-->

الفصل الثامن - ظلام البدر - دجى الليل




الفصل الثامن

 

"أأأنا؟" تلعثمت وهي تراه يتفرسها بنظرته المُزعجة تلك ليومأ لها بالموافقة "ده.. ككان..مممـ.. مممعرفش الرقم" ازداد تلعثمها وابتلعت بتوتر.

"انتي هتستعبطي؟!" نظر لها في غضب لتتدارك هي ما قالته

"مممكنتش أعرف الرقم" تريثت لثوان ثم استجمعت شجاعتها واجابت "وبعدين عرفت إنه كان Mr كريم!" سكتت لبرهة ليصر أسنانه في غضب وبدأ الشك يتآكل عقله من جديد

"كان بيسألني Mrs شاهندة رجعت ولا لأ عشان يسألها على حاجة لأنها مبتردش على موبايلها.. وكان عاوز حاجة في الشغل بس أنا قولتله إني هنا" نظرت للأرض ولم تتحمل أن تظل ناظرة لعيناه الثاقبتان تلك.

تلعثمها وشحوب وجهها المفاجئ جعله يرتاب أكثر.. يعرف جيداً أن هناك شيئاً ما تخفيه ولكن لربما تخبره الحقيقة، فلقد أخبرته منذ ثوان بمنتهى السهولة أنه كان كريم، ثم حقيقة ماذا الذي يظن أنها أخبرته بها؟! أتخدعه تلك الصغيرة هو الآخر؟ لا لن يصدق تلك التراهات التي تحدثت به! بالطبع هناك شيئاً ما تُخفيه وسيعرفه عاجلاً أم آجلاً.

لماذا يسألها عنه؟ أسمع شيئاً؟ أيعرف ما الذي حدث بينهما؟ نظراته تلك لا تبشر بالخير، ومتى كانت نظراته تبشر بالخير؟ ستتجاهله، نعم ستفعل، أهم شيئاً أن تبتعد عنه هو وكريم وكل شيء سيكون بخير..

"طب أنا هقوم عشـ.." صاحت وهي تنهض بينما أختل توازنها ليلحقها مسرعا وهو ويمسك بخصرها كي لا تسقط وتوقفت عن الحديث من تلقاء نفسها بعد أن أقترب منها وتلاقت أعينهما مجدداً في ذلك الصمت العجيب وتلك الأنفاس المتهدجة منها وأنفاسه هو المتثاقلة وتلك المرة ظلت تنظر له وتحدق بملامحه لترى الغضب يرتسم على وجهه مرة أخرى.

"أنتي مبتفهميش؟ قولتلك متتحركيش دلوقتي خالص!!" تحدث بعصبية حانقاً ليدفعها راغماً اياها على الجلوس مرة أخرى على الأريكة خلفها

"يعني أنا هافضل قاعدة كده طول اليوم؟ الساعة بقت اتنين ونص وأنا مخلصتش غير الـ proposal وبعدين أنا جوعت! سيبني بقا اروح آكل وأشوف شغلي" تحدثت هي الأخرى بإنفعال رافعة رأسها وهي تنظر إليه بتلك الزرقاوتان التي قتلته ليعقد حاجباه في غضب

"لا طبعاً مش هتفضلي قاعدة كده.." تحدث بين أسنانه المتلاحمة غضباً ثم توجه لمكتبه موليها ظهره وأمسك بهاتفه ليفعل به شيئاً لمدة دقيقتان وهي تتابعه بعينيها ثم آتى مُحضراً العديد من الملفات وأقلام ثم عاد ليجلس على مكتبه بعد أن ألقى بكل ما كان بيداه على المنضدة أمامهما

"مش عايزة تشتغلي.. اتفضلي" أخبرها دون أن ينظر لها وبدأ في اشعال حاسوبه وكأنما يبحث به عن شيء ما ثم أعطاه لها بطريقة فظة.. "مليني الأرقام اللي هسألك عليها من الـ Sheets (أوراق) اللي معاكي وأنا هارجعها من على الـ system" ظل لا ينظر لها عاقداً حاجباه لتتنهد هي في سأم وتوتر وبدأت في فعل ما أخبرها به.


❈-❈-❈



اتصلت بها أكثر من مرة ليتسلل الخوف لقلبها! أين هي إلي الآن؟! تستطيع أن ترى أن حقيبتها بنفس مكانها ولكن أين هي نورسين؟ بدأت في السؤال عنها ولم تحصل على إجابة من أحد لتفاجأ بكريم أمامها

"ايه عملتي ايه؟ نقول بقا عندنا supplier (مورد) جديد؟!" ابتسم تلك الإبتسامة الواسعة بأسنانه تلك ناصعة البياض ونظرته تلك الغير مريحة بعينيه الزرقاوتان

"جرا ايه يا كيمو.. جايلي مخصوص من الموقع عشان الـ supplier، كنت ممكن تكلمني على فكرة!! وعموماً اه الـ Collection (مجموعة) بتاعنا زاد واحد.. اطمن!!" نظرت له بإبتسامة مُضيقة عيناها ثم أعادت نظرا لحاسوبها

"وأنتي يعني شايفاني قلقان!" سألها ليجلس على مكتب نورسين

"لا مش قلقان.. اقصد اطمن ياللي واكلها والعة" غمزت له بعينيها ليرفع حاجباه في تعجب

"يعني مش هو ده شغل المشتريات.. أظن حقي.. وبعدين عدي الجمايل يا ستي" غمز لها هو الآخر ليبتسما سوياً

"قال يعني مش طالع بمصلحة!" صاحت بإبتسامة وهي تنظر له بدهشة

"والله كل واحد وشطارته" ابتسم لها وكلاهما يعلمان جيداً تلك العمولات التي يحصل عليها عند توقيع مثل هذه العقود

"ماشي يا سيدي.. انا مفوتالك بمزاجي على فكرة"

"متحرمش من حنيتك عليا أبداً" نظر لها في امتنان مزيف

"إلا قولي صحيح مشوفتش نور؟" نظرت له عاقدة حاجباها في استفسار بينما هو ابتسم داخلياً لأنها هي من بدأت بالسؤال عنها

"كنت كلمتها من شوية عشان أسأل عليكي قالت انها مع بدر" هز كتفاه وكأنه لا يعرف، هو فقط سيموت شوقاً ليراها ولكن لن يستطيع الدخول لمكتب بدر الدين بينما شاهندة فهو متأكد أنها ستذهب لهناك على الفور.

"بدر! دي موبايلها مقفول.. اما اروح اشوفها" تنفس براحة بعد علمه بأنها ستذهب لتتفقدها ولكنه سيتأكد الليلة جيداً أن يريها كيف لها أن ترفض المجيء إليه، وكيف توصد هاتفها بتلك الطريقة وسيعلمها ألا تُكررها مرة ثانية!


❈-❈-❈


تآففت وهي تنظر في تلك الأوراق التي تعج بالحسابات وقد قتلها الجوع، لقد أصبحت الرابعة ولم تتناول شيئاً منذ الإفطار، كما أن وجوده أمامها بنظراته وطريقته التي توترها لا تجعل عليها الأمر سهلاً.. لم تتوقف عن التفكير بكلمات كريم كما أنها لا تدري كيف ستتهرب منه الأيام القادمة وهل حقاً سيخبر بدر الدين بتلك الخطة التي نسجها من خياله أم كان يهددها ليصل لمبتغاه ليس إلا!

تعرف أنه ليس من حقها أن تمكث مع تلك العائلة ولا بذلك المنزل الضخم ولكن أين عساها أن تذهب؟ كيف ستتصرف وهي وحيدة تماماً؟ وجود شاهندة بجانبها مثّل لها الحياة وكأنها ولدت من جديد، لقد عوضها وجودها كثيراً عن الصديقة والأخت وبالطبع لم ولن تعوضها عن وجود والدتها كوثر التي لم تحب مثلها بحياتها ولكن شاهندة لم تترك لها الفرصة حتى تشعر بالوحدة أو الخوف من زوج والدتها!

أمّا الآن فهي لا تدري كيف تخبرها بتخوفاتها، كريم يبدو شخصاً حقير ومصمم على ما يريد!! لا تستطيع البوح لها بأن زوج أختها يريد أن يتزوجها، هي حتى لا تتقبله، ماذا عليها أن تفعل وهي لا تملك أحداً بجانبها غير شاهندة التي لربما تتطور الأمور وتتركها هي الأخرى؟

تهاوت دموعها في صمت وكأنما الدنيا بأكملها تصمم على أن تنهال على رأسها بالمصائب المتتالية التي لم تواجها من قبل ولن تستطيع أن تواجهها وهي ذات الخبرة المعدومة في الحياة.

لاحظ بدر الدين بكائها الصامت ودموعها التي انسابت على وجنتاها ليلقي القلم من يده في عصبية على الأوراق أمامه ثم تفحصها جيداً وهو لا يدري لماذا بداخله يشعر بالغضب وشعور آخر غير مفهوم لديه بأن بكائها ذلك يدفعه لفعل العديد من التصرفات غير المفهومة هو حتى لا يدري بمّ يُفكر وكأنما يحدث بداخله تعقيدات لا يستطيع تبينها أو فهمها كلما رآها تبكي!

"بتعيطي ليه؟" سألها وهو يحاول أن يتحكم بعصبيته وانفعاله لتنظر له ولم تكن تظن أنه سيلاحظ بكائها

"جعانة" اجابته وهي بالطبع لن تستطيع البوح بما تُفكر به ليهز رأسه في تهكم ليطرق بابه فتركها لينهض وذهب ليتفقد الطارق ثم آتى وبيداه صندوقان علمت ما هما جيداً

تلهفت على ما يحمله كثيراً وابتلعت ثم بللت شفتاها أكثر من مرة وقبل أن يضع ما بيده على المنضدة جذبت احداهما منه بسرعة وتركت العمل جانباً لتفتح صندوق البيتزا الكرتوني ثم همهمت وهي تشتم رائحتها في شهية.

نظر لها هاززاً رأسه بسخرية وهو لا يُصدق ما تفعله، تبدو حقاً كطفلة صغيرة بتصرفاتها تلك ليجلس هو على كرسي أمامها وبدأ في أن يُرتب الأوراق أمامه بعناية شديدة وكأنما نظم كل ما على المنضدة بأكملها وحتى جذب ما أمامها ليُرتبه واضعه جانباً وشرع في تنظيم طعامه أولاً لتلمحه نورسين وتتعجب بداخلها من يأكل بمثل تلك الطريقة التي يتناول طعامه بها ولكنها لم تهتم وتناولت طعامها في هرج تام لتسد ذلك الجوع بداخلها!

شعر بالإنفعال من طريقتها التي تفتقر للنظام ولآداب تناول الطعام وتلهفها الذي لم يُصدقه حقاً، ألهذا الحد كانت جائعة؟! سأل نفسه ليهُز رأسه في إنكار وفي ثوانٍ ودون أي مقدمات وجد بقعاً من الكاتشب تلتصق بقميصه الأبيض وربطة عنقه.

توقفت تماماً عن تناول البيتزا وجحظت عيناها عندما أدركت ما حدث للتو فهي قد ضغطت على حقيبة الكاتشب بطريقة خاطئة ولسوء حظها كان اتجاهها ناحية بدر الدين.

وضعت كف يدها تغطي به عيناها ثم رفعت رأسها ببطئ شديد لتنظر له بين أصابعها لتجد نظرة أرعبتها وجعلتها لا تريد أن تأكل مجدداً طوال حياتها لتبتلع في وجل من نظرته.

"أنا آسفـ.."

"أخرسي!!" قاطعها زاجراً اياها بين أسنانه المتطابقة ونبرته لا تقبل النقاش مطلقاً وغضبه ازداد للغاية ونهض خالعاً سترته ثم ربطة عنقه وهي تنظر له في وجل ومن ثم بدأ في خلع قميصه لتنفرغ شفاهها وشهقت في خفوت

"أنننت.. أنت.. بتعمل ايه؟" تلعثمت وهي تراه يفك أزرار قميصه

"مش عايز اسمعلك صوت" صاح بها في عصبية وهو يسحق أسنانه ثم خلع قميصه في غضب لتطلع هي جسده وضربت تلك الحمرة في وجهها وهي تراه بذلك المنظر!

تلك االتقسيمات بمعدته وعضلاته القوية ثم نهاية خصره، لا تصدق أنه مجرد رجل عادي، لابد وأنه بطل رياضي ويخفي الأمر عن الجميع، لم تقع من قبل بمثل ذلك الموقف ووجدت نفسها تحدق بجسده في إعجاب وبلاهة تامة فهي لأول مرة تنظر لرجل هكذا وهو نصف عاري أمامها ثم بلت شفتاها وآخذت زرقاوتاها تنظر لعنقه ومنكبيه الرجوليان وتفاصيل جسده لتجد نفسها تشعر بشيء لم يسبق لها اختباره من قبل!

لاحظ نظراتها له ليبتسم بداخله ثم تلاقت أعينهما فخفضت نظرها في ارتباك والتوتر سيطر على حركاتها ليرى هو حُمرة الخجل تلك بوجهها ليتنهد وبالكاد استطاع أن يتوقف عن النظر لها وولاها ظهره متجهاً لمكتبه لتشاهد هي ظهره المثيرالرجولي المليء بتلك التقسيمات والعضلات التي رُسمت بطول ظهره بداية من أسفل شعر رأسه حتى خصره.

رآته يتوقف أمام مكتبته الضخمة ثم مد يده ليجذب مقبضاً لتفاجأ أن هناك دولاب كامل للملابس أمامه، كانت تظن أنها ستحتوي على المزيد من الكتب ولكنها كانت مخطئة.

تناول قميصاً أبيضاً ثم ارتداه دون أن يغلق ازراره ثم فتح درجاً بالأسفل آخذاً منه ربطة عنق جديدة ووضعها حول عنقه وأغلق الدرفة ليجد خبطات على الباب ليذهب في غضب يفتح الباب بمضض ليجدها شاهندة التي امتلئت عيناها بالتساؤل لمظهر أخيها فدلفت مكتبه بعد أن تركها وتوجه للداخل مُغلقاً ازرار قميصه بينما نظرت لتجد وجه نورسين يصرخ بالحمرة فتعجبت خاصةً بعد أن رآت ملابس أخيها ملقاة على الأرض بينما نورسين جوربها ممزق وقدمها يبدو وكأن بها شيء ما واتجهت نحو بدر الدين حتى وقفت أمامه ثم نظرت له بأعين مستفسرة

"ايه ده؟" وأومأت لقميصه ثم نظرت للملابس الملقاة أرضاً لتجده يجذب يدها ثم امسك بقميصه الملقى ليريها بقعة الكاتشب

"وقعت كاتشب من غير ما اخد بالي"

"وانت من امتى بتاكله؟" تعجبت لأنها تعرف ان بدر الدين لا يحبه

"هو تحقيق ولا ايه؟" تآفف بدر الدين وهو يعيد عقد ربطة عنقه بينما اتجهت لنورسين

"وانتي يا نور فينك؟ عارفة قلقت عليكي قد ايه؟ قافلة موبايلك ليه؟" صاحت في لهفة ثم عقدت ذراعاها ووقفت أمامها منتظرة ردها بينما سمع بدر جيداً وانتظر اجابتها ولكن دون أن يبدي اهتماماً ملحوظ

"ده.. ده فصل شحن" اجابت بإقتضاب فاقتربت شاهندة جالسة بجانبها

"ايه اللي على رجلك ده؟ مالك انتي كويسة؟" أشارت للرباط الضاغط

"أنا.. كنت.. ممم" تلعثمت ليزفر بدر الدين حانقاً من تلعثمها الممل

"اتكعبلت ووقعت ورجليها اتلوت" اجاب بدلاً من نورسين لتتعجب شاهندة بداخلها، منذ متى وبدر الدين يتحدث هكذا؟ لتراه يأخذ سترته يرتديها وجلس ليكمل عمله وازاح الطعام جانباً

"طب انتي كويسة، تحبي نروح لدكتور عشـ.."

"متقلقيش بقيت احسن" ابتسمت لها بإقتضاب لتقاطع لهفتها

"اعملي حسابك إنك هتشتغلي معايا الفترة الجاية!" تحدث بدر الدين دون أن يزيح نظره من الأوراق أمامه إلا عندما أومأ لنورسين لتجحظ عيناها الزرقاوتان

"يا سلام!! وأنا مش عاجباك مثلاً ولا مش واخد بالك انها الـ Assistant بتاعتي ولا ايه؟!" صاحت شاهندة في انفعال

"مش هاكرر الكلمة تاني.. رنا واخدة اجازة مرضي والفترة الجاية عندي اجتماعات كتيرة"

"لا يا بدر ده ظلم بقا، أنا مش هاسيب نور و.."

"مترغيش كتير يا شاهندة.. كلمتي تتنفذ من غير نقاش" تحدث بلهجة لا تحتمل المزيد من الجدال لتنهض شاهندة في انفعال

"وأنا قولت إن.."

"ميهمنيش قولتي ايه، اللي يهمني إن شغلي محتاجها" قاطعها مجدداً دون أن ينظر لأي منهما

"طب وشغلي؟" تسائلت بغضب

"اتصرفي.. أنتي عندك في الإدارة ناس كتير.. لكن انتي عارفة ان شغلي هيوقف عليها"

"ماشي يا بدر، براحتك، اعمل اللي أنت عايزه!!" صاحت في انفعال وتوجهت للخارج في حنق

"بس أنا مش عايزه أشتغل معاك" تحدثت في هدوء ليرفع رأسه وتتلاقى أعينهما

"وأنتي ايه أصلاً عشان تعوزي أو متعوزيش" اهانها بتلك الكلمات لترفع حاجبها في تحفز

"أنا جاية هنا اتدرب في إدارة معينة عشان اخد خبرة أنا عايزاها، لكن شغلي معاك مش هايديني أي خبرة"

"ومين بقا اللي قالك كده؟" اراح جسده في الكرسي ووضع قدماً على أخرى وعبث بسبابته في شفاهه وهو ينظر لها نظرة الصقر خاصته يتفحصها بها

"من غير ما حد يقول.. أنت عايزني اشتغل Reminder  واستقبلك ضيوف وأناولك ورق.. استحالة أنا اعمل كده! عمري ما فكرت إني ابقى سكرتيرة!!" تحدثت في تحفز لتعقد ذراعيها ولأول مرة تنظر له مباشرة دون خوف ورأى الاعتراض يغلف نظرة تلك الزقاوتان

"كويس"

"هو ايه ده اللي كويس!!" عقبت على كلمته التى قالها بعد أن ابتسم بسخرية

"قدامك حل من الاتنين.. يا تشتغلي معايا يا تتفضلي برا الشركة كلها واتفضلي اتدربي مكان ما يعجبك" نظرت له في دهشة وهو يتحدث هكذا بمنتهى الهدوء بينما اشتعلت هي غضباً ونهضت ليعتري ملامح وجهها الآلم بينما اقترب هو ليساعدها ولكن لم تعطه الفرصة

"لا هتفضل برا الشركة يا Mr. بدر، مفيش شغل بالعافية"

"عندك حق" قلب شفتاه متهكماً لتنظر هي في حزن امتزج بإنفعالها ثم توجهت بخطوات بطيئة وتعرج واضح للباب حتى تغادر وكادت أن تُمسك بمقبض الباب بينما أوقفها كف يده الذي منع به أن يُفتح فالتفتت له لتحاصر بينه وبين الباب الذي أصبح خلفها

"سيبني اعدي"

"اتكلمي بأدب وبأسلوب كويس وبعدين ماشية حافية ورايحة فين بمنظرك ده"

"أولاً أنا مؤدبة وأسلوبي كويس، ثانياً مش هاقدر البس حاجة بكعب دلوقتي علشان رجلي لسه بتوجعني، ثالثاً مالكش دعوة بيا وسيبني امشي"

"خليني اوضحلك حاجة انتي مش قادرة تشوفيها من يوم ما دخلتي الشركة دي بس لآخر مرة الفت نظرك ليها، أنا بدر الدين الخولي، اللي من غيري الشركة دي كانت هتقع في يوم من الأيام، يعني كل اللي فيها بيرجعلي قبل ما ياخد خطوة، والكل عارف حدوده كويس معايا عشان مأذيهوش.. فأنتي باللي بتعمليه ده بتجني على نفسك، بس ارجع وأقول إنك عيلة صغيرة مش عارفة الصح من الغلط، وعشان كده هاسيبك لغاية بكرة الصبح عشان تقرري، يا تيجي بكرة وتبدأي شغلك معايا يا هأذيكي.. وأعتبري إن اللي قولتهولك ده فرصة وفي نفس الوقت تحذير!" نظر لها بعينيه الثاقبتان لتشعر هي بالإرتباك الشديد ثم أقترب منها وبنفس الوقت أجرى مكالمة هاتفيه ليسألها "مقاس رجلك كام؟!"

"38" اجابته ثم عقدت حاجباها متعجبة لسؤاله

"هاتلي جزمة flat سودا مقاس 39" رفعت حاجباها في دهشة بينما هو اعاد هاتفه لسترته ونظر لها ملياً لتنفجر هي بالكلام

"تأذيني بتاع ايه؟ أنت أصلاً مالكش عندي حاجة، واسمع بقا أما أقولك يا Mr بدر عشان كده اللي بتعمله ده كتير اوي، أنا جيت هنا عشان اتدرب مع شاهي، والبيت شاهي وماما نجوى موافقين إني أكون معاهم، سواء هنا أو هناك تبعد عني وملكش دعوة بيا تاني ابداً.. كفاية عصبيتك وكلامك السم اللي كل شوية بسمعه وبصاتك الغريبة دي" صاحت بجرأة لينظر لها نظرة ارعبتها بالرغم من تحاملها على نفسها ومحاولاتها اللانهائية في التغلب على توترها وخوفها منه.

"أفتكري كل كلمة قولتيها وأنا أوعدك إنك هتتحاسبي عليها، وحسابها هيكون غالي اوي عليكي" ابتسم متهكماً لتنظر له هي بإنفعال وعيناها تصرخ غضباً في طفولية

"هافتكر.. وهتشوف إنك مش هتقدر تعملي حاجة" تحفزت كالأطفال تماما بمنتهى البراءة التي رفض عقله أن يُصدقها

"أما نشوف" اخبرها بتهكم لتلتفت وتغادر ولكنه استند على الباب بيده لتلتفت له مرة أخرى لتجده قريب للغاية منها حتى شعرت بأنفاسه الساخنة على وجهها فنظرت له في ارتباك وابتلعت متوترة

"لما تبقي تلبسي حاجة في رجلك هبقى اسيبك تمشي، مش هستنى حد يقول كلمة على بدر الدين الخولي، ادخلي الحمام وغيري الشراب اللي انتي لابساه وبعد كده ممكن تغوري حتى في ستين داهية عشان ارتاح من وشك!"

همس لها بكراهية تنهال من عيناه ولكن قربه منها وترها للغاية ليمكثا لدقائق على هذا الوضع يحدقان بعينا بعضهم البعض في صمت تام ليبتلع هو ثم انتقلت عيناه لشفتاها الكرزيتان في تلقائية عندما تآكلتهما في ارتباك وبدأت أنفاسه في التثاقل ليقترب منها أكثر وآخذ يُفكر ماذا لو أطاع ذلك الشعور الداخلي بأن يقبلها، مرة واحدة فقط ليرى كيف مذاق تلك الشفتان، لن يحدث شيئاً، هي تبدو مستسلمة للغاية، لن تمانعه، وحتى لو مانعته، سيبرر لها فيما بعد، أهم شيء هو أن يتذوقها الآن ويريح ذلك الإلحاح بداخله بأي شكل.

رائحة أنفاسه الرجولية تشتتها داخلياً، لماذا يقترب منها بهذا الشكل بعد أن تلفظ لها بأبشع الأقوال؟ لماذا لسانها عُقد ولا يستطيع الحديث؟ تود أن تصرخ، أن تقول له ابتعد ولكن صوتها لا يغادر حلقها، قوتها انعدمت، لا تستطيع التحرك، لا تستطيع السيطرة على أنفاسها المتهدجة، تشعر بالخجل الشديد من اقترابه، لا تستطيع أن تنظر لملامحه أكثر بعد الآن لتنظر للأرض لتجده فجأة يلامس أسفل ذقنها بسبابته مُرغماً اياها على أن تنظر لعينتيه الثاقبتين مرة أخرى بينما ابتلع لترى بعنقه تفاحة آدم تحدث زوبعة بتحركها ذلك ليزداد ارتباكها وأقترب لها أكثر حتى لفحت شفتاها سخونة أنفاسه وكاد أن يقبلها ولكن أفاقهما تلك الطرقات على الباب ليحمحم بدر الدين وتفر هي هاربة لحمام مكتبه وبداخلها عاصفة من المشاعر الغريبة عليها لا تستطيع التحكم بها خاصةً وأنها لأول مرة تواجه كل ذلك مع رجل.


❈-❈-❈


لا يدري لماذا هذه الأيام عاد لتلك العادة السيئة ولا يستطيع التوقف عن التدخين طالما هو وحده، وقف في شرفته وهو يُفكر بتلك اللحظة التي جمعتهما وكاد أن يقبلها، تلك اللعينة لم تعترض اقترابه كما لم تعترض اقتراب كريم منها تلك الليلة بالحديقة عندما رآهما، تلك اللعينة تريد أن تخدعه هو الآخر.. لا.. لن يحدث ولو بعد مائة سنة!!

إن لم تأتِ بنفسها وتقر بأنها قبلت أن تعمل معه سيجعل أيامها بلون الليل الحالك، هذا هو الحل الوحيد ليبعدها تماماً عن كريم ويعرف ما الذي يجمعهما، يعرف أن شاهندة طيبة للغاية، قد تستغلها فتاة مثل نورسين بمنتهى السهولة، كذلك نجوى والدته تلك المرأة التي لطالما وقفت لأبيه ودافعت عنه دائماً واحتمى بها منه قد تستغل طيبة قلبها هي الأخرى، إنما هو فلا.. لن يحدث هذا معه.. لن تستغله فتاة مثلها، فلقد حاولت من قبل تلك الشيطانة التي انجبته ولم تستطع فعلها أبدا!

وقف يحدق بالفراغ في شرفته لا يرتدى سوى بنطالاً قطنياً اسود اللون واضعاً يد بجيبه والأخرى امسكت بالسجائر التي لا يستطيع تركها ليتنهد مجدداً وهو يُفكر بها مرة ثانية وبتلك الطريقة التي يخفق قلبه بها عندما يقترب منها.

لمح كريم يدلف للمنزل بعد أن ترجل من سيارته ليعقد حاجباه وكاد أن يرتدي قميصاً ويذهب ليتفقد إلي أين سيذهب كريم فلربما سيذهب لنورسين مرة ثانية ولكنه فوجأ بطرقات على باب غرفته ففتح ليجد أن الطارق هي من لم يبارح عقله التفكير بها

"عايزة ايه؟!" سألها بهدوء خالف الغضب الذي بداخله لترفع رأسها ناظرة إليه بزرقاويتين مرتعدتان

"أنا هاشتغل معاك.. مش.. مش.." تلعثمت وهي تهز رأسها في انكار ثم أكملت بصعوبة "مش هاكمل مع شاهي ولا هاسيب الشركة" عقد حاجباه لمظهرها الذي يثير التساؤلات العديدة بعقله ولم تعطه الفرصة للتحدث معها وغادرته على الفور مسرعة وكأنما تهرب من شيء ما.


❈-❈-❈


قبل قليل بغرفة نورسين..

لماذا تشعر بكل ذلك الإرتباك أمامه هو؟ ليس مثل زياد ولا كريم ولا حتى زوج والدتها، لماذا كل شيء معه مُربك ويوترها قربه للغاية، نظراته تلك، لماذا اعتنى بها عندما التوى كاحلها اليوم؟ ولماذا اقترب منها بتلك الطريقة عندما أخبرته أنها ستذهب ولا تريد العمل معه؟ وبعد كل ذلك يأتي ليخبرها بتلك الكلمات اللاذعة وترى الكراهية تفيض من عينيه ودائماً هو غاضب!!

"ملك الكون!!" تمتمت وهي تهز رأسها في سخرية ثم فتحت هاتفها الذي اصدر صوت وصول رسالة

"طيب واضح إنك مبتسمعيش الكلام.. بس أنا بردو لسه عايزك زي ما انتي عاوزاني ومحتاجاني.. عايز ردك عليا يكون النهاردة بليل، هطلعلك زي امبارح في نفس الوقت.."

تصلبت زرقاوتاها بشاشة هاتفها وهي لا تدري ما الذي عليها فعله، تلك الرسالة منه بتلك الطريقة لا توضح أنه يبتزها ولكن هي تعرف جيداً ما يقصده، هي حتى لا تستطيع مواجهة شاهندة بها فكلماته بدت وكأن بينهما علاقة.

آخذت تجوب غرفتها في رعب تام، لن تستطيع إخبار شاهندة، هي حتى لم ترها منذ عودتها في وقت متأخر من الشركة حيث أرهقها بدر الدين بمراجعة كل تلك الأرقام اللعينة ولم يسمح لها بالمغادرة، لن تستطيع الرفض فإنه سيخبره بالخطة تلك التي سيصدقها بالطبع وهو الذي لم يكف عن إخبارها بأنها تلاعبت برأس زياد وأنها مُستغلة وطماعة ولا تريد شيئاً غير الأموال ليس إلا..

حسناً.. كيف عليها الإبتعاد عن كريم؟ آخذت تفكر مراراً حتى وجدت الحل الوحيد أن تُثبت لبدر الدين براءتها، ستكون بجانبه طوال اليوم، أمام عيناه، ستعمل معه حتى عودة مساعدته الشخصية وسترى بعدها كيف ستتصرف مع كريم!

غادرت غرفتها مُسرعة بعد أن أوصدت هاتفها مرة أخرى خوفاً من أن يتحدث معها أو يرسل لها برسالة لتخبر بدر الدين ذلك وبداخلها تدعو ألا ترى وجه كريم بطريقها..


يُتبع..