الفصل التاسع - ظلام البدر - دجى الليل
جلست ودموعها تنهمر في صمت.. خائفة من أن تخرج من
باب غرفتها؛ ودت لو فقط ذهبت لشاهندة وبكت بين ذراعيها في عناق حنون. لماذا كل ذلك
يحدث لها؟ لماذا عليها أن تتحمل حقارة كريم وكراهية بدر وعناده؟ لماذا عليها كلما
أشتاقت لمنزلها التي قضت به أحلى أيام عمرها الصغير تتذكر دناءة زوج والدتها؟
ماذا
تفعل الآن وأين تذهب وهي حرفيا لا تملك أحد بالحياة؟ أستظل بذلك المنزل؟ أستظل
تحتمي بسراب؟ ماذا لو كريم فعلها حقاً وأقنع بدر الدين والجميع بأن كل ما حدث قد
خططت له مُسبقاً مع زوج والدتها لتأتي لذلك المنزل حتى تستفيد منهم مادياً؟ أحقاً
سيصدقون؟ أيملك دليلاً على كلامه؟ ربما ذهب ليُسري وأتفق معه على كل شيء.. ولكن
يبقى السؤال، لماذا يريدان أن يفعلا بها كل ذلك؟
تكورت
بسريرها تبكي وحدها وهي تشعر بإشتياق لا نهائي لوالدتها كوثر، ودت لو أنها هنا
الآن، لو فقط تستطيع أن تزور قبرها لتُخبرها بالكثير مما حدث لها، ودت لو أنها فقط
حصلت على عناق أخير يجمعها بها قبل أن تذهب، لم تكن تتصور أنها ستذهب وستتركها بكل
هذه السهولة، دون وداع، دون عناق، دون أي شيء ليبقى الذكرى الأخيرة بينهما
لتتذكرها بها.
ظلت
تنتحب وتبكي والأفكار تدوي بعقلها وهي مرتعدة وتراقب الساعة، تعلم جيدا أنه لم
يتبقى على مجيء كريم الكثير من الوقت، تحاول أن تهدأ نفسها وستتظاهر بالنوم وسيمر
كل شيء على خير.. أو هكذا تتمنى!
❈-❈-❈
ماذا بها
لتأتي له في تلك الساعة المتأخرة من الليل وتخبره بهذا الآن؟ لماذا بدت بذلك الخوف
الذي كان جليا على وجهها ونظراتها كالشمس في وضح النهار؟ أيُعقل أنها تخفي شيئا ما
مجددا لا يعلم عنه شيء؟
ظل يتجول
بغرفته إلي أن شعر بالإختناق فجذب قميصاً قطنياً قصير الكم ثم ارتداه وتوجه للخارج
حتى يتمشى قليلاً بالحديقة وهو يُفكر ليشعر بحركة على الدرج فتريث وهو يحاول أن
يعلم من الذي يصعد او يهبط الدرج.
تخفى
جيداً وهو يحاول النظر ليجده كريم ليضغط أسنانه وأخذ يكزها في حنق وهو يراقبه
ليجده يتوقف عند غرفة نورسين ومد يده ليفتح الباب فوجده موصد..
طرق كريم
الباب أكثر من مرة وفي النهاية ابتسم في غضب ممزوج بالغيظ من فعلتها ثم توجه ليهبط
الدرج مرة أخرى ولم يرى عينا الصقر تلك التي تتابعه ورآت كل ما فعله..
شعر
وكأنما الغضب يجري بعروقه بدلاً من الدماء، حسناً، هو الآن تأكد أن هناك شيئاً
بينهما، لا يوجد أي عذر أو سبب أو مبرر لذهاب رجل لفتاة بعد الساعة الثانية صباحا
غير أمر لا يستطيع أياً منهما أن يواجهها به الجميع.
فارت
دماءه بعد أن غلت بعروقه ليتوجه للأسفل وأخذ يجوب الحديقة في نفاذ صبر وبالكاد منع
نفسه من الذهاب وجذب كريم من جانب أخته وإبراحه ضرباً إلي أن يموت أسفل يداه، أما
تلك اللعينة الأخرى فهو تمنى لو جذبها من شعرها وألقاها خارج منزلهم للأبد ليطردها
من حياتهم كمنزلهم ولكن لا.. سيكشفهما أمام الجميع، عاجلاً أم آجلاً سيفعلها
ويومها لن يرحم أياً منهما.
❈-❈-❈
مرت
الليلة على الجميع، منهم من يشعر بالحزن الشديد، ومنهم من يشعر بالغيظ ويُخطط
للكثير من الأفعال المشنية التي سيتخذها ضد هذا الرفض، وأحدهم كاد أن يحترق غضباً،
وأما شاهندة فهي لا تطيق ما فعله بدر الدين منذ أمس.
جلس
جميعهم حول طاولة الإفطار وبدر الدين يوزع نظراته الثاقبة العميقة ويحاول أن يتمسك
بهدوءه قدر الإمكان ولمح تلك النظرة من كريم لنورسين ليصر أسنانه في غضب شديد
بينما لاحظ أن شاهندة يظهر على وجهها الحزن وليست مبتسمة ببشاشة مثل كل صباح.
"ايه يا ولاد خير.. مالكم ساكتين كده" تحدثت
نجوى وهي تنظر لأولادها، فحتى زياد الصغير المشاكس لم يتكلم مثل كل صباح.
"معلش يا ماما أنا ماشي عشان ورايا شغل كتير..
سلام" قبل زياد رأس نجوى ثم غادر ليتعجب الجميع من طريقته
"يا ما شاء الله.. من امتى وزياد عنده شغل
كتير؟" صاحت هديل وهي تُجبر شفتاها على الإبتسام ثم همست لزوجها "وده من
امتى بيحصل وأنا نايمة على وداني؟" سألته لينظر لها بإبتسامة ثم اجابها بهز
كتفاه بأنه لا يعلم
"ربنا يهديه" تمتمت نجوى معقبة على كلمات
هديل ثم نظرت لنورسين
"مالك يا حبيبتي؟ أنتي كويسة؟ ولا لسه رجلك من
امبارح بتوجعك؟" تسائلت نجوى بإهتمام بعد أن لاحظت شرودها لتتلمس شاهندة
كتفها في حنان ولاحظت أنها لم تأكل شيئاً وكانت تعبث في طعامها ليس إلا
"نور؟ أنتي فيه حاجة مضايقاكي؟" حركت يدها في
ود على ذراع نورسين التي كانت شاردة تماماً
"هه.. بتقولي ايه؟!" رفعت نظرها لها
"احنا بنكلمك من الصبح.. مخدتيش بالك ولا ايه؟"
"أنا آسفة يا شاهي.. معلش"
"من غير آسف يا حبيبتي.." أخبرتها نجوى
بإبتسامة بينما بدر الدين يحترق بداخله غيظا على تلك الطريقة التي يعاملوا بها تلك
اللعينة المُخادعة "مال وشك كده مخطوف؟ أنتي تعبانة؟" تسائلت نجوى في
قلق
"لا لا يا ماما.. أنا كويسة.. بس معرفتش أنام كويس
امبارح.." اجابت بأي كلمات وجدتها منطقية لينظر لها كريم بإبتسامة متهكمة
بينما لاحظه بدر جيداً.
"يالا عشان نمشي" تدخلت نبرة بدر الدين
الرخيمة ليلتفت له الجميع بينما تعجبت نجوى
"تمشوا؟! مين دول اللي يمشوا؟"
"ياااه.. واضح انها مقالتلكوش انها هتشتغل معايا
لغاية ما سكرتيرتي ترجع من اجازتها" أخبرهم بدر الدين ليشرق كريم أثناء
احتساءه للمياة وسعل لتناوله هديل احدى المحارم وتفحصه ليبتسم بدر الدين نصف
ابتسامة جانبية لم تقابل عيناه لتنظر شاهندة لنورسين في دهشة
"يالا عشان منتأخرش!!" تحدث مرة أخرى ليُنهي
ذلك العرض السخيف
"استنى يا بدر أنا عاوزة أتكلم معاك شوية"
أخبرته نجوى ثم نهضت "تعالى نتكلم في المكتب" أخبرته ليتبعها في صمت تام.
"كده.. وكنتي ناوية تقوليلي امتى؟" صاحت
شاهندة في انفعال
"ممكن نتكلم في الجنينة؟" استئذنت منها
لتنهضا سوياً ويتوجها للخارج.
"طيب يا جماعة.. أنا هقوم عشان متأخرش وعندي
اجتماع بدري.. اشوفك يا كريم في الشركة.. سلام" استئذن حمزة من الجميع بلباقة
ثم تركهم وغادر.
"حلو اوي اللي بيحصل ده، أسرار في البيت وبلاوي
بتحصل في الشركة وأنت نايم على ودانك! وأنا معرفش حاجة" صاحت هديل ليلتفت لها
كريم متآففاً
"يعني عاوزاني أعمل ايه؟ ادخل جوا دماغ بدر الدين
ولا أعرف أنا منين إن نور دي بقت بتشتغل معاه، أشم على ضهر ايدي مثلاً ولا اعمل ايه
عشان ابسطك.. ما أنتي شوفتي اهو بعينك شاهي نفسها مكانتش تعرف.."
"عايزاك تفوق.. تفهم اللي بيحصل حواليك.. عايزاك
متضيعش سنين تعبنا هدر.. تعرف البنت اللي دخلت حياتنا دي أصلها وفصلها ايه، الأول
زميلة زياد وبعدين حبيبة شاهي وفجأة بقت مع بدر الدين غير مدح ماما ليها طول
الوقت، مش شايف إن فيه حاجة غلط بتحصل؟"
"ولا شايف ولا مش شايف.. أنا ماشي، سلام!"
غادر كريم قبل أن يتحول هذا الجدال لخصام جديد بينهما.
"ماشي.. أولد بس وأفوقلكم.. هانت، هانت
أوي.." تمتمت لنفسها ثم تركت الطعام هي الأخرى بعد أن انعدمت شهيتها.
❈-❈-❈
"مالك يا بدر فيه ايه يا حبيبي؟ شايفاك متضايق
اليومين دول، فيه حاجة مضايقاك؟" تحدثت له نجوى في لين وهدوء وسألته ونظرت له
ملياً تتفحصه بإهتمام وهي منتظرة اجابته
"مفيش يا أمي.. أنا تمام"
"طب مش عيب، لما تيجي تخبي على حد متنساش إن هو
اللي مربيك.. أحكيلي بقا يا سيدي مضايق ليه من نور؟" سألته ليعقد حاجباه
وتسائل بداخله كيف عرفت
"لا مش متضـ.."
"بلاش تكدب عليا أنا.. احكيلي وفهمني فيه
ايه!" قاطعته ليزفر هو
"أنا مش مطمنلها.. فيها حاجة مش طبيعية، مش قابل
دخولها وسطنا كده"
"طيب بنت مكانها تعمل ايه؟ اديك شايف جوز امها،
شكله راجل نصاب وطماع"
"يا أمي بس مينـ.."
"اديها فُرصة تانية يا بدر، احنا اللي بنعمله
معاها ده لوجه الله، عمر ما ربنا هيضيع حاجة كده لوجه الله من غير ثواب، حتى لو هي
انسانة مش كويسة ربنا هيكشفهالنا" نظرت له وابتسمت بعذوبة ثم ربتت على كتفه
"حاول يا بدر عشان خاطري، أنا فاهمه انك خايف
علينا دايما وبتحبنا وخايف اي حاجة وحشة تحصلنا، وأنا أوعدك لو اي حاجة ثبتت إن
البنت دي مش تمام أنا بنفسي مش هاسكت"
"حاضر يا أمي.. بعد اذنك عشان امشي"
"روح يا حبيبي.. ربنا يوفقك" نظرت له بينما
يغادر لتتمتم في حرقة هامسة "امتى يا بدر هاحس انك انسان طبيعي؟ لا وأنت صغير
ولا وأنت كبير.. ربنا يريح بالك يا ابني ويسعدك"
❈-❈-❈
"شاهي معلش.. أنتي عارفة أخوكي كويس.. أنا بس
عايزة أخلص من كرهه ليا، يمكن موضوع شغلي معاه ده يخلصني شوية من عصبيته، وكلها
شهر ورنا ترجع"
"بس كنتي تعرفيني، متسبنيش كده زي الأطرش في الزفة"
"معلش حقك عليا.. أنا مش متظبطه من امبارح، رجليا
اتلوت وبعدين قعدت اشتغل كتير مع Mr بدر ولما رجعت حسيت إن ماما وحشاني.." تريثت
للحظة لتنظر لها شاهندة في آسى "وحشتني اوي يا شاهي.. نفسي اروح ازورها"
تساقطت دموعها لتحتضنها شاهي وربتت على ظهرها في ود وحنان
"ربنا يرحمها.. ادعيلها يا نور"
"كان نفسي احضنها قبل ما تمشي.. كان نفسي اخر يوم
معاها يبقا يوم مختلف وافضل معاها طول اليوم.. ليه معرفتش اللي هيحصل، ليه كده
تمشي وتسبني فجأة واحدة" نحبت وتعالى صوت بُكائها لتستمر شاهندة في معانقتها
والربت على ظهرها لتحاول أن تهدئها.
استمع
بدر الدين لكل ما قالته وجزء منه قد شعر بالشفقة لأجلها ونحيبها عاد ليقتله
داخلياً، ولكن لم يظهر ذلك على ملامحه وعقدة حاجباه ثم ابتلع وتوجه نحوهما وهو
يُذكر نفسه أنها مخادعة تحاول خداع الجميع، تارة تتظاهر بالمرض، وتارة تتحدث
بكلمات معسولة وتدعي الحزن، وتارة تتلصص في جنح الليل بمصاحبتها لكريم.. لن يخدع
أبدا بمثل تلك الألاعيب التافهة!
"يالا عشان منتأخرش" صاح لها لتبتعد عن
شاهندة التي نظرت لبدر الدين في لوم "اعملي حسابك هتروحي وتيجي معايا"
املى كلماته عليها لتندهش شاهندة التي اختارت ألا تتحدث له لأنها لازالت غاضبة منه
أما نورسين فقد سكتت عن الكلام وأومأت بالموافقة ليتعجب بداخله وأخذ يُفكر أي خطة
تُحيكها الآن بعقلها.
دلفا
السيارة وشرع بدر الدين في القيادة وجو الصمت يخيم عليهما معاً لا يتخلله سوى
أنفاسهما ليكسره بدر الدين في النهاية بسؤاله إليها
"كنتي بتعيطي ليه؟" نظرت له بطرف عيناها
الزرقاوتان لتنهمر دموعها وهي تجيب
"ماما وحشتني اوي.. كان نفسي تكون معايا.. كان
زمان كل حاجة أحسن"
"ربنا يرحمها" اخبرها بإقتضاب ولعن داخل نفسه
على بكائها هذا الذي يُحدث عاصفة داخله ثم أخذ يقود السيارة في صمت حتى دلفا
المرأب ومنها للمصعد.
❈-❈-❈
"مبحبش الكلام الكتير والفركشة والهرجلة، النظام
عندي مهم جداً والنضافة، أنتي مسئولة تتابعي ده مع المسئوليين عن المكتب.. مواعيدي
كل يوم تتبعتلي الساعة خمسة ونص الصبح وهبقى اجيبلك كومبيوتر في اوضتك، أي مكالمة
تجيلي بيتبعتلي بيها
email أول بأول بكل الـ Data
(معلومات) بتاعت اللي اتصل ورقمه عشان لو
عايز أكلمه تاني.. القرارات أنا اللي باخدها يعني مفيش حاجة تعمليها غير لما
ترجعيلي.. لأي سبب كان استحالة تسيبي المكتب وتمشي أو آجي مالاقيكيش، ساعات هتحضري
معايا Meetings (اجتماعات)
برا، وقليل لما هنسافر إذا كان فيه حاجة تستدعي حضورك هتيجي معايا.. الحجوزات أنتي
اللي بتعمليها بعد ما اديكي
(confirmation) على المعاد المناسب ليا..
فيه list (قائمة)
فواتير هبعتهالك بتدفع كل يوم 1 في الشهر.. وفيه Visa
تلاقيها في مكتب رنا، دي بتكون لأي حاجة أطلبها
وكل يوم 30 في الشهر بتوريني كشف مصروفات باللي أنتي عملتيه، ده غير طبعاً إنك
مسئولة عن كل الأوراق والملفات اللي بستخدمها وترتيبها.. فيه حاجات هبعتهالك ببقا
عايزك تدوري عليها وتجبيلي عنها معلومات وتبعتيهالي منظمة في
Email .. الغدا كل يوم الساعة اتنين ونص بالدقيقة يكون
قدامي، القهوة الساعة تسعة وواحدة ونص وأربعة، قهوتي سادة.. شغلك معايا ممكن يستمر
لبعد الساعة خمسة وده بيكون على حسب كل يوم تيجي تعرفيني أو تكلميني قبل ما تمشي،
موبايلك دايماً معاكي لأنك هتشتغلي في الشركة وبرا كمان..
ساعات
بيكون فيه Personal tasks (مهام
شخصية) ليا هتخلصيهالي.. أول شهر ملكيش اجازات خالص.. الـ
breaks (مواعيد الراحة) بتاعتك ساعة، نص ساعة من 11
ونص لـ 12 ونص ساعة من 2 ونص لغاية 3.. والرسمية اهم حاجة عندي.. وكل اللي
قولتهولك ده حاجة والسرية عندي حاجة تانية، اي حاجة بتحصل في مكتبي أو أي حاجة
بكلفك بيها متطلعش برا حتى لو قولتلك صباح الخير.. مفهوم؟!"
أخذ يملي
عليها واجباتها ومسئولياتها وهي تكتب أمامها في مُذكرتها وبعد أن توقف شعرت هي
الإنزعاج وتمتمت في خفوت كي لا يستمع
"أنا قولت ملك الكون!!" همست في سخرية وهي
تتلقى كل تلك الأوامر دفعة واحدة ليعقد هو حاجباه في تعجب محاولا أن يتبين ما همست
به
"بتقولي حاجة؟!"
"مفهوم يا Mr بدر" نظرت له بتلك الزرقاوتان وهي تتصنع
الجدية لينظر لها في غضب مضيقاً عيناه ثم أشار لها لتخرج ففعلت بسرعة وتوجهت لمكتب
رنا الذي سيصبح مكتبها من اليوم.
"ده ايه الشغل المعفن ده.. ناقص يقولي قبل ما
تدخلي الحمام تستأذني مني.. وايه قهوته وأكله دول اللي انا المفروض مسئولة عنهم؟
كنت خلفته ونسيته أنا؟! يارب اليومين دول يعدوا على خير ومن غير مشاكل" تمتمت
ثم بدأت في اشعال الحاسوب الموضوع على المكتب ونقلت كل ما أملاه عليها ثم فتحت
موبايلها وآخذت تضع كل تلك المواعيد التي أخبرها عنها كمنبهات حتى لا تنسى ثم
توجهت لتكتشف مكتب رنا وما يحتويه من أوراق وملفات حتى لا يسألها عن شيء وتكون على
عدم معرفة به.
آخذ
يراقب ما تفعله خلال الكاميرات الموصولة بمكتبها وهو غارق في تفكيره بتلك الفتاة
التي استحوذت على عقل الجميع وهو لا يدري كيف سيكشف خطتها وعلاقتها هي وكريم أمام
الجميع. ولكنه لم يلاحظ أنها استحوذت على عقله هو الآخر!
أقسم
بداخله أنه لن ينخدع بهذا الوجه البريء وتلك الدموع المُزيفة وسيبرهن لعائلته أنها
مجرد محتالة صغيرة لا تريد سوى الأموال السريعة التي ظنت أنها ستملكها بمجرد
معرفتها بزياد.
❈-❈-❈
رن
هاتفها مُعلناً عن اقتراب موعد قهوته ولم تصدق أن الساعة أقتربت من الواحدة والنصف
فتوجهت لتصنع له القهوة بملحق صغير بمكتبها يحتوي على كل ما تحتاجه لصنعها فصنعت
له قهوته ثم طرقت الباب لتسمع صوته صادحاً بالسماح لها بالدخول ففعلت ووضعت القهوة
على مكتبه وكادت أن تخرج ولكن أوقفها صوته
"هبعتلك كل حساباتي في البنوك، عايز أعرف كل حساب
فيه قد ايه، عندك أسامي الموظفين والمعلومات اللي هتحتاجيها في مكتب رنا.. تعرفي
اللي أنا عايزه بسرعة والحاجات دي تخلص قبل الغدا وتتبعتلي في ايميل" التفت
لتومأ له في تفهم
"حاضر، حضرتك محتاج حاجة تانية؟" سألته ليومأ
لها بالنفي فخرجت وهو بداخله يبتسم وسينتظر أن يرى كيف سيكون رد فعلها بعد أن ترى
كل تلك الأموال.
ظل
يراقبها ولكنه لم يرى شيء يثير ريبته، وما أدهشه حقاً هو إرسالها لكل ما طلبه منها
في خلال نصف ساعة، لاحظ حيوتها وطريقة عملها المتسمة بالنشاط والإلتزام ليتعجب من
كل ما تفعله ولكنه صمم ألا ينخدع بكل ذلك..
أعدت له
غداءه بعد أن طلبته ثم نظمته على صينية وطرقت الباب في تمام الثانية والنصف لتدخله
إليه ثم أقتربت لتضعه على مكتبه بينما أشار لها أن تضعه أمام الأريكة ففعلت ثم
توجهت للخارج دون أي كلام.
جذب
طعامه ووضعه على المكتب بنفسه لينظر بحاسوبه الذي يعكي كاميرات المراقبة وتوجه
ليراقب ماذا ستفعل في وقت الراحة الخاص بها ليجدها تدلك عنقها في تعب ثم سندت يدها
على مكتبها وأراحت رأسها عليه لتبدو مُرهقة وتعجب أنها لم تتناول شيء طوال اليوم
بل هي حتى لم تترك المكتب ولم تتحرك ليزداد تعجبه من كل ما تفعله تلك الفتاة. وجد
بابها يُفتح ويدخل زياد لترفع هي رأسها وبدأت معه بحوار فأخذ يراقبهما ليرى ما
الذي ستفعله مع أخيه..
"ايه.. فجأة كده أعرف إنك بقيتي مع بدر وسيبتي
شاهي؟"
"زيزو.. عامل ايه؟" ابتسمت له بإقتضاب
"أنا تمام.. نفسي أخرج اوي واغير جو.. تيجي نخرج
النهاردة بليل؟"
"مش عارفة أخوك هيديني شغل تاني ولا لأ.. سيبها
بظروفها، لو خلصت بدري ممكن نخرج" اجابته بينما صدح هاتفها بالرنين ولكنها
أطفأته ووضعته جانباً
"يااه.. بقيتي سكرتيرة بدر الدين أوي في نفسك كده
من أول يوم.. بس بردو أنتي مش عجباني بقالك كام يوم، أنتي كويسة يا نور؟"
سألها وهو ينظر لزرقة عيناها لتهز رأسها
"أنا تمام.. متقلقش عليا"
"طيب تيجي نروح ناكل اي حاجة في التلت ساعة اللي
باقيالك دي؟"
"لا أنا تمام.. مليش نفس" أجابته بعد أن
تعجبت أنه يعرف مواعيد راحتها "أنت عرفت منين ان باقيلي تلت ساعة؟"
"الشركة كلها تعرف.. ده نظام بدر من زمان"
اجابها بإبتسامة لتومأ له
"وحشتيني اوي يا نور" أخبرها ثم بجرأة مد يده
ليزيح خصلاتها الحريرية خلف أذنها لتبتعد هي عنه
"ايه يا زياد فيه ايه.. لو سمحت متعملش كده
تاني" صاحت بإنفعال بينما بدر الدين تآكله الغضب مما يفعلاه وقطب زياد جبينه
"عادي يعني أنا مقصدش حاجة، وبعدين شكلك كده بيكون
أحلى"
"لو سمحت بقولك متعملش كده تاني!!" صاحت في عصبية
ثم نهضت وولته ظهرها وكاد بدر الدين أن ينهض ويصب غضبه عليهما ولكن دخلت شاهندة
مكتبها بإبتسامتها البشوشة دائماً
"وحشتيني يا نور هانم" أخبرتها لتلتفت لها
نور مبتسمة
"وأنتي أكتر"
"خلاص عاجبك الشغل مع بدر وهـ.."
"أول ما رنا ترجع هرجعلك أنا كمان متقلقيش" قاطعتها
بإبتسامة
"ماشي أما نشوف.. صحيح فيه فيلم هموت وأشوفه وحمزة
مش فاضي، تيجي نروح نتفرج عليه سوا بليل؟"
"لا أنا حاجز قبل منك.. لو خلصت قالت هتخرج معايا
أنا" صاح زياد ليخلل بدر الدين شعره غاضبا من تجمعهم وأغلق حاسوبه وتوجه
للخارج
"ايه الدوشة دي.. اتفضلوا كل واحد على مكتبه..
وأنتي تعالي عايزك" صاح بالجميع ليبتلع زياد ثم توجه للخارج بينما نظرت له
شاهندة في غضب وعتاب شديد وتوجهت هي الأخرى للخارج بينما فعلت نورسين ما آمر به.
"هو ده النظام اللي قولتلك عليه؟!" صاح بها
لتنظر له في آسى
"أنا آسفة" همست ليعقد حاجباه فذلك لم يتوقعه
منها، لقد توقع أن تصرخ به، أن تخبره بأن الصوت لم يكن عالياً، أنها في وقت راحتها
ولكن أن تعتذر!! حسناً لقد فاقت توقعاته..
"شيلي الأكل ده واندهي حد يجي ينضف" آمرها ثم
وضع يداه بجيبي بنطاله
"حاضر" توجهت تحت عيناه الثاقبتان لتنحني ثم
حملت الصينية وخرجت ثم فعلت ما آمرها به واستدعت مختصي النظافة ثم جلست على مكتبها
وأكملت عملها.
❈-❈-❈
مرت
ثلاثة أسابيع على هذا الوضع، هو يراقبها ويتعجب لأنها لم تثير قلقه بأي شيء، لا
يراها مع كريم أبداً، تصد زياد بكل مرة يحاول أن يتقرب منها، لا تتحدث سوى لشاهندة
ولا تقوم بأية نشاطات إلا معها هي فقط، كاد عقله أن يُجن من كل تلك التصرفات، لقد
ظن بالبداية أنها مُستغلة وتبحث عن الثراء السريع لتُثبت له كل يوم أنها ليست كذلك.
أثقل
كاهلها بكثرة الأعمال لأوقات متأخرة وحتى أيام أجازتها ولم تبدي هي أي أعتراض
يُذكر، يتذكر كلما عادا متأخران وغفت أحياناً بالسيارة لكثرة ارهاقها ولكنها لم
تشتكِ أبداً من أي شيء..
لقد رآى
كريم أكثر من مرة يهاتفها وينظر لها تلك النظرات المُريبة ولكنها لا تستجيب لأي
مما يفعله، حتى عندما يذهب لغرفتها دائماً ما تكون موصدة بينما رآى انفعال كريم
الذي يزداد مرة مع مرة ليزداد غضب بدر الدين من كل ذلك..
لا يعرف
ماذا يفعل! لا يعرف كيف يُفكر! لابد من أن خلفها شيئاً ما! لابد أنها تُخفي كل شيء
ببراعة تامة حتى لا يلاحظه، سيعرف عاجلاً أم آجلاً..
كره
تحكمها الدائم به وهو الذي تعود السيطرة على كل شيء، يجد نفسه دائماً يحدق بها
وبتفاصيلها رغماً عنه، لن يُنكر أنها تثيره بل وبشدة، كلما اشتد عليه ما تفعله
يذهب لمنزله حتى يُفرغ ذلك الإحساس بأن يتملك إمرأة ما ويمارس عليه ساديته وأبشع
طرق التعذيب حتى يشعر بالكفاء ثم يعاود أدراجه لمنزل عائلته مرة أخرى.. ولكنه سأم
كل هذا ولم يعد يحتمل.
"بدر.. يالا بسرعة.. هديل بتولد في المستشفى ولازم
كلنا نكون معاها" قاطع شروده دخول شاهندة عليه بهرجلة ليوقفها قبل أن تغادر
"شاهي.. أنتي لسه زعلانة مني؟!"
"مش وقته يا بدر" نظرت له في عتاب "نشوف
البطيخة دي هتجيبلنا ايه وبعدين نبقا نشوف أنا زعلانة منك ولا لأ!" أخبرته
لترتسم على شفتاه ابتسامة بسيطة
"طيب روحي يالا وأنا هحصلكوا" أخبرها لتومأ
له
"متتأخرش بس"
توجه
لدولاب ملابسه وأخرج زياً غير رسمي ليرتديه متعجلاً ثم أمسك بمفاتيح سيارته وتوجه
للأسفل حتى يلحق بالجميع ولكن المنزل بدا خالياً تماماً خاصة أن الساعة تعدت
الثانية عشرة صباحاً.
أخذ
يُكمل طريقه وخرج من المنزل لينسى أن هاتفه كان بغرفة المكتب منذ أن أنهى أعماله
فتوجه إلي هناك حتى يأخذه فدلف بهدوء ودون أن يشعل الأنوار أقترب من المكتب ليبحث
عن هاتفه ولكنه سمع أصواتاً تصدر من الحديقة فتوجه إلي هناك على الفور
"...
برضو.. هتقولي كده تاني..أنتي ليه مش عايزة تقدري
إنك عايزك وبحبك.. أنا مبقتش بحب هديل، زهقت منها ومن حياتي معاها، إنسانة
استغلالية وطماعة، أنا بحبك أنتي يا نور، كفاية بُعد عني.." شعر بالصدمة
عندما سمع ذلك
"يبقا تسيبها، تسيبها وتبعد عنها، متفضلش معاها وتظلمها.. كل اللي بتقوله أصلاً مش مبرر إنك بتحب حد.. مينفعـ.." توقفت من تلقاء نفسها عندما رآت بدر الدين يحدق بعينيها بنظرة مرعبة جعلتها ترتجف وأقشعر جسدها بأكمله وتعالت نبضات قلبها وابتلعت بخوف تام!