-->

الفصل الحادي والخمسون - شهاب قاتم

 - الفصل الحادي والخمسون - 

     

أقوى المحاربين هما الوقت والصبر..

(ليو  تولستوي)

     

تفحصها بينما تصلب هي جسدها لم تعد حتى تستطيع أن تُذرف الدموع ووقعت في حالة من الذهول لما استمعت له  وابتلع هو ولا يزال حابسًا أنفاسه في انتظار ولو حرف منها قد يستطيع أن يعرف عن طريقه قرارها.. هل توافق على زواجهما؟ هل ترفضه؟ هل سيتم رفضه للمرة الثانية في حياته البائسة؟ هل سيكون على يدها أن يُعذذب من جديد للمرة الثانية في حياته بسبب إمرأة؟! 

بحثت بحدقتيها في ملامح وجه بأعين تتوسل أن تجد ملاذًا من كل ما يحدث لها معه، كيف ينجح دائمًا في إظهار تعابير وملامح كل مرة يقدر على أن يفاجئها بها وكأنه لديه وجه آخر يدعو للتعاطف والشعور بحاجته الماسة وصدقه الشديد الذي لا يشوبه شائبة!!

 لم تجد سوى الصدمة التي احتلت كل ملامحها هي وحيرة جعلتها في منتصف الطريق بين جنان النعيم ونار الجحيم.. مظهره الذي يوحي بإفتقاره للنوم والحزن من أجلها وذبول هيئته التي يومًا ما كانت دائمًا وأبدًا تبعث رسالة واضحة بأنه أوسم الرجال وأفضل البشر أمّا الآن فهو يبدو كالحطام!! 

ما قاله وما تفوه به لا تستطيع أن تُفسره بسهولة، هل كان عرضًا لزواجه منها، هل كان يقصد الزواج أليس كذلك؟ ليس الزواج فحسب، هو يهتف بأنه سيتغير، سيكون أفضل، مرة أخرى يأخذ عهدًا على نفسه أمامها.. يقول أنه  لن يحدث بينهما أي شيء قد يخيب أملها، كان هذا ما قاله أليس كذلك؟ المزيد من الوعود التي تبدو أجمل ما قد تستمع إليه إمرأة من رجلٍ تعشقه، ولكن هل سيفي بهذه الوعود التي تبدو حالمة؟! 

عقلها مرهق من مجرد مواكبة وتصديق ما قاله!! لا تدري كيف عليها التصرف الآن! شتات الحيرة بين السماع لصوت العقل وصراخ المشاعر يفتت سائر الحواس ليترك المرء بين دوامة لا نجاة منها أبدًا!

ازداد توتره وهو يقبض على كف يدها السليمة التي فلتت من تلك الحادثة وتلمس لحيته الكثة لمرات وخلل شعره وازداد ارتباك أنفاسه ولم يعد يقو على الإنتظار أكثر من تلك اللحظات وعينيها تبعثا به الخوف بل الإرتعاد من أن يُرفض من جديد فهمس هاتفًا في توسل هائل بنبرة صرخت بالتضرع والتذلل:

- قولي حاجة يا فيروز أرجوكي..

فكرت مرارًا في كلماتها المُقبلة، هي بدأت معه كمعالجة نفسية، قبل أن تراه بأشهر كانت ترتاب بأن هناك جزءًا كبيرًا وراء كل ما يُعاني منه هو صدمته من علاقته الأولى وبعد أن تحدثت معه بالأمر هي تعرف أنها لن تستطيع رفضه بنفس الطريقة مجددًا وعليها انتقاء كلماتها القادمة معه بمنتهى العناية، هذا أول سبب، أمّا السبب الثاني هي أنها تدرك أنها بداخلها قد اهتزت لمجرد سماعه ينطق بتلك الكلمة، توسله اياها أن يتزوجها كان كحلم تحول حقيقة بنطقه لتلك الكلمات!! 

لن تُنكر أنها كانت تحيا بالأيام الماضية على أمل أنه لربما سيستجيب، تركته وبداخلها كانت تتمنى أن ما حدث بينهما سيكون بمثابة صدمة له وإثارة لمشاعر الندم وتأنيب الضمير بداخله كي تتحرك ولو بمقدار ضئيل.. هل وصل لذلك حقًا؟! 

من جديد شعرت بالشلل الفكري وسألت نفسها كيف عليها أن تتصرف الآن؟! تصده وتستمع لصوت المنطق ولصوت عقلها؟ أم تُصدق أن بؤرة السيكوباتية المرضية التي تعي مخاطرها جيدًا بدأت تستجيب لبعضًا من التغيير؟! 

كل الإشارات والأحداث والمنطق والعقل يهتفوا بها ألا توافق، مهما بدا أمام عينيها ذليلًا أو ضعيفًا أو حتى مقهورًا بإبتعادها عنه أو حتى رغبته بها وبمدى تصنعه لرغبته الهائلة في التغيير.. ولكن مشاعرها، ذلك الأمل الذي لح عليها كثيرًا بالأيام الماضية بأن هناك شيئًا حقيقي بكل ما مر عليهما سويًا، ولو حتى لعدة لحظات قليلة، يستحيل أن يكون كل ذلك كذب وخداع.. 

ارتفع حاجبها الأيسر بتحرك تلقائي لتقاسيم وجهها بينما انهمرت دموعها في وهن شديد تساوى مع ضعف ذلك الرجل أمامها لتهمس بصدق وصوت مهزوز:

- أنا بحبك يا شهاب

قويت قبضته أكثر على يدها بينما ملامحه أخذت في التذمر لإستشعاره الـ "لكن" المُقبلة التي أوشكت على الخروج من بين شفتيها فوجدها تتابع همسها لتُدهشه تمامًا:

- أنا.. أنا عشت معاك مشاعر عمري ما عشتها.. حياة جديدة عليا.. مش عارفة اقولك ازاي كنت عايشة قبل منك!

توقفت لبرهة وهي تبحث عن التشبيه الصحيح لتُكمل بشفتان مرتجفتان وحدقتان شردتا في اللاشيء:

- أنا كنت عاملة زي اللي سايق عربية وحاطط حزام الأمان، ماشية على سرعة هادية علشان المخالفات والقوانين، علشان خايفة على نفسي وخايفة على اللي حواليا.. ومع إني ممكن اختار أي عربية تانية اسوقها بس اخترت اكتر عربية فيها أمان.. 

فجأة بين يوم وليلة لقيتني بسوق بسرعة، قفلت العداد.. عربية حلوة اوي، سرعتها رهيبة.. رايحة مكان معرفوش بس مبسوطة إني رايحة المكان ده.. مع إنه ممكن يكون خطر عليا، وممكن يكون غريب وعمري ما كنت موجودة فيه قبل كده ويمكن مش هاعرف اعيش فيه بس.. بس عايزة اروح! 

عقد حاجباه في تعجب هائل من تشبيهها ورمقها في تفحص شديد فنظرت له لتتلاقى أعينهما فهمست مرة أخرى:

- الحياة معاك ببساطة هتبقى عكس كل حاجة أنا اتربيت عليها.. هتبقى القرار المتهور.. يمكن اتبسط ساعة أو ساعتين أو حتى شهرين بالعربية الحلوة.. بس مع الوقت مش هي دي الحياة اللي أنا عايزاها! أو يمكن بقول لنفسي كده.. شهاب أنا عارفة إني بحبك، ومتأكدة إنك بتحبني.. 

بس لا أنا ولا أنت في وقت صح في حياتنا إننا ناخد قرار زي ده.. 

ابتسم في انكسار لتلتمع عينيه بالدموع ثم همس سائلًا لينقل بصوته العميق دمار دام لسنوات لم تشاركه اياه أي إمرأة من قبل سواها هي:

- أنا العربية الحلوة؟ تقدري تقولي المغامرة اللي عمرك ما صدقتي إنك تعيشيها!

نظرت له لوهلة ولم تتوقف دموعها ثم أومأت له بالموافقة في انكسار تساوى مع وهنه فرفع أنامله وجفف وجهها من تلك الدموع وتوسعت ابتسامته في حماس ثم همس بهرجلة وفوضوية هائلة:

- وفيها إيه؟ فيها إيه لما تجربي.. مش يمكن تكون هي دي الحياة اللي انتي عايزاها من زمان؟ ومش يمكن انتي كنتي عايشة طول حياتك بطريقة مش لايقة عليكي ولا انتي اللي اخترتيها؟ تعالي نجرب.. فيروز أنا استحالة أأذيكي ولـ..

لم تعد تحتمل توسله بملامحه تلك التي لم تغب عن عقلها ولو لثواني بالأيام الماضية لتقاطعه في نحيب مترجي:

- مينفعش.. أنا مش كويسة.. أنا.. أنا عاملة زي.. أنا مش عارفة افكر.. اللي أنا فيه ده معرفش نهايته ايه.. أنت فعلًا متعرفنيش.. من اول يوم شوفتني فيه لغاية دلوقتي ولا واحدة فيهم كانت فيروز! أنا خايفة يا شهاب أكون مش بحبك واجي في يوم اظلمك أو أأذيك.. بس أنا حاسة إني بحبك، مش مجرد انبهار او.. أو شدتني أو.. أنا مش قادرة افكر ولا أقرر.. 

تعالى بكاءها لينظر إليها وأقترب نحوها أكثر وأخذ يجفف دموعها ليُحدثها بنبرة واثقة:

- انتي بتحبيني بس خايفة.. انا اتأكدت إنك بتحبيني بدل المرة ألف مرة.. آخر مرة مشيتي من عندي والحزن اللي شوفته في عينيكي كان نفس حزنك على جوزك يوم ما روحتي تجبيلي ورق الأرض!! أنا فاكر كل حاجة حصلت ما بيننا.. في الأول كنتي استحالة تفكري فيا، وأنا كنت زيك يا فيروز.. كنت استحالة أفكر فيكي.. 

في الأول كان نفسي بس حد يحبني زي ما انتي بتحبي جوزك وعلشان كده أنا عملت كل حاجة في ايديا علشان اخليكي تنسيه.. يمكن تكرهيني أو تضحكي عليا بس أنا عمري ما حسيت بالغيرة على واحدة ست في حياتي..  بس هو.. أنا، أنا حسيت بالغيرة منه!! مع إنه مات ومش موجود!!

نظرت له في لوم شديد ورآى غضبها بعينيها ولكنه سارع بوضع سبابته على شفتاها وتابع بهمس:

- بس بعد كده حبيتك انتي.. انتي متأكدة إن كنت معاكي كذا مرة ولوحدنا.. وعارفة إني كنت ممكن اعمل حاجات كتيرة اوي.. تقدري تجاوبيني إيه اللي منعني آخر مرة عن إني اكمل اللي بدأته؟! 

رمقها في تساؤل كلاهما يعلمان ما إجابته ثم تابع:

- انتي متأكدة إني اقدر أهددك وأهدد كل الناس علشان ترجعيلي أو ببساطة ممكن اعمل اي حاجة في اللي بتحبيهم علشان تردي عليا، إيه اللي يمنعني اعمل ده غير إني بحبك واتغيرت فعلًا؟ 

ابتسم في سخرية تجاه نفسه ليهمس بحرقة وحسرة:

- عارفة الراجل اللي خبطك.. قاعد مستني بس إنك تصحي ومرضتش أأذيه وقولت ده حقك انتي تحددي تعملي إيه معاه!! كل ده أنا مش كويس ولا بحبك ولا بتغير ولا انفعك؟! 

عاد مجددًا لنظرات التوسل التي باتت تقتلها وتصعب عليها الأمر أكثر لتصيح ببكاء جارف:

- أنا مش كويسة يا شهاب دلوقتي إني أكون في علاقة أصلًا.. أنا تعبانة.. مش مؤهلة لده

تعالت أنفاسه حانقًا من رفضها له ثم همس متوسلًا في محاولة لإقناعها بإستعطاف لا يُبارى:

- وأنا مش كويس.. وعارف إني بعاني من مرض نفسي أنا كمان.. ليه منعملش زي ما قولتي؟ ليه منساعدش بعض؟ ليه منروحش لدكتور ونتعالج ونكون كويسين مع بعض؟ 

انهمرت احدى دموعه في ضعف ليهمس بإنكسار وصوت مهزوز في تساؤل:

- هو أنا مستاهلش إنك تكوني جانبي؟ مستاهلش إنسان واحد بس في حياتي كلها يكون جانبي وأنا محتاجه؟ حتى انتي يا فيروز هتسبيني؟

أومأت له بالرفض ورمقته في تردد بالغ ولم تتوقف دموعها عن الإنهمار لتهمس له:

- أنا مش هاسيبك.. بس الفكرة يا شهاب إني بعد ما اكون معاك هترجع تاني زي الأول، أنت علشان حاسس إنك بتحبني دلوقتي بتقول كده.. لكن قدام مش هتحس نفس الإحساس وبعد ما مشاعرنا يعدي عليها فترة ملل أو زهق مش بعيد تبطل علاج أو حتى تبطل تحبني! 

عقد حاجباه ورمقها في تعجب ثم سألها بحرقة غضبه بمجرد التفكير في أنها سترفض في النهاية:

- مش مصدقة إن الموضوع بجد مش كده؟ بعد كل ده مش مصدقة!! 

نهض وتركها وهو يلهث بغضب وود لو أن هناك ما يستطيع تهشيمه ولكنه تمالك غضبه كي لا يُخيفها وتابعته بعينيها الباكية وهي تعض شفتاها في محاولة لكتم صوت نحيبها وهو يستند بذراعاه على خصره تارة وتارة يعبث بملابسه وأخرى يخلل شعره أو يمرر يده بلحيته الطويلة وهي لا تدري أتُفسد الأمر أكثر أم ما الذي تفعله أو حتى تقوله لتجده فجأة يلتفت لها قائلًا بنبرة واثقة للغاية وهو يضيق عينيه نحوها: 

- أنا هثبتلك حاضر.. أنا هاخليكي متأكدة إن الموضوع بجد المرادي!!

لم تعي ما الذي يقصده بكلماته بينما اقترب منها للغاية رغمًا عنها وقبلها على رأسها لتعيد رأسها للخلف في حركة تلقائية سريعة ولا تدري حتى لماذا لم تمنعه أو لماذا لم تقل شيئًا وظلت ترمقه بعينين متسعتان.. هل هذا بسبب تلك الآلام بجسدها أم تلك الآلام بروحها التي لا تنفك تزداد كل يومٍ عن ذي قبل ولم يمر سوى ثانية لتجده يتجه نحو باب الغرفة ليغادرها بينما دخلت "هبة" بملامح تصرخ بالقلق لتستمع إليه يهمس لها وهو يشير بسبابته نحو السرير التي تجلس عليه:

- اتصرفي واقنعيها بدل ما..

بالكاد أمسك لسانه عن تلك التهديدات ليزفر في غضب عارم ولكنه تابع:

- بدل ما اعمل حاجة مش كويسة..

انطلق مسرعًا وأغلق الباب صافعًا اياه لتنظر لها "فيروز" بتعجب وأعين اتسعت أكثر في دهشة وأدركت أن هناك العديد من الأشياء التي حدثت خلال تلك الأيام التي لم تكن واعية بها..

تلاشت ملامح القلق واللهفة من على وجه "هبة" عندما وجدت صديقتها تتصرف بشكل طبيعي لتزفر في تأزم وحاولت بشتى الطرق ألا تنظر بعينيها مباشرة وهي لا تدري كيف عليها بداية هذا الحديث الذي هي مضطرة أن تخوضه وعليها مواجهتها به وشعرت أنها قد سقطت في هوة لا نهائية العمق وكلما مر الوقت عليها يزداد عمقها لتشعر بأنها لن تستطيع الخروج منها في النهاية..

أجبرت ابتسامة على شفتاها واقتربت لتجلس بجانبها ثم تكلمت في اهتمام:

- حمد الله على سلامتك يا حبيبتي .. 

تنهدت وهي تنظر إليها لتتلاقى أعينهما أخيرًا لتبدأ الدموع مرة ثانية في الإندفاع لعيني "فيروز" لتومأ لها "هبة" بالرفض وأمسكت بيدها مُسرعة وسارعت قائلة في نهي:

- متعيطيش .. اهدي علشان خاطري..

لم تستطع أن تفعلها وهبطت دموعها فاقتربت الأخرى إليها وضمتها بحرص شديد كي لا تؤلم ذراعها لتصيح في نحيب:

- أنا بوظت كل حاجة.. مقدرتش اشوفه قدامي واخبي اللي أنا حاسة بيه وتعبت يا هبة بجد من كل اللي بيحصل

ربتت عليها في حنان شديد وحاولت أن تهدأها:

- هششش.. اهدي.. اهدي علشان نعرف نتكلم.. علشان خاطري اهدي.. لازم نتكلم قبل ما طنط وعمو يجوا.. وهمّ خلاص على وصول.. بطلي عياط واسمعيني!

حاولت "فيروز" أن تبتلع تلك الشهقات وهي تمنع بكاءها بصعوبة وفرقت "هبة" عناقهما لتنظر لها بجدية بعد أن تنهدت ثم شرعت في الحديث:

- أنا لما عرفت إنك في اوضة العمليات مسكت فيه وكنت حاسة إنه ورا الحادثة دي.. اتعصبت عليه شوية بس بعد ما خرجتي من اوضة العمليات والدكاترة طمنونا شهاب اتكلم معايا!! 

رمقتها في تعجب وأعين مليئة بالعديد من الإستفسارات لتمتعض ملامح صديقتها وأومأت لها بالموافقة ثم همست إليها:

- انا مكنتش اتخيل إني هقول كده بس.. بس هو اتكلم معايا وقاللي إنه بيحبك وعارف إني مهمة بالنسبالك علشان كده حكالي.. وقال إنه مقصدش يجري وراكي أو يأذيكي بأي شكل.. ومعرفش ازاي عملها بس اقنع سالم اننا نقعد في البيت بتاعه علشان قريب من المستشفى بدل ما افضل رايحة جاية كل يوم!! 

قلبت عينها ونظرت للأعلى في حنق شديد وكراهية لأنها من عليها تأدية هذا الدور ولكنها تابعت:

- وبرضو معرفش ازاي عمل كده بس عرف يتصرف ومسابش المستشفى يوم واحد!! هو الكل فاهم ان فيه مواعيد للزيارات بس قالي انه اتصرف واني اقدر اجيلك وقت ما احب بس مرضاش اقول لباباكي ومامتك!! بصي يا فيروز أنا مش شاكة إنه بيحبك.. المشكلة بس إن.. إن..

انعقد لسانها وهي تزفر في عجز عن مواصلة الحديث لتهمس الأخرى في صدمة:

- هبة ده قالي نتجوز!!

توسعت عينيها وأومأت بالإنكار لتتمتم:

- كنت حاسة انه هيعمل كده!! 

تلاقت أعينهما في إدراك لما يحدث وكلتاهما لا تستطيعان الحديث لتُطلق "هبة" كل ما برئيتيها من أنفاس ثم تشجعت وتحدثت في جدية:

- انتي بتحبيه، وهو بيحبك.. الصح إنك تستني السنتين، يتعالج، انتي كمان تكملي في علاجك ولو عايزين تتجوزوا اتجوزا.. بس بمنظره ده مش هيصبر.. انتي حرة طبعًا و.. 

لم تستطع أن تنظر لها مباشرة وهي تقترب من اخبارها بأكثر حقيقة مُزعجة قد تستمع لها يومًا ما ولكنها استجمعت رباطة جأشها وقالت:

- ربنا بيسامح وبيتوب واحنا بشر ومش احسن منه علشان نرفض نقبل ونغفر.. وفي نفس الوقت احنا مش ربنا علشان نسامح زيه.. الموضوع بيختلف من واحد للتاني.. انتي فاكرة كويس زمان قولتي انه سادي وحكاياته مع البنات دي وبيتاجر في السلاح .. لو مسامحة براحتك.. وأنا من ناحيته مهما كان اللي حصله مع إني معرفش عن حياته حاجة بس أنا بحس إن شهاب كان ممكن يسأل على ماما في يوم أو على الأقل يرد عليها!! أنا مش قادرة اسامحه حتى لو عمل إيه.. 

بس واجبي كصاحبتك وأختك اللي بتخاف عليكي إني افكرك بالصورة الكاملة يا فيروز.. فكري كويس وقرري.. لو متأكدة إنك هتتبسطي معاه تمام.. هاكون اسعد واحدة في الدنيا لما اشوفك مبسوطة.. ولو مترددة مفيش اكتر من الوقت قدامك تحكمي فعلا فيه على مشاعره وتغييره ومشاعرك.. ممكن تستني شوية وتقدري ساعتها ترتبي افكارك وتاخدي القرار اللي تحبيه!! 

وافتكري اهم حاجة.. شهاب الشاطر المقنع رجل الأعمال غير ماهر ظابط الجيش الطيب الهادي السوي!!.. وصاحبتي اللي انا اعرفها من سنين مبتقبلش غير اللي بيقولها حاضر وطيب ويتناقش معاها بهدوء وبيعمل كل حاجة صح في حياته! براحتك.. لو عايزة حتى تتجوزيه بكرة أنا معاكي بس ارجوكي فكري كويس قبل ما تاخدي قرار معاه!!

انتهت مما تود قوله لترفع رأسها إليها وتلاقت اعينهما لتشعر "فيروز" بمزيد من التردد والحيرة التي وقعت هي بها لتجبر كلتاهما ابتسامة لم تكتمل واكتفت "هبة" بإمساك يدها في دعم وصمت ولم تقو أيًا منهما على مواجهة الأخرى ولو بكلمة واحدة..

     

أشفق على كل إنسان لا يُعطي الوقت حقه، جهلاء بجدارة من لا يروا ما الذي يحدث خلف الستار كلما مر الوقت.. لربما هم مساكين لعدم معرفتهم بأن كل يوم، كل ساعة وكل دقيقة وحتى كل ثانية تمر هناك أحداث صاعقة تُبدل عالمنا بأكمله رأسًا على عقب لم نكن نحلم يومًا بأنها قد تحدث ولو في أجمل رؤيانا ولو في أسوأ كوابيسنا كذلك!! الوقت يُغير كل شيء.. إما للأفضل وإما للأسوأ! 

بمجرد مرور الوقت ترى أمامك إنتقام يضطرم لهيبه حتى يحرق صاحبه.. وإنتقام آخر يخمد لهيبه بفعل نسائم طيبة كاليد الحانية حتى يترك صاحبه راغبًا في المزيد من نسمات الحياة الطيبة التي لم يعرفها قط.. 

يمر المزيد من الوقت وأنت ترى أمامك شر مقيم لا يستطيع شعاع ضئيل من الخير مبارزته لينهزم أمامه كل محاولات الإصلاح.. وشر آخر مُقدرًا له أن يندثر بمرور الزمن.. في النهاية لا شيء يدوم على حاله!! 

بمرور الوقت عزيزي قد تُنبذ الآن فتعود لتنتقم بعد وقتًا من الزمان ولكنك أيضًا قد تصل لكل ما تمنيت يومًا ما فترتمي في نهاية الطريق بجسد انهكته الحياة خائر القوى متلذذًا بحصولك على ما تمنيت منذ وقتًا دام لسنوات.. 

قد تُنهي عذابًا فتتك لمدة ليست بهينة وجعلك غريب على نفسك.. قد وقد وهناك آلف من التخمينات وملايين من القصص ولكن الوقت هو بالبساطة الإجابة الواضحة والنتيجة والحل لكل شيء!! الوقت يُخبرك إذا تغيرت، إذا شُفيت، إذا تركت ذلك الوحش الضاري بداخلك يُدمرك أو قتلته أنت بقدرتك على التسامح!! 

كل ما تحتاجه كي تحكم، كي ترى، كي تجد التفسيرات وتُنهي التخيلات وتلك الظنون التي آلمت عقلك وكي تتيقن هو ببساطة الوقت.. والأهم هو أن تُعطي نفسك وغيرك الوقت الكافي لتضح لك الأمور!! ولكن حاذر عليك أن توازن الأمر دون إفراط أو تقطير وإلا سيذهب كل انتظارك وإضاعتك للوقت سُدى..

     

بعد مرور شهر.. السابع والعشرون من يناير عام 2020..

تمر السنوات وتتغير الحياة حولك، تواجه الصعاب، تشعر بالسعادة، قد تقع في الحب، قد تفارق من أحببت، تتغير الوجوه وتسقط الأقنعة عندما تظهر الحقيقة للعيان.. ترتكب الأخطاء وهناك من يغفر ويسامح وهناك من يحكم عليك حكمًا أبديًا بأنك لا تستحق الغفران.. 

كلها أمور تحدث في الحياة ولكن يا له من محظوظ من لديه من يسير بجانبه كظل لا يُفارق صاحبه.. على الأقل سيجد وسط طيات ظلامه بعض الأمل الذي يحثه على المضي قدما.. وإذا انقشع الظلام في النهاية سيجد ذلك الظل يبتسم له ليُخبره أن كل الصعب مر وكل شيء سيكون على ما يُرام بإبتسامة كمكافأة على ما واجهاه سويًا.. 

شدت على كف يده بين يديها بعد أن اقبلت من خارج غرفتيهما وانخفضت على ركبتيها أمامه وهو جالسًا على كرسي بالشرفة ثم سألته بإبتسامة حنونة في توسل:

- ملك الكون مش ناوي يبطل يقعد لوحده وينورنا النهاردة وينزل يفطر معانا؟

ابتسم لها بإنكسار ثم أنخفض ليُقبلها على جبهتها برقة ثم جذبها بخفة لتجالسه على كرسي قريب منه ولم يترك يدها ثم اجابها بنبرته الرخيمة قائلًا:

- معلش يا نوري خليني بعيد كده احسن.. 

يتظاهر بأنه بخير ولكن تلك المرارة القاحلة في نبرته لن تُخفى عليها أبدًا بعد كل تلك السنوات التي حفظت بها زوجها عن ظهر قلب فهمست له بتساؤل متوسلة اياه من جديد: 

- حتى لو قولتلك إن شاهي وولادها وهديل وزياد جايين يفطروا معانا النهاردة؟!

عقد حاجباه في انزعاج واختلفت ملامحه ثم تنهد بعمق وسألها:

- ده امتى اتفقتوا على الموضوع ده؟

هزت كتفيها بتلقائية ثم اجابته:

- شاهي كلمتني من شوية وقالتلي انهم جايين.. هقولها لأ يعني؟! 

زفر بعمق ثم شرد بعينيه الثاقبتان بعيدًا وقد شعرت هي بآلمه الذي بات من المستحيل هذه الأيام أن يندثر ولو للحظات فأردفت في تصميم:

- بدر يا حبيبي.. قفلتك على نفسك من يوم ما زينة كلمتك مش حل.. مينفعش تفضل بعيد عننا كده! 

التفت نحوها ثم سألها بإنكسار هازئًا من نفسه:

- زينة!! زينة بس.. مشوفتيش سيدرا وأدهم بـ..

لم تقبل تلك النظريات الكونية التي يعد لها بعقله أبدًا فقاطعته مسرعة:

- أنا اتكلمت مع سيدرا وفهمتها كل اللي حصل والمشكلة اللي كانت عندك زمان من غير تفاصيل كتيرة، وشاهي كمان فهمت أدهم إيه اللي حصل.. وهديل قالت للولاد انها كمان اللي قالتلك تعمل كده.. 

أومأ في سخرية هائلة واطلق ضحكة خافتة مصحوبة بهمهمة ثم أشاح بنظره بعيدًا من جديد لتتنهد "نورسين" ثم نهضت ووقفت أمامه وتفحصت عينيه بزرقاويتيها في إصرار وغضب ثم حدثته في جدية واشتدت يدها على خاصته:

- بدر!! اللي انت فيه مش حل.. عازل نفسك ومبتكلمش غيري أنا وسليم! إيه يعني غلطت في يوم.. بكل اللي انت عملته ده مصلحتش غلطك؟ وقفتك جنب الكل لسنين، تربيتك لولادك.. حبك ليا ده مغيرش أي غلط عملته!! 

انت الكبير اللي الكل بيتسند عليه، سليم بيحاول بس لسه قدامه كتير اوي علشان يكون زيك.. ذنبه إيه زياد في اللي حصل علشان ترفض تكلمه وهو محتاج اخوه الكبير لو هيرتبط بالبنت اللي اخيرًا استقر عليها.. سليم مش هيبقى اخوه الكبير علشان يروح معاه يوم ما هيتقدملها!

 كلنا محتاجين ليك اننا تكون جنبنا تاني.. ولو حتى غلطت فأحسن الحلول انك تواجه مش تكتئب وتفضل قاعد لواحدك بعيد عن الكل.. مش نهاية العالم يعني! كفاية بقى يا بدر كده.. وحشتني أنا وسليم وسيدرا واخواتك كلهم اللي مش عايز تقابلهم.. 

مضايق من إيه؟ سيدرا علشان صغيرة شوية وبتستوعب على مهلها؟ ولا زينة اللي متأكدة إنها هترجع كويسة تاني؟ ولا من أولاد هديل الباقيين اللي محدش فارق اصلا معاه حاجة غير إياد وبكرة لما يبقى راجل وشايل مسئولية مراته هيعذرك.. 

تريثت لبرهة ثم امتدت يدها لتتلمس لحيته وهمست في توسل:

- علشان خاطري قوم غير وانزل افطر معانا النهاردة.. واحدة واحدة كل حاجة هترجع زي الأول وأنا وسليم وسيدرا واخواتك كلنا جنبك.. بذمتك موحشكش القاعدة معانا؟! 

تفحصها بسودويتاه التي تصرخ بالحيرة والحزن لثوانٍ ولم يتفوه بحرف لتضم رأسه إلي صدرها في حنان ثم قبلت رأسه وحاوطها بذراعاه بقوة مبتلعًا غصة من آلام ومشاعر لم يجد الكلمات المناسبة لنطقها فعانقته هي الأخرى وضمته إليها أكثر ثم همست له:

- يالا قوم غير وهانزل اشوف موضوع الفطار ده والناس اللي جايين.. ولو أتأخرت مش هيحصلك طيب!! 

فرقا عناقهما بهدوء ليرمقها بإبتسامة بسيطة ثم سألها مُضيقًا عينيه:

- انتي بتهدديني يا نورسين؟

ضيقت عينيها مثله ثم اجابته بإبتسامة مُتكلفة مازحة:

- اه.. بهددك.. عندك مانع؟! 

عقد حاجباه في زيف لغضب لا أساس له بتاتًا ثم اجابها:

- واضح إن غياب قلة الأدب نستك مين بدر الدين الخولي..

هزت كتفيها بمرح واتسعت ابتسامتها بمرحها المعهود وابتعدت اكثر عنه ثم همست له بدلال:

- يمكن.. ويمكن بعمل كل الحركات دي علشان بدوري وحشني!! أو يمكن قلة الأدب وحشتني.. مش عارفة!! بس لو خلصنا الفطار وقاعدتك مع اخواتك ممكن تعرف بنفسك! 

تلك النظرات المُداعبة بصحبة نبرتها المُحببة إلي قلبه ودلالها الفطري الممتزج بإبتسامتها الساحرة لم يستطع الصمود أمامهم لينهض وحاول الإمساك بها بينما فلتت منه بسرعة في طريقها للخارج ثم صاحت إليه:

- متتأخرش يا بدر!! 

     

وضعت كوبها على المنضدة التي تتوسط غرفة الجلوس بمنزل والدها ثم شردت أكثر مثل ما باتت عادتها في الأيام المنصرمة الماضية، هي تشعر بسعادة لا نهائية تتملكها، لم تشعر بمثل هذه السعادة منذ أن كانت بسن المراهقة .. أو ربما عندما تم قبولها للدراسة بالخارج سعادتها وقتها مساوية لتلك السعادة التي تشعر بها الآن.. 

خفقات القلب المتسارعة التي تدفع قلبها ليقرع على طبول كيانها بأكمله لا ترأف بها ولا تتركها سوى غارقة بمزيدًا من العشق الجارف له، ذلك الإرتباك الفطري الذي يسيطر عليها كلما رآته أو تحدثا حتى بالهاتف يجعلها تشعر وكأنها فتاة يافعة من جديد.. مجرد تواجدهما معًا وتصريح كلًا منهما للآخر بالعشق وأحلام عدة ودا الوصول لها سويًا يجعل الأمر أشبه بحلم مُبهر السعادة لا تود الإستيقاظ منه أبدًا..

هذا ليس بمنطقي.. الأمر برمته يجعلها تشعر بخوف هائل.. أن تقبل بتلك الخطبة التي تمت في لمح البصر، أن تذهب وتنتظره كلما ذهب لجلساته، تلك الشخصية الطفولية البسيطة التي وجدتها بداخله منذ يوم استيقاظها بالمشفى إلي الآن، هل يُمكن أن كل ما احتاجه هو العشق فقط ليبدو ذلك الرجل الرائع الذي تغير له هكذا بين ليلة وضحاها؟! 

تنهدت وهي تحاول أن تُخرس تلك المشاعر التي تدفعها لتُفكر بهذه الطريقة لتنساق خلفها كالفتاة المراهقة، هي تُدرك أن رجل مثله بما عاناه، بكل ما مر عليه واختبره، بكل مجونه، قسوته، ظلمه وافتراءه وكل ما تعرض له، بذلك التشخيص الصعب الذي لا يوجد علاج نهائي له، كل ما هو عليه يستحيل أن يتغير في لمح البصر هكذا.. شهرًا واحدًا ولا حتى شهران ونصف منذ أن بدأ في محاولاته معها ليكونا مجددًا من جديد ليس بكافيان أبدًا كي يجعلها واثقة أنه قد تغير وأصبح ذلك الرجل الذي تستطيع أن تناديه بزوجها!! 

لن تنكر أنه بات يُصدق حقًا في أنه مريض.. لن تُنكر اقترابه الشديد من أُسرته.. لن تنكر محاولة اقترابه منها هي نفسها وهو يُحدثها ليلًا نهارًا كي يعرف من هي حقًا أو حتى وهو  يأتي إلي منزلها ويقضي الوقت معها هي وعائلتها وهو يحاول بكد وإلحاحًا قاسيًا على نفسه بأن يتغير.. لقد لاحظت أنه يحاول دون توقف أن يتحمل مسئوليات عِدة.. حتى والدته بدأ في معاملتها بطريقة أفضل كثيرًا من السابق.. والذي لا تستطيع تخيله إلي الآن أنه حتى مع تلك المدعوة "كلوديا" يحاول أن يتعامل معها على أنها صديقته ليس إلا وكأنه فجأة اكتشف أنها حقًا تلاءمه كصديقة.. 

زفرت في إرهاق وهي لا تدري أحقًا هذه هي البداية الجديدة له في طريقه للعلاج؟ أم أنه يروقه التظاهر بحياة جديدة؟ بالرغم من تأكدها بنفسها من معالجه بأنه يستجيب واستشعاره صدقه ولكن ما تعلمته لسنوات يُجبرها على أخذ الحذر الشديد تجاه هذا العشق المُرعب.. عفوًا.. لماذا ليس لنا يدًا في اختيار من نعشقه؟! لماذا تدفعنا مشاعرنا إلي أخذ أكثر الخطوات جنونًا في الحياة؟! 

على ذكر الجنون.. بحياتها بأكملها، بكل تلك الأفلام التي شاهدتها، بكل تلك الطرائف التي سمعت عنها.. إلي هذه اللحظة لا تُصدق طريقته الغريبة التي تدفعها للضحك كلما تذكرته وهو يعرض أمر زواجه منها على والدها أمام أُسرتها و "هبة" ووالدته كذلك.. إنفعالته وقتها التي لم يلحظها سواها وردة فعلها وقتها وملامح والدها وهو يقع في الصدمة والذهول كما وقع الجميع بهما لا تتركها سوى وهي تضحك ولا تستطيع التوقف عن الضحك!! 

منذ شهر.. السابع والعشرون من شهر ديسمبر 2019

كلما مر الوقت ازداد تعجبها إلي أين ذهب!! منذ مغادرته وهو بذلك الغضب لا يستطيع قلبها أن يطمئن أبدًا.. لقد سأمت ادعاءها أنها فقط تشعر بالصداع والآلم بذراعها المكسورة وتلك الغيبوبة تضعها في حالة تشويش بالرغم من تأكيد الأطباء بأنها تستطيع أن تغادر قريبًا.. 

اقترب منها والدها ليجلس بالقرب منها على السرير بدلًا من اختها "فريدة" التي نهضت لتوها ثم هز رأسه في آسى وهو يرمقها ولكنه حاول أن يكون مرحًا كي لا يُزيد من الكآبة حولها فقال:

- تعبتيني يا فيروز!! ناويالي المرة الجاية على إيه!! انا مش هاجري على مستشفيات تاني خلاص بعد اللي حصل ده.. أنا مش هاخرجك من البيت بعد كده! 

رمقته في تعجب ولكن الإبتسامة ارتسمت على شفتاها لتشرع في ذلك المرح الذي يلوح على ملامحه فحدثته في تساؤل مازح:

- جرا إيه يا دكتور.. هتهدد بنوتك ولا إيه؟

رفع كتفاه ثم اخفضهما في قلة حيلة ثم اجابها:

- ما انتي قلقاني عليكي.. عايزاني اعمل ايه، شكلي كده لازم اكون الأب الشرير علشان ابطل اخاف عليكي.. 

توسعت ابتسامتها ورفعت احدى حاجبيها بنظرة تحدي ثم اخبرته:

- متقلقش هارجع احسن من الأول كمان والحمد لله جت بسيطة.. دي دراع مكسورة يعني يا دكتور وشوية صداع وهيروحوا في يومين.. وهاخرج برضو زي ما أنا عايزة!

هز رأسه من جديد في انكار ثم حدثها بقلة حيلة مبتسمًا:

- وهو انا اقدر امنعك من حاجة يا مغلباني..

كادت أن تتابع حديثها بينما استمع الجميع لتلك الطرقات على باب الغرفة فتنبه الجميع ونظروا نحو الباب لتجد "شهاب" هو الذي آتى لتشعر بالإرتباك واحتبست أنفاسها وأخذت التخيلات تلوح في رأسها بما قد يفعله أو يتفوه به أمام الجميع فلن يكون الأمر سهلًا أبدًا لو تصرف معها بأي طريقة غريبة أمامهم خصوصًا أن الوحيدة التي تعلم بحقيقة الأمر هي "هبة" وحدها..

تابعته بعسليتيها وقد اختلف مظهره كثيرًا حتى أنه بدل ملابسه وشذب تلك اللحية التي كانت كثة منذ ساعتان وقبل أن تشرد بتلك التفاصيل وجدت والدها يصافحه بإبتسامة ودودة ويتحدث معه فتنبهت لتستمع لهذا الحديث بتركيز أكثر وهزت رأسها بإقتضاب دون أن يلاحظها احد في إنكار واكتفاء من ذلك الوجه الدبلوماسي الذي يستطيع رسمه ببراعة أمام الجميع..

ابتسم له "شهاب" بعد أن تجاذبا أطراف الحديث من تلك الأسئلة الروتينية ليبدأ في النظر نحوها ثم اعاد نظره إلي والدها وهو يقول في وقار:

- حمد الله على سلامة فيروز..

بادله الإبتسامة ثم رد بنبرة لائقة:

- الله يسلمك.. وبجد شكرًا جدًا يا شهاب على الزيارة..

أومأ له برسمية مبالغ بها قليلًا ثم وجدت "هبة" تقترب منها لتهمس لها في خفوت شديد كي لا يسمعهما أحد:

- أنا مش عارفة ناوي يهبب ايه!! أنا مش متفائل!! 

رمقتها بلمحه سريعة ثم أومأت لها في موافقة وهمست لها:

- ولا أنا! 

ابتلعت في ارتباك وتابعته هو ووالدها لتجده يتحدث بمنتهى الجدية الشديدة وهو يتفحص ملامح والدها بعناية هائلة :

- المكان مش مناسب طبعًا للي أنا هقوله.. كان نفسي الظروف تكون احسن من كده شوية بس أنا بطلب ايد فيروز من حضرتك؟

تباعدت شفتا والدها في ذهول وصدمة شديدة كما تعجب الجميع حولها لتجد نفسها تُمسك بيد "هبة" تقبض عليها في ارتباك وهربت الدماء من عروقها ولم يتلاقى جفنيها وتصلبت حدقتيها نحوهما وهي لا تُصدق ما يفعله ليُحمحم والدها في محاولة لإعطاءه ردًا لتلك الكلمات التي ألقى بها في لمح البصر دون مقدمات بينما ظلت هو ملامحه ثابتة لم تتغير في انتظار ردًا منه ولم يدرك أحد بداخله أنه كاد أن يقتل واحدًا منهما إن لم يحصل على إجابة لعينة لسؤاله..

أخيرًا تحدث والدها وحاول أن يضيف ابتسامة وقورة ثم قال:

- يا ابني انا ليا الشرف طبعًا إنك تكون جوز بنتي بس.. يعني زي ما قولت الوقت والمكان مش مناسب وأنا برضو هارجع لفيروز نفسها في حاجة زي دي و..

قاطعه في ثوانٍ ولم يتركه ليُكمل:

- هي موافقة!

ابتسم له ليلتفت والدها نحوها بأعين متسعة في ذهول لتومأ له "فيروز" من بعيد بالإنكار وقد شعرت بمعاناة رئيتيها للبحث عن الهواء أمّا "هبة" فكانت تمسح على وجهها واندفع بداخلها الغضب الشديد مما يفعله ذلك الحقير الذي كادت أن تنهض لتتشاجر معه..

لاحظ "شهاب" بحنكة ما يحدث حوله فاستطرد بسرعة وهو يتحدث بمنتهى الدبلوماسية والثقة:

- أنا طبعًا قعدت مع حضرتك كذا مرة.. عارف مربي بنات حضرتك ازاي وقد ايه بتحب كل واحدة تاخد قرارتها بنفسها علشان كده مكنتش هاقدر اتخطى رأي أي حد فيكم.. أنا كلمت هبة وهي اللي سألت فيروز النهاردة الصبح..

توسعت عينا "هبة" في غضب هائل وكادت أن تنهض نحوه بينما منعتها "فيروز" وهي تقبض على يدها ونظرت لها في توسل وعادتا لتنظرا نحو "شهاب" وهو يُكمل:

- وحضرتك أنا جيت اتكلمت معاك بصراحة.. أنا مش هلاقي احسن من فيروز علشان تكون مراتي وأم اولادي.. ومش هلاقي احسن منكم أهل وهاشم كلمني كتير عنكم وبصراحة ليا الشرف إني اكون ابنك! 

رفع والدها حاجباه وقد غابت عنه الكلمات لقليل من الوقت بينما حافظ "شهاب" على وجهه الدبلوماسي وابتسامته اللائقة وشعرت "فيروز" وكأنما محيطات من جليد منتصف الشتاء قد سقطت على جسدها لتلتهمها في اغور اعماقها السحيقة ليحمحم والدها ثم رد في النهاية بعد صمت دام للحظات:

- أنا يا ابني معنديش مانع بس برضو لازم فيروز هي اللي تقرر.. لو موافقة يبقى ربنا يتمملكوا على خير بس اكيد مش ده المكان المناسب أبدًا اننا ناخد خطوة زي دي..

ابتسم له بمزيد من اللباقة ثم سأله دون الإكتراث لكلماته:

- تمام.. أنا سألت الدكاترة واطمنت وممكن تخرج النهاردة.. حضرتك تحب نحدد معاد امتى؟ 

زفرت "فيروز" وهي تهز رأسها في انكار وتمنت لو انشقت الأرض وابتلعتها لتتوسع ابتسامة والدها وكاد أن يُجيبه بينما سبقه الآخر مضيفًا:

- أنا بس مستعجل شوية علشان هسافر الأيام الجاية.. ومش عارف هرجع امتى بالظبط.. تحب نحدد معاد امتى؟

هذا الكاذب المحتال، تقسم أنها كادت أن تقتله بيديها لو لم يتوقف عن قول تلك التراهات وممارسة اسلوب الضغط الذي يسيطر به على الموقف.. هي متأكدة أنه لن يُسافر إلي أي مكان بالإضافة إلي تلك الكذبة بشأن سؤاله اياها عن طريق اخته.. صبرًا .. ستقتله على فعلته ولكن ليس الآن..

تنهد والدها ثم مط شفتاه ونظر إليها لتبتلع ثم فهمت ذلك التساؤل بعينيه لتتحدث بقليل من الصعوبة في البداية ثم استرسلت في سهولة بعدها:

- بابا.. أنا.. يعني على الأقل افك الجبس وربنا يسهل.. نبقى نحدد معاد ونعرفه إن شاء الله!

ابتسم لها "شهاب" بخبث عندما تقابلت اعينهما بينما مقتته هي بنظرة اراحته قليلًا كعقابًا لها على كل ما عذبته به الأيام الماضية لتستمع لصوت والدها وهو يحدثه قائلًا:

- خلاص استنى مني مكالمة إن شاء الله!! 

لم تستطع "هبة" الإنتظار لتهمس لها:

- اقسم بالله لو ما ربتيه على عملته السودا دي لا انتي صاحبتي ولا اعرفك!! الكداب الحيوان ده! أنا محدش سألني ولا قالي حاجة.. ولا يكونش فاكر الكلمتين بتوع الصبح دول تبقي كده موافقة.. هتجنن يا ناس.. والله هتجنن! 

نظرت له وهو يبتسم لوالدها بينما ارتسمت الإبتسامات المذهولة على اوجه الجميع حولهم والتفتت لتنظر إلي "هبة" وهي غاضبة وملامحها تضطرم بلهيب لا تستطيع اخراجه امام الجميع وفجأة وجدت نفسها تقع في حالة ضحك هيستيري لا نهاية لها ليرمقها الجميع في استغراب هائل!!

- ايه الضحكة الحلوة دي؟ ده احنا بنحب بجد بقى ولا إيه؟

تنبهت وهي تضحك بخفوت ثم التفتت نحو والدها لتهز رأسها في انكار ثم اجابته:

- والله يا بابا كل ما افتكر اللي حصل يوم ما كنا في المستشفى مش بقدر أبطل ضحك!!

توسعت ابتسامة والدها ثم قال:

- بصراحة رد فعلك كان غريب.. مش فاهم إيه اللي ضحكك.. 

قلبت شفتاها واخبرته:

- لغاية دلوقتي أنا بجد مش عارفة.. 

اقترب منها ثم اراح ذراعه خلفها لتستند على صدره ليسألها بجدية:

- حاسة إنك مبسوطة يا فيروز؟

شعر بإيماءتها على صدره ثم اجابته:

- بابا انا مبسوطة بس خايفة.. يعني أنا خايفة اكون اتسرعت.. وخايفة من اني اخدت قرار الخطوبة ده بعد الكام جلسة اللي عملتها معاه.. بس حاسة إني عمري ما كنت مبسوطة كده..

تنهد بعمق وتريث قليلًا ولكنه ضمها أكثر إليه وحدثها قائلًا:

- الخوف طبيعي.. وده في الأول وفي الآخر قرارك يا فيروز.. احنا مشوفناش منه حاجة مش كويسة وشكله انسان محترم وبيحبك.. لو هو اللي هيسعدك يا بنتي دي اكتر حاجة تفرحني في الدنيا، اني اطمن عليكي واعرف إنك عايشة مبسوطة.. بس اهم حاجة تكوني فاهمة انتي بتعملي ايه.. 

تنهدت ولم تستطع الإجابة في تلك الدوامة التي تمر بها من مشاعر تشعر وكأنها لم تختبرها قط بالرغم من عشقها الذي تتيقن منه إلي "ماهر" ولكن كل شيء مختلف معه للغاية.. شردت في تفكيرها أكثر بينما آتى صوت والدها ليُنبهها من تلك الأفكار وهو يسألها:

- هتروحوا تفكوا الجبس النهاردة؟ 

اجابته مهمة ثم قالت:

- آه إن شاء الله.. شهاب هيجيلي كمان ساعتين كده وهنروح المستشفى سوا.. 

أومأ لها ثم نهض وقال:

- ماشي يا حبيبتي خدي بالك من نفسك ولو احتاجتي حاجة ابقي كلميني.. أنا يادوب اقوم علشان اجهز للشغل.. 

ابتسمت له وأومأت في تفهم بينما اردف متعجبًا:

- صحيح سمعتي عن موضوع الفيروس ده اللي في الصين؟

هزت كتفيها دون اكتراث ولكنها أشارت بالموافقة:

- اه اخدت بالي من كام خبر كده..

لوى شفتاه في امتعاض ثم استطرد:

- ربنا يستر احسن ابتدا ينتشر في البلاد حواليهم والاصابات بتعلى.. 

ضيقت ما بين حاجبيها ثم قالت:

- لا إن شاء الله ميجيش ناحيتنا وبعدين أنا متفائلة هتكون سنة حلوة إن شاء الله.. 

ابتسمت في النهاية ليبادلها الإبتسامة وأوشك على أن يُحدثها بينما صدح هاتفها بالرنين ليرمقه ووجد اسم "شهاب" يظهر على الشاشة لتتوسع ابتسامته متنهدًا ليتمتم بحنق تصنعه:

- عندي شغل انا.. سلام يا دكتورة!

توسعت ابتسامتها بقليل من الخجل ثم قالت:

- سلام يا دكتور ربنا معاك..

انتظرت إلي أن ابتعد والدها قليلًا ثم جذبت الهاتف لتجيبه ولم يُعطها حتى الفرصة للتحدث بينما همس لها في نُعاس:

- اديني سبب واحد إني صاحي وانتي مش في حضني دلوقتي!! 

زفرت في ضيق زائف وارتسمت الإبتسامة على شفتاها لتقول:

- شهاب.. مش هانعيد نفس الحوار كل يوم.. 

همهم في موافقة ليُحدثها:

- علاج وابتديت فيه، شغل وعيلة هاخد أوسكار خلاص عليهم.. راجل محترم من غير وساخة بقيت إمام مسجد.. عايزة تعملي فيا ايه اكتر من كده؟ ما كفايانا الخطوبة دي بقى وما تيجي اتجوزك ونخلص من المشورة بتاعت كل يوم!

رفعت احدى حاجباها بقليل من الإنزعاج وتريثت قليلًا لتُفكر ثم حدثته في ثقة:

- يا حبيبي وماله.. عندك حق كفايانا خطوبة.. احنا الاحسن كنا نبعد عن بعض سنتين زي ما فهمتك إن مينفعش الحالة والأخصائي يـ..

تأفف بضيق ثم قاطعها:

- خلاص خلاص.. كويسة الخطوبة 

اطلقت ضحكة خافتة بإنتصار لتتمتم:

- ايوة كده اظبط!! 

قهقه ضاحكًا في غيظ ولم يتقب مزاحها السخيف معه ليضيف مستفزًا اياها:

- بما إنها خطوبة وشكلها خطوبة ناشفة.. مفيش كده أي شوية تحرش لفظي بريء من اللي بحبهم دول!

ضيقت ما بين حاجبيها في إنزعاج ثم هتفت محذرة:

- شهاب!! وساخة ماليش فيها!

تنهد في حنق ثم حدثها في وهن في النهاية:

- خلاص.. كانت شورة مهببة.. كنت اخطفك اسهل والله.. 

اتسعت عينيها في عدم تصديق واستشعر ذلك النفس الذي أخذته قبل أن تتفوه بالزجر والتحذير اردف مسرعًا:

- ساعة واكون عندك.. وهتقضي اليوم معايا.. ومفيش نقاش.. سلام!!

هل حقًا أنهى المكالمة دون تعقيب منها!! هذا السيكوباتي المغرور.. تُقسم أنها ستريه!! زفرت في انفعال والقت الهاتف بجانبها وهي تسأل نفسها متى وكيف وافقت على كل ذلك الجنون ليغيب عقلها بما حدث منذ شهر بالمشفى لتجد الإبتسامة ترتسم على شفتاها من جديد.. 

منذ شهر.. السابع والعشرون من شهر ديسمبر 2019 مساءًا..

دلف الغرفة لتنهض من على السرير وتتجه نحوه وقد آكلها الغضب وهي تتيقن أن كل ما فعله وسبب أن الأطباء عادوا ليمنعوها من المغادرة كان بسبب تدخله.. كيف أن يقولوا أن تغادر ثم يعودوا في قرارهم.. هي حتى بدأ الصداع في الإختفاء بداخل رأسها وهذا الوغد هو السبب الوحيد الذي يجعل الدماء تغلي في رأسها وسيسبب لها جلطة عن قريب لا محالة.. 

صرخت به بمنتهى الإنزعاج سائلة:

- إيه بقى الـ show اللي انت بتعمله ده؟ وانت ورا انهم يقولوا مينفعش اخرج مش كده؟ كلمت وزير الصحة المرادي؟

زم شفتاه وأطرق برأسه يمينًا ونظر لها معاتبًا ثم اجابها:

- أول حاجة ده هتمضي عليه قبل ما نتجوز.. تاني حاجة وحشتيني وعايز اقعد معاكي.. تالت حاجة أنا عارف إنك بتحبي اهلك جدًا.. وعارف إنك عنيدة وممكن ترفضيني.. علشان كده عملت كل الـ show ده زي ما بتقولي وطلبت ايدك من باباكي قدام الكل.. لو انا متغيرتش تفتكري كنت عملت كل ده؟!

زفرت في ضيق ولم تتقبل بينما صاحت ولكن بقليل من الهدوء:

- بس تكدب وتقول انك قولتلي عن طريق هبة وتقول انك مسافر و..

أشار بسبابته ليوقفها وقاطعها مسرعًا:

- أنا فعلًا ممكن أسافر مع كلوديا.. وهبة قولتلها إني بحبك..

توقف عن الحديث بينما تبادلا النظرات في صمت بعد أن نطق من جديد بتلك الكلمة واقترب نحوها قليلًا ولم تستطع محاربة تلك المشاعر التي لا تدري لماذا تُرغمها على تصديقه وتقبل كل افعاله ليُحدثها من جديد:

- انا هامشي لو حابة ولو مش عايزاني اقعد معاكي بس انا خايف فعلًا موضوع الإرتجاج ده يأثر عليكي.. الأحسن تستني كمان يومين في المستشفى.. 

أقترب أكثر منها وقبل أن تبتعد أمسك بيدها السليمة ثم انخفض راكعًا امامها ورفع رأسه لها لتنظر له هي في ذهول ليهمس إليها:

- عمري ما كنت اتخيل اني اعمل اللي بعمله دلوقتي.. انتي مش مجبرة على حاجة يا فيروز.. بس أنا بحبك وعايزك تكوني مراتي ومنبعدش عن بعض ولو ثانية لغاية ما اموت.. وجودك جنبي بيخليني احس اني مش محتاج اي حاجة تانية في الدنيا.. ولا حتى اي حد..

ليكي حق متصدقنيش بس دي اخر مرة هقولهالك..

هاعمل كل اللي انتي شايفاه صح وهيخليني كويس.. وعلشان اثبتلك ده انا فعلًا عايز اتجوزك مش بلعب ولا بهزر ولا بكدب وعندي استعداد ارضى بأي حاجة علشان تفضلي معايا.. علاج هتعالج.. صلاة وابعد عن الحرام هابعد.. اقرب من اهلي، حاضر.. 

انتي عارفة إني في يوم ابتديت كل الغلط علشان الفلوس.. الوحيدة اللي تعرف حياتي كلها عاملة ازاي وانا شوفت ايه.. بس خلاص بعد ما لقيتك وحسيت بالحب منك مبقتش عايز حاجة في الدنيا غيرك.. 

تنهد ثم أخرج احدى الخواتم من جيبه وهي ترمقه بأعين تلتمع بالدموع بعد تلك النبرة التي استمعت له بها ولم تتركا حدقتيهما بعضهما البعض ثم عاد ليهمس من جديد وهو يقدم إليها ورقة وخاتم:

- أنا عمري ما حبيت وعملت كل ده بس.. لو فاكراني لسه زي ما أنا فالورقة دي انتي هتمضي عليها قبل جوازنا علشان اثبتلك قد ايه أنا اتغيرت.. دي توكيل عام ليكي بأي حاجة تخصني.. طظ في الفلوس وطظ في كل حاجة انا مبقتش عايز غيرك انتي يا فيروز.. تتجوزيني؟!

     

عودة إلي اليوم الحالي السابع والعشرون من يناير عام 2020

ضحكت بخبث وهي جالسة تتناول فطورها وشردت بغيظ هائل على كل ما يحدث لها.. أحقًا والدتها فعلت ذلك؟ حكمت عليها أنها مريضة مجنونة تحتاج إلي مصحة بسبب كلمات ذلك الطبيب المتخلف.. حسنًا.. ربما هي لم تعد خطتها جيدًا.. ولكن هذه المرة ستخدع الجميع!! والدتها.. هؤلاء الأخوة المزعجون الذين يدعون اكتراثهم بزياراتهم التي لا تتوقف.. هؤلاء الأطباء وتلك الممرضات.. لن تتوقف قبل أن تُدمر كل من فعل ذلك بها..

والدتها، اختها وزوجها، وبالطبع على رأس هؤلاء ذلك الحقير "شهاب الدمنهوري".. لتُفكر بطريقة اخرى هي الآن بعيدة للغاية وستستطيع التفكير والتخطيط لكل ما أرادته..

بدأت في توطيد العلاقات بالكثير من الممرضات والكل بات يظن انها مقتنعة بالعلاج وتحتاج للمساعدة وتطلبها دائمًا وتريد أن تصبح أفضل وتلك التراهات.. تخدع الأطباء بقصة محكمة عن شعورها بالإضطهاد.. تلك الغبية الصغيرة "زينة" ساعدتها في هذا قليلًا.. هي فقط تنقل قصة حياتها البائسة مع بعض الإضافات.. يا ليت السيدة العظيمة "هديل الخولي" تعلم الآن ما سيواجهه الجميع بسبب تواجدها في هذه المصحة الهادئة التي تستطيع أن تفعل بها الكثير دون وجود إزعاجات من تلك العائلة بأكملها.. 

ستريهم أنهم أخطؤوا بحقها.. لن تنسى أيًا مما فعلوه.. وسترد لهم الصاع صاعان.. هي فقط تحتاج الوقت والخطة المحكمة.. فيبدو أن خططها السابقة فشلت فشلًا مبرحًا ولكنها ستنهض وستنتقم من الجميع!!

     

مساءا نفس اليوم..

توقف بسيارته أمام منزل والد "فيروز" بمنطقة مصر الجديدة ثم التفت نحوها متصنعًا الحزن وقلب شفتاه ثم تحدث في ضيق:

- اعملك ايه وتوافقي تتجوزيني حالًا وتروحي معايا؟

ضيقت عينيها في تفحص وحدثته مجيبة في حزم بعد همهمات كثيرة في تفكير:

- إيه رأيك تخليني ملكة بريطانيا؟

عقدت ذراعيها في انتصار شعرت به من ملامحه بينما فجأة تهلل وجهه واجابها:

- نقتلها.. نعمل عملية ونغير ملامحك.. نضربلك ورق ونقـ..

اشارت بكلتا يداها لتوقفه بعد أن توسعت عياها في فزع وقاطعته:

- انت ايه يا اخي.. دماغك دي هتفضل سم كده.. تصبح على خير

توسعت ابتسامته في انتصار ثم همس إليها:

- دي حاجة بسيطة يعني لو هننول الرضا وتحني عليها وتتجوزيني.. 

هزت رأسها في غير تصديق وأوشكت على مغادرة السيارة ليوقفها جاذبًا يدها لتلتفت إليه ونظر لها لبرهة متنهدًا:

- بكرة أنا اجازة بقى بعد البهدلة اللي شوفتها طول الشهر.. سهران النهاردة ومفيش حاجة في الدنيا احلى من اني انام على صوتك.. لو نمتي من غير ما تكلميني هاجي اجيبك من سريرك وصدقيني الموضوع هيعدي مرحلة التحرش اللفظي البريء المرادي..

اتسعت عيناها في غيظ لتطلق زفرة مصحوبة بصوت منزعج:

- ماشي هنتكلم خلاص.. خد بالك من نفسك.. باي..

كادت أن تغادر ليجذبها من جديد ثم همس لها سائلًا بخبث:

- سادة كده.. باي.. مفيش بوسة.. حضن.. اي حاجة يعني..

جذبت يدها بعنف لتتسع ابتسامته وهي تصيح به:

- لأ والله مش ممكن انت فظيع.. روح يا شهاب روح بدل ما ارجع في كلامي وبلاها جواز.. 

تركها لتغادر ثم صاح بها من على مسافة بإبتسامة:

- ابقي اعمليها لو جدعة.. اياكي تنامي!! 

تركها وانطلق بسيارته لتلتفت هي خلفها عندما استمعت لصوت مغادرة سيارته وزفرت في حنق على حالة المراهقة تلك التي لا تنتهي ولكنها نوعًا ما تشعر كل يوم بالإطمئنان أكثر من ذي قبل.. 

توجهت للأعلى بإبتسامة وأخذت تُفكر في ذلك التغير الذي لم تكن تصدقه أبدًا.. وجدت نفسها تتراكم الذكريات السعيدة على عقلها وتوسعت ابتسامتها اكثر عندما بدأت في التيقن أن هذه هي طريقته المازحة ليس إلا، بينما في الحقيقة هو بات مختلفًا كثيرا يلتزم بالكثير من الحدود وكل ما يدعيه يحاول أن يدفعها للإنزعاج والمرح فقط ولكن بطريقته هو.. 

لا تدري لماذا لا تستطيع أن تنسى تلك المكالمات التي يتحدثا بها دومًا.. خصوصًا تلك المكالمة التي سبقت ليلة خطبتهما لتتوسع ابتسامتها أكثر وانتعشت تلك الكلمات في عقلها من جديد..

مساءًا.. الواحد والثلاثون من ديسمبر عام 2019..

ساد الصمت أكثر هذه المرة بعد أن حاولت أن تُنهي معه المكالمة أكثر من مرة بينما رفض رفضًا قاطعًا فحاولت من جديد مرة أخرى:

- شهاب بجد عايزة انام.. عينيا بتدمع.. هنتكلم الصبح والله وبعدين ده انت جاي البيت بكرة يعني هنتقابل كمان..

تنهد بإنزعاج ثم أفصح بالنهاية عن سبب مماطلته اياها:

- وأنا اللي كنت فاكرك ذكية.. عايز ابتدي السنة الجديدة وانتي معايا..

اندهشت قليلًا ونظرت بشاشة الهاتف لتلاحظ الوقت الذي سبق منتصف الليل بخمس دقائق وتأكدت من التاريخ لتبتسم وشعرت بغباءها لتحاول أن تُصلح مما افسدته:

- أنا مخدتش بالي ويادوب خرجت من المستشفى و..

قاطعها مسرعًا بهمس بدأت في معانقته بأذنيها كلما التقطته من بين تلك المكالمات الليلية التي لا يتوقفا عنها:

- فيروز.. أنا بحبك.. عمري.. عمري عمري عمري..

ضحكت مقهقهة ثم همست وهي تقاطعه:

- انت علقت..

همهم في موافقة ثم تابع:

- عمري ما كنت اتخيل اني افضل سهران علشان اكلم واحدة بحبها.. انتي غيرتي كل حاجة فيا يا فيروز.. واستحالة اتخيل حياتي من غيرك.. مبقتش عايز غير انك تفضلي معايا وبس.. كل سنة وانتي معايا

ابتسمت وهي تستمع لتلك الكلمات ثم همست له:

- بحبك.. كل سنة وانت معايا..

     

#يُتبع . . .

تنويه هام للغاية..

الفصل القادم بتاريخ الاثنان 4 يناير 2021

عام سعيد للجميع