الفصل الثامن والثلاثون - شهاب قاتم
- الفصل الثامن والثلاثون -
~ فجأة يتوقف الكلام و تبدأ النظرات ، كلهم ينظرون إليك كأنك أغرب شيء في هذا العالم
(أحمد خالد توفيق)
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
وقف شاردًا وهو يبتلع من آن لآخر تلك العبرات التي تحاول إرغامه على البُكاء ولكنه حاول التماسك قدر الإمكان فهو الوحيد الذي عليه أن يبدو كالجبل الصلد الذي يستند عليه الجميع..
ولكنه بشر بالنهاية، فقد شخص عزيز عليه مثله مثل الجميع، لا يستطيع نسيان العديد من الذكريات العديدة التي جمعته بجدته هنا بتلك الحديقة التي فقدت رائحة الطفولة والأمان التي لطالما كانت تفوح منها..
صوت ضحكات الجميع، المحادثات الجانبية، اللهو سويًا وتلك الألعاب الطفولية التي كان يترأسها دائمًا، بدايات وقوعه في عشق زوجته، عناق "نجوى" إليه أول مرة آتى بها لذلك المنزل..
لم يكن يتخيل أبدًا أن مجرد النظر والوجود بمكان ولادة أجمل ذكريات قد يتحول للعنة مُقيتة بالحزن الجارف الذي لا نهاية له..
شعر بلمستها على كتفه فالتفت ناظرًا إليها بشبح دموع بمقلتيه حاول أن يسجنه بصعوبة لتهمس هي له:
- عملتلك قهوة، أنا عارفة إنك منمتش من امبارح..
ناولته الفنجان ليومأ لها "سليم" بإمتنان ثم تحدث لها بصوت منخفض صرخ به الحزن مثله مثل الجميع:
- شكرًا يا حبيبتي.. انتي كمان يا زينة محتاجة تنامي، حاولي تريحيلك ساعتين..
ابتسمت بإقتضاب ومرارة حزن ولكنها نظرت له في لوم بزرقاويتيها ثم أخبرته:
- واسيبك برضو!!
جذبها نحوه وهو يُقبل جبينها وقربها إليه محاوطًا خصرها بذراعه وبدأ في ارتشاف قهوته بيده الأخرى وتحدث بنبرة عجت بالشجن ليهمس لها:
- كده كده الساعتين اللي جايين دول كلهم إجراءات، غسل ودفنه وتصريح وشهادة الوفاة، على الأقل لازم تريحي شوية
عانقته بكلتا ذراعيها واستندت برأسها على صدره ثم حدثته بإرهاق قائلة:
- مش هاقدر اسيب طنط شاهي وماما وطنط نور، لازم أكون جنبهم، بالذات ماما، انت عارف مهما كان فيها إيه وبتعمل إيه بس من ساعة ما تيتا تعبها بدأ وهي جات قعدت معاها بشكل دايم.. كانت بتحبها اوي يا سليم!
أومأ في تفهم وهو ينظر أمامه وقد ابتلع من جديد تلك الغُصة التي تكونت بحلقه ليتحدث بحرقة وهبطت احدى دموعه رغمًا عنه قائلًا:
- مش قادر انسى يا زينة، فاكرة اول مرة عمي باعتلي الموبايل اللي نزل بكاميرا، تيتا كانت مبهورة!! اليوم ده مش قادر انساه بكل ما فيه.. كل تفاصيل اليوم ده بالذات عمالة تيجي في دماغي.. مش قادر اتخيل انها خلاص مبقتش موجودة، مش هاقدر افتح باب اوضتها واطمن عليها تاني.. مش قادر اتخيل إن يوم ما تيجي تولدي مش هاشيل ابننا او بنتنا وأنا داخل عليها ومستنيها بس تبص وتضحكلي وتقولي يتربى في عزك..
ازداد بكاءه لتمرر يدها على صدره ثم رفعت عينيها له وتساقطت العبرات من عينيها ثم قالت بهمس:
- سليم يا حبيبي ربنا يرحمها، كلنا كنا بنحبها، هي كمان كان التعب زاد عليها اوي، هي كده زمانها ارتاحت.. ربنا اكيد ليه حكمة في كل اللي بيحصل وفي اختياره للوقت ده بالذات.. علشان خاطري متعيطش..
أومأ إليها في تفهم ثم تمتم:
- ربنا يرحمها
أقبل "إياد" نحوهما ليجفف" سليم" وجهه بعد أن ترك القهوة جانبًا ورفعت "زينة" نظرها نحوه ليتحدث لهما في حُزن:
- سليم الدكتور جوا، وبعدين هاروح أنا اخلص الإجراءات.. خليك انت هنا مع خالو وماما وطنط شاهي.. اكيد هيحتاجوك
أومأ له "سليم" في تفهم لينظر "إياد" نحو اخته متحدثًا لها في هدوء قائلًا:
- قومي نامي يا زينة علشان انتي اصلًا تعبانة، سليم وعاصم هيكونوا موجودين.. كمان بليل هيكون خالو وآسر وصلوا.. ولسه هنحضر علشان العزا..
نظرت له في إباء بعد أن هزت رأسها ورفضت ما قال بلباقة لتتحدث له:
- معلش مش عايزة اسيب ماما.. كمان أروى تعبانة وعارفة إن منة معاها بس احسن اكون جنبهم..
أومأ لها في تفهم بينما حمحم "سليم" وكأنه سيتحدث لينظرا إليه فقال في تساؤل:
- أنا شايف إننا نعمل العزا في مسجد احسن من البيت، علشان الدوشة والناس.. إيه رأيكوا؟
أومأ له "إياد" بالموافقة بينما تحدثت "زينة":
- أنا رأي من رأيك، شايفاه إقتراح كويس
أضاف "إياد" هو الآخر:
- كلامك صح.. يالا أنا هامشي علشان الحق..
أومأ له كلاهما ليخبره "سليم" بخفوت ولكن بمسئولية شديدة وجدية وكأنه لم يكن يبكي منذ قليل وتحدث بجمود:
- ماشي، لو فيه أي حاجة محتاجها او حاجة في الإجراءات كلمني على طول.. خليك متابع معايا ولو حاجة حصلت كلمني.. ومتنساش تكلم المحامي وتحدد معاه معاد علشان إعلام الوراثة وكل الإجراءات دي تخلص بسرعة، أنا شايف يروح معاك كمان احسن!
أومأ "إياد" من جديد ثم غادر كي لا يتأخر لتعود "زينة" لتعانقه من جديد ثم همست إليه:
- عارف.. فكرتني بخالو اوى وانت بتكلم إياد وبتقوله يعمل إيه وميعملش إيه
زفر بعمق شاردًا أمامه ليرد هامسًا في آلم:
- لازم أكون شبهه، بدر الدين بعد اللي حصل ده عمره ما هيرجع زي الأول يا زينة.. لو مبقتش بدر الدين من دلوقتي كل حاجة هتبوظ!!
استمعت لتلك الكلمات منه لتشد من قوة عناقها له، منذ ليلة أمس تشعر وأن زوجها "سليم" بات غريبًا بطريقة جديدة عليه وعليها حتى ظنت أنها لا تعرفه، كلماته، ملامحه، وحتى تصرفاته.. يبدو غريب.. غريب للغاية.. لا تدري أهذا فقط للموقف الذي يمر على الجميع أم هناك شيئًا تغير به؟!
سيتضح كل شيء بالأيام المُقبلة على كل حال!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
مسح أوجه الجميع بنظرة سريعة من عينيه الداكنتين بعد أن تفحصهم بأعين حادة وملامح لا تدل على ما يفُكر به ولا حتى ما يشعر به وتابعت "فيروز" كل ما يحدث في تريث وإنتظار وتوجست بداخلها ما إن تصرف "شهاب" بعصبية ولكنه فاجئها عندما تحدث بهدوء وابتسامة دبلوماسية قائلًا:
- أظن كده كل الحلول بقت واضحة بالنسبة ليها وليا.. بعد اذنكم ممكن تسيبوني مع مدام سارة شوية!
نهض الجميع بعد أن حدق المحاميان ببعضهما البعض ونظرت له "سارة" في استغراب ونهضت كذلك "فيروز" لتغادر بعد أن شعرت بإستفزاز جم من نظرات تلك المرأة نحو "شهاب" منذ أن حضرا لتجد أنه يحدق بها بنظرة قاسية في تحذير ثم تحدث بنبرة آمرة:
- خليكي!
رفعت حاجبيها وتعجبت لغضبه الذي استشعرته من ملامحه عندما نظر إليها فجلست على مقعدها من جديد بينما زفرت "سارة" في تآفف ثم أخبرته بإنزعاج:
- ما كنت تتكلم قدام المحامي ولا..
قاطعها مسرعًا وتحدث بخفوت بنبرة أجفلت قلب "فيروز" وجعلت "سارة" تشعر بالرعب من تلك الملامح فابتلعت وهي تنظر له وهو يقول:
- بصي يا بنت أبو يوسف، انتي عارفة إني صايع، ولا أنا بيه ولا انتي هانم.. فهجيبهالك من الآخر وعلى بلاطة علشان منطولش اكتر من كده..
أنا عارف ابويا سابلك كام انتي وحازم في حسابتكوا بالودايع والتواريخ كمان، وعلشان خاطر حازم بس أنا هاسيبلكوا 2.5% من أرباح المجموعة كل سنة وهتبقى بإسم حازم.. تقولي حالا فين كريم يا إما مش هايعجبك اللي هيحصل!
امتعضت ملامحها وارتفع جانب شفتها العُليا بإستنكار وتخلت عن تظاهرها برفعة الشأن التي تتصنعها على الجميع ثم صاحت به:
- نعم!! 2.5%!! إيه؟! عايز تضحك عليا يا ابن الـ..
نهضت "فيروز" سريعًا وهي تتوجه نحوها بالرغم من الدهشة التي احتلت وجدانها بفعل كلمات "شهاب" وهما لم يتفقا على إعطاء "سارة" أي اموال ولكنها تدخلت بهدوء قبل أن يفقد هو أعصابه فقالت:
- مدام سارة.. حضرتك اكيد فاهمة كويس 2.5% من الأرباح كل سنة حاجة كبيرة مش صغيرة.. هتبقى بشكل دايم غير خالص المبلغ اللي كنتي فاكرة إنك هتاخديه.. مع إن في الحقيقة ممكن محضر بسيط بواقعة الإختطاف وبمعارفنا الموضوع يتحول لقضية، وكمان قضية إهمال في حق ابنك حازم، ده غير إن إعلام الوراثة مكنش فيه أي وصية لحازم أو لحضرتك!
نهضت "سارة" في استفزاز وهي تنظر لها في تقزز ليتابعهما "شهاب" بثاقبتيه وهو يعقد قبضتاه في تحفز وصاحت بغضب من جديد لتقول:
- نعم ياختي انتي كمان، وانتي مين أصلًا علشان تتكلمي ولا تقولي قضية ولا وراثة!
كادت أن تجيبها ليتدخل "شهاب" بنبرة هادئة مرعبة قائلًا:
- كلمة كمان ليها والفيديوهات موجودة.. إيه رأيك؟!
نظرت له "فيروز" بلوم بينما تقززت ملامح "سارة" وصرخت به:
- بقى انت يا ابن آمال هتيجي تهددني، طب أنا ماشية وعمك بقى ليه ولاده اللي هيدفعوا فيه اكتر!
كادت أن تغادر فأمسك "شهاب" بذراعها في عنف وتحدث بفحيح مميت نحوها من بين أسنانه المتلاحمة:
- مكالمة واحدة هتودي ابوكي واختك وولادها وحازم ابنك في داهية، انتي مالكيش عندي حاجة، ولو على عمي هاجيبه، هاعرف أوصله كويس اوي..
توقف للحظة بعد أن قرأ الإنزعاج وعدم قبول ما يفعله جليًا بعيني "فيروز" ليتدارك فعلته ثم تابع وهو يجذب احدى الملفات ورفعها أمام وجه "سارة" ثم قال:
- دي وصية أبويا، ودي كمان نسخة من تنازله ليا عن كل حاجة.. مش هاتطولي حاجة أبدًا.. لو لفيتي سنين ورايا في المحاكم مش هتعرفي تاخدي قرش.. يا تقبلي اللي قولت عليه وحالًا تجيبي عمي، يا فيه طُرق تانية كتير اوي اعرف اوصله بيها بس هبقى مضايق، وبلاش تضايقي شهاب الدمنهوري اكتر من كده واظن كفاية اللي حصلك.. ولا تحبي تجربي تاني؟ شكلك كده حبيتي الموضوع..
دفعها بعنف ليختل توازنها للحظة ولكنها أخذت تنظر بتلك الوريقات التي بالملف في صدمة شديدة وهي تتفحصها فابتعد عنها هو موليًا اياها هي و "فيروز" ظهره ليتنهد واضعًا يداه بجيبيه ونظر أمامه بجمود شابه نبرته التي تحدث بها قائلًا:
- مفيش خطوة برا المكتب ده هتتاخد غير لما اتأكد إن عمي في بيته، هتمشي ومعاكي الـ 2.5% بداية من ارباح السنادي.. ومش هتطولي جنيه غير لما حازم يتم 21 سنة.. المحامي مستني وممكن نخلص من الحوار في دقايق.. موافقة تمام، مش موافقة هيبقالي تصرف تاني!! فكري بسرعة وردي عليا!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
زفرت "فيروز" للمرة الألف ولم تعد تتحمل الجدال معه وشعرت بالإرهاق الشديد من مجرد فكرة اقناعه بشيء آخر أو حتى بإدراكه لخطأه بذلك الأسلوب الذي تصرف به وظلت ناظرة أمامها في شرود حتى لم تلاحظ أنه قد توقف بسيارته أمام ذلك الفندق الذي آتيا به مرة من قبل ليخرجها من تحديقها في اللاشيء مخبرًا اياها:
- يالا..
التفتت نحوه وهي تنظر له بغضب وخيبة أمل في آن واحد ليقابلها بملامح جامدة لتحدثه في هدوء:
- معلش يا شهاب، خللي الغدا يوم تاني و..
زفر بغضب ليصيح بها مقاطعًا:
- أنا مش ملاك!! والست دي مش هاينفع معاها غير كده.. أنا فاهم الأشكال دي كويس.. مش كل الناس هينفع معاها إني اتصرف صح وبالأخلاق العالية اللي انتي شايفة إنها صح.. واديكي شوفتي لما ضغطت عليها في خلال نص ساعة عمي رجع البيت!
نظرت له بحيرة وتجهمت ملامحها بالآسى فحاول هو البحث عن الكلمات لإلقاء تلك القنبلة بوجهها ليتحدث بحرقة ونبرة تصرخ بتصميمه الشديد على ما فعله ولكنه كان يتوسلها خلالها ليخبرها في تضرع وآتت كلماته غير مرتبة:
- فيروز.. انا.. انا كنت.. لما كنت في ايطاليا.. بعد آخر سنة في الجامعة.. كنت في المافيا!!
هي تعلم بذلك بالفعل، ولكن تلك الحالة التي تتحكم بعقلها غير الواعي بعشق ذلك الرجل الذي أصبح كالهواء الذي تتنفسه بالنسبة إليها، جعلت عينيها تتوسع في صدمة ليتابع هو بسرعة وهو يواجه صعوبة شاقة في نطق الكلمات:
- أنا مكنتش عايز، مكنتش عايز كده.. كان.. كان غصب عني و.. واللي حصل علشان اقبل اكون معاهم مكنش سهل عليا.. بس عرفت ناس كتير وازاي افرق الكويس من الوحش.. و.. ست زي سارة طماعة مكنش ينفع اتصرف غير كده واوريها الوش ده.. صدقيني دي كانت الطريقة الوحيدة.. أنا..
تنهد ثم أضاف بترجي وهو يتلمس ذراعها:
- أرجوكي متحكميش عليا بسرعة، أنا.. أنا شوفت كتير اوي علشان اوصل للي وصلتله ده.. بس.. بس انا سيبتهم من زمان ومبقاش ليا علاقة بيهم و.. أنا هاحكيلك كل حاجة بس.. و..
أغلقت عيناها وهي تزفر بخفوت ثم اشارت له أن يتوقف لتهمس بعد أن تذكرت اخيرًا كل ما تعرفه عنه وما أراها إياه "بدر الدين" بالسابق وقررت أن تتصرف بذكاء قليلًا بعد أن لمست به استعداده بالتحدث عن الأمر فقالت ناهية:
- خلاص يا شهاب.. كفاية..
تابع هو بلهوجة وتلقائية شديدة غلبت عقله وتواترت الكلمات من بين شفتاه:
- لا مش خلاص، لازم تفهمي كل حاجة.. أنا غادة رفضتني بسبب الفلوس، استعرت مني، ببساطة بعد استغلال سنين واني كنت بموت نفسي علشانها قالتلي كل اللي معاك ميجبش ربع فلوس بابي.. ووليد ساعتها كان بيزن عليا و..
قاطعته وهي تلتفت له في تساؤل:
- وليد مين؟
تنهد في إرهاق بعد أن أغلق عينيه لثوان ثم اجابها بصوت خافت:
- انزلي طيب وأنا افهمك كل حاجة..
ترجلا من السيارة وهي تنتظر مرور الوقت بفارغ الصبر بعد أن قام كلاهما بطلب الطعام الذي شعرت أنه كتحصيل حاصل فهي لم تعد تملك شهية بعد كل ما مر عليها اليوم معه فنظرت له بجدية وهي تعقد ذراعيها في تحفز وأشارت بوجهها نحوه:
- ايه اللي حصل بعد ما سبت غادة؟
تنهد وبحثت داكنتيه بوجهها المصمم على معرفة المزيد فعلم أنه لم يعد هناك مفر من الإدلاء أمامها بالأمر بأكمله فشرع في الحديث الذي بدأ بصعوبة ولكن كالعادة انسابت الكلمات بعدها أمام تلك الحدقتين اللتين تجبراه على الإذعان بكل ما تريده هي:
- انا قولتلك اني زمان.. قدمت على منحة و.. همّ كانوا كذا واحدة و..
حمحم محاولا التخلص من صعوبة الإدلاء بذلك لتضيق عينيها نحوه فتابع في النهاية في إستسلام:
- اتقبلت في الآخر في منحة لإيطاليا، وسافرت.. كان لازم اشتغل بعد وقت الجامعة.. والدي كان ساعتها لسه بيبتدي الشركة بتاعته وأنا أصلًا كنت خلاص اتعودت .. يعني.. مكنتش هاستناه يبعتلي فلوس، كفاية انه دفعلي تذكرة الطيارة!!
تنحنح من جديد وامتعضت ملامحه في تألم ليزفر ثم أكمل حديثه:
- كنت بشتغل في مخزن، يعني.. بليل كان لازم يكون فيه حد موجود، وبعد أول ترم تقريبًا كنت.. كان نفسي أ..
حك مؤخرة رأسه وهو يوشك على لفظ تلك الكلمات لينفخ أنفاسًا ثقلت كاهلة بذكريات لا يحبذ أن يتذكرها ثم رطب شفته السفلى ونظر بمقلتيها لترفع احدى حاجباها نحوه في تحفز ولا يدري أين ذهب هدوءها المعهود وأوشكت أن تتحدث بشيء فبدأ هو فأكمل حديثه مسرعًا:
- أنا لما كنت عايز اسافر كان نفسي اخلص من حياتي القديمة، كنت بحلم اكون ناجح وشاطر، عندي بيت وأُسرة هادية وفي يوم كنت بحلم بالبنت اللي احبها وتحبني، البنت اللي اختارها واتجوزها بعد ما نحب بعض.. كنت عايز حياة مرتاحة بعيد عن كل اللي عيشته زمان.. كان نفسي دلوقتي يكون جنبي مراتي وعندي ولاد وانا ناجح ومبسوط ومعايا فلوس وفي مكان احسن مليون مرة من اللي عيشت حياتي فيه!
اختلفت ملامحها وقد غادر الغضب عينيها لتنظر له بإختلاف تام ليبتسم في مرارة ثم تحولت لضحكة خافتة متهكمة منه ليسألها:
- مراهق اوي مش كده؟! حلم تافه جدًا!! أنا عارف.. فاكرة أول جلستين عندي في البيت؟ فاكرة كنت بحاول اخبي الموضوع ازاي؟
أومأت بالإنكار بعد أن رآته يطأطأ برأسه للأسفل لترد قائلة:
- لأ طبعًا يا شهاب، مش تافه ولا حاجة.. وآه طبعًا فاكرة، بس إنك تتمنى إنسانة تحبك وتحبها وتبقى ليك حياة ناجحة وسعيدة ومستقرة دي حاجة كويسة! دي قمة السعادة تقريبًا بمنتهى المنطقية، حياة سوية هادية.. تنجح في دراستك، شغلك، تنجح مع ست تحبك وتحبها.. يبقى عندك اولاد!! دي اجمل حاجة في الدنيا
رفع نظره اليها وابتسم نصف ابتسامة ورفع حاجباه ليضيف بإستهزاء:
- تعرفي لما شوفتها قبل ما اكلمها فكرت في اني اسمي بنتي منها كاميليا! غبي اوي مش كده؟
ابتسمت له بمصداقية وقالت:
- انا بحب اسم كاميليا على فكرة! ولا مش غبي ولا حاجة
ابتلع لترى تحرك بروز عنقه وشرد للحظات في مجرد تخيل ان تلك الفتاة ابنتها هي تحمل كل ملامحها التي تبدده عشقًا ولكنه استطرد في الحديث:
- بعد فترة، كان لازم نخرج، نتكلم، عزمتها برا.. بس في نفس الوقت.. كان فيه وليد!! عرض عليا كتير إني افتحله المخزن بليل علشان ده كان الوقت اللي أنا فيه هناك.. كان بيقول فيه حاجات بيحاولوا يتهربوا بيها من الضرايب.. وأنا.. أنا مكنتش اكيد عايز اعمل مشاكل علشان إقامتي هناك ودراستي.. وليد تقريبًا عرف كل حاجة عني، ابن مين، سافرت ازاي، كان مراقبني.. وعرف قد ايه أنا محتاج للفلوس!
ارتفع صدره ثم انخفض بفعل تلك الأنفاس التي غادرته وهو يحاول استلهام الشجاعة بينما تريثت هي ليُكمل:
- راحت مكان غالي اوي، وطلبت حاجات مكنتش هاقدر ادفع تمنها.. ووليد طبعًا كان موجود ومنساش يستغل الموقف على اكمل وجه.. قبلت اشتغل معاه علشان الفلوس اللي ادهاني حتى قبل ما أبدأ في حاجة معاه!
ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر له وقاربت على التحدث ولكن سبقها بملامح اختلفت في ثوانٍ ليضيف في تهكم:
- اليوم ده كانت بداية اللعنة!! .. ابتدى يجيب الصناديق اللي معرفش عنها حاجة في المخزن، اخد الفلوس اللي كانت بتزيد كل مرة عن اللي قبلها، وكل اللي كنت بفكر فيه هو ازاي اسعدها، نخرج، نتفسح، ابسطها، اجيبلها كل حاجة..
شرد بداكنتيه بعيدًا وازداد تقزز ملامحه ليتابع بصوت تجلى الآلم به:
- أنا كنت ازاي بالغباء ده، كانت بتستغلني اوي وأنا زي العبيط مش واخد بالي.. انا حتى في يوم كنت سهران في المخزن بذاكر.. جه ناس واتضربت على راسي وروحت المستشفى يومها!! مكلفتش حتى نفسها تجيلي غير مرة ومفيش دقيقتين ومشيت!
تنهد وطأطأ رأسه بآسى وهز رأسه في إنكار وتفاقمت عقدة حاجباه وتابع باصقًا الكلمات من بين شفتيه بمزيدًا من الإشمئزاز لتلك الذكريات التي لا يحبذ أن يتذكرها أبدًا:
- عملت مشروع صغير بعد كده، كانت عربية أكل يُعتبر، ووليد شغله معايا زي ما هو، بس ابتديت الاقيله صرفة في اي حاجة معصلجة معاه، مكان مش لاقيه ادورله عليه، نقل اتصرفله فيه من غير ما يتكشف، وقتها كان ابتدى يتأكد إن ذكي جدًا.. مكنش فيه مشكلة بيواجهها في موضوع الصناديق ده اللي معرفش ايه اللي فيها الا وحليتهاله.. لغاية ما خلاص قدمت على مسابقة لتصاميم في شركة في انجلترا، كنت في اخر ترم ليا في الجامعة.. وكنت اتعلقت بغادة جدًا..
في الوقت ده كان وليد عرفني حقيقة المافيا، وكان بيخيرني.. يا اكمل معاهم والموضوع يكبر يا ابطل خالص ومجبش سيرة وإلا ممكن أتأذي..
بعد ما قضينا يوم حلو اوي انا وهي وقولتلها اني بحبها، واخدت رأيها في الموضوع من غير تفاصيل، سمعتها تاني يوم بتكلم صاحبتها، بتقولها بالمختصر يعني إني مش قد المقام، واخري اساعدها في المذاكرة وبس والشخص اللي تقضي معاه ساعتين مش اكتر، وكمان عرفت انها كانت بتخوني مع هيثم.. بتنام معاه عادي جدًا حتى لما قولتلها اني بحبها بصتلي وضحكت ومفكرتش تصارحني بأي حاجة وقتها! كانت بتاخدني على قد عقلي..
أغلق عينيه وابتلع في مرارة وبغض كارهًا تلك اللحظات التي انفجرت برأسه كشريط لأحدى الأفلام الفاشلة فشل ذريع ولكنه تغلب سريعًا على تلك المشاعر ورفع رأسه إليها:
- فزت بالمسابقة، 500 الف يورو مكنش مبلغ قليل في مصر ساعتها، روحت وقولتلها نتجوز ومعايا فلوس، بالرغم من كل اللي سمعته قولت احاول معاها تاني، لكن رفضت.. ورفضت بأسلوب مش كويس.. كان لازم اخد حقي منها بعد ما جرحتني مرة واتنين وتلاتة.. ساعتها قبلت اشتغل مع وليد، مش عارف انتقام منها ولا من نفسي ولا علشان كان لازم في يوم تشوفني احسن من اللي اختارته وفضلته عليا، كنت عايزها في يوم تندم إنها فرطت فيا..
أنا كنت بسمع إن بتوع المافيا دول يقدروا يعملوا كتير اوي، قولت وماله، ده هيحققلي كل اللي حلمت بيه بسهولة،و اذا مكنش الحب والبيت والحياة الهادية اللي حلمت بيهم، يبقى الفلوس!! وافقت وليد بعدها..
سكت ثم شرد بالفراغ في صمت لتحمحم "فيروز" وهي تتفقده لا تدري أتلعن ذلك اليوم الذي عرفته به أم تنهض لتربت عليه كي لا يشعر بتلك الآلام التي تتضح عليه، قررت أن تتابع بعد أن تنهدت وحاولت أن تبدي ملامح تلقائية، ولكنها فشلت ببشاعة فسألته في النهاية هامسة:
- أنت اول مرة تكلمني عن وليد.. أنا عمري ما شوفته معاك، هو هنا ولا في ايطاليا؟
سلط داكنتي الصقر خاصته على وجهها وبسرعة شديدة غادر الآلم وجهه ليحل محله نظرة القاتل المتسلسل ولم تتقابل اهدابه وهو يجيبها:
- وليد مات.. أنا قتلته..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
نظرت "شروق" نحو المائدة العملاقة التي رُص عليها العديد من المقبلات وأدوات الطعام الفاخرة وهي لا تزال تحاول الوصول إلي زوجها "عمرو" الذي لا يجيبها منذ الصباح وكذلك لم يقض ليلة أمس بالمنزل ليزداد غضبها فآتت والدة زوجها لتسألها قائلة:
- برضو مبيردش عليكي؟
ادعت الإبتسامة ثم التفتت إليها لتجيب:
- اكيد يا طنط مشغول، انتي عارفة اجتماعات عمرو
همهمت لها في تفهم وهي تنظر إلي اعدادات المائدة ثم تحدثت لها في تصميم ونبرة لا تُبشر بالخير:
- عمومًا أنا ليا معاه تصرف تاني، ودي هتبقى أول وآخر مرة يخلي منظرنا كده قدام الناس، مع إني مأكدة عليه، مش هاسمحله يعمل كده فينا تاني
تنهدت "شروق" ثم حاولت أن تتابع الحديث معها بلباقة فقالت:
- أنا هاكلم لميس، اكيد عارفة هيخلص اجتماعه امتى..
تهكمت لها بإبتسامة تدل على التقزز من الأمر برمته لتزجرها ولكن بنبرة خبيثة:
- لميس!! بتوصلي لجوزك من واحدة شغالة عنده!! غريبة.. معرفش راجل ومراته ازاي وفيه بينكم مرسال.. يا ريت يا حبيبتي تبقي تخلفي طفل منه، على الأقل ساعتها هيبقى مربوط بيكي اكتر من مجرد اسمه في بطاقتك.. يالا أنا رايحة اشوف جهزوا الحلويات في المطبخ ولا لأ علشان الضيوف.. وآه متنسيش.. متكشريش في وش الناس علشان همّ ملهومش ذنب في فشلك مع جوزك!
كادت أن تنفجر من الغضب وذلك الإستهزاء بكلماتها التي لا تتوقف عن تسميمها بها كلما سمحت لها الفرصة لتتناول نفسًا مطولًا ثم أخذت تضغط بغل على شاشة هاتفها لتتحدث إلي "لميس" وبداخلها تصمم أنها لن تستمر في تحمل هذه التُرهات!! يكفي كل ما تحملته بسبب هذا الزواج الفاشل وبسبب والدتها وصديقتها الذي بين يوم وليلة أصبحت والدة زوجها!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
توسعت عينيها في صدمة وارتبكت في نفس تلك اللحظة التي آتى بها النادل وهو يرفع طعامهما ويُنزل بدلًا منه طبقان للتحلية وانتظره "شهاب" بفارغ الصبر أن يذهب وهو يتابع توترها وسرعة تنفسها التي تغيرت ونظراتها إليه التي لم ترأف به وصمتها منذ أن اعترف لها بمقتله لـ "وليد" وما إن انتهى النادل تحدث من جديد بنبرة فارغة من المشاعر:
- إيه؟! مستغربة إني قتلت؟! علشان كده قاعدة ساكتة من ساعتها؟!
رفعت نظرها إليه لتجده يبتسم نصف ابتسامة مُرعبة لتتنحنح وابعدت خصلات شعرها خلف اذنيها ليكره هو ما تفعله به بتلك التحركات العفوية منها وتناولت نفسًا مطولا وهي تحاول البحث عن الثقة لتومأ له بالإنكار فهي لن تستطيع أن تُفسد تلك الصراحة التي ترسخت بينهما فحاولت انتقاء كلماتها ثم اجابته:
- أنا مش مستغربة إنك قتلته لأنك قولتلي قبل كده إنك قتلت حد.. هو بس.. الموضوع غريب!! يعني من كلامك واضح إن وليد هو اللي ساعدك.. يبقى ليه تقتله؟
ضحك بخفوت دون إبداء ملامح تستطيع أن تقرأ هي شيء خلالها ولكنه في النهاية اجاب سؤالها بجدية وهمسٌ مرعب:
- أنا قتلت ناس كتير، وليد كان لازم يموت علشان هو الوحيد اللي يعرف مين شهاب الدمنهوري اللي لسه جاي من مصر معاهوش اللي يكفيه لغاية آخر الشهر!! مكنتش هاقدر اخاطر بإنه يهددني باللي يعرفه ويدمر سمعتي في مصر!! كنت خلصت من الكل ووليد كان اخر واحد!
ابتلعت في خوف من تلك الإجابة وذهب عقلها ليُفكر بما قد فعله بالسابق أيضًا وأمسكت بالشوكة وهي تجبر نفسها على تناول ما أمامها، فأيًا كان ما ستفعله سيكون أفضل من المواصلة في ذلك الحديث وأخفضت رأسها في تظاهر بأنها تنظر لمكونات الصحن ليأتيها صوته المستفسر مصحوب بهدوء مُربك:
- إيه!! كنتي فاكرة شهاب حلو اوي مع الكل زي ما هو حلو معاكي؟
رفعت رأسها وهي تحاول التغلب على تضارب المشاعر بل وتفسير ما قد يدفعه لفعل كل هذا ولأول مرة تشعر أنها تائهة أمام مريض أو حالة من حالاتها بمثل هذه الطريقة فأجبرت ابتسامة مقتضبة ثم اجابته قائلة:
- شهاب، كونك قاعد قدامي وبتعترف بحاجة زي دي فأنا مقدرة ده ومقدرة ثقتك فيا، أنا بس عايزة أسألك سؤال!
رمقها بعقدة حاجبان في تفحص دون أن تتلاقى اهدابه وأشار بوجهه أن تتابع حديثها والسماح لها ففعلت وسألته:
- هو انت لو عرضتك الظروف تاني لأي موقف، ممكن تقتل ولا لأ؟!
نظر لملامحها ولأول مرة يشعر بالتوتر وتعالت خفقات قلبه بينما حاول التظاهر بعكس كل ما يحدث له ليجيبها في ثبات هائل:
- لأ.. علشان أنا عايز اتغير بجد
ابتسمت له وحاولت أن تُصدقه بالرغم من عدم اقتناعها ليسود الصمت وعادت لتناول طعامها بينما ذهب هو تفكيره بعيدًا متخيلًا أن يخبرها بأنه لن يكون أبدًا ذلك الرجل اللعين الذي اعتاد أن يكون عليه، ود لو استطاع أن يُطمئنها بأنه سيتغير فقط ليصبح كل ما تتمناه هي في رجل ولكن خوفه بأن يُدلي بعشقه لإمرأة فاق كل شيء آخر!! لن يستطيع التحمل وقتها إن رفضته ولن يتخيل حتى ما قد يفعله بها إن أبت عشقه وردته خائب الأمل بهذا العشق..
حاول تناول محتويات طبقه ولكنه وجد نفسه يعبث به ليتنهد ثم تحدث في النهاية:
- عارفة، لو كنت واثق في وليد كنت استحالة أأذيه، وليد مكنش كويس، كان مستغل، كان حاقد على اللي وصلتله لأني كنت احسن منه وبقيت مهم اوي عند "كارلو" واخدت مكانة كبيرة في العيلة، عيلة المافيا اقصد، وأنا عمومًا عمري ما بأذي حد غير لما بيبتدي هو الأول!
رمقته في قليل من التردد ولكنها قررت أن تستفيد من شبه هذه الجلسة بذكاء تام خصوصًا انهما ليسا بمنزله وتحلت أخيرًا بالثقة فقالت:
- يعني كلامك معناه إنك أذيت غادة؟ علشان هي اللي ابتدت؟!
تفحصها وهو يبتلع ثم القى بالشوكة من يده واراح جسده في كرسيه لتلاحظ كزه لأسنانه التي اتضحت بفكيه وأومأ لها في النهاية بجمود لتعلم أنه فعل وهي من كانت تعلم بالفعل ولكنها تعجبت لمزيدًا من مصداقيته معها فلقد علمت الكثير من "غادة" نفسها قبل أن تلقاه فتابعت:
- بس، ازاي تأذي حد بتحبه؟
تناول نفسًا مطولًا ثم اطلقه وقلب شفتاه في استهزاء وتحدث سائلًا بإستنكار ونفور لاذع ونبرة امتلئت بالآلم:
- وهي ازاي استغفلتني الفترة دي كلها؟
حمحمت وهي تترك شوكتها جانبًا وتابعت حديثها:
- بس مهمًا كان، الواحد لما بيحب بجد بيـ..
قاطعها مسرعًا:
- انا مبسبش حقي قولتلك! وهي اللي ابتدت.. ومظنش الطرق اللي رفضتني بيها وخيانتها ليا كانوا يستاهلوا غير اللي عملتوا فيها..
تابعته بعينيها وهي ترى غضبه ثم نهض ليوليها ظهره وأخرج سجائره ليتناول احداها وشرد أمامه بمياة النيل فنهضت هي الأخرى ووقفت بجانبه وهي تتفحصه عاقدة ذراعيها لتهمس سائلة:
- أنت عملت فيها إيه بالظبط؟
نفث دخانه ثم التفت ليرمقها بنظرة جانبية لا تبشر بالخير واعاد نظره أمامه ليجيبها بجمود:
- اجبرتها تمثل، زي ما كانت بتمثل عليا!
لم تكن تلك هي الإجابة التي تريدها فتابعت وسألته من جديد:
- أنا مش فاهمة قصدك.. تمثل ازاي؟
التفت ليُصبح أمامها وهو ينفث دخانه من شفتاه إلي احدى الجوانب حتى لا يُزعجها به واقترب إليها ولم تترك داكنتيه رماديتيها فأقبل أكثر نحوها ثم اجابها:
- خلتها تنام معايا.. مثلت انها بتحبني.. وبعد كده بقيت بغتصبها!
حمحمت في توتر لصراحته المؤلمة التي اربكتها أكثر بينما اقترب هو إليها لتعود هي للخلف وهي تنظر له في استغراب ليتحدث من جديد:
- مكنش هيليق بيها غير كده، ده الحل الوحيد مع واحدة زيها، خاينة، كدابة، مستغلة بكل الطرق! متخافيش اوي ووشك يصفر كده.. انتي لسه متعرفيش عني حاجة!
ارتعبت من تلك الإبتسامة التي تلاعبت على شفتاه بمصاحبة نظرة عينيه المخيفة وهي لا تدري لماذا يقترب منها بهذه الطريقة ليتابع بإبتسامة حديثه الذي جعلها ترتبك:
- بس معندكيش فكرة شعوري بالراحة الرهيبة بعدها لما باخد حقي من حد، وليد، العيال اللي كانوا في المدرسة، غادة!! وغيرهم كتير!
حاولت التحلي بالشجاعة لتحدثه بثقة:
- بس دي تصرفات غلط يا شهاب، مينفعش بمجرد ما حد يغلط فيك تعمل فيه الحاجات دي، مش احنا اللي بنحاسب، وده اقدر اقولك إنه مربط الفرس زي ما بيقولوا.. انت شخصية معادية للمجتمع، هي دي السيكوباتية، هتفضل تفسر كل حاجة على اساس إن الناس والمجتمع همّ السبب وانت كنت مجرد رد فعل بغض النظر عن الطريقة الغلط اللي كنت بتتصرف بيها..
أطلق ضحكة متهكمة بخفوت صاحبها زفرة ليرد قائلًا:
- يعني معنى كلامِك إن يعتدي عليا حد عادي، وإن واحد ممكن يهددني ويخسرني كل اللي أنا بنيته عادي، وأن واحدة اقولها بحبك وتاني يوم اشوفها في حضن غيري عادي، زي ما كنتي عايزاني مضغطش على سارة واهددها مش كده، زي ما انتي عايزاني اروح لآمال واسامحها وانسى كل اللي حصلي بسببها..
اقترب نحوها بغضب ولم تتباعد اعينهما إلي أن ارتطم جسدها بالطاولة خلفها لتجده يمد يده حتى كاد أن يعانقها وهو يُكمل الحديث لتتوسع عينيها في توتر وهو يتفحص حدقتيها بنظرات قاسية:
- اراهنك إني لو أذيت حد واحد بس من غير ما يأذيني..
كادت أن تصرخ به كي يبتعد فابتعد هو من تلقاء نفسه لتجده أنه كان يُلقي ببقايا سيجارته في المنفضة خلفها لتتنفس في راحة لإبتعاده بعد أن شعرت بأن أنفاسه لا تزال تنعكس على وجهها وحاولت للمرة المائة اليوم أن تتحلى بالثقة فتوجهت لتقف بالقرب منه وسألته:
- الفكرة في إن التصرف غلط.. مش كل حاجة لازم ننتقم قصادها.. كونك بتبرر الإنتقام ده معناه إن أفكارك السيكوباتية زي ما هي وعمرها ما هتتغير!
ضحك بتهكم ليرمقها بنظرة جانبية وقال بإستهزاء:
- لا المفروض منتقمش ومبررش واستنى عدالة السماء مش كده؟
تنهدت وهي تهز رأسها بإنكار وقالت:
- وليه متقولش إنك انت اللي كان عندك مشكلة ومفهمتش غادة مثلًا من الأول ومكنتش تستاهل إنك تعمل فيها اللي عملته! قبولك إنك تكون في المافيا كان قرار غلط مع إن كان في ايدك تبعد.. إنك تحرق أطفال من دورك ده مكنش التصرف الصح!! كنت ممكن تاخد حقك بطرق تانية كتير!
عاد لينظر لها من جديد وتفحص ملامحها بعينيه وهو لم يعد يطيق اقترابها منه بهذا الشكل ولكنه حاول أن يكبح تلك الإرادة اللانهائية التي تسيطر على كل حواسه بأن يقترب منها بأي طريقة ليجد نفسه يتابع شفتيها لثوانٍ وقبل أن تشعر هي بالإستغراب عاد ليُكمل حديثهما:
- غادة واحدة قذرة وتستاهل كل اللي عملته فيها..
التفت لينظر امامه بأنفاس متثاقلة لتطرق هي على الحديد وهو ساخن بذكاء وسألته:
- هي غادة الوحيدة اللي عملت معاها كده.. اقصد.. يعني لما قولتلي إنك اغتصبت، هي دي اللي كنت تقصد عليها؟
زفر بحنق ولم ينظر نحوها واجابها عاقدًا حاجباه:
- لأ! أنا الستات عندي واحد!
اندهشت من كلماته لتسأله من جديد:
- هي دي كانت أول مرة ليك؟ اقصد يعني.. اول مرة.. اول مرة تمارس فيها علاقة مع واحدة؟
التفت وحدق بها لوهلة بعد أن شعر بصعوبة نطقها بتلك الكلمات التي شعرت هي بمدى غبائها فهذه ليست اول مرة تسأل رجل مثل هذا السؤال ولكن للأسف كل شيء يتعلق بـ "شهاب" دائمًا تواجه صعوبة هائلة وهي تتعامل معه فآتاها صوته المجيب:
- كانت اول مرة آه..
ابتلعت وحاولت التحكم في ملامحها قدر المستطاع وسألته مجددًا:
- لو دي اول مرة، والستات عندك واحد.. ده معناه إنك بتجبر كل الستات اللي معاك؟
توسعت ابتسامته لتتحول ملامحه لتلك الملامح الجذابة البعيدة كل البعد عن الحزن والتألم وكذلك بعيدة أيضًا عن ملامحه المرعبة ليجيبها:
- مش إجبار بس.. فيه حاجات كتيرة تانية!
تفحصته بجدية ولكن قليل من التوتر سيطر عليها وحاربته بضراوة لتهزمه واستعادت شجاعتها واستكملت لتسأله:
- زي؟
زفر بعمق وقد راقه ذلك الحديث ليتابع بإبتسامة خبيثة:
- زي!! ضرب، كلام معين، ربط، عنف.. عمومًا انتو اللي بتحبوا الحاجات دي وبتتبسطوا بيها جدًا.. لو ملقتوش الراجل هو اللي متحكم بالذات وقت العلاقة وبيجبركوا لى كل حاجة مبيدخلش دماغكوا..
اندهشت ملامحها لتبتسم وحدثته بثقة بعد أن نجح في استفزازها ببراعة:
- واضح إن مفاهيمك عن العلاقة غلط.. العلاقة مش عنف واجبار وتحكم من الراجل وبس! وبعدين مين انتو؟
ابتسم في عدم موافقة ابتسامة جانبية ليسألها:
- قصدي الستات عمومًا.. وليه متبقاش مفاهيمك انتي اللي غلط، مش يمكن إن انتي اللي مجربتيش العلاقة بالشكل ده!
تركها ثم عاد للطاولة ولم ينظر نحوها بتاتًا وبداخله كل الثقة أنها من ستتبعه بعد أن قصد أن يجرح كبرياءها حتى تثرثر أكثر في هذا الأمر وكان ما أراده فآتت لتجلس أمامه وحدثته بأنفة شديدة:
- الفكرة مش إني أجرب، الفكرة في إن العلاقة الجنسية بين الراجل والست مفيهاش اجبار ولا ضرب ولا عنف ولا أي كلام يجرح، بالعكس، لازم يكون فيها مشاعر وحب ورضا من الطرفين، اتفاق ما بينهم بيحبوا ايه ومبيحبوش ايه، تفهم لإحتياجات كل طرف واحترامها، عدم أنانية، سعي من الراجل ومن الست إنهم يرضوا بعض.. مش اجبار وتهديد وذل يا شهاب! الست بالذات لو حصلها كده بتدمر، الإهانة والذل والإعتداء الجسدي ابشع حاجات بالذات في العلاقة الجنسية!
نظر لها يتفحصها وهز رأسه في إنكار وابتسم بمكر ثم قال:
- صدقيني بس علشان انتي مجربتيش الموضوع انتي شايفة كده..
أغلفت عينيها وهي ترفع حاجبيها وابتسمت بإقتضاب لتختفي ابتسامتها سريعًا وحلت محلها ملامح جادة لتقول:
- أولا الموضوع ملهوش علاقة بجربت او مجربتش، ثانيا لو كان الراجل بيتم إثارته لما يهدد واحدة ويهينها ويذلها ويجبرها يبقى عنده إضطراب، والعكس صحيح، لو الست بتحس بالإثارة عن طريق حاجة زي دي وراجل بيهددها او بيهينها يبقى هي كمان عندها مشكلة.. ثالثا أنا واحدة دارسة مش بتكلم من خبرتي في الحياة.. واكيد انت مش هتفهم كلامي لأنك..
تريثت لبرهة بينما عقد حاجباه وهو ينظر لها في استفسار وجدية لتضيف اخيرًا:
- مجربتش!!
قهقه على كلماتها في استهزاء ولكنها لم تخفض ذلك الحاجب المتأبي لفكرته وحديثه الذي تفوه به لتتابعه هي بعينيها في صبر ليتكلم هو بنبرة مصحوبة ببقايا ضحكته:
- أنا اللي مجربتش!! انتي بتقارني نفسك بيا!! انتي متعرفيش حاجة عن الموضوع ده بالذات..
ابتسمت هي له وتحدثت في ثقة:
- طيب مع إن مش دورك إنك تسألني وتعرف جربت إيه ومجربتش إيه، بس بما اننا اصحاب انا هاكلمك في الموضوع عادي ونركن بقا علم النفس على جنب.. أنا على الأقل كنت في علاقة طبيعية بجوزي وبنحب بعض وبنحترم مشاعر بعض وبنقدر بعض.. إنما أنت يا ترى جربت إنك تمارس علاقة طبيعية فيها حب ومشاعر وحنان وهدوء؟!
ست بتقدرك وتفهم احتياجاتك وتقدر حالتك النفسية ومزاجك متقبل العلاقة في الوقت ده ولا كل اللي جربته شوية مرضى بيستمتعوا بالذل والإهانة وعنفك معاهم وأنت بتعمل كده من باب الإنتقام من صورة الست اللي اترسخت في عقلك وبس؟!
يا ترى وصلت إنك تمارس علاقة مع الست اللي بتحبك وبتحبها زي ما حلمت في يوم من الأيام، تنام في حضنها وتاخدها في حضنك بعيد عن الإنتقام والشهوة وبس؟!
أنوثتها ونظراته لها وذلك التحدي الخفي بين كلماته قد لاحظته ولم يسمح كبرياءها بأن يستقبل تلك الإهانة فعصفت بثقته التي بددتها في ثوانٍ.. تتحول من معالجة نفسية، وصديقة لإمرأة أخرى تستخدم أسلوبًا يثير الغثيان لا تجده سوى بالعلاقات المُسممة وحدها فحسب.. ولا تدرك ما تفعله، أنوثتها التي تعشقه، السعي وراء إقناع ذلك الرجل الذي استمال قلبها إليه بذلك التحدي لا ينطلق سوى من شفتان تحاولا أن تستميله أكثر إليها كي يُصبح رجلًا جيدًا لها وحدها فحسب..
لاحظت اختفاء ضحكاته وملامحه المستنكرة ليحل محلها ملامح غاضبة في استنفار وتثاقلت أنفاسه في غضب لمجرد تخيلها مع زوجها تمارس الجنس معه بتلك الطريقة التي تحدثت بها وربط صورتها وملامحها وجسدها ونبرة صوتها بالإجتماع برجل آخر سواه ليكز أسنانه لتضيف هي:
- اتنرفزت ليه؟ علشان حقيقتك ولا علشان افكارك غلط؟
نهض وهو ينظر لها بمزيد من الغضب لترفع نظرها إليه في تحدي لا تدرك حتى أنه تحكم بها وأغضبه للغاية ليشعر بالإهانة منها وهو لا يسلط تركيزه بكل ما تحدثت به سوى شيئين فحسب.. أولهما انها لا تقبل العنف في العلاقة وهذا لا يستطيع الحياة دونه، وثانيهما أنها تظن زوجها العاهر افضل الرجال، ومجرد تلك الفكرة أشعلت لهيبًا بحواسه..
ابتعد وأشعل احدى سجائره من جديد لتتبعه هي الأخرى بثقة ووقفت بالقرب منه وقررت أن تتحدث بجدية بعيدًا عن أجواء التحدي لتتكلم في هدوء:
- الراجل والست لما بيكون ما بينهم حب، تفاهم، احترام، قبول ومودة ورحمة، مشاعر وتقدير، معندكش فكرة عن السعادة اللي ممكن تكون ما بينهم.. مش بس في الممارسات، أنا اقصد في الحياة عمومًا..
التفت لها وقد بدء غضبه في التلاشي بفعل نبرتها التي تبدد كل مشاعره أيًا كانت وتُخضعه للهدوء لتتابع هي:
- فاكر من شوية قولتلي إنك في يوم كنت بتحلم بالبنت اللي تحبها وتحبك!! ازاي كنت عايز حياة هادية وعلاقة جواز ناجحة بالحب والهدوء وكنت هتجبر مراتك تنام معاك!! الحب مشاركة يا شهاب، مش اجبار ولا إهانة وذل وعنف..
أنا عارفة إن اللي حكتهولي عن علاقتك بغادة واللي عملته مكنش سهل، سواء خيانة أو رفض بطريقة مش كويسة، وهي غلطانة بس انت رديت الغلط بغلط، ومأخدتش بالك إنك اذيت نفسك.. يمكن وأنت لسه مسافر كنت لسه فكرتك متكونتش بشكل كامل، وبإنتقامك من غادة بعد ما حبتها ده أثر عليك..
عقد حاجباه في استفسار لتحمحم هي وتابعت بثقة ولكن حاولت أن تبدو نبرتها هادئة:
- أنا مش هانكر إن يمكن لو كانت علاقتك انت وغادة كملت كان فيه جزء كبير اوي من السيكوباتية اللي عندك ممكن يهدى وكنت هتبقى إنسان ناجح ومبسوط معاها بس.. او على الأقل لو كانت حبتك وحبتها مكنتش هتبقى عنيف في علاقاتك كده! كانت درجة السيكوباتية عندك قلت..
تنهدت لتتفاقم عقدة حاجبه وهو يشعر بالآلم الشديد من كلماتها لتعود هي لتُكمل بعد أن تحلت بالشجاعة لتقف أمامه وهي تحدق به بعينيه لتسأله:
- هو أنت علاقاتك كلها كانت مع ستات بس.. أقصد يعني محصلش إنك مارست في يوم علاقة مع راجل او اطفال او..
اشتدت ملامحه في قسوة وإنكار ليقاطعها بحدة:
- انتي اتجننتي مش كده!! انتي فاكراني شاذ مثلًا؟
أومأت بإنكار لتردف سريعًا:
- أنا بحاول اشوف سبب العنف ده، سيكوباتية ولا..
نظر لها في تفحص ليراها تبتلع في توتر عندما توقفت من تلقاء نفسها ليزفر في ضيق متسائلًا:
- ولا إيه؟
حمحمت لتجيبه سائلة بتوتر:
- عمرك استمتعت بأي ممارسة بعيد عن إنك تعنف الست وتضربها وتهينها و..
زفر في حنق شديد من أسألتها المتوالية ليقاطعها بغضب:
- لأ!! لازم اعمل كده علشان اتبسط
ابتلعت في صدمة وهي ترمقه ليبتسم لها متصنعًا البلاهة وهز كتفاه في عفوية لتتضارب تصرفاته فالآن يبدو غير الذي كان عليه ليتساءل في تهكم:
- هتهربي وتخافي وتجري مش كده؟
تنهدت وهي تنظر له في توجس وخيبة أمل:
- بعد اجاباتك دي.. كده انت مش بس غرضك إن شهوتك اللي بتوجهك وخلاص فممكن تمارس علاقة مع اي حد.. أنت باللي قولته ده يبين إنك عايز تهين وتجبر الست اللي قدامك وتعنفها.. ويبين إنك.. إنك عندك ميول سادية يا شهاب!!
توسعت ابتسامته في ثبات هائل وبنيتيه لم تفارقا حدقتيها الصافيتان، لم يعد حقًا يكترث بمعرفة لونهما لأنه قد سأم هذه الحقيقة ليُردف لها بنبرة فارغة من المشاعر:
- ما أنا عارف.. ومبسوط جدًا كده!
رفعت حاجبيها ثم نظرت إليه نظرات متفرقة ولأول مرة تشعر بالتردد الشديد وعدم ارادتها لإستكمال حديث معه، بدا اليوم كرجل غريب تمامًا، وكأنها لم تعرفه، وكأنها لم تر تلك التسجيلات المصورة له لتشعر لا تدري، بالخوف، التردد، ضرورة الهروب.. ربما الهروب يبدو حلًا جيدًا.. فعلتها بكياسة وتهربت لتتفقد الوقت بساعة يدها ثم رفعت بصرها إليه لتتحدث قائلة:
- أنت كنت واعدني نروح لطنط آمال، الساعة قربت على ستة المغرب ولسه على ما نوصل، يالا..!
زفر بعمق ولوهلة تفحص وجهها المُصمم على الذهاب بينما تريثت هي في صبر ليومأ لها بالنهاية بالموافقة وإذعان لكل ما تريده هي ليقول:
- يالا..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يُتبع . . .