارتدى ملابسه ثم نثر عطره بمزاج مغايراً تماماً لمزاجه صباح اليوم وتناول مفاتيح احدى سياراته الرياضية وتوجه لمنزل عائلته.

ظل يفكر بهدوء طوال الطريق كيف سيكشف مخطط تلك الفتاة الصغيرة التي تظن أنها ستستطيع أن تخدعه مثلما تفعل مع الجميع ولكن لا.. ليس معه هو.. ليس هو ذلك الرجل الذي ينخدع بتلك الدمعات الزائفة، بل هو من يصنع الدمعات الحقيقية.

ليس هو ذلك المراهق الذي قد تستحوذ على عقله فتاة لمجرد جمالها، بل هو من يحول ملامح الجميلات وإنحناءتهن لفوضى عارمة.
لم يكن يوماً ذلك الرجل الذي يُفرض عليه شيئاً لتأتي تلك الصغيرة وتُفرض عليه وجودها بحياته وحياة عائلته بأكملها.

سيريها من هو حقاً.. إذا كانت لا تزال مصممة على لعبتها السخيفة تلك، حسناً، فليلهو معها قليلاً ولكن ليس بمثل تلك الطريقة التي دخلت بها لحياتهم جميعاً

"أنا هوريكي أنا غبي بقا ازاي" تمتم عندما تذكر ما قالته عند أول يوم رآها وهو يصف سيارته خارج منزل عائلته ثم توجه للداخل ليجد زينب بالبهو

"همَّ فين يا زينب؟"

"مدام هديل نايمة، وأستاذ كريم لسه مرجعش وأستاذ زياد لسه برا والباقي كله في المطبخ" عقد حاجباه في تعجب فهو لم يأتي يوماً ما ليجد عائلته بأكملها في المطبخ "حضرتك محتاج حاجة" اماء لها بالإنكاء لتومأ له هي في احترام بينما توجه حيث الجميع.

"بدر.. وبليل.. عندنا لأ أنا بحلم" صاحت نجوى بإبتسامة ليتسلل لأنفه رائحة الطعام الشهية وتذكر أنه لم يتناول سوى الإفطار

"ابن حلال.. تعالى الحقلك حبة احسن الأكل قرب يخلص" صاحت شاهندة بينما نهضت لتعد له صحناً ثم ناولته اياه ليجلس معهم وهو يتحاشى النظر لنورسين

"شوف الدلع.. خليكي كده دلعي فيه" تحدثت نجوي وهي تتناول الطعام

"مش أخويا حبيبي" صاحت شاهندة بإبتسامة ثم نظرت له ليبادلها بشبح ابتسامة ارتسمت على شفتاه وبدأ في تذوق الطعام الذي لم يتذوق مثله بحياته من قبل

"تسلم ايدك.. الأكل حلو اوي" أخبرها بدر الدين لتتعجب نورسين لإستطاعته أن يتفوه بكلمة جيدة دون غضب أو تفكيراً بمؤامرة ما!!

ظل الجميع يتناولون الطعام ولم تتوقف الأحاديث الجانبية والضحكات بين شاهندة ونورسين ونجوى ليحاول بدر الدين تحاشيها تماماً بالرغم من تحرقه ليعرف ما الذي تتحدثن به.

"ياااه.. تسلم ايدك يا نور.. تعمليلنا أكل كل يوم بقا وسيبكوا من زينب خالص" تحدث حمزة ثم أكمل "خلاص مش قادر اتنفس من كتر الأكل" أخبر الجميع بينما نهض ليضع صحنه بغسالة الأطباق بعد أن فرغ محتوياته ليتوقف بدر الدين عن مضغ الطعام وترك شوكته وابتلع ما في فمه مُحدثا جلبة في عنقه بتحرك تفاحة آدم بها ثم نهض ليغادر.

"ايه يا بدر.. مش هاتكمل؟!" تسائلت شاهندة وهو الذي لم يجلس سوى لدقيقتان فوجه ظهره مغادراً

"لا مش جعان" صاح مجيباً اياها بطريقه للخارج.

❈-❈-❈


"كريم الدمنهوري" مد يده ليصافحه وهو واقفاً على باب شقة كوثر والدة نورسين التي وصل لعنوانها بعد البحث بسجلات موظفين الشركة

"أنت تعرفني؟!" تعجب يسري ولم يبادله المصافحة

"هتعرفني حالاً.. أنا أكون جوز أخت شاهندة الخولي" ابتسم له في خبث وظل منتظراً مصافحته ودعوته للدخول "متقلقش أنا جي أساعدك إنك ترجع نور تاني وتكون معاك" صافحه يُسري بإقتضاب بينما دعاه للداخل

"اتفضل" ولج كريم المنزل لتجوب عيناه هنا وهناك بتفاصيله التي دلت على رُقي ذوق محتوياته

"أنا عارف إنهم رافضين إنها ترجع ليك.. بس لازم تحكيلي ايه اللي حصل عشان أقدر أساعدك.. أنا برضو أب وعارف يعني ايه أب يتحرم من بنته، لكن شاهندة وبدر عمرهم ما هيحسوا بالإحساس ده.." حاول أن يتظاهر بمساعدته اياه ولكن بالحقيقة هو أراد أن يعرف ما الذي حدث بالمشفى

"بدر مين؟" تسائل يُسري

"بدر الدين الخولي.. أخو شاهندة، اللي أنت قابلته النهاردة" اماء له يُسري في تفهم "ايه بقا اللي حصل عشان شاهندة تصمم انها متسيبش نور ترجع معاك؟" تسائل وهو ينظر له مضيقاً عيناه

"منها لله فهمت كل حاجة غلط.. كنت قاعد جنبها على سرير المستشفى و..." ظل يُحيك يُسري كذبة جديدة من نوعها وكم انهارت نورسين عندما ذكر والدتها أمامها، وحاول اقناعه أن كل ما اراده فقط هو احتضانها كابنته بينما تفهمت شاهندة الوضع بطريقة خاطئة تماماً.

❈-❈-❈


"الوقت اخدنا وادينا اهو مش هنلحق ننام ومش هنعرف نصحى للشغل بكرة" أخبرتها شاهندة

"طيب خلاص.. تصبحي على خير" تحدثت نورسين

"وانتي من أهله" قبلت جبينها ثم تركت غرفتها وتوجهت لخاصتها.

توجهت نورسين للشرفة لتستمتع بنسمة الهواء تلك في بداية أشهر الصيف الذي لطالما كرهته وتنهدت وهي تُفكر بكل ما حدث لها مؤخراً.

لولا وجود شاهندة بجانبها وعدم تركها اياها لما كانت لتتحسن أبداً، بل كانت لترى يُسري على حقيقته البشعة الذي هو عليها.

لبرهة تذكرت عدم وجود زياد الذي تعجبت له، ولكنها نفضت هذا الفكر من رأسها، فلماذا عليها أن تتعجب؟ هو دائماً ما يظهر فجأة ويختفي بالأيام فجأة، ولكن نوعاً ما هو السبب في إنقاذها من شر ذلك الكريه الذي أدعى حب والدتها وحبها كأبنته وهو بعيداً كل البعد عن هذا الإدعاء.

تذكرت أيضاً معاملة بدر الدين الجافة لها، كلماته واتهامه الدائم لها، لماذا عليه أن يظن دائماً أنها تخدع الجميع؟!! تعجبت لطريقته الجامدة الخالية من الحياة وكأنه آلة للعمل والغضب ليس إلا، كما أنها تذكرت أنها سألت شاهندة لماذا هو كذلك دائماً ولكن لم يكملا حديثهما!!

"بس اتجنن لما عرف إن أنا اللي عملت الأكل" تمتمت مبتسمة ورفعت احدى حاجباها لتتذكر كيف بدا الليلة فتنهدت وقضمت على شفتاها وغرقت في تذكر صورته التي أختلفت تماماً عن تلك البزات الرسمية وربطات العنق خاصته اللانهائية وكأنما لديه مصنعاً ما لينتج له تلك الربطات.

لقد بدا شاباً بالرغم من تناثر تلك الشعرات البيضاء بمنتصف ذقنه، وجسده بدا رياضياً للغاية بذراعاه القويتان وعنقه العريضة التي ارتجفت عندما شاهدت تفاحة آدم تتحرك بها بتلك الطريقة عندما ابتلع طعامه ليبدو وكأنه صبي بنهاية العشرينات من عمره، أحبت ذلك المظهر كثيراً لتبتسم ثم أدركت ما تُفكر به لتهز رأسها فجأة لتنفض ذلك التفكير بعيداً واعترى ملامحها الإندهاش من تفكيرها ببدر الدين بمثل هذه الطريقة..

تناولت رداءاً طويلاً سماوي فهي لا تشعر بالراحة بالخروج خارج غرفتها بمثل تلك الملابس القصيرة التي ابتاعتها لها شاهندة ثم أحكمت ربطه حول خصرها وتوجهت للمطبخ لتسكب كوباً من اللبن ثم توجهت لحديقة المنزل للإستمتاع بذلك الجو في مثل هذه الساعة.

بدأت في السير وهي تحتسي من كوبها لتتوقف موصدة عيناها أسفل شجرة وأخذت في الإستمتاع بذلك النسيم العليل ليلاحظها بدر الدين من بعيد خلال نافذة المكتب، فأوصد حاسوبه ونهض متوجهاً نحوها دون إدراك منه لما يفعله ثم توقف أمامها بهدوء واضعاً يداه بجيباه وظل ناظراً لها في صمت يتفقد ملامح وجهها لتتناول هي مجدداً من الكوب وترك اللبن آثاره أعلى شفتها كرزية اللون ليضحك هو دون أن يدرك.

فتحت عيناها بصدمة على صوت ضحكته التي توقفت وتحولت لإبتسامة على شفتاه وعندما قابلت زرقاوتاها عيناه السوداوتان وشعرت بقصر قامتها أما طوله الفارع عقدت حاجبيها في دهشة

"أنت بتضحك على ايه؟" حدثته متعجبة ثم مررت ظهر يدها أعلى شفتيها بطفولة

"مالكيش دعوة واحد في بيته وبيضحك براحته"

"هه هه" أصدرت صوتاً لتقلده ليعبس وجهه ويتحول مجدداً للجمود الذي عهدته دائماً وظهرت عقدة حاجباه مرة أخرى

"امشي اطلعي فوق واياكي المحك في مكان أنا فيه.." آمرها بصوت هادئ لتحلق حاجباها في دهشة

"لا بقولك ايه بقا، أنا مش فاهمة انت بتكرهني كده ليه، بس شاهي وماما نجوى موافقين إني أكون في البيت وهاعمل اللي أنا عايزاه ما دام مبضايقش حد"

"ماما نجوى!!" اقتبس كلماتها في تهكم "طب منظرك بيضايقني، شكلك كله على بعضه بينرفزني!! امشي من وشي الساعادي"

"يا سلام!" عقبت على كلماته في تحفز ثم تجرعت باقي كوب اللبن ومسحت فوق شفاهها ليتابعها بدر بعيناه الثاقبتان ليرى تلك الطريقة التي تفرقت بها شفاهها عندما لامستها ليجدها تهبط لتضع الكوب أرضاً ثم عقدت ذراعيها في تحفز

"لما أنت مضايق مني ومتنرفز اوي بص بعيد عني.. متجيش تقف قدامي وتقولي امشي.. محبكتش الحتة اللي أنا فيها" تثاقلت أنفاسها وآخذ ثدييها المكتنزان في الصعود والهبوط بين ذراعيها ليسحق هو أسنانه لكتلة إشتعال الإثارة التي اندلعت به

"لا بقولك ايه.. تعرفي مقامك وأنتـ.."

"رأى الحوووووووب سوووكاااارى.. سوكااااارى زيي أنا" قاطع جدالهما ذلك الصوت لينظرا بنفس اللحظة لمصدره ليرى كلاً منهما زياد يترنح فتوجها نحوه على الفور

"سكااارى .. رأى .. الحوووب زيي أنا تيرا را را، ههههههه" تعالى صوت قهقهاته لينظر له بدر غاضباً بينما رفع زياد رأسه في صعوبة وما إن لاحظ بدر الدين أخيه حتى تمالك نفسه قليلا بين ثمالته

"هشششش" وضع سبابته على شفتاه "بدر أخويا هيتعصب وهيخلي ليلتي سودااا" تحدث هامساً ثم قهقه مجدداً ليدرك كلاهما أنه ثمل بشدة.

أسنده بدر الدين وتوجه معه لغرفته بالأعلى بينما دفعه حتى حمام غرفته ومنها إلى حوض الإستحمام وفتح المياة لتنساب على رأسه وملابسه بعد أن أخرج ما بجيوبه ولكنه وبالرغم من مساعدته اياه غضب منه كثيراً.

غادر بدر الدين للغرفة وهو يسحق أسنانه بعد أن تأكد من استفاقته "بدر.. أنا.. غصب عني.. كنت.." تلعثم ليزداد غضب بدر الدين الذي رمقه بإحتقار ثم ذهب خارجاً.

عاد مرة أُخرى ليُكمل عمله وهو بالكاد يحاول أن يسيطر على غضبه ليرفع عيناه ناظرا من النافذة أمامه ليلاحظ كلاً من كريم ونورسين يتحدثان سوياً..

دقق النظر مرة أخرى ليرى كريم فجأة مد يده لوجه نورسين ثم بنفس اللحظة نظرت نورسين حولها لتلمح بدر الدين الذي كادت أن تُقسم أنها شعرت بعيناه الثاقبتان يتخللاها حتى بالرغم من تلك المسافة بينهما.

سحق أسنانه لذلك المنظر وتجدد ذلك الشك بداخله وازدادت ريبته من تلك الفتاة وظلا ناظران لبعضهما البعض حتى غادرها كريم وابتلعت هي بعد أن شعرت بالتوتر من الموقف فهي حقاً لم تعرف ما الذي أزاله كريم من على وجهها وماذا قال بعدها!

نهض هو يتوجه نحوها بعد أن ترك غرفة المكتب لتحمحم هي وفرت مسرعة بكل ما تمتلك من قوة للأعلى حيث غرفتها حتى لا تواجهه مجدداً.

دلفت غرفتها وهي توصد الباب خلفها وحاولت أن تهدأ من دقات قلبها المسرعة وابتلعت في خوف ووجل لا تدري لماذا، ما بين نظرات بدر الدين لها، وثمالة زياد، وحركة كريم التي لم تستطع تفسيرها تجولت أفكارها وما إن هدأت حتى خلعت رداءها وقررت الإستسلام للنوم..

حاولت الإستلقاء حتى تسقط في النعاس ولكن رغماً عنها تذكرت ضحكته التي رآتها لأول مرة ووجدت شفتاها تبتسم لمجرد تذكره بهذا المظهر لتنفض كل ما حدث من رأسها وتُجبر نفسها على ألا تُفكر في هذا الرجل الفظ الغريب وحاولت النوم..

لقد نامت منذ تلك الضحكة، هي متأكدة أنها فعلت، ولكن لم يلمسها سوى كريم بوجهها، إذن لماذا تشعر بشي ما يمر على ساقها؟؟ حاولت ازاحته ثم استغرقت في النوم مجدداً ولكن شعرت بنفس الشيء مرة أخرى لتنهض جالسة ونظرت لتفاجأ بمن أمامها وكادت أن تصرخ ولكنه وضع يده على فمها مسرعاً.

يُتبع..