-->

الفصل السابع والثلاثون - شهاب قاتم

 الفصل السابع والثلاثون من شهاب قاتم

 

-الفصل السابع والثلاثون -


تنويه : موعد الفصل الثامن والثلاثون سيكون بتاريخ 10 نوفمبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرون ساعة على موقع واتباد

ملحوظة : يتم نشر مسابقة بالمجموعة الخاصة على الفيسبوك (روايات بقلم بتول - Novels written by Batoul) ويتم إرسال جزء في حدود 200 : 400 كلمة من احداث الفصل التالي للفائز قبل الجميع عند الفوز بالمسابقة.. ستكون المسابقة غدًا العاشرة مساءا بتوقيت مصر..

     

الصداقة بين رجل وامرأة صعبة جداً.. لأن الصداقة معناها أن يرتفع الإنسان بشعوره فوق كل ما يثير ويمتع ويوجع أيضاً. فوق اللمس. فوق الهمس. فوق المنفعة. يرتفع الإنسان فوق الإحساس ، ولكن لا ينكره..

أنيس منصور – من نفسي

     

نظر إليها كالمشتت الضائع، لم تره بتلك الحالة أبدًا بحياتها من قبل، أخذت في الإقتراب نحوه آخذة خطوات بطيئة وملامحها تحولت بمنتهى التلقائية للتساؤل ولكنها كانت تشعر بأن ما يحدث لزوجها عظيم الشأن، ذلك الإنكسار الذي عليه لم تره منذ أن عرفته يومًا ما، لقد مر عليهما الكثير من مواجهات عدة، مصائب، أحزان، اعترافات وفجائع، ولكن هيئته الآن جعلت قلبها يتمزق في آلم شديد ودفعت زرقاوتيها على الإمتلاء بالدموع خوفًا عليه مما قد يجعله يبدو هكذا، بالرغم من عدم معرفتها بعد ولكن صوت ذلك العشق بينهما الذى أدى لفهمها ما يمر عليه كان أبلغ من أي كلماتٍ قد تُنطق بصوت مسموع..

أقبلت نحوه "نورسين" وأمسكت بذراعه تشده بقوة ونظرتيهما لم تتفرق ولو للحظة واحدة لتهمس سائلة:

- مين اللي كان معاك على التليفون يا بدر؟

لا يدري كيف ينطق بذلك بنفسه، عقله إلي الآن لا يستطيع أن يواكب ما يحدث حوله ولا يصدق ما استمع له من "شاهندة" اخته، لا يترجم إدراكه أصوات البُكاء الذي استمع لها منذ قليل، هل ماتت والدته "نجوى"؟ هل حدث ذلك بالفعل؟!

شعر بنفسه ينهار وفشلت قدماه في حمل جسده ليتكأ على جسد زوجته واتخذ منها سندًا ثم عانقها وهو يجهش بالبكاء في قهر ثم همس بنشيج:

- أمي.. أمي ماتت يا نورسين!

عانقته بكل ما أوتيت من قوة بينما حاولت تحمل جسده وكأنها جبل لا يتحرك ولكنها هذه المرة لم توقفه وتركته يبكي بين ذراعيها كيفما شاء ولم تستطع هي الأخرى التحكم في عينيها اللتان ذرفتا الدموع دون إنقطاع!

     

جففت "زينة" دموعها بصعوبة وهي تحاول أن تتمالك رباطة جأشها لتهمس لزوجها الذي بكى هو الآخر شاردًا بالفراغ بعد أن اشتدت قبضتها على ذراعه وذهبت لتجلس أمامه وهي تنظر له بجدية:

- سليم، أنا عارفة إن كلنا زعلانين، بس محدش غيرك هيقدر يتصرف.. أنت اللي لازم تكون متماسك شوية وتلحق كل حاجة في وقت زي ده.. خالو دلوقتي زمانه منهار و..

لم تُكمل باقي حديثها لينتفض "سليم" ناهضًا ثم هرول خارج غرفتهما متمتمًا في خوف بالغ:

- بابا..

ظل يهرول باحثًا عن والده الذي وجده هو و"نورسين" بغرفة الجلوس جالسان على الأريكة واستمع لصوت نحيبه الباكي ونظر له ليجده معانقًا لزوجته لتتلاقى عيني "سليم" بعينتي والدته في حزن شديد ليزفر هو واتجه نحو والده ليجلس بجانبه ثم همس له:

- بابا.. لازم نقوم حالًا نشوفها..

التفت إليه "بدر الدين" تاركًا عناقه الذي تشاركه مع زوجته ثم نظر إليه كالمذعور ليهمس بحرقة وكلمات لا تُفسر:

- أمي.. سليم.. ماتت

نحب كالطفل بعناق جمعه مع ابنه الذي احتضنه بشدة ليبكي هو الآخر فالجميع يعلم من تكون "نجوى" بالنسبة له وربت على ظهره لتتحول الأدوار تمامًا وأصبح الأبن هو الوالد الآن ليشد من آزر "بدر الدين" ثم حدثه بصعوبة بعد أن تمالك نفسه:

- يالا يا بابا نقوم.. نشوفها آخر مرة.. أرجوك علشان خاطري..

اهتز جسده من قوة البكاء ولم يشعر بما يحدث حوله وكأنما فقد الوعي بكل ما حوله وأصبح كالمنوم مغناطيسيًا في تلك الصدمة التي لا يستطيع عقله تقبلها أو تصديقها بينما نهض "سليم" وهو يجذب يده بخفة ليسير معه ممسكًا به كالطفل الخائف وتوجه الجميع معًا لمنزل العائلة!

     

خيَّم الإكفهرار والحزن على المنزل بأكمله لفجيعة تلك المأساة التي يواجهها الجميع لتحاول "شاهندة" أن تلملم من شتات نفسها بمسعدة زوجها والتصرف بالأمور هي وأبناءها من إبلاغ كلًا من "آسر" و "زياد" بل وإحضار ممرضة "أروى" فهي قد تتمكن من المساعدة في مثل تلك الأجواء..

كان الجميع لا يصدقون أنها قد غادرت بالفعل، بالرغم من مرضها الشديد وعدم مغادرتها لفراشها منذ وقت بعيد ولكن فقط وجودها كان يُمثل لهم الكثير، فقط معرفة أنها لا تزال حية ترزق كان بمثابة راحة وأمان لهم، أبناءًا وأزواجًا وأحفاد.. الجميع يشعرون بالحزن.. سواها هي!!

جلست وهي تُفكر بمدى سوء حظها الذي يلازمها منذ وقت ليس بقريب وهي لا تدري كيف عليها أن تتخلص من كل ما يحدث لها لتتمتم لنفسها:

- حبكت يعني جاية تموتي يوم ما قولتلهم إني كويسة!!

حاولت التفكير بهذه الأوقات علّ مجريات الأمور تساعدها في كل ما تُخطط له، الآن أبلغها الطبيب أن عليها ممارسة التمارين وعن قريب قد تستطيع السير بمساعدة عكازين.. هذا جيد..

وقتها ستسطيع العودة لمقر الشركة، رؤية سليم كل يوم، الذهاب لمنزل خالها "بدر الدين" أو حتى الذهاب للخارج وقتما يحلو لها، عليها فقط أن تكون ذكية أمام الأطباء والتظاهر بالعزيمة والإرادة حتى تستعيد القليل من حريتها الضائعة منذ شهور..

زفرت في حنق وهي تستمع لأصوات والدتها وخالتها المنهارتان ولكن دون أن يُلاحظها أحد لتدخل "منة التي قامت خالتها بمهاتفتها منذ قليل لتربت على ذراعها في رفق ثم همست إليها:

- البقية في حياتك يا أروى..

تظاهرت سريعًا بالحزن الشديد ثم حدثتها بنبرة صرخ بها الشجن الزائف:

- حياتك الباقية، شكرًا يا منة إنك جيتي!

ابتسمت "منة" إليها بإقتضاب شديد يلاءم الظرف الراهن لتتابع حديثها إليها:

- لا ازاي متقوليش كده، أنا زي اختك الكبيرة.. قوليلي محتاجة حاجة أعملها؟

كم كرهت تلك المرأة بشدة التي تشعر وكأنها تحاوطها أينما ذهبت لتذرف احدى دموع التماسيح خاصتها ثم همست بتوسل كاذب:

- يا ريت نطلع برا شوية، أعصابي مبقتش مستحملة..

أومأت لها "منة" بالموافقة وذهبا سويًا لحديقة المنزل بينما شرعت "أروى" بالتفكير من جديد وبداخلها احترقت غضبًا من كل ما يحدث!!

     

- أنت عرفت اللي حصل؟

تعجب شهاب لسؤالها ولكنه اجابها سائلًا في تريث لنبرتها الغريبة التي خالفت نبرتها المازحة التي كانت تحدثه بها منذ قليل بمنزله:

- لا معرفتش.. فيه إيه؟

تنهدت لتجيبه بإقتضاب:

- جدة أسما، والدة بدر الدين، اتوفت من شوية!

لم يعلق على الأمر ولم يأتها ردًا منه سوى صوت حمحمته الرجولية لتندهش هي منه ثم تحدثت بنبرة سائلة:

- أنت معايا!!

همهم إليها كإجابة ثم أخبرها بسأم ونبرة مستهترة:

- أيوة يعني بتقوليلي ليه، مستنية مني إيه يعني؟

رفعت حاجبيها في دهشة وأطلقت زفرة متهكمة:

- بقولك علشان المفروض دول ولاد عمك، وجولك في عزا باباك الله يرحمه زي ما قولتلي وده واجب ولازم تروح تعزيهم لما يعملوا عزا!

استمعت لضحكته الخافتة في استهزاء ليزداد تعجبها ولكنه حدثها بجمود قائلًا:

- لا مش هاروح!

تنحنحت في محاولة ألا تنهي تلك المكالمة بعد الإستفزاز الشديد الذي تسلل حواسها من طريقته ثم أخبرته في هدوء:

- ليه يا شهاب؟ مش عايز تروح ليه؟

استمع لسؤالها ولم يجبها بينما استمعت هي لأنفاسه المتوترة التي تعالت لتتحدث قائلة:

- أنا مش هاديك محاضرات عن إنهم ولاد عمك ولا المفروض والصح.. بس ده علشانك انت.. علشان تشوف وصلت لغاية فين، هتحس قدامهم بنفس احساسك زمان ولا لأ!!

نفخ في غضب ليصيح بها:

- فيروز!! أظن انتي مش ملاحظة إنك اتخطيتي حدودك معايا زيادة عن اللزوم!! كل حاجة بتقولي عليها أنا بعملها.. بس لغاية هنا ولأ.. أنا مش هاروح للناس دي!

حلقا حاجباها في دهشة بعد ما سمعته منه لتتحول نبرتها للحزن ولكن ما دفعها حقًا للشعور بذلك هو لهجته وصوته الذي اختلف كثيرًا عندما حدثها بتلك القسوة فابتلعت ثم تنهدت لتخبره بخيبة أمل واضحة:

- أنا آسفة.. انت عندك حق.. انا اتعديت حدودي فعلًا في حاجات كتير! مش هاكررها تاني.. تصبح على خير.. سلام!

أنهت المكالمة بسرعة دون أن تعطه الفرصة للحديث وبداخلها شعرت بالإستغراب الشديد لرفضه القاطع لهذا الأمر، ولكنها كذلك لا تزال تستمع لصياحه بها الذي لم يروقها أبدًا وجعلها تقع في لحظات من تضارب المشاعر!!

ابتسمت متهكمة تجاه نفسها لتتذكر سريعًا مع من تتعامل، سيكوباتي.. طفل ومراهق ورجل؛ والأسوأ أنه الصديق الذي اختاره حظها ليوقعها به!

بالرغم من الأدوية التي يتناولها وتغيره الشديد لابد وأن يتبقى هناك ترسبات لن تستطيع إحراز نتائج سريعة بخصوصها، لوهلة شردت بكل ما يمر عليها مع ذلك الرجل، إلي الأمس كان يتوسلها، أمّا اليوم بالرغم من انفتاحه لها بالحديث ولكنه كان مختلفًا..

استيقظ ليجادلها بشأن نومها بجانبه، شعرت وكأنه هرول إلي قوقعة ما ليختفي بها، ثم عاد من جديد ليمازحها ويحدثها عن حادثة انتهاكه، ومنها لكم يكره والدته، ثم آتى للحظات على ذكر "غادة" أنه كان هناك بينهما علاقة ولكنها كانت مُستغلة بطرق كثيرة له دون الخوض في تفاصيل..

زفرت بينما حاولت التفكير في كل ما مر الفترة الماضية، حديثه هذا منذ لحظات كان منطقي، إن لم يتصرف هكذا لكانت قاربت على تصديق أنه يجاريها لغرض سوى العلاج.. ربما لأنه يشعر معها بالراحة وطوال أنهما سويًا وهي لا تصدر الأحكام عليه يستجيب لها، أمّا علاقته بالآخرون ستأخ وقتًا كي ترى بها النتائج على عكس ما لمست النتائج بعلاقتهما..

قاربت كثيرًا على أن تُفكر لتنظر إلي نفسها ولو للحظات من الوقت بينما صدح هاتفها بالرنين لتتجه نحوه فوجدت أن المتصل "شهاب" لتحمحم وترددت في الإجابة لوهلة ولكنها قررت أن تجيب في النهاية..

يستحوذ هو على وقتها وتفكيرها بأكمله، عشقًا حقيقيًا منه لن يستطيع احد إنكار هذا، ولكن كلاهما يتماديان في الخطأ الذي لا يراه أيًا منهما..

آتاها صوته الذي قد تخلله بعض الإنزعاج الطفيف ولكن نبرته كانت تصرخ بالإعتذار:

- فيروز.. أنا مكنتش اقصد اكلمك بالأسلوب ده..

لم تتحدث له ولكنها استمعت في هدوء ولم يرى تلك الشفة التي عضت عليها وكأنما تحاول أن تكبح نفسها عن أمرٍ ما ليعاود هو الحديث:

- آلو..

تنهدت ثم ابتلعت واجابته بنبرة مرتجفة:

- معاك..

رفع حاجباه في دهشة وهو لا يُصدق أن صوتها اختلف هكذا بسبب فقط عدة كلمات نطقها وقت غضبه فاستطرد ثم قال:

- فيروز بجد أنا اتعصبت ومكنتش اقصد.. متزعليش مني

همهمت له وكأنها تتفهم وباغتتها احدى دموعها التي لا تعلم من أين آتت لتهمس وهي ترد عليه:

- أوك.. خلاص..

ازداد تعجبه بل وثقته بنفسه أكثر على حزنها بسببه الذي اتضح بصوتها ليقول سائلًا بنبرة واثقة:

- انتي بتعيطي ليه دلوقتي؟

تخللت أنفاسها صمت دام لفترة لتجيبه في تردد وحاولت أن تبدو واثقة أمام نبرته المتيقنة من بكاءها:

- مبعيطش يا شهاب ولا حاجة..

أطلق ضحكة مقتضبة في خفوت ثم أردف:

- مبتعرفيش تكدبي على فكرة!

استمع لتنهيدتها مرة أخرى بينما شعر هو بفداحة ما ارتكبه منذ قليل فيبدو أنه كان قاسيًا للغاية معها دون شعور منه ليتحدث هذه المرة بمصداقية ثم قال هامسًا في ندم:

- أنا آسف.. متزعليش مني! وبعدين تفتكري يعني إني قاصد ازعل الوحيدة اللي بعرف اتكلم معاها! ده لو يوم عدى عليا من غير ما اشوفك أو اكلمك بحس إن اليوم فيه حاجة غلط.. تفتكري هفرط بسهولة واروح ازعلك كده في ثواني وأبقى قاصدها؟

لا تدري لماذا ابتسمت لإعترافه الهامس هذا لتتوقف عن بُكاءها ثم همست إليه لتقول:

- خلاص والله مش زعلانة

أطلق همهمة ثم تحولت نبرته للمزاح ليُابع حديثه إليها:

- اثبتيلي!!

انطلقت ضحكة هادئة منها ورفعت كتفيها بعفوية ثم اخفضتهما لتسأله:

- ازاي يعني؟

همهم في تفكير للحظة ليستطرد قائلًا:

- بُكرة بعد ما نخلص سارة نروح نتغدا سوا، من غير علاج، ولا جلسات، ولا أي حاجة، واحد وصاحبته رايحين يقضوا وقت بعيد عن اي دوشة! اتفقنا؟!

تنهدت من جديد ولم تجد مانعًا لما اقترحه لتجيبه في النهاية:

- ماشي اتفقنا، بس ده تعويض يعني؟

همهم إليها مجيبًا لتتابع هي من جديد واطنبت بالحديث:

- مع إن لو تعويض المفروض أنا اللي اختار!

استمعت لزفرات ضحكته الرجولية الهادئة ليجاريها بحديث ليس له نهاية ليردف بالمزيد:

- عايزة تزنقيني شكلك كده.. قوليلي عايزة التعويض يكون ازاي؟

تريثت لبرهة قبل أن تلقي بذلك البركان في وجهه وابتلعت ولكنها بالنهاية اجابت في ثقة:

- عايزة حاجتين منك، وعلشان أنا واثقة فيك متأكدة إنك مش هترفضهم!

مقدمة جيدة ولكن يبدو هناك بشاعة خفية في كلماتها ليبدأ صبره في النفاذ ليُكمل حديثه إليها في تساؤل:

- اللي همّ؟

حمحمت في توتر من ردة فعله ولكنها حاولت التحلي بالشجاعة فأضافت مقدمة أخرى:

- أنت طبعًا ليك الحق في إنك تقبل أو ترفض! و..

لم يستطع الإنتظار اكثر من هذا ليقاطعها بنبرة حاول التغلب خلالها على انزعاجه:

- فيروز!! مبحبش اتحايل على حد.. قولي عايزة إيه!

تناولت نفسًا مطولًا عله يعطيها الثبات اللازم لمواجهته ثم أطلقته وحدثته في ثقة:

- الحاجة الأولانية إنك لازم تروح تعزي ولاد عمك لأنهم بالنسبالك مجرد قرايبك من بعيد وده واجب وأي حد كويس هيعزيهم..

همهم إليها في مطالبة منه بأن تُكمل فتابعت قائلة:

- الحاجة التانية اللي شايفها إنها ممكن تعمل تغيير كبير إنك تواجه مامتك.. سواء بقيتوا كويسين أو لأ بس ده صدقني هيحل جزء كبير من كل الصدمات اللي اتعرضت ليها!

ساد الصمت بعد أن فرغت لتشعر بالإرتباك يزداد بداخلها كلما مرت الثواني التي لم يتخللها كلمات أي منهما وكادت أن تتحدث ولكنه سبقها ليقول بإقتضاب:

- حاضر!

غلفت الدهشة وجهها وهي تكاد تقسم أنه ليس ذلك الرجل صعب المراس الذي عرفته منذ أشهر لتبتلع في صدمة وحاولت أن تبحث عن الكلمات الصحيحة لتحدثه ولكنه بادر هو هذه المرة أيضًا:

- أولًا؛ ده التعويض اللي انتي اخترتيه، علشان كده وافقتك بسهولة، بس اوعدك إنها مش هتتكرر تاني، لا مني ولا منك!

ثانيًا؛ انتي غالية عندي اوي واستحالة ارفضلك طلب!

غزل واضح بكل ما تعنيه الكلمة قصده هو بمنتهى المصداقية ولكن غباءها فاق التصور لتُفكر بكلماته على أنه صديقها الذي يتغير ليُصبح شخصًا أفضل وابتسمت كالبلهاء في ثقة ظنًا منها أنه يستجيب للمزيد من طرق العلاج فهمست إليه في مزاح:

- لو تعويضاتي هيتوافق عليها كده ممكن تزعلني كل يوم على فكرة!

ضحك بخفوت على ما قالته ولكنه تابع بنبرة غريبة عليها لأول مرة تستمع إليها تصدر منه وامتازت بثقة رهيبة جعلتها تتوتر:

- بلاش أنا ازعلك، صدقيني ببقى وحش اوي وأنا بزعل حد..

أصدرت تأتأة دلت على استنكارها لكلماته لتقول بنبرة مرحة:

- لأ معلش، شهاب ممكن يزعل أي حد إلا أنا..

عقد حاجباه في تعجب ثم قال بإندهاش متسائلًا:

- ده إيه الثقة دي كلها، بقيتي واثقة فيا اوي كده؟

اراحت ظهرها على السرير ولم تلاحظ أنها حتى لم تبدل ثيابها وشردت بسقف الغرفة في تفكير ثم اجابته:

- شهاب القديم مش واثقة فيه، لكن شهاب اللي من ساعة ما جالي المصحة هو ده اللي بقيت واثقة فيه!

همهم ثم تذكر احدى احاديثها ليبالغ في تلك المحادثة معها ثم أخبرها في تساؤل من جديد:

- مش كنتي قولتيلي مرة واحنا في العربية زمان إني المفروض مثقش في حد بسرعة؟

داعبت شعرها بأصابعها في تفكير ثم اجابته:

- قولتلك، وده صح، بس أنا وثقت فيك بعد حاجات كتيرة اوي عدت علينا، وأظن إنك دلوقتي مختلف خالص عن زمان!

أغلق عينيه في متعة بالإستماع لتلك النبرة لتي يعشقها هي وصاحبتها ليسألها مجددًا:

- مختلف ازاي يعني؟

همهمت في تفكير ثم اجابته:

- يعني زمان مكنتش مقتنع بفكرة العلاج وإنك بتعاني من مشكلة لكن دلوقتي لأ، وكمان بقيت بتعاملني بشكل فعلًا بيحسسني اننا اصحاب، بقيت بتجاوب عليا بصراحة لما بسألك على حاجة، بطلت تكدب، بطلت الوشوش الغريبة بتاعتك دي وبقيت تلقائي اكتر وبتعاملني على طبيعتك

عقد حاجباه في استغراب ليُتمتم مستفسرًا:

- وشوش!!

همهمت بالموافقة ثم أطنبت بحديثها:

- ايوة، الوش اللي في الشركة، غير الوش اللي مش واثق في حد، وش الإقتناع بالمؤامرة الكونية، وش السفاح اللي بيخطف واحدة علشان تقنعه إن عنده مشكلة، والوش الحلو اللي بيبتسم للصحافين بتاع رجل الأعمال الناجح.. وغيرهم كتير

تثاءب في إرادة للنعاس ولكن قاومه بقوة بعد كلماتها التي اعجبته:

- وانتي بقى بتحبي أنه وش اكتر؟

أغلقت عينيها بعد أن أطفأت المصباح الجانبي لسريرها وجذبت الغطاء لتجيبه بمصداقية:

- لأ أنا مبحبش الوشوش دي خالص، أنا بحب شهاب اللي اتغير.. مش بذمتك دلوقتي احسن من زمان؟

ابتسم بإقتضاب لإخبارها إياه بتلك الجُملة التي تفلتت من بين شفتيها بتلقائية ثم اجابها في النهاية:

- اه طبعًا احسن، بس زمان مكنش فيه فيروز..

تثاءبت هي الأخرى وقد ارتخى جسدها بالكامل لتشعر بأنها فقدت تركيزها ولكنها تابعت بنبرة نعسة:

- لا متقلقش، فيروز هتكون موجودة على طول!

ابتسم مرة ثانية لمجرد فكرة أنها ستكون بجانبه دائمًا ثم شعر بحاجتها للنوم ليهمس إليها:

- شكلك عايزة تنامي..

همهمت بالموافقة وتثاءبت مرة أخرى لينهي هو عذابها هذا بالرغم من رفضه بإنهاء هذه المكالمة:

- خلاص ماشي.. نامي.. تصبحي على خير

ردت عليه في نعاس بنبرة فسرها بصعوبة:

- وانت من أهله!

والآن دعوني أرحب بكم، لقد استمتعنا للتو إلي الشجار الأول بين عاشقان تبعها محاولة صلح رائعة انتهت بإنتصار ذكوري باهر!! رجل سيكوباتي محترف استطاع أن يخلب عقل إمرأة ذكية بإمتياز.. أو ربما كانت ذكية بالماضي.. وربما كانت ذكية بما طلبته منه واستطاعتها بأن تتغلب عليه بجولتهما الأولى.. هو فقط حظ المبتدئين على كل حال!

     

دلف شقته المتواضعة بأحدى مناطق القاهرة التي اعتادت أن تشتهر بأنها راقية منذ عشر سنوات لتصبح الآن معقولة ولا زالت محتفظة ببعض ملامحها بعد هذا التطور الهائل في عالم العقارات ثم وضح مفاتيحه على احدى المناضد بالقرب من الباب وقد عبرت الواحدة صباحًا بقليل ليأتيه صوتها المعترض دائمًا لتقول في عدم قبول صرخ بنبرتها:

- أهلا يا باشا، مأمورية في البيت ولا إيه؟! حقيقي مش مصدقة نفسي..

تنهد ليُتمتم في إرهاق:

- استغفر الله العظيم يارب

نهضت وهي تبتسم في استنكار لتجادله قائلة:

- يا سلام! تصدق إني أنا المفترية اللي جاية عليك.. استغفر استغفر يمكن ربنا يخلصك مني قريب!

نظر لها "معاذ" في حُزن ثم حدثها بهدوء:

- لبنى أرجوكي أنا راجع تعبان مش قادر!! بلاش الأسلوب ده.. أنا تعبت من المشاكل والخناق!

أطلقت ضحكة خافتة في تهكم وصاحت به:

- ما هو خلاص.. معاذ باشا مبقاش وراه حاجة غير الشغل وبس، لا أنا ولا ولاده بقى لينا حق فيه وفي يومه.. ابقى يا ريت تحن علينا وتعتبرنا مأمورية من سيادة اللوا وتجيلنا بدري شوية.. ولا اعتبرنا واحد زميلك مزنوق وبتساعده، أصلك حنين مع الكل غيرنا!

زفر بإرهاق وهز رأسه في إنكار لما استمع له ولم يعد يستطيع تحمل هذه الجدالات أكثر من هذا ليصيح بها بحرقة:

- عارفة اصحابي يستاهلوا، وشغلي يستاهل، إنما انتي.. انتي خلاص مبقيتيش الست اللي حبيتها ولا اتجوزتها، بقيتي عبارة عن خناقة.. لبنى اللي حبيتها ووقفت في وش الدنيا كلها وحاربت علشانها بقت خناقة ووجع راس..

توسعت عينيها في دهشة وأشارت بسبابتها نحو نفسها ثم همست له في إباء واضح:

- أنا يا معاذ؟! أنا بالنسبالك خناقة ووجع راس؟

ابتسم بمرارة ليجيبها:

- آه انتي يا لبنى.. تقدري تقوليلي فين اللي اتجوزتها؟ فين البنوتة الحلوة اللي عرفتها؟ الهادية اللي كانت بتهتم بيا وبتسمعني وبتعرف مشاكلي؟

طيب قوليلي، شغلي اليومين دول فيه إيه؟ طب وصلت لإيه في قضية صاحب عمري اللي اتقتل؟ طيب أمي اللي جالها غيبوبة سكر من اسبوع ووديتها المستشفى، تعرفي حاجة عن الموضوع ده؟

تريث لبرهة وهي تنظر له غير قادرة على أن تنطق بكلمات ليرمقها بلوم ثم حدثها هامسًا:

- لبنى، احنا من ساعة ما فيروز صالحتنا على بعض وأنا ملمستكيش غير مرة واحدة بس.. فين احتياجاتي كراجل؟ وأنا بعذر إنك بتتعبي مع الولاد وواقفة في ضهري.. مبحبش اضغط عليكي بس خلاص تعبت.. أنا مش بطلع نفسي ضحية، بس بذمتك انتي زي زمان ولا الولاد بقوا دايمًا في المقام الأول والإلتزامات الإجتماعية وزيارات مامتك اخدوا كل وقتك؟ فين اهتمامك بيا؟ فين الحضن اللي كنت بلاقيه زمان؟

أنا اتغيرت زي اي راجل بيكبر وبتكبر مسئولياته معاه ومبنكرش إني مقصر، بس أنتي.. أنتي مش عايزة حتى تتفاهمي معايا إننا نلاقي طريق ما بيننا يرجع علاقتنا زي الأول، كل كلامك بقى تريقة وسخرية والولاد وعايزين والمدرسة والبيت.. طب أنا فين؟ أنا مبقتش موجود في تفكيرك غير علشان الإلتزامات وبس!

تأثرت مضيقة ما بين حاجبيها ليتنهد هو في آلم مما باح لها به وإرهاق من يومه الطويل وعاد ليهمس مرة أخرى:

- مكنتش اتصور إن بعد حبنا والسنين دي يجي حد يصالحنا على بعض بس استحملت علشان خاطر مكبرش المواضيع، فكري في كلامي يا لبنى وراجعي نفسك زي ما أنا ما كمان هراجع نفسي.. وآه.. بمناسبة الإلتزامات الإجتماعية وعلشان صورة حرم معاذ باشا على رأيك قدام الناس.. احنا معزومين على عيد ميلاد فيروز يوم الأربع الجاي.. لو حابة تيجي معايا يبقى كتر خيرك!! تصبحي على خير!

تركها ثم اتجه لغرفة نومهما لتقع "لبنى" في حالة غريبة من الإندهاش بتلك الكلمات التي استمعت لها وتوجهت لتُفكر بشتى ما القاه في وجهها من كلمات لاذعة ووقعت في صدمة تامة، فهذه هي المرة الأولى التي يُخبرها "معاذ" بكل هذه الأمور!

     

في صباح اليوم التالي.. السادس والعشرون من أكتوبر 2019

انتظر أمام منزلها في اشتياق جارف لرؤيتها وكأنهما ذاهبان لموعد غرامي وتناسى حقيقة أنهما ذاهبان كي يتفاوض كلاهما مع "سارة" كي يصل لعمه ولم يتوقف عن النظر نحو بوابة المنزل في نفاذ صبر ناقرًا بأصابعه على مقود السيارة في عدم احتمال لمرور هذا الوقت دون التواجد معها..

رمقها بإبتسامة عندما رآها ثم ترجل من السيارة ليتحدث إليها بعد أن تلاقت اعينهما لبرهة:

- صباح الخير..

ابتسمت له بعفوية ثم ردت:

- صباح النور، عامل إيه النهاردة؟ بقيت احسن ولا لسه تعبان؟

توسعت ابتسامته في مغازلة جلية قصدها هو ولم تلحظها هي ليهمس لها بنبرته الرجولية العميقة مجيبًا:

- لا خلاص، أنا بقيت تمام، الرك برضو على الدكتورة الشاطرة اللي اخدت بالها مني اول امبارح..

توسعت ابتسامتها هي الأخرى وهي تنظر له لتمازحه فقالت:

- علشان حسيت بالذنب بس يوم ما المطرة مطرت علينا وأنت ساعتها مغيرتش هدومك زيي.. المرة الجاية مش هاجيلك الساعة اربعة الفجر! خد بالك من نفسك بقى الفترة الجاية ولسه اهو مبدأناش الشتا حتى..

همهم لها وهو يومأ برأسه ثم تحدث سائلًا:

- يعني افهم من كده إنك بتبعيني؟ خلاص.. هي مرة بس مفيش غيرها ولا إيه؟

تبادلا النظرات لتتصنع إنزعاج زائف ليأخذ هو هذا الحديث وقرر أن يُعلي من سقفه قليلًا ليهمس بجاذبية ساحرة وابتسامة تخلب عقل أيًا كان من أمامه رافعًا لأحدى حاجباه في خبث:

- ده أنا كنت مستني الحضن الجاي بفارغ الصبر!

تحولت ملامحها للزجر ثم حدثته بجدية لتقول:

- يالا علشان منتأخرش!

التفتت ثم تركته خلفها وتوجهت للمقعد الجانبي الأمامي لسيارته بينما لحقها هو ليوضع يده على الباب كي يمنعها من فتحه فالتفتت إليه لتجده قريب منها للغاية لينظر لها لبرهة ثم ابتسم بعذوبة وتحدث بنبرة ممتنة ليقول:

- تعرفي يا فيروز إنك الوحيدة اللي حضنتني بعد آمال، الوحيدة اللي لقيتها جانبي لما تعبت.. يمكن كنت بهزر معاكي من شوية بس بجد كونك موجودة جانبي ده كبير اوي بالنسبالي! أنا اليوم ده واللي عملتيه عمري ما هنسهولك.. يمكن قتلت، وعملت مصايب، وولعت فيهم! بس كل حاجة كان ليها سبب.. أنا بعامل دايمًا الناس زي ما ما بيعاملوني.. وانتي اللي عملتيه معايا عمري ما هنسهولك.. شكرا..

تناست في ثوانٍ ما أخبرها به منذ لحظات لتبتسم إليه بمصداقية ونظرت بعينيه وهي تحاول أن تستشعر صدقه لتتنهد في النهاية بعد أن قررت أن تستخدم كلماته ضده ثم همست بذكاء:

- أنت قريب ليا ولما أشوفك تعبان او محتاجلي عمري ما هتأخر عنك.. بس لو انت بتقول إن مامتك كانت هي الوحيدة اللي بتحضنك، انت متخيل إن فيه أم بجد ممكن تسيب ابنها كده؟

تحولت ملامحه في ثوانٍ ليظهر عليها الغضب ثم اقترب للغاية منها لتبتعد هي بينما اكتشفت أنه يحاول فتح الباب لها ليس إلا بينما أشار لها برأسه أن تدلف وعينيه أعطتها نظرة مُحذرة لا تحتمل النقاش فزفرت ثم ركبت على مضض ليفعل هو الآخر المثل ولم يتبادلا الكلمات لوقت ليس بقليل!!

قررت هي أن تُنهي ذلك الصمت غير المألوف والجو المشحون الغريب عليهما لتقول:

- ممكن أفهم أنت إيه اللي ضايقك اوي كده؟

التفت إليها بملامح متهكمة ثم اعاد نظره أمامه ليحدثها بإنزعاج:

- بصي، انا من اكتر الحاجات اللي بحبها فيكي إنك ذكية وبتفهميني، متجيش تعملي عليا غبية دلوقتي!

تنهدت وهي تعقد ذراعيها في تآفف فنظرت أمامها وتحدثت بثقة شديدة:

- شهاب، مامتك جزء من ماضيك ولازم تواجهها، بعد كل اللي عرفته منك ده فكر فيه بس من وجهة نظر تانية، لو أم بجد بتحب ابنها زي ما حكتلي عن علاقتكم وانت صغير استحالة هتسيبك بسهولة.. بغض النظر عن إني اعرف طنط آمال من زمان بس عموما كلامك حتى لو صح وهي سابتك لازم تواجهها!

أطلق ضحكة مستهزأة وعلق كلماتها بإستهزاء بالغ ليقول بخفوت:

- يا سلام!! وهي بقى اللي قالتلك الله يكرمك يا بنتي تخليه يجي يكلمني.. وانتي صدقتيها.. حتى بعد كل اللي حكيتهولك..

التفتت نحوه بملامح غاضبة لتتحول تلك المحادثة لجدال شرس بين رجل وإمرأته وليس أصدقاء، وبالطبع بعيدا كل البعد عن رجل ومعالجته النفسية لتصيح به:

- تاني!! تاني هتشك فيا مش كده؟! برضو هتقول إنها قالتلي آجي وأكلمك، وأنا بسافر معاك وبروح معاك في كل حتة وبجيلك وابات معاك علشان خاطرها مش كده؟ علشان بعد كل ده تروح بس وتكلمها!! هو ده اللي هتفضل مقتنع بيه دايما وعمرك ما هتتغير!

صف السيارة بعنف بعد أن كان يقودها بجنون وهو يدلف المرأب ثم رفع المكابح اليدوية بعصبية شديدة ليلتفت لها في مقعده بغضب ثم صاح بها هو الآخر:

- كل ده وعمري ما هتغير، عايزاني اعمل إيه تاني علشان اكون كويس في نظرك! علشان اعجب ست الهانم العظيمة فيروز اعمل ايه تاني! مطلوب مني اعمل إيه اكتر من كده!

رفعت حاجبيها في دهشة ثم صاحت من جديد ولكن الكلام تواتر من شفتيها دون إنقطاع:

- لا مش مطلوب، أنا اللي غلطانة إني عايزة اشوفك كويس، عايزة إنك ميفرقش معاك حد وتبقى مرتاح، غلطانة إن يومي كل بقى واقف على شهاب فين وعايز إيه وبيعمل إيه، اخد دواه ولا لأ، مضايق ولا مبسوط ولا حاسس بإيه!! أنا ستين غلطانة إني بتبسط وبفرح لما أشوفك كويس..

أنا عايزاك تواجهها علشان ترتاح، تتكلم معاها وبعدها تقرر يا صفحة وانتهت وتواجه صدماتك ليها علشان تكون كويس يا إمّا علاقتكو تتحسن.. ترجع تاني تقولي إنك بتشك فيا وهي اللـ..

قاطعها بأنفاس متسارعة من كثرة غضبه ليصرخ بها:

- اتزفت وقولتلك مليون مرة إني بثق فيكي، أنا مبشكش فيكي يا فيروز!

ابتسمت متهكمة ثم تابعت بنبرة محتدة:

- لما انت بتثق فيا ايه لازمة كل الكلام ده وتقولي إن هي اللي قايلالي اقولك كده؟

تبادلا النظرات لبرهة وكلاهما يلاحقان أنفاسهما المتسارعة في غضب ولكنها تابعت حديثها في النهاية بخيبة أمل:

- خايف تواجهها يبقى لازم تتغلب على خوفك وتواجهه، خايف إنها تكون إنسانة كويسة بعد كل السنين دي يبقى واجهها واعرف إيه اللي حصل، خايف تكون فضلت راجل وأولاد وحياة كاملة عنك ابقى واجهها واثبتلها إنها متستحقش ابن ناجح وهايل زيك! لكن ليه دايمًا بتبعد عنها وخايف! الكره اللي جواك من ناحيتها عمره ما هيريحك وأنا مش عايزة اشوفك بتعاني افهم بقى!

ترجلت من السيارة في ضيق بعد أن صرخت به في حُرقة ولم يترك لها الوقت حتى لتدرك ما قالته في نوبة غضبها ليذهب خلفها وهو يُمسك بمعصمها كي يوقفها ويستكملا حديثهما بعد أن شعر أن ملامحها الآن باتت ملامح تلك المرأة التي كانت تبكي بحرقة من اجل زوجها فالتفتت له ونظرت له في حُزن بحدقتين رماديتين ليهمس لها في آلم:

- أنا مش قادر يا فيروز اتكلم معاها، بدر الدين ولا سارة اهونلي مليون مرة من اني اعرف الست دي تاني!

ابتسمت له نصف ابتسامة في وهن لتتلمس ذراعه الأخرى وهمست له وقد تملكت منها مشاعرها التي إلي الآن لا تدرك ماهيتها بمنتهى الغباء لتخبره في لين وتوسل:

- شهاب، أنا عارفة طنط آمال، وشوفتها وهي بتبوصلك ونفسها تتكلم معاها ولا مستنية ضحكة منك، أنا طول عمري كان نفسي أكون أم، مفيش أم زيها هتكون مش عايزاك او مش حباك.. ما يمكن حاجة حصلت زمان، يمكن كان فيه ظروف خلتها تبعد عنك.. ليه مانع نفسك منها.. مفيش حاجة في الدنيا كلها تساوي فرحة الأم بإبنها الكبير.. انا لغاية دلوقتي بحس إني بموت لما بفتكر إن حملي راح يوم ما عرفت إن ماهر مات.. الموضوع مش هل على اي ست!

تواترت دموعها، هل من أجل ما تذكرته، من أجله، أم من أجل زوجها.. ربما من أجل تلك المشاعر التي باتت تدفعها للنطق بأشياء لم تظن أنها ستخبر بها أي مخلوق على وجه هذه الأرض فلم يجد هو سوى أن مد أنامله ليجفف دموعها بعد ان انتعشت ذكريات برأسه عندما رآها تبكي من قبل يوم خطبة اختها ولكنه بجرأة احتوى وجنتيها بين كفيه ليهمس لها في إذعان وانصياع لكل ما تريده عدا أن يراها تبكي:

- حاضر هروحلها.. هاكلمها، بس بطلي عياط ارجوكي

تناولت عدة انفاس وانطلق لسانها دون دراية منها وتحدثت من جديد في توسل:

- أنا اللي يشوفني وانا في بيتك ومعاك في السفر وفي كل مكان ممكن يفتكر إن انا وانت فيه ما بيننا علاقة تانية غير اللي ما بيننا، بس محدش يعرف ايه اللي بيننا بجد، ما يمكن مامتك حصلت ظروف زمان مقدرتش تصارحك بيها وقتها، أو يمكن حتى هي كان لازم تختار.. وحتى لو ست مش كويسة.. لازم تواجه وتكون اقوى من كده ارجوك، أنا عايزة اشوفك كويس علشان خاطري..

نظر لها وهو لا يدري أيترك لكلماتها أن تعبث بعقله كي ينتج عنها المزيد من التخمينات أم يقبل كل ما تقوله أم ماذا عليه أن يفعل، هو فقط لا يستطيع تحمل بكائها، حتى ولو كان من أجله..

جفف بإبهاميه دموعها من جديد وهو لا يزال يحتوي وجهها بكفيه ليومأ لها بالموافقة ثم همس مخبرًا اياها بنبرة حنونة:

- حاضر، حاضر هاروحلها واواجهها واعمل كل اللي انتي عايزاه، بس بطلي عياط علشان خاطري..

أومأت له وحاولت كف نفسها عن البكاء وابتعدت للخلف بعد أن أدركت أخيرًا أنه كان يتلمسها منذ فترة وشعرت بالحرج ليرمقها هو عاقدًا حاجباه في ندم ليهمس لها بصدق:

- أنا آسف إني زعقت.. حقك عليا متزعليش..

أومأت هي له بالموافقة ولكن دون أن تنظر مباشرة بعينيه وجففت وجهها بأناملها ليزفر هو في حنق ثم صاح بها:

- لا بقولك إيه هتفضلي مكشرة كده هاضيقك بجد!

رفعت عسليتيها إليه ليلعن نفسه على عشق إمرأة ذات حدقتين مجهولتين الهوية ونظرت له بقليل من التعجب ثم حدثته وقالت:

- والله خلاص مش متضايقة..

ضيق عينيه وهو يتفحصها جيدًا ثم تحولت ملامحه للمزاح ليهمس لها بنبرة جذابة في مكر

- لازم ابان صايع يعني وقليل الأدب علشان اضايقك بجد.. خلاص كان ناقص شوية واحضنك

توسعت مقلتيها في تحذير بينما أغلق السيارة بجهاز التحكم من بُعد لتصيح به في تحذير:

- شهاب اتلم!

ابتسم لها بعذوبة ابتسامة ساحرة ليقول:

- أيوة كده ارجعي دكتورة فيروز الشرسة اللي اعرفها

بادلته الإبتسامة على مضض بينما سارا سويًا نحو المصعد لملاقاة سارة ليهمس لها وهما يتمشيان في تساؤل:

- هو انتي لون عينيكي إيه؟!

 

     

#يُتبع . . . 

 

تنويه : موعد الفصل الثامن والثلاثون سيكون بتاريخ 10 نوفمبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرون ساعة على موقع واتباد

ملحوظة : يتم نشر مسابقة بالمجموعة الخاصة على الفيسبوك (روايات بقلم بتول - Novels written by Batoul) ويتم إرسال جزء في حدود 200 : 400 كلمة من احداث الفصل التالي للفائز قبل الجميع عند الفوز بالمسابقة.. ستكون المسابقة غدًا العاشرة مساءا بتوقيت مصر..

تنويه آخر: لن تزيد الفصول القادمة عن 5500 كلمة بداية من هذا الفصل لسهولة الكتابة وسرعة النشر حتى استطيع الإلتزام بمواعيد الرواية..

     

شكرًا للمتابعة