NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الثالث عشر
الفصل الثالث عشر
لا تستمع إلي؛ أنا مكسورة القلب،
لا أنظر لشيء بموضوعية.
أعرف نفسي؛ تعلمت أن أستمع كطبيب نفسي
وعندما تغلب العاطفة على كلامي،
يكون من الصعب الوثوق بي.
أمر محزن حقًا، تميزت طيلة حياتي
بذكائي، وسطوة لغتي، وبصيرتي،
في النهاية، ضاعت كلها هباءً.
في عقلي، أنا خفية؛ وهنا مكمن خطورتي
الناس أمثالي، ممن يبدون ناكرين لذواتهم،
هم العاجزون
هم الكاذبون
هم من يجب أن يستبعدوا لصالح الحقيقة.
حين يتأذى شيء حي بهذا القدر،
في أعمق أفعاله،
تنحرف وظائفه كلها.
لهذا أنا لست جديرة بالثقة
لأن قلبًا جريحًا
يعني عقلًا جريحًا أيضًا
-لويز جلوك-
•¤•¤•¤•
- بعد ذلك..
كان أدهم منخرطًا في اجترار ما حدث وما أرادت معرفته، بينما يضع نِصب أعينه تلألأ هذا النجم القطبي الذي كان شاهدًا منذ البداية على قصتهما.
أخبرها عن كل ما آسـرّت له به تلك الليلة قبل زواجهما، عن كينونة شخصيتها، عن حقيقة معاناتها التي أضمرتها عن الجميع، عن قصتها مع مراد وكيف نجت من كل هذا ووصلت لكل ما وصلت له، عن دور "بن ويلسون" في حياتها وعلاقتها به، وعن نوادر الحكايات التي قصتها عليه .. أخبرها بكل شيء عن نفسها، حتى تلك الجوانب التي لم تفصح له عنها، واستطاع هو معرفتها.
وفي خضم هذا، فقد شعوره بهاديات الزمان والمكان، وأصبح تلك اللحظة أسير الرابط الحسي الذي جمعهما منذ البداية .. منذ بداية تلك الليلة التي تغيرت نظرته وخططه تجاه هذه الفريدة، حينما فتحت أبوابها له وافصحت عن جانبها الضعيف .. أصبح يستشعر كل شيء من جديد، تلك العاطفة الخفية، وذلك الشعور السَّـرِي الذي أجحف وجوده حينها .. أما الآن، وهنا، استطاع أن يرى بوضوح مراحل تطور هذا الشعور داخله من مجرد شهوة حيوانية، وغريزة تملك تُطْعِمُها السادية ويحكمها المرض، إلى ما يملأ كيانه الآن، ويشِقْ علّيه إيجاد ما يناسبه من وصف .. لكن يمكننا القول أنه تعدى مراتب الشغف!!
تلك المرتبة السامية من العشق والتوحد الروحي .. تلك المرتبة التي أمرها يومًا بنبرة يملأها التسلط والأنانية ألا تحبه إلا بها، حتى يحكم شباكه حولها، فلا يُبدى لها خلاص ولا شفاء منه .. ويشاء القدر أن يغرق هو بالفخ الذي نصبه لها، والآن، عليه التعامل مع قدره هذا بدرجة كبير من التقبل والإرتضاء .. الإرتضاء بأنها أبدًا لن تكون معه!!
- كيف؟!
افاق من غياهب عقله على همهمتها الباهتة التي بالكاد تُسمع .. فالتفت ليطالعها بعينٍ متفحصة رغم ما يلفهما من ظلام جزئي، ليرى عينها الشاخصة في ذلك النجم البازخ في عُلاه، وكأنها متوحدة معه تمامًا، منفصلة عما حولها، لا تشعر حتى بوجوده.
يالها من ليلة مميزة حقًا!! .. وأكثر ما يميزها انها تلتقي بنفسها السابقة وجهًا لوجه، دون هلاوس، أو كوابيس، أو حيل نفسية.
رباه .. كم أثقل حديثه عنها روحها وجعلها تفيض بموجة هوجاء من المشاعر الغير مستأنسة!!
هبطت عينها من علياء السماء لتسقط عميقًا داخل البحر الأسود، فتندثر بين أمواجه وتتخبي فيه من ذلك الذي يقف على مقربة منها، يحاوطها بعيونه الحالكة كتلك الليلة، ويتحين منها أن تنبث ببنت شفه .. فانسحبت بعيدًا، وكأنما ترجو مسافة آمنة، تستعيد بها هويتها التي بُعثرت بحديثه .. تهاوت قدماها على مقعد يجانب سياج المركب، فلم يعد بإمكانها السيطرة على تلك الرجفة التي تعصف بجسدها، ولا تعرف إذا كان ذلك تأثير ما سمعته، أم لأنه قد مضى أكثر من ١٨ ساعة على آخر جرعة دواء كانت بحوزتها .. بالطبع، ما جلبه من أدوية سابقًا قد نفذ بعد مضي اكثر من شهر لها هنا .. هو لا يعرف هذا؛ فمنذ اصابته وقد سلمها الأدوية -لا تعرف السبب- ولكن كان هذا بادرة جيدة منه!!
والآن، هي تستشعر بداية أعراض انسحاب الدواء التي جربتها مسبقًا، وحديثه معها لا يجعل هذا سهلًا أبدًا؛ على عكس ظنها بأنه قد يُلهيها عن تعبها، ولو قليلًا!! .. نعم، فمؤخرًا، باتت ترى في مناوشته واستفزازه، وحتى الاحاديث البسيطة معه، نوعًا من الإلهاء لكل المخاوف التي تسكن عقلها، حتى تلك المخاوف التي هو بطلُها .. أصبحت تنسى -ولو بشكل جزئي- أنها في خضم فوضى من الخطر، وأن كل يوم يمضي عليها بسلام، على مركب معطلة، ضائعة في البحر، خالية من الطعام، معه وحدها، لهو معجزة!!
عبأت من نسيم البحر ما تبتلع به غصة مميتة، مرارها كالعلقم، ثم تناست كل هذا الآن، وراحت تسأله ذلك السؤال الذي نخر عقلها منذ أن شرع في حديثه:
- كيف؟؟ .. كيف فعلت هذا؟! .. كيف بعد كل ما وصلت له وحققته في بضع سنين، كيف وصلت لهنا؟! .. تركت حلمي يمضي، تنازلت عنه ورضيت لنفسي علاقة كا... ثمة خطبًا ما .. شيئًا ما..
توقفت ونظرت له نظرة أشعلت فتيلة حذره .. حدسه يُنبئه بأن ثمة معركة تلوح في الأفق .. فقد بات على دراية خبيرة بأن مغبة البرود التي تغلف بها نفسها ما هي إلا قناع واهٍ لفوهة بركان يفور؛ لذلك استبقها بنبرة متريثة، يحاول كبح انفعالها قبل الاصطدام:
- فريدة...
تشكلت نظرة تائهة بعينها، وقد بدى وكأنها تنصت له علّها تجد عزاءها فيما سيقول، وبالثانية التالية كانت تضحك .. ضحكت حتى أُدمعت حدقتيها ولم تستطع تحديد ماهية شعورها بعد .. يعني، هذا ظل حُلمها الذي عملت من أجله بجدٍ لسنوات، سنوات وهي تحارب تلك العقدة التي نبتت داخلها بعد فراق والدها .. تحارب للتغلب على عقدة التعلق .. التعلق بوالدتها التي اهملتها، التعلق بصديق، أو حبيب .. ألا تحتاج لوجود أحد في حياتها .. لقد اقسمت ألا تسمح لأحدهم بأن يتسلل لحياتها يومًا ما ويفسد ما بَنتُه .. أقسمت على أن تصل للاكتفاء الذاتي بنفسها حتى لا يتثنى لأحد جرحها بسلاح الفراق .. لا تصدق بانها وصلت لأكثر من هذا .. الاكتفاء المادي والمعنوي، لقد وصلت لذلك بالفعل رغم كل شيء، ثم ضيعته من أجل ماذا؟؟ .. سادي؟! مريض؟! مجرم يضْلّع بعصابة!! .. جائزة أغبى فتاة في العالم تذهب لها!! .. بل جائزة أغبى معالجة احتاطت من الجميع، ووقعت في حب سيكوباتي حقير بالنهاية!!
كانت في غمرة تخبطها حينما كرر نداءه لها .. فمسحت على وجهها لتكتسي البلادة تعابيرها من جديد، ثم تحدث بطريقة توضح مدى العناء الذي تخوضه للسيطرة على ارتجاف شفتيها وكل عضلة بجسدها حتى تبدو متماسكة أمامه بهذا القدر:
- حسنًا، ما قلته الآن... تبًا لي، إنه يتناسب تمامًا مع المخططات التي كانت تدور بذهني لسنوات، ولكن .. دعني أتساءل، كيف فعلتُها؟؟ .. كيف جعلتني أهدم حلمي وحياتي لأكون عا...؟! لا تخبرني مرة أخرى أنني أحببتك؛ لأنني أعرف نفسي .. حتى لو كنت فاقدة لتلك السنوات، إلا أنني واثقة من شيئًا واحد، مهما بلغ بيَّ الحب أو الشغف لشخصٍ ما، لم أكن لأقبل قط بالانخراط بعلاقة كهذه!! .. كنت سأدعس قلبي وأمضي في طريق مستقبلي .. تمامًا كما أخبرتني بما فعلته مع مراد!!
- هذا لأنكِ لم تحبيه بالأساس!!
هسهس بطريقة خطيرة، ليظهر جانبه السيء لجزءٍ من الثانية، بعدما تشدد جسده من حديثها وعدوانيتها غير المبررة .. تبًا لجنونها، ألم تقرر بثقتها به منذ دقائق؟! .. كيف واللعنة عليه التعامل مع مزاجها الناري هذا؟!
كان يغالب نفسه للسيطرة على اهتياج انفاسه التي تعالت، حينما فوجئ بها تقف وتجابهه بتحدٍ لم ينبغي لأحدٍ قبلها، خاصة وهي تشمله بتلك النظرة المتغطرسة التي تتفشى بعينها كالحريق:
- أوه .. وأحببتك أنت أكيد؟! .. ولذلك تغاضيت عن مرضك واجرامك؟! .. أليس هذا ما تريد قوله؟؟
- بلى فريدة، شيئتي أم أبيت هذا ما حدث!!
بأعلى طبقة برود يمتلكها أكد لها، بينما يكزّ على أسنانه بضراوة علّه يبتلع استفزازِها المهلك .. لتقابله هي باتساع عينها الساخر بتكذيب، ثم هدرت بطريقة متقززة، وكأنه قد اتهمها بما يُشيّن بشرفها:
- هذا ما حدث؟!
ومن ثم استقامت بوقفتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها في وضع دفاع، أو ربما لتخفي الرعشة التي تدب بجسدها، لتقرر بعدها بعينٍ زجاجية يملأها اليقين:
- أنت أجبرتني!!
تراجع من حفاوة الصدمة، ليسألها بجفاف فيما فطنه:
- ماذا؟!
هزت رأسها بيقين أكبر، ابتسامة سامة ترتسم على شفتيها، ثم شرعت تتحرك الارض أمامه وهي تسترسل بتسارع محلله بواطن ما حدث كما استنتجت:
- بلى .. الأمر لا يتعلق باضطرابات الشخصية تلك التي أخبرتني عنها أو أيًا كان تسميتُها، سادية أو حتى غِيرة .. لا يهم، كل ما في الأمر انني اكتشفت طبيعة عملك بالمافيا، ثم حدث كما يحدث بأي فيلم رتيب .. حبستني وعذبتني .. أليس هذا ما اخبرتني به في البداية؟؟ .. لكن ليس بسبب الغيرة، بل بالتأكيد لأنني أردت الفرار أو أردت كشفك .. وحينما تأكدت بأنني قد فقدت الذاكرة تركتني وأنت...
- كلا .. كلا
زمجر بها بطريقة أربدت خلايا جسدها، وبالفعل أسكتها عن ترديد تلك الادعاءات المجحفة لثواني بقيت فيها ترمقه بعين الاتهام، التي تنفي دون رحمة جذور العشق الذي نمى بينهما يومًا!!
حسنًا، يمكنه التعامل مع كراهيتها بعد عشقها، ولكن أن تنكر ذلك الحب وتمحيها من حياتها كأن لم يكن؟! هذا ما لن يسمح به!! .. هي أحبته!! .. هي الشخص الوحيد الذي عشقه كما هو، دون شرط أو مصلحة .. هي من علمته طريق الحب، وماذا تعنى بالأساس تلك الكلمة .. هي من اهدته الطريق إلى نفسه الضائعة!! .. وهو يرها الآن، تعتزم هدم بنيان هذا الحب بما يحمله من ذكريات، هي صدقًا كل ما يدخر من هذه الحياة الزائفة؟! .. تريد ان تنسف كل ما له في هذه الحياة لمجرد انها لا تتذكر، لهو العبث بعينه!!
ولذلك، كان لزامًا عليه إثنائها عن ذلك، لكن هذا نجح سوى جزء من الثانية؛ فما لبثت أن عادت الابتسامة السامة ترتسم على محياها بينما تجابهه بكبرياء عتيـّد وقناعة صِلدة تخترق عينه بعينها الفاقدة للشعور:
- لم لا؟؟ .. هذا يبدو منطقي بالنسبة لرجل عصابات..
لم تكمل جملتها إلا وقد فلتت منه بادئة ضحكة هازئة لم تكسر شيئًا في ملامحه المتصلبة بألم .. بالكاد كان يصدق منذ دقائق أنها أهدته ثقتها أخيرًا، والآن... نحن هنا من جديد .. بالطبع، كان يعلم انها ستواجه صعوبة في تصديق ما يمليه عليها، بالنهاية لا أحد يستطيع انكار حقيقة أنه قد افسد حياتها الرائعة .. ولكن ليس بمثل هذا القسوة، ليس وهي تحمل هذه النظرة القاتلة بعينها .. تبًا، لمَّ كلما ظن بأنه سيحظى بفرصة معها تسلل من بين يديه كالماء؟! .. هز رأسه بسخرية من حاله بعيدًا عن مدارها، حتى أخذ نفس يستعيد به جزءً من تعقله قبل أن يقول بنبرة محذرة نافذة للصبر:
- نعم، منطقي .. انما بالأفلام فريدة!! .. أخبريني أننا لن نخوض في هذا مجددًا، أليس كذلك؟؟
قطبت جبينها بعدم فهم ومازالت على وضعها الهجومي؛ لذلك استطرد بصوت أكتسب بعض الخشونة، وقد انتصب في وقفته ليتضاعف حجمه أمامها مما أشعرها بالخطر، فبتلقائية اخذت خطوة حذرة للخلف:
- انظري، لقد وعدتك أن أخبرك بالحقيقة كاملةً، في المقابل أنتِ تعهدتي بالثقة .. لذا لا داعي لتلك المهاترات فريدة؛ لأن صدقيني، إذا لم أرد فعل هذا، فلن أفعله، وليس هناك قوة قد تحضّني على فعله!!
- والحقيقة أنني وقعت بحب مجرم دمرني، بل وخضعت له ليستخدم جسدي كيفما يشاء؟!
أردفت متمسكة بدحضّها لكل أكاذيبه كما تعقد -أو بالأصح- كما تريد أن تصدق .. إلا أن تعابيره الجامدة وعينه المعتمة التي لا تهتز رغم العاطفة التي تعبرها، أخبرتها بأنه ما يقوله ليس سوى الحقيقة .. لذلك -ودون أن تدري- بُهتت ملامحها وتهدل كتفيها بهزيمة بائنة وباتت أعصابها على حافة الهاوية قبل أن تسأل بنبرة ميتة:
- كيف ارتضيت هذا؟!
أعتقد للحظة أنها تعاتب نفسها، فتدّاعى سائر جسده لها بالألم .. حتى دنت منه، ومن خطواتها الغير ثابتة، بدأ ينتبه للرعشة التي تسري بجسدها .. خاصة حينما دخلت دائرة الضوء الخاصة به واستطاع أن يرى بشرتها الشاحبة، وارتجاف شفتيها بينما ترغمهما على الحديث بشراسة لاذعة:
- أنا أسألك هنا، كيف ارتضيت لنفسي أن أكون عبدتك؟! .. كيف فعلتها؟! .. بماذا أجبرتني على ذلك؟!!
حينها، علم أنه الآن في مهب إحدى أمواج غضبها العاتبة، وعليه التعامل بحذر كيلا تنفلت عقدة التعقل بينهما .. رفع ذراعيه في محاولة لتسكينها، وقبل أن تنتبه، كان يحتجب جسدها قربه، ومن فوره تسربت له برودة جسدها التي صعقته، فتمتم لها بفزع بينما لم تدخر هي جهدًا في دفعه عنها بنفور:
- اللعنة، فريدة أنتِ تتجمدين!!
- ابتعد عني .. أخبرتك لا تلمسني مطلقًا!!
مضطرًا ابتعد عنها، وبالكاد يرغم نفسه على استعمال سلاح الاستجداء:
- حسنًا، فريدة .. من فضلك دعينا ننزل للأسف لتحصلي على بعض التدفئة!!
احكمت ذراعيها تحتضن نفسها لتحصل على بعض الدعم، ومن ثم ازدادت تشبثًا بعِندها رغم النصب الذي ينال منها:
- لن أتحرك من هنا، وستجيبني على سؤالي حالًا!!
طحن ضروسه حتى ارتعش صدغيه بضراوة، لقد وصله حَـدّه منها .. اطلق زفير حارق وعينيه تزداد قتامة، قبل أن يحدثها عن شيءٍ هي ليس لديها علم إلى أي مدى قد يؤذيها .. بعض الأشياء يكن الجهل بها نعمة!!:
- ثقي بي، انتِ لستِ في حاجة للخوض في كل هذا!!
- بلى، هذا بالتحديد ما احتاج ان أعرفه عن نفسي .. اذا كنت بالفعل أحببتك .. واذا كنت رأيت مؤشرات الخطورة بشخصيتك ولم أبتعد .. إن كنت قبلت بأن اكون خاضعة لك .. فأنا اريد ان اعرف كيف فعلت هذا؟؟ .. كيف حولت كل ما بعقلي وشخصيتي لأكون شخص أنا لا اتصور حتى انني كنت؟!
بنهاية الجملة، أصبحت نبرتها ضعيفة يائسة وتحمل رجاء مبطن، بالكاد وصلت لآذانه، وكأنها تشعر بالعار لمجرد تصريحها بهذا، بالطبع كبرياؤها ممزع، تحاول عبثًا ترقيعه .. لكن ما لا تعلمه، أن إلحاحها الشديد كان يدفعه لحافة فقدان السيطرة، تستدرجه بحرفية من منطقة التعقل والوعي .. اللعنة، كيف يخبرها بهذا؟! .. كيف يخبرها بأنها لم تفعل هذا بمحض رغبتها الكاملة، إلا لأنه احتال عليها بطريقة ملتوية، وفي توقيت كان يشقّ عليها التفريق بين الحب الصادق وبين ما قدمه لها!! .. توسعت رئتيه بأنفاس يأخذها من السعير، ولهجته أصبحت شديدة الخطورة والتحذير مما تحذو نحوه الآن:
- لا تقسِ على نفسك .. الأمر لم يكن بهذه الطريقة التي تتصوريها!!
- هيا، لا تقلل من انجازاتك .. لقد جعلت دكتور بعلم النفس خاضعة لك يا رجل!!
ثمة حجر ثقيل أُلقى بقاع روحه، فسحقها عميقًا .. كان يقف على بُعد محازي لها من هذا السياج .. يتلقف سخريتها النابعة من مرارة روحها، ولا يعرف بما يجيبها .. صُمَّتْ جميع حواسه؛ فقد ضرب هذا جزء معتمًا من الحقيقة داخله .. كان يستند على السياج بذراعه، وبإمكانه سماع صرير اسنانها القوي من هنا، بينما تقف هي أمامه تنتفض بين اللحظة وأخرى .. ومع هذا، رأسها الصلب يجعلها ترغم نفسها على التحدث بتلك الرعونة؛ لتثبت له أنها ليست في حاجة لمساعدته!! .. تبًا لكِ فريدة، ها أنتِ تجبرينا على خوض هذا مجددًا!!
حقّا ما الدور الذي عليه أن يلعبه الآن؟؟ .. بالطبع، المواساة لا تليق به!!، ولكن هو لا يشعر بالرغبة في مواساتها الآن، لفظاعة ما سيردده على مسامعها من حقيقة، إنما ما يسحق روحه ويحتضر لأجله هو عجزه عن هذا، عن حمايتها من ذلك الألم، ألم ستتعرض له مجددًا، ولو حتى ذهنيًا.
أن تقص من أين بدأ كل شيء وكيف وصلنا إلى هنا .. أن تبصر كل هذا بعين المسافر في طريق أنت تقف في نهايته الآن، تقف وتتمعن بالدمار الذي آل إليه كل فعل، كل فكرة، وكل هفوة راودت قلبك .. تتوق روحك حينها لو أن بالإمكان العودة حيث بدأ كل شيء، ليس لتصحيح الأخطاء التي ارتكبها، بل لجعل ما حدث كأن لم يكن!!
اشتدت قبضة يده حتى ابيضت مفاصلها، وفي اللحظة التالية كان يصفقها بحديد السياج في عنف؛ وهو يتخيل أن تلك اللكمة موجهه لها، تستهدف تمامًا رأسها، علّه ينجح في في مساعدتها على استرجاع ذاكرتها المفقودة!! اللعنة، هذا لا ينجح!!
انتفضت إثر ذلك تلك الواقفة خلفه، ثم خطت للخلف تحسبًا لأي تجاوز، وبدأت تفكر جديًا بالفرار، حينما أوقفها صوته الأجش:
- حسنًا!!
قالها والتفت لها بينما يمسح وجهه بإرهاقٍ بالغ، ثم استند بذراعه إلى خصره وهو يتقدم منها خطوة وعينه تملأها العاطفة والصدق:
- سأخبرك .. سأفعل أيما تريدين، فريدة .. لكن من فضلك دعينا نكمل هذا بالأسفل!!
- لا انا لن...
قاطعها قبل أن تتمادى في اعتراضها الأرعن من جديد، وهو يجرأ بصوت أجفلها وجعل الدماء تتيبس بأوردتها:
- وانا واللعنة فريدة، اقسم لكِ إذا لم تتحركي الآن، سأحملك بنفسي للأسفل، أيًا كانت العواقب!!
سحقًا له، ذلك الهمجي المجرم، عرفت انه يستمر طويلًا في ارتداء ثوب النُبل .. كانت تكمش عيناها بحركة لاإرادية تحاشيًا لتسعره، إلا انها حينما فتحتها من جديد لتقابله، شعرت برجفة تسري بجسدها .. لا رجفة خوف، ولا برد، او حتى تعب .. بل كانت رجفة حسية مميزة وخاصة جدًا .. رجفة جهلتها هي، وتعرف عليها جسدها اللعين، وكأنه يألفها!!
بدى من الصعب عليها التشكيك بخلجاته الصادقة، خاصة وتلك النظرة التي تنهال من عينه .. أكثر شيء تكرهه حينما ينظر لها بتلك الطريقة، ينظر لها وكأن حياته تتوقف عليها .. سحقًا له، سيفقدها عقلها!! .. اعتصرت أعلى عينها بتألم لتوقف الصداع الذي يفتك برأسها ومن ثم استسلمت له، وتركته يقودها للأسفل.
❈-❈-❈
بصالة الطعام المنفصلة عن المطبخ، كانت تجالسه بنصف وعي، فرغم ثباتها الظاهري نسبيًا، إلا أن الألم الذي يدق في أعصاب جسدها يستحوذ على جزء كبير من عقلها؛ مما يعني أن أغلب من تتلفظ به الآن ليس لها عليه سلطان، وهذا حقا خطير!!
جالت بعينها في الغرفة؛ فنادرًا ما لجأوا للجلوس بها .. كبقية الغرف هنا، كان طلائها كريمي يبعث على الراحة، واثاثها قليل وعصري .. فقط طاولة صغيرة تقارب لإحدى النوافذ الزجاجية للمركب ومكتبة للموسيقى، تقابلها مساحة مناسبة لرقص زوجين، وبالجهة المقابلة من الغرفة حيث تجلس، وُضع مقعدان هزازان ذوي تصميم عصري.
أرخت جسدها داخل الكرسي الوثير بينما تابعته وهو يشغل المكيف على وضع التدفئة، ثم دون أن تدري أحاطها بغطاء صوفي كبير أسكت رعشتها .. وفي تلك اللحظة، أدركت أنها متعبه جدًا للتحدث، يائسة جدًا لسماع أي شيء ينفي ما قاله .. أي شيء ينفي الحقيقة .. لأنه بداخلها، كانت تعلم أن ما قاله هو الحقيقة .. حقيقة عُريها المخزي .. وتجردها من كبريائها ومبادئها .. تجردها حتى من مهنتها .. لتكن بالنسبة له مجرد أداة متعة!!
وضع بيدها كوب من الشوكولاتة الساخنة، فتدلت شفتيها بشبح ابتسامه قبل أن تسأله ببحة مجهدة:
- أنت تفعل هذا مرة أخرى!!
جعد جبينه باستغراب:
- افعل ماذا؟؟
تعمدت أن تتأخر في إجابتها وهي ترتشف من كوبها على مهل وتستمتع باضطرابه .. للتو لاحظت من طريقة جلسته، مدى تشنج جسده وكأنه على وشك أن يخوض معركة .. حسنًا، هو بالفعل كذلك .. اضافت بعدها بنبرة مثقلة تحمل شبح استهزاء:
- تحاول أن توقعتني في شباكك، عن طريق اظهار النبل في المعاملة، أليس كذلك؟؟
- صدقي أو لا تصدقي، منذ عُدت، ولم أُبَيّت لكِ أية نوايا سيئة خلف أفعالي!! .. حتى خطفك!!
كانت عينيه صافية، وكأنما قد انقشعت غيوم غضبه التي كانت تهدد أمنها منذ قليل .. بدى صادق، شفاف، مسالم، وهذا أزعجها للغاية .. إلا إنها سايرته في الحديث مدعية تصديقه:
- هذا منذ عدت .. ما اريد أن أعرفه، ماذا حدث في السابق؟؟
ارتجع في جلسته على الكرسي المقابل لها، ثم رواغ عن إجابتها وقد حانت منه ابتسامة عابثة كانت لتجعله أصغر سنًا لولا مسحة الحسرة التي لا تفارق عينيه:
- في السابق؟! .. أووه، ليس لديكِ فكرة حقًا عما فعلت؟! .. لم ادخر جهدًا كي أستخلصك لنفسي قلبًا وقالبًا.!!
- حسنًا، أنا انصت؟؟
بدت له كنِد في إصرارها، فذهب الاسترخاء عنه لتكسو ملامحه الجدية الشديدة:
- كما تشائين، لكن اعلمي فريدة أن ما سأقوله الآن لن يعجبك، وآسف مقدمًا، لا أعرف طريقة لجعله يبدو كذلك .. اعلم أنه بالكاد يُسَوّغ فعلتي، لكن تذكري أيضًا أنه أصبح جزء من الماضي الآن!!
لم تتخلى عن تعبيرها السطحي الجاف، فتحمحم بينما يفكر في مطلع لحديثه .. ثم عقد النية وشرع يفصل لها الحقيقة دون تزيين بصوت رخيم ذو رهبة:
- حسنًا، أنا لم أخبرك بحقيقتي الكاملة قبل الزواج .. اعني لم أصارحك بعملي ولا حتى بنواياي نحوك؛ لأنني قرأت هذا واضحًا بعينك فريدة!! .. لم تكوني لتقبلي بهذا، ولذلك انا.. احتلت عليكِ!!
توقف ليستطلع ردة فعلها إلا أنها ابقت على تعابيرها الخالية من الشعور، لذلك ضم قبضتيه بحزم متكئٍ على ركبتيه واستطرد مسافرٍ بذاكرته نحو البداية .. وكم كان هذا معذبٍ له!!:
- أنظري .. يشقْ عليّ قول هذا حقًا، ولكني وعدتك بأن أخبرك الحقيقة كاملة دون تزييف أو نقصان .. لقد أردت اخضاعك منذ اللحظة التي وقعت عيني عليكِ صدفة وانتِ تسيرين بعنفوان، وهالة من القوة تحاوطك .. شعرك الغجري هذا كان يُسحر بعبيره كل مارٍ، تتحدين الجميع باستغنائك عنهم .. تحديتني أنا فريدة حينما ترفعتِ عن مصادقتي بأول لقاء بيننا، وكأنك تخبريني بأن أيًا كان ما أحمله لكِ، فأنتِ في غنى تام عنه!! .. تحديتني ولم أعتد أبدًا على رفض تحدي، لذلك طاردتك كالمجذوب لسنتان اقتفي أثرك دون نتيجة .. وعندما وجدتك ثانيةً..
تريث يبتلع شيئًا ما علق بحلقه، والنظرة التي اتقدت بها عينيه، اخبرتها بأن ما يحكي عنه الآن شيئًا ذو سلطة عليه، شيئًا مجرد تذكره فقط، ألهب جسده بالإثارة!! .. وكل ما كان آتي، أثبت هذا:
- لم اتردد أبدًا في خطتي تجاهك، كنت أعرف ما أريده منكِ .. أردت خضوعك بأي ثمنًا كان، حتى لو كان الحرب .. في حين لم ترين أنتِ سوى بطل، هذا ما أردت أن تريه .. رجل شهم، ضحى بنفسه لإنقاذك .. حتى وإن لم تريدي هذا، رغمًا عنك انجذبتِ لي، وهذا ما كنت أريده أيضًا .. وما حدث بعد ذلك كان غاية في السهولة!!
رغمًا عنها، استعجلت إجابه بعينها .. لم تكن في مزاج رائق لاستعراضه المبتزل .. فقاطعته بلهجة متنمرة تقطر اتهامًا:
- حتى إذا كان هذا صحيحًا، فلمّ لم أنسحب من هذا الزواج عندما علمت بحقيقتك؟! .. تبًا، إذا تجاهلنا كارثة عملك بالمافيا، فكيف لم أنتبه لأعراض اضطراب الشخصية البارانودية؟! .. اللعنة، بالتأكيد كان هذا واضح!!
كان أدهم مستعد لهجومها، لذلك نبرته كانت لينه وهو يجيبها بسلاسة وقد تخطى عقدة الحديث عن هذا:
- ركزي فريدة، أنتِ عرفتي بأمر المافيا متأخر جدًا، كما اخبرتك!! .. أما عن البارانويا، فمَن قال أنكِ لم تلاحظيها؟؟ .. لقد لاحظتيها بالفعل، ولكني استطعت إخفائها ببراعة تحت زريعة السادية والسيطرة وواجبات الخضوع.
اهتاجت انفاسها وتشكلك بعينها نظرة ملتاعة:
- نعم، هذا بالضبط ما أريد أن افهمه!! .. كيف قبلت بالخضوع لك .. كيف استطعت أن تقنعني بذلك؟؟ .. انا بالكاد اصدق أنك تتحدث عني!!
أوصد عينه عنها كي يستطع اعطائها الإجابة التي تنشدها:
- حسنًا، لنقل أنها كانت خطة متقنة .. مدخل هذه الخطة كان تعلقك بأستاذك "بن" .. حسبما أخبرتني وقتها، فقد استطاع نوعًا ما تعويضك عن دور الأب الذي كنتِ مفتقداه .. أعني، وقف جانبك في غربتك، دعمك في دراستك حتى أنهيتها، وقدم لكِ فرصة عمل خيالية اختصرت عليكِ سنوات من السعي والشقاء حتى تصلي لما وصلتِ له في ٣ سنوات فقط .. حادثة قتله أمامك جعلتك تخوضي في صدمة، فككت تفكيرك، وأعادتك لنقطة تعلقك الأولى، هزت قناعتك وزعزعت ركيزة أمنك التي كنتِ تتوكئين عليها .. جعلتك في حاجة ماسة لسد فجوة الاحتياج التي خلفتها .. اكتئابك لم يجعلك في حالة ذهنية مُهيئة لاتخاذ أي قرار، خاصة الزواج .. حتى صارحتني تلك الليلة المميزة التي أخبرتك عنها بسرك الثمين .. ولن أنكر فريدة، رغم صدمتي في أن هالة القوة التي جذبتني لم تكن سوى قناع واهي تحتمي خلفه، إلا انني لم اتردد في استغلال هذا كطريق مختصر لهدفي .. في هذه الليلة، تبدلت خطتك نحوك من ترويض فرس جامح كان يقتلني بعدم احتياجه لأحد، إلى رعاية قطة مفتقدة للحنان تبحث عن العيش في كنف من يأويها، تمامًا كأي خاضعة .. خاضعة مثالية .. ذلك النوع النادر في النساء، على درجة كبيرة من الاكتفاء الذاتي أمام الجميع ولا ترضى بإظهار خضوعها وضعفها امام أحد سوى مسيطر على درجة عالية من التمرس والقوة!!
كان يتحدث بجدية وملامح وجه منبسط وكأنه يحكي لها عن فيلمٍ ما!! .. إلا انه لهث مع آخر جملة له، ليرمقه بالنظرة الشغوفة ذاتها .. ثم أكمل مبررًا بعجز، وبملامح أكثر لينًا بينما عملت أصابعه على تمسيد خصلاته، كأنما يهون على نفسه تلك اللحظات المريرة:
- هذا ما رأيتك عليه فريدة!! .. ولفترة طويلة سعيت لزرع تلك القناعات برأسك .. فبعد أن حاصرتك بضغطي لتوافقي على الزواج بدافع حمايتك -وكان هذا نوعًا ما صحيح كما اخبرتك- لم أجعل امامك الكثير من البدائل للتفكير .. مشاعرك المذبذبة وعدم اتزانك مهدا ليّ الطريق لغرز بذور الخضوع بداخلك، لتهيّئك لذلك، للقضاء على كل ذرة قوة حقيقية تملكينها، وقد تشكل تمرد فيما بعد .. كنت شديد الحِنكة، وشديد التأني كعادتي في كل صيدٍ ثمين .. تركت لكي الحبل لتعتقدي بأنكِ تملكين حقّا تقرير مصيرك، وفي الحقيقة أنا من كنت أحركك جذبًا ومدًا نحو ما أريد!!
أنهى حديثه وهو يأخذ نفسًا واسع، وكأنه انتهى من مهمة صعبة .. ولأول مرة تراه خارج نطاق سيطرته على لغة جسده، يتململ في جلسته وقدميه تتحرك بلازمة عصبية استعدادًا للرحيل .. إلا انها، وفي الواقع، كانت تعاني كمَن تم تلقت ضربة قوية على رأسها .. فبات حديثها غير متماسك، تغلب عليه الصدمة .. وصداع رأسها يجعل هذا بمثابة عذاب:
- أنت كيف..؟؟ .. كيف تكون بهذا الـ.. لا اعرف حقًا .. يصعب عليّ ايجاد وصف يناسبك .. الأمر تخطى كونك سيكوباتي فائق الذكاء!! .. أنت .. انت كنت تفهم في هذا وكأنك اا ..
عاجلها أدهم حالما لاحظ معانتها .. وقد فهم ما تحاول شرحه:
- وكأني أجيد فَهم النفس البشرية؟؟ .. نعم فريدة .. لقد أصبتِ التخمين!! .. أنا بالفعل كذلك، لقد كنت شغوفًا لسنوات بدراسة علم النفس، وحيل تحريك العقول والتوجهات؛ فإذا أردتِ السيطرة على جسد أحدهم، لابد لكِ أولًا النجاح في السيطرة على عقله!! .. إذا ملكتِ العقل، ملكتِ الشخص بالكامل!! .. اعتدت فعل هذا، وهذا ما كنتُ احاول فعله معك أيضًا، بل وأنتِ بالذات!! .. دكتور بعلم النفس، كان بالنسبة لي تحدي يمس ذكائي أكثر منه تحدي لساديتي .. السيطرة علي عقلٍ كهذا، كان لها مذاقًا فاخر، ونادر، فريد لن تفهميه!!
كانت تبدو ذاهلة، تائهة تمامًا .. عينيها غائرة، كالواقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي .. فجعل من طريقته أكثر رأفة وتحدثت بما يعرف بما يموج داخلها بحثًا عن منفذ:
- أعرف، بالتأكيد يبدو لكِ فعل حقير، دنيء، مجرد من الشرف .. ولكن هيا، أنتِ تتحدثين عن شخص سيكوباتي، لا يؤمن بكل هذا، ولا يوجد بقاموسه التعاطف أو الشعور بالذنب!! .. أناني حتى فيما يمنحه، لا يعطي أي شيء إلا وكانت استفادته أكبر مما يبذله .. وهذا ما حدث، صدقيني فريدة اعطيتك الكثير، حاولت تعويضك بسخاء عن كل ما تفتقديه؛ ذلك لأني أردت ربطك بي بشيء أقوى من السادية أو الزواج!! .. أردت أن تُدمني ما أمنحه لكِ ولا تستسيغِه من شخصًا قبلي ولا حتى بعدي .. أن أكون الحياة بالنسبة لكِ، ففي اللحظة التي تتقررين فيها تركي، يكن قرار انتحارك!! .. أردت هذا بشده فريدة لشيئًا ما في نفسي!! .. وهذا ما عرفت فيما بعد من دكتور مايك، انه شكل من أشكال العلاقات الغير صحية، يسمى "علاقة الحبل السري"!!
شحذت صوتها وأول ما استطاعت نطقه بينما تمسد اصابعها جبهتها بعصبية مفرطة، وقد بدأت تستشعر غثيان يعتصر معدتها:
- أنت .. أنت كنت تخضعني لعملية غسيل مخ متقنة لدرجة مقززة!!
جف حلقه .. واصبح قلقًا حول توابع حديثه عليها؛ فهي بالكاد تنظر له .. وتبدو متوجعه .. وبالتأكيد ليس هناك مجال الآن لتقديم المساعدة.. شعر بالخوف من أن تصده قبل أن يقص عليها الجانب الآخر من الحقيقة، فاندفع يدنو منها جالسًا على عقبيه امامها ليكن وجهه قريبًا، وراح الحديث يتدفق من فمه بنبرة من فرط ما حملته من عاطفة، شغلتها عن ألمها الجسدي هذه اللحظة:
- إذا اردتِ أن تسميه هكذا، فكما تشائين!! .. ولكن أيًا كان هذا لم يفلح معكِ طويلًا، فعلى ما يبدو قد ثارت روحك المقاتلة ولم تقبل بالخضوع المطلق، ومن ثم عودتي لسيرتك القوية من جديد التي مقتها حقًا!! .. وما زاد الوضع سوءًا، أنكِ أردت تركي، وهذا فقط...
سكت لثانية، واحتدمت عينه بمزيج قاتل من المشاعر المتناقضة التي لم يستطع أن يقابلها بها، فنهض يسير حولها بعصبية كليث جريح وهو يضيف بعجز، حسرة، غضب .. ربما جميعهم معًا!!:
- لنقل أنه أشعل فتيلة جنوني .. كوني قدمت لكِ كل شيء، ومع ذلك لم يكن كافيًا لتتعلقي بي!! .. فزادت رغبتي المميتة في الاستحواذ عليكِ بأي ثمن، بأي طريقة!!
عند هذه النقطة تهاوت جدران صلابتها وسقط قناع التبلد، ليكشف عن حطام المرأة التي تختبئ خلفه .. فلفظت مكملة وهي تتجرع مرارة الكلمات:
- حتى لو بالقوة؟!
توقف ليحدق بها ورغمًا عنه، تداعت بذاكرته كل المواقف التي ناشدته فريدة فيها بالرحيل، توسلت بأن يتركها تذهب في طريقها بسلام .. إلا إنه -وفي كل مرة- كان يتقصد أن يبالغ في ردة فعله حتى يخيفها من تكرار الأمر، ليحذرها مما هو قادر على فعله حتى لو كان يعشقها .. لكن ما حدث كان...
سكت الحديث بعقله ولسانه بالوقت ذاته، بينما تجمد بوقفته أمامها كتمثال شمع ملتهب، وتلك النظرة المتخمة بالخذلان تملأه .. كان بداخله الكثير ليخبرها به، ليبرر، ليسهب في التفسير، ولكن في تلك اللحظة، رأى بعينها أن أيًا كان ما سيقوله، لن يغير من حقيقة كونها الوغد الدنيء بقصتها .. رغم ذلك، ورغم ترسخ الإدانة عليه .. إلا أنه حاول يتحدث بتخبط:
- لا أعرف ماذا اقول لكِ .. كما أخبرتك .. حينها كان لدي عدة معتقدات مشوهه، ربما ذلك كان بالبداية .. ولكني أقسم لكِ أن ذلك تغير فيما بعد عندما .. عندما أحببتك!! .. صدقيني فريدة، رغم كل ما بي من شرور إلا انني أحببتك!! .. لكن المشكلة كانت في المعتقدات المشوهة التي كانت لدي، كانت تعزز من مرضي وتدعمه من جديد كلما استمال قلبي تجاهك .. انا..
لكن يبدو أن فرصته كانت قد نفذت بالفعل .. فهبت فريدة تقف وهي تردف بتقطع وتلعثم:
- يكفي هذا .. لقد تعبت .. نكمل فيما بعد!!
بالكاد استطاع أن يومئ لها وهو يشاهدها بصراع تعاني لتحرك جسدها .. وقد أن تبدي منه أي بادرة، التفتت له بملامحها المحتضرة:
- سؤال أخير .. هل أنت مَن قتل "بن"؟؟
❈❈❈
يتبع