-->

الفصل السادس عشر : الفصل العشرون - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل




الفصل السادس عشر

 

شعر شهاب بتحرك سليم بمقعده بل ولمحه ينهض من كرسيه ويبدو أنه سيقبل نحوهما فبادر بالحديث لزينة مجدداً الذي لم يترك يدها بعد

"ده يادوب كان سليم هيمضي العقد وكنت هسلم المباني اللي خصصتها للشركة.. فرصة كويسة عشان تستلميها أنتي واديني لحقتك اهو قبل ما تتشغلي" تحدث لها شهاب ولا يزال ينظر لها ويتفقد زرقاوتيها بينما كل خلية بجسده تحاول الحصول على ملامح سليم وتحركاته فهو نعم يتفحصها بل ومن يراه قد يقول إنه يسلط تركيزه الكامل عليها ولكن كل ما تمناه هو اثارة غضب سليم

"طيب تمام أنا معنديش مشـ.."

"مش لازم Miss زينة تروح! ممكن اي حد تاني يروح.. وراك حاجة يا Mr إياد؟" صاح سليم في جدية بعد أن قاطعها فهو لن يخاطر بذهابها معه بمفردها

"لا تمام ممكن اروح مفيش مشكلة" اجابه إياد مسرعاً

"براحتكم طبعاً بس مش المفروض أن زينة هي المهندسة المسئولة عن المواقع؟" ترك هنا يدها بعد أن التفت لتتلاقى بنيتاه بعينا سليم الداكنتين بينما شعر الآخر بأن شهاب لتوه قد جعله يبدو مخطئاً ولكنه سيتفادى هذا سريعاً بخبرته

"اكيد بس Miss زينة لسه تحت التدريب.. أفضل حد عنده خبرة يروح معاك" تحدث سليم له ليبتسم له شهاب في سخرية واضحة بعد أن شدد الأول لنطقه باسمها بتلك الطريقة محافظاً على أن يناديها بلقب قبل اسمها

"مش بردو زينة اللي جت معانا المواقع قبل كده؟!" نظر له بإنتصار ليغضب سليم "وبردو حتى لو ناقصة خبرة أكيد مش هيجرى حاجة يعني.. احنا ولاد عم في الأول وفي الآخر.. ومش هتلاقي احسن من الـ compounds عندنا عشان تتعلم فيها وتاخد خبرة" التفت لزينة بإبتسامة "ولا ايه؟!"

"أنا معنديش مشكلة خالص" اجابت بتلقائية لتبادله الإبتسامة ليرى شهاب تأثيره جلياً عليها بينما شعر سليم وكأنه يحترق بداخله

"طيب كويس اوي.. وكمان عاملكوا عزومة صغيرة بمناسبة العقود .. هتتبسطوا أوي أكيد" ابتسم وهو يرمق الجميع بينما لاحظ غضب سليم وكذلك تآفف أروى وهي ترمق زينة بكراهية

"أكيد هتكون حلوة اوي.. ميرسي يا شهاب" ابتسمت له زينة بعد أن طال الصمت فلم يجبه أحد من الجالسين ليوشك سليم على الإنفجار بوجهها

"آنسة زينة لو سمحتي عايزك دقيقتين.. بعد اذنكم" توجه سليم للخارج بعد أن أخبرها أخذا خطوات مسرعة بينما تآففت أروى لتمتم في سأم

"اهي جت بقا وهتفضل تعطل فينا"

لاحظها شهاب الذي ابتسم بداخله على تلك الملامح الغاضبة التي توجه بها سليم للخارج وشعر بلذة الإنتصار المبدأي تسري بدماءه وخاصة تجاه زينة، فلم يرحب بها أحد سواه، وكأن الجميع لا يكترث لها، فقط سليم وبضعة نظرات صامتة ليس إلا.. لذا ها هو يكسب أولى النقاط في تلك اللعبة .. وكذلك لاحظ أروى التي ربما تشعر بالغيرة من أختها.. لربما هي تشعر ببضعة مشاعر تجاه سليم.. ولكن يبدو أيضاً أنه لا يكترث لها .. سيتبين مثلث العشق هذا الغريب لاحقاً وأمّا عن إياد الذي ينظر له اليوم بكراهية جلية كسطوع الشمس لابد وأن وراءها شيئاً ما..

"طيب يا جماعة تحبوا تشربوا حاجة؟" تحدث عاصم ليحدق شهاب ببنيتاه بعينا إياد بنظرة جريئة وكأنما يخبره أنه لا يكترث لكراهيته 

"قهوة.. سادة" تحدث شهاب بينما همست أروى بما تريد تناوله وظل إياد كما هو يتبادل تلك النظرات غير الودودة مع شهاب وكأنما خلت الغرفة من حولهما تماماً..



--

 

 

"ازاي تيجي من غير ما تعرفيني وتسيبيني قلقان عليكي كل ده من امبارح بليل لغاية النهاردة الصبح" زجرها سليم بغضب جلي بعينيه

"أنا حبيت أعملهالك مفاجأة" همست بنبرة غلفتها خيبة الأمل اثر نبرته المنفعلة

"وازاي بسهولة كده توافقي تروحي مع شهاب الزفت ده المواقع؟!" أقترب منها بإنفعال لتنظر له هي بتعجب "لا وكمان بتوافقيه على العزومة ولا كأنك تعرفيه بقالك سنين!! ما تفوقي يا زينة جرالك ايه مالك.. نسيتي احنا بنتعامل في الشغل ازاي؟!" صاح بها ليكمل صب غضبه عليها

"أنا مقصدتش.. أنا رديت عليه من باب الذوق علشان مفيش حد فيكوا رد عليه" همست وبدأت عيناها في حبس الدموع بداخلها

"أنتي مش فاهمة حاجة.. اياكي تعملي كده تاني ولا تديله ريق عِدل !! سامعاني ولا لأ!! أنتي متعرفيش الإنسان ده حقير ازاي! التعامل معاه يكون في أضيق الحدود ويكون Formal .. ولما يقولك تاني يا زينة تقوليله يا Mr شهاب ولا بشمهندس شهاب.. الشغل شغل ولا ليه دعوة بالقرابة ولا بالصحوبية.. فاهمة ولا لأ!!" صرخ بها ثانيةً لتنهمر دموعها

"فيه ايه يا سليم أنا عملت ايه علشان كل ده؟!" همست سائلة وهي تنظر له في غير تصديق.. يستحيل أن ذلك الرجل الذي اكتسب وجهه حمرة الغضب يكون نفس الرجل الذي هاتفها وأسعدها أكثر من أي إنسان آخر على وجه الأرض

"فيه إنك مش فاهمة حاجة وجيتي عكيتي الدنيا" صاح بها متناسياً كل شيء سوى أمر شهاب الخفي الذي يرتاب سليم لظهوره على واحدة من بنات عمته

"يعني أنا غلطانة إني جيت .. ده أنا كنت جاية علشانك وعشان أشوفك" همست بنبرة مهتزة بينما جففت دموعها وسليم ينظر لها بأنفاس غاضبة متلاحقة وقد أدرك للتو أن حالة الصرع التي تعاني منها قد تعود الآن بأي لحظة بسببه كما أنه لم يقصد حقاً سوى أن يبعدها عن شهاب خوفاً عليها ليس إلا!

"بس تصدق إني غلطت.. غلطت فعلاً لما فكرت إنك ممكن يفرق معاك وجودي من عدمه! نسيت إن أنا زينة الفاشلة اللي بتخرب على الكل حياتهم.. أنا آسفة يا Mr سليم" أكتسبت نبرتها حدة ورآى تلك النظرة التي تعاند الجميع بزرقاوتيها وقبل أن تترك غرفة مكتبه التي توجها إليها هرول خلفها ليحيط خصرها موقفاً اياها لتلتفت له بإنفعال "ابعد عني لو سمحت" صاحت به ليحدق هو بزرقاوتيها

"وحشتيني" همس لها وقد شعرت هي بأنفاسه فالمسافة انعدمت بينهما منذ أن طوق خصرها بذراعه بتلك الطريقة

"لا ما هو باين فعلاً" تحدثت بتهكم وأشاحت بزرقاوتيها بعيداً عن عيناه

"كنت هموت من القلق عليكي.. وشهاب أنا مش مطمنله وخايف عليكي.. ده جزائي يعني" حدثها بينما لم تنظر له ليتلمس أسفل ذقنها مجبراً وجهها برفق على الارتفاع كي تتقابل أعينهما "زينة أنا آسف" زفرت هي وهي تنظر له ولكنها لن تصمت له هذه المرة

"فيه ايه يا سليم بجد عشان تعاملني كده امبارح والنهاردة؟ ايه اللي حصل لكل ده.. ويعني ايه مش مطمن لشهاب وخـ.." ولم تكمل كلماتها لإرتطام شفتاه بشفتيها دون مقدمات وأخذ يقبلها بطريقة غريبة قد اختلفت كثيراً عن المرة السابقة..

"أنا مش هاسمحلك أنك تـ.." تحدثت وهي تحاول أن تستنشق الهواء

"مش هاقدر يا زينة ابعد عنك.. أنا ما صدقت أأقرب منك وأشوفك قدامي تاني" همس أمام شفتيها ثم أقترب ليقبلها مرة أخرى ولكن هذه المرة شعرت به يعيق تحركاتها جيداً فأصبح ممسكاً بخصرها بيد ويده الأخرى تتخلل شعرها بينما ارتطم ظهرها بالجدار ليعلن عن محاصرته اياها ويبدو وكأنه لن يتوقف عن أفعاله تلك.. وأما عن الحقيقة التي تفزعها أنها لا تريد أن يبتعد وتشعر حقاً بالألفة الشديدة واستمتاع لا متناهي كلما أقترب منها أو قبلها..

لا تستطيع أبداً أن توقفه؛ كلما أقترب لا تجد تلك القوة بداخلها لتزجره مثلما أعتادت أن تفعل مع كل الرجال.. لا تدري لماذا تشعر وكأنها بجسدها وعقلها حقاً له هو فقط.. لا تدرك ما الذي يصرخ بها ويسيطر عليها كي لا تدفعه بعيداً.. أهو الشغف؟ لربما وقعت في عشقه بجنون؟ أو يمكن أنه أصبح يتحكم بطريقته في كل ما تملك من عواطف؟ هي بالحقيقة لا تدري ما الذي يحدث لها كلما أقترب ولكن كل ما تعرفه وتتيقن منه أنها لا تريده أن يبتعد!

"احنا.. مينفعش اللي احنا بنعمله.. ده" همست بين أنفاسها التي تحاول انتهازها عندما افترقت شفتاه عن شفتيها ولكنها لا تدرك أنها تطوق عنقه وتجذبه نحوها أكثر

"عارف.. عارف انه غلط ومش صح.. بس مش قادر أبعد عنك يا زينة، مش عارف بيحصلي ايه كل ما بشوفك قدامي" همس أمام شفتيها وعاد ليقبلها بنهمٍ شديد ليدعها تتذوق لوعة الإشتياق الذي شعر به بتلك الأيام المنصرمة وأخذ في جذبها نحوه وكأنه يريد ألا يبتعد عنها أبداً وشعر بالراحة الشديدة وجسديهما أذعنا عن شدة عشقهما بتلاصقهما الشديد ليعلنا كم بعثرهما ذلك الإشتياق ولا يريدا أبداً أن يبتعدا عن بعضهما البعض..

"سليم.. الاجتماع.. احنا في الشركة" همست وهي لا تستطيع التكم في جفنيها اللذان أغلقا رغماً عنها

"عارف.. بس مش قادر أبعد.. يولع الاجتماع على اللي فيه! مش هسيبك يا زينة" همس مجيباً اياها وهو يدفن وجهه بعنقها وأنفاسه الساخنة اللاهثة خلقت صعوبة منيعة فريدة من نوعها بأن تبعده عنها..

دفعها مجدداً للحائط خلفها وأخذ يداعبها بشفتاه بكل وجهها وعنقها.. لم يعد يستطيع مقاومتها.. لقد فقد عقله كلما أقترب منها يتمنى ألا يبتعد عنها.. لم يفعلها من قبل مع أية فتاة سواها.. لا يدرك ما تلك الرغبة التي تشعلها به لتتحول للهيب غير قابل للإنطفاء..

لماذا يجذب تلك الكنزة الرمادية التي ترتديها للأسفل؟ ألا يدري أن أحداً من العاملين أو أخواتها قد يأتي الآن وقد يراهما؟ ولكنه ممذ أن رآها وهو يتمنى أن يقبل ذراعها وعنقها المكشوفان.. لا يجد تلك الإرادة للتوقف.. لا يستطيع الوصول لنقطة التحكم بنفسه والسيطرة على رغبته بها.. أين له بها وهو يحلم طيلة سنوات بالاقتراب منها حتى يرتوي من لمساتها له؟ كيف له أن يتوقف وجسدها يصرخ أمامه بألا يبتعد؟ كل أنملة بها تتوسله ألا يتوقف.. واللعنة آناتها المستمتعة تصعب عليه الأمر وتتركه فاقداً لعقله فلا يستطيع سوى فعل المزيد..

دفع جسدها أمامه وهو يقبل ملتقى ذراعها وعنقها بمنتهى النهم أخذاً خطوات نحو الأريكة واستجابت له هي أو ربما جسدها الراغب به بأخذ تلك الخطوات معه لتلهث وتمسكت بذراعاه في شدة وكأنه قارب الحياة بالنسبة لها فلا تقوى على تركه ولا تستطيع سوى التشبث به..

"أنت.. بتعمل ايه؟" همست لاهثة أو همس عقلها الذي لا يتقبل ما يفعله منافياً لجسدها الذي أعلن خضوعه التام لكل ما يفعله "سليم أرجوك كفاية" همست مجدداً وازداد تشبثها به وعيناها الموصدتان بفعل تلك الإثارة شجعتاه لفعل المزيد

"أنا مش قادر ابعد عنك" همس بين تلثيماته لها وأنفاسه المتلاحقة لا ترأف بها ولا ترحم قلبه الذي شعر وكأنه أوشك على التحرك من مكانه ودفعها متناسياً كل معاني المنطق حتى استقرت أسفله على الأريكة

"أرجوك.. أنا مبقتش.. سليم" ملامحها المتأثرة بما يفعله وسيطرة ذلك الشغف عليها ونطقها اسمه بتلك الطريقة بل ويداها اللتان تجذباه نحوها جعلته يفقد عقله تماماً وكلماتها التي تشبه الهذيان أعلنت له أنها هي الأخرى تشعر مثله

"بلاش تبعديني أرجوكي" توسل إليها وعاد ليقبل شفتيها في شهوة شديدة ويداه تلمست أسفل كنزتها ليداعب نهديها وقد شعر بتلك الآنات المثيرة وذبذباتها بين شفتاه وانعكست على لسانه الذي يتذوق به قبلتها الشهية ليشعر بغليان دماءه في سائر جسده بفعل تلك الإثارة التي تعذبه بها وأدرك أنه لن يستطيع التوقف أبداً وهي أسفله بملامحها الراغبة به وكان على شفا حفرة من الوصول لنقطة اللارجوع عن ما يفعله ولكن أنقذها من أسفله أصرات تلك الخبطات على باب مكتبه..

تطايرت زرقاوتيها لتنظر له بفزع ورعب ليلتقط سليم أنفاسه وتوقف عن تقبيلها ثم هدأها وهو يُشير بسبابته على شفتاه فأومأت له ثم قبلها على جبينها وصاح

"مين؟" ارتفع عنها ناهضاً وهو يُجلسها على الأريكة ومن ثم ساعدها على تعديل مظهرها وقد بدأت كلتا أنفاسهما في الهدوء

"أنا أروى" تحدثت من خلف باب مكتبه

"أدخلي" أخبرها وقد ابتعد عن زينة وأخذ يتجول بغرفة مكتبه

"احنا محتاجينك تمضي العقود.. الوقت أتأخر ولسه هنروح كذا موقع" تحدثت بإنزعاج واضح وهي ترمق زينة بكره وتآفف

"هخلص مع Miss زينة وهاجي" تحدث وقد عادت نبرته الجدية الرسمية

"معلش بس احنا معانا client (عميل).. أظن Miss زينة ممكن موضوععا يستنى" أخبرته بحنق وبداخلها تتمنى أن تخرج تلك الطفلة المشاكسة من حياتها، فهي لطالما حصلت على الانتباه من الجميع والآن تأتي لينشغل سليم بها وقد تبعثرت خطتها لليوم بسببها

"أظن أنا أعرف أكتر منك ايه اللي يستنى وايه اللي ميستناش" أخبرها بصرامة زاجراً اياها عن ذلك الجدال الذي أوشكت على البدأ به وقبل أن تتفوه بكلمة سارع بإملاء أوامره عليها "اتفضلي واحنا هنحصلك" أخبرها مولياً لها ظهره وهو يتابع نظرات زينة المتوترة وحدق بها بنظرات يحاول أن يطمئنها بها

"ماشي يا Mr سليم" أخبرته وكأنما تتوعده بلهجة مليئة بالغضب والحقد الشديد بآن واحد لتتركهما متجهة نحو الباب وصفعته بعنف خلفها لتنهض زينة في ذعر وتوجهت نحوه لتنظر له في توتر

"تفتكر أروى لاحظت حاجة أو..."

"هششش.." قاطعها ثم قبل جبينها بعد أن أحاط وجنتيها بكفيه "محدش ليه حاجة عندنا ويولع اللي يلاحظ.. اه أنا مش عايز أستعجل حاجة ما بينا بس أنا مش فارق معايا أي حد.. وحتى لو الدنيا كلها لاحظت يا زينة أنا مش خايف من حد" حدق بزرقاوتيها في عشق خالص وقبل أن تتحدث هي بادر هو بالكلام "أرجوكي حاولي النهاردة تسمعي كلامي علشان منشدش مع بعض ونتخانق.. أنا هفهمك كل حاجة بعدين.. بس إن كان ليا خاطر عندك بلاش متسمعيش كلامي.. اتفقنا؟" نظر لها في توسل لتومأ له هي بالموافقة ليبتسم لها بعذوبة "يالا بينا نروح نكمل؟!"

"يالا" أخبرته وهي تبادله الابتسامة ليحتوى يدها بين يده في رفق واتجها سوياً نحو باب غرفة مكتبه حتى يعودا للإجتماع وأخذ يملي عليها بهدوء ما عليها فعله حتى يمر اليوم بسلام..

--

 

دلفا سوياً أسفل أنظار الجميع، هو بطلته الرسمية وتتبعه زينة التي تحاول تناسي ما حدث منذ دقائق، حقاً لا تستطيع التركيز، تريد أن تُمسك بدفترها وتبوح له بكل ما حدث، تريد أن تسأله العديد من الأسئلة التي لا تجد إجابة لها..

لم تلاحظ الأعين التي تفرستها بكراهية، لم يكن ينقص أروى سوى حضور زينة التي من وجه نظرها تستحوذ على وقت سليم بحجة أنها لا زالت تحت التدريب وتفتقر الخبرة ولابد أن يتواجد معها طوال وقت العمل حتى تستوعب كيف يسير العمل.. وحتى بعد وقت العمل فهي تذهب لمنزل خالها بدر الدين؛ أو بالأخص المنزل الذي يتواجد به سليم.. فهذه كانت عادتها منذ الصغر، ولكن لا، ستعمل جيداً على ألا تستحوذ زينة على وقته بتلك الأنانية الشديدة.. ستوقفها عند تصرفاتها الطفولية التي لازمتها منذ الصغر، فليس على الجميع طوال الوقت أن ينصاع لتلك الصغيرة المتطلبة.. هذا وقت أروى وأروى وحدها ولن تسمح لأحد حتى ولو أختها أن تتعدى على ما يخصها أو أن تعطل خطتها التي جلست لليالٍ تحيكها..

تبدو بأنها تغيرت بتلك الدقائق، ماذا حدث بينهم؟! وبم أخبرها؟ تلك الفتاة التي تتبع سليم الآن وهي تجلس بهدوء شديد غايرت كثيراً الفتاة التي صافحته وابتسمت له منذ قليل.. لا يُصدق أنه عليه التعامل الأيام القادمة مع طفلة مثلها.. عليه أن يتبع أسلوباً جديداً مختلفاً عن منهج شهاب الدمنهوري الذي يعامل به الجميع.. نعم عليه أن يخالف نفسه وشخصيته ولكن الغاية تبرر الوسيلة.. قليلاً من الإهتمام الزائف، الحنان المزيف، الإبتسامات المصطنعة والكثير من التحمل وسيستطيع ببراعة أن يصل لكل ما يريده.. سيعرف أين هو عمه، سيدمر تلك العائلة، وكذلك وليد.. مسألة وقت ليس إلا!! أو هكذا ظن!

"حمد الله على السلامة يا زنزون.. مش كنتي يا بنتي تقولي كنت روحت جيبتك من المطار؟!" تحدث لها إياد بنبرة خافتة بينما يوقع سليم العقود

"الله يسلمك.. قولت أكيد الكل مشغول وكمان حبيت أعملها مفاجأة" همست مجيبة ولم تلاحظ أعين شهاب وسليم وهما يرمقاها بين الفينة والأخرى

"كنت هاتصرف أكيد.. المرة الجاية بقا متعمليهاش تاني.. ووحشتيني يا صغنونة"

"وأنت كمان وحشتني يا إياد.. وحاضر خلاص.. هابقا أظبط الدنيا معاك قبل ما آجي" أخبرته ولكنها شردت بزرقاوتيها تجاه سليم وقد سبحت بعقلها بعيداً في أعماق تلك البحور من اللذة التي شاركاها منذ دقائق

"ايه يا بنتي روحتي فين؟" همس سائلاً

"ها.. أنت كنت بتقول حاجة؟!" التفتت له واجابته سائلة

"لا شكلك مش هنا خالص.. بس هقولك تاني.. ماما امبارح بهدلت الدنيا وشدت جامد مع سليم وتقريباً سمعتها بتكلم خالي، وأروى أختك مش جايباها لبر.. حاولي كده تهدي الدنيا معاها احسن الموضوع زاد عن حده اوي من ساعة ما انتي ما سافرتي" حدثها بنبرة امتلئت تحذيراً

"بص.. أنا هاقعد يومين عند خالو وبعدين ابقا اجي.. بجد يا إياد أنا معنديش استعداد لخناق ومشاكل"

"حاسس أصلاً أنها مبقتش طايقة موضوع إنك تفضلي عند خالو.. فأنتي حاولي توازني الأمور على ما ترجعي تسافري تاني"

"يووه يا إياد بقا!! أنا مش هاخلص يعني من الموضوع ده" صاحت بنبرة عالية لتلتفت جميع الأعين إليها لينظر لها سليم بتلهف وكأنما يستفسر عما يحدث بينما رمقها شهاب بإهتمام شديد وها هو سيأخذ الموقف لصالحه فلن ينسى أن يسألها ماذا حدث حتى تغضب هكذا وعاصم نظر لها كذلك بإستغراب أمّا أروى فلم تعد تتحمل دلالها الطفولي المبالغ به كما تعتقد!

"بعد إذنك ممكن هدوء عشان نركز!" حدثتها بنبرة زاجرة وكأنها لا تهتم بما قد تمر به حقاً لينظر لها سليم بطرف عيناه وهو يتمنى أن ينهيها عما تفعله ولكن لن يسمح أن يرى شهاب ذلك يحدث بينهم وهم عائلة!

"أنا ماشية خالص أهو علشان ترتاحوا.. Mr سليم أنا في مكتبك.. Mr شهاب ياريت وقت ما تيجوا تتحركوا عشان الموقع تبلغوني.. بعد إذنكم!" تحدثت وهي تحاول منع نفسها من البكاء ثم أمسكت بحقيبتها ودفترها الأسود الذي لا يفارقها وتوجهت بسرعة للخارج..

--

   

"لماذا لا تنتهي أوجاعي؟ ولماذا لازلت لا أتتحمل ذكر سيرة والدتي أمامي؟! لماذا تعترض على كل شيء أفعله؟ لماذا لا تكتمل فرحتي بسببها دائماً؟ ولماذا تعاملني أروى هكذا أمام الجميع؟!

لقد سأمت هذا، ربما كان قراري بالعودة مبكراً لم يكن صائباً أبداً.. لقد تسرعت كثيراً .. نعم أنا سعيدة للغاية برؤية سليم، وبنفس الوقت عدت لتلك الموجات الضبابية من الحزن ..

فالعائلة كما هي، بنفس عدم تقبلهم لي، ربما إياد أخي هو الوحيد الذي أشعر وكأنه يتقبلني ولكن يبقى الوضع دائماً كما هو عليه!!

وما الذي يحدث لسليم منذ أمس؟ غضب ثم غزل.. وكذلك اليوم يعيدها .. غضب ثم غزل، الكثير من الغزل مجدداً..

لماذا لا يتقبل شهاب بل وتتبدل ملامحه تماماً عندما كان يُملي علي ما الذي يجب أن أفعله معه؟ أتذكر أنه لقبه بالحقير.. لماذا يكرهه هكذا وماذا فعل شهاب له حتى يغضبه بهذا الشكل؟

وكيف لي أن أسمح له بتلك السهولة أن يتقرب مني مجدداً.. كيف تناسيت غضبه علي ومحاولته لفرض كل ما يريده علي واستجبت له في ثواني؟ أين تلك الفتاة التي أعتادت أن تقف كالجدار الصلب في وجه الرجال وتمنعهم حتى على التحدث معها؟ ما الذي يحدث بيننا حقاً وهو الذي كلما سألته يجيبني بأنه لا يريد التسرع واستعجال الأمور!! اللعنة ما الذي يحدث لي؟!!

صديقي الأسود، لم تكن سعادتي مثلما توقعت.. سأوفيك بالبقية لاحقاً.. وداعاً الآن فأحدهم قد دلف الغرفة"

رفعت زرقاوتيها وهي توصد دفترها لتجد سليم مقبلاً نحوها بملامح هادئة نوعاً ما لتنظر له هي بحزن ومزاج غير رائق ليقترب منها وقدم يده إليها لتتلمسها في تردد ثم جذبها بخفة لتنهض وهو لا يزال محدقاً بعينيها

"احنا رايحين دلوقتي نستلم المباني، المفروض الموضوع ده يخصك بس أنا مش عايزك تكوني لوحدك وأنتي أول مرة تعملي حاجة زي دي.. خاللي فيه حدود يا زينة وأتعاملي في اطار الشغل مش أكتر من كده" تلمس وجنها بأنامله وعينتاها المستفسرتان تبحثا عن إجابة بعيناه

"متنساش يا سليم إنه قريبنا.. وأنا اتعاملت عادي.. وكمان لما محدش فيكو رد على موضوع العزومة أنا رديت من باب الذوق مش أكتر.. ممكن تفهمني أنت ليه بتكرهه اوي كده؟!" لا يستطيع أن يخبرها أنه شخص حقير قد شارف على تدمير حياة فتاة وأسرة بأكملها، وحتى لو أستطاع إخبارها هل ستدرك ما يعنيه حقاً؟ أيُمكن لفتاة بعمرها ببراءتها وانعزالها بتلك التعقيدات بحياتها أن تتقبل الحقيقة التي عرفها!! هو يعرف زينة جيداً، تبحث عن الإجابات منذ صغرها.. يمكن بمنتهى السهولة أن تتحدث مع شهاب بهذا الأمر، قد تنخدع بتلك الصورة التي يرسمها ببراعة أمام الجميع وبذلك الوقار الذي يزيفه "سليم!" نادته لتستمع منه إجابة بعد أن طال تحديقه بها أكثر من اللازم

"بكرة هتعرفي كل حاجة.. يالا دلوقتي علشان منتأخرش" همس مخبراً اياها وأقترب منها ليقبلها على جبينها لتشعر هي بتعالي خفقات قلبها التي تواتيها كلما أقترب هو منها

"هو أنت ليه مش بترد على كل أسألتي؟!" صممت على الحصول على إجابة فهي لن تتوقف قبل أن تعرف لماذا يرفض سليم طريقتها تلك مع شهاب.

"علشان كل حاجة وليها وقت.. يالا علشان كلهم سبقونا والمفروض إننا هنروح مع بعض.. ولا مش عايزة تروحي معايا؟!" نظر لها بإستفسار وقد عادت نبرته المرحة الآن

"لا مقصدش.. أكيد عايزة أروح معاك"

"انتي بكاشة.. وقال عايزة تعمليلي مفاجأة وبتاع وأنتي أصلاً مش طايقاني"

"أنا بس اتضايقت واستغربت عصبيتك الـ Over دي" أخبرته بإنزعاج ليتركها ويُمسك بحقيبتها من خلفها وكذلك دفترها الأسود الذي لا تفارقه ليناولها اياهما

"بس شوفتي المسكن الجامد اللي اخدته بعدها.. خلاني انسى كل حاجة" أخبرها وهو يغمز لها بعينه

"بص بقا آخر مرة تقرب مني كده.. مش هاسمحلك يا سليم" تحدثت بلهجة ناهية وهي تتصنع الحزم بينما جذبها من يدها نحو الباب

"يا شيخة.. طب بس لما ابقا أقرب تاني ابقي امسكي نفسك أنتي!!" رمقته وشرار الغضب يتطاير من زرقاوتيها "بس عليكي حضن يجنن" غمز لها مجدداً لتشعر بالخجل

"سليم بجد متهزرش في الموضوع ده"

"حبيبتي ده مش هزار.. أنتي اللي حلوة أوي ومبقتش عارف أمسك نفسي قدامك.. مش قولتلك قبل كده إني غلبان وحالي يصعب على الكافر"

"يوووه بقا يا سليم"

"تعالي بس تعالي عشان منتأخرش وبعدين هبقا اديكي بوسة تانية" حلقت زرقاوتيها في صدمة من كلماته الجريئة

"بطل سفالة بقا"

"سفالة!!" توقف أمام المصعد وهو ينظر لها في عدم تصديق

"آه أنا مش لاقية تفسير ليها غير كده" عقدت ذراعيها وهي تشيح بنظرها عنه وما إن فُتح باب المصعد حتى دلفته وتبعها هو وهو يبتسم في غيظ شديد من كلمتها

"تمام.. تعالي بقا اوريكي السفالة" وقف أمامها ما إن أُغلق باب المصعد لتنظر له وهي تعود خطوات للخلف

"سليم!! أنت هتعمل ايه؟!"

"هعرفك يعني ايه سفالة بجد" رفع حاجباه لها بينما هي تنظر له بتوتر "ايه خوفتي مني؟!" سألها وهو مقبل نحوها حتى اصطدم ظهرها بنهاية المصعد "بعد كده تبقي قد كلمتك!!" أقترب أكثر ويداه تحتوي وجهها بأكمله

"سليم لو سمحت أنا مش هاقبل إني أعمل الحـ.." توقفت من تلقاء نفسها عندما قبلها على جبهتها

"بعد كده نمسك لساننا.. أنا عمري ما هاجبرك على حاجة أنتي رافضاها.." همس مخبراً اياها ثم ابتعد عنها ووقف بجانبها لتنظر هي له في تعجب ولم تدري ما عليها قوله وشعرت بالتخبط بداخلها تجاه كل شيء..



--

حاولت أروى التوصل لطريقة حتى تزيح زينة من طريقها، فتلك المدللة بشدة تستحوذ على وقت سليم، فهذا ليس وقتها أبداً، تأتي لتوقف الإجتماع، تذهب مع سليم لمكتبه والآن هي معه بسيارته!! عليها أن توقفها عن تلك التصرفات مهما كلف الأمر!! وهي كذلك قد لاحظت تعلق سليم بهاتفه طوال الأيام الماضية، فبالطبع هناك فتاة أخرى تجعله منشغلاً.. فهي ليست بالغبية، ولكن التعرف على تلك الفتاة سيأخذ منها وقتاً بلا محالة، فكيف لها أن تتفرغ للأمران.. ستزيح زينة من طريقها أولاً ثم سترى ما الذي عليها فعله تجاه تلك الفتاة التي لم تعرفها بعد..

كما أنها لن تتركه أن يبتعد عنها، عليه أن تتغلغل بوقته كاملاً بالشركة، كما أنها أيضاً عليها أن تختار الحجج المنطقية حتى يكن بجانبها بعد أوقات العمل دائماً.. تنهدت وهي غارقة في التفكير بينما ناداها عاصم الذي كان يجلس بجانب إياد الذي يقود السيارة

"يا أروى أنتي مش سامعاني كل ده"

"فيه ايه يا ابني انت"

"فيه إني بقول أنتي هتروحي حوار العزومة ده ولا ايه اللي قال عليه شهاب!" تريثت قبل أن تجيب، فهي بالطبع ستذهب إذا ذهب سليم ولن تذهب إذا لم يوافق

"استنى لما نبقى نتجمع ونشوف الكل هيعمل ايه" اجابته بنفاذ صبر بعد أن قاطع أفكارها ولكنها ظنت أن إياد قد يعلم بنية سليم مسبقاً "وأنت يا إياد هتروح؟" سألته ليرمقها بأنظار غاضبة بمرآة السيارة الداخلية ولم يجيبها "أنا مش بكلمك يا إياد؟!" صاحت مجدداً بعد عدم إجابته ولكنه اختار الصمت مرة أخرى "آه بقا أنت لسه مقموص من امبارح.. شغل عيال يعني.. براحتك"

"ايه ده هو حصل ايه امبارح؟!" تسائل عاصم في تعجب

"معرفش شافني أنا وسليم بنتخانق علشان روحت اتعشيت مع شهاب وقال ايه بيعترض على هدومي اللي لابساها"

"لا تقصد تقولك هدومها اللي مكانتش لابساها" هنا تدخل إياد "وكمان بتهزأ زينة قدام الناس بأسلوبها.. أنا مش فاهم آخرة أختك دي ايه.. مفيش دم ولا إحساس أبداً"

"وهي أختك دي يعني ملاك نازل من السما!! ما هي جت وعملت الحركتين بتوعها وبعدين كمان قاعدة بتزعق قدام شهاب.. ده منظر بذمتك" صاحت بإنفعال

"يالا عادتك ولا هتشتريها.. طول عمرك مش عاجبك أي حاجة زينة بتعملها.. خليكي كده يا أروى بس يكون في علمك طريقتك دي اخرتها وحشة اوي"

"يا جماعة ما تهدوا فيه ايه لكل ده؟" صاح عاصم ليحاول أن ينهي ذلك العراك بين كلاً منهما ولكنه بالحقيقة لا يكترث ما الذي حدث ولم يلفت نظره ما قاله إياد عن ملابس أخته ولا حتى استفسر عن معرفة سبب غضب زينة

"أنا فعلاً غلطان إني اتكلمت" غمغم إياد بعصبية وحاول التركيز بالطريق أمامه

"محدش ضربك يعني على ايدك عشان تتكلم!! أنت اللي اتكلمت من نفسك .. نقطنا بسكاتك بقا" حدثته بعنجهية وانفعال

"أنتي عايزة توصلي لإيه بالظبط بكلامك ده؟" صرخ إياد بها وهو يصف سالسيارة على جانب الطريق ثم التفت لينظر لها بالمقعد الخلفي للسيارة "يعني أنا وابن خالك غيرانين عليكي عشان منظرك مش كويس قدام واحد منعرفهوش يبقا احنا اللي غلطانين؟ وزينة اللي بتتعب من أقل حاجة وأنتي فاهمة أنا أقصد ايه كويس، ليه واقفالها الند بالند .. ما ترحميها وترحمينا وتعقلي بقا ولا أنتي شايفة إن محدش بقا قادر عليكي!! لمي نفسك بقا!"

"ما تتكلم بإحترام .. هو أنا عملت ايه علشان كل ده.. وبعدين أنا كنت مع ابن عمي مش مع حد غريب" صاحت به وكأن كلمات أخيها لم تهز برأسها ولو شعرة واحدة

"واحد منعرفهوش لسه!!" صاح بها إياد

"ومش هو ده اللي سليم جابه وقال ما دام شغل يبقا مفيش مشكلة، وأنت كنت مرجح الشغل معاه.. ايه علشان سليم قلب عليه تقلب أنت كمان؟!"

"ومش هو ده اللي مدام هديل يا بنت مامي قالت صحصحوله ومنآمنلهوش.. ايه نسيتي؟! الشغل حاجة يا هانم والسهر والمرقعة حاجة"

"أنت قليل الأدب وازاي تكلمني بالأسلوب ده.. ومالكش أصلاً حاجة عندي!"

"خلاص بقا يا جماعة .. كفاية خناق كده خلينا نلحق الناس" تدخل عاصم وهو يحاول إنهاء هذه المعركة المحتدة بينهما

"أنا فعلاً غلطان اني جيت معاكم.. في ستين سلامة" ألقى إياد مفاتيح السيارة لأخيه ثم ترجل منها للخارج وقد سمع مناداة أخيه له ولكنه لم يكترث بينما نهت أروى عاصم أن يناديه وتناولت المفتاح منه لتترجل وشرعت في القيادة بعد أن رمقت إياد بغضب لاذع


--


        

بعد ذلك الصمت الذي تقاسماه بالمصعد وكذلك بالسيارة منذ أن شرع سليم بالقيادة وتلك النظرات المتبادلة بينهما بين الفينة والأخرى شعرت زينة بأن تلك الأسئلة لا زالت تلح على عقلها بشدة..

"بردو مش هتقولي آخرة عمايلك ايه يا سليم؟!" حدقت به زينة وهي جالسة بالمقعد الجانبي للسائق والتفت بالمقعد لتجلس القرفصاء وهي تعطيه كامل اهتمامها ليلتفت هو لها ثم أعاد نظره ليسلطه على الطريق

"عايزة تعرفي ايه؟!" زفر بإرهاق

"تغييرك اللي اتغيرته معايا.. كل شوية تقربلي.. مبقتش بتقولي غير حبيبتي ووحشتيني.. مكالمتنا اللي بالساعات.. وأرجوك متقوليش إنك مش عايز تستعجل حاجة ما بيننا.. أنا تفكيري في الموضوع ده تاعبني وأنا مش فاهمة أنت عايز ايه يا سليم بعد كل ده" دفعته نبرتها المتوسلة وتلك الحيرة البادية بزرقاوتيها للإستسلام التام وقرر أن يعطيها ولو جزءاً شافياً حتى يداوي تلك الحيرة التي تؤلمها

"بصي.. هارجع وأقولك إني مش عايز استعجل حاجة وعايزك تكوني متأكدة من قرارك معايا.. أنا عايز أتأكد من مشاعرك ليا.. والأهم إنك تكوني متأكدة من ده وواثقة في اختيارك"

"أنا متأكدة صدقني.. وعارفة كويس أنا بـ.."

"زينة!" قاطعها متلمساً يدها ونبرته آتت هادئة للغاية "مش معنى يومين حلوين وذكريات جميلة ما بيننا يبقا كده خلاص ونبدأ نحضر للجواز.. افهميني أقصد ايه.. سليم اللي بيتعصب عليكي في الشغل.. اللي بيزعق.. واثقة فيه؟ واثقة في مشاعرك من ناحيته؟ قابلاه بكل عيوبه وطريقته ولا لأ؟ ولو عملت أي حاجة مش عجباكي، مثلاً زي الموقف اللي حصل من شوية ساعة الإجتماع.. أنتي في ثواني رجعتي لزينة الإندفاعية اللي بتعند وخلاص من غير ما تصبري شوية وتشوفي أنا بعمل كل ده ليه!" رمقها بقليل من اللوم والشجن وقبل أن تتحدث صدح هاتفه بالرنين

"أيوة يا إياد" اجابه ثم عقد حاجباه في استغراب "طيب خلاص هاعدي عليك.. ابعتلي Location" .. "تمام.. سلام"

"ماله إياد؟!" تعجبت زينة وقد تناست حديثها مع سليم

"مفيش.. ساب اخواتك ونزل.. شكلهم شدوا هما التلاتة مع بعض" أخبرها لتزفر زينة في تآفف ثم شردت بنظرها بالطريق أمامها ثم تمتمت

"أنا مش عارفة لغاية امتى هنفضل كده.. دايماً مش متفقين وخناق وزعيق وأحزاب.."

"معلش.. بكرة كل حاجة هتكون تمام.. إياد كويس، عاصم إنسان كله على بعضه غلبان، آسر بردو مكبر لكل حاجة ومش بتاع مشاكل.. هي بس أروى، حاولي تظبطي الدنيا معاها" التفتت له لترمقه بلوم زرقاوتيها

"دايماً بحس إنها مبتحبنيش من وأنا صغيرة.. مش عارفة ليه!" همست له بنبرة حزينة ليلتفت مبتسماً لها ثم ربت على يدها في حنان

"مفيش حد بيكره اخواته يا زينة.. أروى بتحبك، مشكلتها أنها عايزة كل حاجة على مزاجها، فأنتي حاولي بردو تقنعيها بطريقتك شوية وشوية تصاحبيها وحسسيها إنك بتاخدي رأيها والدنيا ما بينكوا هتمشي" تنهدت في قلة حيلة وشردت مجدداً بالطريق لتلمح إياد على جانب الطريق ليصف سليم السيارة أمامه ودلف هو بملامح منزعجة بشدة ولم يتفوه بحرف!

"ايه يا إياد مالك شكلك متضايق؟!" تحدثت زينة سائلة

"معلش يا زينة سيبيني اهدى شوية وبعدين نبقا نتكلم!" اجابها بإقتضاب لتتعجب زينة ولم تُفكر أن تحاول الحديث معه مرة أخرى

"جرا ايه يا وحش ما تفكها" صاح سليم وهو يرمقه بالمرآة الداخلية للسيارة

"سليم مش طالبة هزار" بادله النظرة ولكن خاصته كانت غاضبة

"يا عم ما خلصنا بقا.. فوق وروق كده لسه ورانا حوارات ابن عمك اللي طلعلنا في البخت ده ومحتاجك تصحصح معايا.."

"يعني عاجبك اللي أروى بتعمله ده !! هي لغاية امتى هتفضل ماشية ورا دماغها كده؟ ليه مبتشوفش إني خايف عليها!" صاح غاضباً لتتدخل زينة بالحديث

"هو فيه ايه اللي حصل؟"

"معلش يا أبو حمزة اهدى وصلي على النبي.. أنت أول مرة تعرف أروى ولا ايه؟!" أخبره سليم وهو يحاول أن يمازحه ليزداد تعجب زينة

"حمزة مين؟!"

"ده ابنه المستقبلي" همس لها سليم لينفجر إياد غاضباً

"ما قولتلك مش وقت هزار"

"الغيرة اشتغلت بقا.. الله يساهله يا عم"

"ما تتلم يا سليم جرا ايه!" صاح به بمنتهى الحنق

"أنا مش فاهمة حاجة يا جماعة.. غيرة ايه ومين حمزة؟" التفتت بمقعدها كالأطفال لتنظر لكلاً منهما ليشرع سليم بالحديث

"أنا افهمك.. أصل الباشا إياد اللي فاكر إن محدش واخد باله بيموت في بنت خـ.."

"سليم!! كلمة كمان وهاسيبك.. ولو راجل كده احكي الموضوع لحد" تحدث بغضب ليقاطعه فهو لا يريد أن يعرف أحداً من أسرته بعلاقته بأسما

"راجل غصباً عنك ياض.. بس عشان ابن عمتي حبيبي همسك لساني.. وعشان أنا ابن خالك حبيبك هتروق وتسيبك من العكننة اللي أنت فيها دي"

"طيب اديني كويس اهو واتلم أنت"

"تعرف لو مكنتش سايق كنت دغدغتك"

"يا عم ما تهدى بقا.. عاملي فيها اندرتيكر.. ما تتهد شوية"

"لا بقا بصوا أنا مش هتحايل عليكو!! ايه حوار أبو حمزة ده؟! تقولولي حالاً.."

"تدفعي كام وأقولك؟!" ابتسم سليم ورمق إياد بالمرآة لينظر له الآخر محذراً

"اللي أنت عايزه بس أعرف حالاً"

"اياك!! أنا بقولك أهو" صاح إياد

"اتلموا بقا عشان خلاص تقريباً وصلنا .. نبطل شغل عيال شوية ولينا بيت يلمنا نبقا نشوف الحوار ده" تحدث سليم وهو يصف السيارة وترجل منها الجميع بينما أخذت زينة حقيبتها وهي بمنتهى اللهفة لمعرفة ذلك الأمر الذي يعرفه سليم عن أخيها

"لا أنا مش هاعدي الموضوع.. تقولوي حالاً"

"انسي.. احنا جامدين أوي.. الداخل بيني وبينه مفقود" أخبرها سليم بصوت منخفض بينما أقترب منهم شهاب

"إيدو يا روح قلب أختك.. قولي فيه ايه عشان خاطري"

"بس يا ماما اهدي.. مفيش حاجة وسليم بيهيس"

"طب أنت يا سليم.. يهون عليك الزوزا؟!" أخذت تتنقل بينهما كالطفلة الصغيرة ولكن لا يعطيها أحد منهما إجابة شافية ولا يقابلاها سوى بالضحكة المستفزة تلك وعبارات الرفض

"حمد الله على السلامة.." تحدث شهاب بنبرته لترمقه زينة بزرقاوتيها ولكنها عادت مجدداً لكلاً من سليم وإياد لتنظر لهما بغضب لتحذرهما بصوت لا يسمعه سواهما

"لو محدش قالي لغاية النهاردة بليل هذيع الخبر لكل حد أشوفه قدامي وأفضل احكي اللي حصل لغاية ما حد يجاوبني.. هه بس بقا!!" تحدثت كالطفلة المنزعجة بدلال تلقائي ليضحكا هما على ملامحها المنزعج ليتعجب شهاب ولكنه ترك ذلك الأمر بعيداً

"اتفضلوا.. أروى وعاصم مستنينا" أومأ لهما تجاه المبنى بينما أنزعج من ضحكاتهما التي لا يجد له مبرر ولكنه رسم ملامح الهدوء على وجهه ببراعة

"رخمين!! بطلوا ضحك بقا!!" صاحت بهما لتكثر ضحكاتهما بينما توجه الثلاثة نحو المبنى وهم يتركوه خلفهم ليزفر شهاب في حقد وأشاح بنظره للأرض شارداً وهو يكاد ينفجر غيظاً من هؤلاء الأطفال الحمقى ولكنه عقد حاجباه في تعجب ليلاحظ دفتراً أسود اللون أسفل احدى السيارات من ناحية الباب الجانبي للسائق..

يبدو هذا الدفتر مألوفاً!! أين رآه؟! نعم يتذكر أنه رآه بمكان ما!! أقترب منه ثم رفعه إليه وهو يحاول التذكر أين رآه ومع من وما ان فتح الدفتر ليجد بأولى صفحاته كتابة بالعربية، أسطر امتلئت كلمات باللون الأسود وبعدها بعض الأسطر بالقلم الرصاص.. فبدأ بالقراءة

"مرحباً أيها الصديق.. أنت تعرفني.. أتظن ذلك؟! أو لربما أنا أظن ذلك.. أنا زينة.. زينة كريم الدمنهوري التي كنت أحدثك بأوراق سابقة..

أنا أتحدث كثيراً أنا أعلم.. لذا لم تكفي صفحاتك السابقة يا رفيقي.. كان علي إكمال تلك الضوضاء الكامنة بداخلي بدفتر جديد..

سنتحدث سوياً عن الماضي، سأبكي، سأخبرك بقصة حياتي التعيسة من جديد.. أو لربما سأذكرك بقليل من الأحداث القديمة، والكثير من يومياتي..

أعتذر لك ولكن وجب علي القول، مرحباً بك في يومياتي السوداء.."

تلاشت عقدة حاجباه شيئاً فشيئاً وارتسمت الإبتسامة على شفتاه كلما تلاشى غضبه، ما وجده الآن لا يُقدر بثمن.. ها هو يُمسك بين يداه أسرار الفتاة التي يريد أن يتقرب لها.. يا له من حصاد هائل..

"مستني حد ولا ايه؟!" اتاه صوت سليم من خلفه ليعقد حاجباه وأخفى الدفتر مسرعاً خلف سترته ثم التفت إليه بملامح سيطر عليها بكل براعة ليبدو الوقار عليها

"لا اتفضل.." أخبره وكاد أن يخطو ليوقفه سليم متحدثاً

"مينفعش على فكرة تسيب ضيوفك.. ولا اه آسف.. نسيت إن مش كل اللي بيبان على الناس بيبقا صح" عقد شهاب حاجباه في استفسار

"نعم!!" آتت نبرته متسائلة ليبتسم له سليم بسخرية ثم حدق بعينيه الداكنتين حتى يوصل له الرسالة التالية ثم تحولت ابتسامته لضحكات ليشعر شهاب بالغضب الشديد ولكنه كالعادة سيطر على غضبه

"كان فيه مثل كده زمان بيقول ايه.. من برا هالله هالله ومن جوه يعلم الله.. عارف أنت المثل ده؟!" توقف عن الضحك ثم نظر له بإحتقار ثم لم يفهم شهاب ما يقصده وشعر بالغضب يجري بدماءه ولكنه لا يبارى في سيطرته على ملامحه أمام الجميع ليبتسم لسليم بوقار

"تقصد ايه؟!" سأله وهو بكل ما امتلك من حواس يود لو يقتله حياً بين يداه الآن

"لا متشغلش بالك.. سيبك من الحاجات الشخصية خليها على جنب.. ويالا عشان ورانا شغل" تركه سليم بعد أن رمقه بإحتقار شديد لا يدري شهاب ما الداع له ليصر أسنانه بعنف ثم ذهب يتبعه وبداخله بركاناً في أشد أوقات تأججه ليقسم على أن ينتهي من أمر تلك العائلة بأسرع وقت ممكن!!




--
الفصل السابع عشر

 

لا يدرك معنى كلمات سليم إلي الآن، إلي ماذا يرمي؟ ما الذي يقصده؟ بالطبع هو يقصد شيئاً بتلك الكلمات التي دسها له بطريقة السخرية تلك التي حدثه بها.. وما نظرات الإحتقار تلك!! أتأتي أنت أيها الصغير كي تتحدث عن العمل ومن ثم أمور شخصية!! حسناً أيها الطفل المغرور.. هيا بنا لنستكشف تلك الأمور الشخصية سوياً..

"فاكرني هخاف بالكلمتين دول مثلاً.. ده أنت تبقا أهبل وعبيط أوي.. أنا هوريك مين بقا شهاب.. بترميلي كلام من تحت لتحت، حلو أوي!! يالا بقا نبدأ الشغل الصح اللي من تحت لتحت على أصوله" ابتسم بداخله ثم أومأ للجميع متحججاً بمكالمة هاتفية وابتعد عنهم حتى يستطيع أن يلهو مع ذلك الطفل! أو هكذا ظن..

"سليم بدر الدين الخولي.. أظنك تعرف الإسم!! تراقبه ومتسيبهوش ولو ثانية واحدة.. فلوسك هتوصلك قبل ما توصلي حرف.. بس إياك يوصلني خبر عنه من حد غيرك.. تمام.." أنهى مكالمته وهو يلمحه بداكنتيه من بعيد ذلك الطفل الذي يتظاهر بتحمل المسئولية، يزييف أنه رجل العائلة.. الرجل الذكي الذي لا يُبارى.. حسناً فلنرى من هو الرجل المسئول، كبير العائلة، الذكي.. غداً ستتكشف الحقائق وستعلم أيها الطفل المغرور مكانتك حقاً.. فكر بإبتسامة هادئة ثم عاد ليلحق بالجمع حتى لا يتغيب عنهم أكثر من ذلك..

-

"هو اشمعنى النهاردة مش لازق في موبيله.. يا ترى بقا متخانق مع الهانم، ولا هي اللي منفضاله؟! بكرة هعرفها ويومها مش هاعتقها.. وبعدين أنا ما صدقت أخلص من الموبيل يسيبه والاقيه لازق في زينة وإياد ولا كأني أنا وعاصم موجودين!! أنا قرفت بقا من زينة وإياد.. لازم ابعدهم عنه بأي طريقة، سليم كأنه مش شايفني.. مقضيها ضحك وهزار وبيكلم شهاب من طرتوفة مناخيره.. هو ليه كل ما أتقدم خطوة أحس إني رجعت عشرة لورا!! بس لأ مش أروى يا سليم.. فاكرني سهلة!! يبقا متعرفش عني حاجة!"

أخذت تلاحظ بعيناها تصرفات الجميع من حولها، لا هي لن تكون الخاسرة أبداً، ستجذب سليم إليها، ستجعله يقع بعشقها، ستتخلص فقط من أخواتها حوله، ومن تلك الزائرة غير المرغوبة التي آتت من اللامكان، وبعدها ستحصل على كل ما حلمت به منذ زمن بعيد!

-

لو كانا فقط بمكان غير المكان لكان آسرها بأحضانه، بعيداً عن تلك الضوضاء، عن ذلك العمل الذي لا ينتهي، عن هذا الحقير الذي ينظر لمحبوبته الصغيرة بعينا الصقر تلك التي يملكها، لا.. لن يسمح له أن يقترب منها أبداً.. ولو بعد مائة سنة لن يفعلها!!

لا أحد يدري مقدار ذلك الحب الذي يحمله بداخله تجاهها، ذلك العشق الذي نما بطفولته، ذلك الحب الذي غرر صباه، ذلك الإنجذاب والوله والشغف الذي احتل رجولته، لقد استعمرت كيانه تلك الصغيرة ولم يعد يستطيع الإنتظار.. ولكنه بالرغم من موته عشقاً وشوقاً يوماً بعد يوم، لا بل ثانية بعد ثانية لأن تكن تلك الفتاة زوجته، عليه أن يتيقن أولاً من ثباتها على رأيها وموقفها، عليه أن يتأكد من مشاعرها ولكن أين له بالصبر؟!

لقد صبر منذ التاسعة، عشرون عاماً من الصبر، يخطو نحو الواحدة وعشرون عاماً من تلك الوحدة الكريهة دونها، دون أن يستيقظ ليراها بين ذراعاه، لقد سأم!! لقد سأم ومزقه العشق، أصبح فتاتاً في مهب الريح، يتطاير هنا وهناك بهواء العشق وهو لا يدري بعد أهو يعد واحداً منهم ستهرول إليه معشوقته بعد كل تلك الأعوام من الإنتظار أم فقط عاشق صامت لا تشعر محبوبته به؟!

"أنا مبقتش قادر أشوفك قدام عنيا من غير ما أجري عليكي أحضنك.. نفسي امسك ايديكي قدام الناس كلها وأبطل أخبي نظراتي ليكي!! آخرك يا زينة معايا يوم خطوبة سيدرا.. بعدها مش هتسافري إلا وكل الناس عارفة إنك حبيبتي!" تحدث لنفسه وهو يسرق النظرات إليها ولم يستطع سوى أن يُكمل مسلسل العمل السخيف ولكن يبقى أفضل من الأيام المنصرمة.. فهي بجانبه ولا يحتاج لشيئاً آخر..

تنقلت أفكار سليم من الخوف التام عليها لتغرق ببحور عشقها وقد سأم المقاومة!! حسنا فليذهب أينما أخذته تلك الأمواج العاشقة كيفما أرادت..

-

"هو أنا ليه متلخبطة كده.. سايباه يتكلم، يتعامل، يعمل كل حاجة هو عايزها وكأني مش جنبه.. بس أول مرة أكون مبسوطة.. بجد مبسوطة.. طول عمري كان نفسي يوم ما أحب، أحب راجل مسئول.. أحب حد ضحكته بتفرحني.. راجل ذكي.. سليم فيه كل ده وأكتر!!

على قد ما أنا مضايقة إني رجعت النهاردة وسط الشغل على قد ما أنا فرحانة إني بشوف حد جديد قدام عنيا.. فرحانة أوي إني لقيت في سليم الراجل اللي بيعرف يتصرف..

صحيح مش فاهمة ايه سبب كلامه عن شهاب، ومش فاهمة بردو كلامه مع إياد، وهتجنن من كلامه ليا في العربية قبل ما إياد يجي، لكن مبسوطة وأنا جنبه، مبسوطة إني معاه وشايفاه قدام عينيا"

ابتسمت بعد أن تقابلت عيناها مع عيناه وقد شعرت بتلك الصرخة المتوسلة بينهما، فهما الإثنان بعثرهما الإشتياق.. ولم يعد أحداهما يستطع الإبتعاد بعد الآن!

توهج وجهها ليتحول للحمرة ما أن آتى على عقلها ما حدث بينهما صباح اليوم بغرفة مكتبه وكأنه زوجها الذي عادت إليه بعد ابتعاد دام لسنوات .. زوجته!! أيمكن أن تصبح زوجته بيومٍ ما؟!

-

"زينة أنتي كويسة؟!" تحدث شهاب سائلاً بعناية وهو يتفحصها فوجهها تحول للحمرة ولكن ملامحها مصدومة نوعاً ما وتوجه نحوها يتلمس ساعدها في جرأة ليرى سليم ذلك ويقترب كالأسد الذي يفرقه عن الإنقضاض على فريسته ثوانٍ معدودة

"أنا تمام" أجابت وهي تحاول أن تترك عالم الأحلام الوردية الذي انتشلها من الواقع

"شكلك تعبتي من لف النهاردة والسفر.. تحبي تمشي؟" رمق شهاب بغضب واحتقار ثم جذبها من يدها الأخرى بخفة لتتحول نحوه وهي تنظر له لتلمع زرقاوتيها فهي لا تريد أكثر من لمسته تلك التي بدأت في أن تشعرها بالأمان

"أنا كويسة.. متقلقش" همست له ليقترب إياد

"زنزون.. متأكدة إنك كويسة؟!" نظر لها بإهتمام وقلق أخوي

"كويسة صدقني.. فيه ايه يا جماعة.." ابتسمت للجميع ولتلك الأعين التي تحدق بها

"معلش بعد إذنكم.." تحجج عاصم بمكالمة هاتفية

"يادي النيلة على السهوكة والدلع!! مبتكبرش أبداً.. أووف!!" صرخت أروى بداخلها وقد سيطر الغيظ عليها

"طيب كفاية كده النهاردة.. نخلي باقي المواقع لبكرة.. وياريت تقبلوا عزومتي على الغدا.. والدي كمان مستنيكم" ابتسم بإقتضاب ليلعن سليم داخل نفسه فهو لا يريد حقاً أن يقبل من هذا الكائن أي علاقة خارج إطار العمل!

"بجد.. هو عمو كرم مستنينا؟!" سألت زينة في لهفة وهي تنظر لشهاب

"ده مأكد عليا بنفسه.. وكلمني كذا مرة بيسأل عنكم ومستنينا.." تحدث بثقة ليزفر سليم في حنق

"آه يا ريت يا شهاب.. أنا نفسي أشوفه جداً" هنا تدخلت أروى بالحديث ليطبق سليم على أسنانه بقسوة حتى أوشكا فكاه على التضرر

"مش ده يا بنت مامي الراجل اللي حذرتك منه؟!" تمتم إياد لها هامساً ولم يسمعه سواها

"ما هي أختك اهي اتكلمت ولا هي اللي بتنقط عسل وسكر وأنا وحشة؟!" أخبرته بإنزعاج ليلاحظ سليم ذلك وقد أنهى عاصم مكالمته وعاد لتوه

"طيب اتفضلوا .. أنا هامشي قدامكم بالعربية علشان الطريق" أخبرهم ثم أومأ للجميع

"ايه ده هو احنا رايحين فين تاني؟ الساعة بقت خمسة خلاص!! مش خلصنا كده؟!" تسائل عاصم وهو ينظر للجميع

"أختك نفسها تشوف عمها.. مأخدتش بنصيحة مامي ومصممة تروح" اجابه إياد

"ما زينة اللي كانت مبسوطة إن عمو مستنينا!! ولا أنا لما باجي اتكلم الكلام مبيعجبش؟" صاحت به بنبرة محتدة وقد علا صوتها بعد مغادرة شهاب للخارج

"زينة!! قارني نفسك بزينة تاني يا أروى!! مفيش فايدة.. وبعدين زينة مقالتلوش يالا نروح، وكمان زينة من ساعة ما عرفت شهاب وهي طبيعية معاه، إنما أنتي من امبارح مش فاهم مالك بالظبط.. مش ده اللي كنتي رافضة من الأول إنه يدخل ما بيننا؟!"

"بص بقا بقولك ايه، أنا أقول اللي عايزاه وأعمل اللي عايزاه، وبطل بقا تطبل لزينة هانم.. واتفضلوا اللي مش عاجبه ميجيش!! محدش ضربك على ايدك" صرخت به لينظر لها إياد بغير تصديق

"اتفضلي روحي اعملي اللي أنتي عايزاه.. أنا غلطان" صاح بها ثم التفت لسليم "ابقا قوله وراه حاجة ولا اتحرق بجاز.. سلام!" تحدث إياد بحنق وتوجه للخارج بينما تبعه سليم لأنه يعلم أنه ليس معه سيارته ولن يتركه يذهب وحده فالمسافة بعيدة.. أما عن أروى وزينة اللاتي تخلفتا وراءهما يتبادلان النظرات الصامتة!

فأروى ينهال الحقد والغيرة من عينتاها بينما زينة لا تدري إلى متى ستعاملها أروى بهذه الطريقة..

"يعني كده بقا طارت الخروجة ولا ايه!! أنا مش ناقص قرف بقا" تحدث عاصم لنفسه وهو يُفكر بإيجاد مخرج لذلك المأزق الذي وضعته به أروى!

"يااه يا زينة.. أنتي شبهه أوي يا بنتي.. عينيكي وملامحك.. الخالق الناطق والدك" تحدث كرم بإبتسامة عذبة ولكن نظرته امتلئت حزناً لتذكره أخيه الذي لا يعلم عنه شيئاً

"آسر كمان يا عمو فيه شبه كبير منه.. هوري حضرتك" جذبت هاتفها لتصل للملف الشخصي لآسر أخيها على أحد مواقع التواصل الإجتماعي لترمقها أروى في كراهية ونفاذ صبر فهي لم تعد تتحمل تلك الفتاة، وسليم لم يعد يتحمل تلك النظرات الموجهة نحوها من شهاب الذي لم يشيح بعينيه عنها.. أما عاصم فقد جلس يبحث عن حجة مقنعة حتى يتركهم فهو لا يكترث سوى باحدى السهرات مع أصدقائه "بص يا عمو" أقتربت زينة منه بخفة َرشاقة جسدها الضئيل ليبتسم كرم وهو يطالع تلك الصورة على هاتفها

"فعلاً معاكي حق.. بس أنتي شبهه أكتر" نظر لها بحنان شديد لتبتسم له هي ابتسامة صادقة فلقد شعرت بالراحة التامة منذ أن تحدثت لهذا الرجل

"هو فعلاً لما قابلت آسر حسيت هو أكتر حد شبهك يا زينة" تحدث شهاب لتلتفت هي له

"طبعاً مش أخويا.. بس أنا أحلى طبعاً" تحدثت بثقة متناهية ليبتسم سليم وقد لمح بها زينة المرحة التي لم تعد تظهر مؤخراً إلا نادراً بينما أروى قلبت عيناها وكادت أن تنفجر بداخلها

"أنتي من أحلى البنات اللي شوفتهم في حياتي بصراحة.. مش كده ولا ايه؟" نظر لوالده ليومأ بالموافقة

"زي القمر يا حبيبتي" ابتسم عمها وهو يربت على يدها في ود وهنا لم يستطع سليم التحمل وكاد أن ينهض جاذباً يدها للمغادرة ولكن صدح صوت هاتف أروى بالرنين لتعتذر من الجميع وذهبت مبتعدة قليلاً حتى تستطيع التحدث بحرية ولذا أنتظر سليم حتى عودتها ليعتذر للجميع ويغادر.

"خلاص بقا من دلوقتي هستناكي أنتي وأخواتك كل أسبوع علشان تيجوا تزوروني"

"طبعاً يا عمو.. أنا عن نفسي هاجي لحضرتك على طول.. أنا كده كده اجازة من الجامعة لغاية اخر الشهر الجاي وبعدين هسافر أكمل امتحانات أسبوعين وارجع تاني ومش هسافر خالص بعد كده"

"سفر! هو انتي بتدرسي برا؟" تسائل بعفوية ليسترسل بالحديث الذي شعر أنه لا يريد انهاءه

"ايوة.. في المانيا.. واصلاً ده ماجيستير وخلاص الحمد لله قربت أخلص" اجابته بإبتسامة

"ما شاء الله.. " ابتسم لها ثم تابع "شهاب بردو كان بيدرس برا بس في ايطاليا"

"أنا عارفة إنك بتدرسي هندسة بس تخصصك ايه يا زينة؟" سألها شهاب الذي تحزث قبل أن يكمل أبيه أنه درس هناك بسبب منحة مجانية فهو لا يريد أن يظهر أنه أقل منهم جميعاً شأناً

"أنا درست mechanical engineering"

"بجد!" صاح عمها في دهشة "محستيش انها صعبة؟" تسائل بإندهاش

"بصراحة من وأنا صغيرة وكنت بشوف سليم بيذاكر في كليته حبيت الميكانيكا.. يعني او التخصص نفسه لأن ماما كان دايماً نفسها أدخل هندسة" ابتسمت بإقتضاب عندما تذكرت تلك الذكرى المريرة ولكنها قررت ألا تركز بهذا الأمر

"أنت يا ابني كان تخصصك ايه؟" توجه كرم لسليم بالسؤال

"أنا كنت Mechatronics" أومأ له كرم بإهتمام

"ما شاء الله.." نظر له بمزيد من الإعجاب ثم تابع وهو ينظر للجميع "أنا بقا وشهاب معماري.. بس صدفة.. أنا حبيته يختار اللي يحبه وشكله كده ذوقه زيي"

"سليم بعد اذنك ممكن ثانية؟" تدخلت أروى بالحديث ويبدو على وجهها الجدية الشديدة وملامحها لا تبشر بالخير

"عن اذنكم ثواني" أخبر الجميع بإبتسامة ثم نهض لينظر لأروى بإهتمام وتوجه معها ليبتعدا مسافة كافية

"فيه ايه يا اروى؟" نظر لها بنفاذ صبر فهو بالكاد احتمل الساعتان المنصرمتان وقد نفذ صبره

"في مصيبة في الساحل.. فيه عميل مات في الموقع عندنا!"

--

"أوف بقا أنا مش هاخلص من دلعها المِرق ده؟! امشي أنا ازاي دلوقتي!!" فكر عاصم بينما زينة قد استحوذ عليها بالكامل عمها واستغرقت بالحديث معه، وها هو شهاب ذلك الرجل الذي يتحدث كما لو أنه قد شُل بلسانه، فنادراً ما فعلها منذ بدء الليلة..

"هو فيه حاجة ولا ايه؟!" تسائل شهاب وهو يتفحص زينة بداكنتيه الثاقبتين يستفسر عن سبب مغادرة أروى وسليم فجأة

"بيقولوا فيه emergency (حالة طوارئ) في موقع في الساحل بس مش عارفة فيه ايه بالظبط" هزت كتفيها في عدم معرفة "وكمان بعتله كتير على الواتساب مش بيرد.. شكله مشغول أكيد في الطريق"

"لا خير إن شاء الله.. سليم شكله إنسان كويس وشاطر أكيد هتيجي بسيطة" تحدث عمها لتلتفت هي له بإبتسامة

"فعلاً هو سليم بيعرف يتصرف.. تقريباً هو اللي شايل كل المسئولية من ساعة ما خالو قرر يبعد عن الإدارة .. شبهه أصلاً في حاجات كتيرة" توسعت ابتسامتها وهي تتحدث بفخر عنه ليشعر شهاب بداخله بالإنزعاج بسبب ما تفوهت به من تملق لهذا الطفل السخيف من وجهة نظره ليبتسم بإقتضاب

"معلش بعد إذنكم أرد على الموبيل" تحدث عاصم ليستئذن منهم ".. لا جاي متقلقش.. بس أنا في مكان بعيد شوية.. لا مش معايا عربية.. ممكن تعدي عليا في طريقك.. آه تمام عارفه.. هستناك هناك" زفر بعد أن أنهى مكالمته وأخذ يُفكر ملياً فيما أخبره به سليم من قليل بأن يتركا شهاب بعد مغادرته هو وأروى فوراً ثم قرر حانقاً بداخله "مليش فيه بقا.. زينة تتصرف وتروح وخلاص، مش لازم أفضل معاها ولا إياد يبقا يجي ياخدها، مش حواري ده"

"معلش يا جماعة.. واحد صاحبي عمل حادثة ولازم اروحله حالاً" تظاهر بملامح الحزن والقلق على وجهه

"طب عاصم هتروحله ازاي؟ نسيت إن العربيات واحدة روح بيها إياد وواحدة مع سليم وأروى!" تحدثت زينة بإكتراث حقيقي

"متقلقيش أنا هاتصرف"

"ممكن تاخد عربية مش مشكلة وأنا ابقا أوصل زينة" هنا نهض شهاب "تعالى اتفضل نروح الجراج"

"لا بجد شكراً.. بس ملوش لزوم تتعب نفسك أنا هتصرف" شعر قليلاً بالقلق لما نهته والدته عنه من قبل تجاه شهاب ليبتسم له من باب المجاملة ولكنه غير فكرته سريعاً فشهاب الآن يصنع له معروفاً وليس هناك داعٍ للقلق

"لا ازاي، كمان مكان الفيلا بعيد عن كل حاجة.. تعالى بس تعالى" شجعه ليهز الآخر كتفاه وتبعه فما سيفعله لا يبدو أنه أمر يدعو للقلق فبالعكس هو يفعل من أجله معروف.. فكر وهو يتبعه بينما ترك زينة بصحبة عمه خلفه

"زينة يا بنتي متعرفيش حاجة عن كريم خالص؟!" تسائل بتوسل لتنظر له بتعجب شديد

"لا والله يا عمو.. أنا عمري ما شوفته ولا كلمته"

"يا بنتي ازاي مش ده والدك.. عمره ما كلمكم أو جه زاركوا؟!" تحولت ملامحه لتدل على تلك الحاجة الشديدة والتلهف لمعرفة أية معلومات عن أخيه

"من وأنا صغيرة ماما قالت انهم من ساعة ما انفصلوا وهو مشي وعمره ما سأل علينا" همست له بحزن لينظر لها عمها بنظرة لا تدل على تصديق قولها

"ازاي بس يا بنتي أب مش هيسأل على ولاده.. أنتي متأكدة يا حبيبتي أنه مثلاً عمره ما جه أو سأل ووالدتك عشان كانت زعلانه معاه منعتكو عنه؟!" توسلها بنبرته لتومأ له زينة بحزن

"عمر ما ده حصل يا عمو.. عمري ما شوفته!"

"طيب يا بنتي.." أخبرها بشجن بعد أن زفر في احباط "بعد اذنك هنام.. لما يجي شهاب قوليله إني في اوضتي .. تصبحي على خير يا حبيبتي وابقي خليني أشوفك دايماً يا زينة.. واعتبري ده بيتك تيجي في أي وقت" ابتسم لها بإقتضاب شديد ولمعة الحزن بعينيه وهو ينهض بصعوبة لتنهض زينة وتساعده

"طبعاً يا عمو هازور حضرتك على طول.. وأنت من أهل الخير" نظرت له بإبتسامة ليستكمل هو خطواته البطيئة حتى أختفى من مرمى بصرها وغرقت هي بالتفكير بعد أن أعادت الجلوس، فكيف يمكن حقاً أن أباهم لم يأتي لزيارتهم ولم يقم بالسؤال عنهم ولو مرة واحدة؟! كما اكتظ عقلها بالعديد من الأسئلة وأهمها أين هو الآن؟!

"تحبي نتمشى شوية أو تتفرجي على البيت؟" حدثها شهاب بنبرته الغامضة تلك لتلتفت له بعد شرودها فابتسمت له

"مفيش مشكلة.. يالا بينا!"

--

 

"ازاي ده يحصل.. أنتي متأكدة من الكلام ده؟" تحدث سليم بلهفة وقلق شديد بينما يقود السيارة بأقصى سرعة ممكنة

"أيوة بلغوني إن كان فيه واحد نزل الـ Pool وواحد متخلف من غير ما يعرف فتح علشان يغير المياة والمواسير بتصرف على البحر.. للأسف اتسحب فيها مع السحب الشديد ولسه بيحاولوا يلاقوا الجثة!" تحدثت بنبرة هامسة

"ازاي شريف المتخلف اللي ماسك الموقع ده؟.. لو بجد طلعت غلطته ملهوش عندي غير رفد وقضية!!"

"اهدى بس يا سليم!" همست له بنبرة مهتمة ثم رفعت يدها بجرأة لتتلمس ذراعه وكأنها تحاول أن تخفف عنه "كله هيكون كويس.. متقلقش أنا هتصرف ومفيش حد هيعرف حاجة عن الخبر ده"

"ده زمان الدنيا اتقلبت هناك!!" صاح بإنفعال وأنفاس غاضبة

"لا متخفش انا فهمتهم يكتموا على الخبر"

"يكتموا ايه بس.. وهو الموت بيستخبى!" تحدث بتهكم ثم لاحظ يدها التي لا زالت تتلمس ذراعه ليحرك ذراعه بحركة عفوية وكأنما يصرخ بها قائلاً اغربي عني!

"قولتلك متقلقش مفيش حاجة هتحصل" أخبرته بهدوء ولكنه لاحظت طريقته معها

"يووه بقا فيه ايه تاني!!" صاح بإنزعاج بينما إشعارات هاتفه لا تتوقف وهو ليس في حالة مزاجية تسمح بتفقدها ليُمسك بهاتفه بعصبية ثم حوله للوضع الصامت لتضيق أروى عيناها بخبث ثم نظرت له فما الذي يمنعه عن إجابة أو حتى تفقد تلك الإشعارات

"ما تشوف يا سليم يمكن تكون حاجة مهمة" همست له وهي تتصنع البراءة ولكن كل ما يشغلها أن تلمح بعينيها من تلك التي يتحدث لها، فبالطبع لن يُرسل له أحد بالعمل كل تلك الرسائل منذ أن شرع بالقيادة، لابد وأنها هي تلك الفتاة التي انشغل بها مؤخراً والسبب الوحيد كي يتطلع بهاتفه دائماً حتى ولو بوقت هام ولكن ما الذي اختلف هذه المرة، هل لا يزالا بجدال ما؟!

"أروى أرجوكي اهدي لغاية ما نوصل احسن أنا على أخري.. يولع الموبايل دلوقتي وسيبيني أفكر في حل للمصيبة اللي وقعنا فيها دي.. أنتي بتقوليلي موبيل واحنا سمعتنا كلها ممكن تضيع حالاً بسبب الموضوع ده؟!" حدثها بحنق ولم ينظر لها

"فيه ايه يا سليم ده جزائي يعني؟! خلاص أنا غلطانة.. يولع فعلاً اللي على الموبيل ولا يتحرق.. أنا آسفة ني اهتميت" تصنعت البراءة مجدداً واندفعت الدموع المزيفة لعينيها بينما أطبق سليم أسنانه سوياً في غضب فهذا هو آخر ما ينقصه.. بكاء أروى!!






--

 

"بجد يا شهاب شكراً إنك هتوصلني" ابتسمت له وهي لا زالت تتمشى بحديقة منزل عمها التي وجدتها وكأنها ليس لها نهاية

"تفتكري هسيبك يعني بعد ما الكل مشيوا.. أكيد هوصلك" أخبرها بهدوء وهو يسير إلي جوارها واضعاً يداه بجيبي بنطاله

"وبجد اتبسطت جداً إني عرفت عمو كرم، ياريتك كنت قولتلي من زمان" نظرت له بسعادة صادقة تنهال من عينيها ليبتسم لها ولكن دون أن يبالغ في الإبتسامة

"على فكرة أنا أول ما شوفتك وروحنا الموقع سوا قولتلك اتفضلي لو حابة تشوفيه في اي وقت.. ولا نسيتي؟!" تفحص زرقاوتيها ليتبين ملامحها وعقدة حاجبيها وكأنما تحاول التذكر

"صح أنت عندك حق.. معلش أنا نسيت" ابتسم في إحراج ثم بادلته نظرته لتقع في الحيرة وقد ظهر هذا على ملامحها "أنت غرب أوي يا شهاب!"

"غريب!" كرر الكلمة بينما عقد حاجباه وابتسم بإقتضاب "غريب ازاي يعني؟!"

"يعني.. بتقول والدي ووالدتك ومش بتتكلم كتير كده.. مقابلتش حد زيك بصراحة!" ضحك على كلماتها لتنظر له في دهشة ولكن تهللت ملامحها "ما أنت بتعرف تضحك اهو.. ده أنا أفتكرتك robot (إنسان آلي)"

"افتكرتيني Robot!!" كرر كلمتها ساخراً "طب تعالي تعالي افرجك على البيت" أخبرها وهما لا يزالان يتنقلان بين أرجاء المنزل..

دُهشت زينة بمساحة المنزل الشاسعة فهي لم ترى مثله من قبل، كان كل ركن به يصدح بالفخامة الشديدة، ولكن دهشتها لم تكن تجاه ذلك الثراء الفاحش الذي تصرخ به تفاصيل المنزل ولا مرأب السيارات، بل تعجبت حقاً لماذا رجل ووالده وحدهما فقط من يعيشا سوياً بكل ذلك البيت الضخم!

"ودي بقا اوضتي!" دلفت زينة دون تردد وهي تتمنى أن تجد مقعد قريب كي تجلس فلقد أُنهكت من كثرة التجول وكثرة التركيز بتفاصيل المنزل

"آخر حاجة دي عشان تعبت بجد!" ابتسمت له

"لا خلاص آخر حاجة متقلقيش" بادلها الإبتسامة ولكن بداخله لم يكن متوقعاً لردة فعلها، ظن أنه سيبهرها بما يملك ولكنها خيبت أماله.. حسناً فهناك المزيد!!

"بس الأوضة باردة شوية.. كل الألوان رمادي كده ليه!!" تعجبت ثم نظرت له

"متخيلة هتدخلي اوضة راجل تلاقيها ايه مثلاً.. أبيض وبمبي!!" صاح متهكماً لتقهقه زينة

"أكيد لأ طبعاً.. فيه درجات الأزرق.. ممكن شوية تفاصيل في السجادة او لون الحيطة.. بس حلوة بجد" أضافت كلمتها الأخيرة بعدما شعرت أنها تتحدث بصراحة زائدة

"يمكن لما تشوفي الأوضة اللي في بيتي التاني تعجبك أكتر" أخبرها وهو يقصد التباهي بما يملك ولكن لم يرى أي نظرة بعينيها تدل على الإنبهار

"ايه ده أنت بتسيب عمو وتروح تبات بره؟" سألته في تعجب

"لا ساعات بحب أفصل فبروح هناك" قلبت شفتاها في تعجب وكادت أن تجلس على أريكة وجدتها بغرفته ولكن أوقفها شهاب

"لا تعالي اقعدي برا.. هتتبسطي أكتر" قال مرجحاً ثم سبقها لشرفته فتبعته لتقع في عشق ذلك المنظر الخلاب على الفور..

شرفته ترى الحديقة بأكملها، منظرها المنمق والخلاب من الأعلى يختلف كثيراً فهي لم تراها بهذا المنظر عندما تجولت بها، تلك المساحة الشاسعة الفارغة تُظهر السماء بتلك الشفافية لترى ذلك البساط من النجوم المتلئلئة وضوء القمر الساطع لتلمع زرقاوتيها بسعادة وهي تتفقد ذلك المشهد الرائع أمامها..

"ايه ده.. شهاب!!" صاحت بإندهاش ثم التفتت له لتتفقده بينما عقد حاجباه ينظر لها بإهتمام ظناً منه أنها تريد شيئاً "لأ لأ.. شهاب.. أنا شوفت شهاب لسه معدي حالاً.." ضحكت وهي تخبره ليبتسم لها مضيقاً عيناه الداكنتان ليتصنع المزاح وتفحصها بإهتمام شديد ليجدها تتنهد ثم تحدثت "أتمنى أمنية بقا!" تركته وحده ثم التفتت بجسدها لتجلس أرضاً مستندة بظهرها على الجدار خلفها ثم التفت قدماها لتجلس القرفصاء..

"أنتي بتصدقي الكلام ده؟!" رمقها وهي قد جلست بجانب قدميه ونظر لها تلك النظرة التي لا ينظرها إلا بوقت ممارساته السادية ولكنه كان وافر الحظ بأنها عبثت بحقبيتها ولم ترى تلك النظرة بعينيه.. أتتعجل حقاً تلك الفتاة لتتذوق مذاق العذاب المرير أم ماذا تريد؟! أعرض عن الفكرة ثم جلس مثلها سريعاً بالقرب منها

"بيقولوا إن اللي بيتمنى أمنية وقت ما الشهاب بيعدي بتتحقق" هزت كتفيها في عدم اكتراث وأشعلت احدى سجائرها لتستنشق دخانها لتتمتم "يااه أخيراً.. أول سيجارة بروقان من الصبح!"

"للدرجادي مش مستحملة من غيرها.. مكنتش أعرف إنك بتدخني" قلب شفتاه وهو يُحدق بها بينما زينة شردت بالسماء ومنظرها الخلاب

"ايوة بقا.. انزل بخطاب النصح والإرشاد وعليهم شوية ميصحش وعيب!" تهكمت وهي تزفر في إنزعاج

"لأ خالص.. أنتي حرة في الأول وفي الآخر وأظنك كبيرة كفاية وعارفة أنتي بتعملي ايه.. وأصلاً محدش من حقه يقولك تعملي ايه ومتعمليش ايه.. أنا بس استغربت لأني أول مرة أشوفك وأنتي بتشربي سيجارة" لعب جيداً على ذلك الموقف الذي تذكره عندما ركبت معه السيارة منذ أسابيع فهي تعترض على الحكم عليها من قبل الأشخاص بينما ضحكت هي بخفوت ضحكة لم تتحرك لها شفتاها وأراحت رأسها خلفها على الجدار ووصدت عيناها وأكملت تدخين سيجارتها وهي تنعم بهذا الهدوء.. "تعرفي.. شكلك حلو أوي بجد" همس لها بنبرته الرجولية وسط ذلك الهدوء لتلتقي زرقاوتيها بداكنتيه في تعجب

"شكراً على المجاملة بجد" ابتسمت له في امتنان

"لأ أنا مش بجامل.. أنتي بجد حلوة، وبالذات النهاردة من ساعة ما وصلنا البيت.. شكلك بيتغير اوي لما بتكوني مبسوطة.. عكس الصبح خالص" حاول أن يحثها على الحديث بتفاصيل ما أزعجها صباحاً عندما كان يوقع سليم العقود

"أنا فعلاً اتبسطت لما شوفت عمو" ابتسمت ثم تنهدت وهي تنهي سيجارتها

"أنا اتضايقت لما شوفتك بتزعقي مع إياد النهاردة بس مرضتش أدخل لتضايقي.. يعني.. في الأول وفي الآخر اخوات مع بعض وقولت يمكن اختلفتوا على حاجة.. وأروى كمان ردت رد ناشف اوي ومحبتش أكبر الموضوع"

"بكرة هتتعود على الكلام ده لما تعرفنا أكتر"

"أنتو دايماً خناق كده؟!"

"هو أصلاً أنا وإياد متخانقناش.. الحوار كله بسبب ماما كالعادة.. وبعدين إيدو ده عسول خالص.. حبيبي أصلاً.. لكن أنا وأروى وعاصم اللي ممكن نتخانق.. بكرة تفهمنا وتحس كل واحد فينا مختلف ازاي عن التاني.."

"ايه اللي حصل بسبب مامتك؟!" استرسل معها بالحديث ليتوغل أكثر بداخل حياتها وآتت نبرته تلقائية وملامحه سيطر عليها ببراعة شديدة فكأنه يتناول مناقشة مسلسل ما أو حدث شهير قد توغل بشعب بلدة بأكملها

"الله يخليك تغير السيرة دي.. أنا بحاول أنسى أصلا" زفرت بتآفف ثم لوهلة تذكرت كلمات أخيها "يوووه اديك فكرتني.. استنى بقا على ما أكلم إياد".. أخرجت هاتفها لتتفقد رداً من سليم ولكنه لم يجيبها فشعرت بالقلق الشديد عليه وكذلك وجدت مكالمتان فائتتان من إياد، لقد تناست تماماً أن تعدل صوت رنين هاتفها من بعد الإجتماع.. فاختارت أن تتحدث لإياد أولاً

"آلو.."

"ايه يا زنزون.. كل ده لسه عندكوا ليه؟! ومردتيش لما كلمتك ليه؟! وأصلاً كلكوا مبتردوش! أنتو كويسين يا بنتي؟" سألها بقلق لتتنهد هي قبل أن تجيبه

"أنا أصلاً في بيت عمو كرم لوحدي.. عاصم واحد صاحبه عمل حادثة وراح يجري عليه، ومن بدري قبل ما عاصم يمشي سليم وأروى راحوا الساحل بيقولوا فيه حاجة حصلت هناك وكان لازم يروحوا"

"ايه ده وأنتي هتروحي ازاي.. زينة الساعة بقت اتناشر.. وازاي عاصم الحيوان ده يسيبك لوحدك كده!!" تحدث بإنفعال لتطمئنه

"متقلقش .. شهاب هيوصلني.. معلش يا إياد مخدتش بالي من الوقت خالص.. هقوم اجي اهو"

"طمنيني عليكي اول بأول حتى على الواتساب وخدي بالك من نفسك يا زينة!! سمعاني؟!" شعر بالقلق الشديد عندما تذكر كلمات سليم عن شهاب "وتيجي على هنا بلاش خالو النهاردة! احسن ماما من ساعة ما عرفت انكو رحتو لعمكو وهي بتغلي ومستنية مناحة.. كفاية اللي سمعتهوني"

"يوووه.. يعني فيه خناقة لما أروح؟" صاحت بإنزعاج

"متقلقيش.. انتي تيجي على طول على النوم عشان سفرك واعملي تعبانة"

"طيب ربنا يستر!! يالا أنا هاقوم اهو وجاية.. باي"

"سلام وخدي بالك من نفسك"

"حاضر.. باي"

أنهت المكالمة بينما تفقدت شهاب في إحراج لينظر لها بإبتسامة وكأنه فهم ما تريده ولكنها لم تدرك أنه أنصت لكل حرف بينهما حتى أنه قد استمع لصوت إياد على الطرف الآخر

"أتأخرتي وعايزة تروحي مش كده؟!" سألها لتومأ له بالموافقة لينهض هو بجسده الرشيق ثم قدم يده اليها فأمسكت بها "ابقي نامي بقا على طول عشان لسه هسلمكوا باقي المباني بكرة" تفحص زرقاوتيها وهو لا يزال متلمساً يدها

"شكراً يا شهاب أنا بجد مش عارفة أقولك ايه" أخبرته بإمتنان بينما شعرت بأن ملامسته لها قد طالت أكثر من اللازم فجذبت يدها برفق

"متقوليش حاجة.. بس بجد اتمنى نكون أقرب من كده.. وياريت تيجي هنا كتير.. متعرفيش كنا مبسوطين قد ايه وانتي موجودة" أخبرها ثم أقترب منها ومد يده بجرأة نحو خصلات شعرها ليخللها باحدى اصابعه ببطئ وهو يحدق بعينيها

"ايه ده!! أنت ازاي تعمل كده؟! لو سمحت أنا على فكرة مبقبلش الأسلوب ده!" صاحت به في غضب وخطت للوراء لتبتعد عنه بينما هو انفجر ضاحكاً

"شعرك كان فيه طفي سجاير" صاح وسط ضحكته ثم هدأت قهقهاته ليُكمل "انتي بنت عمي يا بنتي.. وفي بيتنا هنا.. مفكرة هاعمل ايه!" أخبرها وهو يزيف ابتسامته الواسعة ولكنه كاد أن يحترق بداخله فلأول مرة بحياته يشعر بهذا الرفض من فتاة!

"مقصدش .. بس أنا استغربتك مش اكتر" تنهدت وهي تنظر له في خجل من غضبها عليه "أنا آسفة"

"لا ولا يهمك.. يالا استنيني تحت وأنا هاروح اجيب العربية من الجراج" لم يعد يتحمل أن ينظر لها دون أن يصفعها حتى تقع أرضاً نتيجة لفعلتها وابتسم بإقتضاب والتفت ليتركها خلفه وهو يحاول أن يهدأ من تلك السادية المريعة التي لا يستطيع التخلص منها بداخله.

نظرت حتى غادر شهاب ثم جذبت هاتفها مرة أخرى لتفكر بسليم فهو حتى الآن لم يرسل لها ولو رسالة واحدة فقررت أن تتصل به فقد تأخر الوقت ولابد أنهما قد وصلا أو أوشكا على الوصول!

--

 

"خليكي هنا ومتتحركيش لغاية ما أشوف فيه ايه" حدثها سليم بنبرة آمرة بينما ترجل من السيارة

"ازاي يعني أنا مش هسيـ.."

"أروى!" قاطعها بغضب شديد "الكلمة اللي أقولها تتسمع ومش عايز نقاش.." رمقها بغضب ثم تركها خلفه لتبتسم هي بداخلها وشردت بالتفكير بمنتهى الزهو والإعجاب بنفسها..

"يعني كده خلاص خلصت من زينة بكرة.. تروح هي مع شهاب تستلم باقي المباني، واستحالة اوافق ارجع في نفس اليوم؛ كمان كويس إن سليم صدق الحوار؛ فعلاً فيه حد مات بس في القرية اللي جنبنا، وأنا لو أتسألت هقول ده الكلام اللي وصلني وأنا اتخضيت زيي زيك، وسهل جداً ألوم أي حد واللي وصلي الكلام.. ويا سلام بقا لو بلغته ان اللي كلمني معرفش اسمه، وحب يعرفني عشان يوصلني كل حاجة.. يبقا أنا كده مش عليا لوم" زفرت براحة وابتسامة انتصار لتشرد بما تريد فعله

"بس لأ.. مش طبيعي بردو انه مرضاش يرد على الموبيل وعمله silent.. أكيد عايز يخبي علاقته.. بس على مين.. هاعرفها يعني هاعرفها" حدقت بالسماء ليلاً وهي تحاول التوصل لطريقة حتى تعرف من هي تلك الفتاة التي تحاول أن تستحوذ على سليم.. فسليم بالنسبة لها كل ما حلمت به منذ مراهقتها، فهو المفتاح للوصول للسيادة التامة على عائلة الخولي بأكملها وستتملك مفتاح تلك الخزائن بأي طريقة ممكنة.

"أصل لو مش واحدة.. هيكون مخبي ايه؟" تمتمت وهي غارقة في التفكير لينبعث ضوء شاشة هاتفه الذي تركه بالسيارة وقد حصل على انتباهها فمدت يدها لترى من المتصل

"يا ساتر عليكي.. ايه اللي مصحيكي لغاية دلوقتي ما تغوري في داهية بقا" غمغمت بتآفف عندما قرآت اسم زينة على الشاشة ولكنها ستجيبها وستجعلها تشعر وكأنما قد وقعا بكارثة هلها تنتهي عن اشغاله، ماذا تظن تلك الطفلة؟ أتظن أن الجميع سيعطيها أفضل ما يملك من خبرات حتى تكن الفضلى؟ حمقاء حقاً..
مررت اصبعها لتجيبها وكادت أن تتحدث ولكن زينة سبقتها

"ايه يا سليم.. قلقتني عليك يا حبيبي.. مردتش عليا ليه ولا حتى بعتلي message.. أنا هموت من القلق عليك.. أنت فين؟!" صاحت بلهفة متحدثة بينما لم يأتيها رد؛ تشعر بأن هناك أحد على الطرف الآخر ولكن لم يأتيها ولو كلمة واحدة!

"آلو.. أنت سامعني؟!" تحدثت مجدداً لتجد الصمت التام "سليم شكلك في مكان مفيهوش network.. لو سامعني أنا شهاب هيوصلني اهو حالاً ومروحة.. طمني عليك وفهمني فيه ايه اللي حصل ومش هنام غير لما نتكلم زي كل يوم وهافضل مستنياك.. باي" أنهت زينة المكالمة وهي لا زالت تشعر بالقلق ولكنها أدركت أنه منشغلاً فلم يكن امامها سوى الانتظار لتحدثه ليلاً.. ولم تكن تعلم ولا تتخيل أن تلك المكالمة كانت أسوأ ما فعلته في حياتها بأكملها..

نظرت حولها يميناً ويساراً وحاولت تذكر أين يقع اتجاه المرأب لتتعجب بداخلها "حاجة غريبة اوي.. البيت ده كله لعمي وشهاب بس!" عادت من تفكيرها للواقع وشهاب قد وصل ليصف السيارة امامها فجلست بجانبه بإبتسامة ممتنة

"بجد متشكرة اوي.. مكنتش حابة اتعبك"

"تتعبيني! ما تبطلي الكلام ده.. عيب يا بنتي.. تفتكري هاسيبك تروحي لوحدك في وقت زي ده؟" أخبرها بإبتسامة جانبية ورمقها للحظة ثم إعاد نظره للطريق

"أنا فعلاً محستش بالوقت.. أنا اتبسطت هنا فعلاً"

"طيب ده بقا يعتبر تأكيد أنك هتيجلنا كتير"

"أكيد طبعاً.. "

"تعرفي يا زينة إن أنا ووالدي كان نفسنا من زمان نقرب منكم.. عمي كريم كان غريب.. وبعدين اختفى فجأة.. بجد نفسي أشوفه اوي زي زمان" تحدث بهدوء ليعود لفتح ذلك الأمر الذي هو السبب الأساسي لمعرفته تلك العائلة بأكملها

"ايه ده.. أنت بجد قعدت مع بابا وشوفته؟" تسائلت بلهفة وهي تتفحصه بزرقاوتيها

"طبعاً يا زينة.. أنا كنت بحبه اوي بس هو دايماً كان مشغول ومكالماته وزياراته فضلت تقل شوية بشوية لغاية ما فجأة اختفى خالص.. ولما والدي كلم والدتك قالتله مشي ومتعرفش عنه حاجة" استرسل بالحديث بمنتهى الهدوء والذكاء ليحصل على كامل انتباهها وقد فعل! "بصراحة أنا مش مصدق.. يعني حتى لو سافر أو عمل اي حاجة كنا عرفنا.. بجد وحشني ونفسي أشوفه"

"أنا يا شهاب كل الكلام ده حصل وأنا عندي سنتين تقريباً أو أقل.. معرفش حتى شكله ايه غير من صورتين.. بس مش عارفة! أنا طول حياتي وأنا معرفش غير بابا سيف الله يرحمه.. طبعاً هاكون أسعد حد لو أقدر بس أنادي حد بكلمة بابا تاني" تحجرت الدموع بمقلتيها ليلاحظها شهاب الذي زيف ببراعة ملامح التأثر ثم تلمس يدها بجرأة

"هنوصله يا زينة.. هنوصله أنا وأنتي.. أنا عارف إن انتي اكتر واحدة كويسة في اخواتك.. كلهم بيركزوا في الشغل وحياتهم؛ انما أنتي غيرهم؛ لما شوفتك بعد موت والدك سيف اتأكدت إنك الوحيدة اللي هتهتم بمعرفتي فين مكان عمي.. وأنا مكدبش عليكي.. أنا والدي كبر وصحته مبقتش زي الأول.. أنا بس نفسي يرجعوا يتجمعوا تاني قبل ما.." تظاهر بأنه لا يستطيع اكمال حديثه وحاول جاهداً أن يدعي المشاعر على ملامحه وكأنه متأثراً للغاية وحاول التحكم بملامحه وقد فعلها ببراعة لتتلمس زينة يده التي لازالت تتلمس يدها بيدها الأخرى لتدعمه وتربت على يده فهي شعرت بما يحاول قوله وهي تنظر له بتأثر

"متقلقش يا شهاب وربنا يديه الصحة وطولة العمر ويخليهولنا.. أنا هاعرف بابا فين وهنتجمع كلنا" ابتسمت له في تعاطف لبادلها ابتسامة مقتضبة وبداخله يريد القهقهة انتصاراً بحصيلة اليوم وأكمل القيادة لتشعر زينة بالاستغراب فهي لازالت تحتوي يده بين يداها الاثنتان فجذبتها بهدوء ليدرك هو ما تشعر به جيداً فازاح يده هو الآخر

"طيب بكرة هاعدي عليكي امتى الصبح؟" اجتذب أطراف الحديث سائلاً

"مش عارفة.. ممكن على الساعة عشرة مثلاً" اجابته بتردد وقد استغرب ذلك بينما هي أخذت تنظر بهاتفها ولم تجد أي شيئاً من سليم بعد..

"زينة انتي كويسة؟" سألها بعد أن لاحظ تجهم ملامحها

"آه.." اجابته بنبرة مهتزة وهي تزفر في قلق

"حاسك قلقانة او مضايقة.. فيه ايه؟" سألها مرة ثانية

"مش عارفة سليم مبيردش وقلقني عليه" تحدثت بعفوية ليشعر هو بالغيظ الشديد

"هما لسه في الساحل مش كده؟"

"المفروض اه.. بس محدش يعرف فيه ايه.. هو دايماً سليم كده بيشيل مسئولية كل حاجة ومبيحبش يتعب حد ولا يشغله" تنهدت وهي تلمح الطريق بزرقاوتيها ثم احتاجت لتدخين احدى سجائرها فأشعلت احداها

"اكيد هيكلمك.. أو أروى" أضاف كلمته الأخيرة فهو قد سأم التحدث عن هذا الطفل المغرور.. نعم يكرههم جميعاً ولكن ذلك التافه الذي يظن نفسه محور الدنيا بأكملها لا يستطيع تحمله ولا حتى تحمل ذكر اسمه

"أروى.. لا.. استحالة" صاحت بتهكم ليرمقها هو بتعجب

"اشمعنى يعني؟" سأل مستفسراً

"لا أنا وأروى عشان تفهم علاقتنا ببعض عايزلك يوم من أوله.. وكمان مش هتفهم.. بص من الاخر الموضوع ملعبك" تحدثت بإنزعاج وسخرية بنفس الوقت

"يا سلام.. يومين كمان.. ونحل سوا اللعبكة دي كلها" أخبرها بإبتسامة واهتمام انهال من عينيه الداكنتين وقد زيفه ببراعة طاغية

"ياااه يا شهاب.. ده لا بابا ولا خالو ولا سليم ولا إياد عرفوا يحلوا المشاكل ما بينا.. عموماً بكرة تعرف أنا أقصد ايه"

"يبقا لسه متعرفيش مين شهاب بقا.." ابتسم بزهو ليلمحها بطرف عينيه بينما أحترق بداخله لتضمنها سليم بكل أمر بحياتها

"واثق من نفسك اوي أنت" ضحكت وهي تخبره

"مش من فراغ.. بكرة تعرفيني كويس" أخبرها بغرور خفي

"لا بقا ده احنا عايزين قعدات مع بعض عشان أعرفك كويس.. وخلاص قربت اوصل. "

"كده كده بكرة احنا مع بعض" هز كتفاه بينما مر بالسيارة من بوابة منزل عائلة الخولي ليسمع تنهيدتها التي لم تدل سوى على التردد والإنزعاج

"كان نفسي اقولك اتفضل بس زمانهم نايمين.. خليها لبكرة بقا.. يالا تصبح على خير.. ومتتأخرش بكرة" ابتسمت له لتودعه

"ولا يهمك.. متقلقيش أنا مبتأخرش.. وأنتي من أهله" ابتسم لها بطريقة غريبة أول مرة تراه بملامحه تلك لتجده جذاباً للغاية

"باي.."

"سلام"

تركها وانتظر حتى دلفت المنزل لينطلق مسرعاً وهو يشعر بالإنتصار الشديد يغمره وقرر البحث عن أقرب مكان حتى يجلس به ويقرأ ذلك الدفتر الذي لا يزال يخفيه ولم تتخلى شفتاه عن الإبتسامة بما حصل عليه اليوم!

 

 

--

الفصل الثامن عشر

 

دلفت المنزل بهدوء وبداخلها تتمنى ألا يلاحظها أحد ولكنها وجدت إياد ينتظرها وما إن تلاقت أعينهما حتى أشار بسبابته على شفتاه حتى لا تحدث صوتاً ليتوجه نحوها وأشار لها بعينيه أن يصعدا فأومأت له بالموافقة وتوجها سوياً للأعلى ..

"ازاي يا زينة تتأخري لغاية دلوقتي؟! وبعدين يا حبيبتي انتي مع ناس منعرفهومش مهماً كانت صلة القرابة اللي ما بيننا بس لسه يعني مش قريبين منهم اوي" تحدث لها أخيها بهدوء دون نبرة منفعلة ما إن دلفا غرفتها

"معلش يا إياد الوقت اخدنا وكمان هما بيتهم بعيد يعني على ما جيت أنا وشهاب وكده اخدنا وقت"

"وبعدين عاصم الحيوان ده ازاي يسبك كده لوحدك معاه؟" احتدت نبرته خوفاً عليها

"بيقول حادثة حصلت لواحد صاحبه وشهاب كويس انه وصلني.. بعد ما سليم وأروى سافروا فجأة"

"شهاب شهاب!!" زفر بحنق عندما تذكر ما حذره سليم منه " يا حبيبتي لسه منعرفهوش.. متبقيش يا زينة تعملي كده تاني لو سمحتي"

"فيه ايه يا إياد.. هو ماله يعني؟! وبعدين أنا قعدت مع عمو كرم وبجد اتبسطت اوي.. مش فاهمة أنت ليه أنت وسليم متنرفزين منه؟!" نظرت له بتساؤل شديد "أنا بجد نفسي أفهم وأعرف فيه ايه بيخليكوا بتكرهوه اوي!!" عقدت ذراعيها وأنهال الاستفسار المُلح من زرقاوتيها ليزفر إياد بعد أن بحث عن إجابة مناسبة وبالطبع لا يريد أن يخبرها بما أخبره به سليم عن شهاب

"بصي يا حبيبتي.. أنتي أختي الصغيرة، وحتى أروى بردو أختي.. وبخاف عليكو أنتوا الاتنين.. دي ناس احنا لسه منعرفهاش، لسه منعرفش هما كويسين ولا لأ، لسه منعرفش مين شهاب.. ليه كانوا غايبين عنا طول الفترة دي؟ ليه فجأة كده افتكرونا؟ وليه بردو حبوا اننا نمسكلهم خدمات المواقع؟ اشمعنى احنا دوناً عن باقي الشركات؟ حاولي يا حبيبتي متاخديش كل حاجة على أعصابك واهدي وفكري قبل ما تاخدي القرار وقبل ما تثقي في حد.. وعلى فكرة أنا اتطمنت بس عشان سليم كان رايح معاكي انتي وأروى، لكن لما الوقت أتأخر وعرفت انه مش معاكي قلقت عليكي" نظر بزرقاوتيها وهو يحاول أن يُشعرها أنه مجرد خوف أخوي لا أكثر ولا أقل، وقد نجح بذلك!

"يا إياد متخفش.. وبعدين يعني أنا لو كنت حسيت أنهم وحشين ما كنت هكلمك ولا كنت قولت لسليم نمشي! وكمان عاصم كان معانا، يعني لو كان حس بحاجة كـ.."

"عاصم!!" صاح متهكماً وقاطعها "الله يخليكي ما تجبيليش سيرته"

"ليه بس هو ايه اللي حصل؟!" ضيقت ما بين حاجبيها في استفسار

"ده مش فارق معاه حاجة.. عايز يروح الشركة يعمل مدير.. يتخانقله كل كام يوم مع سليم عشان يثبت ان ليه رأي.. يسمع كلام مدام هديل وأروى هانم، وبعدين يقضيها بقا خروجة، يختفي فجأة.. ده أنا كنت بكلمه على لبس أروى اللي كان Over ولا أهتم!! أنا بجد معرفش البني آدم ده ازاي كده" أخبرها ولم تدري زينة ما الذي عليها قوله لتتنهد في حيرة

"إياد بص احنا طول عمرنا كل واحد منا في ملكوته.. فمش هكلمك عن موضوع عاصم ولا أروى.. ومتبقاش تخاف عليا تاني.. عارف، لما قعدت مع عمو كرم حسسني إن ليا أب تاني.. وكان غلبان أوي ونفسه يشوفنا على طول.. وكمان عشان تطمن لازم في مرة تيجي معانا نزوره.. اتفقنا؟!" ابتسمت له في توسل ليومأ لها بإقتضاب

"حاضر.. عشان خاطرك أنتي بس" حاول أن ينهي الحديث بهذا الأمر بنبرة مقتضبة إلي أن يتبين حقيقة شهاب من سليم

"إياد هو أنا ممكن أسألك على حاجة وتجاوبني بصراحة؟!" تطلعته بأعين تتحدث بالكثير من الأسئلة

"طبعاً يا زنزون قولي"

"أنت تفتكر بابا.. بابا كريم.. مش بابا سيف؟!" سألته وحقاً لم يتوقع هذا السؤال ليعقد حاجباه في تعجب ونظر لها متفاجئاً من السؤال "يعني أنا بسألك أنت عشان أكبر واحد فينا، يمكن تكون فاكره" توسلت بنبرتها

"أفتكره طبعاً بس حاجات بسيطة، ودايماً كل ما كنا نسأل عليه كانت ماما تقول إنه في الشغل!" اجابها بعد محاولة تذكر مواقف عديدة معه

"تفتكر بابا فين يا إياد؟ وليه مش بيسأل علينا؟" سألته لتتعالى مفآجئته

"مش عارف يا زينة.. كل اللي أعرفه انه هو وماما انفصلوا ومن ساعتها محدش يعرف عنه حاجة" تنهد في حيرة

"تفتكر لسه عايش؟ ولو لسه عايش ليه منشفهوش ونسأل عليه؟" تعجبت غارقة بالعديد من الأفكار

"أنا عمري ما عرفت حاجة عنه.. وماما بعدها بفترة اتجوزت بابا سيف الله يرحمه.. وبصراحة عمر ما حد فينا حس انه بيفرق في المعاملة أو أنه جوز أمنا المفتري مثلاً أو قصر معانا في حاجة.. بالعكس أنتي عارفة كان حنين علينا ازاي"

"طبعاً طبعاً.. أنا فاهمة كلامك أكتر من أي حد" سارعت بالحديث ثم عادت لتلك الحيرة مجدداً "بس.. بس قاعدتي النهاردة مع عمو كرم ادتني أمل في إن بابا ممكن يكون موجود.. إني ممكن الاقيه .. تفتكر يا إياد ممكن يكون ايه اللي حصل يخليه يبعد عننا السنين دي كلها؟!" سألته ليهز الآخر كتفاه في عدم معرفة وعدم التوصل لإجابة

"مش عارف يا زينة والله.. بس بردو هو لو كان موجود ليه مبيسألش عننا من زمان؟!" سألها بإستنكار لتزفر بمزيد من الحيرة

"مش عارفة.. تفتكر ماما تعرف مكانه ومش عايز يقولنا؟!" سألته بأعين مستفسرة

"ممكن.. بس اللي أعرفه إن لو كان حد بيجيب سيرته قدامها كانت بتتعصب اوي"

"طيب بص.. أنا هحاول كده أسأل خالو أو طنط شاهي.. بس أنت فاهم يعني أنا وماما مش أكتر اتنين بنتفق" أومأ لها ثم ربت على ذراعها في دعم ونظر لها بحزن عندما تحدثت عن والدتهما بنبرة مهتزة

"صحيح بمناسبة ماما.. اتنرفزت جداً لما عرفت انك كنتي عند عمنا.. حاولي تهدي اللعب شوية لغاية ما ترجعي تسافري تاني" حاول أن يحدثها بهدوء

"طب وبعد ما ارجع يا إياد؟ ده أنا يادوب قاعدة شهر وشوية وهسافرلي اسبوعين وأرجع تاني.. لغاية امتى هنفضل كده؟!" دمعت عينيها ليربت على ذراعها مجدداً

"معلش يا حبيبتي.. حاولي أنتي تبعدي عن المشاكل معاها وأنا لو قدرت أعمل حاجة هاعملها.. بس بردو مينفعش كل ما تيجي تفضلي يا إما عند خالو يا مقضياها خروج.. ده بيتك يا زينة"

"يعني وهو بيتي ده أنا بشوف فيه ايه غير اتنين ماسكين في بعض! يا أنت وماما، أنت وأروى.. أو ماما بتزعق على أي حاجة، أو بتاخد قرارات غريبة تكتفنا بيها.. أنا مبقتش بعرف اقعد هنا يا إياد.. بحس إني بتخنق كل ما باجي هنا" انهالت احدى دموعها ليحتضنها إياد في أخوة

"معلش يا زينة.. استحملي.. وبكرة يا ستي الشغل مش هايسيبك في حالك وهتتشغلي زينا ويادوب هتشوفيها على الفطار وأول ما ترجعي.. هنعرف نزوغ يعني يا زنزون" مازحها وهو يفرق عناقهما ونظر لها لتبتسم بإقتضاب، فحال تلك الأسرة يبدو وأنه لن يتغير أبداً

"ماشي يا إياد.. هحاول على قد ما أقدر.."

"ماشي.. يالا بقا نامي عشان الوقت أتأخر.. "

"حاضر.. كمان عندي شغل بكرة ولازم أستلم باقي المواقع من شهاب" أومأت له ليعقد الآخر حاجباه حانقاً ما أن آتت على ذكره مجدداً

"تاني زفت ده.. وناوية تروحي لوحدك بردو؟!"

"يووه بقا! جرا ايه يا جماعة؟! هو أنا عيلة صغيرة يعني إني أتصرف لوحدي.. وبعدين مش ماما اللي مسكتني مكان بابا الله يرحمه؟! ما تسبوني أتصرف بقا.. بص يا إياد.. أنا لو حد كلمني في الموضوع ده تاني ابقوا مشوني من الشغل اللي أنا مش طايقاه ده.. واتفضل بقا عشان أنام.." صاحت بحدة شديدة وابتعدت عنه مولية ظهرها له ليغضب إياد منها ومن طريقتها ثم توجه للآخر متمتماً بطريقه

"أنا غلطان إني بخاف عليكي أنتي وأختك.. روحي اعملي اللي أنتي عايزاه" تركها وتوجه للخارج موصداً الباب خلفه لتجلس زينة في حزن شاردة على سريرها وهي تتنفس بغضب تجاه ما تقابله من إياد وسليم وهذا الرفض والتحكم الشديدان بألا تذهب وحدها وكأنها طفلة صغيرة لا تفقه شيئاً ليتعالى غضبها وشعرت بأنها تريد أن تبوح لدفترها بالعديد من الأسرار والمشاعر المكبوتة بداخلها فتوجهت لتبحث عنه بالقرب من حقيبتها ظناً منها أنها تحمله ولكن لم تجده مما جعلها تتعجب كثيراً وجلست برود لتفكر أين تركته آخر مرة..







--

لا زالت تحت تأثير الصدمة بعد انتهاء تلك المكالمة، تغلغل الشك الذي كاد أن يتحول ليقين بعد ما سمعته من زينة.. تعالت أنفاسها في غضب ثم أعادت نظرها للهاتف بيدها ثم حاولت فتحه كي تكتشف أي شيء يدل على علاقة سليم وزينة والغضب بل والحقد يتآكلها..

حاولت أن تدخل تاريخ مولده ولكن لم تستطع المرور للهاتف .. فكرت لبرهة مضيقة حاجبيها وهي تحاول تخمين ما قد يضعه سليم ككلمة مرور لهاتفه ثم ضيقت عينيها بخبث بعد تلك المكالمة التي تلقتها من قليل..

أخذت نفساً عميقاً بتصميم ثم كتبت تاريخ مولد زينة لتجد أنها كلمة المرور الصحيحة فالتفتت لتنظر حولها مسرعة ثم دلفت لأحدى برامج التواصل لتجد العديد من الرسائل الغير مقروئة من زينة، وأدركت أن سليم قد يراها بأي لحظة فشاركت تاريخ المحادثة بينهما لهاتفها بأكمله والغت السجل الذي يحتفظ بتاريخ المشاركة ثم وصدت هاتفه وتركته بموضعه بالسيارة وهي تشعر بالغضب الشديد..

"يعني أنا كل ده شاغلة بالي وهي في الآخر زينة!!" تمتمت أروى بعقلها بمنتهى التهكم "صحيح.. رايحة لخالو، جاية من عند خالو، سليم هيوصلني، تعالي معايا يا آنسة زينة، هروح معاكي الموقع!! ازاي مخدتش بالي كل ده؟! السهوكة وحبة العياط هما اللي بيجيبوا معاك نتيجة يا سليم!! ياااه! مكنتش أعرف أنك تافه اوي كده.. بس تصدق دخلت عليا.. ولا كان حد يتوقع إن فيه حاجة بينك وبينها.. بس لأ، مش أنا!! مش حتة العيلة دي اللي هتعمل فيا أنا كده.. أنا هوريك السهوكة والعياط على أصولهم!!"

"أنتي بتستعبطي يا أروى!!" صرخ بها سليم الذي فتح باب السيارة وعلامات الغضب قد اندلعت على ملامحه كنار الجحيم لينبهها من تلك الخطط السوداء التي تحيكها

"ايه يا سليم فيه ايه؟!" تسائلت مدعية البراءة المزيفة

"فيه إنك يا هانم مخلياني تلت ساعات سايق وسايب اللي ورايا واللي قدامي بسبب خبر غلط!! بعد كده تتأكدي من الحاجة قبل ما تقوليها زي البغبغان" صرخ بها مرة أخرى لتقف أمامه بعد أن خرجت من السيارة بصدمة تامة وكأنها لا تعلم ما الذي يتحدث عنه

"ازاي غلط!! أنا بقولك كنت متأكدة" ادعت أن معلوماتها مؤكدة ليطبق الآخر على أسنانه بعنف

"مين الكلب اللي وصلك الأخبار دي؟!" سألها بين أسنانه الملتحمة في انفعال وقبل أن تلفق تلك التهمة لشخص آخر اجابته بذكاء

"أكيد اللي وصلني حد أنا واثقة فيه.." ادعت البكاء لتردف "ليه يا سليم بتزعق كده.. ليه مش مصدق إني بخاف على الشركة وعلى كل حاجة زيي زيك.. ليه بتظلمني كده؟!" انهمرت دموعها التي زيفتها بمنتهى الحرفية حتى لا تدع مجالاً للشك بتصرفها لينظر لها سليم نظرات متفحصة وقد شعر بالذنب قليلاً جراء غضبه لتستغل هي عدم رده
"حرام عليك بقا، أنا استحالة يعني أسيب كل اللي عندي واجي في وقت متأخر زي ده معاك إلا لو متأكدة من اللي بقوله.. حرام عليك عصبيتك ومعاملتك دي ليا.. فيه ايه يا سليم لكل ده؟ امبارح تعاملني بطريقة زفت وتزعقلي قدام ماما وإياد وتسخن إياد عليا وأنا معملتش حاجة غلط.. ليه دايماً بتتنرفز عليا؟ اشمعنى أنا؟ اشمعنى أنا وأنا الوحيدة اللي بتشتغل ليل نهار وبتحاول تثبت نفسها في الشغل، روحي هنا حاضر، تعالي هنا حاضر.. نشارك ابن عمك اللي أنا كنت رافضاه من الأول .. حاضر.. تزعقلي امبارح أتعامل معاك عادي بعدها.. بتغلطني قدام الناس، بتشخط فيا، ليه كل ده؟! ليه يا سليم أنا عملتلك ايه.. ليه بتكرهني كده؟!"

صاحت ببكاء وانهيار مُدعى وقد صدقت كذبتها ببراعة شديدة ونحبت عالياً وكأنها تُمزق داخلياً وأخذت في ذرف الدموع الكاذبة بحرفية مبالغ فيها ثم عادت لتتظاهر بأنها ضحية مرة أخرى..

"حرام عليك بقا.. أنت عليا وإياد عليا وزينة بتكرهني وماما شايفاني أنا المسئولة عن عاصم مع إنه هو اكبر مني.. أنا ليه أتحمل المسئولية دي كلها؟ ليه بتعملوا فيا كل ده؟ أنا تعبت.. تعبت من كل حاجة.. هو أنا يعني عشان بحاول أشيل المسئولية فكرتوا إني معنديش احساس؟!" نظرت له بعينان مليئتان بالدموع التي تنهمر دون توقف واقتربت منه وهي تتحدث بإنفعال بين بكاءها "فكرتوني جامدة وبستحمل كل حاجة؟! لأ يا سليم.. أنا بنت زي أي بنت.. أنا مش جبل علشان أشيل كل الحمل ده.. أنا مش هافضل ساكتة وأنتو بتضغطوا عليا كده.. ليه محدش واخد باله؟! هو أنا مش لسه أبويا ميت زيي زي زينة من شهر ؟ هو أنا مش بحاول أتابع كل حاجة؟ لا وكمان باخد بالي من ماما وأخواتي وبحاول أتعامل مع الكل كويس.. أنا بقا خلاص.. جبت أخري وتعبت.. أنا مش عايزة حاجة من حد فيكو.. حرام عليكو بقا كفاية!!" أنهت كلماتها الأخيرة بتوسل وهي تتصنع الوهن وتوجهت وكأنما تبتعد عن سليم ليوقفها وقد شعر بالآسى على حالها

"استنى بس يا أروى.." لانت نبرته متعاطفاً معها لتلتفت له بنحيب

"استنى عشان تهزأني؟! تحب جوا قدام الموظفين؟ ولا قدام ماما وإياد زي امبارح؟ ولا قدام شهاب؟ ولا في الشركة؟! حرام عليك بقا يا سليم.. أنا آسفة بس مش هاستحمل معاملتك دي.." حدثته ببكاء ليتنهد هو وقد شعر للحظة أنه ربما كان قاسياً عليها، فهو يدرك أنه بالآونة الأخيرة لم يكترث سوى لزينة وخوفه الشديد عليها وكذلك خوفه من شهاب على الجميع!

"حقك عليا متزعليش!" أخبرها بهدوء وقد جذبها بخفة ليمنعها من مغادرتها التي شرعت بها أخذه خطوة لتُمثل بمنتهى الإتقان أنها منهارة تماماً وتقدمت لتبكي بصدره بجرأة شديدة مُدعية أنها لا تدرك ما تفعله ولا تشعر من كثرة الآلم أن ما فعلته تصرفاً لا يليق!

"أنا تعبت يا سليم من كل حاجة.. كل حاجة عليا وكأني أنا الكبيرة.. مبقتش قادرة استحمل والله" ادعت البكاء بهيستيرية بينما ربت سليم على ظهرها بأخوة وابتعد عنها قليلاً ليُفرق عناقهما الذي شعر أنها فعلت ذلك فقط لإفتقادها الحنان وكي يشعرها بالمُؤَازَرَةٌ في موقفها

"معلش يا أروى.. أنا عارف إن أنتي جامدة.. كل حاجة هتكون أحسن إن شاء الله!" حاول أن يطمئنها وهو ممسكاً ذراعيها بدعم يأخذه هو من منطلق الأخوة بينما أخذته هي من منطلق آخر تماماً..

"سليم أنا محتاجة اللي يفهمني.. اللي يكون جنبي.. حد يطبطب عليا، أنا مش هاقدر استحمل كل ده.. مش اللي يزعقلي ويحملني فوق طاقتي" بكت مجدداً متصنعة عدم التحمل ومن ثم أعادت كرتها لترتمي بين ذراعيه لتزيف بعضاً من شهقاتها فما من سليم إلا أنه تعاطف معها وربت عليها شفقةً

"متزعليش يا أروى، وحقك عليا لو زعقتلك.. وهنلاقي حل لكل حاجة بس اهدي وبطلي عياط.." حاول أن يواسيها لتحاول هي إكمال مسلسلها الكاذب وبدأت في إخماد شهقاتها وبكائها لتتجرأ أكثر وتحتضنه مُدعية الإحتياج

"أرجوك يا سليم براحة معايا، بلاش عصبية.. وأنا أوعدك إني هحاول أهدي من عصبيتي شوية.. أنا عارفة إن مسئوليتي كبيرة بس أنا في الآخر بشر" نظرت له بعينيه ويداها لا تزال محاوطة اياه ليومأ هو لها ثم ابتعد عنها في هدوء بإبتسامة مقتضبة

"حاضر يا ستي.. يالا بينا نروح بقا؟!" نظر لها في هدوء وابتسامة كي يُشعرها بعدم غضبه

"معلش يا سليم.. أنا تعبت اوي النهاردة.. الوقت أتأخر اوي.. احنا كده كده لينا استراحة في كل موقع.. أظن فيه شاليه استلمناه هنا ومعايا مفتاحه.. نبات هنا النهاردة ونرجع الصبح.. ممكن؟!" تصنعت الإرهاق وحدثته بنبرة متوسلة ليومأ لها بتفهم

"طيب يالا اركبي" أخبرها متنهداً بينما دلف السيارة حتى يتوجها للمبيت معاً بتلك الإستراحة بالموقع!



--

"أنت لا تعرفني.. حسناً عزيزي ولكنني سأعطي لك مقدمة تعريفية عني لاحقاً.. أكاد أنفجر من كل تلك الكلمات والمشاعر المكبوتة بداخلي وعليّ التعبير عنها الآن.. وسنوطد علاقتنا معاً فيما بعد ..

لنقل أن هذه مذكراتي، ولحظي الملعون قد أضعت دفتر مذكراتي.. نعم كان لدي صديق قبلك عزيزي ولكن استمع لي..

لقد رأيته اليوم، نعم لقد نظرت له بأم عيني.. رأيت ابتسامته، اهتمامه الذي يصرخ من عينتيه اللتين أصبحتا كل ما ينتشلني من عالمي الأسود إلي الحياة بألوانها الزاهية.. ولكنني لا زلت أشتاق إليه..

لا أدري عزيزي الداكن.. عفواً فأنا اعتاد على قص مذكراتي على دفتر أسود اللون ولكن لم أجد غير الأزرق الداكن لأتخذه صديقاً.. يروقني هذا اللون بالمناسبة.. لنعود لموضوعنا.. أين كنت؟!! ها أنا ذا، لماذا لا أستطيع أن أتوقف أمام سليم؟! ما الذي به يجعله يسيطر علي وكأنه يشير لي كي أقترب فأقوم بالإستجابة عدواً لشفتاه.. لأنامله.. لعينيه !! أخبرني واللعنة ما الذي يحدث لي؟!

أرأيت اليوم شهاب ابن عمي.. أقترب مني دون قصد، لقد كان يفعل لي معروفاً، قابلته بحزم وصرامة.. ولكن ماذا عن سليم؟! لقد سأمت هذا الأمر حقاً ولا أدرك كيف لي أن أتوقف عنه!!

دعك من هذا.. وتجاهل تنهيدتي ووجهي الذي تحول للحمرة وابتسامتي البلهاء التي لا أريد التخلي عنها ومشاعري التي لا تكف عن التأجج لمجرد ذكر سليم.. أعشقه كالبلهاء أليس كذلك؟! أعرف أنني أريده.. ولكن لن أذعن أنا حتى يقر بحبه لي.. نعم لن أتخلى عن ذلك العناد برأسي.. ولن أكتفي بإجاباته اليوم على أسألتي..

واللعنة لقد قلقت عليه!! أين هو ولماذا لم يتصل، هو حتى لم يرسل لي برسالة!!

أنتبه للتالي.. لقد قابلت اليوم عمي.. وكم ندمت أنني لم ألتقي بذلك الرجل منذ سنواتٍ عدة.. سامحها الله أمي!! حقاً لا أسامحها على ذلك..

هذا الرجل يبدو طيباً بشوشاً ولقد وقعت بعشقه.. كم أنني سعيدة بتلك النظرة الفخورة بعينيه، لقد كسبت اليوم علاقتان أظن أنهما سيكونان جيدتان للغاية.. عمي وابنه!

لن أدعي وأخبرك بأن ابنه رائع ولكنه غريب.. رجل، بالغ، مستقل، جذاب، هادئ.. وكأنه يعرف ما يفعله جيداً.. أتعرف هؤلاء الشخصيات الشهيرة الجذابة عندما يستعدون لعدسات المصورين بحفل توزيع جوائز.. هذا شهاب وهذه مقدار ثقته بنفسه..

ألديك فكرة لماذا كلاً من سليم وإياد يبغضونه؟ لماذا أرى عدم اتفاق بينهما وبينه؟ أراه رجل جيد.. فقط غريب قليلاً، أو لنقل مثير للإهتمام..

أنا مرهقة اليوم ولا أستطيع التعبير عن كل ما بي ولا أستطيع كتابة المزيد، ولا حتى أستطيع الإطناب ولكن تبقى أمران أريد أن أقصهما عليك..

أولاً، لقد أشتقت لإياد كثيراً.. عرفت هذا بعد اليوم، بالرغم من أنني قد اختلفت معه بالأمر ولكنني أحبه.. سأعتذر له بالصباح عما بدر مني.. ولقد سعدت بحديثنا وقضاءنا الوقت سوياً اليوم..

ثانياً، أتتوقع أنني بيوم ما سأجد والدي؟ هل لي أن أناديه "بابا" يوماً ما؟!" تنهدت في وهن وهي توصد دفترها الجديد ثم تثائبت بإرهاق لتتفقد هاتفها بنظرة نعسة فلم تجد منه أية رسائل وذهبت فوراً للنوم!






--

 

"يا ابن الكااالب!! أنا حقير!!.." تمتم مبتسماً بتهكم بعد أن فرغ من كل ما كتبته زينة بذلك الدفتر ولكنه شعر كم هو محظوظ، لقد وقع بيده للتو مفتاحاً لفك لغز تلك الفتاة..

"عملالي فيها رابعة العدوية.. ما أنتي بتسيبيه يقرب منك اهو عادي.. كنت كخه أنا لما قربت منك!! لا متربية يا بنت عمي اوي" صاح متحدثاً لنفسه عندما تذكر تلك اللحظة عندما اقترب منها "بس سيبك انتي بكرة تبقي زي الخاتم في صباعي.." فكر بينما تفقد السماء من حوله التي قارب ضوء الشمس على السطوع بها "وبكرة ليه.. ده كمان تلت ساعات بالظبط" تمتم بينما وصد الدفتر أمامه وأشار للنادل بالمقهى الذي جلس به ليحضر له المزيداً من القهوة ودلك عنقه بإرهاق..

لقد جلس طوال الليلة الماضية يقرأ ما يقارب من أربعمائة صفحة من تراهات تلك الفتاة، أدرك من هي والدتها وكيف هي علاقتها معها، لمس وحدتها الشديدة، تعرف على أخوتها منها.. كما أنها مريضة، لم يكن يعرف ذلك.. سيستغل تلك الجزئية أيضاً.. أمّا بدر الدين الخولي!! ذلك الرجل يبدو وكأنه الملاك المنقذ لها.. ليتبعه على غرارِهِ ذلك الفتى سليم!! ولكن لم تعلم بعد أن شهاب لا يتبع أحداً، سيريها ذلك، وسيعرف جيداً كيف يدمر تلك الشخصيتان بعينيها حتى تكرههما..

"وابقا بقا تعالى أعمل كبير عليا يوم ما تلاقيها راحت من ايدك.. ولا اقولك.. سيبك من الحاجات الشخصية وخليها على جنب، ويالا عشان ورانا شغل!!.." ابتسم بإنتصار وشيك ليكمل عقله "بس شغل شهاب غير شغل الأطفال بتاعك ده خالص يا ابن ابوك" تنهد بعمق وهو يُريح ظهره بالكرسي وأخذ يُعد يوماً كاملاً مليئاً بتلك التراهات التي تعشقها زينة وهو يحاول أن يُنحي كلاً من الحقد والضغينة بداخله قدر ما أستطاع ولكنه أقنع نفسه بأن موعده بات وشيكاً مع سلمى.. فلقد تحمل كثيراً الأيام الماضية من هؤلاء الأطفال وأوشك على الإنفجار كالبركان الثائر!

وأين له ذلك المتنفس سوى بتلك الطريقة التي يشعر بعدها بالإنتعاش.. قلب شفتاه وهو ينظر لنفسه ليقيم طريقته الغريبة، يتعرض لتلك المواقف التي لطالما ذكرته بماضيه الصعب.. بكون والده رجل مستور الحال يسهر ويكد حتى يصل لما هو عليه .. وحده بصحبته دون أي شخص آخر ولا أُسرة ولو صغيرة ترعاهما.. يشعر بتلك الحمم الملتهبة التي لا تتوقف عن الغليان بداخله كلما قابله أحد بطفولة سوية، بحياة طبيعية، بأموال لا تعد ولا تحصى، بعلاقة حب لا يشوبها شائبة، بنجاح هائل كاد أن يقارب نجاحه.. يرى ذلك ويشعر بشعور غريب وينتابه براكين لا نهاية لها بداخله ولكنه ينتهي بعنفه مع سلمى.. سيهاتفها.. سيهاتفها حتماً ولكن عليه أن يُنهي اليوم بنجاح أولاً مع زينة..

آتت له فكرة أن يصور هذا الدفتر بأكمله حتى يتبقى معه نسخة للذكرى السعيدة، نعم ذاكرته قوية ولا يحتاجه ولكن هو في مزاج رائق للغاية للخطط.. سيعمل على كل ما عمل سليم على أن يغيره بتلك الفتاة.. سيأتي بالحل الأفضل حتى يُريها أن ذلك الفتى كان مخطئاً.. سيخلق عقلاً جديداً بداخل رأسها وسيدمر القديم الذي أستجاب لسليم!!! كما أنه لا يدري أزينة ذاكرتها قوية مثله أم تحتاج أن يُذكرها بذلك الدفتر؟! ربما سيحتاج لذلك.. سينهي قهوته وسيتجه لنسخه.. كما أنه سيعيد الحق لأصحابه، وسيرد الأمانة.. سيعيد ذلك الدفتر لها ولكن بطريقته!! ابتسم بتهكم ثم نهض ليخرج العديد من الورق المالي الذي يقارب ضعف المبلغ المطلوب منه ثم توجه لحصد المزيد من الإنتصارات!




--

 

        

"ارتاحي بس ومتعمليش اي حاجة وشوية والدوا هيعمل مفعوله" تحدث بدر الدين وهو ينظر بإهتمام لنورسين

"ده أنا هاعمل زنجبيل باللمون وهاجي" بالكاد تحدثت وقد انبعثت آثار الزكام بنبرتها

"لا أنا شوية وهاقوم اعملهولك.. متقوميش من السرير ومتتعبنيش معاكي بقا" عقد حاجباه حانقاً لتومأ هي له بإرهاق شديد ليتنهد هو ودلف السرير بجانبها ليجذبها بخفة حتى تتوسد صدره

"يوووه يا بدر هتتعدي" همست بإهتمام ولكنها بالكاد تحدثت ولم تستطع حتى دفعه

"أنا زي القرد مش هيجرالي حاجة.. نامي بس شوية وارتاحي"

"سليم مكلمكش؟" سألته بقلق واضح في نبرتها

"ولا الهوا!" تمتم بسأم

"هيكون فين لغاية دلـ.." سعلت وهي تحاول التنفس ولم تُكمل جملتها

"سيبك بقا من سليم وارتاحي شوية هو مش صغير.." زجرها بإكتراث لحالتها ليقاطعهما رنين هاتف بدر الدين "اهو بيتصل اهو ياختي.. هاروح أشوفه فين واطمنك.. ارتاحي بقا ومتقوميش تاني" حدثها ثم نهض متجهاً خارج الغرفة ليجيب اتصال سليم

"فينك يا سي زفت من الصبح.." اجاب هاتفه بنبرة متهكمة

"من عقود شهاب، لعزومة شهاب وأبوه، لحوار في الساحل.. بس جت سليمة" اجابه بنبرة مرهقة زافراً في سأم

"ايه ده.. حوار ايه؟!"

"متقلقش.. القرية اللي جبنبنا واحد مات فيها، افتكرنا الموضوع عندنا!"

"افتكرنا!! أنت أهبل ولا ايه يا سليم؟! مش تتأكد قبل ما حاجة زي دي تحصل؟!" صاح به غاضباً

"بابا أرجوك أنا مش ناقص خناق النهاردة وفيا اللي مكفيني.. أنا راجع الصبح عشان الوقت أتأخر.. حبيت أطمنك بس" تحدث بإرهاق مجدداً

"مالك يا سليم؟!" سأله بقلق واهتمام

"مكنتش عايز نمضي مع شهاب العقود، وأروى كعادتها بتبالغ.. وبعدين موضوع الساحل.. حاسس الدنيا ملعبكة شوية"

"أنت ايه قصتك مع شهاب.. مش هتعرفني ولا مبقاليش لازمة؟!" تحدث بجدية سائلاً

"كل الموضوع عشان مدخلكش في تفاصيل إنه مش كويس.. إنسان قذر.. وبصراحة مكنتش عايزه يدخل وسطنا.. الاقي أروى شوية تقرب منه وشوية زينة.. مش مطمن بصراحة.. أنا خايف عليهم"

"ما هو أنا مش فاهمك.. لما قرب من زينة قولت إنك غيران.. لكن دلوقتي أروى وخايف عليها!! طب زينة بتحبها.. أروى كمان بتحبها؟ هتتجوز الاتنين ياض"

"يا بابا مش كده.. أنا مش عايزه يقرب منهم لأني عرفت إنه وسخ وخلاص!"

"ايوة!! عرفت ايه بقا؟!"

"بابا .. أنا لما أرجع هظبط الدنيا"

"هتظبط الدنيا!!" تكلم ساخراً "ابقى قابلني.. أنا شايفك مش نافع في حاجة.."

"شكراً يا بدر باشا.."

"تعرف!! يوم ما أعرف ميرال قالتلك ايه عنه وطلع حوار كبير مش هاعتقك يا حنين"

"تصدق إني غلطان.. أنا مش هاعرفك حاجة تاني عشان متوجعليش دماغي"

"ياض أنت حيلتك مين تحكيله غيري" أخبره مازحاً

"ربنا ما يحرمني منك يا عم"

"بس ايه اللي خلاك تبات مع أروى.. هتكحوش يا واد على كل واحدة شوية؟! يومين مع زينة ويومين مع أروى ولا ايه؟!"

"لا الوقت اتأخر وفضلت تعيط وبتاع.. أنا بردو اتغابيت على الكل النهاردة وامبارح واتعصبت جامد.. صعبت عليا وعارف اننا تعبنا النهاردة فقعدنا في الشاليه اللي هنا"

"صعبت عليك!! لا أنت شكلك محتاج إعادة تأهيل.. ما تيجي اديك علقة حلوة وأغلبك كام ماتش كده"

"أنا محتاج إعادة تأهيل فعلاً" عقب على كلماته المازحة متنهداً فما حدث بالآونة الأخيرة قد تملك من عقله ليتعارك مع أفكاره بعنف

"اجمد ياض.. متنساش.. أنت ابن بدر الخولي.."

"ماهي دي المصيبة يا اخويا"

"ايه مش عاجبك يا حيلتها؟!"

"لا مش كده.. الكل متوقع إني جبل زيك مبيتهزش"

"لا ده أنت شكلك كده بقيت توتو خالص!! ارجعلك الشغل تاني ولا عايز تربية من أول وجديد؟"

"هظبط متقلقش.. أنا دماغي بس مشغولة زيادة عن اللزوم!" تنهد مرهقاً "أنا هنام بقا يا بدر عشان الحق اجي بكرة.. تصبح على خير"

"ماشي يا حيلتها، وابقا كلم أمك الصبح احسن عندها دور برد مبهدلها"

"هي كويسة؟! جبتلها دكتور؟!" تسائل سليم بإهتمام حقيقي

"اه متقلقش.. اديتها الدوا وكله تمام.. روح بس حل حواراتك وتعالى قولي س و ج.. اتخمد ياض"

"ماشي يا عم.. سلام!"

"سلام!"

أنهى مكالمته مع والده ثم أخذ يخلع ملابسه بأكملها متجهاً للحمام الملحق بأحدى الغرف التي مكث بها ليلعن بداخله.. لا يوجد أية ملابس له هنا.. يبدو أنه عليه أن ينم بالمنشفة.. أو عارياً.. على كل حال ليس هناك سوى سويعات تبعده عن الصباح القريب!!

زفر بإنزعاج وتفحص هاتفه ليجد رسائل عديدة من زينة وشعر بالذنب، فهو لم يجبها.. تذكر عندما كان بالسيارة بصحبة أروى، كان لديها حق.. كان عليه أن يجيبها..

"جالنا خبر إن واحد مات عندنا في الساحل بس جت سليمة وطلعت القرية اللي جنبنا، معلش متزعليش مني أنا كنت متعصب لما عرفت ولما جيت لقيت الشرطة كتير وهما بيحاولوا يطلعوا الجثة.. وأضطريت أبات هنا أنا وأروى علشان الوقت أتأخر وتعبنا النهاردة بصراحة" تنهد متريثاً وهو لم ينتهي بعد من إرسال رسالته الصوتية لها "وحشتيني.. نفسي أكون بعيد معاكي عن كل الهم ده.. آسف يا حبيبتي إني مردتش عليكي.. كلميني أول ما تسمعي الـ voice note دي"

أرسلها ثم توجه للحمام ليدلف أسفل المياة الدافئة وبالكاد قد شرع في التفكير بكل ما حدث اليوم وطريقته اللاذعة مؤخراً ولكن سمع طرقات على باب الغرفة ليزفر في إنزعاج فيبدو أنه لن يختلي بنفسه اليوم ولو للحظة واحدة.. وصد المياة ثم التف بواحدة من المناشف ليتفقد ماذا تريد أروى فهي الوحيدة التي تمكث معه هنا .. خلل شعره سريعاً بيده وهو يحكم المنشفة عليه ليرى ماذا هناك وفتح الباب ليجدها هي الأخرى ترتدي واحداً من رداءات الإستحمام

"خير يا أروى فيه حاجة؟!" سألها بإهتمام

"محتاجة اتكلم معاك شوية يا سليم.." 



--

"صباح الخير يا مامي.. عاملة ايه؟!"

"مكلماني بدري اوي كده ليه.. وعملتوا ايه امبارح؟!" سألتها هديل بنعاس

"طلع في القرية اللي جنبينا.. مش شركتنا متقلقيش.. بس ركزي معايا يا مامي معلش.. أنا أكتشفت مصيبة!!" حاولت أن تحصل على انتباهها

"فيه ايه اللي حصل؟!" حمحمت ثم نهضت جالسة على سريرها

"زينة بتحاول تقرب من سليم.. بتحاول تشده ليها.. أو هو اللي بيحاول يعاملها حلو، أو ممكن يكون خالو مخطط لده عشان يعملولها غسيل مخ زي إياد.. تخيلي لو إياد وزينة تبع خالي وابنه.. احنا كده هنضيع حرفياً.. لازم نفوق يا مامي.. أنا ابتديت أفوق وخليت سليم معايا هنا، ولسه كمان يومين هاعمل نفسي تعبانة وهاخليه يبعد خالص عن زينة.. أنتي كمان يا مامي متخليهاش تروح لخالو وتبات معاه زي ما كانت بتعمل لغاية ما نحل الموضوع!"

"أنتي عرفتي الكلام ده منين؟!" تحدثت سائلة في صدمة

"لاحظت كلام كتير ما بينهم على الواتساب.. للأسف مقريتهوش كله.. بس الكلام بيدل على إن فيه حاجة ما بينهم!"

"الحيوانة دي عايزة تخربلنا كل حاجة.. ماشي يا أروى أنا هتصرف.. سلام دلوقتي"

"مامي استني بس.. مش لازم زينة تفهم إنك ملاحظة.. أهم حاجة إنها تبعد عن سليم وخالو الفترة دي.. وأنا هاشغل سليم كويس أوي ويمكن منجيش غير بعد أسبوع كمان.. براحة خالص لأن زينة لو زعقتي معاها هتروح تعيط لخالو.. اتفقنا؟!"

"اخرسي خالص وأنا عارفة أنا هاعمل ايه! وأنتي حسابك معايا بقا لما أشوفك! اتفضلي اقفلي.. سلام!"

"استني بس يا مامي.. أنا وسليم الموضوع اختلف ما بينا أوي امبارح.. حصل حاجات كتيرة بس مش هالحق احكيلك دلوقتي عشان زمانه هيصحى.. وكل اللي أقدر أقولهولك إني قريب اوي هكون خطيبة سليم الخولي" أخبرتها بنبرة أتضح بها الإنتصار الوشيك "أهم حاجة بس نبعد زينة عنه خالص"

"ماشي يا أروى لما أشوف اخرتها معاكي ايه.. سلام!" أنهت هديل مكالمتها بعصبية وتفقدت الساعة التي قاربت على الثامنة صباحاً لتزفر وأخذت تُفكر بكل ما قالته أروى لتجد أنها ستكون مصيبة بلا محالة لو أن زينة تزوجت من سليم بدلاً من أروى! أستصل للزواج؟! يستحيل !! لن تدعها تحدث أبداً ولو بعد سنوات سحيقة! أمّا عن أبنتها فابتسمت وهي تتذكر ما حدث ليلة أمس لتقهقه بمكر وضحكة خبيثة لتتمتم

"بكرة تبقا خاتم في صباعي يا سليم!" هدأت ابتسامتها ثم توجهت لتنفذ اولى مخططاتها معه



--

"رايحة فين يا زينة!" رفعت كتفيها عندما أوقفتها والدتها بهذا السؤال 

"صباح الخير يا ماما" التفتت بإبتسامة مقتضبة ثم حمحمت لتكمل "أنا هستلم النهاردة باقي المباني اللي هيشتغل فيها الـ Staff في مشاريع شهاب" اجابتها ثم أضافت "قولت يعني أروح بدري عشان نلحق نخلص كل حاجة النهاردة" ابتسمت بتوتر وبداخلها تدعوا ألا تواجه غضب هديل من اللاشيء!

"ده من الساعة تمانية الكلام ده؟!" سألتها بعد أن همهمت وهي تتفحصها مضيقة عينيها 

"أنا بس نسيت حاجة في المكتب امبارح وهاعدي اخدها" ابتسمت لها بتوتر مجدداً 

"ماشي لما أشوف.. اصحي وفوقي كويس لشغلك.. واياك اسمع شكوى منك!" 

"حاضر يا ماما متقلقيش.. بعد اذنك" أخبرتها وفرت مسرعة للخارج لتزفر في راحة من عدم تشاجرها معها .. 

لقد استيقظت مبكراً ثم هرولت لترتدي ملابسها على عجالة حتى لا تلتقي بوالدتها ولكن لقد مر الأمر على خير.. تفقدت هاتفها بينما وجدت رسالة صوتية من سليم فسمعتها وهي تبتسم ثم ارسلت له 

- طب يالا تعالى بقا بسرعة علشان وحشتني اوي ونفسي أشوفك..

خرجت من التطبيق لتطلب من تطبيق آخر سيارة لتقلها للشركة وانتظرتها ثم هاتفت شهاب، فلقد تغير الموعد وستغادر الآن..

"صباح الخير"

"صباح النور.. عاملة ايه؟!" اجاب مكالمتها سريعاً

"ايه ده قاعد على الموبيل ولا ايه؟!" سألته مازحه 

"وهو بردو انتي اي حد؟! لازم طبعاً اردعلى طول ما دام انتي اللي بتكلميني"

"ده أنت بتعرف تثبت حلو اهو.." زفرت متعجبة ولكنها تابعت "بص أنا هاروح كده الشركة الأول عشان نسيت حاجة هناك وبعدين هنتقابل هناك على الساعة عشرة.. تمام معاك ولا ايه؟!"

"لا تمام متقلقيش.. هو انتي نسيتي ايه بالظبط؟! حاجة مهمة يعني؟" سألها متصنعاً التلقائية بعد أن تأكد أنه دفترها ليترك النسخة التي نسخها بخزينة بمنزله سريعاً ثم توجه بمنتهى السرعة ليسبقها إلي هناك 

"فيه Note book باخد كده فيه notes لأي حاجة.. مبسبهوش من ايدي أبداً.. هاروح اشوفه هناك"

"طيب تمام.. عموماً أنا هاكون قريب من الشركة.. ممكن نتقابل هناك" أخبرها وهو يقود بمنتهى السرعة حتى يصل قبلها 

"أوك اتفقنا."

"يالا هتلاقيني واصل قبليكي أصلاً" 

"أوك.. باي" أنهت مكالمتها ثم تمتمت "أنا غبية!! لو حد لقى الـ Note book قبلي هتسوح!!" توجهت بعدها لتستقل السيارة التي طلبتها منذ قليل وجلست ثم فكرت أن تهاتف سليم فلربما قد استيقظ مبكراً فانتظرته حتى يجيب ولكنه أنهى المكالمة قبل أن تنتهي من تلقاء نفسها فتعجبت واهتدت بالنهاية لأنه ربما يكون منشغلاً أمّا هو فقد كان يتحدث لأروى بعدما سبقت زينة بإدعاءها المرض الشديد..

"طب البسي هدومك على ما أجبلك دكتور" أخبرها بإهتمام بينما هي تصنعت الإجهاد ولازالت ملتفة برداء الاستحمام

"أنا.. أنا.. سقعانة اوي يا سليم.. مش قادرة اتحرك" همست مُدعية المرض

"معلش بس لازم تقومي عشـ.."

"سيبني أنام هاكون كويسة.. وممكن أي دوا هبقا احسن.. مش لازم تجيبلي دكتور" أدعت الإرتجاف ليقترب هو منها متفقداً اياها وتلمس جبينها وجهها الذي أكتسب حُمرة المرض 

"أنتي سخنة يا أروى ووشك أحمر خالص.. نامي شوية وأنا هاجيب دوا بسرعة واجيلك.." أخبرها بإهتمام بعد أن تفقدها لتومأ هي له بالموافقة "مش هتأخر" أومأت مجدداً وهي تُزيف ارتجافها ببراعة بينما ابتسمت بداخلها بإمتنان لمجفف الشعر ومساحيق التجميل ليتركها متوجهاً للخارج وهو يتمتم "أنا ايه اللي بيحصلي ده بس يارب!!" 



--

الفصل التاسع عشر

 

دلف سيارته ليتوجه طلباً لبعض العلاج لأروى ليتنهد سأماً فهذا لم يكن في الحسبان أبداً.. تذكر مهاتفة زينة له منذ قليل ليشعر أنه قد اشتاق لها للغاية وتفقد هاتفه ليعيد الاتصال بها بينما شرع بالقيادة وانتظر اجابتها فلم تجيبه ليتعجب هو من انهاءها للمكالمة..

"لا حضرتك المفروض تمشي على الـ location أصلاً.. أنت اخدت طريق غلط خالص!" تحدثت بإنزعاج بينما صدح هاتفها بالرنين

"معلش يا آنسة.. الشبكة مش مظبوطة خالص وواضح انها ضعيفة في المنطقة دي!" اجابها السائق

"أنا عندي كويسة.. اتفضل اهو الموبيل" أخبرته لتتفقد الهاتف فقررت أنها ستهاتف سليم لاحقاً بعد أن تصل للشركة "حاجة تقرف بقا.. أنا لازم ابتدي اخد العربية اللي جابهالي سليم.. مش هينفعني اوبر خالص الفترة الجاية بالمنظر ده" فكرت بعقلها وهي تتابع الطريق وقد عاد السائق للمسار الصحيح فصدح هاتفها بالرنين مرة أخرى

"موبيلك يا آنسة" أخبرها السائق

"ماشي هاته.. عموماً هنفضل مكملين على طول وهناخد اول u turn وهتنزلني على اول شركة على اليمين" ناولها الهاتف لتجد أن شهاب هو المتصل فأجابته

"ايوة يا شهاب!" تحدثت بنبرة منزعجة

"ايه ده أنتي مال صوتك؟" سألها بإهتمام

"موضوع كده.. هابقا احكيلك بعدين"

"طيب أنا وصلت ومستنيكي في الـ meeting room اللي كنا بنمضي فيها العقود امبارح"

" تمام ماشي أنا خلاص اهو على وصول"

"تمام.. خدي بالك من نفسك.. سلام" أنهى المكالمة ليزفر في راحة شديدة بعد أن أدرك أنه قد ترك الدفتر بكرسيها الذي جلست عليه أمس وانتظرها وهو يُعيد تذكر كل ما خطط له اليوم فهو لن يتركها حتى يشغل فراغها بالكامل!


 --

 

جلس وهو يتناول قهوته التي صنعها بنفسه.. حسناً، هي ليست مثل التي تصنعها نورسين.. لا يزال يشعر بالحزن كلما ابتعدت عنه، حتى ولو لسويعات قليلة وبأسباب منطقية كنومها لمرضها مثلاً، ولكنه يشعر كالتائه بدونها..

لانت شفتاه بإبتسامة عندما أدرك أن حبهما القوي لا يزال كما هو، لم يتغير بل يزداد بمرور السنوات، للحظة شعر أنه ممتناً لأخيه زياد لإحضاره تلك المرأة الرائعة بحياته يوماً ما كما شعر بالإنزعاج لتذكره أول مرة مرضت بها وهو كان يُعذبها..

كما تذكر ليلى ليزداد شروده وغرقه بالتفكير، تلك المرأة الرائعة التي تركت له قطعة منها ومنه، لقد قامت بتضحية عظيمة من أجله، لقد رسخت أفضل أساس لتشيد رجلاً رائعاً كسليم ابنهما، لا يدري إن لم تقم بما فعلته كيف كان ليربي سليم؟ لقد كان بوقت عصيب ولكن اختيارها وما فعلته سهل عليه الأمر كثيراً

"الله يرحمك يا ليلي.. ابننا كبر اوي.. كبر لدرجة أنه خلاص مبقاش عايز يحكيلي كل حاجة.. اعمل ايه معاه بس؟!" تحدث بنفسه ناقلاً كلماته لليلي ليتنهد بعمق وأخذ رشفة من فنجانه ليزداد تفكيره بسليم!

لماذا لا يريد إخباره بكل شيء؟ ما الذي قد يخفيه عليه وذلك التصميم اللانهائي بإرادته أن يبتعد الجميع عن شهاب؟ يا تُرى ما الذي أخبرته به ميرال ليجعله يخرج من دائرة الشك إلي اليقين التام بأن هذا الرجل يلزم إبعاده عن الجميع؟! 

زفر وهو يهُز رأسه بإنكار، عليه أن يتدخل بالأمر حتماً، بالرغم من ذكاء ابنه، تحمله الشديد للمسئوليات العديدة، محاولاته بأن يتعامل مع الأمور حوله بحكمة شديدة ولكنه لم يواجه قدر ما واجهه هو في هذه الحياة!

بدءاً بوفاء ووالده، مروراً بتلك الأزمات العديدة كخسارة شركة عائلته التي كادت أن تكون مؤكدة ثم موت ليلي الذي صدقه، ليأتي بعدها المخططات القذرة من كريم الدمنهوري وذلك المُسمى بيسري، ابتعاده عن عائلته بأكملها بل ونورسين أيضاً.. ليُنهي ذلك لمواجهته لنفسه بذلك العلاج النفسي الذي كان صعباً عليه للغاية بالبداية، لينتهي بمواجهة سليم الذي كان يخاف من مواجهته أكثر من خوفه لمواجهة والده بالسابق!

راق سليم الأمر أم لا ولكن عليه أن يتدخل ويعرف ما يٌخفيه عنه، عليه أن يعرف ماذا هناك حول المسمى بشهاب، يبدو وأن تلك العائلة لن تنتهي مشكلاتها أبداً وكأنما الأجيال تتعاقب وتتوالى ليُفسد الأمر دمنهوري جديد! لذا سيبدأ بميرال ثم ليرى ماذا ستكون خطوته القادمة .. يتمنى حقاً بكل ما يملك من آمال أن يكون الأمر هيناً ولا يحتاج لكل ذلك الإنفعال الذي يتعامل به سليم!!

"زوزا حبيبة خالو.. وحشتيني اوي" أجاب هاتفه الذي قاطع تفكيره 

"وأنت اوي يا خالو.. عامل ايه؟!"

"تمام يا حبيبتي.. كده أعرف صدفة إنك رجعتي ومتعديش عليا؟!" سألها بقليل من اللوم 

"معلش.. حقك عليا.. أنا يادوب عديت على الشركة عشان أسلم على اللي هناك واتشغلت اوي لأننا بنستلم المواقع من شهاب اليومين دول" أخبرته ليدرك بدر الدين أنها بالطبع لن تذهب إلا لرؤية سليم فضيق عيناه بإبتسامة ماكرة 

"يالا بقا من لقى أحبابه نسى أصحابة" ضحك بخفوت لتتعجب زينة على الطرف الآخر ولكنه أكمل مسرعاً "يالا أنا هستناكي.. هتيجي امتى؟"

"يا النهاردة بليل يا بكرة.. سلملي اوي على طنط وسيدرا" 

"يوصل يا زوزا.. ابقي كلمي مرات خالك عشان تعبانة اوي وعندها دور برد جامد"

"ألف سلامة عليها.. هاكلمها أكيد.. هستأذن حضرتك بس عشان لسه هاروح كذا موقع"

"فيه حد معاكي؟ ولا لوحدك؟!" استفسر بقلق بداخله فهو لا يزال يتذكر كلمات سليم ليلة أمس ولكنه أخفى ذلك القلق ببراعة 

" لا لوحدي.. أروى وسليم في الساحل من امبارح واخواتي مكنوش لسه صحيوا لما نزلت الصبح بدري"

"طيب خدي بالك من نفسك ولو احتاجتي حاجة كلميني" حدثها وهو يحاول أن تكون نبرته مليئة بالتلقائية بالرغم من شعوره بالقلق الشديد عليها

"حاضر يا خالو ربنا ما يحرمني منك" ابتسمت لإهتمامه الذي لم يشعرها أبداً أنه تحكم مثلما تفعل والدتها

"ولا يحرمني منك.. يالا روحي عشان معطلكيش.. سلام يا حبيبتي" تكلم ليُنهي المكالمة 

"باي" أنهت هي الأخرى المكالمة ليشعر بمزيداً من الإنزعاج والخوف لأجلها بعد علمه أنها قد ترى شهاب اليوم وحدها ليزفر في إنفعال ثم فكر أنه عليه أن يُرسل لها أحداً.. سليم ليس هنا، وعاصم قد يُخبر هديل بكل شيء ولن تدع ذلك يمر مرور الكرام!! لذا عليه أن يتحدث لإياد فهو الوحيد من يستطيع التحدث معه بعقلانية!




--


"صباح الخير" همس إياد موجهاً كلماته لأسما التي قابلته بإبتسامة رائعة

"صباح النور" اجابته ولكنها حاولت التصرف بتلقائية حتى لا تنشغل بنظراته تلك التي وجدت نفسها تتذكرها ولا تستطيع هي ولا عقلها الإعراض عنها أو تناسيها أبداً وتمكث لفترات طويلة تفكر بها 

"هافضل استناكي كده في المطبخ كل يوم الصبح ولا ايه؟! مش عارف أنا بفكر اشتغل في التفاح ما دام بتحبيه اوي كده واجيبهولك delivery كمان!!" أخبرها بإبتسامة لتضحك هي على كلماته 

"عايز توصل لإيه يا إياد؟!" ضيقت عيناها وشفتاها لا تزال تحمل آثار الإبتسامة 

"يعني بدل التفاحة اليتيمة اللي بتعدي تاخديها كل يوم الصبح ممكن مثلاً نخليها فطار برا.. وبعدها بشوية نتغدى.. أو اعدي عليكي بعد الشغل ونتعشى مثلاً.. أي حاجة يعني بدل الـ dates (مواعيد غرامية) اللي في المطبخ دي!" تنهد مخبراً اياها وهو يتفحص عسليتاها 

"بقولك ايه!!" اختفت ابتسامتها وحدثته بجدية "الامتحانات خلاص قربت.. مش وقت dates خالص على فكرة.. استنى لغاية ما اخد الاجازة.. يمكن أنا اللي اجيلك بنفسي وأقولك عاوزاك في حاجة" 

"أسما عايزاني في حاجة!!" رفع حاجباه بإندهاش ثم تابع بإبتسامة "ايه الحظ الحلو ده؟!"

"شوفت بقا.. أصبر شوية ومتستعجلش حاجة.."

"أنا زهقت من الصبر على فكرة.. وأدهم خلاص هيخطب.. وأنتي أخته البنت يعني مش هيجرى حاجة لما تتخطبي أنتي كمان" 

"بردو!! مفيش فايدة!! استنى شوية يا إياد معلش.." أخبرته بنظرة توسل ليزفر الآخر في حيرة 

"طب هتعوزيني في ايه؟!" أخذ خطوتان نحوها وعيناه لا تترك خاصتها لتبتلع هي في ارتباك 

"هابقا أقولك" أخبرته وهي تتعجب أخذة خطوة للخلف بينما هو توجه نحوها

"يعني مفيش أي حاجة كده تصبريني بيها" ابتسم في مكر وهو يتجه نحوها لتشعر هي بالخجل "لا شوية نكون فيهم لوحدنا، ولا تقوليلي ناوية على ايه.. ولا حتى كلمتين حلـ.." قاطع كلماته رنين هاتفه ليعقد حاجباه وأخرجه من جيبه ليتفقده بتعجب بعد أن أدرك أن خاله بدر الدين من يحدثه بمثل ذلك الوقت فهي سبقت التاسعة صباحاً بقليل 

"أنا.. أنا هتأخر.. سلام" فرت أسما بسرعة ليزفر هو خلفها في تآفف ثم أجاب المكالمة بإنزعاج



--     

"ايه.. لقيتي اللي بتدوري عليه؟!" سألها شهاب بملامح عادية دون أن يتضح بها استفساره اللحوح 

"لأ لسه.." همست بحيرة وهي تحاول أن تتذكر أين تركته "ملقتش حاجة في مكتب سليم" أخبرته بحزن 

"ما يا إما سيبتيه في عربية، يا إما في عربيتي من امبارح.. يا إما في مكان تاني كنتي قاعدة فيه" تظاهر بالتحدث بمنتهى البساطة وهز كتفاه لتقع هي بدوامة من التفكير لتحاول التذكر أين ذهبت يوم أمس

"طب أنا كنت قاعدة هنا امبارح.." صاحت بتمني شديد أن تجده بكرسيها الذي جلست عليه أمس واتجهت نحوه بخطوات سريعة لتزفر براحة بعد أن وجدته "أخيراً لقيته" ابتسمت لينظر لها شهاب بإبتسامة متصنعة 

"طيب كويس.. يالا بينا بقا نكمل شغل امبارح.." ابتسم لها مجدداً لتومأ له 

"يالا.." وضعته بحقيبتها بينما هو شعر بالإنتصار بداخله فتلك الفتاة صيداً سهلاً للغاية 

"احنا هنروح فين بقا النهاردة؟!"

"ناقص تلت مواقع بس هسلمهوملك النهاردة.. وبكرة ممكن نروح الساحل.. بس قوليلي الأول فطرتي ولا لسه؟" سألها ناوياً أن يُقضي اليوم بأكمله معها

"لا بس مش مهم، خلينا الأول نروح نخلص الشغل وبعدين نبقا نفطر" أخبرته لتتذكر سليم الذي هاتفها عندما كانت تتحدث مع السائق فأخرجت هاتفها لتتصل به مجدداً

"براحتك بس أنا عن نفسي لسه هفطر.. مش هالف أنا اللف ده كله من غير فطار" أخبرها وهو يريد أن يُريها أنه لا يتحكم بها إطلاقاً

"يعني هافطر بالإجبار مش كده!! عايز تجبها بطريقة شيك شوية!" عقدت ذراعيها وهي تنظر له مضيقة عيناها بإبتسامة وتناست المكالمة تماماً التي كانت على وشك إجرائها 

"لا مفيش إجبار خالص.." هز كتفاه بتلقائية "بس تفتكري يعني أرضالك يجرالك حاجة بسببي.." ابتسم لها لتزفر هي في حيرة 

"ماشي.. بس نخلص فطار بسرعة عشان لازم اخلص كله بدري النهاردة واعدي على خالو" 

"هنحاول بس موعدكيش" أخبرها بإبتسامة مضيقاً عيناه وهو يتصنع اللطافة 

"يا سلام!! وده ليه بقا يعني؟!" رفعت احدى حاجبيها في استنكار

"يعني اللي يلاقي بنت عم زي القمر كده زيك تفتكري هيكون عايز يخلص معاها بسرعة؟!" اجابها سائلاً

"ده أنت بتعاكسني مثلاً؟" ابتسمت له في استفسار

"ممكن .. " نهض ولم يدع لها مجالاً لتُكمل تلك الدائرة من الأسئلة التافهة فهذا أكثر مما يستطيع تحمله وقد نفذ صبره من تلك الطريقة التي لا تناسبه إطلاقاً "يالا بينا؟!"

"يالا" اتجها سوياً للخارج ثم إلي المصعد في صمت دام دون حديث..

ذهب عقل زينة لتتذكر سليم مرة أخرى، لماذا لم يتحدث لها؟! سألت نفسها ثم تذكرت أنه هاتفها وهي من لم تقم بإجابته، ستحدثه فور خروجها من المصعد.. 

"ايه.. مالك ساكتة كده ليه؟! أنتي كويسة؟!" سألها شهاب وهو يحدق إلي زرقاوتيها لتنظر هي له في تردد 

"بفكر في كذا حاجة بس محتاجة اعملها.." ابتسمت بإقتضاب مجيبة 

"يعني .. بدل ما أنتي بتفكري لوحدك.. لو حابة تتكلمي عن الموضوع أنا موجود" أخبرها بنبرة امتلئت بالتشجيع لتتنهد هي وقد قرأ الحيرة بملامحها "لو حابة يعني.. لو حاسة إني مش لازم أعرف أو الموضوع شخصي أو.."

"لا لأ.. مش شخصي" قاطعته بعد أن شعرت أنها أحرجته

"أصل شكلك من الناس اللي مش بتحب تتكلم في كل حاجة.. قولت أسيبك براحتك"

"لا خالص.. هو بس.." لم تدري ما الذي عليها قوله، هي فقط تمنت لو أن لديها أحداً تقص عليه كل شيء دون أحكام اندفاعية تجاهها، ما الذي قد يُغير شهاب عن الجميع؟! فبالنهاية سيكون مثلهم!! فكرت قليلاً لتتمتم أخيراً "مبحبش أشغل حد بمشاكلي.." ابتسمت له بلباقة ثم كادت أن تغرق بأعماق صمتها ولكنه بادرها بالحديث 

"وهو أنا حد؟! ولا أنتي حد؟! عيب بقا احنا قرايب يعني.. وأظن كده بقينا أصحاب من امبارح" تصنع الإبتسامة التي زيفها ببراعة شديدة "وبردو براحتك انتي مش مضطرة تتكلمي ولا تحكي حاجة لأي حد حتى ولو كان أنا" أخبرها بثقة بينما خرجا من المصعد سوياً لتقع هي بالمزيد من الحيرة.. شعرت بأنه ليس الجميع.. ليس هناك أي تحكم منه، ليس هناك تلك الإتهامات التي يلقيها عليها الجميع.. بدأت تتلمس أن ابن عمها غير أخواتها.. غير والدتها.. ومختلف كثيراً عن سليم!! فهو منذ أن تعاملت معه وهو لا يفرض عليها شيئاً أبداً عكسهم جميعاً..


--

"ألف سلامة عليكي يا نوري.." تحدث سليم بهاتفه 

"الله يسلمك يا حبيبي.. أنا قلقت عليك أوي امبارح.. احكيلي فيه ايه؟!" سألته بنبرة مُجهدة وناعسة أيضاً لتلين شفتا سليم بإبتسامة لإهتمامها الذي لم يتغير منذ أن عرفها 

"جالنا خبر أنا وأروى إن عندنا مشكلة كبيرة بس طلع غلط وفي القرية اللي جنبنا.. جت سليمة متقلقيش.. وهحاول نرجع النهاردة" أخبرها بنبرة تعجبت لها نورسين 

"مال صوتك يا سليم؟ أنت كويس؟" سألته في لهفة ليزفر سليم لبرهة ثم اجابها

"كذا حاجة في بعض.. ضغط شغل مش أكتر"

"كده بردو تخبي على نوري.. كلامك مش داخل دماغي" حمحمت وهي تنهض جالسة بالسرير

"صدقيني ضغط شغل"

"احكي واخلص.. مش هاتعرف تخبي حاجة عليا" أخبرته ليتنهد هو في حيرة ولكنه أخبرها بالنهاية

"يعني قلقان شوية على زينة وأروى من دخول ابن عمهم ده في وسطنا.. مش مطمنله.. حاسه مش كويس" 

"طيب عارفة إنك بتقلق عليهم.. بس مش المفروض إن أروى معاك؟ وأنت وزينة كويسين؟!! قلقان ليه بقا؟!" 

"مش عارف يا ماما.. أنا.. حاسس إن.." تلعثم وهو يحاول أن يُخبرها ولكنه بنفس الوقت لا يستطيع إخبارها بالأمر بأكمله "الإنسان ده زي ما يكون هيخرب حياتنا كلها"

"ليه يا حبيبي بتقول كده؟ هو أنت مخبي حاجة عليا يا سليم!" 

"لا يا ماما مش كده" أنكر الأمر سريعاً "الفكرة إنه.. يعني.. لسه منعرفهوش، كل شوية الاقيه يا مع أروى يا مع زينة، بالصدفة يقعد في وسطنا.. حد غريب مبيتكلمش ولا نعرف عنه حاجة.. خايف بس يطلع إنسان مش كويس"

"يا مع أروى يا مع زينة!!" تمتمت مقتبسة من كلماته في تعجب "طيب زينة وهنقول بتغير من أي حد يقرب منها، إنما أروى!! غريبة دي"

"يوووه يا ماما!! الموضوع مش غيرة على الاتنين.. أنا بس.." تحدث بإنزعاج لتقاطعه هي 

"أنا فاهماك، عارفة إنك قبل ما تكون بتحب زينة وأنت بتتحمل مسئولية ولاد عماتك كأنهم زي سيدرا بالظبط.. لكن يا حبيبي متنساش إن ده ابن عمهم.. يمكن يكون عايز يقرب منهم زي ما أنت كده قريب منهم!! حط بردو في دماغك إنهم كانوا بعيد عن بعض زمان، سواء هو أو هما عايزين يعرفوا بعض.. عارف فارس يا سليم؟!" سألته بينما هو لم يقتنع بأي كلمة مما تفوهت به فهي لا تعلم حقيقة هذا الحقير لتأخذ هي صمته على سبيل أنه يحاول التذكر "فارس ابن عمي جوز بسنت.. فاكرهم؟!" سألته مجدداً ليجيبها بالنهاية

"آه يا ماما فاكره"

"أنا عرفته لما كان عندي واحد وعشرين سنة.. قبل كده مكنتش أعرفه خالص! بغض النظر ايه حصل زمان بس بقينا أهل وقربنا من بعض وبقينا بنزور بعض عادي ولغاية دلوقتي فيه مكالمات ما بيننا.. فبالنسبة لولاد عمتك كل اللي بيحصل ده طبيعي وكمان بينهم وبين بعض شغل.. فاهمني أقصد ايه؟!"

"فاهم.. فاهم.." اجاب متمتماً ثم ابتسم بسخرية، فلطالما كانت نورسين تتصف بالطيبة ولن تشك ولو للحظة واحدة أن ما تحاول هي أن تشرحه بعيد كل البُعد عن حقيقة هذا الحقير

"ممكن بقا تبطل قلق شوية؟! مش أنت بتقول إن أروى معاك؟!"

"آه معايا وتعبت هي كمان.. درجة حرارتها عالية وجيبتلها دوا واهي نايمة" 

"طيب اديك اطمنت على أروى.. وبالنسبة لزينة مش أنت واثق فيها؟!" 

"أنا واثق فيها بس مش واثق فيه هو" اجابها زافراً في انزعاج 

"مش أنت بتحبها وعارف إنها استحالة تسيب حد يضحك عليها وفاهمها كويس.. ده أنت مربيها يا سليم على ايدك!"

"يا ماما زينة نفسها مش عارفة هي عايزة ايه! ده اللي بيخوفني عليها، ومنها كمان!! يعني أنا سهل جداً أقولها إني بحبها، سهل أقول لبابا نخطبها من عمتي.. بس الفكرة فيها هي.. اه ممكن تتبسط بكل اللي هيحصل من حواليها والإهتمام والضحك والهزار، بس ممكن فجأة تقلب تاني.. أنتي أكيد فهماني أقصد ايه" 

"طيب اهدى كده ولما تيجي هنشوف حل لكل حاجة.. وفك التكشيرة دي بقا اللي شوفتها دي وأنا بعيد عنك.. مش ابني أنا اللي يكشر كده.." أخبرته لتحاول أن تُغير تلك النبرة التي ملئها الهم 

"ماشي يا ماما" تمتم بإقتضاب

"لا فك كده.. خلينا نعرف نتعامل مع بدر، احسن كل ما سيرة الخطوبة تيجي قدامه بيكشر وبيتنرفز وبيمشي"

"مش هيبطل أبداً!!" أخبرها في عدم تصديق لما يفعله والده 

"غيرة بدر بقا وأنت عارفها كويس أكتر مني" 

"طب ماما بقولك ايه.. أنا زينة معايا waiting .. هاكلمها وأكلمك تاني" أخبرها عندما قاطعت زينة مكالمتهما

"ماشي يا سيدي.. من لقا أحبابه.."

"وأنا اقدر بردو" أخبرها مازحاً 

"يالا يالا روح كلمها.. سلام يا حبيبي"

"سلام يا نوري.." نظر بهاتفه ليجري التحويل بين المكالمتين ثم اجابها

"وحشتيني.." أخبرها بلهفة لتبتسم هي تلقائياً ولم تكترث حتى لشهاب الجالس بجانبها، فهي بدأت تتأكد أنه لن يسارع بإطلاقه أحكام عليها

"وأنت كمان وحشتني اوي.. عملتوا ايه امبارح؟!" تحدثت بعفوية أمّا عن شهاب فود لو احتجزها وهشم ذلك الهاتف بيدها

"خبر جه غلط وجت سليمة.. متقلقيش.. أنتي اللي فين دلوقتي؟!" 

"مع شهاب .. بستلم باقي المواقع!" أخبرته في هدوء ليبتلع هو وكاد أن يُصيح بها ليحاول كظم غيظه قدر المستطاع والتحكم في غضبه قبل أن يُفسد الأمر معها 

"في حد معاكوا؟!" سألها بنبرة هادئة بينما ملامحه اندلعت غضباً وسحق أسنانه بعنف

"لا.. مفيش" أجابته بتلقائية ليهمهم هو ليحاول أن يُظهر نبرة تلقائية للغاية 

"على فكرة بدر هيزعل اوي لو مروحتيلوش النهاردة، وكمان نوري تعبانة أوي.. لازم تروحيلهم" حاول أن يأتي بأي حُجة حتى يضمن عدم قضاءها الوقت مع شهاب 

"ما أنا أصلاً كنت هاروح النهاردة وابات عند خالو.. أنت عارف يا سليم اني بستناها يعني بفارغ الصبر"

"هتخلصي امتى أصلاً النهاردة؟"

"شهاب هو احنا هنخلص امتى؟" توجهت بتلقائية لسؤاله بينما سليم ركل الأرض أمامه بمنتهى العصبية 

"يعني على الساعة خمسة كده.. عشان المواقع بعيدة عن بعض" اجابها بملامح عادية وكم تمنى بداخله أن يلكم هذا الطفل الذي يظن أنه يتحكم بكل من حوله 

"خدي بالك من نفسك يا زينة وكلميني كل شوية ولو احتاجتي تسألي على حاجة كلميني.. سلام دلوقتي!" أنهى المكالمة لتتعجب زينة له فهو لم يغضب ولكن طريقته كانت غريبة للغاية وكذلك انهاءه للمكالمة بتلك السرعة الشديدة وكأنه يريد ألا يتحدث لها وذهب عقلها للتفكير بما حدث لتغرق ببؤرة من الصمت الشديد ليلاحظها شهاب الذي قرر أن يتدخل مسرعاً

"زينة أنتي كويسة؟!" تصنع الإهتمام ولكن كل ما يريده هو معرفة ما حدث بتلك المكالمة السريعة 

"آه.. تمام" اجابته بنبرة بدت وكأنها غائبة عن الواقع 

"امال سرحانة كده ليه؟! فيه حاجة ضايقتك؟!" سألها مجدداً بهدوء

"لا! مفيش" اجابت بإقتضاب وهي لا تزال تُفكر لتشعر فجأة بالغضب داخلها "سليم بقا غريب اوي.. أنا مبقتش فهماه" غمغمت وتبين شهاب ما قالته

"غريب ازاي يعني؟!" 

"مش فاهمة.. مش فاهمة هو عايز ايه وبيعمل كده ليه! فجأة احسه قريب مني اوي وشوية احسه بيبعد عني وبيتصرف تصرفات غريبة" تحدثت وكأنها تنفجر بالكلمات فتعامل شهاب بمنتهى التلقائية فهو على علم مُسبق بكل ما حدث بينهما فترك طبيعة علاقتهما على جانب آخر تماماً وانتقل لأمر أراد أن يتلاعب عليه

"ليه يعني عشان أروى راحت معاه وانتي لأ؟!" سألها وتمنى أن يبدأ الريب في التغلغل لقلبها 

"أروى!!" تعجبت وهي تنظر له بإستغراب "لا الموضوع مش كده خالص"

"معلش يمكن فهمت غلط.. ممكن لو حابة تتكلمي يعني تفهميني.. ولو مش عايزة يـ.."

"مش موضوع عايزة اتكلم ولا لأ" قاطعته مُسرعة لتزفر في تآفف.."شهاب الموضوع ان.." توقفت قليلاً لتتردد بداخلها فلا أحد يعلم حقيقة تلك المشاعر بينها وبين سليم ولكنها تشعر كذلك بأنها ستنفجر حتماً إن لم تتحدث "سليم دايماً قريب مني.. ومننا كلنا طبعاً.. يعني انا واخواتي وحتى ولاد طنط شاهي. بس هو تصرفاته بقت غريبة اوي ومبقتش فاهمة هو بيعمل كده ليه ومش لاقية تفسير" زفرت مجدداً في حيرة شديدة

"تقصدي اي بتصرفاته؟" تناول معها أطراف الحديث بهدوء ليحثها على الإطناب في الحديث وقد راعى ألا يجعلها تشعر بأنه تدخلاً منه أو فضولاً أو حتى تحكم، بل أدعى الإكتراث لأجلها والحديث معها لأجل التخفيف عنها ليس إلا.

"مش عارفة اقولك ايه" تنهدت بعد أن صمتت للحظة ثم نظرت له ولم تستطع التحمل أكثر فما يحدث لها قد أرهق عقلها والتهمه تفكيراً "بص يا شهاب.. أنا بحب سليم!!"

--

        

"سيب كل اللي في ايدك حالاً اياً كان ايه وروح وخليك مع زينة" تحدث سليم بهاتفه لتخرج الكلمات من بين أسنانه المنفعلة في انزعاج شديد

"ايه يا سليم مالها زينة؟ فيه حاجة حصلت ولا ايه؟" سأله إياد في لهفة

"فيه اني قولتلك ان شهاب الحيوان ده مش كويس.. ازاي تسيبها معاه لوحدها تستلم المواقع كده؟" اجابه سائلاً بأنفاس غاضبة متلاحقة

"انتو فيه ايه النهاردة بالظبط.. خالي يكلمني الصبح ويقولي حاول تخليك معاها اكتر شوية.. وانت دلوقتي تقولي روحلها.. انتو تعرفوا ايه ومخبينه عني؟" تعجب إياد لما يحدث من كلاً من سليم وبدر الدين

"أنا هفهمك كل حاجة لما اجي.. اسمع بس الكلام دلوقتي واعمل اللي قولتلك عليه!" تحدث بعصبية ليزفر إياد في تآفف

"ماشي! ماشي يا سليم حاضر.. ولو اني مش فاهم فيه ايه بس حاضر! أنت راجع امتى؟"

"كنت هارجع النهاردة بس أروى جالها نزلة برد وحرارتها كانت عالية.. قولت لما تكون كويسة نسافر"

"نزلة برد! غريبة! كانت كويسة امبارح"

"سيبك بس من الكلام دلوقتي وشوف أختك.. ومتسيبهاش معاه.. سامعني؟"

"طيب خلاص ماشي.. سلام"

أنهى المكالمة مع إياد وهو يُدرك أن كل ما يحدث حوله لا يستطيع مواكبة أحداثه.. إذا استخدم القسوة مع زينة فسيزداد عنادها.. إذا أخبرها بالحقيقة لن تُصدق.. وقد تواجه شهاب بذلك.. وإذا واجهته قد ينفذ تهديده حقاً لميرال!

خلل شعره وقد سأم تلك الغيرة التي لا تنتهي أبداً بداخله، حسناً لم يعد لديه سوى حل وحيد.. عليه أن يبتعد بزينة تماماً، إذا يتحجج الآن شهاب أنه يقضي الوقت معها بسبب العمل فسيستبدلها هو الاخر بحجة كثرة المشروعات التي لديهم وهي لا تزال دون خبرة لذا سيعين أحداً وسيسند اليه كل تلك الأمور المتعلقة بمواقع شهاب.

سيعود ليقضي الوقت معها، هو الاخر يحتاج إلى ذلك؛ لقد أشتاق لها كثيراً، وتطاير الأيام بجانبها كالهواء في عاصفة ضارية، أما بعيداً عنها فيمر كالسنوات الكبيسة التي لا نهاية لها! كم تمنى كثيراً أن تكون معه الآن! ولكن ذلك الخبر الذي آتت به أروى لم يكن ليحضرها معه بتلك الظروف!

لن يتركها لتواجه تخقيقات أو تلك النظرات السخيفة من الجميع وهي بالكاد تخطو أولى خطواتها بالحياة العملية؛ لن يرضى لها بذلك!

يلعن حظه الذي أوقعه بأروى ولكنها ليست كزينة! زينة هشة للغاية ولن تتحمل بل ولن تتصرف مثل أروى، فهي بمنتهى الهدوء أخفت الخبر عن الجميع، لم تتردد ولو لثانية بمواجهة الأمر.. لابد وأن شخصيتها القوية التي تشابه والدتها دفعتها لتكن بمثل تلك الحصافة والجرأة بالعمل!

تنهد ليحدق بمياة البحر الزرقاء أمامه التي جعلت شفتاه تلين بإبتسامة عندما تذكر مشابهتها لعيني زينة ولكن آتى على فكره أروى! تذكر ما حدث ليلة أمس، انهيارها أمامه بتلك الطريقة.. هي الأخرى تتحمل الكثير وكان قاسياً معها لن ينكر ذلك.

زفر في حُزن على أولاد عمته.. كل واحد منهم بوادٍ مبتعد عن الآخر بآلاف الأميال، ليس هناك منهم من هو قريباً من الآخر؛ يعلم أن إياد يحاول ولكن ماذا عنه هو الآخر وهو الذي لم يعامل ولم يتعلم أن يكن الأخ الأكبر للجميع.. يشعر بالآسى لحالتهم ولكن يدرك بنفسه أن عمته هي السبب..

عاد تفكيره لشهاب مجدداً وفكر في طريقة لإبتعاده عن أروى؛ حسناً أروى جريئة، لا تخاف ولا تهتز بكلمة أو حتى كلمات، تفعل ما تراه صحيحاً فقط من وجهة نظرها؛ ويعلم أن انهيارها أمس قد آتى بعد سنوات.. تذكر لبرهة كذلك ما فعلته أمس عندما آتت له بملابس الإستحمام التي كشفت أماكن متفرقة من جسدها، ماذا لو نفس الموقف قد حدث مع شهاب؟!

ضغط فكاه في غضب، غيرة فطرية على فتاة مقامها كسيدرا اخته بالنسبة له، ماذا لو كان شهاب هو بدلاً منه؟ أكانت لتواجه معه مثل ما واجهته ميرال؟! حسناً! قد تستجيب أروى قليلاً لكلام منطقي وشرح بسيط بأن هذا الشخص لا يؤتمن.. سيحاول ألا يغضب عليها وسيحدثها بهدوء كما أنه سيحاول أن يقنعها بالإبتعاد عنه وأنه شخص لا يستحق الثقة!

عاد لأرض الواقع ليدرك أنه عليه إحضار بعض الملابس والطعام وكذلك متابعة حالة أروى وتفقد الوقت المناسب لعودتهما، فهو لا يستطيع تركها هنا وحدها ولا يصح أن يخبرها بأن تعود وهي مريضة.. كذلك هي فرصة جيدة حتى يتفقد كيف يسير العمل هنا بالمواقع. تنهد ثم توجه إلي سيارته ليشرع في تنفيذ ما قرره بالإستفادة من اليوم.. 





--

 

لاحظ أن وتيرة أنفاسه أصبحت عالية فحاول أن يهدأ منها وهو بالكاد يتحكم بملامحه التي ارتبكت بعد ما سمعه من حديث زينة عن سليم! كم كره ذلك المغرور وتلك العائلة! يشعر بحقد دفين تجاه هذا الفتى، هو أفضل منه، ومنهم جميعاً، هو يعي ذلك تماماً.. هؤلاء مجرد أطفال لا يفقهوا شيئاً؛ حظهم فقط من وضعهم بتلك المكانة.. كما أنه يعوف مسبقاً بعلاقة زينة وسليم، ولكن عندما أستمع منها مباشرة لكل ذلك الحب الذي تحمله لسليم ازداد الأمر سوءا!

ولكن لن يدعه ليتفوق عليه بشيء.. سيجعلها تكرهه.. سينسيها اسمه ومن هو.. سيجعلها تعشقه بل وبمنتهى السرعة الشديدة رغماً عن أنفه المغرور ورغماً عن أنف تلك المدللة الصغيرة..

أخرج هاتفه أثناء قيادته ليبعث بأحدى الرسائل لمساعديه، فهو لن يترك اليوم ليمر دون انتصار.. سيظل يجذب تلك الفتاة نحوه حتى يرى علاقتها بسليم تفشل فشلاً ذريعاً. كما أنه سيتخلص من كلاهما بالنهاية بتلك الخطة التي ظل كثيراً يعد لها.

"ايوة يا إياد" اجابت هاتفها ليترك هو هاتفه وأعطاها كامل تركيزه ليعرف ماذا هناك

"اه كلمته النهاردة" اخبرته مجدداً بينما لم يستطع شهاب تبين عن ماذا تتحدث هي

"خلاص رايحين اخر موقع اهو" سكتت لثانية ثم أكملت "لا في التجمع" اجابته ثم انتظرت لبرهة

"تمام هبعتلك الـ location" أدرك شهاب أن إياد أخيها سيلاقيها هناك ولكن كان عليه أن يفسد ذلك اللقاء..

لمح سريعاً كلمة المرور لهاتفها حتى يستطيع أن ينتهي من اليوم دون تلك العائلة؛ فيكفي هذه الفتاة بجانبه وهو بالكاد تحمل ترهاتها عن سليم!

"زينة بقولك ايه.. انا نسيت بس هعدي على البيت بتاعي عشان تمضي على الاستلامات" اخبرها دون أن يظهر أية مشاعر على كلامحه أو نبرته سوى التلقائية

"تمام مفيش مشكلة.. وبعد كده هنروح موقع التجمع؟" سألته وهي تتفقده بزرقاوتيها ليومأ هو لها بالايجاب "ونبقا خلصنا كده؟" سألته مجدداً ليبتسم لها

"للدرجادي مش طيقاني وعايزة تخلصي مني؟" تفقدها ببنيتيه القاتمتين لتشعر هي بالاحراج وسارعت بالحديث

"لا طبعاً.. أكيد لأ.. انا مقصدش يعني" أخبرته

"طيب" ادعى الإنزعاج وتصنع العبوس

"على فكرة يا شهاب أنا مبسوطة جداً اني بقضي الوقت معاك.. ومش سهل على فكرة اني اتكلم مع حد عن حاجات كتيرة اتكلمنا فيها سوا.. انا كان قصدي اننا نخلص النهاردة بسرعة عشان لازم اروح لخالو بدر مش اكتر"

"خلاص متقلقيش أنا هوصلك يعني اكيد مش هاعطلك ولا هاسيبك" أخبرها ثم عاد ليرمقها مجدداً "لو فيه حاجة مهمة ممكن نأجل كل حاجة النهاردة واوصلك دلوقتي." اقترح بنبرة حاول أن يزيف بها حزنه لمفارقتها

"لا لا أكيد ده شغل يعني.. نخلص اللي عندنا الاول وبعدين هاروح لخالو براحتي.. اصلاً انا ببات عنده على طول"

"خاللي بالك بقا كده ممكن عمك يزعل.. يعني تباتي عند خالك وعمك لأ؟!" سألها مستنكراً بإبتسامة لتقع زينة بالحيرة من امرها.. فهي لا تحب أحداً مثلما تحب بدر الدين وبنفس الوقت عندما رآت عمها وتعرفت عليه شعرت بكم هو رجل رائع ووقعت في عشقه على الفور..

"معاك حق.. ده خالي وده عمي.. اوعدك هاجي ابات عندكو يومين" ابتسمت له ليبادلها الابتسامة

"طيب تحبي نتغدا الأول ولا لسه مجوعتيش؟ أنا عن نفسي ميت من الجوع" تحدث لها بعفوية

"أنت بتاكل تسع مرات في اليوم ولا ايه؟" سألته بتعجب ليقهقه عالياً وقد أعجبته مزحتها بالفعل

"تقدري تقولي كده.. أنا بحب الأكل بصراحة" أخبرها لتبتسم هي الأخرى في تعجب

"تمام! بس بسرعة عشان الحق خالو ونلحق نخلص شغل"

"هو فيه حاجة مهمة ولا ايه؟" تعجب وهو يدعي الاستفسار

"بصراحة هو وحشني اوي.. ومحتاجة اكلمه وأسأله على كذا حاجة محدش هيعرف يجاوبني عليها غيره وكمان هو أقرب حد ليا في العيلة كلها.. يمكن سليم الاول وبعدين هو" أومأ لها في تفهم

"طيب يالا عشان وصلنا" ابتسم لها بإقتضاب وترجل من سيارته للخارج بينما هي كانت تعطيه كامل تركيزها وما ان خرجت هي الاخرى من السيارة وبدأت في تفقد منزله حتى وقعت بحالة من الإنبهار الشديد..

دلف هو وهي تتبعه ثم أخرج كامل متعلقاته على منضدة جانبية لتفعل هي المثل وتركت حقيبتها كذلك ليلتفت لها

"ممكن تتفرجي على البيت لغاية ما اجيب الورق واجي.. واعتبري نفسك في بيتك" ابتسم لها ثم تركها وتوجه حتى يحضر تلك الأوراق ليجعلها توقع عليها وبداخله يشعر بالانتصار لكل ما يحدث.. فقط ينتظر ما الذي ستفعله عندما ترى التشيلو، وكما أنه يتوق لجعلها توقع على تلك الأوراق بسرعة شديدة فهذه ستكون الوريقات التي ستنهي معرفته بعائلة الخولي بأكملها.


--

جلس على ذلك المقعد بهذا المقهى الذي يقع بأحدى الفنادق وهو يلعن داخل نفسه، لم يكن بدر الدين يظن أبداً أنه سيعود لتلك الحيل القديمة.. ولكنه فعلها!! 

أخفى الأمر عن نورسين، راقب ميرال، وها هو يتلبد بذلك الركن منتظراً اياها أن تنهض حتى يدعوها لتجلس معه.. ما الذي قد يخفيه عليه سليم حتى يجعله يفعل ما يفعله الآن؟! ما ذلك الشيء المتعلق بشهاب الذي يحول ملامح ابنه المرح إلي الوجوم والغضب؟! لن يتحمل رؤيته هكذا!! وقرر ألا يترك ميرال اليوم إلا بعد معرفة كل شيء..

"ايه ده.. صدفة حلوة تاني بقا.." صاح ليوقفها عن اتجاهها للخارج بينما نظرت له ميرال بإبتسامة لتصافحه عندما نهض أمامها

"أنكل بدر.. واحشني اوي بقا.. بجد كان نفسي أشوف حضرتك" 

"يا بكاشة.. ما أنتي بتشوفي سليم وبتخرجي معاه، جت عليا أنا ولا عشان هو احلى مني يعني؟!" أخبرها لتضحك هي 

"الموضوع جه صدفة بجد، كل مرة كنا نرتب خروجة وتبوظ لغاية ما ظبطت آخر مرتين"

"طب تعوضيني بقا وتشربي معايا حاجة" ابتسم لها لتبادله الإبتسامة

"طبعاً يا أنكل" جلسا سوياً على تلك المنضدة التي كان يجلس عليها بدر الدين 

"احكيلي بقا بابا عامل ايه ووالدتك واخواتك؟"

"كلهم تمام.. وطنط وسيدرا وسليم عاملين ايه؟!" 

"تمام.. نورسين عندها دور برد وسيدرا خطوبتها آخر الشهر الجاي.. انتي والعيلة كلها طبعاً معزومين وأنا هاكلمه بنفسي"

"بجد!! ألف مبروك.. طبعاً هنيجي وكمان لو سيدرا احتاجتني في اي ترتيبات أنا موجودة.. خليها تكلمني بس" 

"شكراً يا حبيبتي." آتى النادل الذي أشار له بدر الدين منذ قليل ليأخذ طلباتهما ثم غادر ليستأنف عمله بينما سلط هو عيناه الثاقبتان وكامل تركيزه على ملامح ميرال "بصراحة جيتي في وقتك وأنا كنت عايز اكلمك وأشوفك كمان"

"خير يا أنكل فيه حاجة ولا ايه؟!" ابتسمت له في تعجب ليبادلها بإبتسامة هو الآخر 

"الواد سليم يا ستي مجنني.. من يوم ما قعد معاكي وهو اتغير اوي.. ومحدش يعرف ماله! لولا إني عارف ابني كويس وكل اخباره كنت قولت اتخانقتو ولا حاجة"

"لا لا.. مفيش خناق ولا حاجة، بالعكس احنا عادي يعني سليم صاحبي من زمان، بالعكس ده أنا كمان بعتبره أخويا" 

"ما أنا متأكد من ده.. وعارف إن انتي بنوتي البكرية قبل سيدرا" تنهد ثم تفحص عيناها وملامحها جيداً "سليم مضايق ليه من شهاب يا ميرال؟! قولتيله ايه عنه يوم ما قابلك" سألها بجدية ليعتريها الإرتباك الشديد وابتلعت في توتر ليشحب وجهها وقد أدرك بدر الدين جيداً أن ميرال تعلم كل شيء ولن يتركها إلا وهو يعلم كل ما يخفى عليه بخصوصه..

--

 

"عزيزي الأسود.. احتاجك.. احتاج لأن أبوح لك بالكثير مما يؤلمني.. 

إلي متى ستظل والدتي تعنفني بتلك الطريقة وكأنني فتاة بالعاشرة من عمرها؟ أليست هي من تزوجت بمثل عمري أو ربما كانت أصغر مني وقتها؟ إلي متى ستراني صغيرة؟! لماذا تفعل كل ذلك فقط لأنني أمكث بمنزل خالي بدر الدين؟!

ألا ترى الفرق؟ ألا ترى تلك السعادة التي أنعم أنا بها كلما أتيت هنا؟ لماذا لا تتركني أفعل ولو شيء واحد فقط أحبه؟!

حرمتني الموسيقى، حرمتني أن أقرر ما أريده بالحياة، حرمتني أن أفعل ما أحب، أتريد أيضاً أن تحرمني بقائي بهذا المنزل الدافئ ومع هؤلاء الأشخاص الذين أحبهم؟!

أسودي، أتدري أنني اليوم كنت سأجن إن لم تعد إلي.. كدت أفقد عقلي.. لو تعرف أنك يا ذو الأوراق أقرب لي من أي إنسان على وجه الأرض لبكيت على حالي.. 

أين الأخوة؟! أين أخواتي؟! أين دورهم حقاً بحياتي؟! أين الأم؟! ذلك العناق الذي أرى الكثير من الفتيات بمثل عمري يتحدثن عنه، أين هو؟! أين تلك الأم التي تصادق ابنتها مثلما تفعل خالتي شاهندة أو زوجة خالي نورسين؟ لماذا عُميت عينا والدتي عنهما؟! 

لا تتركني أسودي مجدداً.. أرجوك لا تبتعد مرة أخرى.. حقاً سأضيع إن لم تكن معي..

ما الذي حدث لي اليوم؟!

كنت أعيش لحظة فريدة من نوعها.. لم أكن أعلم أن ابن عمي الذي لم أعرفه يوماً ما يحب التشيلو مثلي، كم كنت فخورة أن هناك من يشبهني ولو بشيء بسيط.. أعلم أنه لا يملك مثل موهبتي، وأعلم أنه لا يستطيع العزف بعد ولكن هو يُحبها مثلي..

لأول مرة أعلم ماذا يعني الصديق.. لقد ضحكنا سوياً.. لقد جعلني أشعر وكأنني لست مُرغمة على شيء.. لأول مرة هناك شخص آخر غير سليم يكترث لي..

تجاهل تلك الدموع والتنهيدات.. أنت تصادقني منذ زمن وتعلم أنني هكذا كلما شعرت بأنني لست بخير.. ما الذي حدث أسودي؟!

أقسم لك أن ما حدث بهاتفي لم ألاحظه، لا أدري كيف وصل لوضع الطائرة.. أقسم لك أنني لم آراه ولم ألاحظه.. وكيف لي أن الاحظه وأنا لأول مرة بحياتي أنعم بحياة طبيعية دون نظرات من أخوتي أو صراخ من والدتي أو تحكمات لا نهائية من عائلتي بأكملها!!

لماذا صرخ علي سليم بتلك الطريقة؟! أحقاً يراني الجميع فتاة صغيرة لا تفقه شيئاً بالحياة حتى يهاتف أخي إياد شهاب ويسأله عني؟! يقولون أنهم يشعرون بالخوف علي! ولكن منذ متى؟!

أين كان الجميع عندما أجبرتني والدتي على الكثير؟! أين كانوا عندما كنت أبكي وحدي ليالٍ لا تعد ولا تحصى بألمانيا؟! أين كانوا عندما هشمني الآلم وجميعهم يستمرون بحياتهم وكأنني لا أمت لهم بصلة!!

سيف والدي، بدر خالي، سليم، ثم لا أحد.. فراغ تام بالحياة بعد هؤلاء..

سيف والدي قد مات وتركني.. سليم بالرغم من أنني أعلم جيداً كم أعشقه ولكنني لربما لن أتحمل ذلك الغضب غير المبرر.. 

تبقى خالي.. هو الوحيد الذي ربما سأجد عنده السكينة والطُمأنينة.. الوحيد الذي أشعر بأنه لا يريد شيئاً سوى أن يراني سعيدة.. وربما هو الوحيد الذي سأجد عنده ضالتي.. ربما هو من يدري أين والدي الحقيقي!!

ها أنا أجلس في انتظاره.. ولا أكترث بما تريده والدتي ولن أعود.. أتعلم أسودي بالرغم من بكائي الذي يبلل سطورك أشعر بالقوة.. نعم ولا تسألني كيف!

أأستمعت لكلمات شهاب اليوم؟ أرأيت ما أخبرني به بعد أن أنهى اتصاله مع إياد أخي؟ لقد أخبرني بأن أفعل ما أُريده وليحترق الجميع.. نعم أنا لست فتاة صغيرة على كل ما يحدث.. معه حق تماماً وسأفـ.."

"خالو.." وصدت دفترها عندما دلف بدر الدين باب المنزل وهي تهرول نحوه بملامح لا تزال تحمل آثار البكاء

"زينة.. أنتي كويسة؟!" صاح سائلاً اياها بملامح جدية

"ماما يا خالو بهدلتني لما عرفت إني هبات عند حضرتك، وإياد وسليم زعقولي عشان موبيلي اتقفل صدفة.. أنا تعبت يا خالو من كل حاجة" أجهشت بالبكاء ليعنقها وهو الذي بالكاد يتحمل أن تحمله قدماه 

"اهدي يا حبيبتي .. تلاقيهم كانوا قلقانين عليكي.." ربت على ظهرها في حنان وهو الذي يبحث عن من يخفف عنه تلك الدوامة التي برأسه منذ أن أعترفت له ميرال بكل شيء

"أنا مبقتش قادرة أستحمل.. أنا ممكن أسافر ولا أختفي ولا أموت نفسي.. أنا زهقت من كل ده" همست بنحيب بينما نظر لها بدر الدين بعينتين منكسرتين 

"زينة.. اهدي واعقلي.. مفيش حاجة اسمها تموتي نفسك عشان شوية خناق.. أطلعي نامي دلوقتي وأنا الصبح هاجبلك حقك منهم كلهم" حقاً لم يقتنع هو نفسه بما أخبرها به ولكنه ليس في حالة تسمح بأن يواسيها بل هو يحتاج من يواسيه

"ليه كل ده بيحصلي؟ عشان أنا الصغيرة؟! عشان أنا مختلفة عن الكل؟! ليه يا خالو ماما بتعمل كده فيا؟! ليه بابا سيف سمحلها تعمل كده فيا؟ عشان كان بيحبها؟ مش كده يا خالو؟!" نظرت له بزرقاوتين باكيتين في لوم لا تدري إلي من توجهه "مش لو كان بابا كريم معانا مكنتش عملت فيا كل ده؟! جاوبني.. مش أنت استحالة تسيب طنط نورسين تضايق سيدرا.. لو كان بابا جنبي دلوقتي مكنتش هي قدرت تعملي حاجة.. ليه بابا سابنا يا خالو؟ متعرفش هو فين يمكن يخلصني من كل ده؟! أنا تعبت منها.. تعبت ومبقتش مستحملة كل ده.. قولي بس بابا فين وأكيد هيعرف يحل كل ده" 

توالت تلك الدموع في التناثر على خديها بينما صُعق بدر الدين من تلك الأسئلة التي يستمع لها، كان يظن أن هذا اليوم لن يأتي أبداً.. ولكنه كان على استعداد تام للإجابة.. ولكن ليس الآن.. ليس وهو لا يستطيع حتى أن ينظر لابنه بعينيه.. كل ما أراده حقاً أن يتوارى عن أعين الجميع ولو لقليل من الوقت!!



--


الفصل العشرون

 




"سليم.." تصنعت الإرهاق الشديد بنبرتها وهي تتلمس ذراعه من خلفه ليلتفت لها فقد فاجئه مجيئها "أنا سمعتك بتزعق من شوية.. معلش على ما قدرت أقوم، فيه حاجة ولا ايه؟" زيف ببراعة ملامحها المتألمة مُدعية اصابتها بالحمى الشديدة

"أروى،" همس متفاجئاً وهو ينظر لها بإستفسار وقلق على حالتها "مكنش لازم تقومي" أخبرها بملامح رافضة نهوضها هكذا "تعالي اقعدي؛ شكلك دايخ خالص" أومأ للأريكة بعد أن صدق تماماً بمرضها

"معلش بس هو دور برد شديد والـ antibiotic (مضاد حيوي) مدوخني شوية.." تصنعت مجدداً بنبرتها الإرهاق وتوجهت بخطوات بطيئة إلي الأريكة "أنا قعدت اهو؛ احكيلي بقا كنت بتزعق ليه؟" تحدثت بإجهاد مُزيف

"مفيش.. أنتي عارفة تفاصيل الشغل اللي مبتخلصش" اجابها بإقتضاب وهو يجلس بجانبها على مقربة منها

"طيب قولي يمكن اقدر اساعد" حدثته بهدوء وهي تتوق لمعرفة ما يخفيه وابتسمت لها بإقتضاب يلائم مرضها واستطاعت أن تمثل دورها ببراعة

فكر سليم كثيراً وهو يُحدق بها ملتفتاً لها برأسه، حسناً سيحدثها، لربما ستستجيب له أروى.. على الأقل إن استجابت هي له يتبقى فقط زينة وبعدها باقي أولاد عمته إياد وعاصم ولن يصعب معهما الأمر، فمهما كان هما بالنهاية رجال وسيستطيعان معرفة لماذا أخفى عنهما الأمر، بل وسيستجيبان له عند علمهما بحقارة تصرفات ابن عمهما المزوم!

"بصي" تنهد ثم التفت لها بكامل جسده "شهاب ابن عمكم، أنا مش عايزه يكون جنبنا بالمنظر ده طول الوقت.. تقدري تقولي إني صُدفة أكتشفت عنه حاجات مش كويسة.. وأنتوا في الآخر كلكم ولاد عمتي اللي بخاف عليكوا.. ومش هارضى لأي حد فيكو من أول إياد لغاية زينة إنه يجراله حاجة بسبب واحد حقير زي ده، عارف إني اتعصبت على الكل كتير من غير أسباب واضحة، وعارف إني كان باين عليا اوي إني مش عايز يكون ما بينا تعاملات بس خلاص احنا مضينا العقود واللي حصل حصل، وعارف إن مشاريعه كتيرة جداً وليه سمعته في السوق هو ووالده، وبردو احنا شركات كبيرة ولينا اسمنا.. بس مش عايزه يقرب أكتر من الشغل اللي ما بيننا" تريث لبرهة لتضيق أروى ما بين حاجبيها وانتهزت الفرصة كي تقترب من سليم أكثر

"لو كنت فهمتني الموضوع كده بهدوء مكنتش حددت معاه موضوع العقود.. أنا آسفة يا سليم، مكنتش أعرف فعلاً" أخبرته وهي تُزيف ملامح التأثر على وجهها بمنتهى الذكاء

"خلاص بقا اللي حصل حصل" زفر بإرهاق لتطرق هي على الحديد وهو ساخن، فهي لابد أن تعرف ما الذي حدث

"طيب هو عمل حاجة يعني ضايقتك؟!" أستفسرت وهي تحافظ على كذبها بمنتهى الإتقاب فلابد لها أن تعرف ما الذي يفعله شهاب تحديداً

"زينة معاه في كل موقع، وأنا زي ما كنت خايف عليكي وأنتي معاه قلقان بردو عليها، وكمان زينة لسه صغيرة ومعندهاش خبرة في الموضوع زينا" عقد حاجباه في إنزعاج لتقترب هي منه بجرأة وتلمست يده بجرأة

"متقلقش.. أكيد مفيش حاجة هتحصل.. أنا عارفة زينة عنيدة ودماغها ناشفة ومجنونة بس هتيجي سليمة إن شاء الله" تنهدت بينما نظر هو لها وأومأ برأسه متمنياً بداخله ألا يحدث لها شيء بسبب معرفتها واقترابها من ذلك الحقير وأطمئن قليلاً أن إياد أخبره بأنها بمنزل والديه الآن

"سليم" همست له وهي تزيد من قوة لمستها لكفه "زينة غيرنا، وعارفة إنها متدلعة أوي، وفعلاً هي مش بتعرف تتصرف وماشية بدماغها ومش بتحب تشارك حد في حاجة، ودايماً قرارتها غريبة ومش بتسمع كلام حد.. بكرة لما تعرف إن كان معاك حق هتندم، الكل عارف قد ايه أنت بتحبنا وبتخاف علينا وعايزنا كلنا نكون كويسين، هي لسة صُغيرة اوي ومش شايفة ده.. بكرة لما تفهم كلامك هتقدر عصبيتك.. متقلقش وأنا معاك في أي حاجة أنت عايز تعملها مع شهاب" ابتسمت له بتأكيد ليومأ لها بالموافقة ولكن كلماتها الذكية بل وكرهها الذي اتضح بنبرتها وهي تتحدث عن زينة قد دفع عقله للتفكير بالعديد من الأمور ولكنه أراد التريث بكل شيء.

"أنتي حاسة إنك بقيتي احسن النهاردة؟!" سألها وهي لا تزال تتلمس يده

"أنا حرارتي نزلت بس دايخة اوي يا سليم ولما بقوم من السرير بحس إني مش قادرة اتحرك وزوري وجسمي كله بيوجعني" أخبرته وهي تتصنع الإرهاق الشديد فهي علمت أنه سيفاتحها بأمر العودة وهذا الذي تريد أن تُبعده عنه تماماً ليومأ هو لها بإقتضاب

"ألف سلامة عليكي" تنهد مخبراً اياها "قومي نامي بس وهتكوني احسن بكرة إن شاء الله"

"إن شاء الله.." ابتسمت له ونهضت بصعوبة مبالغ في تزيفها بمنتهى الجودة التي لا تفعلها سوى ممثلة قديرة وتصنعت السقوط لتجده يسارع في مساعدتها وسنده سريعاً لتبتسم هي له بإمتنان مصطنع "آسفة.. حسيت إني دوخت أكتر" توسلت معتذرة له بينما هو أحاط ذراعه حول خصرها ليُدعمها كي تستطيع الوقوف

"من غير آسف.. أنتي قادرة تمشي أصلاً؟" سألها بإهتمام فطري لتومأ هي بالإنكار "طيب تعالي أنا هسندك لغاية أوضتك" أخبرها وهو ممسك بها لترتمي هي عله بكامل جسدها وادعت المزيد وأطلقت لساقيها إشاراتها الكاذبة لتقارب على السقوط وادعت الإرتجاف ليمنعها هو بسرعة وبتلقائية دعمها حتى لا تسقط

"مش قادرة أقف أنا آسفة" توسلت له ليومأ هو لها

"يا بنتي فيه ايه هو أنا غريب.. متتأسفيش" ابتسم لها بإقتضاب ليحملها بعفوية

"لأ يا سليم مش لازم تشيلني و.."

"ما خلاص يا أروى فيه ايه أنتي مش شايفة منظرك عامل ازاي؟!" سألها مستنكراً وهو يمشي حاملاً جسدها بين ذراعاه ولأول مرة تكن بالقرب منه هكذا فاستندت باحدى يداها على صدره بعفوية لتبتسم له بإمتنان

"شكراً يا سليم"

"بطلي هبل.." اخبرها وهو يريح جسدها بالسرير ثم جذب الغطاء عليها "يالا تصبحي على خير ومتنسيش تاخدي الدوا قبل ما تنامي" أخبرها بملامح تلقائية لتومأ له بالموافقة

"وأنت من أهله" ابتسمت لها ليتركها ويغادر لتكاد تصرخ بالسعادة بداخلها وما إن وصد الباب خلفه حتى أختلفت ملامحها المجهدة لتتحول نظرتها للخبث الشديد وغرقت بالتفكير..

"شهاب أكيد وراه مصيبة، وحلو أوي الحريقة اللي ما بين زينة وسليم دي.. عيلة صغيرة صحيح وحتى لو مكنتش أنا اتدخلت ما بينهم أكيد بغبائها كانت هتضيعه من ايديها.. حلو أوي كده.. ماما بقا لازم أكلمها وأقنعها أن زينة تفضل لازقة في شهاب عشان سليم يقرف من كل اللي هي بتعمله، وأنا بكرة أرجع وأعرف شهاب ده وراه ايه!!" ابتسمت بمكر وهي تتناول هاتفها لتتحدث لوالدتها..

 

--

 

    

زفر مطولاً بعد أن أقنع زينة بالنوم وهو يجر قدماه بصعوبة وبداخله يشعر بالحسرة والإنكسار الشديد وود لو أن انتهى عمره بأكمله ولا يتعرض لمثل ذلك الموقف الذي سيتعرض له عاجلاً أم آجلاً..

شعر بالخيبة، قلة الحيلة، الخوف الشديد بذلك الدمار لو أنه واجه سليم بحقيقته القديمة.. أو لربما هو يعرف حقيقته لذا لم يواجهه بحقيقة شهاب!

توقف من تلك الصدمة التي دوت كالبرق في منتصف عاصفة ضارية لم يسبق تواجدها بالكون بأكمله! استند على الحائط وملامحه تحولت للذهول الممزوج بالوجوم ما أن ادرك تلك الحقيقة! أحقاً قد أخفى سليم عليه الأمر ويعامله بحدود مؤخراً بعد أن عرف حقيقته التي ظن أنها تغيرت وأخفاها لسنوات بل دفنها بداخله ليأتي الآن ابنه الوحيد وصديقه ليراه بمنتهى الحقارة!

نعم هو يتذكر وصفه لشهاب، يتذكر أنه دعاه بالحقير، لقد رآى تلك المروءة التي غرس بذرتها بيده ولكن لم يكن ليظن أبداً أن ثمرتها ستكون أن يسقط من نظره هكذا!

ارتجف جسده، دمعت عيناه، لم تستطع قدمه حمله وهو لم يصل لغرفته بعد.. تهاوى جسده بإنكسار ليخر جالساً أرضاً كالمشلول.. لا يدري كيف سينظر بمقلتي ذلك الرجل الذي كبر ونما على يداه، تلك القيم والأخلاق الذي عمل على تشييدها، كيف له أن يدمرها بيداه؟ كيف له أن يواجهه ليخبره أنه كان يحاول إدعاء مشاعر وأخلاق لم تكن به هو نفسه؟ كيف له أن يهرب من تلك اللحظة التي أقترب منها ويشعر وكأنها ستحدث بعد ثوانٍ قليلة؟

لقد أعد لكل شيء مسبقاً.. يستطيع أن يواجه أبناء أخته بتلك الفجائع التي دمر بها والدهم، يستطيع أن يتعامل مع أياً كان يريد أن يقترب من عائلته، يسنطيع أن يحمي الجميع مثلما فعل دائماً بذلك الحصن المنيع الذي لا يتجرأ أحد على إختراقه.. ولكن أن يقف بوجه ابنه ليخبره أنه كان سادياً مريضاً بيوم ما لم تكن تلك المواجهة بحسبانه أبداً!

بم سيجيب عندما يسأله ابنه؟ سيخبره أنه كان سادياً وتعالج، ببساطة هكذا! ثم ماذا؟

ألن يسأله كيف تزوج؟ ألن يستفسر عن معاملته لليلى ونورسين؟ ألن يتعجب كيف أخفى كل ذلك وعاش بظلام لم يتخلله بصيص من ضياء إلا بعد سنوات عجاف؟

له كامل الحق بأن يسأل عن كل شيء! ليس فقط لأنه ابنه بل صديقه الوحيد الذي لم ولن يملك سواه إلي مماته..

كيف سيخبره بخوفه؟ بجبنه الذي آلم به والدته يوماً ما؟ نورسين أم ليلي، كيف سيقف أمامه ليُقر بكل ما فعله معهما؟ كيف سيستطيع التهرب وهو من جعل الصراحة بينهما أمراً مؤكداً تلقائياً أساسياً لا نهاية له بينهما وبعلاقتهما!

انهمرت الدموع من مقلتيه السوداوتين في رعب تام وانكسار لم يشعر به من قبل.. ذلك الآلم الذي يهشمه كاد أن يوقف قلبه عن ضخ الدماء لسائر جسده الذي قارب على الشلل التام من كل نلك الأفكار التي جعلته يدرك فاجعة تلك المصيبة التي ستحدث عاجلاً أم آجلاً.. علاقته بسليم ابنه وصديقه ستتدمر للأبد!

"بدر! فيه ايه مالك؟" هرولت نحوه نورسين التي تعجبت لغيابه وعدم وجوده بجانبها فخرجت لتتفقد أين هو لينظر لها باكياً فتلمست جسده لتجده يرتجف بشدة

"سليم! سليم هيضيع مني.. أنا خايف اوي يا نورسين" همس بصعوبة لتتوسع زرقاوتيها وأجهش هو بالبكاء بطريقة هيستيرية ذكرتها بماضٍ مؤلم للغاية.

--

      

لأول مرة تشعر بأن خالها يريد التخلص منها، لم تواجه منه تلك الطريقة أبداً..

بالطبع لكل شيء نهاية، كبير العائلة الآن يتخلى عنها ويعاملها مثلما يعامل طفلة لم تتعدى العشر أعوام من عمرها، يخذلها مثلما خذلها الجميع.. هديل والدتها، وخالتها شاهندة المنشغلة بأبناءها، خالها زياد الذي بالكاد رآته طيلة أعوام! بالطبع لن يكون بدر الدين الخولي مختلف عنهم جميعاً..

ابتسمت بتهكم ودموعها انهمرت في انكسار وحزن شديد عندما تذكرت كلمات شهاب لها! ها هو الشخص الذي بالكاد يعلم عن حياتها شيء وقد فهم وأدرك كل ما يحدث لها بسهولة.. لقد كان مُحقاً بكلماته اليوم..

"فيه ايه يا زينة أنتي كويسة؟" نظر لها مدعياً الإكتراث لتنظر هي له بغضب مقترناً بالآسى

"مش عارفة موبيلي اتقفل ازاي او مكنش مجمع network ولقيت إياد وسليم متصلين بيا كتير وأول ما فتحته إياد كلمني بطريقة زفت وبيقولي ارجعي حالاً.. وحتى ملحقتش اكمل مكالمتي معاه سليم كان waiting اتعصب عليا جداً.. أنا مش فاهمة فيه ايه" همست بحزن وعيناها شارفا على البكاء ليعقد شهاب حاجباه وادعى الإنفعال من أجلها وارتدى ثوب الغضب لتتفقده زرقاوتاها في تعجب وقبل أن تتحدث هي بادر هو بالحديث.

"بصي أنا مش فاهم فيه ايه! هما فاكرينك صغيرة ولا ايه؟ ليه عايزين يتحكموا فيكي بالشكل ده؟ يعني يادوب أنا لسه بعرفك الاقيكي بيحصلك كل ده! أنتي كبيرة يا زينة ومش صغيرة! ومحدش ليه حق يقولك تروحي فين وتيجي منين وتعملي ايه! ويعني ايه يعني بنت بموهبتك اللي شوفتها دي ومامتك تمنعك منها.. أنتي ليه سلبية كده؟ ليه بتسيبلهم الحق انهم يتحكموا فيكي؟ فعلاً حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده!" تحدث بسرعة وهو ينظر لها ببنيتيه القاتمتين في غضب لتنهمر دموعها فاقترب منها وتلمس يدها في دعم

"ليه بتعيطي وضعيفة كده؟ ليه لغاية دلوقتي بكل اللي بتحكهولي ده سايباهم يتحكموا فيكي حتى بعد ما كبرتي؟ كان عملولك ايه العيلة دي كلها؟ سواء مامتك ولا أخواتك ولا سليم ولا حتى خالك اللي بتقولي إنك بتحبيه اوي ولا خالتك اللي بتقولي انها طيبة؟.. كل واحد مشغول عنك بحياته وبأولاده.. لسه بيعاملوكي على أساس إنك صغيرة ومش فاهمة حاجة.. وانتي هتفضلي مدياهم الحق ده لغاية امتى.. بجد أنتي اللي بتتعبي نفسك وبتحملي نفسك فوق طاقتها" أخبرها بالمزيد لترتفع نبرتها الباكية

"أنا تعبت.. تعبت من كل حاجة" همست وهي تنتحب بشدة ليقترب منها وحاول أن يضمها إليه لتنظر هي له بمنتهى الغضب وتناست كل آلامها "أنت ايه اللي أنت بتعمله ده، اياك تقرب مني تاني" صرخت به ليشعر الآخر وكأنه سينفجر بداخله وكاد أن يصفعها صفعة قاسية شديدة قد تسقطها أرضاً، أترفضه هو وتسمح للطفل المسمى بسليم بالمزيد! حسناً سيريها من هو حقاً ولن تعيدها معه أبداً.

"أنا مقصدش يا زينة.. مكنتش أعرف إنك هتضايقي كده، بس خلاص مش هاجي جنبك تاني ما دام أنتي بتفهميني غلط" ابتعد عنها مولياً ظهره اليها لتزفر هي في حزن وتبعته

"شهاب أنا مبحبش راجل يقرب مني بالأسلوب ده أبداً" تحدثت إليه ليلتفت هو لها

"أسلوب ايه يا زينة؟، أنتي فكراني زي أي واحد عايز يقرب منك وخلاص؟ فجأة كده مثلاً هتصرف معاكي بطريقة مش صح! شكلك فهمتيني غلط.. مش معنى اني مضايق عشان بنت عمي وهي محتاجة حد يكون جنبها يبقا هحضنك بطريقة مش كويسة.. شكلك كده واجهتي حد مش محترم في حياتك فجأة قرب منك ومعرفش حصل ما بينكم ايه بس أنا مش زي اي حد وعيب تفكري فيا بالطريقة دي" اجابها بلذاعة لتنظر هي مضيقة عيناها

"تقصد ايه واجهت حد مش محترم؟!" سألته بنبرة اندفاعية وهي تتنفس بغضب

"بصي مش أنا اللي بحكم على شخص قدامي واظلمه؛ وحتى لو عرفتي مليون انسان، دي حياتك وأنتي حرة فيها.. ومن حقك إنك تختاري الشخص اللي تشوفيه مناسب ليكي. وأياً كانت علاقتك بالشخص ده ليكي بردو مطلق الحرية في الخدود اللي ما بينكم.. لكن البصة اللي شوفتها في عينك وطريقتك وانتي بتصديني وأنا أصلاً في صفك بتقول انك مش مآمنالي ومش بتثقي فيا.. أنتي حرة وعموماً مش هاتتكرر اني اقربلك بأي شكل من الأشكال.. واتفضلي عشان اوصلك عشان متتأخريش عن عيلتك كلها" تحدث بنبرة منزعجة ولكنه حاول اقناعها وكذلك دس ذلك السُم بين طيات كلماته ليجعل عقلها يُفكر بسليم وكل ما فعله معها وغرقت بهوة سحقية من الصمت والأفكار ليتركها الآخر تُفكر ملياً وبداخله شعر بالفرحة العارمة لملامحها المضطربة التي ظهرت عليها.

"أنا.. أنا مقصدش اضايقك.. بس.. بس أنا مبحبش الأسلوب ده؛ معلش أنا اسفة" أخبرته بصعوبة بعد أن صُدمت بعد أن فكرت ملياً بسليم وكل تلك اللحظات التي اقترب منها بها ولكنه فعل أكثر من عناق فطري كي يخفف عنها.. هو قبلها وشرع حتى في مداعبات مثيرة حنى أقتربا من ممارسة الحب.

"حصل خير.. يالا عشان نمشي" أخبرها بإقتضاب لينتشلها صوته من تفكيرها العميق

"شهاب.. أنت لسه مضايق مش كده؟" سألته وهي تشعر بالإنزعاج فهي حقا لم تقصد أن تغضبه وكل ما فعله قد يبدر من صديق قريب لها لو كانت تملك واحداً

"خلاص.. محصلش حاجة.. تحبي اوصلك بيتك ولا بيت خالك؟" ابتسم لها بإقتضاب بينما بداخله يشعر بالانتصار فهو يتذكر الكرة الماضية عندما أقترب منها، وها هي ثاني مرة والآن هي تسترضيه.. وسينتظر المرة القادمة أن تقترب هي منه بنفسها.

"لا هاروح لخالو.. بصراحة مش ناقصة مشاكل في بيت ماما وكمان عايزة أسأل خالو على حاجات كتيرة"

"حاجات زي ايه؟" حاول أن ينطق بعفوية وعقد حاجباه في تعجب

"يعني.. حاجات عن سليم.. عن الشغل.. وأكيد هو هيفتكر كويس ايه اللي حصل مع بابا كريم، يمكن أعرف أوصله" أخبرته بتلقائية ليومأ لها هو في تفهم ثم توجها ليوصلها؛ فلقد سرق وقتها ببراعة عندما حول هاتفها لوضع الطائرة عندما كانت في غفلة من آمرها واستطاع ببراعة أن يستحوذ عليها ليوم آخر..

تذكرت كلماته ودموعها تنساب على وجنتيها، لمتى ستظل كالمنبوذة بتلك العائلة؛ لماذا يعاملها الجميع وكأنها حمل ثقيل على كاهلهم.. حسناً هي ليست طفلة صغيرة وستفعل كل ما برأسها مهما كان رد فعل الجميع لن تكترث لأحد بعد الآن.

وحتى سليم الذي تتغير تصرفاته ويغضب عليها من أقل شيء، أين تلك الهدنة التي أتفقا عليها سوياً؟ أين تلك الطريقة التي جعلتها تنسى اسمها وتعيش بتلك السعادة؟ أكان يدعي؟ أكان يكذب عليها؟ أعشقت من لا يستحق؟

قتلتها تلك الأسئلة لتمنع نفسها من البكاء بصعوبة ونهضت لتبحث عن دفترها لتقص عليه تلك المشاعر والأحداث المضطربة التي مرت عليها اليوم!

--

جلس بأنفاس متسارعة غضباً منتظراً تلك التي هاتفها كي يُحضرها لتتلقى جزءاً من غضبه وقد غرق بالتفكير، ما الذي يراه هؤلاء الأطفال بذلك المدعو سليم حتى يحبوه ويقدروه بشدة هكذا وكأنه المحرك الأساسي للجميع! ما الذي تراه زينة بذلك المغرور ولا تراه بشهاب! لماذا تسمح له بالإقتراب منها أما هو فلا تدعه يفعلها! لن يسمح له أن ينتصر عليه بشيء.. زينة يوماً ما ستأتي إليه، تبكي، تتوسل له لماذا يفعل بها ابن خالها ذلك، أليس هي من أخبرته أنها تعشق ذلك الطفل، حسناً.. سيعلمها كيف تكرهه وسعمل على ألا تجد ملجأ سوى شهاب الدمنهوري الذي سيدمرها وسيدمرهم جميعاً..

استمع لصوت سيارتها التي أحضرها لها منذ أسابيع تتوقف أمام بوابة منزله ليتوجه نحو الباب بخطوات سريعة وحتى قد فتح الباب ولم تقترب هي بعد منه لتترجل من السيارة وقابلته بعينتين مرتعبتين ليقابلها هو بنظرته الحادة وتوجه نحوها جاذباً اياها بقسوة من شعرها المموج الطويل ووقف خلفها ودفعها للداخل بقوة حتى جعلها تسقط على أقرب أريكة.

تساقطت دموعها، لأول مرة تفعلها سلمى بوجوده، هو لم يبدأ معها بعد، نظرت له لتجد ملامحه اليوم أسوأ من كل المرات السابقة، كل مرة تكون أسوأ وأسوأ ولا تدري متى ستنتهي منه، هي حتى تدرك أنها لا تستطيع التخلص منه أبداً بعد كل ما يفعله معها وكل تلك الأموال التي يغدق عليها بها..

"ششهاب.. بيه.. أنا.." تلعثمت وهو حتى لم يقترب منها بعد ليعقد حاجباه وحدقها بإستفسار، يدرك أن ملامحها رافضة، وتدرك هي أن عنفه معها قد يزداد تلك المرة كما عودها، فكلما آتت له أذاقها نوعاً جديد من عنفه!!

"أرجوك.." همست بنبرة متوسلة غلفها الفزع بعد أن أشار لها أن تتحدث "أبوس ايدك بلاش زي المرة اللي فاتت" هرولت ممسكة بواحدة من قدماه وهي تتوسل له "أنا فرح أخويا بعد يومين.. وآخر مرة أنا.. أنا فضلت أتعالج شهر.. أبوس رجلك سبني بس أكون كويسة في الفرح وهاعملك كل اللي أنت عايزه بس بلاش اللي حصل آخر مرة" تساقطت دموعها في ترجي وقلبها خفق بعنف ما أن آذاها مجدداً ليرمقها هو ببنيتين قاتمتين امتلئتا حقداً ليطيح بركلها ليبعدها عن قدمه المتمسكة بها وجلس على الأريكة بينما تركها هي باكية أرضاً والتفتت بجسدها على الأرضية لتنظر له في ترقب شديد..

"ماشي.." همس بعد طول انتظار منها بعدما جلس لدقيقتان ليُفكر بما سيفعله معها فهو لن يتركها قبل أن يحرر تلك الأوجاع التي انفجرت بداخله منذ أقترابه من زينة ومعرفة كل ما يدور بينها وبين ذلك الطفل الثري المغرور.

"قوليلي يا سلمى أنتي بتجيلي ليه؟!" سألها بمنتهى الجدية وهو يتفحص نظرة عيناها الباكية ليباغتها ذلك السؤال وتوقفت عن البكاء تماماً لتفكر بم ستجيبه ولكنها أستغرقت وقتاً كثيراً "جاوبيني.. بتجيلي ليه؟!" أعاد سؤاله مرة أخرى بينما نظرت له في تردد أمّا هو فسيعرف تماماً كيف يتخلص من أوجاعه التي يشعر بها، إن لم تكن المعاشرة القاسية العنيفة ستكون بطريقة أخرى إذن!

"عشان.. عشان.. حضرتك بتكلمـ.."

"تؤ تؤ.. مش دي إجابة سؤالي" قاطعها عندما استشعر بم ستجيب "من أول مرة عرفتيني.. بتجيلي ليه؟!" سألها وهو يومأ برأسه إليها بإستهزاء لتنظر له وهي غير مصدقة لمجرى ذلك الحديث

"عشان.." ابتلعت لعابها قبل أن تجيب بعدما عرفت ما يُرمي إليه وبالرغم من عهرها مع جميع الرجال إلا أنها لأول مرة تواجه رجل بذلك وتنطق بها "عشان الفلوس اللي أنت بتديهاني" تحدثت لتجيبه بسرعة وانطلقت الكلمات بسرعة من شفاهها وكأنما تريد التخلص من تلك الإجابة التي آلمتها بقسوة

"ممم.. وأنا بديكي فلوس كويس ولا بخيل معاكي؟!" سألها مجدداً لترفع له عيناها في تعجب فقد طأطأت رأسها في آسى مما نطقت به من برهة

"لا.. أنت بتديني أكتر من اللي بحتاجه دايماً.." تعجبت لتلك الأسئلة الغريبة عنها فهو لأول مرة يفعلها معها

"طب قومي اقلعي كده.. مش بديكي فلوس عشان اتمتع بجسمك!! ولا نسيتي؟!" أخبرها بسخرية لتنظر له في توسل، نعم تلك حقيقتها ولكن ما الداعِ ليذكرها بكل ذلك.

ابتلعت وهي تشعر بالإهانة الشديدة ونهضت وهي تتخلص من ثيابها بأكملها وقد تساقطت احدى دموعها بغتة ولم تستطع التحكم بحبسها أكثر من ذلك

"تعالي هنا اقعدي تحت رجلي" آمرها بإماءة من رأسه لتمتثل هي ما آمر به "قوليلي بقا.. أنا قصرت معاكي في فلوس؟!" سألها لتومأ بالإنكار وهمست مجيبة

"لأ"

"طيب أكتر واحد تقريباً بيديكي فلوس.. احسن علاج ليكي أنتي وأهلك.. شغلت أخوكي.. لما عرفت بموضوع جوازه من غير ما تقوليلي قولتلك من نفسي بيعي العربية عشان تاخدي فلوسها وتساعديه بيها لو محتاجها.. أنا في حد كريم زيي كده؟!" سألها لتومأ بالإنكار وتساقطت دموعها مجدداً عندما نطق بمدى لذاعة الأمر بينهما بتلك الطريقة

"لا يا شهاب بيه.. مفيش زيك أبداً" أخبرته بنبرة باكية

"فاكرة أول ما قابلتيني.. كان شكلي وسخ ولا بحك في النسوان؟!" سألها بنبرته الهادئة لتومأ مجدداً بالإنكار

"لا .. طول عمرك شكلك مش كده"

"كنتي أنتي اللي هتموتي عليا عشان أنام معاكي واديكي فلوس.. مش كده يا سلمى؟!" ذكرها لتتساقط المزيد من دموعها وهو يحدق بعينتيها بتقزز واحتقار لها وأومأت له بالموافقة

"أيوة.. أنا.. أنا اللي كنت عايزة كده من الأول" أخبرته بنبرة مرتبكة من تلك الطريقة المُخيفة التي ينظر لها بها

"أنا مفيش زيي!! عمر ما واحدة تلاقي زيي أبداً.. عشان أنا احسن من الرجالة كلهم.. وأحسن منه هو بالذات" أخبرها لتتوقف عن البكاء وتنظر لها بعينتين متسعتين من كل ما تسمعه منه اليوم فهو غريب عليها للغاية وحدقته وكأنما تنظر إلي شخص مجنون لا تستطيع فهم ما يعنيه وما تلك المقارنة التي يقارنها بينه وبين شخص مجهول لا تعرفه ليقترب منها وجذب شعرها في عنف "ما تنطقي يا بت" صرخ بها لتشعر بالرعب من ملامحه

"حضرتك احسن منهم كلهم" تساقطت الكلمات من فمها بسرعة وهي تشعر بالآلم من قبضته العنيفة وقد قارب على اقتلاع شعرها ولكنه تركها فجأة لتأخذ شهيق عميق بعد أن ظنت أنه سيبدأ بقسوته هذه الليلة باكراً!

"لو كنا في ظروف تانية مكنتيش هتضيعيني من ايدك.. شكلي حلو، معايا فلوس كتيرة.. كريم زيادة عن اللزوم.. مش كده يا سلمى؟!" سألها مجدداً لتتأكد أنه مجنون أو يهذي بكلمات ليست لها معنى ولكنها جارته بالحديث

"صح.. كلام حضرتك صح" اجابته في رعب من ملامحه لتجد شفتاه تبتسمان ابتسامة غريبة لم تشاهدها على وجهه أبداً ثم صفعها لتضع هي يدها بسرعة مكان صفعته ولمحته في استفسار فهي لم تعد تدري لماذا يفعل بها ذلك

"بتاخديني على قد عقلي يا واطية" صاح بها لتومأ هي بالإنكار وقبل أن تتحرك للخلف بجسدها خوفاً منه رمقها هو بإحتقار شديد "مش قولتي انك عايزة تكوني كويسة عشان فرح أخوكي.. أنا مش هالمسك.. أنتي اللي هتترجيني عشان بس أفكر أنام معاكي" شعرت بالإهانة لتتساقط دموعها مجدداً لينهض هو واضعاً يداه بزهو بجيبي بنطاله لتتابعه بعينيها حتى اختفى خلفها وهي تترقب ما الذي سيفعله بها بمنتهى الخوف..

"بتصرفي على أمك منين؟" سألها لتجهش بالبكاء ولم تستطع الرد ليأخذ خطوات نحوها سريعة وجذبها من شعرها "ما تردي يا بت" صاح بها لتتحدث هي في آلم ورعب

"من فلوسك"

"لا مش من فلوسي.. مع النوم مع الرجالة.. مش كل شوية يا بت بتنامي مع راجل شكل؟!" صاح سائلاً لتتساقط دموعها في آسى عندما سمعت منه الحقيقة اللاذعة بتلك الطريقة

"كان زمان.. أنا بطلت.. مبقتش بروح لحد غيرك" همست باكية لتجيبه بينما ضحك هو عالياً لتمتزج صوت قهقهاته بنحيبها

"ياااه.. ده أنا طلعت ولي نعمتك بقا وأنا مش واخد بالي" أخبرها بإستهزاء ليزداد بكائها وترك شعرها لتتمنى هي أن تتخلص من كل ما يفعله بها هذه الليلة وشعرت وكأنها لم تواجه رجلاً مثله ولا تدري ما عليها فعله معه

"أنا هقصر عليكي الطريق، بطلي تفكير.. عايزة تمشي وتخلصي من اللي أنتي فيه النهاردة اتحايلي عليا.. حسسيني انك انتي اللي عايزاني.. اترجيني وبوسي رجلي عشان ارضى أنام معاكي.. واياكي أحس إنك بتاخديني على قد عقلي وإلا هاحرق قلبك على أخوكي وهخليكي تلبسي أسود عليه.. زي الشاطرة كده قومي ووريني هتعملي ايه.. مش ده كارك بردو وصنعتك.. النوم مع الرجالة ولا ايه يا سلمى؟!" نظرت له في حزن وهو يُكيل لها تلك الإهانات..

لماذا يُذكرها بكل ذلك اليوم؟ لماذا يفعل بها ذلك؟ للحظة فكرت أن تنهي حياتها حتى تتخلص منه.. ماذا به اليوم؟ هل فقد عقله أم أصبح مجنون؟ كانت تعده الرجل الوحيد الذي يعاملها برقي سوى في الممارسة ولكن كل ما فعله معها الليلة إلي الآن لا يدل إلا على وضاعته الشديدة!

نظر لها متفقداً منحنيات جسدها العاري أمامه، إهانتها بتلك الطريقة ترضيه للغاية، إعترافها بأنها أصبحت له وحده وهو يُكفيها تماماً أشعل الرضاء بداخله ولكنه يريد المزيد من توسلاتها.. فهي لا تعلم كم عانى، لا تُدرك كم يعاني كلما رآى وجه ذلك الطفل المسمى بسليم، لا تعرف كم أن زينة كلما ابتعدت عنه يشعر بذلك الرفض الذي يدفع دماءه للغليان.. ولكنه بعد حديثها معه أدرك أن امتلاك الأموال يرغم كل من أمامه على عدم عصيانه أبداً بل وأختياره من بين جميع الرجال على وجه الأرض.. ظن أنه الآن أفضل من السابق ليبتسم في زهو شديد وهو يتذكر من كان شهاب الدمنهوري وكيف أصبح الآن..

 

--

 

صباحاً امتلئ بالآلام للعديد من الأشخاص، سليم لا يستطيع بعد التحكم في غضبه أمامها، ألا ترى أنه يعشقها؟! ألا ترى أنه يُجن كلما آتت على ذكر ذلك الحقير؟ لماذا تُصمم على أن تؤلمه بتلك الطريقة؟ ماذا تريد بعد حتى تتأكد أنه لا يريد لها إلا الأفضل دائماً؟

للحظة تذكر كلمات أروى عنها ليلة أمس.. من نظر لها ظاهرياً قد يحكم على شخصيتها بكل ما تحدثت به أروى عنها، ولكن هو يعلم حقيقة طفلته الصغير التي كبرت على يداه، هي ليست كذلك ولن تكون!! لن تُصبح هكذا إلا بسبب ما يفعله الجميع حولها..

يشعر أنه أشتاق لها كثيراً، يشعر أنه يحتاج أن يأسرها بعناق لا ينتهي أبداً.. لماذا أروى هي من آتت معه وليس زينة؟ لماذا على ذلك الحقير المسمى بشهاب أن يلازمها يومان بأكملهما دونه؟ لماذا يفجعه القدر بكل ما يحدث له هذه الأيام؟!

"آلو.." آتاه صوتها الناعس فلقد كان الوقت مبكراً للغاية

"متزعليش مني على اللي عملته امبارح.. أنا آسف يا زينة.. بس والله خايف عليكي" همس لها متوسلاً لتنهض هي وهي تحاول ازاحة آثار النوم عن زرقاوتيها

"سليم احنا بقينا تقريباً كل ما بنتكلم بنتخانق.. أنا مش فاهمة أنت بتعمل معايا كده ليه؟"

"بعمل معاكي كده عشان خايف عليكي من كل اللي حواليكي.. وانتي بتعانديني ومبتسمعيش كلامي أبداً" أخبرها بحدة امتزجت باللوم

"ما أنت اللي مش بتديني مبرر، ومش بعاندك، أنا مش فاهمة ليه متضايق من شهاب.. هو بردو ابن عمي يا سليم"

"طب وأنا.. سليم ابن خالك.. تفتكري هاكون عايز أعمل حاجة تضايقك؟ ولا هاكون خايف عليكي؟!" سألها ليُقابل بالصمت التام حتى ظن أنها أنهت المكالمة "زينة أنتي معايا؟!" سألها ليأتيه صوتها الذي كان غير مرحب أبداً

"معاك" أخبرته بإقتضاب

"طب بذمتك.. موحشتكيش؟!" أختلفت نبرته ليحاول هو أن يُغير الموضوع حتى لا يتشاجرا بينما هي فرقت بالتفكير واجابته بعد مدة

"طبعاً وحشتني.. بس أنت كل شوية تتعصب عليا" تحدثت له في لوم

"حقك عليا.. خلاص هانت.. كلها بكرة بالكتير هاكون عندك.. أروى بس تكون كويسة وهجيلك"

"هي مالها؟!" سألته وهي لا تكترث حقاً بأحوالها

"دور برد جامد شوية"

"ماشي يا سليم.." سكتا تماماً عن الحديث بينما واتت زينة فكرة أن تسأله عن شيء "هو أنا ممكن أسألك سؤال؟!"

"أنتي عبيطة يا زوزا.. طبعاً أسألي" اجابها بتلقائية

"متعرفش بابا كريم فين؟ وليه مش بيسأل علينا الفترة دي كلها؟" تعجب سليم كثيراً لسؤالها ليعقد حاجباه في تعجب

"لا معرفش.. وبعدين أنتي عارفة من يوم ما دخلت بيتكم وعمتي كانت متجوزة عمو سيف الله يرحمه" تحدث ليجيبها ولكن ملامحه التي لم تراها هي تعجبت للغاية من استفسارها ذلك

"أنا فاهمة.. بس يعني خالو مكلمكش أبداً عنه؟ أو ماما؟ أو طنط شاهي مثلاً؟!"

"لأ عمرها ما حصلت.. بس اشمعنى بتسألي السؤال ده دلوقتي؟!"

"ايه!!" تلعثمت ولكنها تابعت بسرعة "سليم أنت عارف كنت قد ايه متعلقة ببابا سيف الله يرحمه، وأنت اهو شايف ماما بتعاملني ازاي، تفتكر لو بابا كريم لسه عايش هيحبني زي بابا سيف؟!" سألته ولكنه لا يعلم بم يجيبها فحاول أن يحول الأمر إلي مزاح حتى لا تغرق بدوامة الحزن التي تضع نفسها بها دائماً

"تفتكري أنا منفعش أكون بابا؟ ده أنا حتى زي القمر والبنات هتموت عليا" أخبرها بنبرة مازحة لتبتسم زينة لكلماته

"والله أنت بتهزر ومش وقته خالص"

"مش وقته ولا علشان وحشتك أوي؟ ولا غيرانة لما قولتلك البنات بتموت فيا؟! متكدبيش يا زوزتي عشان عارفك كويس"

"تصدق إنك رخم.. اقفل بقا عشان أقوم أخد shower واساعد في الفطار"

"يا بختهم.. لو تعرفي قد ايه بحقد على نوري وبدر وسيدرا دلوقتي مش هاتكرريها تاني"

"تعالى أنت بس وأنا أعملك اللي أنت عايزه" أخبرته بإبتسامة توسعت على شفتيها

"يا جامد.. قال يعني بتعرف تعمل حاجة غير البيض المقلي.. يا شيخة روحي"

"أنا غلطانة.. وأنت أصلاً رخم.. روح يالا"

"وحشتيني اوي.. حتى شكلك وأنا برخم عليكي وحشني" أخبرها متنهداً بإبتسامة

"وأنت كمان.. ارجع بسرعة بقا"

"حاضر يا حبيبتي.. خدي بالك من نفسك يا زينة عشان خاطري"

"حاضر يا سليم.."

"أنا هاروح اجيب فطار وأشوف أروى لو بقت كويسة هحاول نرجع النهاردة.."

"ماشي.. باي"

"باي يا حبيبتي"

أنهيا المكالمة ليشعر سليم بالتحسن قليلاً امّا زينة فكعادتها تخلل إليها المشاعر التي تغيرها بسرعة مائة وثمانين درجة دون التريث ولا التفكير بأية تفاصيل!



--

        

"بدر.. عشان خاطري متخفش.. أكيد سليم معرفش وإلا كان هيصارحك" همست له وهو متوسد صدرها بعد أن حاولة تهدئة بكاءه طيلة الليلة الماضية ودعمته كي يُخرج تلك الأفكار السوداء من رأسه وربتت على ظهره في حنان

"أكيد عرف.. عشان كده مكنش عايز يقولي" همس بإنكسار لتتنهد نورسين وأخفضت نظرها لوجهه

"هيعرف ازاي بس يا بدر، أنا محكتلوش، وأكيد ليلي الله يرحمها محكتلوش حاجة.. يبقى عرف ازاي بس؟!"

"مش عارف، مش عارف ومش هاقدر ابصله في وشه وأقوله أن أبوك نسخة من شهاب اللي عايز تحمي بنات عمته، ازاي هقوله إني كنت حقير كده؟ ازاي يا نورسين هاقدر أقوله أبوك اللي بيحاول يخليك احسن واحد في الدنيا كان قذر كده؟ ازاي هقوله إن صاحبك وأخوك الكبير خبى عنك كل ده؟" انهمرت دموعه مجدداً لتربت نورسين على ظهره في لطف

"استنى بـ.." توقفت عن الكلمات بينما هو نظر لها وقد توقف عن البكاء لتتحول ملامحهما للتعجب الشديد بعدما سمعا صوت جرس الباب "مين اللي هيجيلنا دلوقتي بدري كده؟!" نظرت له مضيقة ما بين حاجبيها ليجفف هو دموعه ثم نهض مسرعاً وتبعته هي الأخرى لترتدي رداء حول ملابس نومها وذهبا سوياً ليتفقدا من ذلك الزائر الذي قد يأتي بمثل هذا الصباح الباكر.





يتبع..