-->

الفصل الثامن والثلاثون والأخير (جزء أول ) - بنات حورية

 

الفصل الثامن والثلاثون والأخير 
(جزأ أول )

فتحت الباب وهي تحمل يارا الصغيرة بين ذراعيها دون النظر لهوية الطارق وتفاجأت بوجود والد راكان أمامها لتشهق بفرحة فهي منذ أكثر من ثلاثة أشهر لم تره.. اقتربت منه بسرور لتحتضنه فيبادلها الحضن الدافئ ثم أخذ الصغيرة منها لتقل هي: عمي متي عدت، حمداً لله علي سلامتك. 


أخبرها وهو يدنو قليلاً منها برفق: الله يُسلمك يا صغيرتي، لقد عدت اليوم فجراً ما إن وصلني خبراً لم يسرني أبداً. 


فهمت ما يُرمي إليه وخشيت حقاً أن يتهمها هو الأخر لذا وجدت فرحتها بعودته تتلاشي وخطفت يارا من بين ذراعيه بخوف ملحوظ ليقل هو متفهماً ومراعياً: هل سيكون حديثنا من علي الباب، لم أعهدكِ بخيلة. 


أفسحت له مجالاً بعد ممازحته قائلة بترقب: تفضل طبعاً يا عمي. 


تخطاها مُتجهاً للداخل وهرعت لارا حينها له حين رأته وهي تناديه بلقبه ليحملها بشوق قائلاً: يا قلب جدك وروحه. 


نظر لراما قائلاً بتساؤل: الأطفال عندك اليوم. 


ابتسمت راما بتوتر وهي تراقبه وتخبره: نعم راكان جلبهم لي منذ يومين لأن يارا مريضة قليلاً. 


نظر ليارا متسائلاً بقلق: ما بها حبيبة جدها. 


أخبرته برفق حزينة: أخذناها للطبيب وقال أن معدتها متضررة قليلاً وأنا أعطيها دوائها بانتظام. 


تنهدت وهي تسأله بعد أن تمني لها الشفاء سريعاً: ماذا تشرب يا عمي. 


قال بنبرة ورائها مغزي: كوب قهوة كي أفيق يا ابنتي لأن اليوم سيكون طويلاً. 


همست بحيرة وهي تترك يارا أرضاً مع ألعابها وتتجه للمطبخ: حاضر. 


صنعت له كوب القهوة ووضعته أمامه وجلست وهي تجاوب سؤاله عن والدتها: ماما فوق عند سبأ. 


طلب منها بهدوء: لو تناديها ليكون الكلام أمامها. 


أومأت مجدداً وأحضرت هاتفها لتتصل بوالدتها كي تنزل لها، ثوانٍ وكانت حورية تجلس معهم ليبدأ رؤوف حديثه: لقد علمت كل ما حدث صدفةً، لا أعلم كيف تفكرون جميعكم ومتي كنتم ستخبروني. 


حاولت راما الحديث ليوقفها مُكملاً: لا لوم لي عليكِ يا ابنتي، لومي علي عائلتي للأسف. 


قالت حورية بتقدير: بالتأكيد كان يكفي ابنتي ما يفعله راكان بها. 


ظهرت معالم الأسف علي محياه وهو يخبرهم: حين نأتي لما فعله راكان فأنا مُتأسفاً لتعرضك لتلكَ القسوة منه يا ابنتي. 


أخبرته راما بصدق: لا يا عمي لا تكن متأسفاً، ليس لكَ ذنب بشئ فقط أرجو ألا تكون مُتحاملاً علي مثل راكان، أرجو أن تنظر لي بطريقة صحيحة وليس كما ظن راكان بي. 


أنهت حديثها بمشقة ليُلاحقها فوراً: راما أنتِ ابنتي التي لم أنجبها، عيب أن تقولي هذا الكلام، أعلم تتمنين لو كان هذا الحديث من ابني الغبي ولكن نظرة راكان لم تتغير عنكِ يا ابنتي، شيطان لعين فقط دخل بينكم وأنتم معاً ستخرجونه بإذن الله.


قطبت حورية حاجبيها من تلميحه في حين دغدغت حواس متعشمة قلب راما كطفلة صغيرة لم تتعلم درسها أو ربما تعلمته ولكنها ضجرت الفراق، ليُتابع هو بعد رؤيته لملامح حورية وخص حديثه لها: نحن بالتأكيد يجب أن نعمل جاهداً من أجل الأطفال أليس كذلك!.


ثم نظر لراما مُتسائلاً بأمل: هل انتهت عدتك أم ليس بعد يا ابنتي.


فركت يديها معاً، هو أيضاً لم يلاحظ حملها كما لم يلاحظه راكان أبداً طوال الشهر وهو يجلب لها يارا ولارا كل حين.. بشهرها الخامس هي وبروز معدتها خفيف كعادتها لا يظهر حملها علي جسدها أساساً.. انتظر رؤوف حديثها حتي أخبرته حورية: راما حامل يا أستاذ رؤوف بشهرها الخامس. 


تأثرت ملامحه بمزيج فرح لتبتسم راما وهي تراه رجلاً هرماً يحب أن يكون له أحفاد.. وخاصةً يحب أنها والدة أحفاده فهي كحفيدة من ضمنهم.. أخبرته لتزداد فرحته: إنه صبي يا عمي. 


دمعت عينيه من سروره قبل أن يخبرها وهو يقترب بجسده منها مربتاً علي كفيها: مُبارك عليكم يا صغيرتي، والأن أصبح هناك سبب أقوي لتعودي لزوجك أليس كذلك.


سعلت راما برفق وقد بدأ حديثه بغتةً بصراحة.. لتنظر لوالدتها بحيرة قبل أن تنظر له مجدداً مُتسائلة بآسي: أعود.. أعود لراكان.. كيف؟.


■■■ 


-راكان بيه رؤوف بيه يريدك

وقف راكان قاطبا حاجبيه بدهشة قائلا: هل قلتي أبي، هل عاد من السفر؟.


أومأت له ليردف بحيرة: أين هو؟.


أجابته بما وصلها: في الجراج ينتظرك.


إزدات حيرته من مجيئ والده المفاجئ دون علمه وتواجده بالأسفل الأن أيضاً، صرف مساعدته واتجه للأسفل مستقلاً المصعد لطابق الجراج وفي الأسفل كانت دهشته حين تلقي لكمة قوية من أباه ما إن أقبل عليهِ محيياً إياه ليهتف بصدمه بأبيه ولكن رؤؤف ابتعد عنه بعد ذلك بهيمنة.. مُتيحاً المجال لرجاله ليكملوا ما بدأه.. ودون إدراك من راكان توافدوا عليه باللكمات والركلات في جميع أنحاء جسده ولصدمته الكبري أن أبيه صامداً برؤية هؤلاء يطحنونه هكذا دون تأثر.. ومع سقوطه أرضاً بهمود هتف بجمود: أبي. 


وأبيه ليس بجماد ولكنه يستحق، يستحق لأنه تغافل عن زوجته اليتيمة الموصي عليها من الله_ عزوجل_ ورسوله(ص).. كيف وصي الرسول علي الضعيفين ( المرأة واليتيم ) وهي كلتلاهما.. هي امرأة اختارها بوعيه ورغبته صغيرة أقرب لقلب الأطفال ولكن ليست بطفلة.. يتيمة الأب واعتبرته هو وأهله عائلتها..

هل يخفي عليه شعور راما بكونها وجدت والدين بعد والدها.. فكيف يردها خائبة وكيف لا يشعر بالفشل بعد ما فعله ابنه وهو الذي ظن أن راما أذابت جليده تماماً منذ دخولها حياته بل والأحري قلبه دون عقله. 

نعم دون عقله.. ابنه الغبي القاسي الجامد طوال ٢٩ عاماً من حياته منذ أن رآها تحرك ذلك الجزء الخامل بين ضلوعه لذا سارع للتمسك بها.. لرغبته في إحياء هذا الخمول والتمرغ بحبها وقد كان.. كانت له، حبها له، عقلها له، طفولتها له أيضاً.. شعورها بالانتماء والإمتنان كان له.. أفكارها باتت له.. تبلورت حياتها تماماً حوله وإن كان هذا الشعور من قبلها وكأنها تحيي مع شخص له كل الإحترام، التقدير، وكأنه تماماً والدها..

فبات اهتمامها الإهتمام بما يعطيه هو.. بما سيجلبه هو.. بما سيفعله هو.. 

كلاهما يحمل نسبة من الخطأ ولكن خطأه أكبر هو بدأ بالعطاء دون مقابل.. بدأ بعطاءه معها كأب كما يفعل مع يارا ولارا تماماً الأن.. 

هل ينتظر هو شئ من طفلتيه الأن إلا أن يكونا بصحة سالمة.. بعقل سليم.. ذوات اجتهاد وتفوق.. لذا كل من يارا ولارا سيرون عطاء والدهم حق مكتسب لهم.. وهو كذلك.. 

وهو كذلك مع راما أيضاً.. حين أعطي بسخاء لدرجة جعلتها تتعايش مع هذا العطاء كحق مكتسب لا يجب أن ينقطع ولا يجب أن يتذمر هو منه.. 

ولذا ولأنه سخي في عطائه إلي الحد اللامحدود فقط رأي عطائها هبائاً.. رأي عطائها طفولياً ساذجاً.. بالكاد كان يلمحه أساساً.. ووقعت الفجوة بعقله وكلما مر الوقت كلما اتسعت دون علمها.. ودون تفكير من جهته لحل تلكَ الفجوة بالمناقشة معها.. وبالنهاية نتيجة انغلاقه علي نفسه بما يزعجه لهذا الحد منها.. أدي إلي تدخل شياطينه وأفكاره السوداء.. أدي إلي طردها من حياته مع أول مشكلة حقيقية وقعت لهم...

كان ظناً منه أنه بهذا يغلق الفجوة التي تبتلعهم ولكن لا.. بل إزدادت.. ولم يعد وحده بداخلها بل أدخل عائلته الصغيرة بها أيضاً.. زوجته وأطفاله.. خطأ من هذا.. خطأه من البداية تماماً!. 

والحال أنه كان يري أخطائها فقط علي مدار أكثر من أربع سنوات ظناً منه أنه لا يحتل جزأً من تفكيرها وكيانها كما أصبحت هي كل كبيرة وصغيرة بحياته. 


كل هذا كان فاروق يشرحه بغضب بعد أن قرر انهاء عذابه بإشارة منه لرجاله ليبتعدوا عن راكان تاركينه أرضاً يشرب دمائاً وألماً.. ثم ركب سيارته آمراً ابنه أن يتبعه وبصعوبة كان راكان يقف مترنخاً ليندث جوار أبيه.. متجهاً معه لمكان لا يعرف وجهته.. تأوه بين الحين والأخر من ألم صدره مع سعاله بشكل قوي لينظر له رؤوف قائلاً: هذا لا شئ مقارنةً بالألم الذي سببته لزوجتك، ابنة صديقي رحمه الله الذي ائتمننا عليها، ألم أوصيك عليها وعلي بناتك قبل السفر لأعود وأجد تلك... 


لم يكمل كلامه لأن راكان قاطعه: أبي أنتَ لا تعرف ما حدث.. 


قاطعه رؤوف بحدة شديدة: أنتَ الذي لا يعلم أي شئ، لم أظنك بذلك القدر من الغباء. 


زفر رؤوف بعمق متجاهلاً حيرة ابنه من حديثه المبطن قائلاً: بدون نقاش سنذهب الأن لزوجتك وستردها إليك. 


يرد التفاحة له.. يرد فتاة الينسون.. يعيد بهجة حياته المنقطعة لعصمته.. يعيد ما فقده بغباءه كما يقول أبيه.. 

أغمض عينيه وهو يبتلع آهاته مُفكراً أن والده لن يصلح بينه وبين راما إلا إذا كانت بريئة بالفعل.. إذاً فوالده توصل لمفتاح حل هذا اللغز الذي عجز عن حله وحتي إذا لم يفعل فهو تعب وهرم من مرارة الفقدان وإشتياقه لها بحرارة.. وأبيه كان الدافع للخطوة الذي لا يستطيع تخطيها لها.. 

مع أفكاره العاصفة لم ينتبه أن أبيه توقف أسفل بناية غريبة لا يعرفها وترجل من السيارة منتظراً إياه ببهوها،، ترجل هو الأخر لاحقاً بهِ ببطئ أمام المصعد وما إن فتح باب المصعد حتي تحدث رؤوف بقسوة: ستصعد درجات السلم، المصعد ليس لأمثالك، الشقة بالدور السابع ستجد الباب مفتوح ولن تدخل قبل أن تأذن زوحتك فالشقة لها. 


كم كانت الكلمات قاسية علي مسامعه من والده.. كيف يشعر الأن وكيف شعرت هي وهو يقذفها بالأقسي من تلكَ الكلمات.. ابتلع غصة مريرة بحلقه قبل أن يتحدث بصدق وهو يستند علي الحائط جواره: راما لن تتحمل رؤيتي هكذا.


خائف نعم خائف عليها من جراء قسوته وصدماتها المتتالية، خائف أن يصيبها شيئاً، وبالأحري خائفاً من رفضها.. أن ترفض العودة له.. فهو يصعب عليه ما فعله بها رغم حنوه رغماً عنه منذ أن وعدها أن يكتشف الحقيقة أولاً.. ولكن لم يكتشف شيئاً وكأن هذه المرأة ليست بشرية ولا وجود لها وهذا كان كافي ليجعل شياطين أفكاره تفكر بالكثير والكثير مما يُسيئ لها.. ولم يجد سبيلاً لبرائتها رغم أن السبيل واضح وقلبه الذي مال بعد اسابيع فقط أكبر دليل.. 

ولكن ألا يعرف مكانة والدته عند أبيه.. ألا يعلم أن لو كان لراما دخل بالفعل بالأمر عن قصد لكان أبيه أقسي من قسوته بمراحل عليها الأن،، ضاق صدره بألم لم يعد يحتمله خاصةً مع جملة والده التي شقت المتبقي من تماسكه تماماً:

ستتحمل أتعرف لماذا؟.. من أجلك ستتحمل.. ستتحمل لتداويك.. ليتكَ تفهم. 


أهو لا يفهم.. هو ضائع.. هو من تخلي وتمزق.. هو من باع ومرض.. هو من ظلم وندم وما أشد ظلمه.. ما أشده لأنه كان منه فقط دوناً عن غيره.. هو الأمان فكيف يظلمنا الأمان؟. 


صعد درجات السلم ومع كل درجة كانت عظامه تقطع بأعصابه وأحساسه.. مع كل درجة زاد ألمه وزاد ندمه.. مع كل درجة يقترب منها يشعر بصغر حجمه مقارنتاً بها.. كم يتلهف للقاء وكم يخشاه.. كم يتلهف لرؤية حبها وليس هلعها علي هيئته.. كم يهفو لإزالة تلكَ الحادثة وما حدث بعدها من ذاكرتهم جميعاً وخاصةً هي.. كم يهفو بكل أنانية أن تكون محافظة علي عهدهم الذي نقضه هو بكل غباء ظناً منه أنه سينال شيئاً لا يعرف ماهيته ولكنه سيريحه.. 

وها هو الأن سيحصد نتائج أفعاله.. ومن منا لا يحصد ما زرعه.. وكيف سيحصد راما زرعها حديثاً..؟!. 


■■■


وصل أخيراً بعد أمواج تعصف بقلبه وعقله بين الأفكار، الألم والخوف، وجد الباب مفتوحاً كما أخبره والده فاستند عليه بتعب بالكاد يلتقط أنفاسه بعد أن قطع سبع طوابق علي قدميه التي نالت نصيبها من الضرب أيضاً وأغمض عينيه بتزمق ما إن استمع لشهقتها الملتاعة والذي لا يستحقها أبداً. 


سمعت هي صوت صدمة الباب بالحائط ما إن استند عليه لتنظر له بحيرة مترقبة.. فهي انصاعت خلف رغبة والده بأن تثق بهِ وتأتي معه لمكانٍ ما وبعد أن أقنع والدتها أيضاً بأن راكان نادم علي ما حدث وسيعيدها لعصمته شارحاً لهم بالتفصيل من تلكَ المرأة ولما فعلت هذا وأن هذا الموضوع يخصه هو وحده ولن يسمح بتشتت عائلة ابنه بسببه. 


شهقت بقوة وهي تقف من مجلسها بعد أن رأته بهذا الشكل المخزي والمدمر تماماً والذي أذي قلبها بشدة وهي تناديه بذهول: راكان. 


كان سيدخل لولا هتاف والده: توقف مكانك قبل أن تسمح زوجتك لا دخول لكَ. 


وصغيرته كانت أجدر بالثقة، الرابطة والحب وهي تعفيه من الإحراج قائلة بسرعة تسابقت دموعها معها علي حاله: ليدخل بالتأكيد يا عمي. 


وحالها بين صدمة وألم فأسلوب والده معه كان ما صدمها.. ولكن لن تنكر أنها ممتنة لأنها وجدت من يقف معها أخيراً وخاصةً والده.. ارتعشت علي صوت رؤوف وهو يسبه زاجراً: أدخل أيها الوضيع. 


جفلت من اللفظ البذيئ الذي أطلقه والده عليه ورغماً عنها امتعضت ملامحها باستنكار تلكَ الصفة بهِ حتي بعد ما فعله،، رأته يدخل بوهن يُحاول أن يجد شئ ليستند عليه لذا دون تفكير كادت تتقدم له مسرعة قبل أن يُمسكها رؤوف من ذراعها قائلاً برفق: تمهلي يا ابنتي. 


ثم ناقضت نبرته الرفق تماماً وهو يأمره بقسوة: ردها إليكَ هيا. 


ارتجفت شفتاها بقوة وهي تنظر له ببعض الهلع.. هل سيعيدها زوجته حقاً.. هل صدق وآمن بكونها بريئة.. تعلقت نظراتها البريئة بشفتيه تُتابعه وهو يهمس بإعياء شديد وخفوت:رددتك لي. 


تنفس بقوة بعد الكلمتين ليسألها والده: موافقة يا ابنتي. 


هزت رأسها بنعم وهي تندفع له لتسند جسده أخيراً وهي تراه يقف بصعوبة بالغة لا يجد ما يستند عليه ليضع كل حملهِ عليها رغماً عنه وكانت الصغيرة كفيلة بهذا الحمل لتترك داخله شعور قاتل جاش بصدرهِ ويلاً.. وزاد رؤوف هذا الشعور وهو ينهره بحدة: أتري ماذا تفعل هي رغم ما فعلته أنتَ، فلتري كيف ستداويك هي لعلك تعود لرشدك وتنهي قسوتك المتخلفة تلكَ وتعرف من الصديق ومن العدو. 


تقدم منهم بعد ذلك ليرمقه بإزدراء لم يخلو من الشفقة علي حاله قبل أن يربت علي رأس راما قائلاً: أتريدين شئ يا حبيبتي. 


نفت برأسها بملامحها الحزينة ليبتسم لها بدعم قائلاً قبل أن يتركهم مغادراً: سآتي لكم بالبنات غداً. 


ما إن أغلق الباب عليهم حتي نظرت للمستند عليها بكل قوته لتحدثه بإرتجاف: راكان ساعدني تحرك لترقد علي الأريكة. 


خطي معها خطواته ببطئ حتي أراحت جسده علي الأريكة وهتفت وهي تضع خلفه بعض الوسادات الصغيرة ببكاء: أعمي من فعل هذا بك؟.


أراد رفع يديه بصعوبة لوجهها فأنزلت هي رأسها له وتمسكت بكفهِ الذي وضعه علي وجنتها ليتحدث وهو يحرك أصابعه ماسحاً دموعها: لا تبكي.. لا استحق دموعك.


وكأنه أخبرها ألا تكف بكاءاً.. إزداد بكائها وهي تهتف بعد أن سمعته يتحدث بشق الأنفس: هل أنتَ بخير.. هل تتألم بشدة.. 


ثم شهقت وهي تتابع: ياإلهي. 


عاد يخبرها بالحقيقة وخوفها يخدش قلبه بسكاكين تالمة: لا تخافي علي،، لا استحق كما قال أبي بالفعل. 


كان يسعل بين حديثه لتنهره قائلة وهي تقف من مكانها: اصمت يا راكان اصمت.. ارتاح وأنا سأبحث عن شئ أضمد بهِ جراحك. 


بعد قليل كانت تقترب منه بلهفة بإناء مملوء بالماء وقطن وبعض المعقمات التي وجدتها بالحمام لتجلس جواره قائلة بحزن باكي: أسفة هذا سيؤلمكَ قليلاً ولكن تحمل. 


أبعد وجهه عن يديها التي تداويه قائلاً بألم قلبه: توقفي.. توقفي بالله عليكِ. 


شهقت باسمه ببكاء مذبوح وقد وعت لما يُعاني منه: راكان. 


راقبت صدره الذي يرتفع وينخفض بتسارع وسعاله الذي يزداد لتقل وهي تحاوط وجهه بخوف: أرجوك أرجوك دعني أساعدك.. لا تفكر بشئ الأن.


ثم وقفت مهرولة للمطبخ،، أحضرت له الماء وساعدته بشربه لعل سعاله يخف ثم تابعت إزالة الدماء الجافة عن وجهه وتطهير موضع الجروح وهي تتجاهل ملامحه المتشنجة من رعايتها له.. من تفانيها بتلكَ البراءة الفطرية التي تحملها.


تابعها مُتجاهلاً ألمه ودون وعي همس: اشتقت لكِ يا تفاحة. 


سعل بعد ذلك لتنهره مجدداً بخوف: لا تتحدث راكان يبدو أن صدرك بهِ شئ لماذا تسعل هكذا؟. 


أومأ لها قائلاً بمزاح وهو يتأوه: لقد كانوا رجال أبي قاسيين قليلاً. 


شهقت كطفلة وزمت شفتيها وهي تمسد صدره بهدوء أسفل قميصه المفتوح ليرتعش صدره أسفل أناملها الرقيقة وأغمض عينيه تاركاً هذا الشعور الرائع يتخلل شعوره بالذنب تجاهها ولم يعي لنومه أسفل حركات يديها التي تخفف ألمه. 


■■■


دخلت المنزل مُتعبة.. تشعر بدوار طفيف.. وممتنة لأنها وصلت المنزل أخيراً.. حلت عقدة شعرها الذي طال مُتخطياً كتفيها قليلاً فهي لم تعد تقصه بعد إصرار دوروك وحبه أن يراها بالشعر الطويل.. ولكنه يطول بصعوبة نظراً لأنها كانت دائمة علي قصه. 


تركت حقيبتها التي تحتوي علي الكاميرا الخاصة بها علي الطاولة قبل أن تجلس بأريحية علي الأريكة.. تريح جسدها للحظات ولكنها غفت دون شعور بسبب إرهاقها من جلسات التصوير اليوم.. فهي أسست لنفسها عمل.. وافق دوروك عليه بصعوبة وهو يري أنه عمل مهلك وهي ليست بحاجة للعمل أساساً.. ولكن بالنهاية وافق كما لا يرفض لها أي طلب أبداً.. وبدأت تعمل بالتصوير والترويج لأشخاص، لأماكن ولمواقع أيضاً. 


بينما هي تغفو مرهقة كان دوروك يأخذ نتائج تحاليلها من المعمل قبل خروجه من المشفي.. وضع التحاليل بقلب خافق جواره وهو يقود عائداً للمنزل.. معه تقرير سيقول ان كانت تحمل بين أحشائها طفلاً أم لا.. أربع سنوات لم يشأ الله أن يرزقهم بطفل رغم سعيهم مع الدكاترة ورغم أن مشاكلهم الصحية بسيطة إلا أن كل النتائج حتي الأن سلبية ولكن هيهيا زوجته الشغوف الحنون الإيجابية دائماً ونقية القلب كانت هي من تدعمه في أغلب الأوقات ببسمتها وعدم تأثرها وإن كان تمثيلاً يفطن له وهو الأخر لا يُبالي بطفل طالما هي معه.. يجوبان العالم معاً.. يستمتعان بحياتهما معاً حتي يشئ الله.. لقد آمنت أنها أخذت ابتلائها ومصيبتها دفعة واحدة ببداية حياتهما معاً وهكذا حدث فمنذ تلكَ الليلة وهي تعيش معه السعادة علي أكمل وجهها حتي ولو بدون طفل. 


رنين هاتفه تصاعد بنغمة بسيطة وليست مشتعلة كما كان منذ خمس سنوات وأكثر حين كان طائشاً مُغامراً ولا يُبالي وكانت حورية المتصلة.. أجابها فوراً مُجيباً سلامها: وعليكم السلام كيف حالك يا ماما.


أخبرته بسعادة: أنا بخير ياحبيبي إليكَ البشارة.


قطب ملامحه مبتسماً يُحب حديثها جداً: لا أفهم أي بشارة. 


بعد حلم عاشته مع زوجها الحبيب في منامها وقد أخبرها أن طفلتهم هيا حامل استيقظت سعيدة لأجل ابنتها لتجيبه: اليوم ستأخذون تقارير هيا صحيح. 


تنهد مجيباً: نعم معي سأفتحها مع هيا في المنزل. 


همهمت قائلة بعبث: ألم تفهم بعد.. جائتك بشارة من حماك.. أن زوجتك حامل. 


قطب حاجبيه مع رفرفة قلبه كطفل صغير: رحمه الله.. ولكن كيف.. كيف لا أفهم. 


ضحكت لتخبره: آمين يارب، لقد حلمت بدياب أخبرني أنها حامل وما يقوله المتوفي في الحلم صحيح يا بني. 


تململ مكانه وهو يسرع من قيادته قائلاً بعدم تصديق: حقاً.. حقاً أي أن هيا حامل. 


ضحكت مجدداً علي لهفته: نعم واثقة مائة بالمائة. 


شكرها ليغلق الهاتف متوقفاً أسفل البناية ولم يستطع صبراً لتأكيد كلام حورية ففتح التقرير ليراه والنتيجة إيجابية.. هيا حامل بالفعل.. وأخيراً استجاب الله لدعواتهم.. لم يدري ان دموعه تجمعت في عينيه جاعلة من رؤيته شبه مستحيلة ليضحك وهو يمسحها بارتعاش قبل أن يصعد لها.. ارتعاش متولد من شعور جديد تماماً..شعور أبوي لدي النطفة الصغيرة بأحشاء زوجته.. قطعة أخري منها. 


■■■ 


حضرت طعام الغداء لها ولمالك ولدياب الصغير صاحب الثلاث سنوات.. ثم نادت مالك ليساعدها بحمل الأطباق لغرفة الطعام فصرخ قائلاً وهو يحمل أخيه الصغير المتعلق برقبته ويتوجه لها: لا يريد دياب أن أتركه. 


ضحكت وهي تقول: حسناً لا يهم سأحضره أنا أذهبا واجلسا. 


وضعت أخر طبق علي الطالة وجلست جوارهم متابعة بحنان دياب الجالس علي قدم مالك رافضاً الجلوس علي كرسيه.. كانت فرحة صادمة لها حين أصبحت حامل بعد أقل من سنة أخري منذ عودتها لمنزلها.. أصرت علي تسميته دياب أيضاً معاندة ومصممة علي وجود ذكري أبيها وصغيرها الراحل حتي لو كانت ذكراهم لا تنسل من ذاكرتها أبداً.. فيكفي عائلتها ذكري والدها وزوجها ذكري صغيرها. 

وقد جاء دياب طبيباً للكثير لها ،لصهيب، لمالك وحتي لحورية. 

كم هي سعيدة بنموه أمام عينيها دون مشاكل.. بحب مالك له الذي يغدقه تدليلاً وحناناً وما فقدهُ مالك لبعض السنوات أعطاه لمالك بسخاء. 


خرجت من شرودها ومالك يتحدث: ألم يتصل أبي بعد. 


تنهدت برفق تجيبه: اتصل إنه في الطريق عائد ولكن أمامه الكثير من الوقت. 


سأل بترقب حذر: هل قال كيف أصبحت جدتي. 


تنهدت مجدداً.. داخلها مشفق وشامت.. تحاول ألا تكون شامتة بما حل بها ولكنه حدثها الذي لم يصدق حتي الأن أنهم أبرياء من دم طفلها يجعل بداخلها قدراً من الفرحة بما حل بها ولكنها تعود وتقول أي شماتة ستفهمها امرأة جنت بعد الأن!.

جنت نعم.. الجنون كان نصيبها بعد وفاة الجد والصدمة اكتشافها بعد وفاته أنه قام بتوزيع تركته بأكملها علي الجمعيات الخيرية!.

يُكفر عن ذنوبه.. يعلم أن لا أحداً من أحفاده يحتاح له أو لأمواله.. يعلم أيضاً أنهم سيرفضوا تلكَ التركة وسينهبها الجميع وأولهم هي زوجة ابنه التي تشابهه حقداً وتخلفاً. 

لقد توفي وحده بعد كل هذا العمر.. توفي وحده رغم عائلته الكبيرة.. توفي دون شعور أحد به.. وكم كانت لحظة مدمرة لحظتها وهو يتلفظ الشهادتين عالماً أن لا أحد سيحزن عليه حتي من يأويهم بحقدهم أسفل منزله حتي الأن!! مدركاً أنهم ينتظرون موته.  

ندم أو لا.. ذلك الندم شئ كان يراوده بأخر أيامه.. جعله يعطي ثروته الطائلة للجمعيات الخيرية لعله شئ ينفعه في أخرته بعد كل أخطائه بحق الجميع ونفسه. 


بعد صلاة الفجر كان صهيب يدخل منزله بكل هدوء.. لا يريد إصدار صوتاً فيوقذهم ولكن رسيل كانت بانتظاره.. لذلك بعد جلوسه متعباً علي الأريكة بهذا الظلام وجدها من خلفه تضيئ بعض الأنوار الخفيفة وتقبل عليه ببسمتها البشوش المتعاطفه مع حالته، جلست جواره لتحتضنه ويبادلها هو بصمت واحتياج مريحاً رأسه علي صدرها بخمول مرهق. 


بعد دقائق سألته برفق: هل أنتَ بخير. 


أومأ لها بصمت ليعدل من جسده علي الأريكة واضعاً رأسه علي قدميها مستسلماً للنوم لتسأله مجدداً بحنان وهي تحاوط وجهه وتقبل جبهته برفق: ألا تستطيع أن تنهض معي.. لتنام بغرفتنا يا حبيبي كي يستريح جسدك. 


حاوط خصرها بذراعيه قائلاً: أتركيني هكذا قليلاً. 


ابتسمت علي طفولته تجيبه بخفة: سأكون معك أيضاً. 


تذمر زافراً وهو يقف معها لغرفتهم.. أبدل ثيابه فقط وساعدته بذلك ثم ألقي جسده علي السرير  منتظراً إياها.. كانت تلقي بثيابه بسلة الثياب الغير نظيفة وقبل أن تستلقي جواره سألته: ألن تصلي الفجر أولاً. 


أجابها وهو يمد ذراعه لها بتذمر: صليت بالجامع. 


ابتسمت وهي تجلس جواره مجدداً محاوطة لرأسه ومداعبة لخصلات شعره حتي ينام قائلة: تقبل الله يا حبيبي. 


ظلت تمسد علي رأسه هكذا حتي غفي كلياً مراعية حالته وعدم رغبته بالحديث بهذا الوقت ومساءاً تركت دياب المتذمر من الصباح يريد والده جواره علي السرير ليوقظه بطريقته الخاصة وذهبت هي تحضر طعام الغداء لهم.


استيقظ صهيب مسروراً بحماس وصياح طفله الصغير الذي بدَّل تماماً حالة الآسي التي تعتريه كلما زار والدته بالمصحة التي وضعت بها لمتابعة حالتها.. احتضن طفله بنعاس ليقبل وجنتيه الممتلئة بشغف ولكن الصغير تسلل من بين ذراعيه متذمراً من هذا الحصار ليهتف بحماس: بابا اللعب.


يريده أن يلاعبه ولكن صهيب نائماً بالفعل وجسده يؤلمه جراء الطريق الطويل ذهاباً وإياباً في يومين ليري والدته بضع الدقائق، لذا أخذ يُنادي علي زوجته: رسيييل. 


وأخذ دياب يهتف بسعادة: ماما ماما. 


أومأ صهيب يخبره بتأييد: نعم اذهب لماما هيا. 


فتحت رسيل الباب حينها لتلتقط دياب حاملة إياه قبل نزوله من السرير مستمعاً لحديث والده، جلست جوار صهيب تخبره ببسمة عابثة: مساء الخير يا حبيبي، ماذا هل دياب يزعجكك. 


تذمر صهيب وهو يسحب الوسادة علي رأسه صائحاً: خذي طفلك واخرجو من الغرفة. 


ضحكت تجيبه وهي تزيح تلك الوسادة بصعوبة من بين يديه عن رأسه: إنه طفلك أيضاً، هيا قم يا حبيبي لتصلي سيؤذن المغرب قريباً ولتأكل شيئاً هيا. 


نظر لها زافراً بإرهاق لتتابع بحنان وهي تمسد علي صدره: هيا وبعد صلاة العشاء نم ثانيةً. 


زفر مبتسماً لها: حاضر اتركي دياب هنا حتي أفق. 


أومأت له وهي تترك دياب جواره قائلة: الغداء بعد قليل سيجهز حالما تفق وتصلي. 


أومأ لها لتتركهم مع دخول مالك الغرفة متسائلاً: بابا حمدا لله علي سلامتك. 


ابتسمت وهي تنظر لتلكَ العائلة الرائعة قبل أن تخرج من الغرفة لتكمل إعداد الطعام لثلاثتهم تاركة مالك ودياب يرفهون عن أفكاره الحزينة قبل أن تجلس وتنفرد هي بهِ لتسمع كالعادة دون كلل أو إبداء تذمراً من حديثه عن حالة والدته. 


#يتبع.. 


عارفة إني اتأخرت جدا جدا جدا بس حقيقي والله مش بإيدي.. كنت عايزة أنزل الفصل الأخير كامل بس مش قادرة أخليكم تستنو أكتر من كدي عشان كدي قسمته لجزأين لحد ما أخلص كتابته❤❤❤