-->

الفصل السادس والعشرون - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل

 


 

الفصل السادس والعشرون

 

"قولي بقا ايه الحاجة المهمة اوي اللي مش هاتنفع في الموبيل وكان لازم نتقابل علشانها دلوقتي؟!" تحدثت أروى بإنزعاج شديد ورمقت شهاب في غيظ تام!

"بصي يا أروى.. أنا عارف إنك أذكى واحدة في اخواتك.. أنا لاحظت ده من أول اجتماع ما بينا.. واوعي تفتكري اني زي سليم وإياد واقتنعت بموضوع إنك خايفة على زينة باللي سمعتيهولها ده.. مدخلش عليا خالص" ابتسم لها بإنتصار وثقة لترتبك ملامحها للحظة ولكنها أجابت بنبرة هجومية 

"وأنا يعني ايه اللي هيخليني اسمعها ده غير إني خايفة عليها.. مهما كانت علاقتنا فهي أختي بردو ومن حقي اخاف عليها" ظنت أنها اقنعته بتلك الكلمات لتتوسع ابتسامته وهو يتفحصها بنظرة ثاقبة 

"ممكن مثلاً تكوني عايزة تدمري علاقتها بسليم عشان تبعد عنه!" حدثها بهدوء ليلاحظ ابتلاعها للعابها وشحوب وجهها ولكنه كذلك يعلم أنها بارعة فملامحها جامدة واثقة وكأنها لم تفعل شيئاً أبداً

"وأنا هاكون عايزاها تبعد عنه ليه إن شاء الله؟!! ما تكون معاه ولا مع غيره أنا مش هاستفيد حاجة.. بس اللي يفرق معايا إن أختي ميضحكش عليها" هزت كتفيها في إنكار ليطول صمته 

"مش موضوعي أنتي عايزاها تبعد عنه ليه دي حاجة تخصك.. وتعرفي كمان يا أروى أنتي شكلك شاطرة اوي، واحيكي على ذكائك.. لو كان بس مع واحد غيري كان دخل عليه الحبتين بتوعك بس نصيبك الأسود وقعك معايا!" لا يزال يتحدث بنفس الإبتسامة لينفذ صبرها 

"بص بقا أنا من ساعة ما جيت وبتتكلم بنبرة ألغاز.. أنا أصلاً غلطانة إني وافقت أققابلك" نهضت لتمسك بحقيبتها ليقهقه شهاب خلفها في سخرية 

"بس اوعي بقا تطلعي غلطانة قدام الكل لما اسمعهم اعترافك على نفسك إنك انتي اللي سمعتي زينة التسجيلات اللي ما بين إياد وبين سليم.. يا ترى رد فعله هيكون ايه؟ ولا زينة.. انتي عارفة قد ايه هي مجنونة وكلمة بتجيبها وكلمة بتوديها.." صاح قبل أن تغادر ليلاحظ توقف قدماها وانتباهها لما يقوله بالرغم من عدم التفاتها له "يالا بقا تصبحي على خير.. أنا ماشي أنا كمان" 

"بقولك ايه! أنت صح.. أنا عايزة ابعدها عن سليم.. وأنت مالكش دعوة بالموضوع ده.. أظن سليم قريبنا وزينة اختي وأنت مالكش دعوة بينا.. وأوعى تفتكر إنك هتهددني يعني بأنك سجلتلي الكلام ده.. مش أروى الدمنهوري اللي هتتهدد!!"

"وعشان أنتي أروى الدمنهوري وأنا شهاب الدمنهوري هتسمعي كلامي.. احنا في نفس الـ team .. انتي عايزة تبعدي زينة عن سليم وأنا كمان عايز كده.. ايه رأيك بقا نوحد كده اهدافنا وكل واحد يستفيد من ورا التاني؟! تمام؟ اتفقنا؟!" نظرت له مُضيقة عيناها في إنزعاج 

"عايز ايه بالظبط يا شهاب؟!" سألته بإقتضاب

"هقولك.. بس لما تقوليلي انتي الأول"

"أقولك ايه بالظبط؟!" 

"ليه عايزة تبعدي سليم وزينة عن بعض؟!" 

"أنا مش عايزة ابعدهم عن بعض.. أنا سمعت حاجة وخوفي على أختي خلاني أ.."

"ما بلاش!" قاطعها هامساً وهو ينظر لها بنظرة الصقر خاصته وبنبرته زجراً وتحذيراً لا نهاية لهما

"أنت مش عايز تصدق، أعملك ايه يعني" شردت بعيداً عن تلك النظرة التي تجعلها مُرتبكة للغاية فهي لم تراه من قبل بنفس تلك الملامح 

"يا أروى يا بنت عمي انتي مش قدي.. وأنا بردو أكبر منك وأعرف الصح من الغلط.. يالا بقا قوليلي عايزة تبعديهم عن بعض ليه؟ علشان كلامك اللي عمالة تقوليه ده مش صح.. فبلاش سكة الغلط معايا لأني هخليكي تندمي وهازعلك اوي وبجد هتصعبي عليا.. صدقيني بلاش تخليني أعاملك زي ما بعامل اللي زيك.. يالا قولي الحقيقة وبلاش لف ودوران اكتر من كده عشان أنا بمل بسرعة" نبرته ازدادت غرابة ولا تدري لماذا لا تستطيع أن تنظر له بعينيه.. لأول مرة بحياتها تتحدث لرجل مثله والآن لا تدري لماذا تذكرت تحذير سليم لها عنه..

"علشان.." ارتبكت قليلاً ثم حمحمت وهي لا تكترث أبداً لما سيحدث ولكنها ودت أن تتخلص من هذا اللقاء الغريب بأي طريقة ممكنة "علشان سليم استحالة اسيبه يعرف واحدة غيري.. زينة متنفعهوش.. أنا أولى منها" ارتبكت كذلك أنفاسها وتعالت في توتر

"شوفتي الحقيقة حلوة وسهلة ازاي" ابتسم لها بمكر لتضيق هي ما بين حاجبيها وهي تتفقده، فهي تقسم بداخلها أنها لا تعلم من هذا الرجل الجالس أمامها وكأنها لأول مرة تراه بحياتها.. أما  هو فتأكد من الكثير مما لاحظه بين هؤلاء الأطفال المزعجين.. تلك المتعجرفة تود أن تحصل وحدها على ذلك الفتى الثري.. حسناً لها ذلك.. سيدمره آجلاً أم عاجلاً على كل حال

"وأنت بقا عايز ليه هما الاتنين يبعدوا عن بعض؟" حاولت السيطرة على ذلك الإرتباك وعدم الراحة التي اندلعت داخلها

"تقدري تقولي كده إن زي ما أنتي عايزة سليم.. أنا عايز زينة!" ابتسم لها بإقتضاب ثم تابع "وأنتي يا أروى هتساعديني إن أنا وزينة نقرب من بعض!"

 

--

"أنا رايح أنام يا بدر.. نبقا نكمل موضوعنا بقا بكرة" أخبره سليم ولم ينظر حتى نحو زينة وتعامل مع الأمر ببرود تام ثم نهض وتوجه نحو المنزل  صائحاً "تصبح على خير" 

"وأنت من أهله" اجابه بدر الدين بينما التفت لزينة بنظرة لوم عاقداً حاجباه "أنتي عارفة إني زعلان منك مش كده؟!" 

"عارفة يا خالو.. متزعلش مني أرجوك" همست بنبرة متوترة

"تسيبي بيتي وبيت تيتا وتختفي.. ينفع اللي انتي عملتيه ده؟" 

"معلش يا خالو بس حضرتك عارف ماما يومها عملت ايه.. وكمان بعدها بعد ما كنت أنا وهي سوا سألتها عن بابا بردو ما أخدتش منها غير زعيق ولا بيفرق معاها اني ممكن أكون مضايقة أو انها هزأتني قدامك وقدام طنط.. أنا مبقتش صغيرة يا خالو على اللي هي بتعمله فيا ده" 

"أنا قولت هتفضلي لغاية بليل برا وترجعي هنا تاني.. بيتك يا زينة اللي عمر ما حد يقدر يطلعك منه"

"آه صح.. زي ما ماما جت ومدت ايدها عليا وخرجتني غصب عني" أخبرته بتهكم ليجيبها زافراً وشعر بقليل من الندم 

"أنا كنت تحت وملحقتش هديل وهي بتعمل كده.. أنا كنت متوقع العادي.. هديل هتيجي وتتعصب شوية وكام اسبوع وتهدى زي عادتها"

"يا خالو أنا تعبت.. تعبت من ظلمها ليا، من عصبيتها، من أسلوبها معايا.. معيشاني في توتر وعمري ما كنت مبسوطة ولا مرتاحة بسبب اني خايفة من صوتها وهي بتزعقلي، خايفة تفرض عليا حاجة تاني وتتحكم فيا، طول سنين دراستي برا كنت متوقعة مكالمة منها ولا حتى كانت ممكن تجيلي علشان الاقيها بتقولي خلاص ارجعي وكفياكي كده.. بقيت متشتتة بسببها هي واخواتي.. كل حاجة اعرفها ولا اسمعها بقيت بصدقها وبجري وراها يمكن تخلصني من اللي أنا فيه.. يا خالو أنت متعرفش أنا ببقا ازاي لما بشوف أروى وهي بتبصلي بتشفي كأني عدوتها.. ولا خناقات ماما مع إياد.. ولا شخطتها في عاصم اللي خلته مبقالهوش شخصية.. ده غير اني بحس دايماً انها زي ما تكون بتكرهني مش طايقاني بسبب حاجة أنا عمري ما عرفتها.. تعنيفها ليا ورفضها كل حاجة أنا عايزاها وبحبها خلتني عايزة ابعد بأي طريقة عنها.. أقرب من أي حد ما عدا همَّ.. أنا يومها لما جت وفضلت تزعق وضربتني كنت خلاص مصممة إني أبعد عن كل حاجة تخليني اواجه موقف زي ده تاني.. غصب عني والله يا خالو بس حتى لو اني اجي هنا البيت هتعملي مشاكل أنا مش هاجي هنا تاني.. أنا تعبت وزهقت.. بقا أكبر كابوس بالنسبالي هو رنة صوتها وهي متعصبة.. خلاص مبقتش قادرة استحمل" تهاوت دموعها ليرى بدر الدين مدى صدقها فجذبها اليه ليعانقها وهو يربت عليها في حنان

"اهدي يا حبيبتي.. خلاص حصل خير.. ومتقلقيش، هديل لسه قافلة معايا قبل ما انتي ما توصلي على طول وقالتلي مفيهاش مشكلة انك تيجي واعتذرتلي كمان.. هي بتتعصب وبتنزل على مفيش"

"أنا معرفش بس هي بتعمل كل ده فيا ليه" همست بين بكائها وهي تشعر بكامل الإضطهاد 

"أنتي عارفة أمك ديأختي الصغيرة وفاهمها كويس.. هي شايفة دايماً إن وجهة نظرها هي الصح وإن كلامها لازم يتسمع.. حتى يا زينة لو مختلفة معاها ممكن تعملي كل اللي انتي عايزاه بس مش بالطريقة دي" همس لها ثم فرق عناقهما ونظر لها وأكمل حديثه بهدوء "كلامك صح، ابعدي عن كل حاجة بتضايقك بس بالهدوء والذكاء.. مش بالعند والتصرفات الفجائية.. يعني مكنش ينفع تختفي كده  فجأة وتقلقينا كلنا عليكي"

"صدقني ان خلاص كان فاض بيا وقتها ومعرفتش اروح فين غير لشهـ.." توقفت من تلقاء نفسها وقد أدرك بدر الدين من قصدته ولمح ارتباكها الذي سيطر على ملامحها "أنا كنت عند عمو كرم.. الوحيد اللي فكرت اقعد معاه" 

"عمو كرم!!" تمتم ثم ضيق عيناه ناظراً لها "عمو كرم بس؟!" 

"يعني.. أنا وشهاب سافرنا سلمني المواقع اللي في الغردقة"

"ممم.. غيرتي جو يعني وهديتي شوية؟!" غمز لها ليدفع الإبتسامة لشفتيها لتنظر هي في غير اتجاه سوداوتيه الثاقبتين 

"يعني آه.."

"يا بت يا زوزا.. بنكسف من خالو ولا ايه؟! هتخبي عليا بردو؟"

"لا طبعاً مش هاخبي عليك.. أنا فعلاً كنت محتاجة أغير جو"

"وأديكي غيرتي جو يا ستي.. ها بقا نرجع حلوين كده ونروح الشغل ونقعد شوية عند خالو وشوية في بيت تيتا"

"حاضر يا خالو"

"ايوة بقا.. وكمان عندك الواد سليم اهو ابقي خليه يخرجك في اجازاته، استغليه شوية" 

"طيب" أخبرته بإقتضاب وتجهمت  ملامحها 

"ايه التكشيرة دي؟!" تظاهر بعدم المعرفة وهو من يعلم جيداً كل ماحدث بينها وبين ابنه اليوم 

"مفيش" تحدثت بإقتضاب مجدداً

"تاني هنخبي على خالو بردو"

"بصراحة يا خالو أنا مضايقة من سليم شوية" 

"عمل ايه ابن الكلب ده تاني؟" ابتسمت رغماً عنها من كلماته ثم تنهدت في آسى

"بصراحة عرفت حاجات كده.. يعني.." ارتبكت فهي لم تلاحظأنها أوشكت أن تخبره بعلاقتهما سوياً فحمحت ثم قررت أن تحاول اخباره بجزء من الحقيقة "حضرتك عارف إن سليم وإياد يعتبروا اقرب اتنين ليا في العيلة كلها.. للأسف اكتشفت انهم هما الاتنين شايفني مجرد لعبة بيتسلوا بيها وبيتراهنوا اذا أنا غلبانة وكلمتين واي حاجة حلوة ممكن تغيرني ولا لأ.."

"مممم.. معقول سليم وإياد يعملوا كده!" صاح بدهشة وصدمة مصطنعتان 

"اهو أنا كمان كنت متفاجأة، وكمان اللي فاجئني أكتر إن اللي قاللي وعرفني الحقيقة كان من أكتر الناس اللي استحالة أصدق انهم يخافوا عليا او يهتموا بيا أصلاً" 

"عرفتي من مين يعني؟" هز كتفاه سائلاً اياها بمنتهى التلقائية وهو يحاول معرفة من فعل كل ذلك 

"عرفت من.." كادت أن تخبره ولكنها توقفت "اهو حد من قرايبنا وخلاص يا خالو.. أنا مش عايزة أعمل مشاكل وأرجوك بلاش تقول لسليم إنك عرفت الموضوع مني"

"لا متقلقيش سرك في بير.. بس أنتي متأكدة من الكلام ده؟"

"والله لولا إني سمعتهم بوداني مكنتش صدقت" همست له بآسى 

"زينة انتي بنتي وسليم ابني.. بجد أنا عارف هو بيعزك قد ايه.. إن شاء الله قريب كل حاجة تبان، يمكن يكون سوء تفاهم مش أكتر"

"بجد نفسي.. بس اللي أنا سمعته ده مكنش ليه حل غير انهم هما الاتنين شايفني عيلة تافهة وهبلة والأسوأ انهم بيعاملوني على اني مريضة صرع وبس" شردت بحزن ليتنهد بدر الدين كذلك في حُزن على حالها وخاصة أنه بات متأكداً أن أروى من فعلتها ولكنها عادت لتنظر إليه بزرقاوتين متسائلتين "خالو أنا كنت عايزة أسأل حضرتك عن حاجة"

"اتفضلي يا حبيبتي"

"هو أنا  كنت سألت حضرتك قبل كده  بس كان شكلك راجع تعبان ومُجهد وكنت محتاج تنام.. اللي عايزة اعرفه هو.. بابا فين يا خالو؟" لمح ارتباكها بينما هو اجابها بهدوء

"بصي يا حبيبتي.. كريم والدك جه في الفترة الأخيرة كان مختلف مع والدتك والمشاكل زادت أوي ما بينهم.. وساعتها اتطلقوا.. وبعد الطلاق معرفناش عنه حاجة خالص.. زي ما يكون كان عايز يبعد عن هديل وخلاص" تظاهر بعدم المعرفة وكره للغاية ذلك الشعور بالكذب ولكن هذا هو الحل الوحيد أمامه

"بس ازاي يا خالو يسيب أولاده الخمسة من غير ما يسأل عنهم.. حتى لو فيه مشاكل ما بينه هو وماما ده ملهوش علاقة بينا"

"مش عارف أقولك ايه يا زينة بصراحة.. بس يعني كريم مكنش قريب اوي منكم زمان وكان دايماً مركز في الشغل وواخد كل وقته.. يمكن اتشغل في شغله أو اتجوز.. بجد معرفش"

"طيب أنا ليا طلب عند حضرتك"

"اؤمريني يا زوزا"

"لا مش اوي كده" ابتسمت له ثم أكملت "أنا عارفة إن حضرتك أكيد تعرف حد كبير يعني في الداخـ.."

"حاضر هسألك عن كريم.. عيوني يا ستي" ابتسم لها بعد أن قاطعها بعد أن علم ما تقصده 

"شكراً بجد يا خالو ربنا ما يحرمني منك"

"ولا يحرمني من العيون الحلوين دول.. ننام بقا عشان الوقت أتأخر"

"ماشي.." ابتسمت له مجدداً بعد أن شعرت بالراحة "تصبح على خير"

"وأنتي من أهله" غادرها فهو لن يستطيع الصمود أمامها أكثر من ذلك بعد تكراره للكذب عليها ولكن هذا هو الحل الوحيد..

 

 

 

 

 

--

 

 

رشف من فنجانه جالساً بشرفة غرفة نومه تلك الجلسة الواثقة وعقله لا يتوقف أبداً عن التفكير، علم أن الخطوات القادمة حاسمة للغاية مع تلك العائلة بأكملها..

ها هي أروى يملك بين يداه تسجيلاً بصوتها يُدينها، لو استمع سليم الفتى الذي يظن أنه يتبع الصراط المستقيم هذا الإعتراف بصوتها لن يستبعد أنه قد يُهمشها للغاية، هو حتى لن ينظر لها.. ذلك الفتى الذي يمتاز بالقيم والأخلاق ودور كبير العائلة الذي يظن أنه يبرع به لن يتعامل مع فتاة كمثل أروى، وهي التي لن تتركه ليبتعد عنها أبداً.. لذا من الذكاء أن تساعده مثلما أتفق معها..

ولكنه لا يزال غير مُصدقاً أن ذلك الفتى لا يستطيعأن يُمسك عليه ولو هفوة صغيرة.. أحقاً هو فقط يذهب للعمل ويقضي وقته برفقة عائلته؟ أهناك أحد مثله في هذه الأيام؟ حتى عملهم لا يوجد عليه غبار.. جميع صفقاتهم ومشاريعهم قانونية، لا يستطيع أن يُهدده بشيء أو يحصل على دليل واحد حتى يستطيع إدانته ولكنه قد رسم مسبقاً تلك الخُطة التي ستطيح بهم جميعاً..

ابتسم وهو يشرد بتلك السماء المعتمة، تلك النظرة التي رآها على وجهه عندما عانق زينة كانت له كجائزة نوبل.. يكاد يُجزم أنه اشتم رائحة احتراق جسده بأكمله عندما رآها مُستقرة بين ذراعيه.. توسعت ابتسامته بسخرية.. بالأمس كان مكانه، شعر بنفس الشعور.. ولكن أن تكون أنت المنتصر، هذا الشعور لا يضاهيه شعوراً آخر..

يدرك أن حصوله على زينة واقترابه منها سيجعله ينتصر على سليم، وأروى تلك المتعجرفة قد مهدت له الطريق ليصل إليها، لا بل ستمهده أكثر وأكثر بعد اتفاقهما.. كما يدرك أن كل ما يفعله قد لا يهديه لسبيل عمه.. لكن التفوق على تلك العائلة وزعزعة استقرارها أمر يريحه كثيراً..

كما أنه وضع العديد من الخطط.. إذا لم ينل مراده من هؤلاء الأطفال فسيلعب لعبة فريدة من نوعها مع الآباء، لابد من أن هديل أو ذلك الرجل بدر الدين الخولي يعلمان أين عمه.. سيصل إليه عاجلاً أم آجلاً.. هي فقط مسألة وقت ليس إلا.. لن يسمح أبداً لأحد من تلك العائلة أن يهزمه وسينتصر بكل شيء، سواء أمام نفسه أم أمام والده بمعرفة أين عمه كريم الدمنهوري..

لم يكن يدري أنه أصبح محقاً للغاية هكذا، فمنذ الوهلة الأولى أستطاع تبين تلك العائلة بأكملها.. يا لهم من حفنة أثرياء مزعجين حقاً!

ذهب عقله للتفكير في وليد.. لقد باتت تلك المواجهة معه قريبة للغاية، فرفضه لمكالماته وتهربه منه قد زاد عن الحد المسموح به في عالمهما المشبوه، إذا لم يتحدث إليه الآن سيبدأ الشك فيما أراده يتسلل لعقله اللعين، بالرغم من عملهما سوياً لسنوات ولكنه يعي جيداً أن الثقة بينهما أمراً معدوماً.. بل الثقة تجاه أي شخص شيئاً لا يملكه أبداً ولا يستطيع الشعور به ولن يمنحه لأياً كان على وجه الأرض..

"وليد.. عامل ايه؟!" 

"ياااه.. أخيراً.."

"كنت مشغول شوية"

"هتقولي ولاد عمك بردو والشركات والمشاريع.." حدثه بتهكم بينما حصل منه على الصمت التام "بص أنا كنت خلاص ناوي أسيب بقا الموضوع لحد أكبر مني.. يعني.."

"أنت بتهددني يا وليد؟!" قاطعه بنبرة هادئة 

"لا مش القصد.. بس أنت بقا شكل بدلة رجال الأعمال واكلة معاك اليومين دول، فقولت بردو رجال الأعمال ليهم سكتهم مع بعض وأطلع أنا نفسي بقا من سكتهم.. أصلي مش زيكم"

"لا بجد زعلتني.. جاي بعد السنين دي كلها تقول الكلام ده.. مكنتش اتخيل انه يطلع منك في يوم.. بس يالا مش مهم الكلام ده دلوقتي" تريث لبرهة متنهداً "ركز بقا معايا عشان فيه حاجة جديدة ومهمة لازم نتقابل علشانها"

"يا سلام يا شهاب بيه.. تحت أمر حضرتك.. يا ترى معاد الإجتماع امتى؟ أجيلك أنهي شركة؟" حدثه بمزيداً من التهكم ليبتسم شهاب في غيظ من طريقته التي يتحدث إليه بها

"لأ أنا هاجيلك في مكاننا.. بكرة كويس؟!"

"تمام.. بكرة بليل.. هاجيلك"

"اتفقنا"

 

 

 

 

 

--

 

"مامي حضرتك لسه صاحية؟!" دلفت أروى الغرفة لتجد أن هديل أوشكت على النوم

"آه يا أروى فيه حاجة؟"

"أبداً كنت هاحكيلك كده على كام حاجة"

"كويس أنا كمان لسه كنت عايزة أقولك إني كلمت بدر والموضوع هدي ما بيننا"

"كويس أوي.." حمحمت وهي تجلس بالقرب من والدتها "مامي .. أنا كنت عايزة أقولك كام حاجة كده عن زينة.. بس أرجوكي متتعصبيش واسمعيني للآخر" 

"مالها زينة هببت ايه تاني.. أنتي عرفتي توصليلها؟"

"هي جت النهاردة واتخانقت مع سليم وإياد.. معرفش فيه ايه ما بينهم بس شكلها مضايق اوي منهم" سكتت لبرهة لتتحول ملامح هديل للتعجب "بس أياً كان ده كله في مصلحتنا، يعني مثلاً لو همَّ اختلفوا فده معناه انهم هيختلفوا كمان في الشغل وبكده سليم مش هايقدر يمشيها على مزاجه ونبقى كسبنا زينة في صفنا" 

"متستبعديش كمان كام يوم تلاقيها بايتة عند بدر تاني.."

"لا يا مامي مظنش"

"انتي عرفتي هي كانت فين اليومين اللي فاتوا؟!"

"ما هو علشان كده بقول لحضرتك مظنش انها تقعد عند خالو الفترة الجاية.." حمحمت بتردد ثم تابعت "زينة كانت عند عمي.. كرم" 

"ايه !! كرم الدمنهوري؟!!" صرخت هديل بغضب "دي اتجننت دي ولا ايه؟ رايحة لأخو أبوكوا.. هي تعرف أصـ.."

"استني بس يا مامي اهدي هقولك على حاجة مهمة" حاولت تهدئتها لترمقها هديل بغضب

"لو مقولتليش حالاً أنا بجد هاروح في انصاص الليالي واجيبها من شعرها ووالله ما اخليها تعتب باب البيت" 

"أنا عارفة إن حضرتك كان فيه ما بينك وبين بابي مشاكل، صحيح أنا مفتكرش شكله أصلاً بس أنا عارفة بردو إن أكيد مع حضرتك حق.. بس في نفس الوقت ده ملهوش علاقة بعمنا ولا شهاب"

"شهاب!!" تمتمت هديل بتعجب "أنتي تقصدي ايه يا أروى بكل الكلام ده؟"

"شهاب هو اللي كلمني امبارح بليل والنهاردة الصبح وطمني على زينة، واضح انه انسان كويس جداً.. وكمان قاللي انها كانت قاعدة عندهم الكام يوم اللي فاتوا، وراحت استلمت معاه مواقع الغردقة"

"بصي أنا لغاية كده واستحالة أوافق على هبلكوا ده، أنتي خلاص بقيتي زيها أنتي كمان ولا ايه؟"

"هو فعلاً زينة تصرفاتها غريبة بس اللي عرفته من شهاب خلاني أفكر لقدام شوية"

"عرفتي ايه بالظبط؟"

"هو شهاب قاللي إنه مُعجب بيها وعايز يجي يتقدم لحضرتك" تريثت وانتظرت ثورة هديل وقد كان

"نعم!! هنعيدوا تاني.. عيلة الدمنهوري عايوة ايه مننا.. زمان كريم ودلوقتي ابن أخوه.. اسمعيني كويس.. انتي تروحي تفهميه انه يبعد عن أختك لحسن والله العظيم ما هاسكت و.."

"مامي ارجوكي اهدي واسمعيني للآخر" قاطعتها بنبرة تحاول أن تبدو هادئة قدر الإمكان 

"اسمع ايه!! أنتي متعرفيش كرم الدمنهوري ده عمل ايه زمان عشان بس كريم اتجوزني.. عايزاني اقعد واقوله أهلاً وسهلاً واجوز بنتي لبنته بالساهل كده؟"

"حضرتك بتقولي زمان.. بس حضرتك مش واخدة بالك من كذا حاجة مهمة.. عمي خلاص سنه كِبر ومبقاش زي زمان.. ومحدش يقدر ينكر انهم دلوقتي مشاريعهم كبيرة جداً حتى تقريباً أكبر مننا احنا شخصياً.. يا مامي ده لغاية دلوقتي شهاب كل المواقع اللي دخل بيها معانا متجيش ربع اللي عندهم فعلاً.. يعني لو زينة بس اتخطبت ليه ومسكنا كل مشاريعهم الموضوع هيختلف خالص بالمشاريع اللي هنتعاقدعليها" 

"ولو!! استحالة أوافق على حاجة زي دي.. انسي الكلام ده خالص.. أنا مش هاستنى واحد زي كرم اللي مكنش لاقي وبيتحايل على كريم يشاركه انه يجوز ابنه لبنتي.. حتى لو  آخر انسان في الدنيا مش هوافق عليه لزينة.. قومي نامي يا أروى واياكِ اسمعك بتجيبي سيرة الكلام ده تاني ولا حتى تحاولي تفتحيه معايا!" زجرتها بشدة وانفعال انعكس على اثره صدرها الذي علا وهبط في غضب

لتزفر هي في غضب حاولت دفنه وتصنعت الحزن ثم نهضت صوب باب الغرفة لتغادر ولكن بداخلها تذكرت تهديدات شهاب لها.. ملامحه.. طريقته التي تدل على أنه لن يتهاون بخصوص ذلك الأمر إن لم تساعده وتقنع والدتها بأمر خطبته هو وزينة بأقرب وقت فقد ينفذ تهديده حقاً ويُرسل تلك التسجيلات لسليم.. توقفت ثم التفتت مجدداً لوالدتها بعد أن أضطرت للإرتجال السريع فهي تعلم هديل ولا تريد أن تتركها لتُفكر حتى بالأمر وقبل أن تأخذ أي قراراً قد يدمر علاقتها التي بالكاد تحاول بدأها مع سليم كان عليها التدخل

"حتى لو عرفتي إن.. إن يعني.." حمحمت أروى "إن شهاب كده بيعملنا جميل مكناش نتصوره"

"جميل ايه اللي انتي بتتكلمي عنه؟" 

"اصل زينة لما سافرت.. هي.. غلطت مع واحد زميلها!" 

 

 

 

 

 

--

 

 

أحقاً والدها كريم قد يتوقف عن السؤال عن أولاده الخمسة كل تلك السنوات؟ أتوفى مثلاً.. سافر خارج البلاد؟ تزوج من أخرى وأنجب.. ولكن أكثر من عشرون عاماً لا يٌفكر حتى بالسؤال عن أبناءه؟! تشعر بالغرابة الشديدة لمجرد هذا التصور..

قد يختلف الكثير من الأزواج وينفصلوا بالنهاية، يتجادلوا ويخوضوا معارك كثيرة.. ولكن من ضمنها هي الوصول لأبناءهم ورؤيتهم، ولكن أم منشغلة طوال الوقت عصبية، غاضبة، متحكمة، رافضة لكل مالا يتقبله عقلها، وأب لا يسأل حتى عن أولاده.. لماذا حظها هي وأخوتها كذلك؟! 

زفرت في حُزن وتمنت بداخلها أن ترى والدها ولو مرة واحدة أمامها.. لربما كانت والدتها مخطئة مثلما كانت دائماً.. ولكن لو رآته وقصت عليه كل ما عايشته معها من دونه علّها تجد ملاذاً جديداً وملجأ حتى تُطمئن من حالة الخوف المّرضية التي تُساورها وتبلغ أقصاها بين الحين والآخر كلما تواجه والدتها..

أشعلت واحدة من سجائرها وهي لا تزال جالسة على ذلك المقعد بالحديقة واستنشقتها متنعمة بذلك السكون بينما باغتتها احد دمعاتها عندما تذكرت حديث سليم وزياد.. هي حتى جالسة لتتهرب من سليم وتنتظر إلي أن يتأخر الوقت حتي يذهب للنوم وتتجنب لقاءه..

لم تكن لتتوقع أن بأسوأ كوابيسها أن الرجل الوحيد الذي بدأ قلبها بقبوله والخفقان له وانتظار ولو حرف ينطقه قد ينظر لها على أنها مُجرد مريضة، تحتاج للحنان والشفقة ليس إلا.. لقد خاب أملها كثيراً من قبل، ولكن خيبة أملها هذه المرة تجعلها تشعر بالإنكسار الشديد.. لم تتصور أبداً أنها ستجلس تبكي بسببه هكذا..

 

كيف لها أن تُصدق مجرد كذبة خادعة عنه؟ ألا تعلم كم يعشقها؟ ألم ترى عيناه المتلهفتان عليها منذ أن كانت طفلة صغيرة لا تكترث سوى لوالده وهو يلاعبها بينما عيناه صرختا مراراً وتكراراً بأن تُعطي له ولو خيطاً بسيطاً متهاوياً بأنها قد تشعر مثله هي الأخرى؟

جفف دمعته التي سقطت وهو يراقبها من شرفة غرفته، هو ليس حزيناً لتلك الفكرة المخزية التي جعلتها تظن أنه لا يعشقها وأنها بالنسبة له مجرد حالة مرضية أوهو يفعل كل ذلك لها بدافع الشفقة ليس إلا أو حتى رهاناً بينه وبين إياد.. ولا حتى هو غاضباً ممن فعل بهما تلك اللعبة الوضيعة.. حزنه وغضبه يكمنان بها هي وحدها.. هي دون سواها.. كيف أن تكون ثقتها به هشة للغاية هكذا؟ إلي متى ستظل تستمع للجميع وينفعل عقلها مع الجميع دونه هو؟ 

لماذا تُصمم على إيلامه؟ هي اختارت أن تُصدق.. أختارت أن تلجأ إلي آخر سواه.. لم تناقشه حتى.. لم تستمع له.. بل ظنت السوء في دوافعه.. هي حتى لم تحاول معرفة ما هي تلك الدوافع التي جعلته ينطق بتلك الكلمات!!

بالرغم من شعور الخذي الشديد وتلك البقعة السوداء التي خلفتها بقلبه ولكنها أخطأت.. وهو يُدرك جيداً أن المخطئ لابد أن يواجه زوبعة شديدة من نوعها  حتى يصل إلي السكون التام وقتها فقط سيدرك ما الفرق بين الخطأ والصواب.. كما أنه سيتعلم مروراً بتلك الزوبعة الشاقة كيف يواجه المزيد من الزوبعات بقدمٍ صلبة ثابتة لا تقبل الإنهيار أبداً.. عليها أن تتعلم الدرس جيداً حتى ولو بمنتهى القسوة..

يعلم أنه سيتألم، وستفعل هي الأخرى.. قد يخسرها للأبد ولكن لن يتخلى أبداً عنها حتى يرى أنها أصبحت قوية، صلبة، لا تستطيع أعتى العواصف أن تهب نحوها..

لمحها تنهض عن مقعدها فتوجه للأسفل وهو بداخله قرر أن يُساعدها.. مجدداً.. فهذا هو العاشق دائماً وأبداً ألا يترك من يعشقه مهما كانت الظروف التي يواجهها..

 

 

 

 

 

--

 

 

توقف تماماً بمنتصف الدرج حتى تلاحظه فتوقفت لبرهة وهي ترمقه في حُزن ولم يرى هو الآخر بزرقاوتيها سوى الإنكسار وخيبة الأمل ولكنه تصنع الجمود وتفحصها بمقلتيه المشابهتين لمقلتي والده بالظلام وقبل أن تخطو أولى خطواتها لإستكمال الصعود أوقفها بنبرة غريبة لم تسمعه يتحدث بها من قبل

"أنا بردو كنت زهقت من اللعبة اللي بلعبها عليكي.. واحدة يعني زيك.. كلمة تجيبها وكلمة توديها.. كنت عايز أثبت لنفسي ولإياد إن كان معايا حق.. أي حد يطبطب عليكي ويحاول يقرب منك ممكن تتجاوبي معاه.. حتى معندكيش مانع إنك تتجاوزي معاه حدود كتيرة.. شكلك نسيتي" كل نقطة دم بداخل عروقه كادت أن تنفجر إثراً على ما يتفوه به ولكن عليه هذه المرة أن يكون قاسياً معها علها تتصرف مثلما تفعل دائماً ويتملكها العناد وتفعل عكس ما يُخبرها به..

لا تصدق أنه على تلك الدرجة الوضيعة من الحقارة بأن يقف ويواجهها بمثل تلك الكلمات.. هي حتى لم تظن يوماً ما أنها لن تستطيع النظر لوجهه.. لقد دمر حقاً كل ما كانت تحمله له من مشاعر ولا تظن أنها حتى ستعتبره ابن خالها بعد هذه اللحظة..

"بس كويس إنك عرفتي.. بالرغم من إني معرفش مين اللي قالك.. بس احسن بردو... هنام النهاردة من غير إزعاج والكلام السخيف اللي كنت بافضل اسمع فيه طول الليل.." تظاهر بكل ما استطاع من قوة بالملل ليوقفها عن استكمال طريقها مرة أخرى وتهاوت دموعها في انهمار ظنه هو نفسه أنه لن يتوقف أبداً 

"أنا صحيح في الأول كنت عايز أثبت لإياد إن كلمتين حلوين وشوية طبطبة ليهم مفعول السحر عليكي وبعدين افتكرت الموضوع عجبني وقولت اتسلى.. بس بصراحة معندكيش فكرة انتي خنقتيني قد ايه.. حقيقي.. الله يكون في عون اللي هيعرفك.. هيعيش في نكد طول حياته" أكمل حديثه بنبرة متآففة امتلئت بالسأم لتجهش بالبكاء من كثرة ما تسمعه وأخذت خطوات مجدداً للأعلى 

"فضلتي تقولي انا مش صغيرة ومحدش ليه دعوة بيكي بس تعرفي يا زينة.. كل كلامك وكل اللي بتعمليه عكس بعض.." أوقفها مجدداً بكلماته "صغيرة يضحك عليها سليم.. يضحك عليها شهاب.. وكمان يضحك عليها اللي سمعها الكلام اللي ما بيني وبين إياد" أطلق ضحكة خافتة ساخرة وتمنى حقاً لو قطع لسانه بيداه على كل تلك الكلمات ولكنه أطنب بالمزيد "يعني أنا بسهولة ممكن أسمعك عمتي وهي بتقول انها خايفة عليكي.. فانتي تجري تحضنيها.. أو خالو وهو بيقول انه زعلان منك فتروحي تعتذريله من غير مبررات ومن غير ما تعرفي انتي غلطتي في ايه.. بجد عمري ما شوفت ولا عرفت واحدة هبلة اوي زيك.." تلك الإبتسامة الجانبية المتهكمة كانت آخر ما رآته قبل أن تتزايد دموعها وأخذت في الهرولة للأعلى ليوقفها هو جاذباً ذراعها بشدة ودفعها لغرفتها

"لو سمحت ابعد عني ومتلمسنيش" همست بآسى بين دموعها 

"ويا ترى ملمسكيش ليه؟!" همس مُستنكراً حتى وصلا غرفتها ووصد الباب خلفه "ما أنا لمستك قبل كده.. وشهاب كان بيحضنك عادي النهاردة.. فيها ايه يعني لما أقرب منك تاني" حدثها بتهكم ليلاحظ تعالي أنفاسها بغضب وأقتربت منه وكادت أن تصفعه ولكنه أمسك بيدها "بردو تضربي ابن خالك.. دي حتى مش أخلاق بنت كويسة زيك!" وكأنه يتظاهر بالحزن وقد رآت ملامحه تفيض بالمزيد من التهكم 

"أنت لو مطلعتش برا دلوقتي أنا هاعلي صوتي واصحي كل اللي في البيت وهـ.."

"صحيهم.. أنا معنديش أي مانع.." هز كتفاه في عدم إكتراث "بس ياريت زي ما هتقولي إني فياوضتك وبضايقك ابقي قولي بردو إني كنت في اوضتك قبل كده وبرضاكي.. أو ممكن تقوليلهم إن ملكيش مزاج دلوقتي ليا.. وبقا ليكي مزاج لحد تاني.. وبتحضنيه عادي قدام الناس.. ومين عارف.. يمكن كمان شوية يبقا فيه تالت ورابع وغيرنا كتير" رمقها باحتقار وهو بداخله يتمزق على تلك الكلمات التي تغادر شفتاه

"أنت حيوان.. أنت ازاي بتقول كده.. هو يعني علشان وثقت في واحد زبالة زيك ضحك عليا بكلمتين وللأسف أنا صدقته ابقى قذرة كده زي ما بتقول.. أنا غلطانة والله إن فكرت إن ممكن تكون فعلاً بتحبني.. كنت غبية إني حبيتك.. امشي اطلع برا الأوضة دي ومش عايزة أشوف وشك تاني" صاحت بين بكاءها وهو بداخله يتهشم وينكسر اثر كل كلمة غادرت شفتاها

"بتتكلمي عن الحب.. أنتي عارفة أصلاً يعني ايه حب؟!" ابتسم بسخرية وعادت بعدها ملامحه للجمود ليقترب منها هامساً "لو كنتي بتحبيني كنتي وثقتي فيا.. بس حقيقي طلعتي هبلة.. متقلقيش!! ميشرفنيش اني في يوم احب واحدة زيك.. واحدة.." رمقها بأكملها من أعلى رأسها لأخمص قدمها "هبلة!!" نطق بتلك الكلمات ليلتفت ويغادرها وعيناه سُجن بهما الدموع التي تود أن تنهمر لملامحها التي يعشقها وهي بتلك الهشاشة أمامه وخاصةً أنها الآن تتألم بسببه هو..

 

 

 

 

 

--

        

 

"ايه اللي أنت عملته ده يا سليم!" صاح بدر الدين بنبرة جامدة غاضبة وقد ولج غرفة ابنه للتو ووصد الباب 

"أنا عارف كويس أنا بعمل ايه" اجابه وهو يولي ظهره إليه 

"بتعمل ايه! بتحسسها انها واحدة شمال ولا انها غلطت علشان وثقت فيك" حدثه بإنفعال ليجيبه الآخر بإنفعال مساوٍ له في المقدار بعد أن التفت إليه

"اللي بعمله اني بوصلها كلام معين علشان تروح تعمل عكسه.. علشان أنا خايف عليها من كل اللي حواليها.. ما أنا خلاص من كتر ما فهمتها بقيت فاهم اتعامل معاها ازاي.. أنا طبطبت وكنت رقيق والعاشق الولهان ومع أول مشكلة ما بيننا رايحة تصدق الكلام ده عليا.. مستني مني ايه؟! اتحايل عليها وأقولها أنها فهمتني أنا وأخوها غلط؟ ولا أسيبها تتمادى في نظرية المؤامرة اللي عايشة فيها وجواها وإن الكل عايز يتحكم فيها وخلاص.. هي لو مفاقتش واتعلمت الدرس بالمنظر ده عمرها ما هتكون كويسة.. لازم اكون قاسي معاها علشان تفوق"

"تقوم تقولها الكلام ده؟ بالطريقة دي عمرها ما هتكون كويسة ومش بعيد تتعرض لنوبة أو.."

"لا متقلقش.. حبيب القلب ابن عمها واقف جنبها وبيطبطب عليها.." قاطعه متهكماً وأنفاسه  تتسارع بمنتهى الغضب

"يعني كل اللي بتعمله ده علشان غيران.."

"بلا غيرة بقا بلا هباب"

"أنا مش فاهم أنت كل ما سيرته بتيجي أنت بتقلب ليه؟"

"الهانم رايحة تنسى انها قدامي هي واخواتها ورايحة تترمي في حضنه.. أصل سليم الواطي طلع بيكدب عليها وهو بقا حمامة السلام" صاح مجيباً وغضبه تملك منه بعنف خاصةً عندما تذكر تلك الطريقة التي ارتمت هي بها بين ذراعي شهاب

"ما اللي أنت مش شايفه إن كل ده من تحت دماغ أروى هانم و.."

"أنا مش فاهم أنت جبت منين موضوع أروى ده.. ايه اللي مخليك واثق إنها هي اللي قالتلها؟" قاطعه بإنزعاج 

"يا أهطل أنت مش شوفت الكاميرات اللي في الدور عندك.. مش هي اللي اخدتها وقعدت معاها في اوضة الإجتماعات قبل ما تدخلك؟ وهي اللي ممكن بسهولة تزق اي حد يحطلك أي حاجة تتنصت عليك من مكتبك؟ ومش هي بردو اللي ظهرت فجأة لما زينة خرجت من عندك؟ ولا وايه فجأة هديل بقت طيبة كده وعايزة تشتري خاطري وقال ايه بتعتذرلي؟ أنت أهبل لدرجة إن كلامها دخل عليك وصدقته؟ ولا فاكرني أنا أهبل لما قفلت معاها وقولتلها حصل خير؟ أكيد بنت عمتك راحت تقولها اللي سمعته بينك وبين إياد وأنك هتروح تقول لجدتك اللي هي بتعمله في ولادها.. هديل عمرها ما بتسمع لحد  في الدنيا غير أروى.." أنهى حديثه وهو يلتقط أنفاسه المنفعلة وكذلك سليم الذي لتوه أدرك مدى حقارة أروى وومض برأسه حديثها معه عندما سافرا وحدهما

"انا بس مش فاهمة زينة هتفضل لغاية امتى كده مش عايزة تسمع كلام حد.. أكيد بردو أنت فهمتها إنك عرفت حاجات مش كويسة عن شهاب"

"دماغها الناشفة دي وعندها اللي مش بتبطله أبداً.. مفيش فايدة فيها خالص معرفش لغاية امتى كده هتفضل مبتسمعش كلام حد.. ولا حتى أنت ولا كأنها عاملالك لازمة.. ده احنا كلنا بنسمع كلامك واستحالة نـ.." 

أدرك هنا أنها كانت تحاول بطريقتها التي امتلئت بالخبث والمكر أن تجعله ينزعج من زينة.. لقد كانت تعلم وقتها بعلاقتهما وكانت قد بدأت بمخططها القذر بالفعل

"فهمت أن أروى كـ.."

"كانت بتحاول توقع بيني وبين زينة.." أكمل كلمات بدر الدين وهو يتذكر المزيد من كلمات أروى 

"..الكل عارف قد ايه أنت بتحبنا وبتخاف علينا وعايزنا كلنا نكون كويسين، هي لسة صُغيرة اوي ومش شايفة ده.. بكرة لما تفهم كلامك هتقدر عصبيتك.."

"نرفزتك عشان بقولك الحقيقة؟ عشان خايفة عليها وعلى شغلنا؟ أنت ليه مش عايز تقبل مني كلمة زي ما أكون عدوتك؟ أنا أكتر واحدة في إخواتي بخاف عليهم وبحبهم .. وأكتر واحدة في الشغل بسمع كلامك.. أنت ايه بقا حرام عليك.. ليه بتعمل فيا كل ده!! عشان يعني خالو وطنط نورسين مدلعين زينة من زمان فأنت بتسمع كلامهم؟ ولا عشان أنت وزينة أصحاب وقريبين من بعض بتعاملها هي معاملة وأنا معاملة؟! أنا غلطانة.. غلطانة إني بعاملك بإعتبار إنك الكبير اللي فينا وبقول للكل يسمع كلامك وباخد بالي من كل حاجة بتقول عليها وبنفذها.. الظاهر إن الكويس مبقاش بينفع معاك يا سليم!! أنا آسفة إني كلمتك بصراحة وأعتبرتك قريب مني.."

"عرفت يا أهطل إن أروى عايزة تـ.."

"عايزاني.. وعايزة تبعد زينة عني.. عرفت دلوقتي كل حاجة!!" همس مكملاً عن والده، غارقاً في تفكيره، شارداً بالعديد من الذكريات والمواقف التي تصرف معها بتلقائية ولكنه أدرك الآن كم كان مخطئاً ولكنه كذلك علم جيداً كم سيصلح كل شيء.. 

 

يُتبع..