NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الخامس
الفصل الخامس
ما أصعبك..
ما أصعب نظراتك الحائرة .. حروفك المتبعثرة
المتاهة الداغرة في جوفك
ما أصعب لوعتي في ابتعادك .. وما أصعب حضورك الجاسم!!
ما أصعب أن أقاتل من أجل عينيك .. فأضحى القتيل!!
ما أصعبك كونك أنت!!
•¤•¤•¤•
سكون كالليل .. داخلها أو خارجها، لا شئ يتحرك .. كل شئ هادئ، كأنها ميتة .. أنفاس تخرج وتدخل في إيقاع رتيب .. حواس لا تعمل، في حالة كمون .. لحظة، هناك شئ يتحرك أسفلها .. استنفرت حواسها لتستبين ماهيته، تحرك جسدها لا اراديا لتستشعر ألم طفيف بذراعها من بين فراش ناعم ولكنه يهتز بخفة .. يهتز كمهد رضيع ليشعرها بأنها تتوسد السحاب .. طىح عقلها السؤال الثاني، أين هي؟؟ .. نقطة، وبداية جديدة.
أخذت شهيقها ببطئ بينما تنفرج حدقيها، ليقابلها ضوء نهاري قرب المغيب يشق نافذة دائرية على يسارها .. ريقها جاف كالصحاري .. شهيق أعمق استجمعت بها قواها وهي تنقل عينيها في أركان المكان حولها وتشد جسدها لينهض.
غرفة متوسطة إمتزج بياضها بأرضية خشبية .. سريرها يحتل نسبة 60% من الغرفة مع بعض قطع الاثاث الأخري .. قطع تأملها شعورها بذلك الترنح الخفيف مرة أخرى، ليضرب الشك داخلها من جديد .. أين هي؟؟
آخر شئ تتذكره المطار، منعها من السفر، ثم ضرب النار الذي أظلم النور بعينها .. مراد؟؟ .. اللعنة مراد!! .. وفجأة ضرب عقلها سيل من الصور المتقطعه والمختلطة .. صوت قوي لطلقات نارية .. ليلا أيضا، ولكن بدون مراد .. شخصا آخر بجانبها، يغطي جسدها بجسده .. تكاد تسمع صوته الذي يهمس لها "لا تخافي فريدة" .. يهمس لها بإنجليزية متقنة!!
سقطت على الفراش وهي تعتصر عينيها التي تفيض دمعا .. تجبر ذاكرتها على اجترار المزيد ولكن المشهد يتوقف بها لدى تغطيته لجسدها في وقت أمطرت بها السماء رصاصا بدلا من المطر!!
غرزت أظافرها بشعرها برأسها وهي تتنفس بغضب وتتحرك بجذعها للأمام والخلف حركات عصبية .. اللعنة فريدة ماذا حدث بعدها .. لكن لا شئ، فبدلا من هذا عقلها استدعى مشاهد من حادثتها مع مراد بعد أن سقطت أرضا واصطدمت رأسها غابت عن الوعي جزئيا إلا أنها شعرت حينما توقفت صوت الرصاص حينما حملها مراد وسط تجمهر الناس وأجهزت الشرطة من حولهما .. مراد كان سيلم، وهذا ما جعلها تستعيد أنفاسها الآن منهية صراعها مع ذاكرتها.
نهضت دون اتزان وقد زاد ترنحها عندما أستقامت لتمسك برأسها فتقع أصابعها على اللاصقة الطبية التي تحتل يسار جبينها، ومن فورها تذكرت وقت إطلاق وسقوط مراد بها أرضا لتضرب جبهتها بالاسفلت ومن قبلها ذراعها الذي يحاوطه جبيرة الآن .. ومنه تدرجت عينها لتتبين أنها ترتدي قميص نوم كريمي قصير، ويغطي كتفيها شعرها مبعثر.
أهتزت بوقفتها مرة أخرى وكادت تسقط على الفراش، نعم الأمر أكبر من دوار رأسها، فالأرض تميد بها .. تحركت حافية القديمين لتخرج من الغرفة بينما تستند على كل ثابت حولها، قابلتها ردهة طويلة ضيقة مضائه بأضواء جانبية خافتة، وبنهايتها سلم حديد رفيع .. حسنا، الآن قد بدأت تكتمل الصورة بذهنها، لكن ما أن أطلت برأسها من نهاية السلم ليقابلها الشفق الأحمر الذي يكسو السحاب حتى جاءها الخبر اليقين..
إنها بمركب هائم في البحر!!
● ● ●
- أشربي هذا .. أوصى به الطبيب حينما تستفقين!!
حدقت فريدة بالكوب الممدود إليها بارتياب لتتقابل العين بالعين لمدة أطول من اللازم فطن بها أدهم أمتناعها عن أي شئ من قبيله، حتى الحديث.
جلس أمامها يضم قبضتبه إلى ركبتيه، يراقب شفتيها المزمومه، تنفسها الغاضب، وعينيها التي تشيح عنه بها .. أنها غاضبة كلبؤة خطف منها أشبالها .. كل هذا لم يثر انفعاله قدر قلقها على ذلك السمج مراد، فبالكاد استطاع كفها عن السؤال عنه!! .. واللعنة إنه كالبغل، لم يصبه خدش!! .. حقا لمَّ لم يسدوا له معروفا برصاصة تخترق ما بين ساقيه وتريحه للأبد من رجولته الرخوية!!
تبا، اهدئ أدهم، إنفعالك ما هو إلا رد فعل لقلقك على فريدة .. ذلك لن يجدي نفعا أمام الغضب الذي يءتعر بعينيها الآن .. حسنا، رغما عنه يكاد يموت من الغضب كلما تذكر محاولة قتلها بينما ذلك الأبله كان يقف دون حراك .. إلى أن الآن لم يعرف هوية مَن فعلوا ذلك، فالكابو نفي مسئولية أتباعه عن الحادث بل وتوعد بعقاب شنيع إذا ثبت العكس في حين أنه ليس هناك ذو مصلحة في ذلك غيرهم!! .. حتما سيجن من التفكير .. وحتى يتبين ما حدث، لم يكن في إمكانه فعل شئ سوى ضمان تأمينها بنفسه، لذا حينما هرع إلى المشفى الي تم نقلها لها بعد الحادث ولم يتردد لحظة في أخذها من هناك، وعلى مرئ من الجميع، وأولهم هذا المخنث .. وكم يلوم نفسه لأنه تمالك أعصابه وتركه على قيد الحياة بعد فعلته!!
تنهد عميقا للجالسة بشرود أمامه ليتحمحم قبل أن يتحدث بتمهل:
- فريدة .. أنصتي لي .. لقد فعلت هذا لحمايتك، صدقيني
نظرت له شزرا وذهبيتها تندلع شراسة .. فأوصد عينه ليكمل بنبرة أشد حزما:
- لقد سعيتي وراء معرفة ما حدث .. وأنا الآن سأخبرك بكل ما تريديه!!
هنا حظي على انتباهها وقد سقط قناع البرود والقسوة عن عينها ولمعت تأملا .. فازدرد ريقه ورغما عنه تهدلت رأسه بينما يسرد لها جزءا من عمق الجحيم داخله:
- أردتي أن تعرفي وراء ما حدث لكِ .. أنا فريدة .. أنا من فعلت هذا بكِ!!
حبست أنفاسها رغما عنها لتسأله بحذر متجاهلة الصوت الذي ينهاها عن سؤاله:
- فعلت ماذا؟؟
رمقها، وتوقف الزمن بهما هنا .. عينيه تقتطر ندم فتاك .. لسجسبها بصوت يكاد يتلاشى من الألم:
- فعلت لكِ أشياء سيئة للغاية!!
● ● ●
هواء قاسي كالجليد قطع تخلل الصمت بينهما .. جسدها يرتجف دةنه إرادة منها ولا يفيدها حتى دفئ ذراعيها .. كل شئ بها يرتجف حتى قلبها، كيانها بالكامل يرتجف لهول ما تسمعه .. حتى مع افتقاره للتفاصيل إلا أنه أكمل الناقص من الصورة بذهنها .. عند نقطة ما إنفصلت عنه ذهنيا، عند نقطة معتمه حالكة لم تعد يصلها أي حرفٍ بعدها .. نقطة القلعة .. وما أدراك ما القلعة!!
قال ما قاله متحاشيا النظر لها عينيها تقتله يرى بهما فداحة فعلته .. خسته ودناءته .. يرى بهما بهيميته .. الحقيقة، أنه تعدى حتى مرتبة الحيوان .. فالحيوان يفوقه بذلك شعورا!!
رفع عينه على إستحياء، عيون تختنق بدموع لا ينبغي لها أن تتجلى لأحد .. ليشهد أسوء ما قد يراه .. يشهد إنعكاس فعلته النكراء .. ملامحها متخشبة أقرب للجماد، أسنانها متلاحمه يصدر عنها صرير يكاد يسمع، حاجبيها معقودان ليغطيان على عينين شاخصتين عما حولها، حتى هو!!
انحني أمام مقعدها .. قلبه ملتاع لهيئتها، يريد أن يحتضنها ولكن يخشى عواقب هذا .. يريدها أن تفعل أي شئ تعطيه أي انفعال تصرخ تسبه تضربه حتى تقتله لا ان تصمت هكذا هدؤها يرعبه .. هدؤها يشطره نصفان
ابتلع غصة تكاد تقتله، وبخوف تلمست أصابعه ركبتيها ليقول بصوت فاقد للحياة:
- فريدة، صدقيني الشئ الوحيد الجيد باﻷمر هو أنكِ فقدتي الذاكرة .. لذلك لم أردك أن تعرفي ليس لشئ سوى خوفي عليكِ من عواقب ذلك....
كان يتحدث ويتحدث بينما صوته يتلاشى عن مسامعها .. مشاهد تأتي كاملة لتقطعها صور مهزوزة .. مشاهد متناقضة بعضها تبتسم بها حد الضحك، والبعض الآخر تبكي به بدل الدموع دم .. وهناك أخرى، هي أقرب إلى الجثث بها، مضجعه بها وسط ظلام يبتلع روحها.
أصوات متداخلة بقوة تصم أذنها .. أعتصرت عينها وهي تضغط أعلى أنفها لتشتت تلك المشاهد القاسية على روحها .. أصدرت أنين عالي وطول وهي تنحني على للأمام باحثة عن ملجأ تلوذ بها وحوش ذاكرتها .. في حين لم يفهم هو ماذا أصابها وبدا الهلع عليه وهو يسألها مرارا عما بها ويحاول أن يبعد يديها التي تضغط بها على عينها حتى جرحتها ودون سابق انذار كانت تفلت من بين يديه وتلقي بنفسها بالماء على مرئ من عينيه المتسعتين بذهول ودون أن يستطع ردعها علَّ الماء يحتضن روحها السقيمة ويغسلها مما علق بها!!
● ● ●
عودة للسكون، عودة للماء أصل كل شئ .. أول شئ في حياة الإنسان .. أول ما يخلق به، وتألفه بشرته .. ماء من كل الجهات، يحتضن جسده ويعوم به داخل بيت دافئ لا يعرف ليل من نهار .. لا يعرف به سوى الأمان الهدوء والسكون .. وفقط
حتى تأتي صدمته الأول، وينفض كل الماء من حوله، لتضيق به دنياه الصغيرة وتحاول دفعه لدنيا أكثر اتساع وأكثر قوة .. لحظة الميلاد .. بداية جيدة، حضن جديد، ودنيا جديدة .. دنيا لا تعرف السكون أو الأمان .. نظل بها هائمين لا نعرف ملجأ، أو غاية .. لا نعرف حتى أننا نبحث عن بيتنا الأول .. حيث فقدنا الأمان.
واﻵن آنى لها أن تعود لبيتها الأول!!
وقف أدهم بجوار فراشها ساهما في ملامحها الغارقة بالنوم منذ ما يزيد عن 18 ساعات .. نوم عميق لا يتخلله حركة .. بعدما أنتشلها من الماء تركها بالفراش ليحضر لها ما يجفف به جسدها وعاد ليجدها وقد غرقت بالنوم .. ولا يعرف متى ستستيقظ
عقلها استخدم ميكانيزم دفاعي ضد الصدمات عن طريق إغشايها بغيبوبة مؤقته، وربما تستيقظ وهي لا تذكر الكثير مما قاله، أو على الأقل لا تذكر كافة التفاصيل، فالعقل الآن في حالة صراع، يرفض استدعاء الذاكرة المخزنة باللاواعي .. ربما ﻷنها ليست مؤهلة لاستقبلها الآن .. هذا ما عرفه فيما بعد عندما استعان هاتفيا بدكتور مايك والذي أوصى بإعطاءها حقنها مهدئة حتى لا تسوء حالتها أكثر من هذا
استاءت ملامحه عندما تذكر توبيخ مايك له وتحميله مسؤولية حالتها الآن لأنه تسرع بإخبارها دون استشارته .. ومنذ متى وأدهم الشاذلي يسشير أحد في قراراته .. هل كان يتوقع منه أن يكذب عليهامرة أخرى، يستغل مرضها ويخدعها .. أيا كانت العواقب هو لم يكن ليفعل هذا .. في رأيه كان هذا أفضل حل .. كفاها هربا، يجب أن تواجه ما يحدث لها ولو مرة .. بالنهاية هو لم يختار أن يخبرها، يشهد الله أنه لم يرد هذا، بل وأكتفى بفقدانها الذاكرة لأنها كانت تستحق أن تنعم بالسكينة ولو قليلا لكن يبدو أن حياتهما البائسة ترفض هذا!!
طوال ها الوقت عمل على البحث والتقصى حول ما حدث، ةلكن النتيجة صفر، لا شئ .. حتى تسجيل الكاميرات في المطار لم يقودهم لمعلومة .. سيارات بدون لوح رقمية، أشخاص ملثمين وعمليه لم تتعدى الثلاثة ثواني، وهذا ان دل على شئ فيدل على حرفية اصحابها ومدى تمرسهم.
وضع رأسه أسفل صنبور الماء ليطفئ جحيم أفكاره .. ابواب الجحيم فتحت عليه من جميع الجهات القادم مجهول مع فريدة .. علاقته بالمافيا متوترة .. والاعلام مقلوب عليه رأسا على عقب خاصة بعد أن ام ذلك المخنث بتقديم بلاغ ضده يتهمه بخطف خطيبته مرفق بسجلات كاميرات المستشفى وشهاده الطاقم الطبي .. هل ظل هناك مصيبة لم تحط على رأسه؟؟
حسنا، رغم كل هذا فهدفه مازال محددا وواضحا .. حماية فريدة وحمايتها فقط حتى لو على سبيل حياته!!
أغمض عينيه علَّه ينعم بثواني من الاسترخاء، إلا أن ذلك لم يحدث فقد هاجمته صور تلك العلامات التي احتلت جسد فريدة ورآها وقت استبدل لها ملابسها .. كل علامه منهم تذكره بفعلته .. لا شئ يساعده على النسيان، فما بال فريدة نفسها!!
نفض رأسه وهو يمسح الماء عن وجهه .. لن تنسى أدهم، فريدة لن تنسى أبدا .. حتى مع فقدها للذاكره هي تأبى النسيان .. تتمسك بما حدث، وتريد حقها .. تريد حقها الذي سلبتها إياها .. وعليك أن تكون على أتم الاستعداد لدفعه!!
حينما عاد لغرفتها وجدها شبه جالسه بالفراش، شعرها منثور على جنيبات وجهها ورأسها منكس ﻷسفل .. ما ان انتبهت لوجوده ختى رفعت عينها له، بصفحة وجه خالية من أي تعبير على الاطلاق .. وقالت جملة واحدة بصوتٍ خافت:
- ورقة وقلم
أصابه التيبس لثواني قبل أن يلتفت حوله ويفتح احد الادراج ليأتي لها بما طلبت .. أخذت منه منه الورقة والقلم لتخط سريعا وبعدم اتزان بضع كلمات أسفل بعضهم ومن ثم أعطت الورقة له قائلة:
- هذه الأدوية .. بسرعة من فضلك!!
تناول منها الورقة ليرى أربعة أسماء لأنواع أدوية نظرها بعدم فهم ليعيد نظره لفريدة التي اراحت ظهرها على الفراش بارهاق وكأنها أدت مهمة شقة.
تركها ليتصل بأحد رجاله ليأتي ويؤدي له هذه المهمة بسرعة .. وعندما عاد كانت قد نهضت إلى المرحاض لتغسل عنها آثار نوما طويل.
رمقت نفسها في المرآة .. لتوها لاحظت انها ترتدي قميص أسود رجالي .. تبا، أين الملابس؟؟ .. الوغد اللعين!! .. دنت لتتفحص نفسها عن كثب، ملامحها شاحبة، باهتة، وكأن روحها مزهقة .. لا أصوات بداخلها، لا صور ذهنية، لا شئ أبدا .. حالتها النفسية كمياة بحرٍ في نوبة هدوءه.
خلعت اللاصقة الطبية التي تحتل جبينها .. لا تقضيب؟؟، رائع!! .. لكن ماذا ستفعل في الجبيرة .. تأففت ثم خرجت مرة أخرى لتجده قد عاد في اللحظة .. تصادما بالنظرات لأكثر من ثانية قبل يقولا في الوقت ذاته:
- أريد مساعدة؟؟
- أتحتاجين شئ؟؟
شبحة ابتسامة عزفت على شفتيه وهو يرمقها بتفاجؤ .. لتوضح فريدة وهي ترفع ذراعها المصابة امامه:
- أريد الاستحمام!!
أعطها ظهره ليخرج من الغرفة تاركا اياها واقفة عاجزة عن تقسير تصرفه الذي احرجها .. هل فهم أنها تطلب منه الخروج؟؟ .. واللعنة لو كانت كذلك لما... لم تكمل سيل سبابها لانها وجدته يعود أدراجه لها حاملا بيده أسطوانه كرتونية رفيعة.
دنى منها وهو يفتح تلك الاسطوانة ليخرج منها ورق (فويل) مما يستخدم في تغليف وحفظ الطعام .. فتحه ثم رمقها طالبا الإذن منها .. تململت فريدة لترفع ذراعها له فأمسك بها ليرشدها لأقرب كرسي ويجلسها عليه ثم انحنى أمامها ليبدأ في لف الشفاف البلاستيكي حول ذراعها باتقان.
ثواني مضت على كليهما كالساعات، خاصة فريدة، لكم كان من الصعب عليها طلب المساعدة منه هو بعدما سمعته .. أما هو فوجد صعوبة في ضبط أنفاسه في قربها، رائحتها تتغلل داخله وتخلق مجالا مغناطيسيا لا يري بينهما يصعب مقاومته .. خاصة وهي داخل قميصه الأسود الذي يناقض بشرتها الحنطية التي -رغم الندبات التي تكسوها - هي أجمل ما رأت عينه!!
كان من الواضح ضغطه على فكيه وكأنه يقوم بمهمه ذرية بالغة التعقيد وحينما انتهى نهض على الفور وهو يغمغم لها بكلمات بالكاد زفرها:
- إذا احتجتي شيئا آخر أخبريني!!
لم تجب بشئ ولم ينتظر هو الإجابة من الأساس، فقد تركها ورحل بسرعة.
فتحت كابينة الاستحمام لتدخل أسفل الماء البارد كي تنعش عقلها الذي في حالة سبات .. شيئان متضادان داخلها أحدهم يحثها على تذكر ما حدث واﻵخر ينهاها عن ذلك .. وما بين ذلك وذاك هي متمزعة.
وجدت نفسها تهمس بصوتٍ لا يسمع:
"أنتِ قوية فريدة .. طالما كنت قوية .. نجونتي من محن وفخاخ نفسية كادت توقع بكِ في بئر الأمراض النفسية .. تغلبتي على عقدة الفقد وقاومتي الرسائل السلبية التي كانت تتربصك طول حياتك .. نجوتي نن كل هذا، أنتِ قوية .. أنتِ بطلة حقا .. وستنجي من هذا أيضا .. ستنجي من أشباح ما حدث بكِ .. ستهزمي الصدمات التي تتربص بكِ .. ستنجحي في السيطرة على فزعك ورهبتك .. تنجي من براثن الاكتئاب وجسامته .. أولا -وقبل أي شئ- اعترفي فريدة .. أنتِ ضحية تعذيب واستغلال جسدي ومعنوي لشخصٍ سادي لعين .. كنت أداة لتفريغ غضبه وغيرته وعقده .. هذه هي الحقيقة التي تطاردك أشباحها بالكوابيس .. تلك الاشباح هي شبح واحد .. شبحه هو .. لا تستهلك عقلك في تذكر ماذا فعل، النتيجة واحدة .. هو مَن انتهك جسدك هكذا وهاك آثار انتهاكه .. فعل فعلته وكأي جبان هرب قبل أن يلق عقابه .. والآن اعترف لكِ، اعترف وهو خائف مرتعب ومتلبك .. هناك شيئا ما معك يخيفه .. الآن انقلبت الأدوار فريدة لم تعود الضعيفة هنا، لم يليق بكِ دور الضحية .. الآن كرة القوة بين يديك أنتِ!!"
أوقفت انهمار الماء وهي تشعر بأن شيئا ما رد إليها .. تشعر بالقوة ﻷول مرة .. تلك القوة التي نكتسبها من بعد ضعف هي الأعظم على الإطلاق!!
ارتدت مأزر الاستحمام متجنبة النظر في المرآة كعادتها .. خاصة بهذا الوقت .. هي لن تنظر لما فعله بجسدها، لو نظرت ستتذكر، ولو تذكرت ستسقط .. وهي لا تريد أن تسقط .. كفاها سنتان لم تفعل بهما شيئا سوى السقوط!!
خرجت لتجد نفسها في ذات المشكلة .. لا ملابس لديها .. هذا الغبي اللعين، قام بخفطها ولم يكلف نفسها بجلب ما يكفيها من ملابس، أم أن عقله العاهر يهوى رؤيتها عارية!! .. اهدئ فريدة، ماذا قلنا عن الغضب وضبط النفس .. زفرت بعمق ثم تلقتت حولها لعلَّه يكون قد ترك لها شيئا، وبالفعل وقعت عينها على قميص رجالي آخر مطوي بعناية على مقعد الزينة.
ارتدته دون ان تحمل عقلها عناء التفكير في نواياه الحقيرة، يكفيها ما سمعته منه .. عليها أن تركز الآن في الخروج من ورطة وجودها معه في قارب واحد في عرض البحر.
● ● ●
أغلق الهاتف مع دكتور مايك بعد أن حصل على اجابة سؤاله عن ماهية الأدوية التي سألته فريدة احضارها .. رغم كل ما حدص، مازال محتفظا برغبته في تفقد كل ما يخصها .. كاد أن يهشم الهاتف بين أصابعه فور أن علم بأن هذه الأدوية خاصة بعلاج زملة من الأمراض النفسية كالاكتئاب ونوبات الفزع والأرق .. لقد ظن طويلا أنه بابتعاده عنها يهديها الهدوء لحياتها ولكن اليوم تأكد بأنه قد ألقى بها في بؤرة الجحيم .. حيث لا هدوء ولا راحة أبدا!!
فتح قميصه لتلفحه رياح البحر، فهو يشعر بأن هناك مخالب تنهشه من الداخل .. أي لعنة تلك التي ألقت عليه!! .. كان على وشك أن يلقي بنفسه في عمق البحر كإجراء اضطراري قبل الانهيار لولا سماعه لصوت اقترابها منه .. عاد ليغلق قميصه بسرعه من جديد، ثم نفسا عميض يسيطر به على مشاعره المعقده ثم التفت لها.
وقف مستند على سياج مقدمه القارب ليقبلها ونظراته لها كانت مزيج غريب لم تفهمه .. يمسح جسدها بشوقٍ جارف يشوبه الندم والحسرة .. حسنا، لقد اكتفت من بؤسه لذلك تحركت سألته دون عاطفة:
- هل جلبت ما طلبته؟؟
لم يتوقع منها هذا .. ولكنه تحرك بعملية ليهبط السلم وهي تتبعه ومنها إلى صالة الطعام الداخلية .. ناولها كيس ورقي كان على الطاولة يحوي مجموعه الأدوية خاصتها .. فأخذتها فريدة دون كلمة ثم اتجهت للبراد لتتناول كوب ماء.
راقبها أدهم بأعين صقر وهي تخرج الحبوب من العلب بتلهف وتتناول ما يقرب خمس حبات معا وقبل أن تبتلعهم أمسك بيدها يمنعها قائلا بقلق جلي:
- ماذا فعلين؟! .. أنتِ لن ستأخذيهم معا؟؟
حدقت فريدة بقبضته التي تمسك بكفها بقوة ومنها إلى عينه لترفع حاجبها بنظرة تحذيريه قاسية .. ورغم أنه فطن رسالته إلا انه لم يرتجع وكان الى وشك قول شيئا ما قبل أن تنفض فريدة يده وترتجع للخلف عدة خطوات قائلة بتحذير:
- إياك ولمسي!! .. ومرة أخرى إذا جمعنا مكان واحد لا تتدعى مسافة المتر بيننا!!
تجرعت حبوبها دفعة واحدة وهي ترمقه بتحدي وجفاء .. ثم تجاوزته إلى البراد مرة أخرى تعبث به مفتشه عما تتناوله فمعدتها تصدر أصوات من فرط الجوع .. متى آخر مرة تناولت بها طعام؟؟
استند أدهم على عمود جانبي بينما مازال يواجه صعوبة في ابتلاع ردة فعلها ومن ثم أردف مبررا:
- لم أقصد سوء .. لنقل أن جرعة الدواء كبيرة وربما خطرة!! .. هل استشرتي طبيب قبل أخذها؟؟
أخرجت رأسها من البراد وزاوية فمها ترتفع بسخرية مما قال:
- بدون هذه الجرعة صدقني سأكن شخص لن تسعدك رؤيته!!
قبضة عنيفة استهدفت قلبه .. كل الأشياء تشير لفعلته اللعينة بها، ما من شئ يسمح له بالنسيان ولو لحظة .. أغمض عينه لجزء من الثانية لاعنا نفسه ثم تقدم منها وهو يقول بنبرة جاهد أن تكون محايدة:
- هل يمكن أن تدعيني أعد لكِ شئ صحي بدل الجبن والمعلبات؟؟
المثير للعجب أنها تراجعت بالفعل بل واتخذت مقعدا عاليا لتجلس بانتظاره .. أخرج بعض الخضروات الطازجة وشرع في إعداده تحت أعين فريدة المراقبة وما لبثت أن تمتمت وكأنها تحدث نفسها:
- لمَّ أشعر وكأن هذا حدث من قبل؟؟
توقف أدهم ليسألها:
- ماذا تقصدين؟؟
أماءت ﻹعداده الطعام:
- ما تفعله؟؟ .. كأني رأيتك تطهو من قبل، وهنا بالضبط!!
أعاد أدهم تركيزه على ما بيده وهو يقول متجنبا النظر لها:
- لانه حدث بالفعل!!
عضت فريدة على طرف شفتها بابتسامه مستهزئه لم يرها أدهم وهو يقوف موليها ظهره:
- إذا انا كنت متزوجة من رجل نبيل، يطهو لامرأته؟!
أنهت جملته ثم مررت أناملها على أداة معدنية معلق عليها مجموعه من السكاكين يحكمهم كرتين معدنيتين من كلا الجانبين ليتخذوا بالنهاية شكل بندول .. جذبت أحد الكرات ليبدأ البندول في التحرك في إيقاع رتيب مربك للأعصاب أكثر منه مرخي ومن ثم أسترسلت حديثها بنبرة ناعمة مسترخية:
- ما إن أخبرتني عن ساديتك ولم يبرح خاطري سؤال واحد .. لمَّ تزوجتك فريدة؟؟ .. لكن الآن فقط عرفت الإجابة .. للحقيقة لمَّ لا تفعل وهي أمام شخصٍ مثلك، وسيم، ثري، مشهور، جذاب جدا، لبق في حديثه، راقي في تعامله، رزين في تفكيره وفوق كل ذلك مهتم وحنون .. بالمجمل بطل خرج من رواية رومانسية .. فتى أحلام كل فتاة!!
طوال حديثها استمر أدهم في تقطيع الطعام دون أن يتوقف، ودون أن تتوقف علاملات الاستفهام بعقله .. إلام تنوي الوصول من كل هذا؟! .. حتى أكملت حديثها وهي تحرك البندول كلما توقف:
- أتعرف أين يكمن الخطأ؟؟ .. الخطأ أن دكتور نفسي مثلها لم يدرك أن كل ذلك ما هو إلى غلاف لامع وفاخر لشخصية سيكوباتية تضمر بداخلها عكس كل هذا .. شخصية لا تحب أحد ولا حتى تحب نفسها، كتلة متحركة من الأذى والكذب اللا محدود، يستطيع اقناعك بالشئ وعكسه في ذات الوقت، ويجيد قلب الأدوار .. أناني، وسادي يعامل الأشخاص على أنها أشياء قابله للإمتلاك، يلقي بهم خارج حياته وقت انتهاء دورهم .. عنيف، والمشكلة أن عنفه مخبئ خلف قناع النية الطيبة والنزعه البريئة للحماية .. شخصية مستغله ومستهلكه للمشاعر وكل شئ تستطيع استنزافه من الطرف الآخر .. وفوق كل هذا، بارانويد، لا يعرف شئ بحياته سوى الشك وتوجيه أصابع الأتهام لمَن حوله!!
ألقى أدهم بالسكين من يده على طاولة التقطيع الخشبية مصدرا صوت أفزع تلك التي تجلس خلفه حتى لم يعد يُسمع سوى صوت دقات البندول التي بات يسمع صداها داخل عقله!!
لكن ذلك لم يوقفها فعادت لتستطردت بنبرة أكثر استفزازا ﻷعصابه:
- أنت شخصية معقدة أدهم، جديرة حقا بالدراسة!!، لا عجب في انجذاب فريدة لك؛ فطالما استفزني كل ما هو معقد ونادر .. لكن أن تحبك؟؟ .. تتحمل ساديتك وغيرتك؟؟
هزت فريدة رأسها بحيرة مصطنعه ووقفت لتلتف حول طاولة المطبخ حتى أصبحت تقف خلفه تماما .. وأضافت بصوت أشبه بالهمس:
- الأمر أشبه بترويض حيوان مفترس، لكن ما تلبث أن تصبح وجبته القادمة!!
أمال أدهم برأسه جانبا جهتها، رغما عنه بحّتُها المميزة تلعب على أوتار رجولته .. مهما قالت!! .. رمقها من خلف كتفه بنظرة لو كانت لأحد غيرها ﻷذابت عظامه .. ولكنها فريدة، تلك التي لم تعد تأبه لشئ، لذلك استكملت وحدقتيها معلقه بخاصته دون أن تهتز:
- أتعرف؟؟ هناك شئ ناقص بالقصة .. هناك ضلع مفقود!!
لم تتحرك شعره في قسماته القاسية ولكن عينيه كانت تحذرها من سؤالها القادم .. تزجرها بعنف أن تتراجع .. في حين استقبلت هي نظراته على محمل تحدي وسألته بقوة لا تقبل التراجع:
- ما الذي قصصته من القصة أدهم؟؟
ثانية، وأخرى تمضي وكلهما يحدق بالآخر دون ارتجاع .. نظرات من حدتها يستشعر المار شرارتها .. حتى قسمها أدهم بهديره من بين أسنانه ودون أن يرف له جفن:
- أنا أعمل بالمافيا!!
يتبع