-->

الفصل السادس والثلاثون - شهاب قاتم

 


- الفصل السادس والثلاثون -


في صباح اليوم التالي.. الخامس والعشرون من أكتوبر 2019

نظر "عاصم" نحو "لميس" بأعين تفيض عشقًا في ذلك السكون ونسائم الهواء الرقيقة قبل أن يحتد دفء الجو في صباح أحدى أيام أكتوبر الخريفية التي بالكاد تسمح فيه بعض ساعات الصباح الأولى للهواء الهادئ أن تتخلل اليوم الذي يتحول حارًا فيما بعد ليهمس إليها مستفسرًا

- مبسوطة؟!

ابتسمت إليه بعذوبة لتجيبه سائلة وهي تشد على كف يده التي تتلمسها منذ وقت ليس بقريب فقالت:

- طبعًا.. أنت شايف حاجة غير إني دايمًا مبسوطة معاك؟

بادلها الإبتسامة هو الآخر ليجيبها بنبرة سعيدة:

-  لأ.. بس ممكن تعتبري سؤالي زيادة تأكيد مش أكتر

توسعت ابتسامتها وتهللت تقاسيم وجهها أكثر لتتابع حديثهما

- عاصم، أنا استحالة كنت اتخيل بس ربع السعادة اللي أنا فيها، ولا حتى كنت بفكر في الإرتباط، الموضوع بالنسبالي كفكرة كده كان زي حكم بالإعدام وكنت بشوف نفسي غبية لو روحتله برجليا أو فكرت فيه!

أطلق ضحكة خافتة بإبتسامة جذابة مندهشًا ثم رفع حاجباه ليسألها بغير تصديق:

- للدرجادي؟!

أومأت له بالموافقة بينما تلمست يده بكفها الآخر لتجعله يشعر خلال لمستها بالمزيد من المشاعر التي تشعر هي بها الأخرى وعله يستطيع تفهمها بما ستقول:

- بص يا عاصم، أنا مشوفتش حواليا أبدًا جوازة سعيدة، كله فيه حوارات، خيانة، مصلحة، إستغلال، أو علشان سنهم كبر، أو جواز علشان ده المفروض والعادات والتقاليد.. كل الأسباب اللي ممكن تتخيلها ما عدا الحب الـ pure والتفاهم!!

علشان كده الفكرة بالنسبالي بقت مرفوضة، كنت بفكر إن أي علاقة هابقى فيها هتأذيني بشكل من الأشكال وهتتحول مع الوقت، مكنتش بهتم غير بشغلي وبس وشيلت الفكرة من دماغي، بس لما عرفتك كل حاجة اتغيرت..

أشار لها برأسه متفهمًا وزم شفتاه وتظاهر بالجدية ليُعلق على حديثها بنبرة مازحة:

- كان قصدي أسألك مبسوطة إننا لوحدنا وخارجين بعيد عن أروى ومنة والبيت والشغل وكنت عايز أسألك لو بتحبي الـ morning dates  فجأة لقيت نفسي في حديث جاد عن الـ strong independent woman!! تغيير هايل للـ conversation!

صدحت بضحكتها حتى تأثرت عينيها بتجاعيد بسيطة لتتنهد في النهاية ثم أردفت بحديثهما:

- معلش.. دي عندي دي!! مشكلة إنك ترتبط بواحدة عملية زيادة عن اللزوم!! بس آه طبعا مبسوطة وبحب الـ morning dates  جدًا.. وعلى فكرة عمري ما اتضايقت من خروجاتنا مع منة وأروى.. وبعدين أنا بلاحظ دايمًا إنك عايز إننا نكون لوحدنا بعيد عن أروى واخواتك والبيت والشغل.. ليه كده يا عاصم؟ هو الموضوع بيضايقك؟

زفر بضيق واختلفت ملامحه وجذب يده بهدوء من بين كفيها لتلاحظ هي اختلاف مزاجه الذي ظهر عليه ولكنه اجاب سؤالها بنبرة منزعجة:

- بصي، احنا طول عمرنا في مشاكل، مشاكل شغل وبيت وعيلة، ماما مكانتش كده، وأروى دايمًا بتستغل اللي يجي في طريقها ومصلحتها قبل أي حد وأي حاجة.. مليش دعوة بقى اتغيروا فعلًا بعد موضوع حادثة أروى ده ولا لأ.. بس أنا مش عايز علاقتي بيكي تتأثر ولا يطولها مشاكلهم، لا شغل ولا بيت ولا أي حاجة.. كفاية بقى كده، أنا عايز ابعد عنهم امبارح أصلًا مش النهاردة.. ولولا اللي حصل لأروى ده مكنتش طولت في خروجاتها معانا ده.. أنا بس مقدر اللي حصلها..

همهمت له في تفهم بينما لاحظت جيدًا بذكاء ما يوده "عاصم"!! عرفت الآن أنه يريد الإنعزال التام بعلاقتهما بعيدًا عن أُسرته بكل من فيها، وكذلك بأمور العمل.. ابتسمت إليه في تأكيد ودعم نقلته خلال ملامحا المُحبة لذلك الرجل أمامها لتحاول طمئنته بكلماتها:

- متقلقش، احنا هنكون دايمًا كويسين طول ما فيه ما بيننا ثقة وتفاهم، ولو على البيت وأروى والشغل فبرضو متقلقش وهحاول كده ابقى اتحجج بشغلي واني مشغولة لو ده هيريحك..

بادلها بإبتسامة مقتضبة ثم شرد لبرهة، هو لا يزال يود الهروب، الفرار هو الحل الوحيد مع تلك العائلة التي لا تنتهي أساطيرها من معارك جليلة.. هو فقط لا يريد الحياة بتلك الأساطير العظيمة.. كل ما يريده هو الراحة والإستسلام في حياة هادئة خالية من المشاحنات والجدالات التي لا تنتهي..

          تلمست لحيته الكثيفة وهي تحاول للمرة الآلف أن تطرد ذلك الخمول الذي يسيطر عليها منذ أن استيقظت بينما توسد بطنها معانقًا خصرها بكلتا ذراعيه في سكون واستمتاع بإقترابها منه مغلقًا عينيه في راحة تامة فأخفضت نظرها وهي ترمقه في عشق وابتسامة جميلة علت شفتيها لتهمس له بإستفسار:

- سولي يا حبيبي مش هننزل نفطر بقى مع بدر ونوري؟

همهم إليها بقليل من الضيق واشتدت ذراعيه حول خصرها أكثر ليتحدث بصوت تسلله إنزعاج طفيف:

- لا يا زوزا خلينا شوية.. أنا مرتاح كده..

توسعت ابتسامتها على طفوليته الشديدة معها ثم داعبت تقاسيم وجهه بأناملها وأظافرها لتحاول معه من جديد كي لا يتأخرا أكثر من ذلك فهمست له:

- لاحظ إنك كل اجازة يا مقضينها برا يا بنصحى متأخر اوي وأنا مش عايزة أزعل خالو على فكرة..

زفر في امتعاض وأتكأ على ساعديه والتفت رافعا وجهه إليها بنظرات يتضح عليها الضيق مما سمعه ثم حدثها في انصياع بالنهاية:

- علشان خالو!! ماشي يا زوزا هانم.. كانت شورة مهببة يوم ما وافقت نتجوز ونعيش في البيت ده!

ضحكت بخفوت على ما استمعت له ثم ردت على كلماته:

- ده أنت روحك فيهم حرام عليك.. لو بعدت عنهم مش هاتستحمل! عامل زي السمكة اللي لو خرجت من المياة مش هاتقدر تعيش..

تنهد مبتسمًا لها بمصداقية وهو يتفحص زرقاويتيها في امتنان شديد وأومأ لها بالموافقة ثم قال:

- دي حقيقة فعلًا.. أنا لو كنت بعدت عنهم كنت هضايق بجد.. بتدلع بس عليكي مش أكتر إنما أنا لو بعدت عن البيت ده مش هاكون مبسوط أبدًا..

لانت ابتسامتها ثم داعبت شعره الذي تعشقه واحتوت احدى وجنتيه بكفها وتابعت كلماتها إليه غامزة له بمزاح في النهاية:

- ما أنا فاهماك وعرفاك كويس أكتر من نفسي.. يالا بقى نقوم وبعد الفطار ابقى كمل دلعك عليا براحتك

جذب كفها بخفة ثم قبله عدة قبلات في مزيدًا من الإمتنان إليها ثم نهض سريعا بنشاط ومد يده إليها لتُمسك هي بها ثم توجها معًا إلي الأسفل نحو المطبخ وكلما ازداد اقترابهما استمعا لصوت احدى الأغاني الكلاسيكية الإنجليزية القديمة تصدح مع تلك النسمات الهادئة وأشعة الشمس التي تتسلل المنزل بأكمله..

أقتربت "زينة" من "نورسين" لتبادر بمساعدتها في تحضير الطعام وهي تتحدث إليها لتقول:

- صباح الخير يا احلى نوري.. قوليلي بقى أساعدك في إيه احسن سليم عمال من الصبح يقولي يالا ننزل نفطر أنا جعان..

التفتت إليها "نورسين" لبرهة بإبتسامة رائعة ثم أعادت نظرها لما تفعله لترد عليها:

- صباح الخير يا حبيبتي.. متعمليش أي حاجة خالص.. اقعدي بس مش عايزة اتعبك وقربت اخلص خلاص

ابتسم سليم وهو ينظر لكتاهما ثم حاوط خصر والدته بذراعه وقبل جبينها ثم تحدث إليها:

- والله ما فيه حمى قمر كده زيك، تصحى الصبح ومشغلالنا أغاني وبتعملنا احلى فطار، محظوظة زوزا دي.. صباح الخير يا نوري أنت يا حلو يا مدلعنا

توسعت ابتسامتها ثم أخبرته بنبرتها الهادئة العفوية دائمًا:

- صباح النور يا حبيبي.. وبعدين أنا عندي مين أغلى من سولي وزوزا يعني!!

دخل "بدر الدين" الذي يبدو وأنه كان على مقربة يتابع ذلك الحديث منذ مدة ليتحدث لسليم بنبرته الرخيمة قائلًا:

- حيلتها ينزل ايده بدل ما توحشه ومياخدش على الوقفة دي كتير بدل ما اضايقه على الصبح..

التفت "سليم" لينظر إليه بإبتسامة متحفزة بينما تابعت "زينة" بعينيها ذلك العراك الذي أوشك على الحدوث في استمتاع ليرد هو على والده في النهاية:

- يا باشا واحنا نقدر.. أنا بس قولت يعني مينفعش نصبح على القمر ده بكروتة..

نظر إليه بثاقبتيه السوداويتين مهمهمًا في تهكم ليتابع حديثهما في سخرية:

- لا يا حيلتها اقنعتني..

التفت في ثوانٍ نحو "زينة" بإبتسامة رائعة ليحول حديثه إليها:

- الحلو أبو عيون جميلة ده يرقص مع خالو على ما نوري تخلصلنا الفطار؟!

توسعت زرقاوتي "زينة" في غير تصديق ولكن علا وجهها الإبتسامة وأمسكت بيد خالها الذي يدعوها إلي الرقص على تلك النغمات الرائعة:

- يا نهار أبيض، وأنا أطول برضو!!

شرعا في الرقص ليراقبهما "سليم" بعينتين يفيض الغيظ منهما واستند خلفه ليشاهدهما عاقدًا ذراعيه بإبتسامة مقتضبة ليرمقه والده في انتصار ولكنه لن يترك الأمر ليمر بسلام هكذا فتوجه إلي "نورسين" بنبرة تحمل الجدال تجاه والده أكثر منها عرضًا بريئًا بالرقص:

- نوري يا حبيبتي.. ما تسيبك من الفطار وتيجي ترقصي معايا وتسيبك من الفطار شوية، ولا احنا ملناش نصيب زي ناس؟!

قبل أن تجيبه "نورسين" تدخل "بدر الدين" بنبرته الرخيمة المحذرة ليقول:

- حيلتها شكله عايز يتطرد من البيت النهاردة ولا إيه؟!

أقترب "سليم" نحو والده وزوجته عندما رأى توقفهما عن الرقص ليجذب "زينة" ليراقصها بدلًا منه ثم أخبره في انتصار:

- لما احنا مش قد الغيرة، بتلعب معايا ليه بس!!

صدحت كلًا من "زينة" و"نورسين" بضحكاتهما ليقرب "سليم" الأولى من عناقه أكثر وهو يتابع رقصتهما سويًا ولكن فاجئه "بدر الدين" بلكمة مباغته على احدى ذراعيه ليتحدث إليه في غيظ شديد ولكن كان مازحًا:

- طب إيه رأيك با ابن الكلب ملكش فطار معانا، امشي يالا اطلع برا!!

ضحك ثلاثتهم على ما قال "بدر الدين" والجميع يعلمون أن هناك جدال جديد سيبدأ كالعادة بينهما وأكملا صباحهم في سعادة مثل ما اعتادوا كل يوم!

          أهذان نهدان الذي يراهما؟! لم يتذكر قضاء ليلته أمس مع أي إمرأة! منذ متى وهو ينم محتضنًا إمرأة على كل حال؟ لم يفعلها بحياته أبدًا..

حاول أن يُسلط تركيزه عندما أستيقظ ورفع نظره ليدرك أنه محتضنًا "فيروز" ليرفع حاجباه في دهشة هائلة وتباعدت شفتاه في عدم تصديق وقد تلاشى النعاس تمامًا في جزء من الثانية وهو يحاول تذكر ما الذي حدث ليجعلها تنام بجانبه هكذا! هو مستعد أن يدفع سنوات من عمره بأكمله كي يعرف ما الذي دفعها لتوافق أن تنام بسريره بل وتسمح له بمعانقتها بمثل هذه الطريقة!

أخذت عقدة حاجباه في التصاعد من ذلك الوضع الذي جمعهما، وابتسم في عدم تصديق وحاول أن يتذكر ماذا حدث ليلة أمس كي يستيقظ ليجد نفسه بين ذراعيها ولكنه باء بالفشل، آخر ما يتذكره هو أنها حقنت وريده بعقار ما وأنه كان يشعر بالسخونة تندلع بكامل جسده، هل هذا من شفقتها عليه مثلًا؟!

حاول الإبتلاع ليشعر بآلم بشع في حلقه ولكنه سيترك كل شيء جانبًا كي يستمتع قليلًا بعناقها إليه.. ظل ينظر إلي ملامحها التي لم تكن قريبة للغاية هكذا منه في يوم من الأيام في ذلك الهدوء والإستسلام منها فهي قلما ما تسمح له بالإقتراب!!

كم تبدو ملامحها جميلة، بل رائعة، لم يكن يستطيع النظر لتلك الشفتان ولا وجنتيها المستديرتان كي يستكشفهما بتلك الطريقة بالسابق، ما الذي يمنعه ويوقفه عن تملكها كي يستيقظ على إقترابها وملامسة جسدها هكذا كل صباح؟ لماذا لا يغفى بعناقها كل ليلة هكذا كي يستنشق المزيد من رائحتها التي باتت تشعره بالألفة والسكينة كما لم تفعل أي أنثى على وجه الأرض من قبل؟

تنحنح رغمًا عنه دون قصد لشدة شعوره بالعطش ولكنه لا يريد الإبتعاد وفضل المكوث بالقرب منها ليحدث ما كان يخشاه ليجدها تشرع في الإستيقاظ ليلعن حظه الملعون فابتعد عنها سريعًا ولكن دون مبالغة بمسافته.. هو بالنهاية يعلم أنها ستكون أول من سيبتعد من هذا العناق ولم يرد أن يشعرها بعدم الراحة وتابعها بداكنتيه وهي تفتح عينيها في سيطرة تامة للنعاس عليها ليلاحظ حدقتيها الزمرديتان مما جعله ولأول مرة يقع في عشق اللون الأخضر الذي يحتوياه جفنيها وبالنهاية رسم ابتسامة على شفتيه ما إن تلاقت أعينهما ليهمس لها:

- صباح الخير..

ضيقت ما بين حاجبيها في محاولة لطرد النعاس لترد عليه:

- صباح النور.. عامل إيه دلوقتي؟

مط شفتاه وملامحه المُرهقة تظهر عليه ولكنها لاحظت أنه أفضل من ليلة أمس ليجيبها بعد لحظات:

- احسن! شكرًا يا فيروز

استمعت لنبرته الممتنة بينما امتد كفها وتحسست جبينه ليبتلع هو وهو يراقبها وكم كره أنها تركت جبينه سريعًا ليطلق زفرة تعج بالضيق وفشل في اخفاء انزعاجه لإبتعادها فكسرت هي ذلك الصمت وهي تخبره بنبرة لا تزال تحمل آثار النوم:

- قوم خد شاور بمياة دافية.. والساعة حداشر معاد دواك.. أنا هقوم أحضرلك فطـ..

رفع حاجباه في تعجب لتلقائيتها الشديدة بينما أوقفها بعد أن لاحظ أنها تحاول النهوض وترك الفراش فأمسك بساعدها في خفة ورفق ليقاطعها متسائلًا:

- ثواني بس.. أنا مستعد ادفع عمري كله علشان أعرف إيه اللي خلاكي توافقي تنامي جانبي امبارح؟ إيه اللي حصل يا فيروز؟

ابتسمت بإقتضاب ولقد قررت مسبقًا بعد كل ما سمعته منه ومشاهدة تلك الحالة من الهذيان والإنهيار الذي لمّ به ألا تخبره بحقيقة الأمر فحمحمت ثم اجابته بمنتهى الثقة والهدوء:

- مفيش، كنت بعملك كمادات، كنت قاعدة جانبك.. وتعبت ونمت!

ضحك بخفوت وهو يتفحص حدقيتها بداكنتين عاشقتين، ولكنهما لا يزالا يستطيعان معرفة الكذب من الصدق! هي ليست بصادقة الآن أبدًا ولم يقتنع ولن يصمت فتابع حديثه ليقول:

- فيروز اللي اعرفها كانت ممكن تنام على الكنبة، الكرسي، أو تسبني وتجيلي الصبح!

ابتسمت بقليل من الإنزعاج وهي تنظر له وأومأت في تفهم ثم هزت كتفيها لتقول بهدوء:

- خلاص مش هاعملها تاني..

توسعت ابتسامته وقربها منه وتوسعت عسليتاها لإقترابه منها في تحذير فتمتم هو مازحًا بصوت عج بالمكر:

- لا ما أنا عايز أعرف بالظبط اللي حصل علشان أكرره واخليكي تنامي جانبي.. لو على التعب اتعب كل يوم عادي..

ارتفع حاجبيها لرؤيتها ملامحه التي اختلفت تماما عن ملامح ذلك الرجل المصاب بالحمى ليلة أمس وذلك الخبث الذي ظهر بعينيه لتزجره بمنتهى الجدية قائلة:

- شهاب، متخلينيش أندم إني بتعامل معاك كويس! لو سمحت ابعد وسيبني أقوم!

زفر في استسلام ثم ابتعد عنها في كراهية لجديتها دائمًا فيما يتعلق بالإقتراب منها بالرغم من أنها قد نامت بجانبه لساعات وقع تفكيره بحيرة شديدة أخفاها ببراعة ثم تحدث بإنزعاج:

- مبتهزريش أبدًا!! عمومًا شكرًا يعني إنك جيتيلي وفضلتي معايا..

 نهض وهي تتابعه بعسليتيها لتنهض هي الأخرى وكادت أن تتحدث لكنه بادر هو وهو في طريقه نحو حمام غرفته ثم قال:

- أنا مش مصدق كلامك.. يا ريت على ما استحمى تكوني فكرتي في إجابة تكون مقنعة شوية!

رمقته إلي أن اختفى بداخل حمام غرفته لتتوجه هي سريعًا للخارج فيكفي أنها للتو استيقظت من فراش رجل عاري الصدر ورائحتها بأكملها لا تشابه سوى رائحته هو ولا تريد أن تراه من جديد عاريًا وهي تعلم جيدًا أنه قد يفعلها كما فعلها بالسابق من قبل!

هزت رأسها في استنكار هائل لفعلتها وتمنت لو عاد بها الوقت كي ترفض طلبه منها ولكن كيف كان عليها أن تتركه بعد كل ما استمعت له منه؟ لو كانت تشابه الحجر في قسوته لما كانت تركته أبدًا! ولكنها بنفس الوقت لا تستطيع سوى أن تلوم نفسها على ما فعلته..

بالرغم من ذلك الود الذي تحمله له كصديق، وبالرغم من الشفقة التي تملكت منها عندما استمعت لما قاله، ولكنهما ليستا بكافيتان كي يسمحا لدينها وتعاليمها وحتى مهنتها في أن تقبل أن تنام بجانبه وتشاركه فراشه..

زفرت في قلة حيلة وشعرت بالتخبط الشديد عندما تذكرت حديثه ليلة أمس لتتصاعد الشفقة من جديد بداخلها وهي تُفكر كيف عليها أن تواجه مثل هذه الصدمات البشعة في حياته واحدة تلو الأخرى..

- ليه اغتصبوني يومها؟ ليه عملوا فيا كده.. ليه يا فيروز ماما سابتني علشان يؤذوني كده؟ ماما هي السبب، اغتصبوني بسببها! بقيت عايش بالعقدة دي لغاية النهاردة.. ليه حصلي كده؟ ليه؟!

توالت شهقاته في حالة غريبة تمامًا لم تظن أنها ستراه عليها يومًا ما فهي لا تدري أتبكي من أجله، أم تحاول أن تهون عليه من شدة هذه الفاجعة التي حدثت لطفل أوشك على إكماله الثمان سنوات؟

ضمته لها أكثر وأنهمرت احدى دموعها دون تحكم منها وربتت على شعره المبتل بعرقه الغزير ولكنه أصدر هينمات بصوت متهدج كالمقهور:

- هي لو كانت غادة عرفت كانت ممكن تبقى معايا دلوقتي؟ هي ليه كسرتني اوي كده يومها؟ أنا بكرهها وبكره ماما وبكره كل حاجة في حياتي..

أدركت أن هذا هذيان محض وليس هو ذلك الرجل الذي عرفته يومًا ما لتتحدث إليه بصوت حاولت أن يبدو تلقائيًا وهي تمرر يدها عى شعره لتخبره في حنان:

- نام يا شهاب واهدى.. هنتكلم في كل حاجة الصبح!

ارتجف جسده دون وعي منه أبدًا لتضمه أكثر إليها وجذبت الغطاء عليه لتدثر جسده المحموم ولكنها شعرت بصلابة التفاف ذراعيه حولها بشدة ليصدر هينمة غير مفهومة بالنسبة لها بنبرة متقطعة غير واضحة ولكنها عبرت عن توسل واحتياج شديد:

- انتي مش.. هاتسبيني! صح؟.. ارجوكي.. فيروز..

هذا ما استطاعت تبينه لتزفر في آلم شعرت به من أجله لتومأ حتى دون أن يراها ولم تتوقف عن تمسيد شعره في رفق لتهمس له بتأكيد:

- مش هاسيبك متخافش.. اهدى ونام.. كل حاجة هتكون احسن إن شاء الله..

- فيروز!

أخرجتها نبرته الجلية المنادية بحدة من تذكرها ما حدث ليلة أمس لتنظر للطعام الذي أمامها الذي أوشك على الإحتراق ولاحظت أن "شهاب" بجانبها ينتشل الطعام سريعًا لتحمحم وهي تحاول استدراك ما فعله شرودها وتفكيرها بالأمر لتبادر بالحديث بنبرة صرخت بالتوتر وهي تدلك جبينها:

- أنا آسفة.. سرحت بس.. ممم..

رمقها بنظرة جانبية متفحصة كأنما يلج بثاقبتيه لداخل رأسها ثم تسائل بتلقائية يختفي خلفها الكثير من مشاعره:

- ويا ترى مين سعيد الحظ اللي واخد عقلك اوي كده؟!

ضيقت ما بين حاجبيها والتفتت لتنظر له بينما أجابت سائلة:

- وليه ميكونش اللي واخد عقلي موضوع مش شخص؟

ابتسم وهو يطأطأ برأسه للأسفل ورطب شفته السُفلى ليلتفت لها هو الآخر وتحولت ملامحه للجدية والجمود وهو يتفحصها بطريقة دفعت لها القليل من التوتر ليعاود سؤالها من جديد بحدة لم تتوافق مع ابتسامته السابقة:

- إيه اللي حصل امبارح خلاكي تنامي جانبي؟!

لم تتلاقى أهدابه وهو ينظر بحدقتيها في تدقيق لا نهائي لتحمحم هي واجابته بنبرة متوترة:

- ما قولتلك يا شهاب.. كنت تعبان وأنا تعبت ونمت و..

رفع حاجباه ثم أخفضهما بسرعة وقاطعها بهمس هادئ ولكنه لا يبشر بالخير أبدًا:

- الكلمتين دول مش داخلين عليا.. هسألك تاني.. إيه اللي خلاكي تنامي جانبي؟

زفرت ثم رفعت شعرها للأعلى وابتعدت بحدقتيها عنه ليقترب منها بجرأة محاوطًا أسفل ذقنها بسبابته وإبهامه كي يجبرها أن تترك له عينيها ليبحث بهما عن الصدق واستطرد بحدته التي ظنت أنها ودعتها للأبد:

- بصيلي وأنا بكلمك وجاوبي السؤال! إيه اللي خلاكي تنامي جانبي امبارح؟!

تلاقت أعينهما وتنفست هي بتوتر بينما كادت أنفاسه أن ينفذ صبرها من إقترابها الشديد منه ليحاول أن يتريث بأعجوبة لتوصد عيناها تعتصرهما ولكنها بالنهاية أجابته بثقة وهي تنظر إليه:

- أنا مش هاكدب عليك.. مبحبش أكدب على حد قريب مني.. أنت اللي طلبت مني إني أنام جنبك، والسخونية الشديدة أثرت عليك.. وكلمتني شوية.. عن مامتك وعن غادة!

استشعر صدقها الحقيقي ليُخفض يده وتفقد عينيها لبرهة بداكنتيه في تشتت ثم امتعضت ملامح وجهه في تقزز فتحدث بنبرة فارغة من المشاعر وتساءل بنصف ابتسامة:

- فأنتي نمتي جانبي شفقة يعني!

 هزت رأسها في إنكار بينما التفت هو ليبتعد عن مواجهة عينيها وهو يواجه رعب دفين بداخله ما إن كان أخبرها عن الشيء الوحيد الذي لم يخبره لأحد من قبل ليأتيه صوتها الذي بدأ في إزعاجه لقدرتها فقط ببضع كلمات أن تخرجه من تفكيره للسكينة والراحة:

- لأ يا شهاب مش شفقة.. حب!! مش شفقة خالص!

التفت ليرمقها عاقدًا حاجباه وعينيه متسائلة لتستطرد هي:

- هو احنا مش اصحاب، لو شوفتني تعبانة ولا زعلانة أكيد الموضوع هيفرق معاك زي ما فرق معايا، صح؟! زي ما سمعتني قبل كده وأنا منهارة وبعيط وبحكيلك عن ماهر جوزي وعن حياتي.. أنت مكنتش بتعاملني بشفقة، كنت مقدر إني مضايقة وحسستني إنك موجود جانبي، واحترمت كلامي عن اللي بيوجعني وبيضايقني.. سمعتني.. حسستني إني مش لواحدي وهو ده اللي كنت محتجاه زي ما أنت ما كنت محتاجله امبارح.. الأصحاب بيوقفوا جنب بعض، استحالة لو بتحبني وأنا بحبك وخلاص بقينا اصحاب قريبين اوي تسيبني في أي وقت أنا محتاجة فيه لحد جانبي، مش كده؟!

تفحصها وشعر بالإنزعاج لمناداة ذلك العاهر ماهر بزوجها بينما لقبته هو بصديقها وتأزمت عقدة حاجباه ليزفر في النهاية وأومأ لها بالموافقة بالرغم من ملامحه التي قاربت على الغضب الذي دفعها لتضيف:

- أنت المفروض متضايقش وأنـ..

أقترب منها لتتوقف هي عن الكلمات بينما حدثها هو مقاطعًا بنبرة منزعجة:

- أنا مش عايزك تتكلمي عن جوزك تاني! انسيه!

تعجبت لنبرته نافذة الصبر وارتفع حاجبيها في شَدَه ليتدارك ما تفوه به دون شعور ليُكمل مسرعًا بمنتهى الإستغلال للموقف بذكاء منقطع النظير:

- علشان بتبقي متضايقة اوي، وأنا مبحبش أشوفك كده، زي ما أنتي مبتحبيش تشوفيني متضايق!

أومأت له بالتفهم ثم تنهدت وابتسمت بمرارة ثم قالت:

- طبيعي إننا نضايق ونحزن، والكلام بيريح، سواء كلامي عن جوزي ولا كلامك عن اللي حصلك، فترة وهتعدي يا شهاب، سواء بالنسبالك أو بالنسبالي! كل حاجة هتكون احسن إن شاء الله!

لانت ملامحه وهو يومأ لها بالموافقة بينما كان يُقتل بداخله وكأن براكين من الغيرة البشعة تحرق دماءه فغير مجرى الحديث تمامًا فقال بملامح جاهد أن تبدو تلقائية متسائلًا:

- صليتي؟!

ابتسمت له في غير تصديق ثم أومأت بالإنكار واجابته:

- لأ لسه..

بادلها الإبتسامة ثم أخبرها:

- طيب يالا نفطر وصلي وبعدين نشوف هنعمل إيه..

          الآن يتهرب "عاصم" منها ويخرج كل يوم لقضاء الوقت مع "لميس"، أنسيت تلك الحقيرة أنها تعلم أن والدها هو زوج أمها الفقيرة؟! ستعمل على تذكيرها بذلك لاحقًا..

فكرت ببقية هذه الأُسرة اللعينة، "إياد" هو الآخر بصحبة أسما أو بالعمل، لم يكن أي منهما هي أو هو على علاقة طيبة من قبل، "آسر" بعيد بأميال سحيقة منذ الأزل ولن تستطيع استخدامه، و"زينة" تلك اللعينة تزوجت من أرادته وتحمل طفله بل وتنعم بحياة في منتهى السعادة معه، حتى والدتها هديل منشغلة بمرض جدتها الذي اشتد للغاية وبالكاد تراها..

لم يكن ينقصها وجود تلك المرأة الكريهة التي ترافقها كالهواء، اللعنة على خالها، هي حتى لا تستطيع التحرك بسببها منذ أن أحضرها إليها، عليها أن تبدأ في التظاهر بأنها تتعافى، وقتها ستستطيع التخلص من منة، حتى ولو أخذ الأمر عدة أشهر في مساعدتها على التمارين ستتخلص منها بالنهاية!!

هي لا تستطيع فعل أي شيء وهي جليسة هذا الكرسي كالسجينة، ظنت أن الأمر سيُشكل اختلافًا وستكون محط أنظار ورعاية الجميع ولكن يبدو أنها كانت مُخطئة.. إذن، عليها تغيير الخطة..

عليها أن تقف وتنهض، تتظاهر بأنها بدأت في الشعور بقدميها، عليها إقناع الجميع بالتعافي حتى تتمكن من فعل الكثير، وأول ما ستفعله ستأتي بتلك المرأة اللعينة التي اختفت بين ليلة وضحاها، ما الذي جعلها تغلق هاتفها وتختفي؟ هل يُمكن أن "شهاب" قد علم شيئًا عن اتفاقهما؟

وما قصة تلك المرأة التي تظهر معه دائمًا بالآونة الأخيرة؟ أهي دمية مثلما كانت "زينة" في يوم ما بالنسبة له؟ أم أنها تعني له شيئًا آخر؟!

ستكتشف كل شيء عن قريب، ولكن أولًا عليها أن تُغير مسار خطتها كي تستطيع أن تحارب الجميع وتأخذ حقها بأكمله..

أخذت قرارها ثم صاحت فجأة بعد أن حاولت دفع بعض الدموع عينيها:

- منة.. منة.. تعالي بسرعة أنا..

هرولت "منة" تجاهها بسرعة في قلق ولكن "أروى" استطردت وهي تنظر لها في إندهاش بنبرة عج بها السعادة المزيفة:

- أنا حسيت برجلي.. حاسة إنها موجودة.. أنا هامشي تاني.. أنا حاسة بيها بجد..

          ساد صمت غريب منذ أن آتت بعد أن فرغت من صلاتها وهما يتبادلا النظرات لتشعر "فيروز" بغرابة الأجواء حولهما ولكنها عليه أن تطرق على الحديد وهو ساخن، فهي لن تترك كل ما استمعت له ليلة أمس أن يمر دون إحراز تقدمًا معه..

نظفت حلقها وهي تنظر له بهدوء وتلاشى التردد بداخلها وتحلت بالثقة لتتحدث له قائلة:

- أنا كنت عايزة أقولك على حاجة أن ملاحظاها بقالي فترة!

عقد حاجباه في استفسار بينما يرتشف تلك الأعشاب اللعينة التي أجبرته على تناولها فلاحظت انتظاره لما تريد قوله فتابعت حديثها:

- شهاب أنت لما بتواجه الصدمات اللي حصلت في حياتك بحس إنك بتكون احسن، يعني مثلًا زي تفاصيل طلاق باباك ومامتك، حياتك وأنت صغير، الكلام في الأول بيوجع بس بعد كده بيبقى فيه نتيجة كويسة، لازم الفترة الجاية نبدأ سوا نتكلم في المواضيع دي..

حمحمت وهي ترمقه في تفحص لتلاحظ تقبله للحديث فاستطردت بالمزيد:

- محتاجين نركز على الثقة بالنفس، نصحح كام فكرة كده موجودين مش صح.. وأنا واثقة إن الموضوع هيفرق جامد..

أومأ لها في تفهم بينما ابتسم متهكمًا ثم سألها:

- وهو أنتي شايفة إني مش واثق في نفسي؟

هزت رأسها في إنكار وزمت شفتيها ورمقته في جدية لتطنب بحديثها معه كي تجعله يشعر بالإطمئنان:

- الثقة مش إنك ناجح وتقدر على أي واحدة ست وبس، أنا فاهمة أنت بتبص للأمور ازاي، الثقة اللي بتكلم عنها هي إنك توقف قدام مامتك، أخواتك، مرات باباك، عيلة زي عيلة بدر الدين وأنت مش حاسس إنك فيه حاجة نقصاك.. دي الثقة اللي بتكلم عنها!

تبادلا النظرات لتبدو هي واثقة بشدة مما تقول بينما اشتدت تقاسيم وجهه وعقدة حاجباه آخذة في مبالغة بالإتضاح بين حاجبيه ليغير مجرى الحديث قائلًا:

- بالمناسبة، المفروض إن سارة هتتكلم النهاردة!

ابتسمت بهدوء وهي تتفقده بعسليتيها لتدرك أنه يحاول التهرب من الأمر فتحدثت بنبرة هادئة:

- طيب، أنا عارفة إنك مشغول موضوع مرات باباك، وأكيد عندك شغل كتير المفروض متهملوش أكتر من كده، وأظن احنا اتفقنا هتقول لمرات باباك إيه..

نهضت من على كرسيها وهي تتوجه للأعلى لتحضر حقيبتها وتابعت حيثها لتقول:

- أنا محتاجة اروح وأغير وهبة كمان المفروض إني اكلمها لأني مقصرة معاها الفترة دي و..

توقفت عندما شعرت بيده التي أمسكت بساعدها في رفق فالتفتت إليه لتجده ينظر لها بلوم لا تعلم ما سببه لتنظر ليده التي تتلمسها ثم إليه بإستفسار:

- خليكي يا فيروز، أولًا احنا هنتكلم في الحاجات اللي قولتي عليها، ثانيًا أنا..

شعر بصعوبة لنطقه بتلك الكلمات وتعالى صوت عقله الذي يمنعه على الإذعان لها كلما أخبرته بأنها ستغادره ولكنه لا يود الإستماع له أبدًا فاستطرد بعد أن ابتلع وقال:

- أنا مش ضامن ممكن أعمل إيه مع سارة!! بلاش النهاردة تسيبيني لواحدي..

نظرت له لتستشعر مدى مصداقيته بينما لمحت الآلم يعتري وجهه وعادت عقدة حاجباه لتُفسد ملامحه الجذابة لتبتستم له وهي تنتشل يدها من قبضته التي لم تكن قوية ثم حدثته لتقول:

- حاضر هافضل معاك.. فُك التكشيرة دي واقعد اشتغل شوية على ما أشوف فوق هدوم البسها واخد شاور واجيلك..

أومأ لها بتفهم لتتركه خلفها وصعدت للأعلى وهي لا تُفكر سوى بإستخلاص المزيد من بين شفتاه في كامل وعيه كي تستطيع تغيير أي شيء بهذا الرجل عل الأمر يفلح بالنهاية!!

معتوهة بكل ما تحمله الكلمة من معان!! تمرضه وتصنع فطوره وتعانقه لساعات بفراشه وتقنع نفسها بأنها صديقته!! عليها التوقف والإستيقاظ سريعًا.. يجب عليها أن تلاحظ فداحة ما ترتكبه وإلا العواقت لن تكون جيدة سواء له أو لها!

في مساء نفس اليوم.. في حدود الساعة الحادية عشر مساءًا..

 ابتسم إليها بإمتنان ولكن الحُزن اعترى ملامحه لتصميمها بالنهاية أن تغادره فزفر بإنزعاج وتحدث لها مرة أخرى:

- طيب ممكن أرجع أسخن تاني على فكرة!!

ابتسمت له هي وتنهدت في إرهاق لتحدثه هامسة:

- طبيعي، هتكح شوية، والسخونية راحت ممكن تدفى بس على بليل، حاجة بسيطة يعني، خد دواك وهتبقى كويس يا شهاب!

حك مؤخرة رأسه في تفكير ثم حمحم وتحدث من جديد عله يجعلها تمكث معه الليلة أيضًا فأخبرها بنبرة محتالة مُضيقًا عينيه:

- أنا ممكن أحكيلك حاجات تانية على فكرة، فيه مصايب لسه متعرفيهاش!

توسعت ابتسامتها وهي لا تُصدق إلحاحه الذي يتصاعد كل يوم عن ذي قبل لتقول:

- ما هو سنين مش هنخلصها في قاعدة ولا اتنين ولا عشرة حتى.. بس خليها بُكرة علشان أنا شخصيًا مش مركزة ومش هاستوعب حرف تاني..

علم أنه قد فرغ من جميع الحيل التي قد يُفكر بها ليستطرد بالحديث فقط لإمضاء المزيد من اللحظات معها فتحدث بإهتمام سائلًا:

- طيب، بُكرة الصبح هتيجي لما سارة والمحامي يكونوا موجودين؟!

أومأت له بالموافقه واجابته:

- أكيد.. ما أنا مش هاسيب الخروف جنب البرسيم أبدًا!

ارتفع حاجباه في دهشة وضحك بخفوت في إنزعاج ليسألها بنبرة متعجبة:

- ومين بقى الخروف ومين البرسيم؟!

ضيقت ما بين حاجبيها وأغلقت عينيها في خجل مما تفوهت به عندما أدركت ما فهمه ثم نظرت إليه وهي تلوي جانب شفتاها في توتر مصطنع وابتسامة ليعاود سؤالها من جديد:

- مين الخروف ومين البرسيم يا فيروز؟

أخذ يقترب منها بخطوات لتعود هي بخطوات مماثلة للخلف حيث الباب الذي يقبع وراءها لتتنحنح ثم اجابته بنبرة متوترة:

- شوفت.. اديني عكيت في الكلام.. قولتلك مش مركزة وسيبني امشي من بدري.. وعمومًا دي قصة يعني بنحكيها للأطفال.. الذئب والخروف والبرسيم.. يعني مقصدش حاجة

توسعت ابتسامته لينظر لها بشر ولكنه كان مازحًا ليقول:

- لا بجد.. تحبي بقى اعرفك الخـ..

اشارت بسبابتها توقفه وقاطعته في صياح مازح وهي تودعه:

- أنا احب أمشي.. علشان معكش أكتر من كده.. تصبح على خير.. باي..

التفتت بسرعة لتطبع تلك الأرقام التي حفظتها ثم غادرته سريعا ليتنهد هو خلفها ثم رد هامسًا بإبتسامة حقيقية:

- وأنتي من أهله يا حبيبتي..

 

          قادت السيارة التي تستخدمها الآن منذ أيام بعد أن هدأت ابتسامتها واحتل الحزن سريعًا ملامح وجهها عندما تذكرت كل ما أعترف لها به خلال جلستهما الطويلة اليوم!! لا تُصدق أنه بالنهاية قد أعترف لها بما يحمله وحده لسنوات، كيف لم يخبر أحدًا بحياته بأكملها عن كل ما حدث له بذلك اليوم؟

- أنا.. أنا مكنتش وأنا صغير زي ما أنا دلوقتي.. كنت دايمًا خواف، كانت حياتي كلها مفيهاش غير آمال.. فيروز انتي مش فاهمة حصلي إيه بسببها..

نظرت إليه بدعم ولكن تعاطفها الشديد طغى عليها وهي تنظر لعينيه التي قاربت على ذرف الدموع وتابعته بعينيها وهو ينهض ليُمسك بسجائره بينما نهضت هي لتأخذ السجائر من يده سريعًا وهي تزجره بنبرة لا تحتمل النقاش:

- سجاير وأنت تعبان أنت بتهزر مش كده!!

زفر بحرقة وهو ينظر لها متفحصًا عينيها وخلل شعره ثم صرخ بآلم ليتحول حديثه بالنهاية ليصبح همسًا يسيطر عليه الإنكسار:

- أنا زهقت من الكلام.. أنا مش قادر اتكلم عن اللي حصلي.. مبقدرش!! مبقدرش اتكلم في الموضوع ده يا فيروز..

وضعت يدها على ذراعه في دعم وعفوية بينما نظرت له بعينيها بتوسل وقالت:

- عمرك ما هتقضي على الوجع اللي بتحس بيه ده غير لما تواجهه وتتكلم!! شهاب أيًا كان اللي هتقوله هيفضل ما بيننا.. عمر ما نظرتي ليك هتتغير.. جرب حتى!

تفقد عينيها لثوانٍ ولم يجد ما يقوله فمد يده ليجذب علبة السجائر منها لتنظر له في تعجب وتحذير وأعادت يدها خلفها ليُقترب هو منها أكثر وهو يحاول الوصول إلي يدها الممسكة بسجائره فمد يده نحو يدها المثنية خلفها بينما منعته هي ليصيح في النهاية بغضب:

- فيروز متنرفزنيش، هاتي السجاير!

أطلقت زفرة متهكمة وهي تنظر له بجرأة بداكنتيه ثم قالت بثبات:

- مش وأنت تعبان يا شهاب.. وبعدين احنا اتفقنا إننا هنتكلم في حاجات كتير النهاردة وأنت مش بتساعدني خالص على فكرة باللي أنت بتعمله ده..

زفر من جديد ثم اقترب إليها أكثر حتى كادت أن تنعدم بينهما المسافة وهو يتفحص عينيها بداكنتين شاردتين تمامًا بعسليتيها ثم تحدث بهدوء نافى غضبه منذ قليل وسألها:

- عايزة تعرفي إيه؟

تنهدت وهي تنظر إليه ولم تنزعج من اقترابه منها بل تابعت حديثهما وكأنها ليست تلك المرأة التي لا تسمح لرجل بالإقتراب منها بهذا الشكل وركزت كثيرًا في تغيرات ملامحه ثم قالت:

- عايزة أعرف اليوم اللي أنت مش عايز تتكلم عنه حصل فيه إيه.. أو كلمني عن غادة.. أو حياتك بعد ما خلصت الجامعة أنت عمرك ما كلمتني عنها..

بحث بنظرات مترددة داخل عينيها ثم ابتعد ليوليها ظهره ومرر أصابعه في شعره ثم آتى صوته خافتًا في آلم استطاعت لشعور به حتى من على تلك المسافة:

- اليوم ده قولتلك إني خلصت مدرسة، و..

مسح على وجهه وهو لا يظن أنه سيخبر احدًا بهذا الأمر ليتنحنح في محاولة لطرد تلك الصعوبة التي تُعقد لسانه بينما انتظرت هي في هدوء لتستمع إليه فعاد للتحدث من جديد قائلًا:

- أول يوم بعد ما الموضوع اتعرف قولتلك إني اتخانقت في المدرسة، تاني يوم كان فيه معايا اولاد في المدرسة، تقدري تقولي استحلفولي.. بعد ما خلصت لقيتهم اتجمعوا حواليا وخدوني مكان زي.. زي خرابة ومصنع أو مكان مهجور و..

عاد ليحمحم من جديد وابتلع تلك الغصة بحلقه وحاول أن يسيطر على أنفاسه المتسارعة ثم همس بآلم:

- اعتدوا عليا، ضرب، و..!!

سكت لبرهة وهو يحاول البحث عن كلمات حتى يصوغ ما تعرض له ليأتي صوته خافتًا مصاحب لبكاء جاهد أن يوقفه ولكن لم يستطع ليُكمل هامسًا:

- كان فيه واحد عامل فيها بلطجي المدرسة ابن راجل معلم عندنا في الحتة، مسك عصاية و..، اعتدى عليا بيها في نفس اللحظة اللي حصل فيها الزلزال سنة 92.. أظنك فهمتي كده اللي حصل!

أطلق زفرة وهو يمسح عينيه اللتان ذرفتا الدموع في تواتر لا ينقطع ولكنه التفت إليها لينظر لها بالنهاية وملامحه في ثوانٍ تحولت من ذلك الرجل المجروح المتألم لآخر يُشبه احدى المجرمين ونظر لها ببنيتين تبث الرعب في النفوس ليهمس بنبرة مقيتة:

- بس متقلقيش، أنا اخدت حقي منهم يوم ما ولعت فيهم ووقفت اتفرج عليهم!! عمري ما بسيب حقي يا فيروز!

تركها ثم ابتعد للخارج وكأنه يريد أن يتوارى بعيدًا بعد ذلك الإعتراف الذي لم يخبر به احدًا أبدًا طوال حياته ولكنه توقف لينظر لها من على مسافة وصاح بها بصوت توارى خلف نشيج آلمها هي قبل أن يوجعه هو:

- عرفتي إن آمال هي السبب في كل حاجة؟ عرفتي إن كويس اوي إني خليت العلاقة ما بيننا توصل للي احنا وصلناله دلوقتي؟! صدقيني هي اللي تستاهل الحرق مش همّ.. هي السبب في كل اللي حصلي مش أي حد غيرها..

عادت من تذكرها تلك اللحظة التي غاب بعدها لما يقارب ساعة بأكملها، لولا أنها ادعت المزاح وذكرته بالعديد الذي عليه فعله وغيرت مجرى الحديث لأمور أخرى عن فترة مراهقته وعن كيف كان ينظم وقته وهو بمفرده لما كان استيقظ من تلك الصدمة..

فكرت أن عليها أن تواجهه بوالدته بأقرب وقت ممكن كي يعرف حقيقة الأمر بأكملها، كراهيته لوالدته تأتي لتحارب كل تقدم معه، ويا لهذا التقدم المُرعب الذي بات يُبدد ثنايا عقلها.. كيف لرجل سيكوباتي بشراسته مع الجميع يتحول أمامها لطفل باكي متزمر كما الفتى الصغير الذي لا يفقه في مواجهة الحياة شيء!

ترجلت من السيارة أمام منزلها لتجد أن هاتفها يصدح بالرنين ودون تفقد هوية المتصل شعرت بأنه "شهاب" لذا أجابت بتلقائية وابتسامة لم تستطع أن تمنعها:

- استنى بس شوية أطلع حتى!

ساد صمت لثوانٍ معدودة بينما تحدث صوت نسائي تعرفه جيدا لتقول في تساؤل بإستغراب:

- مين ده اللي يستنى يا فيروز؟

ارتبكت للحظة عندما استمعت لصوت اختها لتبتسم ثم حاولت تدارك ما قالته لتقول:

- مفيش.. أنا وشهاب كنا لسه سوا علشان بنشتغل على موضوع المستشفى.. وحشتيني اوي يا ديدا.. عاملة ايه؟!

اجابتها أختها بنبرة تحمل القليل من الحزن:

- تمام.. نفسي ترجعي تقعدي معانا.. وحشتيني اوي يا فيروز

ابتسمت بمرارة لوهلة ولكنها تابعت الحديث على كل حال لترد على اختها:

- حاضر يا حبيبتي إن شاء الله هاجي اقعد معاكم كام يوم..

تنهدت فريدة من الطرف الخر ثم غيرت مجرى الحديث تمامًا:

- بقولك.. جدة أسما اتوفت.. كانت منهارة وهي بتكلمني ويادوب لسه قافلة معاها.. أنا كنت بعرفك يعني علشان لو هتيجي معايا العزا!!

شعرت "فيروز" بالصدمة لثوانٍ لمعرفة هذا الخبر الحزين ولكنها تحدثت بنبرة متعاطفة لتقول:

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. أكيد هـ..

ولم تكمل جملتها عندما استمعت لنغمة بهاتفها تعلن عن وجود مكالمة أخرى في الإنتظار لتتفقد هاتفها لتجد أن المتصل "شهاب" فأكملت حديثها لفريدة:

- معلش يا ديدا، معايا مكالمة تانية، هاخلصها وأكلمك.. باي..

أجابت مكالمته وهي لا تدرك فداحة ما تفعله، تعطي المزيد من وقتها إليه، تضعه أولوية قبل الجميع، تقنع نفسها بأسباب وحجج واهية بأنها متعاطفة فقط لأجل صديقها الجديد.. تقبله بكل ما فيه وتدع مشاعرها تتدخل بالأمر بأكمله.. وفي النهاية لن تكون عواقب كل ما تفعله جيدة أبدًا!

 

 

# يُتبع . . .


تنويه : موعد الفصل السابع والثلاثون سيكون بتاريخ 7 نوفمبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرون ساعة على موقع واتباد

ملحوظة : يتم نشر مسابقة بالمجموعة الخاصة على الفيسبوك (روايات بقلم بتول - Novels written by Batoul) ويتم إرسال جزء في حدود 200 : 400 كلمة من احداث الفصل التالي للفائز قبل الجميع عند الفوز بالمسابقة.. ستكون المسابقة غدا العاشرة مساءا بتوقيت مصر..

تنويه آخر: لن تزيد الفصول القادمة عن 5500 كلمة بداية من هذا الفصل لسهولة الكتابة وسرعة النشر حتى استطيع الإلتزام بمواعيد الرواية..