الفصل الثامن والعشرون - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل
"مبروك" حدثته أروى وها هو قد فرغ من مكالمة تليفونية غريبة قد ترك الجميع من أجلها وتوجه للشرفة حتى يقوم بإجراءها
"عقبالك" رمقها بنظرة جانبية ثم أعاد هاتفه لجيب سترته
"قريب.." اجابته بإقتضاب
"أنا متأكد من ده.. أنتي ذكية وشاطرة وهتعرفي توصلي للي أنتي عايزاه" التفت لها ولتوها رآت نظرة إعجاب بداكنتيه
"ذكية وشاطرة.. وفعلاً هوصل للي عايزاه" تمتمت بإبتسامة مقتبسه من حديثه "الموضوع كله مسألة وقت.. وخلاص أظن مبقاش فيه حاجة أخاف منها!" نظرت له بتأكيد ليومأ بإبتسامة جانبية
"شوفي يا أروى.. أنتي لسه متعرفيش مين شهاب الدمنهوري.. ممكن أكون بوصل للي عايزه بطرق غلط.. بس يوم ما بقول كلمة مبرجعش فيها.. حتى لو بهزر!!"
"عموماً أنا معرفكش، ومعنديش استعداد أعرفك.. بس زي ما أنت ما قولت.. أنا ذكية وشاطرة وبعرف أوصل للي عايزاه.. بعدت زينة عن طريق سليم، جبتلك زينة لغاية عندك، حتى الناس اللي مش عايزها تحضر خطوبتك قدرت إني ابعدهم.. يعني تقدر تقول إني بوصل لأي حاجة أنا عايزة أعملها" ابتسمت له بمكر ثم تابعت "خُلاصة كلامي علشان مطولش عليك.. إنت ماسك عليا تسجيل.. يدمرلي كل اللي حلمت بيه في يوم.. علشان ذكي وشاطر.. وأنا كمان.. لسه مسجلة كل المكالمة اللي انت اتكلمتها دلوقتي.. بس ايه.. صوت وصورة.. وأظن أنها كفيلة إنها تدمرلك حياتك، فلوسك، وسمعتك!!" رمقته بإنتصار رافعة احدى حاجبيها ليقهقه بخفوت وهو ينظر لها مُضيقاً عيناه
"تمام.. سجلتيلي.. مكالمة ليا في شغلي اللي هي حاجة عادية وبعدين؟!"
"ولا قبلين!! سرك وتسجيلك في بير.. لغاية ما حد يعرف عن اللي حصل حاجة.. إنما طول ما سري في بير أنت مش أكتر من ابن عمي حبيبي، وجوز أختي المنتظر.. لا أكتر ولا أقل" ابتسمت بخبث ليومأ لها ليزفر هو بعمق هاززاً رأسه بإنكار مُدعياً الآسى
" عارفة.. أنا قولتلك إنك ذكية وشاطرة، بس مع والدتك، مع واحد زي سليم، مع زينة.. مع إخواتك.. إنما أنا!!" أطلق زفرة متهكمة صاحبها همهته الرجولية ثم تغيرت ملامحه في لحظة للجدية الشديدة ورآت تلك الملامح التي أخافتها مرة من قبل "لما تمسكي على شهاب الدمنهوري حاجة، إذا كنتي يعني فاكرة انها حاجة مهمة، أتأكدي إني حطيتك في دماغي.. وأنا بقا اللي بحطه في دماغي برسمله خطة.. واتنين.. وعشرة! وصدقيني كل الخطط بتبقا نهايتها وحشة أوي!! من هنا ورايح عايزك تاخدي بالك من نفسك الفترة الجاية.. بنت عمي بردو واللي هيحصلك هيخليكي تصعبي على الكافر!" أنهى حديثه لها بإبتسامة جانبية بينما أرتبكت أروى من ملامحه
"شهاب!!" آتت زينة لتناديه ودلفت الشرفة لتزفر أروى براحة ولأول مرة تشعر بالإمتنان لشيء فعلته زينة فهي لتوها أخرجتها من هذا المأزق وأنسحبت مسرعة للداخل حيث الجميع
"حبيبتي.." ابتسم لها مدعياً العشق التام على سائر ملامحه.. فهو قد أختبر من قبل كيف يبدو العاشق الغارق بأبحرٍ من الغرام
"حسيتك أختفيت مرة واحدة كده" بادلته الإبتسامة
"مكالمة مهمة في الشغل وبعدين أروى كانت بتباركلي" أقترب منها لتتشابك أصابعهما سوياً "مبسوطة؟!" سألها ليحصل منها على تنهيدة
"مبسوطة بس.. حاسة إننا اتسرعنا شوية" أخبرته بنبرة مرتبكة ليقترب منها ثم قبّلها على جبينها في تريث وقد شعر بعدم راحتها من إقترابه فابتعد مجدداً ولا يزال مُمسكاً بيدها
"زينة.. أنا مكنتش قادر استنى، من يوم ما عيني وقعت عليكي بقيتي أهم حاجة في حياتي.. من يوم ما قابلتك صدفة في النادي وزي ما تكوني أهم هدف ليا في الدنيا.. حسيت إني لو مقربتش ليكي هسيب أحلى فرصة جاتلي في حياتي.. يمكن أنتي مش حاسة بيا، بس مع الوقت هتعرفي انتي مهمة بالنسبالي ازاي" تلمس أسفل ذقنها وبالرغم من اثر كلامه الغريب على مسامعها فقد ابتسمت له
"كان نفسي خالو يبقا معايا النهاردة اوي.. معرفش ليه ماما صممت كل حاجة تكون على الضيق أوي كده" همست له بنبرة حزينة
"متقلقيش.. بكرة لو حابة نروح لخالو.. ولو حابة نعمل اي حاجة في الدنيا نعملها"
"بجد!!" نظرت له ببراءة نظرة مليئة بالتلقائية ليومأ هو لها بإبتسامة "طب هات الموبيل بتاعك" عقد حاجباه ناظراً لها في تعجب
"خديه" في ثوانٍ أخرجه من جيب سترته وأعطاه إليها "بس دي غيرة بقا ولا ايه بالظبط.."
"لأ مش غيرة" أخبرته بينما بحثت عن احدى تطبيقات وسائل الإتصال الإجتماعي الشهيرة بهاتفه "أنا عايزة الناس كلها تعرف إني اتخطبت لشهاب الدمنهوري.."
"اووه!! ده أنا طلعت مهم أوي وأنا مش واخد بالي" أخبرها بزهو
"شهاب أنت معندكش فكرة أنت مهم بالنسبالي قد ايه" بالرغم مما تحمله من التردد وأنها وافقت على تلك الخطبة بسرعة ولكنها كانت تخبره الحقيقة "بالذات الفترة اللي فاتت.. لولا وقفتك جنبي مكنتش بقيت كويسة" ابتسمت له بإمتنان
"متقوليش كده تاني.. ده واجب عليا"
"طيب يالا بينا بقا ندخل نقعد مع عمو كرم"
"يالا.." ابتسم له وما أن دلفت للداخل أمامه وهو يتبعها حتى تلاشت ابتسامته
"الموضوع هيتأجل أسبوع كمان.. لا محتاجين شحنة أكبر وأنا بتصرف فيها.. هيدفعوا الضعف وأنت عارف سعر السوق كويس وأنا مش هاسيب فرصة زي دي تضيع من ايدينا.. لا متقلقش فلوس العمال هتوصلهم.. وليد.. أنا قولت اللي عندي.. سلام!" راجع كل كلمة غادرت شفتاه بتلك المكالمة بينما رآى أنه لا يُدينه سوى نطقه لإسم وليد.. لذا إذا وصلت تلك المكالمة للجهات المختصة، لن تكون في مصلحته أبداً!! ولكن مالا تعلمه أروى بعد حقيقة علاقته بوليد، أم لربماعلمت شيئاً؟! عليه التأكد من هذا جيداً
❈-❈-❈
في نفس الليلة..
أوصدت عيناها أسفل المياة الدافئة وودت لو لمرة واحدة بحياتها تعرف ما الذي تريده وما الذي تفعله ومن أصبحت عليه خاصةً الآن!
لا تدري أفعلت الصواب أم لا.. أوافقت لأنها تحمل مشاعر تجاه شهاب أم أنها تريد أن تُعلن لسليم أنها أستطاعت تجاوز مشاعرها نحوه وأنه لا يعني لها شيئاً بع الآن؟ لن تُنكر أنها تشعر بالإمتنان الجم لكل ما فعله شهاب معها ومن أجلها الفترة الماضية، منذ سفرهما إلى ساعة مضت وهو يُعتبر لها الأقرب بين الجميع ولكن هل إقترابه منها أيام يساوي إقتراب سليم منها لسنوات؟!
لماذا تقارن بينهما؟ الرجل الذي آتى مهرولاً إليها مرات عديدة عندما شعر بأنها ليست على ما يُرام، الرجل الذي لم يحكم عليها ولو لمرة واحدة، لم يصرخ بوجهها مخبراً اياها أنها ليست زينة التي عهدها الجميع، رجل لم يعقد حاجباه في تعجب من ملابسها ولم تتجهم ملامحه عندما رآها تنفث دخانها، رجل لم يغضب عليها أبداً، أستطاع أن يكن عوناً وسنداً.. لن تنكر أنها تعشق هدوءه، ثباته في حديثه، وتلك الثقة التي يتحدث بها عن أي أمرٍ كان، بالرغم من تلك المواقف البسيطة التي غضبت عليه بها ولكنه قابل كل إنزعاج منها بصدرٍ رحب.. بعد كل هذا أتقارن بينهما؟
أحقاً تقارن بينه وبين رجل نظر لها وكأنها مريضة، خادعاً اياها بحفنة ذكريات جمعهما القدر ليتشاركاها سوياً، مُستغلاً كل ما يعرفه عنها كي يتقرب منها، مُراهناً عليه أخيها بمتهى الدناءة، مُعترفاً بحقارته أمامها مرات كثيرة، لا بل يزدريها، يقف أمامها وكأنه لا يراها، يتعايش دونها وكأن كل خداعه لها لم يُأثر به ولو للحظة، لا يمر يوماً إلا ويحاول الظهور بجانب أختها وكأنه يخبرها بمنتهى الجرأة أنه سيفعل المثل معها، تأتي هي الآن لتقارن بينهما؟!
لما تلك المقارنة؟!
تدرك أنها لا تزال تشعر بخفقات قلبه التي انعكست على صدرها كلما أقترب منها، تدرك أنها وقعت بعشق تلك الضحكات وتلك الحيوية التلقائية التي تتسلل لكل أنملة بجسدها كلما كانت معه، ذلك الخجل، ذاك الحديث بدفترها عنه، تلك النظرات التي تبادلاها، نعم هي تفتقد كل ذلك.. بالرغم كل ما حدث ولكنها تشعر بأنها حقيقة.. تشعر أم انخدعت حتى شعرت أنها حقيقية؟!
أجهشت بالبكاء أسفل تلك المياة التي تنهمر فوق رأسها بينما أنهمرت أبحر عيناها إلي مالانهاية، شهقاتها الموجعة التي تشعر وكأنها تجذب روحها من جسدها.. ذلك القلب بقفصها الصدري الذي يخفق بمنتهى المجون.. لماذا يخفق؟ لماذا تشعر بتلك العاصفة في رأسها؟ ألم تتخلص من عشقه بعد؟ ألم توافق أن تبدأ حياة جديدة مع رجل آخر؟ إذاً لماذا يحدث لها ما يحدث لها الآن؟
تعترف أمام نفسها أنها مشتتة، كل شيء أمامها لطالما حمّل معنيان، أي كلمة استمعت لها ودت أن تتحرى عن مصدقيتها، نعم هي تقع فريسة للجميع، فريسة لكل كلمة أفترست عقلها بضراوة، ولكن ماذنبها إذ أنها تريد معرفة الحقيقة؟ ما خطئها الذي ارتكبته عندما صدقت الجميع؟ أأذنبت عندما صدقت نوايا الجميع؟!
يرونها سهلة، مشتتة، ضعيفة، صغيرة؛ فليرونها كيفما شاؤوا.. ولكن هي تعلم الحقيقة الكامنة بعقلها، تعلم أنها لا تريد الضرر لأي أحد، بدءاً بنفسها ونهايةً بوالدتها وأروى.. أم عليها القول نهايةً بسليم وإياد؟!!
تعالى نحيبها، تمزقت حبالها الصوتية في محاولات شتى لإيقاف تلك الشهقات والأنين ولكنها بأكملها باءت بالفشل، لماذا تبكي؟! أتبكي على سليم؟ أم على شهاب؟ أم على نفسها؟! لم تعد ترى فالرؤية أصبحت ضبابية..
استندت بوهن على الصنبور وبيد مرتجفة اثر بكاءها الذي تزلزل له جسدها وصدته، وحاربت ببسالة كل ذلك الوهن الذي اندفع لجسدها، بارزت تلك الإرادة في السقوط أرضاً، أنقضت على تلك الرغبة في فقدان الوعي وارتدت رداء استحمامها بصعوبة بيديها المرتجفتان، وبالنهاية أجبرت قدميها على الذهاب نحو سريرها.. وما أن لمسته رفعت راية الإستسلام لنوماً تمنت لو أنه أخذ روحها، ولم تشعر بشيء بعدها..
❈-❈-❈
صباحًا اليوم التالي..
عقارب لعينة لا تتوقف عن الدوران، وساعات كريهة تتسابق لتكون أياماً بَلِيَّة، هواءاً تكوم ليشيد قارة بأكملها بينه وبينها والوقت يمر ملتهماً بطريقه ذلك الإشتياق الجارف الذي لا يتوقف عنه منذ أسبوعاً بأكمله..
لقد تركته وسرقت قلبه معها، سلبت طيات عقله، وأنتظرها، أعطى التبريرات والأسباب والأعذار ونفذ كل منطق لديه لمدة خمس سنوات، نعم؛ لقد تحمل خمس سنواتٍ بغيضة من ذلك الإشتياق.. وتحمل سنواتٍ عجاف بسجن مشاعره خلف مظهر الرجل القريب من الجميع.. لقد تحمل الكثير.. العديد من كل الأمور التي ظن أنها ستمر، ومرت.. مرت بأكملها.. مرت مرارة الإنتظار ولوعة الإشتياق وملكها بين يداه.. عانقها بالقرب من قلبه الملتاع.. أثمرت سنوات الإشتياق، سنوات العشق المكتوم.. تحدثا وتمازحا.. متع عيناه بضحكتها.. هو الظَمْآن طوال سنين وهي من ملكت بحوراً عذبة بين جفنيها وأخيراً سمحت له بالإرتواء..
يا لها من لحظة عايشها، نعم.. مرّت تلك الأيام وكأنها لحظة.. لماذا؟ هل سنوات الإشتياق جزاءها لحظة من إرتواء؟! لما الظلم؟ لما المشقة والعناء؟
صبر طويلاً، انتظر وكأنما الوقت توقف، كان حنوناً، دفن عشقه كثيراً وغرس بقلبه سكيناً حتى يتوقف عن الخوف.. لقد أسكت عقله بالمنطق، صبره وانتظاره سيأتي لهما نهاية لا محالة.. حنانه ستشعر به عندما تلمس معه نقطة البداية.. ذلك العشق المجنون وذلك القلب الخائف المفتون، يوماً ما سيستسلم لها وسيدعهما حتى يكونا لها وحدها.. ولكن ما الذي حدث بالنهاية؟ أتُصدق حقاً أن ذلك العذاب التي ذاقه لسنوات قد يدفعه ليترك ولو ذرة هواء تغضبها؟ لماذا لا ترى الحقيقة أمامها؟ لماذا لا تنظر له بعيني المحب العاشق؟ لماذا تنظر له وكأنه الجاني الظالم؟!
لم يعد يتحمل ما يفعله معها، لم يعد يتحمل تلك القسوة التي ليست من شِيَمه، تلك الدموع المتكومة كالسحب المزعجة التي تعكر صفو النظر إلي سماويها.. لقد سأم كل ذلك.. لم يعد يستطيع التحمل!
تفقد الوقت ليجد الساعة قاربت على السادسة صباحاً.. يا له من أبله!! لم يعرف بعد أن العاشق لا ينام!! وكيف له أن يدع أهدابه تتلاقى في سكون ومن يعشقها قلبه قد شيدت بينهما حصناً مليئاً بالسجون!! سجنت كل تلك المشاعر، كل ذلك العشق، كل ما بينهما.. حتى تلك النظرات العاشقة لقد باتت كالسجينة في قلاعٍ من حسرة وخيبة أمل كتب عليها أن تبقى حبيسة وليس لها مفر من الكُنون!
لم يعد لديه سوى تلك المحادثات التي تضعه في برزخ من حياة سعيدة ظن أنها لن يُكتب لها الموت.. أمسك بهاتفه ليطالع رسائلها، أشتاق لصوتها وضحكتها، تلك النبرة السعيدة.. نبرتها الخجولة.. وحتى نبرتها الغاضبة أشتاق إليها..
ما الذي يحدث لعيناه؟ لماذا لا تتحرك؟ وقلبه أتوقف عن النبض؟ أهذا شعور من يفارق الحياة؟ أتفارق روحه جسده؟ لماذا تصلبت جوارحه؟ وعقله؛ ماذا عنه؟ أتوقف عن العمل هو الآخر؟ إذاً ما كل الذي يدور بعقله الآن؟ إذاً هو يعمل.. نعم يعمل.. ولكن ما تلك الحالة التي أعترته من الشلل؟ أهو يتنفس أم أن العالم قد فرغ من الهواء؟!
يريد أن يشعر، يريد أن يتحرك، تلك الحالة أهي ذهول؟ أهي صدمة؟ أم هذا ما يحدث كلما رآى عاشقاً من يعشقه يقترب لآخر!!
هو حتى لا يستطيع إفلات هاتفه من بين أصابعه، أهذه من يعشقها قلبه؟ نعم هي بزرقاوتيها، تلك الإبتسامة التي تزينت بها ورديتيها، هي بشعرها المموج الذي كلما تطاير مع الرياح تعالت خفقات قلبه كالراكض في مدمار لعين إذا توقف لن يصل وإن ركض أسرع سيصل ليلقى حتفه!
أتتساقط دموع الرجل من أجل حبيبته؟! يبدو وكأن تلك الدموع حقيقية؛ تلك الرويات والقصص والأفلام كانت محقة.. يبكي الرجال حقاً من أجل النساء ولكن لا يصدقون تلك الحقيقة إلا عندما يختبروها بأنفسهم في أصعب الصدمات والمواقف..
يبكي من أجلها، وها هي تلامس رجل غيره، رجل قد يستغلها، قد يؤذيها.. لا هو ليس رجل، لا يستحق تلك الكلمة ولا يستحق من عشقها قلبه..
أين الهواء؟ لماذا لا يتسلل داخل رئتيه؟ وأين نظره؟ أأصبح أعمى أم عمته الحقيقة التي رآها منذ ثوانٍ؟ لقد هشمته لأشلاء وتركته لا يستطيع التعرف على نفسه بعد الآن!
"سليم.." ناداه بدر الدين زاجراً بصوته الرخيم ليلتفت هو له بأنفاس متعالية وقبل أن يبادر بالحديث ويسأل عما يفعله ملامحه دلت على حدوث دمار ما ولكنه لا يعرفه بعد..
"رايحة تتخطبله.. سابت كل الرجالة في الدنيا ورايحة تتخطب لأوسخ واحد في الدنيا.. واحد سادي قذر بيهدد البنات باللي ماسكه عليهم.. رايحة ترمي نفسها لواحد ممكن يدمرها" صرخ بوجه بدر الدين ليبتلع في إنكسار وأدرك أنه عليه الإعتراف بكل شيء لسليم حتى يستطيعا التخلص من هذا المسمى شهاب في أقرب فرصة ممكنة.. "بس لأ مش هاسكت.. لو لمس شعرة واحدة منها بس أنا هاموته.. ومش هاستنى كمان يلمس شعرة منها.. أنا رايحله حالاً و.."
"هتروحله تقوله ايه؟!" قاطعه والده وهو يرى تحركه بهيستيرية تامة
"هقوله إني عارف حقيقته القذرة بأنه سادي وإنه بـ.."
"سادي زيي.. زي أبوك يا سليم" قاطعه وهو بالكاد تحمله قدماه ولكنه نظر له مباشرة متفحصاً تلك الأعين التي طُبعت لتشابه خاصته بينما نظر له سليم في صدمة تامة لم يعد يشعر بعدها بأي شيء
"أنت.." ابتلع وهو حتى لم يظن أن أحد غيره قد استمع لصوته "أنت بتقول ايه؟!" همس سائلاً بنبرة امتلئت اتجافاً لم يسبق أن استمع له أحد يغادر شفتاه
"أقفلي الباب وراكي يا نورسين" حدثها بصوته الرخيم لتفق هي الأخرى من صدمتها بتلك المواجهة وفعلت ما آمر به ووصدت الباب عليهما
"أنت قولت سادي زيك.. بابا.. أنت بتكدب مش كده؟! أنت بتقول أي كلام علشان أفوق من اللي أنا فيه واهدى وابطل عصبية.. أرجوك قولي إنك بتكدب" لم يرى ذلك الفتى الصغير منذ سنوات، الفتى الخائف ذلك الخوف الفطري.. لم يراه بدر الدين سوى لبضع لحظات قليلة في حياته بأكملها مع سليم ولكن ها هو يظهر الآن أمام عيناه
"أنا اتعذبت يا سليم.. شوفت العذاب ألوان.. ضرب، صعق بالكهربا، خوف ورعب من صوت الست اللي خلفتني وهي بتصوت وأنا مش عارف هي بيجرالها ايه وقلبي وجعني عليها وفي الآخر كانت نايمة في حضن رجالة تانيين غير أبويا، طفي سجاير في رجليا وأنا عيل اقل من عشر سنين، جوع، ضرب بالإيد.. شتيمة.. متعلمتش وأنا في سن أي طفل بيروح المدرسة، ولما روحت كانوا بيضحكوا عليا وبيتريقوا عليا، اتربطت بالجنازير لشهور علشان نقصت درجة واحدة، وعشان طلبت أروح للست اللي خلفتني اتحبست لوحدي لحد ما فضلت أيام وسط قذارتي بنفس الهدوم وأنا كان عندي تسع سنين" تهاوت دموع بدر الدين ليجففها وحاول استنشاق الهواء الذي لم يعد يجده هو الآخر
"معرفتش يعني ايه ألعب مع اللي في سني، بعد ما كل المدرسة اشتكت إني طفل مش طبيعي أبويا كان بيذاكرلي بالضرب، خلع ضوافر، كرباج، خرطوم، ربط، حبس.. كل اللي ممكن تتخيله واللي متتخيلهوش.. فضل يعذب فيا لغاية ما بقى عندي واحد وعشرين سنة" أنهمرت دموع بدر الدين دون توقف لتباغت ابنه واحدة من دموعه وانهمرت كالطلقة على وجهه
"أنا جبان.. جبان أوي يا سليم.. جبان وخايف.. علشان كده خبيت عليك كل ده طول السنين اللي فاتت.. كنت مرعوب لأنزل من نظرك.. كنت خايف تبصلي بصة تانية.. كنت خايف أخسر ابني وصاحبي وأخويا.. ويوم ما عرفت كل حاجة من ميرال رعبي زاد ومبقتش أعرف أنام طول الليل.. أنا آسف إني كنت جبان طول السنين دي ومقدرتش أصارحك بمرضي.. بس اللي أقدر أقولهولك إني اتعالجت، مبقتش زي زمان.. وأكتر حد ساعدني هو أنت يا سليم" ضم شفتاه في محاولة منه لحجم تلك الشهقات التي قاربت على التفلت من بين شفتاه ولكنه لم يقدر على أن يوقف تلك الدموع التي خانته وظلت تنهمر دون إنقطاع
"أنت؟! أنت يا بابا!" همس في صدمة وحالة من الذهول تملكته حتى ساقاه لم تقو على حمله وخر جالساً أرضاً، منحنياً برأسه للأسفل، شارداً بعينيه وكأنما تلك الصاعقة من الإعترافات المصحوبة ببكاء أبيه عمت عيناه وصمت أذناه، لتصعب الرؤية كذلك على بدر الدين ليتوجه مهرولاً نحوه راكعاً أمامه
"لو مش عايز تعرفني تاني بعد كل اللي هقولهولك فده حقك.. إنما تتكسر قدامي بمنظرك ده لأ!! قوم.. صرخ في وشي.. أو قولي حتى إني حقير.. قول اللي تقوله.. بس متتكسرش يا سليم!" رفع رأسه ببطئ ناظراً له بعينتين امتلئتا حيرة وحُزناً
"قوللي.. قوللي كل حاجة" همس بإنكسار ليومأ له هو الآخر واتخذ من الأرض جانبه مقعداً وبدأ في قص تلك القصة الكريهة التي لم تسمعها من قبل سوى نورسين وحدها..
"يعني هيعمل ايه يعني.. وبعدين أنا حاطة عيني عليه ومش ملاحظة عليه حاجة غير هي بس المكالمة دي الوحيدة اللي قام وبعد عن الكل وراح رد عليها!!"
حدثت نفسها بإرتباك وهي تفكر بالأمر منذ ليلة أمس
"هراقبه يعني ولا أعمل ايه! ما أنا مش هسيبه يمسك حاجة عليا ويفضل يهددني بيها" زفرت في تآفف وهي تحاول إيجاد حل لكل هذا
"وبعدين سليم حذر منه قبل كده.. أنا لازم أعرف كويس هو يعرف ايه ومخبيه علينا"
فكرت ثم امسكت بحقيبتها وخرجت خارج غرفتها لتتوجه للعمل ولكنها فوجئت بإياد منتظراً أمام غرفتها
"ايه يا إياد خضتني.." تصنعت المفاجأة بينما بداخلها لا تريد خوض جدال جديد بعد تلك الملامح التي رآتها على وجهه
"أختي تتخطب وأنا معرفش! وحتي مهنش عليكي لا أنتي ولا مدام هديل ولا عاصم تعرفوني!" أخبرها عاقداً كلتا ذراعيه لتدرك أنها ستخوض هذا الجدال لا محالة
"بص.. أنا ماليش دعوة بالموضوع ده.. عندك مامي وزينة روح كـ.."
"عارفة يا أروى آخرة اللي بتعمليه ده هتكون وحشة اوي.. وأنا يمكن أول مرة بقولك كده، بس خدي بالك كويس من نفسك، السكة اللي أنتي ماشية فيها دي مش هتوصلك لحاجة.. أعقلي وخللي عندك شوية دم و.." قاطعها لتقاطعه
"بقولك ايهأنت ليه جايلي كده على الصبح وبتحاسبني على ايه أصلاً.. هو أنا اللي اتخطبت من وراك.. ولا يعني عشان أنت وزينة متخانقين عايز تحملني مسئولية مشاكلك.. روح حل مشاكلك معاها بعيد عني بقا يا أخي أنا زهقت منكم" علت نبرتها وكادت أن تغادره ليتوجه نحوها وأوقفها ممسكاً بذراعها
"بس متبقيش تيجي تعيطي وتقولي إني محذرتكيش.. لآخر مرة بقولك بطلي اللي بتعمليه وامشي عِدل مرة بقا في حياتك"
"وأنا لآخر مرة بقولك ملكش دعوة بيا وشلني من دماغك يا إياد بدا ما أزعلك!" أخبرته بين أسنانها الملتحمة وجذبت ذراعها من بين يده في عنف ثم تركته وغادرت ليزفر غير مُصدقاً لكل ما تفعله أخته ثم التفت لتلك اللمسة على ذراعه ليجدها أسما
"صباح الخير" أخبرته في هدوئها المعتاد ولكن ملامحها تبدو وأنها تريد معرفة ما كان يحدث منذ دقائق
"صباح النور" اجابها بإقتضاب
"اتخانقتوا؟!" نظرت له بعسليتيها المستفسرتين ليومأ لها "لو حابب تحكيلي يعني.."
"هاحكيلك ايه ولا ايه بس يا أسما!" همس لها وقد شعرت بالحزن في نبرته
"تعالى طيب نخرج ونفك شوية بدل الخنقة اللي أنت فيها دي" أخبرته بإبتسامتها التي يعشقها
"ايه ده.. خروجة وقبل امتحانك بيومين.. أنا بحلم مش كده؟!" ضحكت على كلماته
"المادة دي أنا مذكراها كويس وهي سهلة متقلقش عليا"
"أأقلق عليكي بردو من امتحان!!" ضحك بسخرية "قولي قولي..خلصتي المادة كام مرة يا دحيحة؟!" توسعت عيناها وهي تنظر له هامسة
"تلت مرات"
"طب يالا يا مفترية يالا.." أخبرها لتبتسم له وتوجهت لتسير أمامه بينما تمتم هو خلفها "دحيحة!"
"وقتها أنت جيت ودخلت حياتي.. أنا مكنش بقالي كتير بتعالج.. يمكن كام شهر.. تلاتة أو أربعة.. وكنت خايف أوي، خايف من إن يبقى عندي ابن أو بنت، كنت دايماً حاسس إني هبقا قاسي اوي مع أولادي من كل اللي شوفته، كنت فاكر إني هابقا فاشل ومش هاعرف أكون أب.. أبويا موت جوايا كل إحساس وكل حاجة ممكن تكون موجودة بين أب وأبنه.. متعلمتش يعني ايه أتعامل مع أطفال.. يمكن شاهي كانت هي اللي بتقرب مني، لكن هديل كنت أستحالة أقرب منها، بالرغم من إن كان نفسي أقرب من حد في سني أو أصغر مني بس مكنتش بعرف.. كانت دايماً فيه حاجة بتخوفني من إني أتعامل.. بس أنت يا سليم ساعدتني أوي!" نظر له بإمتنان شديد بسوداوتيه الدامعتين
"أنا؟!" همس سليم في تعجب شديد ليومأ له بدر الدين بإبتسامة وانهمرت دموعه مجدداً وارتجفت نبرته مرة أخرى
"أنت.. أنت مكنتش زي أولاد هديل.. لأ أنت مكنتش طفل طبيعي.. أنا لقيت صاحب قبل ما تبقا ابني، أنا عمر ما كان ليا صاحب غيرك يا سليم!" شعر سليم بمدى انكساره لتدمع عيناه هو الآخر وهو ينظر له بمنتهى التعاطف "تعرف.. أنا أول مرة في حياتي أحس إن ليا ضهر أتسند عليه لما شوفتك بتعامل سيدرا ازاي.. ساعتها مكنتش خايف من أي حاجة في حياتي.. صحيح أنا أقدر أتعامل مع ناس زبالة زي يسري ولا كريم، أقدر أشيل هم الشركة والمسئوليات.. بس الحب والحنية والضحك، أتعلمتهم منك أنت.. ونورسين!!" أختنقت نبرته بالدموع ليطنب بالمزيد
"عمري ما هانسى فضلها عليا، الوحيدة اللي حسستني إن عايز أعيش وأكمل، آه بحب نجوى أمي وأختي شاهندة من زمان بس نورسين زي ما تكون ردت الحياة فيا من تاني بعد ما كنت فاكر إن ليلي ماتت.. هي السبب في إن أتعالج إنما أكتر حاجة ساعدتني كنت أنت.. كنت بتعلم منك حاجات كتيرة أوي من غير ما أخد بالي، كل ما السنين بتعدي بحس إني بتعلق بيك.. زي ما تكون أنت اللي أبويا مش أنا اللي أبوك.." شعر بدر الدين بالمزيد من الإنكسار لتتهاوى دموع سليم لتلك الحالة التي يرى بها والده
"أنا كده حكتلك وقولتلك حقيقة كل حاجة.. وأظن الباقي أنت عيشته بنفسك معايا، معاملتي لنورسين وسيدرا وأخواتي.. الشغل اللي كنت دايماً بتروحه معايا شوفتني فيه.. حتى النادي ولا الـ gym ولا زيارات أهلي كنت دايماً معايا يا سليم.. ليك الحق في إنك تعمل أي حاجة أنت عايزها.. أنا هارضى باللي أنت تعمله.. ده قرارك.. حتى لو مش عايز تعرفني تاني.." همس بجملته الأخيرة بمنتهى الحزن وتسللت احدى شهقاته لتغادر شفتاه ونظر له سليم في تعجب وهو ينهض في وهن وأخذ خطوات بطيئة نحو باب غرفته وقبل أن يغادر أوقفه
"كريم!! لسه عايش مش كده؟!" سأله ليتوقف بدر الدين مجيباً بإقتضاب
"آه.."
"هو فين دلوقتي؟"
"قاعد في مصحة.. اللي عملته فيه جننه" أجابه بمزيداً من الإنكسار ولم يستطع أن ينظر له ويواجهه
"اديني اسم المصحة وعنوانها!"
❈-❈-❈
"هو ازاي كل ده مبيردش.. ايه.. اختفى يعني علشان حبيبة القلب اتخطبت!! ماشي يا سليم! أنا هافضل وراك ووراها لغاية ما أشيلها من دماغك وأنسيك أصلاً إن عرفت حد اسمه زينة!" صرخ عقلها مُفكراً بغلٍ شديد ثم عادت لتتذكر أمر شهاب لتتناول هاتفها وأجرت احدى المكالمات الهاتفية
"ازي حضرتك عامل ايه؟.. لا كلنا تمام الحمد لله.. معلش كان ليا طلب وأنا عارفة إن حضرتك مش هترفضهولي.. هو بصراحة لإبن عمي.. شهاب الدمنهوري.. اه هو ده.. لو بس تقدر تطمني.. فيه واحد صاحبه اسمه وليد، يعني كنا عايزين نطمن من ناحيته لأنه داخل معانا شغل جديد.. طبعاً حضرتك عارف اسمنا واسمه ومنقدرش نخاطر بسمعتنا وخالو حضرتك عارفه من زمان مش بيوافق حد يدخل ما بيننا غير لما يبقا واثق فيه.. لا معرفش اسمه وليد ايه.. هو جاب سيرته إنه هيكون شريك معانا في شغل جديد.. لأ بردو معرفش اتقابلوا فين.. أنا عارفة انو صعب بس أكيد حضرتك تقدر تعرف.. أنا آسفة إني بتقل على حضرتك.. براحتك.. هاستنى من حضرتك رد.. تمام يوصل إن شاء الله هسلم لحضرتك عليه.. باي!"
أنهت تلك المكالمة التي أجرتها للتو مع رجلاً من رجال أمن الدولة التي أخبرتها عنه هديل من قبل وبمعرفته ببدر الدين خلال التعامل معه من قبل بإجراءات تخص العمل، لن تترك فرصة غير مستغلة ولن تترك باباً دون الطرق عليه حتى تصل إلي ما أرادت، فهي لن تتنازل عن هدفها مهما كان!!
"أدخل!" نفخت في تآفف من ذلك الطارق الذي لم تعلمه بعد لتجد أن زينة هي من دلفت لتتابعها بعينتيها وابتسمت بسماجة لم تلاحظها زينة "وأنا كنت ناقصاكي أنتي كمان دلوقتي" صاحت بعقلها "عروستنا الحلوة!" ابتسمت لها زينة بإقتضاب
"أنا كنت عايزة أتكلم معاكي في موضوع كده.."
"طبعاً.. قوليلي" أخبرتها وهي تتصنع الإبتسامة بينما بداخلها ودت لو تغادر تلك الصغيرة حياتها للأبد!
❈-❈-❈
"أنا مش مصدقة إن أروى بجد ممكن تعمل كل ده" همست أسما في صدمة بعد ما أستمعت لكل ما أخبرها به إياد
"أنتي مش متخيلة.. أنا مصدوم في أختي" أخبرها في حُزن
"طب معرفتش شهاب ده سليم كان حذر منه ليه؟ وليه هو مش كويس؟ يعني أكيد فيه سبب!" هزت كتفيها بتلقائية
"مش راضي يقولي.. والمصايب عمالة تنزل فوق دماغنا.. كل ما آجي أفاتحه في الموضوع يبقا فيه مصيبة أكبر" زفر في ضيق
"طب متقلقش إن شاء الله خير.. ولو على زينة سيبها عليا.. أنا هحاول الفترة الجاية أقرب منها على قد ما أقدر وأصاحبها وزينة أصلاً طيبة وهتقولي على كل حاجة.. متخافش عليها" ابتسمت له وحاولت لتوها تقديم المساعدة
"بجد شكراً يا أسما.. أنا مكنتش عايز أشيلك همي بس أنـ.."
"مش عايز تشيلني هم الإنسان اللي بحبه!" قاطعته وهي تنظر له بلوم "متقوليش شكراً تاني.."
"أسما!! أنتي بجد بتحبيني؟" همس سائلاً بعينتين متلهفتين شوقاً وأذنتين فقدتا السمع عن كل الأصوات سوى صوتها الذي تمنى لو استمع له ينطق بذلك الإعتراف ولكنها أومأت له ولم يتقبل هو ذلك "لأ.. مش ده اللي مستنيه.. قوليها يا أسما" ابتسمت هي وهزت رأسها في إنكار ثم تنهدت بعمق ونظرت له
"بحبك!"
❈-❈-❈
جرَّ قدماه بصعوبة وهو لا يدري منذ متى وهو يمشي بتلك الشوارع الغريبة.. هو حتى لم يُلاحظ أنه كاد أن يصل لمنزله.. أدرك تلك الحالة التي كان عليها بدر الدين، أدرك لماذا كان يرتجف.. أدرك لماذا بكى.. أدرك خوفه من أن ينظر له ابنه نظرة ازدراء، لتوه أدرك كل شيء!!
حالة ذلك الرجل مُريعة.. الموت حقاً أهون له.. أهذا هو بدر الدين الخولي.. الأب والأخ والزوج الرائع؟! الإبن البار لوالدته! تلك القيم والأخلاق والذكاء الذي أخذ يُربيه عليهم طوال تلك السنوات.. هل ذلك الرجل الرائع القدوة لكل من حوله يستطيع أن يُدمر حياة شخص بأكملها إلي هذا الحد؟ ذلك الحقير بالرغم فداحة ما فعله ولكنه حتى لم يملك أصابعاً.. لقد كان يهذي بكلماتٍ غريبة.. أجعله بعد أن كان كالثعبان السام، مجنوناً!!.. ألم يملك أبيه ولو شفقة أو رحمة؟!!
زفر بعمق وخلل شعره الفحمي وهو يأخذ المزيد من الخطوات نحو المنزل ليُفكر بنورسين، والدته، زوجة بدر الدين.. كيف لها أن تتحمل؟ كيف لها بأن تعشق رجلاً كأبيه؟ ما تلك القوة الرهيبة التي تحملت بها مالا يستطيع تحمله إنسان عادي على وجه هذه الأرض؟ أهي ملاك وهو لا يدري؟ أحقاً أستطاعت أن تحول بدر الدين من ذلك الرجل السادي اللعين بصلابته إلي ذلك الرجل الرائع؟ كيف فعلتها؟
وماذا عن ليلي؟ والدته الحقيقية؟ المرأة الأولى بحياة أبيه.. لقد كانت تعشقه بجنون.. نعم هو يتذكر منذ أن كان طفلاً صغيراً قوة ذلك العشق الذي لطالما حملته له.. حتى عيناها كانت تحمل بريقاً مُختلفاً كلما تحدثت عنه.. كيف لها أن تتقبل منه كل ذلك؟ أكانت والدته خاضعة؟ أتقبلت تلك الممارسات فقط لأجل الرجل الذي تعشقه أم كانت مريضة هي الأخرى؟!
شُل عقله من الأسئلة، لم يعد يستطيع التفكير.. لا يدري ما الذي عليه فعله.. هو يعي جيداً أن والده ليس له ذنباً.. نعم لقد كان مريضاً وحالته يُرثى لها.. ولكن فداحة ما فعله كانت.. حسناً.. لقد تشتت عقله من التفكير.. ربما عليه أن ينال قِسطاً من الراحة.. وصد بوابة المنزل خلفه ليجد نورسين جالسة بإنتظاره وهي تنظر له بإهتمام شديد
"حمد الله على سلامتك يا حبيبي"
"الله يسلمك يا ماما" لم يستطع تزييف ملامحه فبدا كالجسد دون روحاً
"أحضرلك العشا؟!"
"لا ماليش نفس.. أنا هاطلع أريح في اوضتي" أخبرها بإقتضاب لتومأ له "بعد اذنك" توجه للأعلى ولكن نورسين أوقفته
"سليم استنى.."
"فيه حاجة يا ماما؟" سألها مُلتفتاً إليها قبل أن يصعد الدرج الداخلي لمنزلهم لتزفر في ارتباك
"ليلي الله يرحمها كانت سايبة أمانة معايا.. وأظن خلاص جه الوقت اللي اسلمهالك" أخبرته ثم جذبت مظروفاً كبير الحجم من جانبها ويبدو أن ورقه قد اكتسب بعض الصفرة ليبتلع سليم في تردد.. فهو لا يدري هل يستطيع تحمل المزيد من معرفة الأسرار أم أنه قد فقد القدرة على الإستيعاب؟!
❈-❈-❈
"مبروك يا ابني.. زينة شكلها بنت طيبة أوي.." تحدث كرم لشهاب ليومأ له بينما غرق شهاب في التفكير ولكن عاد والده ليتحدث بالمزيد "كان نفسي بس كريم يكون معانا" أخبره بآسى
"قريب هيكون معانا" أخبره بإبتسامة مقتضبة
"أنت عرفت هو فين؟!" صاح والده بلهفة
"لأ.. بس هاعرف.. مسألة وقت مش أكتر" تلاشت لهفة أبيه وحل مكانها الآسى
"إن شاء الله يا حبيبي.." أخبره بإقتضاب ثم حاول النهوض ولم يستطع وكأنما قدماه لا يستطيعا حمله فخر شهاب مهرولاً نحوه
"بابا أنت كويس؟!" صاح بلهفة وتوسعت عيناه في قلق على حال أبيه
"أنا تمام يا حبيبي.. متقلقش.. شوية إرهاق بس علشان صاحي من بدري وامبارح مشينا بعد خطوبتك متأخر" ابتسم لهوهو يحاول أن يُطمئنه
"طب أكلملك الدكتور يجي ويطمـ.."
"قولتلك متقلقش أنا كويس.." قاطعه مبتسماً له ثم أستند بيده على ساعد شهاب "أنا هاقوم أريح بقا في أوضتي.. محتاج أنام" أخبره بينما شهاب تفحصه بعناية شديدة
"طيب تعالى أوصلك"
"لا أنا بقيت كويس أهو.. تصبح على خير"
"وأنت من أهله" حدثه بإقتضاب بينما شعر شهاب بالخوف الشديد لمظهر أباه الذي لا يبدو بخير وبسرعة أرسل لأحدى مساعديه بضرورة إحضار الطبيب بالصباح ليزفر في ضيق وهو لا يدري أحقاً والده بخير أم يدعي ذلك وقاطعه من تفكيره رنين هاتفه
"أيوة.. عرفت ايه؟!.. مصحة!!.. تجبلي اسم الراجل اللي راحله.. وأعرف هو بيروحله من امتى.. سلام!" أنهى محادثته بينما تمتم في تعجب "مصحة ايه دي اللي هيروحها؟!" أخذ يُفكر فيما يجعل فتى مثله يذهب لملاقاة رجلاً بمصحة!
يُتبع..