-->

الفصل الأربعون - شهاب قاتم

 


- الفصل الأربعون -


     

~ الفارق بين شياطين الإنس والجن هي أن البشر لا يصفدون، وإذا استعذت منهم لايفرون

( حياة الياقوت )

      

نظر نحو "هاشم" الذي وصل لتوه بإبتسامة دبلوماسية واقترب ببشاشة رسمها على ملامحه وصافحه بحفاوة ليبادله الآخر بينما قال:

- أخيرًا وصلت، ده أنا قاعد هنا من امبارح مستنيك

توسعت ابتسامة "هاشم" وهو ينظر له بإندهاش وحدثه ليقول: 

- ياه للدرجادي.. سهران من امبارح ولا إيه؟ 

أومأ له وهو يشير له أن يجلس على احدى الأرائك بمكتبه وجلس بالقرب منه والتفت له بإهتمام وتصنع الإنشغال ليرد مجيبًا:

- اديك شايف أنا حتى مغيرتش لبس امبارح، والشغل مبيخلصش! 

أومأ له بتفهم ليحدثه بنبرة تحمل بعض التعاطف ومن ثم الإعجاب:

- أكيد.. بس مظنش حد زيك لو مكنش شاطر مكنش هيعرف يوصل لكل ده

توسعت ابتسامة "شهاب" الذي تنهد في النهاية وقال بعد أن أومأ في موافقة:

- بس أظن واحد لواحده غير اتنين .. علشان كده أنا عايز اتكلم معاك النهاردة في كل حاجة .. بس قولي الأول نشرب قهوة امبارح اللي ملحقنهاش نشربها سوا ولا تحب تشرب حاجة تانية؟

يا له من طفل ساذج، لم يأخذ معه وقتًا أكثر من ساعة واحدة فقط.. ساعة ليقتنع أنه أخيه الذي فرق بينهم الزمن بوحشية ضارية، وكم كان "شهاب" مخطِئ بما فعله، كم وقع ضحية للعديد من الكذبات وبنفس الوقت لم يدعه يعلم ولو حرفًا واحدًا من تلك الحقائق التي أخبرتها إياه والدتهما، والآن لا يجد من يثق به، خاصةً وأن أغلب العاملين بالفرع الرئيسي بالشركة ولائهم بالكامل كان لأبيه، ولا يدري بمن يثق..

ارتدى واحدًا من تلك الأوجه البريئة المقنعة التي تعود لواحدًا من الضحايا المظلومين، اعتر ف بحاجته الشديدة لوجود من يثق به، عرض مالي رائع لن يجده "هاشم" سوى بعد سنوات وسنوات من العمل والمجهود لشاب في مقتبل سُلمه الوظيفي، وعندما حاول اخباره أنه لا يملك الخبرة الكافية نظرًا لصغر سنه وعدم معرفته الكافية بمجال العقارات ومجال الحسابات بها أقنعه أنه بالطبع يحتاج للتدريب والمزيد من الدراسات التي سيوفرها له، وحتى وإن أراد أن يترك العمل معه بعد سنوات له الحق في ذلك ولكن في هذا الوقت يحتاج إليه بشدة، فلم يجد أمامه حلًا سوى الإقتناع الشديد بكل تلك الخيالات التي رسمها له "شهاب".

هو ليس عنيدًا كأخته، هذا سيمهد له الطريق كثيرًا فيما يريد فعله لاحقًا، هو الآن يملك أخيه إلي جانبه بالعائلة والعمل بالرغم من اتفاقهما سويًا بأن تظل هويته، أجره، وكل ما بينهما في الخفاء بعيدًا عن بقية العاملين وإلا الجميع سيأخذون ضده موقفًا منذ البداية وسينظرون له كدخيل ولن يفصح له أحد عن أية حقائق يخفونها عن "شهاب" الذي تصنع أنه فقط يريد الإطمئنان على كل ما يحدث خلف الستار ليس إلا، سيكون مجرد موظف بنفس درجته بالبداية ولاحقًا سيدعه يملك المسمى الوظيفي وكامل التحكم.. كما وعده أنه لن يُؤذي أحد ولن يؤثر هذا على وظائفهم.. اقتنع بمنتهى السهولة..

كان مسكينًا، لا أحد يعهد مع الشيطان عهدًا ويأمن في النهاية!!

فعل ما أراده بمنتهى السهولة، الخطوة المُقبلة سيكون عليه أن يعيش معه بنفس المنزل حيث والدته التي سيُحضرها لاحقًا ولإقتراب مقر الشركة الرئيسي الذي سيعمل به من المنزل، والأهم من كل ذلك، أنه ابتعد تمامًا عن "فيروز"!

     

ابتلع بصعوبة وهو يحاول الحديث بنبرة مُجهدة وابتسامة مقتضبة فهمس إليها:

- مش ناوية تروحي شوية تنامي علشان العزا بليل؟

أومأت بالإنكار وعينيها تمتلئ بالدموع لتجيبه: 

- مش هاسيبك يا بدر، مش هامشي من هنا خطوة غير لما تمشي معايا

ازدادت ابتسامته قليلًا ليُحدثها بإمتنان: 

- أنا خارج بليل، هخلص كورس المحاليل ده بس وهامشي، أنا لازم أكون موجود في العزا.. متخافيش..

أقتربت نحوه وهي تقبل احدى كفاه وأومأت من جديد بالإنكار لتقول برفض منيع:

- مش هتاخد خطوة برا الأوضة دي غير لما الدكاترة يطمنونا

تنهد في إرهاق ليقول بإنزعاج:

- يا نوري أنا كويس، هو بس علشان الضغط مش أكتر.. وبعدين هتمنعيني يعني ولا إيه؟!

كادت أن تتحدث في نفس الوقت الذي دخل به "سليم" و "زينة" غرفة المشفى التي نُقل إليها ليلة أمس وتوجه فورًا نحو والده ليقول بنبرة مرحة قليلًا تناسب الموقف:

- متدلعش يا بدر وتعمل عيان، شوية هبوط ومحاليل وهترجع بمب تاني، قوم يالا عندنا عزا بليل..

ابتسم "بدر الدين" بإقتضاب ليخبره متنهدًا:

- بقول لأمك كده مش عايزاني أخرج، الظاهر عايزة تورثني .. وبعدين يا ابن الكلب مينفعش اتعب مرة من نفسي؟

نهضت "نورسين" وهي تنظر له بغضب شديد ثم نظرت نحو "سليم" لتصيح بجدية:

- عاجبك اللي بيقوله ده! أنا رايحة أكلم دكنور واطمن بفسي، مش تيجي كده وتقوله يقوم ويمشي وعزا.. مش هايخرج غير لما أتأكد إنه كويس..

التفتت لتغادر بخطوات سريعة فابتسمت "زينة" بإقتضاب ثم تبعتها حتى لا تتركها وحدها وأغلقت الباب ليعقد "سليم" حاجباه ونظر نحو والده ليسأله:

- بابا أنت كويس بجد ولا بتعمل كده علشان ماما؟

رمقه للحظات قبل أن يُجيبه ليزفر وهو يحدقه ثم اجابه بنبرة حزينة:

- عمري ما هابقى كويس بعد نجوى!

ابتسم له في اقتضاب وأومأ له ليخبره بحزن مماثل:

- ربنا يرحمها يا بابا، أنا يمكن ربنا عوضني بيك أنت ونوري.. بس عمري ما بنسى أمي!

تشاركا الصمت ليشرد "سليم" متذكرًا العديد من الذكريات التي جمعته بوالدته منذ أكثر من عشرون عامًا ليلاحظ والده إختلاف ملامحه الشديد فعقد حاجباه متصنعًا الإنزعاج وحدثه زاجرًا:

- جرا إيه يا ابن الكلب، هتعملي فيها بدر يا حيلتها، مفيش غير بدر واحد بس

ابتسم له بإقتضاب بعد أن نظر إليه وهمس له متحدثًا:

- عمري ما أقدر أكون ربعك حتى.. واستعد بقى، الدكتور هيجي يطمن عليك وهتخرج.. هتروح تنام كويس علشان العزا بليل، مش هاسمحلك تسبني لواحدي!

قرأ الخوف في أعينه لينزعج كلاهما مما قاله وكلاهما يعلمان مقصده الحقيقي من تلك الكلمات ليبتلع ثم جذب يده يشد عليها في دعم ليخبره في مزاح:

- متخافش.. لسه فيا صحة.. بكرة ارجع أفرتكك تاني زي الأول ياض

انخفض "سليم" برأسه ليُقبل كف يده ونظر إليه بدموع مكتومة بمقلتيه ثم أمسك بيده يشد عليها هو الآخر ليهمس له:

- متعملهاش تاني، أنا مش هاقدر على حاجة من غيرك..

دمعت عينا والده هو الآخر بينما تصنع المُزاح بالرغم من تلك الغصة التي اجتاحت حلقه ليتكلم بصعوبة قائلًا:

- متقلبهاش دراما بقا جتك البلا.. قوم يالا هاتلي الهدوم علشان البس ونمشي بعيد عن جو المستشفيات والصعبانيات ده...

أومأ له بتفهم بينما جفف احدى دموعه التي هبطت رغمًا عنه لينهض قائلًا:

- حاضر يا بدر!

     

لقد انتصف النهار منذ ساعة وإلي الآن لم يتحدث لها، وهي تمنع نفسها بأعجوبة عن الإتصال به، ولكن أهكذا ستكون طريقته في مواجهة الصدمات؟ لتكون إذن!! يكفي ما تحملته من تقلبات عجيبة واعترافات مؤذية بالأيام الأخيرة منه!

صفت تلك السيارة التي أعطاها لها منذ أيام ولا تدري لماذا تستخدمها ولا حتى لماذا تظل معها إلي اليوم فزفرت في ضيق وبداخلها تصميم جم على أن تعيدها إليه اليوم ولن تقبل منه أن يمنحها إياها وحتى ولو على سبيل الإمتنان لكل ما فعلته معه..

شعرت بالإنزعاج الشديد كلما تذكرت حديث احدى الموظفين بالمدرسة معها بتلك اللهجة التي تُخبرها أن كثرة اجازاتها ستكون السبب في عدم استكمال عملها ولن يسمحوا لها بأكثر من ذلك وقد كان كافيًا أنهم تحملوا غيابها لأكثر من سنة بسبب وفاة زوجها ولكن الآن لن يستطيعوا تحمل عدم وجودها بصفة دائمة.. تلك اللكنة المتهكمة جعلتها تشعر بالغضب، بل تى دفعها لتُفكر أن تترك العمل بتلك المدرسة وستذهب لتعمل بإحدي المستشفيات أو حتى مدرسة أخرى ولكنها لم تتقبل تلك الكلمات جيدًا..

دخلت وهي تسير بالمصحة في طريقها لمكتبها وهي تُفكر كم أهملت بكل شيء بالأيام الماضية، نعم لقد أحتاج إليها "شهاب" ولكنها كذلك فرطت في كل شيء بحياتها فقط لإرضاء غرورها الشديد بأن تنجح في أن تبدأ رحلة علاج طويلة غريبة لا نهاية لها مع هذا السيكوباتي.. لماذا جعلته أولوية على كل حال؟!

تركت حقيبتها على المكتب وتوسلت بداخلها ألا تواجه احدى المحاضرات مع مدير المصحة عن تغيبها عن العمل مثل ما واجهته اليوم صباحا في المدرسة ولكنها تعجبت عندما رآت المكتب الآخر الذي يخص زميلها "وائل" فارغًا من كل شيء لتحمحم وتركت هذا الفكر بعيدًا فيكفي كل ما يحدث لها منذ أمس.. لأول مرة منذ كثير من الوقت تشعر بأنها تائهة!!

استمعت لطرقات على باب المكتب لتصيح حتى تُسمع الطارق:

- اتفضل..

دخل احدى الممرضات وهي تبتسم إليها بطريقة جعلتها تندهش من تلك الإبتسامة السعيدة للغاية فحدثتها في حماس:

- حمد الله على السلامة يا دكتور.. 

بادلتها بإبتسامة هي الأخرى وأخبرتها بلباقة في استفسار:

- الله يسلمك.. خير يا مروة؟

حدثتها بحماس وهي تغمز لها في سعادة ثم أغلقت الباب وقالت:

- أنا قولت أكون أول واحدة تقولك مبروك.. ودكتور نشأت موصي أول ما تيجي تروحيله حالًا

ضيقت ما بين حاجبيها في استغراب وهي تسألها:

- مبروك على إيه مش فاهمة؟!

هزت الأخرى كتفيها وتصنعت البلاهة:

- لا دي بقى مش بتاعتي وانتي معرفتيش مني حاجة.. ويالا متتأخريش علشان مستنيكي من الصبح وقرب يمشي

غادرتها مسرعة لتنهض فيروز لتذهب في طريقها نحو مكتب مدير المصحة "نشأت" وبداخلها العديد من التساؤلات خاصةً بعد تصرف مروة الغريب معها منذ ثوان!



     

وقف بحديقة المنزل وهو يُفكر بكل ما حدث، وفاة والدته، مرض "بدر الدين" المفاجئ الذي كان كالجبل يستند عليه الجميع، تلك الطريقة التي بات يتصرف بها "سليم" الذي يشعر وكأنه لتوه علم أنه ابن "ليلي" وأنها لم تمت فجأة بات كبير العائلة الذي يهرولون نحوه ليسألوه كيف يتصرفون، مرض "أروى"، هدوء "هديل" وحنانها وتغيرها، حتى "شاهندة" التي كانت لا تغيب ضحكتها وصداها المجلجل بالمنزل باتت كالوردة الذابلة التي فارقتها نضارتها وغابت عنها الحياة! 

متى حدث كل ذلك؟ لماذا ترك الجميع؟ ابتسم بمرارة متهكمًا على نفسه ولأول مرة يشعر بأنه كالغريب في منزله، منزله الذي تربى وكبر به يومًا ما!! 

لم يملك حيلة أمام ذلك الندم وتأنيب الضمير الذي يهشمه ويفتته لأشلاء منذ أن عاد من سفره، منذ أن علم أن "نجوى" التي كان يطمئن عليها من وقت لآخر لم تعد موجودة.. منذ أن بات كالضيف على الجميع ولا يعلم حتى رجال الأمن ولا العاملون بالمنزل من هو!! 

تنهد ثم فاق من ذلك الشرود الذي يسيطر عليه ولكن الوجوم الذي يسيطر على ملامحه يبدو وأنه سيلازمه كثيرًا الأيام المُقبلة ونظر أمامه ليرى "منة"، تلك الممرضة التي رآها أمس ولولاها لساءت حالة "بدر الدين" أكثر فنادها من على مسافة:

- منة!!

توقفت في طريقها وهي تُمسك بحقيبتها والتفتت نحو الصوت لتجد "زياد" الذي عرفت من يكون ليلة أمس فأبتسمت له برسمية ووقار وأخذت بعض الخطوات نحوه بينما هو عاجل بخطواته إليها لتحدثه بلُطف:

- ازي حضرتك عامل إيه؟

أومأ لها بلطف لسؤالها ثم أخبرها بلباقة:

- تمام الحمد لله.. أنا بجد عايز أشكرك على اللي عملتيه امبارح مع بدر.. يمكن لولاكي لو مكنتيش موجودة كانت حالته بقت أصعب!

أومأت بالإنكار وحدثته بلباقة هي الأخرى لتقول:

- لا أنا معملتش حاجة وبسيطة إن شاء الله، هو فعلاً كان هبوط حاد في الدورة الدموية ولحقنا الموضوع وسليم لسه قافل معايا من شوية، كلها ساعة وهيرجعوا بالسلامة.. أنا كمان عديت عليهم الصبح وكله كان تمام واتطمنت بنفسي

نظر لها لوهلة في تردد وقلق شديد بينما همس سائلًا:

- يعني بجد بدر هيكون كويس؟

أومأت له وابتسمت لتجيبه:

- هيبقى زي الفل.. هو بس علشان أهمل في أكله ونومه وحالته علشان وفاة والدتكوا جاله هبوط مفاجئ بس حالة عارضة مش دايمة ولا حاجة حضرتك متقلقش! ولو فيه حاجة صدقني كنت هاعرف من الدكاترة! هو بس كان محتاج محاليل ومحتاج يهتم بأكله وهيكون كويس..

زفر براحة شديدة بعد أن استمع لكلماتها ثم لاحظ أنه سكت أكثر من المعتاد ليردف مسرعًا بإمتنان:

- متشكر جدًا.. آسف لو عطلتك

ابتسمت من جديد في دماثة وقالت:

- لا مفيش عطلة ولا حاجة 

كادت أن تستأذن منه لتذهب بينما تذكر هو أمر ابنتها ومكوثها لوقت متأخر للغاية ليلة أمس فاستطرد في حديثه بنبرة معتذرة:

- معلش سهرناكي امبارح وانتي أظن كان عندك معاد مع بنتك.. هي كويسة؟

أومأت له بالموافقة واجابته:

- لا مفيش أي مُشكلة أهم حاجة إن أخو حضرتك كويس ولحقت المعاد وكله تمام .. بعد اذنك هاروح أطمن على أروى

شعر قليلًا بالإستغراب وهو ينظر لها ولكنه قال:

- طبعًا.. اتفضلي

تركته وذهبت ليعود هو من جديد ليفكر بكل شيء مرة ثانية وغرق مجددًا في ندم لا نهائي على ما ضيعه وترك الوقت والسنوات يسرقوا كل ما ظن أنه سيبقى بخير دائمًا..

     

حاولت أن تواجه ذلك الشعور بداخلها الذي لتوه بدأ يتخللها منذ أن فكرت بحديثها المحتوم مع "هبة"، أخيرًا سمحت له بالتسلل لعقلها.. هي تعلم جيدًا أن الأمر معها لن يكون هينًا، لن ينتهي جفاءهما بسلاسة ويُسر خاصةً أنها حتى قبل أن تُحدثها تدرك أنها لن تتوانى عن ذكر إهمالها لكل شيء في سبيل التواجد مع "شهاب" ولكن ربما بعد أن علمت بحديثه لوالدته التي تتأكد أنها أخبرت ابنتها بالطبع قد تتقبل هذا الشخص بحياتها أو على الأقل ستكون بمثابة بداية تقبلها إليه..

أمسكت بهاتفها لتحدثها على احدى التطبيقات الهاتفية ثم اتصلت برقمها ولم تنتظر كثيرًا بينما أجابت هي لتردف مسرعة:

- وحشتيني والله 

همهمت "هبة" في مُزاح وردت بتهكم لتقول:

- يالا يا بكاشة.. بقى من يوم ما كنتي عندنا ولا حس ولا خبر كده 

تنهدت "فيروز" في إرهاق لتخبرها بنبرة مُتعَبة:

- بصي أنا حاسة إني في دوامة، ومروحتش الشغل أصلًا الأيام دي وزفت طارق اللي في المدرسة ده بيكلمني بتهديد وتريقة إللي هو لو اخدتي اجازات تاني هنرفدك وكتر خير إننا صبرنا عليكي كل ده

استطردت الأخرى بعد أن صمتت لوهلة وسألتها:

- هو انتي اخر كام يوم دول من ساعة العزومة مروحتيش؟ 

ابتلعت في توتر خوفًا من تسرع صديقتها في إطلاق الأحكام عليها واجابتها في النهاية:

- لا مروحتش

تعجبت لما تسمعه لتعاود سؤالها من جديد:

- ليه يا بنتي كده؟ كنتي فين؟

هزت كتفيها بتلقائية واجابتها في انتظار عاصفة جديدة من رفضها لـ "شهاب":

- شهاب تعب، دخلنا في حوارات كده، الجلسات بقت أطول، وأكيد عرفتي إنه أخيرا راح وقعد مع مامتك واتكلموا كتير اوي، والغريب إني جيت المصحة لقيتهم رقوني وخلوني رئيسة القسم!!

همهمت في تفهم ثم نطقت اسمه بسخرية:

- قولتيلي.. شهاب!! بس مبروك يا حبيبتي على الترقية وإن شاء الله ربنا يكرمك دايمًا بالأحسن!

زفرت "فيروز" في إرهاق ثم تحدثت لها بتوسل:

- أرجوكي حاولي تقبلي إنه بيحاول يتحسن، وبعدين انتي ليه مش قادرة تفهمي إنه فعلًا عايز يبقى احسن معاكو ويحسن علاقته بيكو؟!

تنحنحت وهي تحاول ألا ينفلت لسانها فلم يتبق كثيرًا على يوم ميلادها وهي لا تود إثارة أية مشكلات معها الآن، ربما بعد ذلك الإحتفال الضخم الذي خططه لها بالإتفاق معها هي واخيها وأصدقائها ستحاسبها وبشدة: 

- لا مين قال.. ربنا يصلحله حاله! 

اندهشت من إجابتها على تساؤلها السابق ولهجتها المختلفة وهدوءها غير المعهود لتتسائل من جديد:

- فيه إيه يا هبة مالك بتتكلمي بطريقة غريبة اوي كده ليه؟

تصنعت التلقائية التي بالطبع لم تصدقها صديقتها وقالت:

- يا ستي هاكرهله الخير ليه.. لو هو فعلا عايز يكون إنسان احسن أكيد مش هاكره ده.. واتبسطت جدًا لما ماما قالتلي إنه جالها مخصوص واتكلموا..

تشاركا بضع لحظات من صمت غريب فأردفت "هبة" وما كان إلا سببًا واهيًا لتنتهي من تلك المكالمة قبل أن تنفجر بها:

- معلش يا فيروز هاقفل معاكي علشان الظاهر جميلة صحيت وبتعيط..

ردت مسرعة هي الأخرى وكأن مجرد حديثهما بات ثقيلًا بطريقة غريبة:

- لا ولا يهمك.. روحي وبوسيهالي.. سلام!

أنهت المكالمة معها وهي تُفكر بتلك المكالمة القصيرة للغاية، ردة فعلها لم تكن ما تنتظره أبدًا، طريقة حديثها نفسها غريبة وكأنها لا تصدق أيًا مما يحدث بل وتتهكم بلذاعة لم تعهدها منها وجمود نبرتها وهدوءها كانا جديدان تمامًا مما جعلها تتعجب أكثر، هل حقًا هي تكرهه لما فعله معهم بالسابق أم هناك أمرًا آخر؟! لا تجد إجابات في عقلها الذي يعج بالعديد من الأفكار منذ صباح اليوم دون هوادة! 

استمعت لهاتفها يصدح بالرنين لتجيبه بتلقائية دون تفقد هوية المتصل:

- آلو..

آتاها صوت "هاشم" المرح بينما رد قائلًا:

- دكتور فيروز فضيالي.. وربنا مش مصدق نفسي.. بايني كده محظوظ النهاردة في كل حاجة وفي قمة برج حظي

همهمت في إعجاب لتسأله في تعجب مما استمعت له:

- ويا ترى محظوظ في إيه كمان؟! الله يخليك تسمعني أخبار حلوة أحسن أنا النهاردة كان يوم غريب اوي ولسه مخلصش

توسعت ابتسامته ثم اجابها:

- مفيش يا ستي كنت مع شهاب من شوية، عرض عليا offer هايل و position احسن من اللي أنا فيه ومقدرتش أقوله لأ.. وفريدة اتبسطت جدًا كمان لما قولتلها.. شكلها كده وشها هيبقى حلو عليا.. المشكلة بس إن الشركة بعيدة شوية عن البيت!

اندهشت مما سمعته لتسأله بتلقائية وكأنها تناست تمامًا إكتراثها بأمر من يحدثها ولم تهنئه حتى:

- هو أنت شوفته النهاردة؟ هو كويس؟

اجابها في استغراب متسائلًا:

- آه هو تمام، اشمعنى يعني بتسألي؟

حمحمت وهي تدارك ما قالته لتجيبه مسرعة:

- لا مفيش، يعني كان فيه شوية تجهيزات للمستشفى اللي شغالة على مشروعها معاه وكلمته مردش 

تقبل "هاشم" اجابتها وهز كتفاه بتلقائية ليستكمل حديثهما قائلًا:

- مش عارف، بس اللي أعرفه إنه كان سهران في شركته من امبارح وكان شكله مشغول اوي، عمومًا تحبي اعدي عليكي علشان العزا ولا هتروحي لواحدك؟

تنهدت وتذكرت أنها ستعيد اليوم سيارة "شهاب" إليه لتجيبه: 

- لا أنا هاروح معاك أنت وفريدة بس هاروح لواحدي احسن بدل ما تضرب المشوار مرتين للتجمع واتعبك

أومأ في تفهم عند استماعه إليها ليقول:

- والله مفيهاش تعب ولا حاجة.. بس براحتك وتنورينا يعني يا دكتور وكمان ممكن نخرج سوا احنا التلاتة لو تحبي 

ابتسمت بإقتضاب بينما غاب عقلها وهي تُفكر لماذا "شهاب" يتعامل مع سواها بينما هي فلم يتحدث لها اليوم بأكمله!! ولكنها تذكرت أنها تتحدث إلي "هاشم" فقالت:

- ماشي ممكن نخرج مفيش مشاكل بس نخلص العزا الأول وبعدين ربنا يسهلها.. معلش أنا هاقفل معاك علشان عندي شغل وهاكلمك لما أوصل بليل

تعجب "هاشم" أكثر من طريقتها الغريبة عليه ولكنه ظن أنها ربما تكون منشغلة في عملها فقدر ذلك وقال:

- تمام.. مستني مكالمتك.. سلام!

شعرت بالغضب بمجرد تفكيرها في الأمر أكثر، لم تتقبل أبدًا أنه ذهب ويبدو أنه بخير ويتعامل بتلقائية ويومه من أفضل ما يكون، أهذا يعني أنه الآن بعد أن علم الحقيقة من والدته بات مُتقبلًا لعائلته وحتى يود أن يعمل أخيه معه؟! أم هناك أمرًا آخر خلف تصرفه ذلك؟ حاولت التوصل لإستنتاج مقنع بينما لا تزال تشعر بالإنزعاج لأنهما لم يتحدثا منذ ليلة أمس وأخيرًا قررت أن تبدً هي وأمسكت بهاتفها من جديد بعد أن فكرت أكثر من مرة بالأمر وهاتفته!

لم يكترث لذلك الإهتزاز الذي صدر بهاتفه لأكثر من مرة بجيبه بينما ابتسم بغلٍ لمن يجلس أمامه معصب العينين ولا يدري بعد ما الذي يحدث له ولا لماذا آتى هنا وأخذوه هؤلاء الرجال ثم ذهب بنفسه وأزال غطاء رأسه لينظر له ذلك الرجل المُسن في تعجب وهو يحاول تحمل ذلك الضوء بصعوبة ليتسائل في ارتباك:

- أنت مين يا ابني وعايز مني إيه؟

قهقه "شهاب" عندما استمع لما قاله خصوصًا مناداته بإبنه ليجيبه في تهكم وابتسم بشر:

- هو أنت مش ابنك مات وهو صغير ومبقالكش غير بناتك.. أنا مش ابنك يا أبو يوسف!

استغرب مما يستمع له وتسائل من جديد:

- أنت تعرفني؟!

أطلق زفرة متهكمة تحمل أثر ضحكة خافتة ليجيبه مرة ثانية: 

- طبعًا، أبو يوسف كبير الحتة اللي فتحلنا بيته سنتين وادانا أوضة فوق السطوح.. حد ينسى راجل أصيل زيك برضو!

عقد حاجباه في إندهاش ليهمس بصدمة:

- أنت ابن كرم.. شهاب!!

توسعت ابتسامته أكثر في تشفي شديد مما سيفعله معه لاحقًا واستطرد مهمهمًا:

- أيوة أنا، بس واضح إنك لسه فاكر كل حاجة.. زي ما يكون كل ده حصل امبارح مش من سبعة وعشرين سنة.. مش كده؟! 

نظر له الرجل بإستفسار وهو يبتلع في توتر، وأعينه تتسائل ففهم "شهاب" ما سيصدر من تساؤلات ووضع يديه بجيبيه وأخذ يسير أمامه وهو يُجيب عن تلك التساؤلات بنبرة تحمل العديد والمزيد من الألغاز التي لا يفهمها:

- وبما إنك لسه فاكرني فأكيد فاكر أمي.. مرات كرم الأولانية مش بنتك الواطية.. آمال.. فاكرها؟!

نظر له بترقب وقبل أن يتحدث أكمل "شهاب":

- وأظنك فاكر أنت عملت فيها إيه كويس!

زفر برحة مُصدرًا ضجيجًا من حنجرته بينما جلس أمامه واختفى وجهه المازح واختفت مشاعره خلف ملامح جامدة بينما نظر له "أبو يوسف" بمزيد من الإستغراب ليسأله مجددًا:

- موقفتش جانبها علشان كرم ضحك عليك مش كده؟ مع إنها جاتلك واتحايلت عليك وأنت بوساختك طردتها من بيتك، حصل ولا محصلش؟

ابتلع وأخذ يتذكر ما حدث منذ سنوات عديدة بينما سلط الآخر نظرات التقزز والكراهية عليه ليجيبه في النهاية:

- كرم يومها عرف الحارة كلها إنه خانته و..

قاطعه بصياح مهيب صارخًا:

- جاوب على قد السؤال!

ابتلع الرجل من طريقته وصوته الذي جلجل صداه بذلك المكان الغريب حولهما ليومأ له واجابه:

- حصل، بس علشان أبوك الله يرحمه مـ..

قاطعه دون إكتراث منه بأن يستمع لتلك الأعذار الواهية ليهمس بتشفي:

- وأنا بقى جايبك هنا علشان افرجك على بنتك، اللي هيحصل فيها نفس اللي اللي صدقته على أمي زمان، وبعدها هموتك! 

لم يترك له الفرصة للحديث وذهب وتركه في ذلك المنزل الذي طوق بحراسة ولن يملك حيلة أبدًا بأن يذهب بعيدًا أو يهرب من هؤلاء الرجال ثم أخرج هاتفه ليجد أن "فيروز" هاتفته فهدأ من وتيرة أنفاسه ثم شرع بقيادة السيارة وهو يُفكر في كل ما سيحدث لاحقًا، ولكن في نفس الوقت عليه أن يفعل كل شيء ويُحقق انتقامه من ذلك الرجل دون أي علم من "فيروز" وإلا وقتها لن تقبل فعلته أبدًا.. 

فكر كثيرًا بالعديد من الخطط التي أعدها لذلك الرجل وابنته وكالعادة وضع الخطط البديلة لإنتقامه، يستحيل أن يترك الأمر ليمر مرور الكرام بعد كل ما تبين له من حقائق..

أمسك بهاتفه ليحدثها وانتظر حتى يستمع لصوتها وبمجرد سماعه شعر بذلك الهدوء الذي بات يعتاده وأحيانًا يشتاق له فهمس قائلًا:

- متزعليش مني، أنا امبارح كان فيا اللي مكفيني والنهاردة كنت مشغول جدًا!

تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته وضيقت ما بين حاجبيها في إنزعاج لتقول:

- بصراحة أنا مستغرباك.. كلام كتير وكل يوم مع بعض وفجأة ساكت.. بس براحتك طبعًا! أنا مش هاجبرك إنك تحكيلي حاجة مش عايز تقولها

حمحم في إنزعاج من نبرتها التي آتت حادة أكثر من المعتاد فقال:

- فيروز!! أنا فعلًا مش قادر اتكلم عن اللي حصل.. يمكن النهاردة بعد العزا نـ..

قاطعته مسرعة في نهي تام:

- لا بعد العزا أنا هاخرج مع هاشم وفريدة!! خليها يوم تاني!

تفاقمت عقدة حاجباه في غضب عندما تذكر مرة ثانية تلك الطريقة التي كانا يتحدثان بها ليلة أمس وتحدث بنبرة لا تحمل مشاعره الحقيقة الذي استطاع أن يُخفيها ببراعة وحل محلها نبرة حماسية:

- صحيح هاشم هيتغل معايا في الشركة..

همهمت دون إكتراث ليشعر بذلك الجفاء بينهما ليردف من جديد:

- ما خلاص بقى ولا هتفضلي عاملة فيها مقموصة!

ارتفع احدى حاجبيها في إباء وردت بلذاعة متهكمة:

- مقموصة.. ليه أنت شايف إني مضايقة أو زعلانة من حاجة أو أصلًا حصل حاجة تزعل؟

 زفر في ضيق ثم توسلها مرة ثانية ولكن نبرته كانت حادة بعيدة كل البعد عن التوسل:

- أرجوكي كفاية أنا فعلًا على أخري، وكمان لسه هتزفت واروح العزا ده.. أنا امبارح والنهاردة مش مظبوط، ولسه منمتش.. حاولي تقدري اللي بيحصل

رجل يسترضي إمرأته التي لا تلاحظ مدى غضبها الأعمى الذي أخذها بعيدًا عن علاقتهما التي من المفترض أن تكون خلاف كل ما يحدث الآن في هذه المكالمة ليتعالى هي تصميمها على أن تُكمل في هذا الغضب لتخبره بإقتضاب:

- خلاص قولتلك براحتك وأنا مقدرة وكل حاجة ولا كأن فيه حاجة حصلت 

لم تؤدي كلماتها سوى لإرتفاع غضبه هو الآخر من طريقتها بالحديث فتلاحمت أسنانه وهو يحاول ألا يُفسد الأمر أكثر مما هو فقال بنبرة تحمل العديد من اللهجات والغريب أنها متناقضة بين التهديد والتوسل وصعوبة نطق الكلمات نفسها: 

- اسمعي، أنا فجأة اكتشفت امبارح إن بقالي سبعة وعشرين سنة حد بيكدب عليا وبيستغفلني، وقولتلك قبل كده إن أيًا كان اللي بيستغفلني ده رد فعلي معاه بيبقى مش كويس، لا وكمان اللي استغفلني مات.. عارف إني المفروض كنت اتكلم معاكي امبارح واحكيلك كل حاجة بس لسه مش قادر!! ممكن بقى تعقلي شوية وتسيبيني لغاية ما افكر براحتي وبعدين هتلاقينا بقينا كويسين؟

اندهشت من طريقته بالحديث التي لم تستمع لها من قبل من أي رجل سواه مما جعلها تصمت لوهلة وهي تُفكر كيف عليها تُفسر ما تريده هي حقًا وما تريد قوله ولكنها وجدت نفسها لا تجد ما تقول ولا تعلم جيدًا ما تريده لتخبره بإقتضاب:

- تمام.. أنا هاقفل علشان لسه هاروح واغير واروح العزا.. أنت هتيجي امتى؟

عقد حاجباه في إنزعاج من مجرد الفكرة بأنه سيلاقي هؤلاء الرذلاء بأكملهم اليوم: 

- يعني تقريبًا في نفس الوقت اللي هتوصلي فيه لأني لسه هاغير برضو واروحلهم

ردت في اقتضاب من جديد:

- أوك.. سلام!

أنهت المكالمة ولأول مرة تشعر بعجزها الشديد عن معرفة ماذا تريده جيدًا، لأول مرة منذ سنوات تشعر بمثل هذا الغضب يتملكها تجاه شخص بعينه، تضاربت مشاعرها بين التعاطف معه، ووجوب أن تعطيه المساحة والوقت اللازم لتعامله مع تلك الصدمة، ولكن بداخلها تأبى تلك الطريقة التي يتعامل بها معها منذ الأمس وكأن هذا ليس هو الصائب بينهما!! 

حاولت ترك أفكارها بمعرفة ماهية مشاعرها التي تتحكم بها منذ الأمس جانبًا وفكرت فيما عليها فعله الآن، عليها سريعًا أن تحدث "بدر الدين" لتخبره بقدوم "شهاب" إلي عزاء والدته، هي ليست بغبية لتنسى تلك الكلمات عن قصصه التي تنتهي بالإنتقام من كل من يخدعه وليست في حاجة إلي أن تنهي يومها بإرتقاب انتقامه لو فقط علم عن علاقتها الحقيقة بهؤلاء العائلة، العائلة التي صمم كبيرها أن تعالج رجل آخر وبمنتهى الغباء وافقت..

شعرت أنها مليئة بأشد الندم تجاه قبولها وموافقتها، لوهلة تذكرت كلمات "هبة" بأن تترك الأمر وتبتعد ولكن الآن بسبب عنادها اللانهائي هي تشعر بالندم، الغضب، تعاطف هائل مع قاتل سيكوباتي، ومشاعر متضاربة أخرى لا تستطيع تفسيرها وليست تملك راحة البال لتفسيرها ولا حتى الوقت الكافي لتفعلها!

انتظرت على الهاتف حتى يُجيب "بدر الدين" الذى آتى صوته المُرهق بعد فترة من الرنين فحدثته بنبرة معتذرة:

- أنا عارفة المفروض كنت أتكلم قبل كده بس، البقية في حياتك.. شد حيلك

رد عليها بتلقائية وقال:

- حياتك الباقية، ولا يهمك

حمحمت بينما انتقلت سريعًا لغرضها الأساسي من المكالمة فأخبرته كمن ينطق بمجرد كلمات يريد إلقاءها والفرار لتنتهي من الأمر فحسب:

- أنا هاجي العزا كمان شوية، وكنت حابة أعرف حضرتك إن شهاب هيجي.. يعني ولاد عمه، وأخوه خطيب أختي، أختي صاحبة أسما و..

قاطعها بعد أن أدرك إلي ماذا تريد الوصول فتدخل بنبرته الرخيمة بتفهم ثم سألها في النهاية:

- تمام متقلقيش.. هنعامله عادي.. هو أصلًا بيستجيب لعلاج أو حاجة ولا لسه زي ما هو؟

نوعًا ما كانت كلماته بمثابة تنبيه لها، أو زجر، ربما تحذير، هل هي تصادقه وتتعاطف معه أم أنها بدأت برحلة علاج معه لا نهاية لها؟.. 

لاحظت أنها سكتت أكثر من اللازم لتجيب مُسرعة:

- لا تمام، فيه استجابة، بس حالته والوقت كان قليل اوي معداش شهر أصلًا من ساعة ما ابتدينا بجد، لسه شوية على ما نعرف نحدد

تعجب "بدر الدين" لنبرتها ولكنه ليس في حالة تسمح بالإطناب معها أكثر، لا مزاجيا ولا صحيا فقرر أن يترك ذلك جانبًا لبعض الوقت حتى يتفرغ له وأيضًا عليه أن يُحدث "سليم" كي لا يفتعل مُشكلات جديدة عندما يرى "شهاب" فأردف مسرعًا:

- كويس.. أكيد هنتكلم أكتر في الموضوع ده بعدين، بس أنا هاقفل دلوقتي لأن ورانا حاجات كتير.. 

أومأت في تفهم وأطلقت زفرة في راحة من انتهائها بسرعة من تلك المكالمة فاستطردت وقالت:

- طبعًا طبعًا.. البقية في حياة حضرتك مرة تانية وربنا يجعلها آخر الأحزان!

تنفست براحة لحظية ثم اتجهت لتغادر كي تكون بالموعد المحدد وأفكارها المتضاربة لا تزال تسيطر عليها، لماذا لا تريد تقبل أفعاله الآن؟ لماذا تشعر بالغضب تجاهه وتصرفه كان منطقيًا للغاية؟ والأهم ما الذي يحدث لها؟!

هذا التعاطف وتلك الشفقة التي تجتاحها، الغضب الشديد من مجرد تفاصيل حياة شخص صديق وتساعده بصفتها مختصة، كل هذا لا يُثبت لها سوى أنها هي نفسها لا تزال تعاني.. ذلك الوقت الذي مكثته بعيدًا عن التعامل مع حالات مشابهة جعل كل أفكارها ومشاعرها حساسة للغاية، ولكن لماذا لم يحدث ذلك مع أحد بالمصحة، أو مع "زينة" عندما ساعدتها؟! 

ربما أن أفعاله وإقترابه غير المخطط له من أصدقائها أفسد الأمر، لم تكن تعلم منذ أن استمعت عن حالته وما يفعله أنه الأخ غير الشقيق لصديقتها وأخيها الذي يكون خطيب اختها.. لم تكن تظن أن الأمر سيكون مُعقدًا بهذه الطريقة الشنيعة!!

     

في مساء نفس اليوم..

لم يعد يحتمل تلك الأوجه الكثيرة التي يتظاهر بعضها بالحزن فقط ليجامل رجل الأعمال المعروف هو وعائلته بينما البعض غارقًا بالحزن الشديد، لا يُصدق أنها غادرت الدنيا بأكمله لتتركه وحيدًا بين الجميع ليصبح هو فعليًا أكبر من بالعائلة.. 

وما الجديد، لقد تعود على الأمر، منذ الكثير من السنوات، ولكن أن تذهب الوحيدة التي مثلت له كل الحنان والأمان كان أكثر مما يتحمله، جزء ما بعقله بعد كل ما مر باليومين المنصرمين لا يزال غير مُصدقًا أنها ماتت وها هو الآن واقفًا ليستقبل الحضور الذين يذكروه بكل ثانية تمر أنها لن تعود أبدًا! 

اقترب من "سليم" هامسًا بأذنه:

- أنا كويس بس رايح اتمشى شوية.. حاسس إني مخنوق! حبة وهارجع!

نظر له الآخر بإهتمام ولهفة ليشير له والده بألا يتبعه وخرج مبتعدًا وهو لا يدري إلي أين تأخذه قدماه وحزنه بداخله يبدو أنه لن يتغير ولن يذهب بعد اليوم بالرغم من محاولات ابنه وزوجته وعائلته بأكملها الذين بدءوا في تقبل الأمر أو ربما يدعوا ذلك ويتظاهروا به، ولكنه بداخله يتأكد أنه لن يصبح بخير ولو حاول الجميع لسنوات وسنوات!

وجد نفسه يسير بالمرأب المفتوح ليلمح من على مسافة "فيروز" الذي فكر بالتحدث معها ولكنه توقف عندما وجد "شهاب" يترجل من سيارته وكم تمنى لو استمع لكلاهما ولحديثهما ولكنه كان بعيدًا للغاية فقرر أن يتابع الأمر من بعيد..

نظر إليها بداكنتين مترقبتين ليراها ترتدي الأسود فذكرته ملابسها عندما رآها أول مرة وبتلك الأوقات القديمة التي مرت عليهما ليزفر في حنق لمجرد تفكيره أنها تبدو هكذا بسبب زوجها في الأساس ثم حاول أن يترك هذا التفكير جانبًا وتفقد عينيها في تمعن دون كلمات فبدأت هي بالحديث لتسأله: 

- عامل إيه؟

أهذا كان كل ما يحتاج؟ أن يبتعد لأقل من يوم عنها ليرى مثل ذلك الإهتمام بحدقتيها مجهولتان الهوية؟! 

ابتسم لها بإقتضاب وأومأ لها وأجاب: 

- أنا تمام.. انتي عاملة إيه؟

فعلت المثل فأجابته وهي تبتلع بقليل من ارتباك لم يعهده بها:

- تمام.. 

حمحم كلاهما في ذلك الصمت الغريب الذي تشاركاه لوهلة ولكنه بمنتهى الذكاء استشعر غضبها أو ربما الإنزعاج من مجرد ابتعاده عنها وصمته لينعكس ذلك بداخله وتملكه غرور ورضاء شديد ولكنه لن يترك الأمر ليمر مرور الكرام دون إلقاء ذلك المفاعل النووي بوجهها الذي لا يدري كيف ستكون ردة فعلها أمامه فتنحنح مرة أخرى ثم همس قائلًا: 

- أنا.. أنا عايز أقولك على حاجة.. و..

شعرت بصعوبة تدل أن هناك اعترافًا كبيرًا يوشك على الخروج من بين شفتيه وظنت أن الأمر متعلق بوالدته ولكن هذا ليس الوقت المناسب للتحدث ولا المكان كذلك فقاطعته وهي تهز رأسها بتلقائية:

- مش وقته يا شهاب، خليها بُكرة أحسن.. وآه كنت عايزة اديك مفاتيح العربية علشان أنا..

أمسكها برفق من ساعدها قبل أن تُمسك بحقيبتها ليوقفها وقاطعها هو هذه المرة فقال:

- لا هو ده وقته، أنا.. كنت عايز أقولك على حاجة.. بخصوص أروى الدمنهوري بنت عمي و..

توقف عن الحديث لترمقه هي في إرتقاب شديد وهي ترى المزيد من الصعوبة تعتريه ولمحة ضئيلة من خزي ارتسمت على ملامحه بينما لم يلاحظ أي منهما "بدر الدين" الذي تعجب كيف يتلمسها "شهاب" ولا مدى اقترابهم من بعضهما البعض فشعر بالإستغراب وتمنى لو فقط أستطاع أن يقترب منهما ولكن هذا المرأب المفتوح لا يساعده بتاتا ليلعن حظه ويلعن بداخله ذلك المرأب واكتفى بمتابعتهما من بعيد..

حمحم من جديد ليهمس:

- أنا كنت هقولك.. بس مجتش مناسبة و.. ولازم تعرفي ده مني.. أنا مقصدتش أخبي بس..

نفذ صبرها لتقاطعه في حنق وشعور بكارثة حتمية من ملامحه:

- قول يا شهاب.. مالها بنت عمك؟

نظر حوله ليجد أن ليس هناك أحد بالقرب منهما ليهمس لها:

- أروى كان معاها دليل يورطني في قضية سلاح، هددتني وأنا.. أنا كنت متعصب و.. أغتصبتها..

تباعدت شفتاها وهي تنظر له في صدمة هائلة ثم أخذت خطوة للخلف مبتعدة عنه ونفضت يده عنها بتقزز وانفجرت اعترافاته السابقة بعقلها لتربطه بهذا الإعتراف الآن لتشعر وكأنها تنظر إلي شيطان وليس إلي بشر فأقترب هو منها وهو يتفحص وجهها وتعبيراتها وقرأ ذلك النفور بحدقتيها وكاد أن يتحدث لتشير له بأن يتوقف ومنعته أن يأخذ المزيد من الخطوات نحوها بمنتهى الحزم وبعد أن تبادلا النظرات وابتلعت هي وهي تحاول تلقي تلك الصدمة الكارثية من اعترافه وتلك المسئولية الشديدة التي باتت تقع كالعبء الذي لن تتخلص منه يومًا ما واندفعت بالحديث في منتهى الإنزعاج ولكنها نظرت حولها أولًا لتتأكد من عدم وجود أحد بالقرب منهما فهمست بنبرة مرتجفة بمزيج من الغضب والصدمة التي لم ترفق بعقلها:

- بنت عمك!! أنت.. أنت ازاي تعمل كده!! أنت مش ممكن.. بس لأ.. ده كده أخري معاك.. أنا مش هاقدر استحمل أكتر من كده.. 

عقد حاجباه في تساؤل وقد أدركت ما يُعنيه من عينيه التي يتواتر منها الأسئلة فأكملت حديثها بحرقة:

- أنا التصرف اللي المفروض أعمله إني أبلغ عنك، أو، أو.. 

تلاحقت أنفاسها في توتر وهي لا تعرف ماذا عليها أن تقول لتزيح شعرها إلي الخلف وحاولت التحلي بالشجاعة ثم استطردت:

- أنا مبقتش عارفة بسببك هاشوف مين وأنت اغتصبته أو هددته أو خدرته أو هاعرف كام واحد مقتول أو مافيا أو مصايب تانية.. وأنت أخو هاشم اللي المفروض بيدأ حياته مع أختي و.. مش هاقدر أعرف أكتر من كده.. كفاية اوي اللي عرفته!

شعر بالغضب الشديد من كلماتها ليقاطعها:

- بس انتي قولتي إنك مش هتـ..

أشارت بكلتا يداها لتوقفه عن الإستمرار بالحديث ثم تابعت:

- أنا فاكرة أنا قولت إيه كويس.. أنا مش بحكم عليك.. بس أنا كده مش قادرة استحمل ولا أنا مؤهلة كفاية إني أسمع اعترافاتك ومصايبك دي يا شهاب.. كده كفاية اوي..

أمسكت بحقيبتها في لهوجة شديدة لتخرج منها مفتاح سيارته ثم ألقته إليه دون إكتراث هل سيقع أو سيُمسك به وشعرت بجسدها بأكمله ندفع بالحرارة وكأن دمائها تغلي بعروقها فهمست من جديد:

- تابع مع حد تاني أرجوك، واطمن أنا مش هاقول لحد أي حاجة! بس.. بس.. أنا مش كويسة الفترة دي ومش هاقدر أكمل معاك موضوع العلاج.. وكمان أنا محتاجة ابعد شوية عن كل الناس.. أنا آسفة.. 

رمقته وهو ينظر إليها بملامح غابت عنها المشاعر التي لم تكترث لمعرفتها وجاهدت جسدها الذي استجاب لإرادتها في التحرك بأعجوبة بعد فترة لتتركه وتذهب وهي تشعر أن هناك دوامة غريبة بداخلها من مشاعر متضاربة ولأول مرة بحياتها تتقبل أن هناك أمر فشلت به فشل ذريع!

     

#يُتبع . . .