-->

الفصل الرابع والثلاثون - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل


الفصل الرابع والثلاثون

نهاية يناير 2019.. 

في تمام الثامنة صباحاً..

حاول شهاب أن يجد النهاية لطريقه الذي بدأ بالعدو به منذ أكثر من ساعة، رئتيه قاربا على الإنفجار، يشعر بجسده قد بدأ في التوجع، ولكن بالرغم من كل ذلك لا يزال يشعر نفس الشعور بداخله.. طريقه لا ينتهي أبداً.. هناك المزيد يود أن يُغادر جسده، تلك الحمم التي تغلي لا تزال تريد الإنطلاق.. لم يكن ما فعله مع غادة وحدة كافياً.. هي أيضاً ازادت الأمر سوءاً.. أنعشت أبغض الذكريات برأسه.. ذكرته من كان منذ زمن بعيد..

أسرع بعدوه على الشاطئ ليوصد عيناه وهو يتذكر وجه بدر الدين، وجه سليم، أروى التي ود لو أنها تُعذب على يداه الآن.. وجه تلك المرأة هديل التي تظن نفسها المتحكمة بكل شيء.. حتى زينة تذكرها.. أين هي الآن؟ بعد فعل كل ذلك هي لا تكترث له.. إياد، عاصم، آسر، شاهندة.. كل هؤلاء الوجوه تجعله يُكبت بمزيد من ذلك الشعور الذي لا يعرف حتى ماهيته.. ولكن ما يعلمه أنه يُريد الإنتقام، يريد تفريغ ذلك الكبت الذي يشعر به كلما تذكرهم..

حاول أن يزيد من سرعته ولكن قدماه أخذت في التراخي عندما تذكر غادة، ملامحها الحزينة، صراخها، أوجاعها التي سببها لها.. هو لم يُريد لها كل ذلك، أراد فقط أن تحتضنه، أن تعانقه.. لا يدري ما الذي يحدث له كلما أجتمع بها.. يتمنى كل مرة أن يكن الأمر مغايراً تماماً لما يفعله ولكن لا يدري  كيف يتحول احتياجه لها لذلك العنف الهمجي.. توقفت قدماه عن العدو وأتكأ مستنداً على ركبتيه وهو يلهث بشدة ثم وجد نفسه يجهش بالبكاء.. لا يستطيع نسيان مفارقتها له مجدداً، لا يستطيع تحمل تلك النظرة التي تنظر له بها وكأنه هو الجاني.. أليست هي من بدأت؟ أليست هي من جعلته يُحلق بالسماء السابعة ثم كلماتها خسفت به الأرض؟ لماذا نسيت الآن؟ لماذا لا تختاره هو الآن وقد أصبح يملك العديد من الأموال؟ لماذا لا يستطيع نسيان كلماتها حتى اليوم بالرغم من مرور تلك السنوات؟! 

ظل ينتحب في وهن ثم نظر حوله ليجد أي شيء كي يحطمه ولكن الشاطىء بأكمله كان فارغاً ليستقم لاهثاً بعد أن منع نفسه عن البُكاء وأخذ يركل الرمال بقدمه ب كل ما أوتي من قوة مُعنفاً اياها وكأنها من أخطأت بحقه وهي ليست سوى رمال بالنهاية.. وكأنه يريد إطلاق أولى شرارات إنتقامه على تلك العائلة، على غادة، على كل من يكره وكل من يسبب له تلك الآلام الموجعة.. سيفرق ذلك التجمع اللعين الذي يحرق عيناه وتلك الضحكات التي يقهقهون بها وتسقط على مسامعه كالجحيم.. حسناً.. سينتظر إلي ذلك اليوم المنشود الذي ينتظره الجميع لخطبة الطفلان المزعجان أدهم وسيدرا.. سيدع الجميع يندمون أشد الندم على تعاملهم مع شهاب الدمنهوري.. سيدمر تلك السعادة التي تنهال من أعينهم حتى يتذكروه للأبد ويتعلمون ألا يعبثوا معه ثانيةً وخاصةً هذا الرجل المسمى ببدر الدين!

--

 

في تمام التاسعة صباحاً..

"سايبني أنت أتعك في كل حاجة ورايح تفسحلي في أروى ومقضيها معاها غراميات.." حدثه بدر الدين بتهكم شديد 

"حقك عليا والله يا كبير بس لازم أعلمهم الأدب.. علشان يوم ما تحس نفس إحساس زينة تعرف إن الله حق!! وعلشان التانية لما تشوف اللي بيحصل تتلم وتتعلم الأدب وتشوف ضيعت ايه من ايديها" 

"سليم الخولي.. أدب وتهذيب وإصلاح.." أخبره في سخرية ثم صفعه بيده على عنقه "خد بقا شوية إصلاح علشان مخنوق منك" 

"يا عم أنت ايدك طرشة كده ليه.. ما براحة يا عم بدر" 

"طرشة.. وأنت لسه شوفت حاجة" أخبره بقليل من التقزز الزائف ثم تنهد لتعود ملامحه للجدية "الواد شهاب ده أنا مش لاقي أي تفسير لكل اللي شوفته بيعمله، يعني لا منه عنف بس ولا سادية بس وحتى طريقته نفسها بتتغير مع كل واحدة وكل مرة بتكون أسوأ من التانية.. ويا ريته بس كان زيي بيعرف أصلاً نسوان شمال!! لأ.. ده زي ما يكون قاصد يعذب بنات الناس وكمان بيفتري على " 

"بغض النظر إن الموضوع شكله كبير وأنا مش فاهم كلامك أوي بس أنت شايف ايه؟!" 

"شايف إنه مش طبيعي.. دوافعه مش واحدة.. يعني بيدفع فلوس لواحده وبنات وستات تانية بيعذبهم بسادية بشعة.. مش قادر أفهمه.. حاسه مجنون ومهووس باللي بيعمله" 

"طب وهيفيدك في ايه إنك تعرف دوافعه؟!" تعجب سلليم عاقداً حاجباه

"يفيدني في إني أعرف ممكن يأذي حد من البنات ولا لأ.. ويفيدني أعرف هو فعلاً دخل ما بيننا علشان كريم ولا أكتر من كده.. ولا اللي هو فيه ده مرض ولا هوس ولا هو أصلاً مدمن للحاجات اللي بيعملها.. حقيقي مش عارف أوصل لمسمى للي بيعمله" 

"طيب كلم ميرال.. خليها تحكيلك تفاصيل اللي حصل تاني"

"ميرال دي زمانها طهقت مننا كل شوية نكلمها عنه"

"معلش بردو أنت زي أبوها وهتستحملك.. ولا نسيت كلامك أبدوور"

"بدوور في عينك يا ابن الكلب.. روح ياض أخفى من وشي لغاية أما أشوف أخرتها مع الكلب التاني" تصنع الغضب الزائف بينما ضحك سليم وابتعد عنه قليلاً فهو لا يأمن مكره أبداً 

"هاخفى حاضر.. هاروح أجيب لأروى هدية" نظر له مُطلقاً نظرة متحفزة كي يسبب له الغيظ 

"روح يا اخويا روح.. صحيح.. اخويا هايص وانا لايص" 

 

--

 

 

في تمام العاشرة صباحاً..

"لقد حسمت أمري.. أنا أعشق سليم ولطالما عشقني..

أعذرني فأنا لست أملك ذلك الود الذي لطالما حدثتك به دائماً من إلقاء التحيات وما إلي ذلك.. ولكن كما أتفقنا فأنا أكتب لنفسي أكثر من أي شيء آخر.. 

دعني أُخبرك اليوم حقيقة شعوري بشهاب.. بدعمه وبقاءه بجانبي طوال الوقت وتلك العلاقة الحميدة التي لا تتعدى الصداقة بيننا، ولكن علي أولاً أن أُذكرك من هو سليم الذي تذكرت كل علاقته بي منذ أن كنت طفلة إلي وقتي الحالي.. هو الرجل الازح، الحنون، الذي لا يستطيع من أمامه سوى الوقوع بعشقه مراراً وتكراراً.. من كل قلبي أتمنى أن يملك كل إنسان شخصاً مثل سليم بحياته.." 

جلست تكتب بدفترها بإبتسامة سعيدة لتلك الراحة التي أصبحت تشعر بها مؤخراً وهي بطريق عودتها من سفرها لمنزل خالها بدر الدين، من تلقيها لبعض الهدوء بعد أن تحدثت مع خالها، إلي محادثتها يومياً بالساعات مع فيروز.. ولأول مرة تشعر أنها لا تهرب ولا تفر من أحد بل وتريد المواجهة.. تشعر لأول مرة بذلك السلام الداخلي.. ترى زرقاوتيها العديد من الأشياء التي كانت تغفل عنها والكثير من الطرق التي تستطيع التعامل بها بدلاً من تلك الفتاة الضعيفة الهشة التي كانت عليها..

 

--

 

في تمام الحادية عشرة صباحاً..

ابتسمت لوالدتها وهي تحيطها بذراعها ولكنها تتمنى أن تهرب منه للأبد وتمحي هذا الرعب بداخلها بمجرد مغادرة البلد بأكملها.. رمقت أخيها وزوجته لتبتسم في هدوء وهي تتمنى أن يصدق ذلك الرجل الذي صدقته بألا يعرف أخيها ماضيها الأسود..

لم تكن تظن أن بدر الدين الخولي ذلك الرجل الذي قصت عليه حياتها بأكملها قد يُساعدها بالنهاية.. عملاً وهوية جديدة لها.. ساعدها بإجراءات السفر الخاصة بها وبوالدتها التي أستخرج لها هوية جديدة هي الأخرى.. نقل أخيها لفرعاً آخر بمميزات أخرى.. وعدها بأن يتصدى لشهاب على أن تُعيد له كل الأموال وذلك المنزل الذي ابتاعه لها..

أمسكت جوازان السفر بين يديها لتُخفيهما كي لا يراه أخيها أو زوجته ثم ودعاهما وتوجهت لتُكمل الإجراءات لسفرهما وقد أقنعت أخيها أنها لديها فُرصة لا تعوض وحالة والدتها الصحية ستكون أفضل خارج البلاد.. 

تمنت من كل طيات قلبها أن يندثر ذلك الماضي المؤلم للأبد وألا تحتاج للشعور بالخوف مجدداً من رسالته أو مكالمته وهو يخبرها بأن تحضر له..

 

--

 

 

في تمام الثانية عشرة والنصف..

"أنت مش عايز ترد بقا شكلك.. ايه مش قلقان أكون عارفة حاجة عنك تخوفك؟!" تحدثت أروى بهاتفها 

"لا.. مش شهاب الدمنهوري اللي يخاف.."

"يا ترى بقا ممكن متخفش من .. ولا أقولك.. خليها لما نتقابل أحسن!" 

"أنتي عايزة ايه بالظبط.. مش روحتي اتخطبتي للعيل بتاعك.. ووفيتي بكل اللي طلبته منك.. جاية تكلميني تاني ليه؟" حدثها شهاب بلهجة غير مُرحبة بينما هي بداخلا شعرت لثوانٍ بغصة لإطلاقه ذلك المُسمى على سليم 

"عايزة اللي معاك.. وأنا اديك اللي معايا!! شوفت الموضوع بسيط ازاي!" أخبرته ليتآفف في حنق وهو بالكاد يستطيع مجارتها في الحديث فهو بالحقيقة لم يعد يطيق التحدث معها

"تمام.. تعاليلي كمان يومين.. هبعتلك العنوان"

"أوك.. اتفقنا.." أنهت المكالمة لتبتسم في خبث وهي تظن أنها أقتربت للغاية من التخلص من خوفها الذي تشعر به دائماً..

أفاقها من تفكيرها رنين هاتفها لتجد أن المتصل هي هديل والدتها لتتآفف متمتمة "هي عايزة ايه مني بقا أنا خلاص زهقت منها"

 

--

 

 

في تمام الثانية ظهراً..

"فيروز يا حبيبتي كفاية بقا، كفاية القافلة اللي أنتي قفلاها على نفسك.. فين فيروز بتاعة زمان، الضحك والهزار واللي كان نفسها طول الوقت تشتغل وتختار أصعب حالات عشان تتحدى نفسها معاها.. وحشتيني.. كفاية بقا اللي بتعمليه في نفسك ده.. أنتي معندكيش فكرة أنا أتبسطت ازاي لما فريدة قالتلي إنك بتكلمي البنت قريبة صحبتها.. أيوة بقا كده أرجعي زي زمان.. عايزة أشوفك سهرانة تاني وأنتي بتفكري في الحالات اللي شغلاكي وبتفتحي الكتب والمراجع"

"كان زمان بقا يا هبة بس بعد اللي حصل خلاص.. أنا وصلت لمرحلة إني مش عايزة الدنيا باللي فيها.. والبنت اللي أسمها زينة لولا إن فريدة فضلت تتحايل عليا عشانها أنا مكنتش شوفتها ولا كلمتها" ابتسمت نصف ابتسامة لصديقتها لم تلامس عيناها

"يا فوفا يا حبيبتي اللي حصل ده قضاء ربنا.. أنتي عارفة إن شغله كان خطر وكان ممكن يتعرض لده في أي لحظة" 

"بس ليه.. اشمعنى دلوقتي بالذات.. اشمعنى بعد ما بقيت حامل بعد أربع سنين محاولة فجأة تروح مني كل حاجة، هو وابنه.. أنا ليه حصللي كل ده؟" انتحبت لتعانقها هبة في آسى على حال صديقتها الوحيدة..

"متعرفيش ربنا ليه بيعمل كده.. يمكن شايلك الأحسن، يمكن فيه حكمة احنا مش قادرين نفهمها.. أرجوكي حاولي تثقي في ربنا شوية.. قومي تاني وأخرجي واشتغلي وحاولي تنسي وسيبيها على ربنا هيعوضك بكل حاجة أحسن!"

"أتعوض باللي أحسن من ماهر.. أتعوض باللي يحبني من واحنا صغيرين ويتجوزني ويصبر عليا وفضل جنبي طول عمره.. بذمتك قوليلي ايه اللي يقدر يعوضني عنه؟ ايه الحاجة اللي ممكن تساوي بس اني أعرف انه عايش وموجود في الدنيا.. أنا من يوم ما مات ومش شايفة أصلاً سبب واحد أعيش علشانه.." انتحبت بين ذراعي صديقتها لتربت هي عليها في تأثر شديد ولا تعلم إلي متى ستظل صديقتها تعاني من صدمة مفارقة زوجها وفقد طفلها.. لقد مرت ستة أشهر وحالها لا يتغير ولا تستجيب لأي شيء بهذه الحياة وكأنما أصبحت جسداً فرغ من الروح كما فرغت ملامحها مما يدل على الحياة..

 

--

 

في تمام الثالثة عصراً..

"بقينا أحسن ولا ايه.. غيرنا جو كده وعرفنا احنا هنعمل ايه بالظبط؟" تحدث بدر الدين لزينة التي عادت للتو من سفرها

"آه يا خالو خلاص.. كل حاجة اتغيرت.. فعلاً كنت محتاجة ابعد عن الكل" أخبرته متنهدة براحة 

"مممم.. طب ما تغشيشيني كده ناوية على ايه؟" غمز لها بنبرة لعوب لتضحك هي 

"بصراحة.. فكرت كده وقولت.. ليه ميبقاش خالو حمايا في يوم من الأيام؟!" نظرت له نظرة مازحة ليضحك 

"ايوة كده يا زوزا.. وأنا أطول القمر ده تبقى مرات ابني.. أخيراً.. ايوة بقا هزري وأضحكي، وملعون أبو الزعل على أبو سليم على سنينه.. أنا هاجوزك الواد ده غصباً عن عين اللي خلفوه" عانقها لتبتسم هي في هدوء

"أنا هتكلم معاه.. هشرحله كل حاجة.. بس الإختيار إختياره في الآخر.."

"أختيار ايه اللي اختياره ابن الكلب ده.. ده هيتجوز اللي أنا اختارها وبالإجبار كمان"  أخبرها بلهجة قاطعة 

"لا بس مش هاينـ.."

"اديني اهو رجعت بدري النهاردة وأنت يا بدر باشا سايبني ولا سائل فـ.." توقف سليم من تلقاء نفسه عندما وجد زينة تجلس معه ولم يُدرك أنه قاطعهما فلتوه قد دلف المنزل ثم نظر لها نظرات مبهمة ليومأ لها بإقتضاب "بابا لما تخلص اندهني" أخبره وتركهما وغادر كي لا يتواجد معهما بنفس المكان..

"شوفت يا خالو؟!" ابتسم له في وهن سائلة بإستنكار

"معلش بس هو لسه مقموص منك.. وبعدين ما أنتي اديتيله على وشه وروحتي أتخطبتي لشهاب.. اديله فرصته يغير شوية" أخبرها بلهجة مواسية لها وله 

"بس بردو مكنتش متوقعة أنه حتى ميدافعش عن نفسه قدامي!" 

"علشان أنتي صدقتي عليه كلام ميدخلش الدماغ.. يعني تفتكري إن سليم اللي أنا مربيه أنا ونور هيروح يتراهن عليكي؟" سألها مُستنكراً تصديقها لما صدقته عليه وهو يتفحصها بثاقبتاه لتشرد هي بالأرض 

"عندك حق.. كلامك صح" همست بنبرة حزينة

"أنجزي بقا وروحي كده كلميه بالعقل من غير عصبية وإن شاء الله كل حاجة هتتحل"

"حاضر" أخبرته هامسة

"لا بس الأول ناكل من أكل مرات خالك أحسن من الصبح وعصافير بطني بتصوصو والريحة مجنناني.. وأهو يحل عننا سليم شوية عشان مش عايز أشوف القمر زعلان" ابتسمت له بإقتضاب لتومأ له بالموافقة ثم شردت مرة أخرى وهي للمرة الآلف تُعيد التفكير في كل ما حدث بينهما وتستعيد كل ذكرياتهما بأكملها منذ الطفولة إلي عدة أيامٍ مضت..

 

--

 

 

في تمام الرابعة عصراً..

بُنيتاه مسلطتان على الطريق أمامه.. يقود بأقصى سرعة في طريق عودته وقد أستعاد بعضاً من الهدوء النسبي وقليلاً من الراحة بينما هو مُدركاً تمامه أن ما بداخله لن ينتهي إلا عندما يُدمر تلك العائلة بأكملها..

لا يكترث لماهية ذلك الشعور الذي يتآكله، لا يدري ما معناه ولا يهتم لمعرفة كل ما يحدث له كلما ألتقى بواحداً من تلك العائلة أو رأى وجوههم.. بالرغم من وصوله لما أراد، بالرغم من معرفة أين هو عمه كريم.. ولكن أن يضيع كل ذلك الوقت ليجده ويصل إليه قبل مفارقة والده للحياة بيوم واحد وفشله في تحقيق حلم والده الوحيد قبل وفاته يقع على عاتق تلك العائلة بأكملها..

شهاب لا يفشل أبداً، لا يُخطئ، من أخطأ هو تلك العائلة وسينتقم منهم أشد إنتقام.. من أخطأ هو ذلك الرجل بدر الدين بما فعله بعمه.. هو من جعله مصدوماً للغاية بتلك الحالة التي وجد عليها عمه وقد تأخر على إحضاره لوالده وإخباره بالأمر بسببه.. ولكنه سينتقم بالمزيد.. سيجعل ابنته يومها تبكي بنفس مقدار تلك السعادة التي علت وجهها عندما أقتربت من أخيها عندما كان جميعهم بالنادي.. سيجعل ابنه ذلك الطفل المُزعج بأن يُلقي بنفسه في فوهة الجحيم من أجل من يعشقها.. سيكسر قلب تلك الفتاة التافهة الصغيرالتي تظن أنها محور الكون عندما يتخلى عنها ويوجه إليها جميع الإتهامات.. سيُري ذلك التابع المسمى بإياد أنه لا يقدر على فعل أي شيء..

ليريه وقتها كبير العائلة ماذا سيفعل؟! بعد سنواتٍ عديدة من إكمال صفقات لا حصر لها مع المافيا دون أن تُمس شعرة واحدة منه أيظن أنه سيقدر عليه؟ أيظن أن ما فعله بكريم يستطيع فعله بشهاب؟ حسناً.. هو مُخطئ تماماً.. 

"فيه راجل اسمه محمود عبد النبي.. قاعد في مصحة (...) تجيبهولي وتوديهولي البيت حتى لو هتخطفه"

أنهى مكالمته بعد أن ألقى بأوامره.. ليس الأمر أنه ود الوجود بالقرب من عمه ولكن كل ما في الأمر أنه بات تحدي لما يقدر عليه ويستطيع فعله

"مش بتقولي اثبت.. أنت كمان ابقا اثبت عليا حاجة!!" تمتم وهو يُزيد من قوة قبضته للمقود في غيظ وغضب بينما فكر كيف سيحصل على الدليل الوحيد الذي يُدينه من بين يدي أروى..

--

 

الساعة الخامسة والنصف عصراً..

"معرفش يا مامي بس أنا مسيبتش ولا site إلا أمّا سألتهم.. ولا حد شافها ولا هي راحت ولا عملت أي زيارات ولا أي حاجة" تحدثت أروى بهاتفها لوالدتها التي اتصلت بها للتو

"يبقا هو بدر مفيش غيره اللي يعرف مكانها فين!!" صاحت بغيظ "محاولتيش تسألي سليم أو تعرفي منه حاجة؟" سألتها بنبرة منزعجة

"ما هو سليم معايا طول الوقت.. يا في الشغل يا على الموبيل مبسيبهوش لحظة.. هيعرف منين بس!" حاولت أن تُخفي نبرتها التي امتلئت بالملل من حديث والدتها لها

"ماشي.. أنا هاعرف كويس زينة راحت فين!!" 

"استني بس يا مـ.." ولم تتركها لتُكمل مكالمتها لتزفر في ضيق "أنا قرفت بقا ما تولع زينة ولا تغور في ستين داهية وأنا مالي بيها.. هي مش هتبطل بقا!!" تمتمت حانقة ثم رن هاتفها لتجد أن المُتصل سليم 

"آلو"

"آلو.. آنسة أروى؟!" أخبرها سأئلاً بمزاح لتتوسع ابتسامتها بينما تجول بغرفته التي بيّت عن قصد ألا يوصد بابها علّ زينة تأتي وتستمع لكل ما يتحدث به

"أيوة آنسة أروى.. خير؟!"

"لو تسمحيلي آخد معاد أنتي فاضية فيه علشان نعوض خروجة النهاردة اللي مخرجنهاش؟" أخبرها هامساً لتُطلق ضحكة بخفوت بينما لم يُلق بالاً لتلك التي أقتربت من غرفته كي تتحدث معه وقد لاحظ حضورها جيداً 

"لا بقا أنا مش قد الدلع ده كله.."

"لا بس روح قلبي تستاهل.. ولا عايزة يوم ما نتجوز تقوليلي إني كنت نكدي ومشغول عنك بالشغل دايماً؟" أطنب بالمزيد لتضطرب رؤية زينة عندما تكورت الدموع بمقلتيها اثر تلك الكلمات التي تسمعها وهو يتحدث بها لأروى التي ضحكت من كلماته

"متقلقش مش هاقدر أقول على حبيبي نكدي.." 

"لا لا .. ده أنتي راضية عني بقا.. واحدة حبيبي تاني لو سمحتي" تحدث لها بنبرة حاول تزيف السعادة بها وقد شعر بإنهيار زينة الوشيك خلفه 

"حبيبي.." همست بها بإبتسامة 

"لا.. كتير عليا اللي بسمعه ده.. ما تيجي نتجوز بكرة بقا وبدل ما يبقا كلام يبقا فعل كمان" أخبرها بلهجة لعوب متصنعة ولم يرى تلك الدموع التي أنهمرت من عيني زينة 

"جواز كده على طول.. ده أحنا لسه حتى يا دوب مكملناش خطوبة أسبوع" 

"وماله.. ما أنا عارف إني خطيبتي أذكى وأحلى بنت في الدنيا" التفت بغتة ليرى ملامح زينة المتألمة أمامه وأمواج من أبحر زرقاوتيها تتلاطم على وجنتيها دون إنقطاع "ايه اللي يمنع إننا نتجوز الليلادي لو حبيتي" تفحصها بعينيه وهو يُريد قتل نفسه آلاف المرات على ما يفعله بها 

"لا أحنا كده بنتسرع أوي و.."

"بدر بيندهني.. هاشوفه وأكلمك تاني.. باي يا حبيبتي" أنهى المكالمة سريعاً وهو يأخذ خطوات نحو زينة ليجذبها من يدها لداخل غرفته ثم وصد الباب عليهما..

 

 

--

أخذت تطرق باب فيلا بدر الدين دون تواني بمنتهى الغضب ليفتح لها هو الباب بنفسه وقد قارب ضوء الشمس على المغيب لتنظر له بإنزعاج 

"فين زينة يا بدر؟!" زفر ناظراً لها وكأنما عيناه تخبرها بأن تتوقف عما تفعله ولو لمرة واحدة 

"طب ادخلي الأول مش هانتكلم من على الباب.." رفعت احدى حاجبيها في تحفز لتدلف للداخل بعدما أفسح لها الطريق ولم تمر ثوانٍ حتى وجدت سليم يهبط الدرج وتتبعه زينة، فهما لم يتبادلا سوى النظرات لثوانٍ حتى سمعا صوت رنين جرس المنزل الذي كان غريباً للغاية فتوجها للأسفل كليهما..

"أنتي هنا وقافلة موبيلك وأنا قالبة الدنيا عليكي" توجهت نحو زينة التي وقفت خلف سليم وهي تنظر لها في ترقب 

"هديل" ناداها بدر الدين ولكنها لم تستجب له وأكملت طريقها نحو زينة 

"يالا قدامي على البيت" صاحت بها غاضبة ليسحق سليم أسنانه في غضب وهو إلى الآن لا يُريد التدخل

"هديل!!" علت نبرة بدر الدين ولكنها لم تلق بالاً لمناداته اياه وأقتربت كي تُمسك بذراع زينة ولكن سليم أوقفها وبادر هو بمسكه لمعصم هديل

"أنت بتتجرأ عليا يا قليل الأدب و.."

"هديل.." قاطعها منادياً اياها بنبرة من صوته الرخيم خاف على إثرها الجميع حتى نورسين وسيدرا اللاتي آتيا لتوهما ليتفقدا سبب هذه الجلبة "أطلع يا سليم وخد بنت عمتك.. وأنتي يا هديل قدامي على المكتب.." صاح بلهجة آمرة لا تتقبل النقاش لتلتفت له هديل بنظرة مستهزأة غير مكترثة لكلماته بينما ترك سليم معصمها وكاد أن يمتثل لأمر أبيه ولكنه توقف عندما تحدثت هديل لوالده 

"أنت فاكر نفسك ايه علشـ.."

"ورحمة أبويا يا هديل لو ما مشيتي قدامي على المكتب لا هيكون ليا تصرف تاني معاكي وأنتي عارفاني كويس.. أنا لغاية دلوقتي عامل حساب للولاد ولمنظرك قدامهم.. كلمة واحدة مش هتنيها.. ولآخر مرة بقولك قدامي على المكتب" صاح غاضباً بملامح بعثت الخوف في كلاً من نورسين وسيدرا وحتى زينة بينما أدرك سليم مدى غضبه ليلتفت هامساً لزينة بلهجة آمرة

"أطلعي" بادلته النظرة وعلى الفور التفتت لتصعد فهي آخر ما تريده هو مواجهة مع والدتها بعدما أستعادت القليل من الهدوء بآخر ثلاثة أيام فأستمرت في الصعود كي تتوقف عن الإستماع لصوت والدتها وتبعها هو بينما استمعا لصوت بدر الدين الآمر

"نورسين.. خدي أنتي كمان سيدرا وأطلعوا فوق" آمرها لتومأ بالموافقة دون التدخل لتحافظ على ألا يتصاعد الأمر

"تعالي معايا يا حبيبتي" همست لسيدرا التي توسعت عيناها في ارتباك من كل ما يحدث لتُمسك نورسين كتفيها ثم دفعتها برفق للصعود للأعلى بينما أقترب بدر الدين من هديل التي تنظر له في غيظ شديد وجذبها من يدها لغرفة مكتبه ثم صفع الباب خلفهما ورمقها بغضب لاذع..

"أنتي ايه حكايتك بقا؟ المرة اللي فاتت سيبتك.. إنما ايه حوار زينة معاكي.. أنتي مش ناوية تبطلي اللي أنتي فيه بقا؟"

"أنت اللي ايه حكايتك يا بدر الدين؟ مالك بولادي.. شوية زينة وشوية إياد.. أنت ناسي إن زي ما ليك ولادك زي ما ليا ولادي وأربيهم بالطريقة اللي تعجبني؟!" صاحت به بنبرة صوت مرتفعة ليعلو صوته هو في غضب شديد لتشعر بالخوف ولم تستطع سوى النظر إليه بعنتين مليئتين بالرهبة من ملامحه المُخيفة

"رباية ايه يا أم رباية!! جرا ايه يا هديل؟! من امتى وأنتي بتربي؟ هاتيلي موقف واحد من سنين يقول إنك كنتي بتربي! قوليلي فين المرة اللي كنتي بتربي حد من ولادك فيها وحد فينا أتدخل!! أنتي مبتربيش ولا عمرك ربيتي.. أنتي بتدمري ولادك كلهم واحد ورا التاني.. حتى لما سيف كان بيصلح أنتي كنتي بتخربي.. فين ربايتك لإياد؟ عمرك حسستيه إنه كبير إخواته اللي المفروض يحضنهم ويطبطب عليهم زي ما أنا ربيت سليم؟ عمرك حاولتي تخففي عنه ولا سألتيه مال وشك متغير ليه؟ تقدري تقوليلي فين عاصم اللي بيحاول يدور على أي حجة عشان يبعد بعيد عنك وعن التوتر اللي بتعمليه والمسئوليات اللي بتحمليهاله بالإجبارغصباً عنه عشان شخصيته طلعت ضعيفة بسببك ومبيعرفش يقول غير حاضر وطيب؟.. ولا أروى.. أروى اللي نسخة منك أنتي وأبوها طلعتيها ناضورجي على أخوتها لغاية لما كرهوها كلهم ومبقوش طايقنها وأنتي ربيتي جواها الطمع والتحكم لغاية ما حست إنها أحسن من كل أخواتها وبقت أنانية وعندها أستعداد تعمل كل حاجة غلط علشان توصل للي هي عايزاه!! آسر.. آسر الوحيد اللي فعلاً عرف يهرب منك والوحيد اللي بحسه طبيعي علشان بعد عنك واتربى مع زياد.. وزينة!! أنتي بتظلميها ليه؟ ليه بتكرهيها أوي كده؟ البنت مليانة أمراض نفسية بسببك.. دي كانت بتنهار قدامك ويوم ما بيجيلها دكتور كنتي بتتعاملي مع الموقف بكل نفس داقتها المرارة.. يا شيخة بقا أكبري ولا لمي ولادك قبل ما يضيعوا أكتر ما همّ ضايعين.. أكبري وبصي لشاهندة اللي خلفت على كبر لكن مصاحبة ولادها.. ولا بصي ليا وشوفي بربي ولادنا ازاي.. فوقي وبصي لواحدة زي نورسين اللي أصغر منك وشوفي حياتها بقت عاملة ازاي ونجحت مع ولادها وأنتي لأ.. ارجعي وأفتكري أمي كانت بتعاملني ازاي وكان ليها كل الحق في انها تعاملني بقسوة ولا تكرهني.. فوقي يا هديل أنتي بتضيعي ولادك كلهم واحد ورا التاني.. حرام عليكي اللي بتعمليه فيهم.. من أكبر واحد فيهم لواحدة زي زينة.. أنتي ايه بقا.. مش ناوية تعقلي؟!" 

لهث بشدة وهو يحاول التقاط أنفاسه بعد كل تلك الكلمات التي ألقاها على مسامعها بمنتهى الجدية والإكتراث الممزوجان بالغضب الشديد على تفكك أُسرة أخته الصغيرة بأكملها لتستمر هي في النظر له وابتسمت له بسخرية وقد أستطاعت تمالك رباطة جأشها ولم تعد تهاب شيئاً..

"لا برافو يا بدر.. حلو جو كلوهم بالصوت لا يغلبوكوا ده.. برافو" أخبرته بالمزيد من الإستهزاء ليسحق أسنانه في غضب "بدر الدين المُضحي.. كبير العيلة.. اللي بيخاف على الكل.. جايلي تديني درس؟ جايلي تعرفني أربي ولادي أزاي؟ لا شاطر وناصح أوي.. زي ما طويت شاهندة وولادها تحت دراعك عايز تعمل معايا.. علشان تفضل أنت الكبير أنت وابنك وكلنا صُغيرين.. مشوفتش في نصاحتك بجد.. كده كده إياد صاحب سليم اللي لعب في دماغه من زمان، وزينة نفس الكلام، وآسر أي كلمه يسمعها من زياد اللي أنت مسيطر عليه هيوافقه من غير تفكير، وعاصم كده كده مبيفتحش بقه، والحيدة اللي كانت ناقصة هي أروى وابنك اتدحلبلها علشان يخطبها وبكده يبقا الكل تحت طوعك.. وجايلي تعلمني أربي ازاي على كبر علشان تحسسني قال ايه خايف على ولادي.. بجد مشوفتش أذكى منك.. حقيقي ناصح" ابتسمت له وكأنها تُكشف مخططاً خبيثاً لا وجود له من الأساس ليُخلل شعره في غضب 

"أنتي عايزة توصلي لإيه بكلامك ده يا هديل؟" صاح بها بأنفاس متثاقلة غضباً وكلماته تغادر بصعوبة بين أسنانه المتلاحمة في غضب 

"عايزة أوصل إنك تعرف إني فاهماك.. فاهماك منزمان أوي يا بدر الدين.. كلامك ده كله وإنك خايف علينا مبقاش يدخل دماغي.. عيشة الفقر اللي عيشتها مع أمك زمان واللي عمله فيك أبويا خليتك عايز تكحوش على كل حاجة.. أنا زمان كنت غلطانة لما صدقت إننا ممكن بجد نفرق معاك، لما وقفت جنبي وبعدت كريم عني صدقتك.. إنما بقا جو الأفلام الهندي في إنك طلعلك ابن وعايز تخلينا كلنا شخشيخة في ايده ده انساه.. جو ابن كبير العيلة إنه ليه الحق في إنه يتحكم في كل حاجة ده شيله من دماغك.. أنا فهمتك من أيام ما سليم كان عيل وبتوديه الشغل معاك.. بس أنا كنت ناصحة وفايقالك أوي وفاهمة أنت عايز توصل لإيه.. كنت ناصحة وأنا بربي ولادي بقسوة زي ما بابا عمل معاك.. ما هو أصل أنت مش هتاخد زمنك وزمن غيرك.. ولو هتعملها أنا مش هاسكتلك.. مش بدر الدين هو اللي ليه الحق في كل حاجة، مش علشان يعني لحقت الشركة زمان وكبرتها يبقا تاخد أنت وابنك أكبر حتة من التورتة.. يا الكل ياخد زي التاني يا إما مش هاسكتلك يا بدر!" تعالت نبرتها في تحذير لينظر هو لها دون تصديق 

"تصدقي إن معاكي حق.. أنا وابني فعلاً بناخد أكبر حتة.. بنشيل مسئوليات أنتي متعرفيش عنها حاجة.." صاح هامساً بخيبة أمل "عمرك ما هتتغيري يا هديل وهيفضل تفكيرك زي ما هو" أخبرها بندم "بس أنا هاريحك مني خالص أنا وابني.. شوفي.. هاسيبلك التورتة كلها ليكي أنتي وشاهندة وزياد.. هاسيب كل حاجة.. لو على الفلوس الفلوس كتيرة.. وأنا مش محتاج لحتة من التورتة.. وأعتبري إن أنا وسليم من النهاردة مش هنعتب ولا شركة تاني.. ارتاحتي كده؟!" حدثها بخيبة أمل شديدة وهو ينظر لها في احتقار لأن بعد كل تلك السنوات تفكيرها يظل كما هو ولم يتزعزع مقدار أُنملة لتنظر هي له رافعة حاجبيها في دهشة 

"لما نشوف.." زفرت في حنق "بس يكون في علمك.. مش معنى حركتك دي ولا اللعبة اللي أنت جاي تلعبها عليا إنك تفضل بتعمل لولادي غسيل دماغ وتـ.."

"هديل!!" قاطعها بلهجة مُخيفة "أنا هاسيبلك الشركة كلها.. وشغلي ولادك فيها ولا روحي انتي بنفسك.. إنما ولادك اللي بتدمريهم ومش عارفة تلميهم حوالين بعض دول أنا من هنا ورايح اللي هاخد بالي منهم!! أصل الكبير مش كبير بالفلوس ولا الشركات يا هديل، ولا بالخوف ولا بالقسوة.. الكبير كبير بحب اللي حواليه ليه"

 

--

 

"طب بتعيطي ليه دلوقتي؟!" همس سائلاً بعدما لم يستطع تحمل المزيد من ملامحها المتوجعة لتبتسم له في وهن بإستنكار وهي تنظر له بزرقاوتيها 

"دايماً بتيجي وتظهر عشان تبوظلي كل حاجة حلوة في حياتي" همست ثم شردت بالأرضية وهي تقصد والدتها وقد أدرك ما تقصده ليعقد هو حاجباه وحاول منع نفسه أن يعانقها بين ذراعيه ليُخبرها بأن كل شيء سيكون على ما يُرام وأنه لن يدع شيئاً يحدث لها وسيدافع عنها أمام الجميع "وبعدين ما أنا كنت بعيط من شوية يا سليم.. ايه اللي فرق معاك دلوقتي؟" نظرت له بزرقاوتين باكيتين بينما لازالت ملامح وجهه الجامدة المُعذبة بين تعليمها الدرس بقسوة وبين إنهاء كل هذا الدرس السخيف لا تتغير..

"ولا خلاص بقا عادي إنك تشوفني بعيط بسببك ومش عادي أعيط من حد تاني؟!" حدثته واللوم يُغلف نبرتها الحزينة ليبتلع تلك الغُصة بحلقه من تألمه الذي لا تعلم عنه شيء 

"عادي إنك تكون مبسوط قدامي وبتبني حياة وسعيد وأموت أنا من جوايا على كل اللي بيحصل وكل اللي حصل ما بيننا وأنت ولا هنا وكأنك بتنتقم مني؟!" توجه بخطوات بطيئة إلي باب غرفته التي جلسا بها ووصده وهو يحاول أن يتحمل همسها الذي يُمزقه إلي أشلاء 

"ولا أنا للدرجادي مستاهلش زي ما قولتلي؟ ما أستاهلش إنك تدافع عن نفسك قدامي؟ ما أستاهلش إننا نتعاتب ونتكلم ونصرخ في بعض لغاية ما نتصالح وتفهمني كل حاجة؟" ازداد همسها السائل تلك الأسئلة التي تُصعب عليه الأمر أكثر وتجعل الآلام بداخله تتفاقم في تزايد غير متناهي 

"مستاهلش تقولي إني أضحك عليا وإنك معملتش حاجة أنت وإياد؟ مستاهلش إنك تفهمني وتفهم اللي أنا فيه وتقدره؟ ما أنت عارفني وحافظني من زمان.. عارف إني بتعلق بأي حاجة وبصدق أي حاجة تحصل وعارف إني بقول من جوايا يمكن الحاجة دي صح، يمكن تغير كل اللي أنا فيه واللي بيحصلي.. يمكن يكون فيه أمل وأخيراً هرتاح.. مش يوم ما اتفقت معايا اننا نهدى وأسمع كلامك اتغيرت معاك؟" همست وعادت لتبكي من جديد لتتضاخم تلك الغُصة بحلقه وهو يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يتحمل 

"مش لما جيتلي ألمانيا شوفت الفرحة في عينيا وكنت متأكد وعارف إني مبسوطة بكل اللي بيحصل ما بيننا ووقتها كل حاجة أتغيرت؟" أخبرته لتنتعش أروع ذكريات عايشها معها برأسه وازدادت آلامه لفكرته السخيفة بقسوته عليها 

"محستش بيا وبلهفتي عليك لما سبت كل حاجة وجيت علشانك.. علشان أبقا جنبك ومعاك.. علشان كنت واحشني وأنا عمري ما حسيت بكده غير معاك أنت!! محستش بكل ده يا سليم؟!" كلماتها المُنمقة في قص كل ما حدث بتلك الطريقة تجعله يشعر بأنه يتحدث لفتاته التي قد قست عليها الحياة وقد تعلمت الدرس بقسوة مبالغ بها وقد كبُرت كثيراً ليُفكر ما الذي فعله أبيه معها ليوصلها لتلك الحالة من الإدراك "أنا صدقت يا سليم إنك بتحبني.. صدقت واتشعلقت في إني هاكون أحسن معاك وحياتي هتتغير.. صدقت زي ما بصدق كل حاجة بسهولة.. مقدرتش تقارن بين إني صدقتك بسرعة وبين إني صدقت أروى بسرعة؟!" حدثته بنبرة مرتجفة لتطعن قلبه بالمزيد من تلك الطعنات التي تسبب له جروحاً عميقة

"لما بعدت يومين علشان ماما واللي بتعمله فيا وأنت عارفني وحافظني إني لما بتحصل حاجة بهرب زي الجبانة أو بعمل حاجة تلفت انتباه الكل إني مش ضعيفة وأقدر أعيش حياتي بطريقتي، ويوم ما رجعت وأروى كدبت عليا بكل اللي حصل.. مهنش عليك تفهمني ولا تحضني ولا تقولي إن كل الكلام ده كدب ومحصلش؟! للدرجادي طلعت عندك مستاهلش؟" شردت ببكاء للأرضية وهي تتحدث ليزفر هو غاضباً من نفسه، نادماً على تلك الكلمات اللعينة التي غادرت فمه واستطاع لسانه أن ينطقها ليُمزقها آلماً 

"طب لما أنا مجنونة وهبلة وبعمل أي حاجة حتى لو غلط وأنت عارفني وحافظني.. لما روحت اتخطبت لشهاب بدل ما تفهمني غلطي روحت قدام عنيا تخطب أروى اللي فرقت ما بيننا.. أنت ازاي قدرت توجعني كده؟!" ازداد نحيبها ليسحق أسنانه على تلك الأوجاع التي كونت حولها هالة من غيوم رمادية كركام لا يستطيع رؤية أشعة نور وجهها الذي يعشقه 

"طب أنا غلطت.. غلطت لما صدقتها.. غلطت لما شكيت فيك.. غلطت لما صدقت إن إياد ممكن يقول عليا كلام زي ده.. بس أنت كمان غلطت فيا أوي يا سليم" رفعت زرقاوتيها لتنظر له نظرة لوم قتلته آلف مرة 

"غلطت يوم ما خلتني أموت من الغيرة بكل اللي أنت عملته مع أروى.. غلطت في كل مرة قسيت عليا فيها وفضلت تعاملني بإهانة وكأن كل اللي كان ما بيننا مجرد تسلية.. غلطت لما موقفتش جنبي وسبتني لدماغي تتحكم فيا وخلتني أخد قرارات غلط.. مش احنا اتفقنا يا سليم إن كل حاجة ما بيننا هتكون كويسة؟! مش اتفقنا إني هتغير معاك؟ ليه مصبرتش عليا؟ ليه مستنتش؟ ليه موقفتش جنبي؟ ليه كل عمايلك اللي عملتها معايا دي؟ زي ما تكون عايزني أصدق إن الكلام اللي أروى سمعتهوني كان صح.. ليه اديت الفرصة لغيرك إنه يوقف جنبي؟ ليه خلتني أجري على شهاب وسيبته يكون جنبي؟ أنا كنت محتاجاك أنت مش هو.. ليه يا سليم تعمل فيا كده؟!" انهمرت دموعها دون توقف ليجذبها من يدها بقوة لتنهض أمامه وهي تحاول أن تتبين ملامح وجهه بين دموعها الكثيفة لتجده غاضباً 

"علشان أنا ياما أتكلمت بهدوء.. ياما عرفتك طريقتي وأسلوبي.. بس أنتي مكنتيش واثقة فيا.. مكنتيش عاملالي حساب في أي حاجة.. والوحيد اللي حذرتك منه روحتي ورميتي نفسك في حضنه.." صرخ بها بأنفاس لاهثة ووجهه قد قارب وجهها للغاية وهو يشعر بأنفاسها الباكية تنعكس على وجهه هو الآخر وأخيراً ترك العنان لكل قسوته التي تُقيده تجاهها فقد حان الوقت لإنفجار تلك الآلام التي يحاول أن يتحملها ويُكبلها بداخله ولكنه قد إنهار تماماً ليصرخ بالمزيد

"فيه واحدة عاقلة تروح تتخطب لواحد بين يوم وليلة؟ فيه واحدة لو بتحب واحد وواثقة فيه تروح ترمي نفسها في حضن الراجل اللي حذرها منه حبيبها؟ اللي أنتي عملتيه ده كان صح؟ كل حياتك دي وتسرعك صح؟ الثقة اللي بتديها لكل الناس بسهولة دي صح؟ فاكرة نفسك حقانية وبتعاندي الكل وأنتي غلط.. هتفوقي امتى بقا لكل اللي أنتي بتعمليه ده؟ هتفوقي امتى من الغيبوبة اللي أنتي فيها اللي بتخلي كل الناس تبصلك على إنك ضعيفة.. سليم يحبك.. يتعصب عليكي.. أمك تقولك كلمتين تنهاري.. أروى تلعب في دماغك تصدقيها.. شهاب يوريكي شوية جدعنه تروحي ترمي نفسك ليه.. جنانك ده هتبطليه امتى؟ تشرعك هتبطليه امتى؟ جاية دلوقتي تفوقي متأخر بعد ما كل حاجة ما باظت.. بعد ما أنا خلاص هتجوز أروى وأنتي هتتجوزي شهـ.."

"لا يا سليم أنا مش هتجوز حد ولا أنت هتتجوز أروى.. أنا فوقت خلاص.. مش هاعمل كده تاني.. أنا والله بحبك.. والحاجة الوحيدة اللي أتسرعت فيها وكانت صح هو إني حبيتك وكان معاك حق في كل حاجة.. أنا آسفة إني غلطت بس أنا مبقتش قادر أستحمل قسوتك ليا وإني أشوفك قدام عنيا وأنت بتختار أروى وبتسيبني وأنا عارفة ومتأكدة إنك بتحبني.. أنت يوم خطوبتك كنت معايا وبوستني وقربت مني.. أنا عارفة إنك مش كداب وواثقة فيك.. بس كل اللي أنت بتعمله بيتعبني وأنا مبقتش قادرة أستحمل أشوفك قدام عنيا وأنت بتعاملني بالطريقة دي وأنا مستاهلش منك قسوتك عليا.. أنا بحبك يا سليم.. بحبك أوي ونفسي أصحى من الكابوس اللي أنا فيه ده ونرجع لساعة ما كنت معايا في ألمانيا وأحس إنك بتحبني تاني.. أرجوك كفاية بقا كل اللي بتعمله ده أنا مش هاقدر أستحمل.. صدقني أنا بحبـ.." 

قاطعته صارخة وهو لم يعد يريد أن يستمع لأي شيء آخر بعد أن أذعنت له بحبها بتلك الصرخات التي قد آتت محترقة بين كرزيتها بفعل جحيم العشق الذي قد قرآه بعينيها وبسائر ملامحها واستمع له بتلك الكلمات التي بدا بها تمزقها بآلم الندم وشعور الخوف بإبتعاده عنها وتلقائية حديثها الذي قد شعر به يخرج من قلبها المتوجع بين يداه وأمام عيناه لتتلاشى قسوته ثم قبلها موقفاً اياها عن الحديث محتوياً وجهها بين كفاه في نهمٍ وإشتياق قد حاربه كثيراً ولكنه قد أنهزم وخسر تلك المعركة الحامية أمام شفتيها المعترفتان بعشقها له..

 

 

يُتبع..