-->

الفصل العاشر - ظلام البدر - دجى الليل


الفصل العاشر

سحق أسنانه وهو ينظر بعينيها الزرقاويتين بينما لاحظ كريم توقفها المفاجئ عن الكلام ليترك يدها ثم التفت ليجد بدر الدين يباغته بلكمه موقعاً اياه أرضاً..

"ببدر.. متفهمش غلط.. أنـ.. أنا" تحدث كريم متلعثماً وهو مرتمي بجسده على الأرض

"إخرس واخفى بسرعة وعلله مالقيكش جنب مراتك في المستشفى يا وسخ.. وأنتي بقا! جنيتي على نفسك"

قاطعه بدر الدين ليفر كريم هاربا بسرعة ليجذب بدر الدين يد نورسين وهو في قمة غضبه وتوجه لسيارته ليلقيها بها دافعاً اياها بالكرسي الأمامي ثم توجه لكرسي السائق وانطلق ليقود مُسرعاً بعصبية.

"أرجوك متفهمش غلط ده كريم هو اللـ.." صاحت في خوف ليقاطعها بصفعة قوية لتندهش هي ثم سمعت زئير مكابح سيارته التي أوقفها فجأة

"أنتي واحدة قذرة.. مش عايز اسمعلك صوت.." صاح بها بين أسنانه الملتحمة غضباً لتنظر له هي بزرقاويتين مصدومتان

"فكراني نايم على وداني ولا طيب وغلبان زي أمي وأختي؟ لا يا هانم أنا شايف وساختك من أول يوم، عارف إنك شايفة زياد عيل وصغير ففكرتي توقعي كريم عشان يتجوزك لأنك أصلاً كلبة فلوس.. أنا عارف كل حاجة من بدري وشايفها كويس بس كنت مستني أواجهك، نسيتي اللي حذرتك منه، نسيتي إن بدر الدين الخولي حذرك بنفسه منه بس إنتي لعبتي لعبة مش قدها، أنا اديتك فرصة قولت يمكن أختى وأمي عندهم حق، إنما أنتي أقذر واحدة شوفتها في حياتي.. أنا بقا هرميكي زي ما دخلتي ما بيننا.. هوريكي يعني ايه تلعبي معايا!! فكرك أهلي هسيبهم لبت صغيرة زيك تلعب بيهم الكورة؟ ولا فاكرة هسيبك تدمري حياة أختي اللي عندها خمس ولاد؟ ده بعدك!!"

صرخ بها ثم أكمل طريقه بسرعة جنونية لتتهاوى دموع نورسين في صمت وهي لا تصدق كل ما حدث ولا تدري كيف ستُقنع متصلب الرأس هذا بحقيقة الأمر.

لقد كانت خائفة مما قد يفعله كريم هو ويُسري، إنما أن يكتشف بدر الدين بنفسه ويصدق أن يجمعهما شيئاً، هذا لم يخطر على بالها من قبل، والأسوأ أنه لم يعرف الحقيقة بأكملها، لابد وأنه أستمع لجزء من حديثهما فقط، ماذا ستفعل الآن وخاصةً أنه لن يتقبل أن يستمع لها أبداً؟!

أوقف السيارة بعنف مجدداً ثم نظر لها بإحتقار وكراهية شديدة وتحدث والتمعت ثاقبتاه السودوتان ببريق مخيف ثم تحدث إليها في تقزز

"لمي نفسك وإياكي تحسسي حد بحاجة لغاية ما الليلة دي تعدي على خير.. سمعاني يا قذرة" صرخ بها بغضب لتومأ هي له دون أن تنظر إليه ليترك السيارة ويغادرها وفعلت هي على الفور لتتبعه في صمت وهي تجفف دموعها.

دلفا الغرفة على هديل لتقع عينا بدر الدين الثاقبتان على كريم الذي جلس بجانبها وبمنتهى الحقارة يبتسم لها ويحمل طفلتهم الصغيرة بينما امتلئت الغرفة حولهما بإبتسامة الجميع والنظر لتلك الصغيرة

"بدر.. عقبالك يا حبيبي" همست هديل بإرهاق بينما نظرت إليه بإبتسامة "تعالى شوف زينة" اومأت له ثم قدمتها إليه ليبتسم بإقتضاب وتوجه نحوها

"حمد الله على سلامتك يا هديل"

"الله يسلمك.. شوفت كريم جابلي ايه؟" أشارت بإصبعها الذي التف حوله خاتماً مرصعاً بالألماس ليومأ لها بدر الدين ولمح كريم بنظرة مُسرعة

"يعيش ويجبلك يا حبيبتي" أجاب بإقتضاب وتصنع الهدوء وهو بداخله بركان ثائر وصل أشد درجات غليانه لتتحدث نجوى بإبتسامة

"يا سيدي على الحب.. طول النهار ناقر ونقير.. إنما فجأة كده بتقلبوا"

"ربنا ما يحرمكم من بعض أبداً ويخليكوا لبعض" تحدثت شاهندة بإبتسامة بينما توجهت لتحمل تلك الصغيرة وتوجهت نحو نورسين التي وقفت بركن بالغرفة وهي تتحامل على نفسها أن تبدو طبيعية غير متأثرة بما تفكر به

"عقبالك يا نور يا حبيبتي.." تقدمت نحوها لتحمل زينة لينظر لها بدر الدين وهي تحملها عاقداً حاجباه لتلاحظ نظرته إليها وتقابلت عيناها بعينيه الثاقبتان لثوانٍ ثم أرغمت نفسها على الإبتسام في محاولة للتخلص من ارتباكها ونظرت للصغيرة..

"أنا بقا ماليش فيه.. تخلصي جامعتك وتجبيلي نونو صُغير يقولي يا تيتا.. مستنياكي بقا تسمعيني الكلمة دي" صاحت شاهندة لها بإبتسامة لتقابلها بإبتسامة مُجبرة مجدداً ثم أعطتها الصغيرة

"مبروك يا هديل.. تتربى في عزك إن شاء الله"

"عزي وعز باباها الحلو ده اللي هيجنني" اخبرتها هديل وهي تتلمس وجه كريم مبتسمة له

"طب راعوا يا جماعة إن معاكم سناجل في الأوضة مش كده" صاح زياد ليضحك الجميع "مش كده ولا ايه يا نور؟" نظر لها بعد أن سألها ولاحظ أخيه بدر الدين نظراته لها ليغضب أكثر.

"هه.. نعم؟!" لم تستمع لما قاله ليتدخل بدر الدين

"طيب يا جماعة أنا لازم أمشي عشان عندي سفر كمان شوية" تحدث بنبرته الرخيمة لتتعجب والدته

"ايه ده.. ازاي هتسافر والسبوع خلاص كمان كام يوم.. أنت مسافر فين أصلاً وراجع امتى؟!"

"متقلقيش يا أمي، هرجع يومها، كام يوم في لندن هخلص واجي على طول"

"طيب يا حبيبي تروح وتيجي بالسلامة" ابتسمت له نجوى في حب

"يالا.." نظر بدر الدين لنورسين التي أومأت له بإقتضاب لتندهش شاهندة

"ايه ده انتي مسافرة معاه؟!"

"ايوة.. فيه اجتماعات كتيرة وعايزها معايا" اجاب بدر بدلاً منها لتبتلع نورسين في وجل مما سمعته لتوها وبداخلها ازداد الرعب مما قد يفعله بها.

"يووه يا بدر.. حبكت يعني وأنا محتجاها معايا في تحضيرات السبوع؟!" اخبرته بسأم ليزفر بدر الدين في غضب وصر أسنانه

"خلاص خلاص متتعصبش.. أهم حاجة تيجوا يوم السبوع.. ثواني يا نور تعالي عاوزاكي" تكلمت ثم جذبت يد نورسين لتتبعها للخارج بينما تابعهما بدر الدين بعينيه فهو لن يسمح لها بأن تغيب عن نظره خاصة بعد أن أكتشف فعلتها الشنيعة

"حبيبتي أنا عارفة إن مصاريف كليتك ممكن ندفعها الأسبوع ده.. عايزة أسمك بالكامل ابعتيهولي في رسالة ورقم بطاقتك كمان عشان أروح أخلص ولما ترجعي تلاقي كل حاجة تمام.."

"مالوش لزوم أنا هابقـ.."

"لا ازاي.. اعملي بس اللي قولتلك عليه وبالمرة عشان اجيبلك الكتب" قاطعتها لتومأ لها ولم تستطع أن تفعل أكثر من ذلك.

"مش يالا ولا ايه!" صاح بدر الدين في عصبية

"خلاص بقا الدنيا مش هتطير" اخبرتها شاهندة بعد أن نظرت نحو أخيها في انزعاج ثم احتضنت نورسين لتودعها ورغماً عنها تهاوت دموعها من ذلك المصير المجهول الذي ينتظرها فهي ترتعد بداخلها مما قاله وأدركت انها ستكون معه بمفردها ربما لأيام!

"يا بنتي متقلقيش.. هما كام يوم وهنشوف بعض تاني" أخبرتها شاهندة التي ظنت أنها تبكي لفراقها ولكن لم تعرف الحقيقة لتومأ نورسين بينما تهكم بدر الدين بداخله "كلميني لو احتاجتي حاجة وبطلي عياط" أومأت لها نورسين مرة أخرى "باي يا حبيبتي"

"باي" همست مودعة اياها ثم تبعت بدر الدين في صمت وهي لا تدري ماذا سيفعل بها.

❈-❈-❈


فتح باب الجناح الذي وقع بأحدى الفنادق في المدن الساحلية بآخر دور ليلقيها أرضاً لتلاحظ هي هذا الأثاث العملاق الغريب الذي يبدو وكأنه خرج للتو من أحد القصور وتهاوت دموعها في حسرة ورعب من كل ما يفعله؛ هو بالطبع لم يخبرها بأن هناك سفر من الأساس، لربما فعل كل ذلك لأجل ما رآه وليس هناك داعياً للسفر، لماذا يريد أن ينفرد بها وحدها؟! رواية بقلم : بتول طه

تذكرت آلم فكها بسبب صفعته الثانية بالسيارة عندما حاولت أن تسأله إلي أين هو ذاهب!! تعلم جيداً أن الحرف الزائد معه الآن بمثابة مقابلة الموت فتابعته بعينيها ليجلس على أحدى الكراسي بمنتهى الغضب ثم تناول هاتفه ليتصل برقمٍ ما

"كريم الدمنهوري.. علمهولي الأدب كويس.. بس متكسرلوش حاجة.. عايز وشه متبهدل!" أنهى مكالمته بعدما القى بتلك الأوامر ثم نظر لنورسين التي تكورت على الأرض في وهن ونظرت هي للأرضية ودموعها لا تتوقف ليجد نفسه بتلقائية يجذبها من شعرها ليجبرها أن تنظر له

"إنتي بقى هاخد منك حق كل اللي عملتيه في أهلي الكام يوم إللي فاتوا دول.. رايحة تضحكي على أختي وأمي وتستغليهم!!" تحدث لها في هدوء مُخيف وهي تشعر بشعر رأسها يُقتلع بسبب يده التي تجذب شعرها ثم أومأت بالإنكار وتعالت شهقاتها من البكاء الذي سيطر عليها دون أن تشعر

"ده أنا هفرجك وبعدين هرميكي في الشارع زي ما انتي كده" أومأ لجسدها بعد أن نظر لها بإحتقار ثم ابتسم نصف ابتسامة لترتعد من ملامحه التي بدت غريبة للغاية وبدأت في الإرتجاف لا إرادياً من مظهره المرعب لتخرج الكلمات من فمها تلقائياً

"أنا معملتش حـ.."

"اخرسي" صفعها مجدداً لتشعر بمذاق الدماء في فمها وحالة من الهلع سيطرت عليها "مش عايز اسمعك بتنطقي بحرف.." دفع يده الممسكة بشعرها لترتطم رأسها بالجدار خلفها لتبكي مجدداً وازدادت رجفة جسدها رعباً ليلقي عليها نظرة أخيرة بإحتقار مرة ثانية ثم تركها وتوجه للغرفة بالداخل وصفع الباب خلفه.


❈-❈-❈

فاقت على رائحة دخان غريبة لتفتح عيناها لترى أنها لازالت على جلستها وبدر الدين جالساً أمامها مباعداً بين ساقيه وظهره مفرود بعناية يدخن ولا يرتدي غير بنطال جينز ولا شيء غير ذلك.

نظرته القاتمة المُسلطة عليها بهذه الطريقة تبعث الرعب بنفسها، لم تستطع إطالة النظر له وخفضت عيناها للأرضية لتعصف العديد من التخيلات برأسها، ماذا سيفعل بها؟ هل ستعود معه؟ هل سيتركها فقط لتذهب لزوج والدتها؟

أقترب منها ليقف أمامها بقدماه الحافيتان ثم هبط بجسده ليجذبها من شعرها بعنف لتصرخ متآوهة

"كريم يوم ما كان نازل عندك من الأوضة بليل كان بيعمل معاكي ايه؟" همس سائلاً بصوت أخافها للغاية

"كريم ده قذر.. أنا مـ.."

"إجابتك تكون على قد السؤال" تحدث بهدوء ليصفعها وتنساب الدماء بجانب شفتها أثر صفعته القوية "كان بيعمل معاكي ايه؟"

"كان بيهددني" همست مجيبة بين دموعها التي تواترت دون توقف وهي تسابق شهقات بكاءها

"بصيلي" آمرها فتريثت قليلاً خوفاً من أن تنظر لعيناه المرعبتان فأزاد من حدة قبضته الممتلئة بشعرها حتى تآوهت لما فعله ونظرت له فالآلم قد فاق تحملها

"كان بيهددك بإيه؟"

"عايز يتجوزني غصب عني وأنا رفضت" همست في آلم لتجده يضحك ويقهقه عالياً لتعتريها الغرابة مما يفعله وتصلب جسدها وهي تنظر إليه بخوف صرخت به مقلتيها الزرقاء ثم نهض وهو لا يزال جاذباً اياها من شعر رأسها لتحبو أرضاً لمواكبة خطواته السريعة ودلف الغرفة ثم جذب شعرها عالياً ليجبرها على النهوض وتوقف خلفها أمام المرآة يتفحص وجهها المتورم من آثار صفعاته والدماء المنسابة أسفل شفتها ليشعر بنشوة غريبة لم يشعر بها منذ سنوات، فهو لا يعذبها لأنها عاهرة أو تحب الآلم أو من أجل مال ستتقاضاه بعد أن تتعذب بجلسة سادية، بل لأنها تستحق هذا العذاب، لانها أخطأت بحق عائلته وتستحق كل ما سيفعله بها.

"بصي.. شايفة منظرك عامل ازاي وانتي متبهدلة؟ ده مش هيجي ذرة من اللي هاعمله فيكي قدام.. بس يعدي الأسبوع الجاي على خير" همس بجانب أذنها لترتجف من كلماته وتركها ثم أخذ خطوات بطيئة وهو يدور حولها مثل الأسد الجائع يفترسها بنظراته القاتمة المظلمة

"فكراني يا بت هصدق الهبل ده.. قال كان بيغصبك قال! فاكراني شاهندة ولا ايه؟"

"والله العظـ.. "

"تؤ تؤ تؤ.. لا لا.. انسي الحلفان ده خالص لأنه ميطلعش من واحدة قذرة زيك ولا لايق على اللسان الزبالة ده.. وفوقيلي كده وجاوبي عليا!" قاطعها متهكماً وهو يبتسم لها بسخرية وأخذ يمسح على شفتاه بإبهامه وسبابته في تفكير بما سيقول

"نمتي معاه كام مرة؟" انعقد لسانها مما أخبرها به وحلقت عيناها في صدمة مما وقع على مسامعها وتقابلت عيناها المصدومتان بعينيه المرعبتان ليصفعها بقوة شديدة لتسقط أرضاً "انطقي يا بت" صرخ آمراً لتجهش هي في بكاء هستيري لينهال عليها بالصفعات "كام مرة؟"

صرخ سائلاً مرة أخرى بينما هي لا تستطيع التوقف عن البكاء وشهقاتها المتلاحقة لا تدع مجالاً لتنفسها حتى وبالطبع الكلام، ولا زالت لا تستطع تصديق ما يقوله لتقع في حالة من الهلع الهائل

"بقا مش هتردي.. ماشي.. أنا هدفعك تمن اللي عملتيه غالي.. وغالي اوي.. لدرجة أنك تتمني الموت ومتلاقيهوش!"

جذبها من شعرها أمام دولاب الملابس ثم جلس هابطاً على ساقاه ثم دنا منها وهو يستطيع رؤية جسدها يرتجف بشدة لتلمع عيناه في شر خالص وكراهية شديدة لتلك الفتاة أمامه ولوهلة تناسى تماماً تلك المشاعر التي سيطرت عليه طوال الفترة الماضية تجاهها ولم يكترث لبكائها ونحيبها وشهقاتها المتواصة وتذكر ذلك الرجل الذي لم يعد يظهر كثيراً بالآونة الأخيرة، تذكر كيف كان بدر الدين الخولي، الرجل الذي يعذب النساء فقط ليرى آلامهن، لا يعاشرهن، لا يريد منهن شيئاً سوى رؤية خوفهن وأجسادهن المتضررة ليس إلا.

"عارفة يا بت" همس لها بنبرة مهيبة وإبتسامة مرعبة "أنا حاجز آخر أربع ادوار، وعارفة احنا فين؟!" نظر لها لتنظر له هي الأخرى برعب "احنا في الدور الأخير.. قولتلهم ميبعتوش الـ Room Service (خدمة الغرف) وإني مش عايز إزعاج.. يعني لو صوتي من هنا لسنة جاية ولا حد هيسمعك.. عايزك بقا تتعلمي من اللي هيحصلك ده كويس اوي، وتفتكري إني لما أسألك على حاجة تاني تجاوبي عليا بصراحة!"

نظر لها نظرة أخيرة ثم فتح درفة الدولاب ليجذبها من شعرها رغماً عنها ويضعها بداخل الدولاب ويوصد عليها الدرفة بالمفتاح.

جعل الغرفة كلها مظلمة ثم أغلق النور وتوجه للخارج بمنتهى الهدوء وأوصد الباب كذلك ليمنع أي هواء قد يتسلل بالغرفة، وكأنما ذهب غضبه بعيداً، استعاد سيطرته مجدداً على نفسه بعد كل ما فعله معها وكأن ما يفعله بتلك الطريقة يُمثل له مُسكناً وعلاج لغضبه اللعين!

جلس على احدى الكراسي ليتناول هاتفه ثم اتصل بنفس الشخص الذي اتصل به منذ مدة ليتابع ما تم تنفيذه مع كريم وبدأت ملامحه في التحول تماماً ولم يعد ذاك الرجل الجذاب الرسمي بكل شيء، ربما من نظر له الآن سيظنه قاتل متسلسل ما أو رئيس لإحدى عصابات المافيا الشهيرة.

"نفذت اللي قولتلك عليه؟.. تمام، خليه يبص في المراية واديهوني!!" ابتسم بتشفي وراحة عجيبة تخللت صدره

"ايه رأيك كده في نفسك وأنت شبه المرا.. حلو ولايق على وساختك مش كده؟ أظن بردو اللي عملته ميطلعش من راجل، عشان كده أنا وصيتهم كويس عليك وخليتهم يخلوا شكلك يبقى لايق على اللي عملته.. شايف اللي قدامك في المراية ده افتكره كويس اوي لأن سبوع بنته خلاص قرب.. حاول تعمله كمدات كويسة كل شوية عشان الاثار دي تروح.. أما بقا بالنسبة للوساخة اللي جواك فعشان آثارها تروح دي بقا صعبة.. بس مش مستحيلة، نلم بقا نفسنا كده لغاية ما اليومين دول يعدوا على خير وإلا ورحمة أبويا لا أكون مخليك مرا بجد، وساعتها هاكون بتفرج عليك.. أنت عارف أنا أقدر أعمل ايه كويس وهاجيبك لو في قمقم!! سامعني ولا تحب اعيد كل حاجة من الأول وتاخد جرعة محترمة كمان؟!" حدثه بنبرته الرخيمة التي اتضح بها هدوء مهيب ليجيبه كريم في رعب

"سامع" اجاب في وهن

"اعتبر ده أول وآخر تحذير ليك.. كله في البيت يعرف إنك طلع عليك بلطجية وقلبوك وآخدوا منك العربية وفلوسك وموبايلك.. واياك اعرف انك بتفكر في وساخة تاني.. وإلا هاكسرك صح واخليك مرا وبمزاجك كمان" أنهى المكالمة ليزفر في راحة ثم توجه للشرفة وعيناه تطالع زرقة البحر وشرع في التدخين.

وصد عيناه متنعماً بذلك الهدوء من حوله ونسمات الهواء الممتزجة برائحة البحر المنعشة ليملئ رئتيه مستمتعاً وعلى شفتاه ابتسامة سعيدة للغاية.

سيعد تلك الدقائق والثوانٍ حتى تسوء حالتها ويراها بنفسه، يريد أن يراها في أسوأ حال، يريدها أن تنطق بلسانها ثانية كم هو غبي مثل ما نعتته بالسابق.. وأن لا شأن له بها، يود حقاً أن يرى من ستخدع الآن وهي لا تملك سوى وجهه اللعين الذي يكرهه هو نفسه، يريد أن يستمع لذلك الصوت العالي وهو يترجاه ويتوسله أن يكف عما يفعله بها، سيتمتع برعبها وخوفها ذلك ولكن كل شيء سيأتي بالتدريج!

لا زال موصداً عيناه والتوت شفتاه تلك المرة بإبتسامة مقتضبة، إبتسامة لا تعبر عن السعادة ولا السخرية ولا حتى التهكم بل كانت تعبر عن المعاناة الخالصة.

تذكر ذلك الطفل الذي بلغ التاسعة من عمره لتوه، ذاك الطفل الذي لم يكن له يداً بأي شيء، لقد كانت كراهية والده لأمه هي السبب، لقد كان العنف معه هو المنفس الوحيد لوالده وكأنه يعوض ما فعلته أمه به وبإبنها ولكن لم يستمع أبداً لكل من أخبره بأن ذلك ليس ذنب بدر الدين!!

لقد كان يحبسه أياماً بلا طعام، في الشتاء يأسره في شرفة عالية أما في الصيف ففي أكثر مكان امتلئ بالحر الذي لا يُحتمل وفقط قبل أن يفقد وعيه كان يقدم له الطعام.

تذكر يوماً ما بالشتاء في تلك الشرفة التي تواجدت بآخر دور في منزل عائلته، بعد بقاءه ما يقارب من يومٍ كامل بلا غطاء ولا طعام، كان لا يدرك ولا يعي ما يحدث معه بأول مرة، فتصرف ببراءة الأطفال المتناهية، وجد والده يقدم له الكثير والكثير من الطعام الشهي الساخن التي تتصاعد أبخرته فجلس يأكل حتى امتلئت معدته وشعر بأنه لا يريد أن يأكل لمدة سنوات بعد تلك المرة، ليفاجأ بعدها بمشروب الشوكولا الساخن الذي يعشقه فلم يستطع منع نفسه عن تناوله ثم جلس بذلك الركن بالشرفة الصغيرة ليجد والده يصطحبه معه على سطح المنزل، ثم أدخله بغرفة معتمة صغيرة أسمنتية غير مجهزة لأي شيء لا تكاد تتعدى متران ورآى والده يبتسم له وأخبره أن عليه أن ينتظره هنا فإن الغرفة أفضل حالاً من الشرفة وأنه سيأتي ليصطحبه لوالدته بعد قليل ..

يتذكر جيداً وكأن كل ما حدث له كان بالأمس، يتذكر أنه انتظر، ساعة وساعة وساعة أخرى، لقد غالبه النوم فنام، نام كثيراً لعله يستيقظ ليجد والده ولكن دون جدوى.. لقد استيقظ مجدداً بعد أن نام ثانيةً وهو لا يدري أهو بالصباح أم المساء، لقد نادى على الجميع، على والده.. على شاهندة أخته الصغيرة التي يُحبها أكثر من أي شيء بحياته، هو يعرف أنها تُحبه ولكن أين هي، نادى نجوى والدته الحنونة، يعرف أنها تُحبه كثيراً أكثر من والدته السابقة، ولكن أين هي؟ ألا تسمعه أياً منهما؟ يريدها فقط أن تطمأنه وتخبره لماذا تأخر والده، يريد بعض الغطاء وسينتظر والده مهما غاب عنه، ولكن أين الجميع..

اعترى جسده نفس الرجفة التي شعر بها يومها، لم يستطع التحمل أكثر من ذلك، لم يستطع التحكم في نفسه، شعر وكأنما هناك شيئاً سينفجر أسفل معدته لا محالة، الآلم لا يتوقف، لا يقل، بل يزداد ويزداد حتى خارت قواه ووقع أرضاً مرتجفاً بفعل ذلك البرد القارص ليقضي حاجته دون تحكم أو وعي.

لقد كره تلك الرائحة كثيراً، تقزز من نفسه ومن ملامسته تلك الأوساخ للكثير من الوقت، لا يعرف هل نسيه والده أم ماذا يحدث معه، تلك الرائحة تشعره بالغثيان المستمر، لم يستطع التحكم أكثر من هذا ورغماً عنه الح عليه شعور القيء ولم تكن لديه القدرة على منعه بعد الآن..

يتذكر أن تلك كانت أول مرة يفعلها والده معه، لقد أثر به ذلك اليوم كثيراً، إلي اليوم يتذكر كل تلك التفاصيل لذلك أحياناً يستحم حوالي خمس مرات باليوم ليبتعد عن تلك الرائحة التي عرف بعدها أنها لازمته يومان كاملان! ذلك اليوم جعله يُقسم لوالده أكثر من مائة مرة أنه لن يعصي له أمر أبداً، لقد وعد والده أنه لن يطالب برؤية والدته مجدداً فقط أمام ألا يعاني تلك المعاناة مرة أخرى.

فتح عيناه القاتمتان ليطالع قرص الشمس الذي بدأ في عناق البحر الأزرق وظل يتابعه حتى امتزجا سوياً وكانت تلك اللحظة هي أعظم ما يراه كل يوم، يعرف أن بعد ذلك الوقت يأتي الظلام، بكل ما فيه، هو يعشقه، لا يستطيع أن يحيا بدونه، لن يكن بدر الدين ولن يستطع التعرف على نفسه دون هذا الظلام..

يشتاق له، دائماً ما يتعرف على نفسه في الظلام ويكتشف ما يقدر على فعله، ولهذا ينتظره كل يوم.. ينتظره اليوم ليرى هل لا زال بداخله ذلك الرجل؟ هل سيتواجد مع تلك الفتاة؟ أم أن ليلى غيرت ذلك الرجل للأبد!!


يُتبع..