-->

الفصل الخامس - ظلام البدر - دجى الليل




الفصل الخامس

"على جثتي، أنا مش هوافق على الكلام ده أبداً" صاح بدر الدين في منتهى الغضب لتزم شاهندة شفتيها ثم اقتربت منه بأعين متوسلة

"اللي أنا سمعته من جوز مامتها مكنش سهل يا بدر، ده كان عايز يمضيها على أنها تتنازله على كل حاجة ورثتها وتخيل وهي في الظروف دي مفرقتش معاه، وكان كمان جايب حبر وهيخليها تبصم وهيزور كل حاجة، أنت لو أختك مكانها، لو أنا مكانها، هترضى ليها تعيش مع واحد زي ده"

"كفاية بقا لو أختي مكانها، احنا مش مكانها، واحنا مش عيلتها، تروح لأي حد تاني.. استحالة تيجي تعيش معانا" صرخ في غضب شديد

"تعرف.. زياد حكالي انها متعرفش أهل باباها ومامتها وحدانية ملهاش اخوات ومن يوم ما اتجوزت يسري ده وأهل جوزها قاطعوها، يعني دلوقتي نورسين ملهاش حد"

"مش مشكلتي ولا مشكلتك، كفاية اوي اننا وقفنا جنبها كل ده، عملنا اكتر من الواجب، تروح تغور في اي حتة بعيد عننا" صمم على موقفه لتزدرد شاهندة في صمت ثم جلست على احدى المقاعد وبدأت الدموع تحتبس في عيناها

"لا مشكلتي يا بدر، مشكلتي ان حياتي فاضية، ولولا وجود حمزة وشغلي كنت اتجننت، مشكلتي إن ربنا حرمني من الخلفة، من ان حياتي تكون مليانة أولاد اديلهم حنان وحب واربيهم وآخد بالي منهم، لولا وجودكم جنبي كان زماني موت نفسي.. أنا من ساعـ.."

"شاهندة" قاطعها متنهداً ثم توجه بالقرب منها ولانت نبرته "احنا كلنا جنبك ومش هنسيبك وولاد هديل مالين علينـ.."

"ولاد هديل بكرة يكبروا وأنا بالنسبالهم هكون خالتهم وبس، زياد بكرة يشوف حياته، ماما ربنا يديها الصحة وطولة العمر بس مش هتعيش قد اللي عاشته، وأنت!! أنت إنسان غريب وقافل على نفسك وراضي بوحدتك، إنما أنا؛ أنا نفسي يكون جنبي حد تاني، كتير بحس حياتي فاضية، اه صحيح موجودين جنبي بس بمجرد ما حمزة يتشغل ولا يسافرله يومين ببقا حتجنن، يوم ما ماما بتتشغل ولا بتسافر لحد من قرايبها ببقا حاسة إني لوحدي، وهديل أنت عارفها كويس.." قاطعته ودموعها تنهمر رغماً عنها

"تعرف يا بدر إني فكرت كتير الفترة اللي فاتت اتبنى بنت أو ولد؟! قولت يمكن حياتي تتغير شوية" بدأت في النحيب ليشعر بدر الدين بآلام أخته ثم أكملت

"فيها ايه لما أعتبر نورسين أختي الصغيرة وزي بنتي؟ فيها ايه لما أقف جنب بنت زيها على الأقل كام شهر ولا كام سنة لغاية ما أطمن عليها؟ هي مش نور دلوقتي يتيمة الأب والأم؟ بنت زي دي مش محتاجة رعاية وحد يوقف جنبها.. أنا فضلت أتخيل لو جوز مامتها كان عمل اللي كان عايز يعمله يا عالم كان مستقبلها هتغير ازاي، كان ممكن يبهدلها ويعمل فيها بلاوي، أنا زي ما يكون ربنا باعتني في الوقت المناسب عشان أعرف اللي بيحصل.." تريثت وهي تزيح دموعها بعيداً عن عيناها ثم نظرت لبدر الذي لم يستطع أن يتفوه بحرف

"أرجوك وافق.. وافق إنها تيجي تعيش معايا وجنبي في البيت.. أنا هتكفل بكل حاجة تخصها.. هساعدها تخرج من اللي هي فيه وتكمل تعليمها، حرام بنت زي دي وبالمستوى اللي عاشت فيه طول حياتها وبنت شاطرة زيها تتدمر وفجأة متلاقيش حد جنبها، عشان خاطري إن كنت بتحبني وافق" توسلت له ليوصد عيناه في غضب وصر أسنانه في عصبية

"اعملي اللي أنتي عايزاه.. بس خدي بالك إنها هتعيش في نفس البيت مع شاب عايز يتجوزها وسنهم همّ الاتنين صغير.. " بالكاد تحدث بين أسنانه المتلاحمة غضباً

"متقلقش يا حبيبي، وبعدين احنا في بيت طويل عريض، ماما وهديل وجوزي وجوزها وأنت والناس اللي بتساعدنا، يعني مش هيفضلوا لوحدهم أبداً.. وأنا هاخد بالي منها كويس"

"وتفتكري ماما وهديل هيوافقوا بسهولة؟"

"سيبك من هديل ما دام أنت وافقت وماما طبعا أنت فاهم هتتعاطف معاها ازاي، أنت بالذات عارف إنها مرت بحاجة شبه كده و..."

"أرجوكي متفكرنيش.. بلاش يا شاهندة" نهاها قاطعاً ناظراً لها في لوم امتزج بغضبه لتتدارك ما قاربت من قوله

"أنا آسفة يا بدر والله ما أقصد" صاحت في حزن وهي تتلمس ذراعه في ود أخوي

"أنا رايح أخلص الإجراءات.." أخبرها بإقتضاب ثم غادر في ثوان وملامحه يعتريها الآلم

"ياربي بقا.. أنا مكنتش أقصد حاجة.. ربنا يستر وميضايقش مني!" تمتمت لنفسها ثم توجهت داخل غرفة نورسين لتجمع ملابسها التي آتت بها وبدأت في الاستعداد للمغادرة.


❈-❈-❈

فتحت عيناها وهي تشعر بآلم يهشم رأسها لتتعجب من ذلك المكان الذي تواجدت به الذي كان مختلف عن المشفى أمس وشعرت بالخوف الشديد ما أن تذكرت كل شيء حدث معها..

بنفس الوقت لمحت شاهندة على أريكة أمام السرير ليزداد تعجبها وودت لو أن تتحدث وتناديها لتستفسر عن ذلك المكان التي هي به ولكن وكأن الكلمات لا تريد الخروج من حلقها وكأنما عُقد لسانها أو شُل تماماً عن الحركة.

تذكرت موت والدتها وما فعله معها يُسري الذي صدمتها حقيقته الشنعاء لتتهاوى دموعها في صمت ولم تستطع التحرك ولم يدل على الحياة بها سوى حركات جفنيها البطيئة ودموعها التي تتساقط دون توقف.

لا تعلم متى دلفت تلك الممرضة التي يبدو وكأنها تفحصها وتتفقد ذلك الشيء الموضوع بيدها، ألهذا الحد هي مريضة؟؟ أستفسر عقلها وهي لا تتوقف عن البكاء بينما لاحظت شاهندة تتوقف بالقرب منها وتحدث الممرضة

"طمنيني هي كويسة؟"

"بقت أحسن يا مدام بس لسه موضوع الضغط زي ما هو، منخفض جداً وضربات قلبها ضعيفة.. لازم تبتدي تاكل وتتغذى كويس، مش كفاية المحلول والفيتامينات.. وكده كده الدكتور جاي كمان ساعة وهيطمنا أكتر.."

"متشكرة.."

"العفو.. بعد اذنك"

غادرت الممرضة لتتنهد شاهندة ثم جلست بالقرب من نورسين التي لازالت على نفس حالتها ولربما تشعر بأنها أسوأ خاصةً بعد ما حدث لها ليلة أمس.

"عارفة بقا انا مش هينفع الـ Assistant بتاعتي الشاطرة واحلى واحدة في الشركة تبعد عني كتير وتسبني بالذات بعد ما لحقتيني قدام بدر وكنتي سبب اننا نعرف إن فيه غلط في الـ System، اوعي تفتكري إني هفرط فيكي بسهولة.. وبعدين أنا استحالة اسيبك بقا خلاص على كده قفلت، فأنا قررت إنك هتفضلي معايا هنا في البيت طول اليوم ومعايا في الشغل كمان.. ويكون في علمك هتخلصي جامعة بسرعة بسرعة عشان تيجي تلحقيني بقا في الشغل.." نظرت لها بعد أن حاولت بكل ما استطاعت أن تحدثها بنبرة مازحة ومتفائلة بينما لم يتغير تعبير وجهها فشعرت شاهندة بالآسى تجاهها فاقتربت منها لتجلس وتعانق رأسها لصدرها وقررت أن تحاول مرة ثانية وهي تربت على شعرها

"أنا متأكدة إنك سامعاني وفهماني، عايزاكي تركزي معايا وتفكري في كلامي كويس، تعرفي يا نورسين أنا عندي واحد وتلاتين سنة، أنا وحمزة حبينا بعض من أيام الجامعة، واتجوزنا أول ما اتخرجنا على طول، وبعد سنتين أتأكدت إني استحالة أكون أم، مفيش أي حلول نفعت معايا.. أفتكرت إن دي نهاية الدنيا وإن لازم اسيب حمزة عشان مش ذنبه يتحرم من الأطفال وفي نفس الوقت بابا مات.. كنت متدمرة ساعتها واللي بهدل الدننيا خالص إن الشركة بتاعتنا وقعت وكان شغلنا كله هيضيع وشبه هنفلس، كان لازم ساعتها أفوق وسط كل ده وأتحمل المسئولية مع ماما وبدر..

أنا باحكيلك كل ده عشان تعرفي إن مش كل حاجة وحشة بتحصلنا نسيبها تأثر علينا، بالعكس، بتخلينا أقوى، وهو ده اللي أنا محتجاه منك، محتجاكي تفوقي، مش بقولك إن كل اللي حصلك كان سهل، لأ أنا حاسة اوي بيكي وعارفة إن الموضوع صعب، بس لازم تقومي تاني وتبقي اقوى، لازم تعلمي جوز مامتك الأدب، لازم يشوفك ناجحة في حياتك.. واوعي تخافي لأني هفضل جنبك، يسري مش هيقدر يلمس شعرة منك.. محدش هيقدر يقربلك طول ما أنا في ضهرك..

خدي كل الوقت اللي هتحتاجيه، اسكتي وعيطي وصرخي، بس مستنياكي تقومي تاني عشان تكوني اقوى وتعرفي توقفي على رجليكي كويس.. اعتبريني أختك الكبيرة.. مامتك الصغيرة.. صاحبتك حتى بس اللي عايزاكي تتأكدي منه إني مش هاسيبك لوحدك أبداً" قبلت رأسها لتشعر بتنهيدتها لتلين شفتاها في شبح ابتسامة فلربما فهمت كل ما أخبرتها بها واستعابته جيداً.

ستعطيها كل الوقت الذي تريده، ستقف بجانبها مهما كان، لن تدعها أبداً لحالة اليأس تلك لتتغلب عليها وهي في مقتبل حياتها وستكون بجانبها طوال حياتها حتى لو احتاج الأمر لهذا.. فالشفقة التي تشعر بها عليها فاقت كل الحدود بقلب شاهندة الذي امتلئ بالطيبة منذ صغرها.. فكما قبلت بدر الدين في حياتها مرة بالسابق ستقبل تلك الصغيرة مرة أخرى!!



❈-❈-❈


"مين البنت دي يا شاهي؟ وايه اللي حصل وازاي تجبيها البيت من غير ما تفهميني اللي حصل؟" تسائلت والدتها مستفسرة ولكن دون إنفعال أو عصبية

"هحكيلك يا ماما كل حاجة بس حاولي تراعي أنا عملت كده ليه.." أخذت تقص عليها كل شيء حدث منذ أن قابلت نورسين بالشركة إلي ما حدث معها وأضطرت إلي أن تحضرها معها للمنزل حتى تحميها من يُسري ومما قد يفعله معها..

لم تخفي عنها الحقيقة مثلما فعلت مع بدر الدين، تأكدت أن والدتها ستسطيع فهمها ومراعاة هذا على عكس بدر الدين فربما قد تزداد ريبته تجاه نورسين إذا أخبرته بحقيقة ما حدث من زوج والدة نورسين وربما لن يتقبلها أبداً.

"يا عيني يا شاهي.. كل ده وكنتي لوحدك؟ طب ليه مكلمتنيش كنت قدرت أتصرف؟" زفرت والدتها في آسى

"وكمان يا ماما الأكبر إني غصب عني وأنا بحاول أقنع بدر امبارح فكرته دخل بيتنا ازاي وعاملتيه ازاي! أنا خايفة يكون زعلان مني" هزت يدها في ارتباك ثم غلفت فمها في حُزن

"يا نهار أبيض، كده بردو؟ إزاي متخديش بالك.."

"غصب عني يا ماما"

"عموماً متقلقيش، بدر دماغه كبيرة وهو بيحبك اوي وانتي اقرب واحدة ليه في اخواته، الموضوع هيعدي متقلقيش.. بس إيه حكاية زياد ونور؟"

"مش عارفة.. أنا متأكدة بنسبة كبيرة إن زياد مش عارف هو عايز ايه ولا بيعمل ايه، ده حتى امبارح سابها في المستشفى وراح لصحابه.. لسه طايش زي ما هو"

"ممممم.. بردو زياد عشان صغير ومتدلع ممكن يكون مجرد إعجاب إنما مش لدرجة الجواز"

"أنا كمان حاسة كده، ولو على الإعجاب أنا شخصياً أعجبت بيها.. دي زي القمر مش ممكن بجد فيه كده"

"لا ده أنا أقوم أشوف بقا بنفسي"

"اه يا ماما لازم تبتدي تتعرف على اللي في البيت ونحاول نخرجها من mood الزعل ده شوية"

"يا حبيبتي لسه بردو صُغيرة على كل ده.. بتفكرني بهديل لما صابر مات" أماءت شاهندة بالموافقة وشردت للحظة

"بس بردو هديل شخصية ونور حاجة تانية"

"طب يالا بينا نقوم نشوفها.."

"يالا"


❈-❈-❈


"صباح الخير يا أمي" تحدث بدر الدين بعد انتظاره لأن تحضر والدته وشاهندة مثلما تعود كل صباح بأن يأتي ويتناول الإفطار مع عائلته

"صباح النور يا حبيبي.." اجابته والدته

"صباح النور يا بدر" وكذلك فعلت شاهندة

"فينكو.. ملقتش غير كريم وهديل" تعجب فيه هدوء

"معلش كنا بنطمن على نور" اجابته شاهندة بينما نظرا هديل وكريم لبعضهما البعض في استغراب

"نور مين؟" صاحت هديل بينما سحق بدر الدين أسنانه غاضباً أما كريم فهو خمن من هي، تمنى أنها هي نفس الفتاة التي قابلها البارحة، فهو منذ اجتماع أمس يحاول جاهداً أن يجد الطريقة ليبدأ معها بالكلام ولكن لم يجدها بالشركة أمس، فقرر الصمت حتى يتبين كل ما حدث لها.

"دي زميلة زياد والـ Assistant بتاعتي اللي جاية تدريب.. مامتها اتوفت امبارح وجاتلها حالة صدمة.. وهي وحيدة فمحبتش اسيبها لوحدها.." اجابتها شاهندة وهي تحاول أن تختصر قدر لإمكان

"وكنتو بتطمنو عليها في المستشفى كده الصبح بدري؟" عقدت هديل حاجباها في تعجب

"لا لأ.. دي فوق في الأوضة اللي كانت فاضية جنب اوضتي أنا وحمزة.. حالتها صعبة اوي ومكانش ينفع اسيبها لوحدها"

"يا سلام يا شاهي.. وهي عشان صعبانة عليكي تدخليها بيتنا بالسهولة دي؟" تركت هديل الطعام لتنظر لأختها بغضب وتحفز

"خلاص يا هديل.. سيبي شاهي براحتها.. وعموماً البيت لسه بيتي وأنا معنديش مانع"

"بس يا مامي"

"قولت خلاص!!" صاحت والدتها بلهجة قاطعة لا تقبل النقاش لتغضب هديل وتنهض مغادرة بينم زمت شاهندة شفتاها في ملل فهي تعرف كيف هي أختها.

"حمزة فين؟!" سأل بدر لتجيبه أخته

"لسه نايم، هيروح الشغل بس متأخر شوية.. أنت عارف إنه رجع بعد الفجر من اجتماع اسكندرية وجه نام على طول"

"اه صح أنا نسيت.. وزياد؟" سأل مجدداً لتجيبه نجوى هذه المرة

"رجع متأخر ولسه نايم" تفقد ساعته ثم أماء ونهض من على المائدة

"هو ده اللي هيبقى راجل وهيتدرب معانا.. متبقوش بس تزعلوا من عصبيتي عليه.. أنا ماشي.."

"بس يا بـ.."

"هتيجي يا شاهندة ولا عشان زفتة هانم ناوية على اجازة؟" قاطعها قبل أن تعطيه اعذار واهية

"أنا هشتغل من البيت وأنت عارف اني مبعملهاش غير للشديد القوي" اماء في تهكم ثم غادر دون حديث لتنظر شاهندة لوالدتها نظرات حزينة وتتنهد هي الأخرى بآسى، أما عن كريم فأكمل طعامه بمنتهى التلقائية وهو يُفكر ما الذي جعل شاهندة تأتي بها للمنزل، لابد وأن هناك شيئاً ما تخبأه.


❈-❈-❈


كتمت نحيبها وهي لا تُصدق كل ما عانته طوال تلك الأيام المنصرمة.. وكأن موت والدتها كان هو الشيء الوحيد الذي كشف حقيقة زوجها.. وكأنها كانت لا تعرف أن بموت والدتها ستنكسر بتلك الطريقة.. لم تكن تتخيل بيوم ما أن والدتها ستتركها في ثوان دون أي مقدمات.

بالرغم من تلك الرعاية الشديدة التي تتلقاها من شاهندة ونجوى وكل وسائل الراحة التي تتوفر لها بهذا المنزل إلا أنها لا تعرف إلي أين تذهب بعد أن تكون بخير؟ تأكدت أنها لن تستطيع العودة لمنزلها! لم تعرف يوماً ما معنى الأمان إلا أسفل سقف ذلك المنزل الذي منذ سنواتها الأولى قد عاشت به، كل ذكرياتها تملكها هناك، لا تعرف أي وصف للأمان غير ذاك المنزل.. لا تستطيع إدراك أن كل حياتها أنتهت للتو، كلما تتذكر كلماته التي بدت كتهديد واضح لها تدخل في نوبة بكاء مجدداً لمجرد أنها لن تستطيع العودة لذلك المنزل مرة أخرى.

"حرام عليك أنت ليه بتعمل فيا كده" تمتمت داخل نفسها وشردت في ضعف وحزن.

بعد فترة من استرجاع كل أحداث تلك الأيام تعجبت بينها وبين نفسها لماذا لا تجد الإهتمام الذي توقعته من زياد؟ كان يأتى يومياً بالبداية ليطمئن على حالتها ربما لدقيقتان أو ثلاثة ثم يغادر، أما آخر ثلاثة أيام فهي لم تراه أبداً!! سألت أيضاً نفسها أين هي مريم صديقتها وهل يا تُرى عرفت أن والدتها توفت؟!

وقعت في حيرة من أمرها بينما في نفس اللحظة دخلت عليها شاهندة وهي تحدث جلبة وكالعادة بإبتسامتها الواسعة المفعمة بالحيوية توجهت نحوها وأمسكت بيدها لتنظر لها نورسين في تعجب لتتحدث شاهندة

"يالا يا نور اجازتك خلصت.. كفاية عليا اسبوعين بشتغل من غيرك.. ويكون في علمك احنا نازلين حالاً عشان نعمل Shopping ولازم اخد رأيك، وعلى فكرة بقا أنا أشطر مديرة مشتريات في الدنيا.. يعني مبقبلش الرفض أبداً!! يالا عشان نلبس وننزل وأوعدك إنه هيبقا من أحلى الأيام في حياتك!"

جذبت يدها لتنهض معها رغماً عنها وملامحها ليست مستاءة خاصةً وأنها بدأت في التحسن قليلاً، أحيانا تبتسم بخفة لشاهندة ونجوى ولكنها لا تستطيع الحديث بعد.

توجهتا سوياً لأحدى المحلات التجارية الشهيرة بعد أن أعارتها شاهندة احدى ملابسها لترتديها وقضتا اليوم بأكمله تجوبان بين المحلات التجارية العالمية ذائعة الصيت ولم تشتري شاهندة الكثير لنفسها بل كل تركيزها كان على نورسين ولم تتوقف عن المزاح معها وإطراءها بالكلمات كلما ارتدت ما يناسبها.

تناولا الغداء سوياً بأحدى المطاعم ولم تتوقف شاهندة عن التحدث بالكثير والكثير من الأمور عن زوجها وعملها وعائلتها وأخذت تقص عليها العديد من الطرفات التي تحدث لها لتجد نفسها تبتسم رغماً عنها بل وبدأت في أن تشير لها بعض الإشارات البسيطة ولم تضغط عليها شاهندة في أن تتحدث لها بل بالعكس تصرفت وكأنما ليس بها شيئاً على الإطلاق.

عادتا للمنزل وقد أخبرت شاهندة احدى العاملين أن يحمل الحقائب الكثيرة من السيارة لغرفة نورسين ولغرفتها ثم توجهتا للأعلى فوراً حين لم تجدا أي أحد بالمنزل سوى العاملين به فقط.

دلفت غرفتها ولا زالت شاهندة بجانبها لتقع عينا كلتاهما على بدر الدين الذي كان يجوب غرفة نورسين كالأسد الهائج بعرينه وما إن تقابلت زرقاوتاها بسواد عيناه المخيفتان حتى أخفضت رأسها متحاشية النظر إليه..

"طبعاً.. حضرتك مش في البيت، وموبايلك أكلمك عليه مليون مرة مبترديش قولت اكيد مع زفتة هانم!!" رفعت نورسين نظرها له وهي تعلم جيداً أنه يقصدها بينما نظرت له أخته في دهشة

"أنا آسفة يا بدر.. أكيد مسمعتش غصب عني"

"أكيد، ماهو من ساعة ما البتاعة ديه ما دخلت حياتنا وأنتي مبقتيش شايفة غيرها.. حتى شغلك مبقتيش مركزة فيه" صرخ في غضب بينما شعرت نورسين بأنها على مشارف البكاء ونظرت للأرض

"لو سمحت.. مسمحلكش يا بدر تقولي إني مقصرة أبداً!! انا بقالي خمس ساعات برا!! خمس ساعات بس.. خمس ساعات من سنين كتيرة كنت صاحية نايمة في الشغل، ايه بقا المستعجل اوي ومش عارف تجيبه غير مني؟!"

"افتحي الـ Email بتاعك وانتي تعرفي.. عشان مش بدر الدين اللي يتكسف قدام عميل جديد بسبب إن مديرة المشتريات عندي مش فاضية!!" صرخ بها بينما عقدت حاجباها وغادرت لتتفحص حاسوبها.

وجد نفسه واقفاً معها بنفس الغرفة.. ينظر لها.. يحاول أن يبحث عن تلك الزرقة التي شابهت المحيط ويبحر فيهما إلي الأبد، ولكن غضبه أعماه.. غضبه من أخته وغضبه تجاه نفسه بسبب تلهفه ذلك على تلك الفتاة الصغيرة.. كره كم تحكمت في زياد وبعده شاهندة ثم والدته وبالنهاية يأتي هو ليظل الأسبوعان الماضيان بأكملهما لا يفكر غير بسواها ويحاول معرفة كل شيء عنها.

"وأنتي" صاح بغضب مقترباً منها قابضاً على كلتا ذراعيها لتوجل هي منه وتنظر له من المفاجأة ليعتريها الخوف من تلك النظرة الثاقبة بعيناه

"اوعي تكوني فاكرة ان شوية التمثيل اللي دخلو على أمي وأختي وزياد دخلوا عليا.. ولا جو الدراما اللي انتي عاملاه ده أنا مصدقه.. أنا لولا شاهندة كنت رميتك تاني مطرح ما جيتي.. ومتفتكريش إني قابل ده.. بكرة كل خططك القذرة واللعبة اللي بتلعبيها هتبان للكل.. صبرك عليا بس وأنا هوريكي وهكشفك قدامهم" صرخ بوجهها لتنهمر دموعها وهو يحدثها بتلك الطريقة الفظة بينما لم تدري لماذا يفعل كل ذلك

"ايوة ايوة مثلي ونزلي الدمعتين عشان يشوفوكي وانتي بتعيطي وتصعبي عليهم اوي.. إنما أنا لأ، أنا فاهمك وفاهم كل اللي بتعمليه كويس.. وفي يوم من الأيام هرجعك تاني لجوز أمك اللي أخدتيه حجة عشان تدخلي بيتنا.. بس مش هتمشي من هنا إلا وكل اللي واقفين جنبك دول كارهينك ومش طايقين يبصوا في وشك" صرخ بها مجدداً لتتحول دموعها لنحيب وشهقات متتالية

"لا غلبانة اوي وصعبتي عليا.. بس اوعي تفتكري إن بدر الدين الخولي بيضحك عليه من عيلة صغيرة لا راحت ولا جت.. ويكون في علمك العيشة اللي انتي عيشاها دي قريب هتختفي.. متتعوديش يا شاطرة على حاجة مش بتاعتك كلها يومين وهترجعيله تاني وتغوري في ستين داهيـ.."

"حرام عليك أنت بتعمل فيا كده ليه؟ أنا عملتلك ايه عشان تعمل فيا كل ده؟!" صرخت بوجهه بين بكائها لتستمع شاهندة لصوتهما وتتعجب أنها بالنهاية وأخيراً نطقت و دلفت لتباعد بينهما وهي في قمة غضبها وبنفس الوقت مندهشة أن نورسين استطاعت التحدث.

"ايه يا بدر حرام عليك اللي بتعمله.. البنت تعبانة مش كده"

"ايوة ايوة.. واضح انها عرفت تضحك عليكي.. إنما اهي زي القردة وبتتكلم! عرفتي انكم كلكم مضحوك عليكو؟ بكرة تعرفي إني صح.."

"لو سمحت يا بدر سيبنا لوحدنا شوية، وأنا رديت على اللي أنت عايزه في الـ email"

"بعد ايه؟! بعد ما خليتي شكلي زفت قدام الناس بسبب الزفتة دي؟!"

"قولتلك يا بدر اخرج وسبنا دلوقتي!" صرخت بوجهه وهي لا تعلم لماذا يتحفز ويغضب كلما كان بجانب نورسين بهذا الشكل المبالغ فيه لتسمع طرقات على الباب بنفس الوقت ليتضح أنها احد العاملين بالمنزل "خير يا زينب فيه ايه؟!" صاحت بإنفعال

"واحد تحت عايز حضرتك وبيقول إن اسمه يُسري راتب!" صُدمت شاهندة عندما سمعت اسمه بينما انكمشت نورسين خلفها في رعب تام ليصيح بدر الدين بلكنة متهكمة

"اهو.. اتفضلي، بيتنا خلاص بقا مفتوح لكل من هب ودب.." ازدردت شاهندة وتوترت للغاية وهي لا تدري كيف ستواجهه وما الذي ستخبره به خاصةً وأنها أخفت الحقيقة عن بدر الدين، وهل سيساعدها في الوقوف أمامه أم سيتركها وحدها لتواجهه؟!


يُتبع..