-->

الفصل الثالث والخمسون - شهاب قاتم




 - الفصل الثالث والخمسون - 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

~ إنه لجنون من النساء جميعاً أن يدعن الحب ينفذ إلى قلوبهن لأنه اذ لم يقابل بمثله أو اذا لم يدركه أحد فسوف يلتهم الحياة التي تغذيه . وحتى اذا اكتشف أمر هذا الحب ولقي من يستجيب له فلا بد من أن يؤدي الى سراب خادع إلى قفار موحلة لا خلاص منها ولا نجاة .

(شارلوت برونتي - جين إير)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

تدفعك المشاعر لإرتكاب الجرائم في حق نفسك .. يتملكك جنون العشق في لحظة من ثمالة لهيبه المضطرم الذي يسوقك لإلتهام كل ما يُغذي نيرانه.. ولكن عندما تستيقظ من آثار لذة العشق ومجونها وتخمد النيران بعد زوال كل ما يُلتهم تسري بك برودة كئيبة، صوت بارد جامد يأنبك لكثير من الوقت.. يبقى في عقلك، يُردد بك بلا هوادة كل ما رفضت مواجهته.. لا يكف عن الصراخ بك وهو يقول كيف كنت بهذا القدر من الغباء؟! كيف فعلت كل ذلك؟ بل؛ كيف سمحت لنفسك بالوقوع في تلك التراهات؟ كيف استطعت إيذاء نفسك بعد كل مبادئك وكل ما عاهدت نفسك بألا تقع به أبدًا؟! 

 ويا لها من استفاقة مبرحة.. أو نصف إستفاقة - كما يجب أن أصوغها - نظرت نحوه بعد أن توقف والتفت لها بإبتسامة منتصرة بحصوله على تلك القبلة في خضم تأثيره الساحر على النساء وإستغلاله الخبيث لمشاعرها التي جعلتها ترضخ لرؤية إمرأة بمنزله تمارس الجنس ورؤيتها عارية ومن ثم تحملها من أجله وبالنهاية اذعنت أمام قبلة جرفه هو الآخر العشق لسرقتها من تلك الشفتان الورديتان.. 

اقتربت منه وملامح الشجاعة ترتسم على وجهها والغضب والنفور من كل ما يحدث بعد تلك اللحظات التي فكرت خلالها في هدوء جعلاها لم تعد تتحمل فصاحت به:

- شهاب.. أنت مبتتغيرش.. نفس طريقتك ونفس كل حاجة زي ما هي!! وكل اللي بيحصل حواليا ده مبيثبتليش غير حاجة واحدة.. إننا صدقني مش هننفع لبعض! 

روح بقى لكلوديا ولا مافيا ولا اعمل اللي تعمله علشان كده خلاص جبت آخري! 

التفتت لتغادر وتوجهت لتعود من جديد لداخل المنزل حتى تغادر من بوابته بينما تملكته ذرة من صدمة على ما استمع له ولكن القدر الأطغى كان للسخرية اثر ما استمعه فاقتربت منه "كلوديا" لتحدثه في امتعاض ساخرة هي الأخرى:

- هذه الخرقاء يجب وضعها عن حدها.. يبدو أنك تلين كثيرًا ليو حتى باتت تتحكم بكل شيء بينكما..

أطرق برأسه جانبًا وهو ينظر لها بإشمئزاز وإنزعاج ثم لحق مسرعًا بـ "فيروز" ليوقفها بنبرته الجلية الرجولية وهو يهتف خلفها بصوت أوقف قدميها عن أخذ المزيد من الخطوات وقال بلهجة مُهددة:

- فيروز.. اسمعيني كويس قبل ما تمشي.. 

كبحت بمجهود شاق ذلك الغضب الذي يصرخ بها أن تلتفت نحوه وتُكيل له الأسباب العديدة التي بمنتهى العقل والمنطق تبرهن على استحالة استمراريتهم سويًا وخلال تلك اللحظات عاد صوته لينبهها من جديد:

- أنا اعرف كلوديا والمافيا من اتناشر سنة، لو عايز اكمل مع حد فيهم مكنتش استنين لما تبقي معايا وأروح اعملها.. لو شايفة إني مبتغيرش لأ فكري تاني كويس في كل حاجة هتعرفي إني اتغيرت وبتغير وعمري في حياتي ما كنت الإنسان اللي انتي بتشوفيه دلوقتي.. 

انتي مش شريكتي في المشروع ولا الأخصائية النفسية اللي بتعالجني.. انتي دلوقتي خطيبتي ومفيش حاجة تمنعني اطلع اخبط على باب بيتكوا وادخل اتكلم معاكي.. 

اهدي واعقلي وفكري كويس.. 

مش هجري وراكي المرادي وهسيبلك فرصة تفكري في كل حاجة وهجيلك يوم الجمعة وأكون أنا كمان خلصت اللي ورايا!! ويكون في علمك مش هاتعرفي تبعدي عني يا فيروز!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

في خلال ثلاثة أيام..

مزق التفكير طيات عقلها إلي أن شعرت بعدم مقدرتها على مواكبة تلك العلاقة المتأرجحة بين السموات السبع وأعمق بقاع المحيطات.. أظنت أن الأمر سيكون سهلًا فقط لإبتعادهما عدة أسابيع.. يا لها من ساذجة!

 ترى أنها تندفع بمشاعرها إليه ونحوه وتجاهه إلي أن سمحت له بقبلة بتأثير أمواج شتوية متلاطمة من مشاعر عنيفة بعد أن رآت إمرأة عارية بمنزله..

تسمع كذلك للمنطق والمؤازرة والدعم صوتًا يُنبهها إلي أن ذلك الرجل بكل ما يفعله يتغير للأفضل، الأخصائي النفسي الخاص به أخبرها أكثر من مرة أنه يستجيب ويريد حقًا أن يودع الرجل الذي كان عليه يومًا ما.. كلًا من "هبة" واخيها "هاشم" وحتى والدته يعترفوا جميعًا بأنه لم يعد مثل السابق.. حتى اخيه الصغير "حازم" يُخبرها بأنه بات يقضي المزيد من الوقت معه.. يستحيل أن كل تلك الخطوات السريعة التي يتخذها ستتركه في النهاية فاقدًا لكل ما يحاول فعله.. 

كل التجارب في الحياة بحلوها ومرها تترك داخل كل إنسان ولو جزءًا ضئيلًا من تغير.. يستحيل حتى ولو انتكس أن يفقد كل ما يحاول فعله في تلك الشهور.. على الأقل سيبقى بداخله ولو مثقال ذرة من تغير!

ولكن صراخ العقل الذي لا ينفك يهتك رأسها.. كل ما درسته وتعلمته بل ورآته لسنوات من مرضى بشخصيات شتى معادية للمجتمع عقلها يصرخ بها دون هوادة.. يزجرها بعنف أن ذلك الرجل لن يتغير.. ذلك الرجل الذي عشقته اقترب من كونه سفاحًا مخضرمًا للنساء والفتيات.. بالرغم من دوافعه الواهية ولكنه تبقى دوافع بداخل رأسه المتصلب عن تقبل شناعة أفعاله المؤذية.. 

تلك الدوامة المُهلكة تفتت ذرات دمائها.. رأسها يؤلمها كل ما تذكرت ذكرى جمعت بينهما ولا تفسير لها سوى عشقه وعشقها لبعضهما البعض.. 

العشق المجنون مؤلم ولكنه يبقى البرهان الوحيد لكل تلك التصرفات المجنونة التي تدفع الإنسان لفعل ما لم يظن أنه سيفعله وهو أيضًا السبب الذي يجعلنا نتحرر من كل مبادئنا وكل ما عاهدنا أنفسنا عليه.. خصوصًا عندما يطغى على عقلنا.. 

وفي حالة كل منهما.. لقد طغى العشق ببساطة عليه وعليها ليُصبح كل منهما إنسان جديد لم يعد يعرف نفسه!! 

ثلاثة أيام كاملة.. لم يُحدثها لا بالجدال ولا بتلك الكلمات التي يتبعها المراهقون في محاولة للتعبير عن عشقهم الذي يغمر مشاعرهم.. 

ثلاثة أيام لا تدري ما الذي يفعله ولا يلقاه سوى ببضع كلمات وأخبار من اخوته.. طوال تلك الاثنان وسبعون ساعة الماضية تثابر وتجاهد في اقناع نفسها بنسيان تلك اللهجة المُهددة التي حدثها بها قبل مغادرته ومواجهة كل ما يحدث بينهما بالمنطق والعقلانية ولكن هيهات.. لقد وقعت في براثن عشقه بكل ما هو عليه..

العلاقات السامة في أبهى صورها يُجسدها كلًا منهما.. هو بضراوته وذكاءه الشديد في استغلال واستنزاف كل من أمامه بأخذ ما يريده ويرغبه منه بشتى الطرق وهي بمحاولة فرضها التحكم وفعل كل ما يليق ويصح بينهما..

ولكن أتدري عزيزي.. كلاهما لن يحصلا على ما رغبا وأرادا بشدة!!

حاولت النوم وإسكات تلك الأصوات التي لا تتوقف بعقلها بينما صدح هاتفها بالرنين لتجد اسمه يبزغ على شاشة الهاتف لترمقه في اعتراض شديد ثم تركته دون أن تجيب واكتفت بكتم الصوت إلي أن غاب ذلك الضوء الذي يستمر إلي حين انتهاء استقبال المكالمة..

لوهلة بداخلها شعرت بذلك الإنتصار اللحظي بعدم ردها على مكالمته.. بالرغم من أنها تتوق بشدة إلي حديثه الذي كانت تتوقع أنه سيخبرها به أنها المرة الأخيرة أو أنه سيثابر من أجلها وسيكف عن كل تلك التصرفات والأفعال التي لا تقبلها ولكنها ليست بالفتاة الساذجة التي ستتحول بفعل بضع كلمات منه للتلقائية!! لابد من وضع حدود وأخذ موقف لكل تصرفاته وإلا لن تستطيع ردعه أبدًا..

تنهدت وهي تغلق عينيها بقليل من الراحة بأنها لم تجب المكالمة ولم تكترث لماذا لم يحاول مرة أخرى وهي تقنع نفسها أنه سيحدثها من جديد بالصباح ولكن كالعادة هو لا تنفذ أبدًا حيله التي يستطيع عن طريقها السيطرة على الموقف!

استمعت لتلك الطرقات على باب غرفتها وفي ثوانٍ تم فتح باب الغرفة لتظهر اختها بملامح ناعسة مُمسكة بهاتفها في يدها ثم همست لها بصوت يحمل أثار النوم:

- فيروز شوفي موبايلك شكله silent .. شهاب بيكلمك ومش عارف يوصلك

نهضت في مفاجأة وكادت أن تصرخ بغضب ولكنها أدركت أن لا ذنب لـ "فريدة" في كل ما يحدث ثم صدقت على كلماتها لتقول:

- معلش آسفة إني صحيتك يا حبيبتي .. حاضر هاشوف الموبايل كنت سايباه silent فعلا.. 

أومأت لها وهي تهمم ثم توجهت لخارج الغرفة وأغلقت الباب خلفها وقبل أن تجذب الهاتف رآت الضوء يسطع بشاشته مرة أخرى لتُجيب بإنزعاج هائل:

- انت اتجننت.. رايح تصحي فريدة علشان مردتش عليك! 

همهم ثم أطلق ضحكة خافتة في سُخرية ثم تمتم:

- شهاب الدمنهوري مبيتردش عليه وبيجري ورا واحدة ست.. يا سلام.. مين كان يصدق

شعرت بالغيظ يجري مجرى دمائها ثم صاحت به لتدرك أن صوتها أعلى من اللازم وقد يستمع كل من بالمنزل فأخفضت من صوتها في بقية حديثها إليه وهي تزجره:

- انت ازاي تعمل كده.. هو لوي دراع يعني ولا إيه مش فاهمة

همهم في استمتاع بصوتها الذي اشتاق له كثيرًا بالأيام الماضية ثم همس لها:

- لا يا حبيبتي مش لوي دراع.. خطيبتي مش بترد عليا فقلقت عليها.. روحت كلمت اختها اللي هي خطيبة اخويا الساعة واحد ونص بليل وبكرة أصلًا الجمعة واجازة.. مفيهاش حاجة خالص! 

ازداد غيظها وحنقها منه لتهتف وهي تحاول ألا تدع غضبها يتحكم بها أكثر من ذلك:

- انت بتستعبط مش كده؟ 

أطلق تأتأة تعبر عن النفي ثم قال مجيبًا:

- لا مش بستعبط.. الموضوع كله إنك وحشتيني.. مش من حقي اكلمك واسمع صوتك؟

استغفرت في همس ورفعت شعرها تخلله بعنف اثناء امرارها اصابعها به ودام الصمت لثوانٍ ثم حدثته في جدية:

- شهاب!! أنا لسه عند كلامي اللي قولته.. أنا وأنت مش هاينفع نكمل سوا أبدًا.. ببساطة لا أنت زيي ولا أنا زيك.. أنا كل ما بحاول أقبل إن كان ليك ماضي وخلاص اتغير مع ابسط حاجة بتحصل بحس إني مش قادرة أقبل الحياة دي.. بدون دخول في تفاصيل أنا وأنت صدقني مش هننفع نكمل سوا! 

عقب مهمهمًا على حديثها في جدية شديدة وتناول نفسًا مطولًا ثم زفره في تأني شديد وتواترت أسألته في هدوء ساخرًا:

- وطبعًا بما اننا مش مكملين سوا روحتي يومها ولغاية دلوقتي مقولتيش لحد اننا سبنا بعض، مش كده؟ كنتي عايزاني وانتي ماشية يومها امسك فيكي واجري وراكي واتحايل عليكي زي كل مرة، صح؟ تفكيرك كله الكام يوم اللي فاتوا مش عارفة ترسي على قرار، ابعد عنه ولا لأ؟ طيب أنا حساه فعلًا غير زمان.. يمكن لو بعدت عنه تاني يحس هو ضيع إيه من ايده ويتعدل.. مش ده اللي كنتي بتفكري فيه ولا أنا غلطان؟

ابتلعت بقليل من الصدمة لإستطاعته فهمها بتلك السهولة وكأنها كتاب مفتوح يحتويه بين يداه لتحاول التحدث بصوت مهزوز بعيد كل البعد عن الثقة:

- لأ.. انت غلطان.. مش صح! 

أطلق ضحكة خافتة من جديد ثم همس لها:

- خلاص بقى يا فيروز مبقتيش تعرفي تكدبي عليا.. أنا يمكن مش دكتور زيك بس برضو اعرف اقفش الكداب من الصريح! 

رفعت حاجبيها في دهشة من ثقته الشديدة التي يتحدث بها لتقول بإصرار:

- ماشي يا شهاب.. أنا كنت بكدب .. لأني جوايا صوت بيقولي إنك فعلًا بتحاول وبتتغير.. لكن ممكن تقولي اخرتها إيه؟ لما تبقى أب ولا أنا أم وفجأة الاقي كلوديا هانم جاية بتتمشى في بيتنا عريانة قدام ولادي.. ولا بين يوم وليلة الاقيك مقتول زي ما انت ما فهمتني.. حتى لو قدرت تقنع الناس دي إنك تبعد من غير ما يموتوك فببساطة ممكن ترجع تاني وتالت ورابع وأنا مش هاقدر اسـ..

قاطعها متنهدًا في إرهاق ليهمس لها:

- أنا مش غبي.. لو مكنتش مأمن نفسي كويس مكنتش رجعت مصر وظهرت قدام الناس! كل السيناريوهات اللي في راسك مش هاتحصل اتطمني! 

أومأت في انكار مما تستمع له ثم حدثته بحرقة وهي تقول:

- شهاب ارجوك افهم.. احنا الاتنين غير بعض.. حياتك دي كلها بتصرفاتك مش هاننفع سوا خالص!! على الأقل ولا سنتين تلاتة علشان احس فعلا إنك اتغيرت.. انا مش مطمنة لكل ده.. انا بكلمك بصراحة، أنا خايفة جدًا من كل اللي بيحصل! 

انتهت من حديثها ليسود الصمت لبرهة لتتعجب من سكوته ولم تر تلك الملامح التي اندلع بها الغضب ليسيطر عليها بينما آتتها في النهاية نبرته الجادة الغاضبة في صراخ وهو يقول بتهكم لاذع ولهجة قاسية انعكست اثر نفاذ صبره:

- مالها حياتي؟ اني كنت في يوم بعمل حاجات كتيرة غلط وبطلتها فدي حاجة تضايقك؟ مالها تصرفاتي؟ وسنتين تلاتة ايه اللي بتتكلمي عنهم، فاكرانا عيال قد اخويا واختك ولا ايه؟ ايه اللي مش مطمنك بعد كل حاجة بحاول اعملها؟ 

اتعالج حاضر.. الحرام والحلال والصلاة والدين حاضر.. اهلك حاضر.. شغلك حاضر.. منبقاش لوحدنا حاضر.. ناقص ايه معملتوش فهميني؟ إيه الحاجة اللي ممكن اطمنك بيها اكتر من كل اللي بعمله وأنا معملتوش؟ 

مضايقة إني بكلمك؟ ولا مضايقة إني بحبك؟.. لو لسه زي ما أنا في يوم من الأيام مكنتش حتى اتكلمت معاكي بالطريقة دي كلمتين على بعض.. الموضوع سهل اوي إني اجبرك تكوني معايا بس أنا عايز كل حاجة برضاكي.. تقدري تقوليلي اعمل ايه تاني علشان الهانم تكون راضية عني؟! 

بهزر وبضحك وبستحمل كل حاجة علشان خاطرك بس اخرة ده كله ايه؟ امشي على الحيط علشان اعجب وانول الرضا؟ ده انا مبقتش بعمل حاجة في حياتي غير برضاكي وباخد رأيك في كل حاجة.. المفروض اعمل ايه تاني علشان اطمنك يا فيروز؟ ده حتى ولاد الكلب سيبتلهم عمي ياخدوه ولميت القواضي اللي العيل ده رفعها عليا علشان مبقاش الوِحِش المفتري.. عايزة تغيير ايه اكتر من كده؟

استمعت لصراخه الغاضب وتركته يتحدث حتى يُفرغ كل ما بجعبته وتركت له المزيد من اللحظات حتى يهدأ ولكنه عاد لتتحدث مرة أخرى بلهجة لا تحتمل النقاش وثقة مبالغ بها:

- بكرة الصبح هعدي عليكي.. هنقضي اليوم سوا.. هاعمل نفسي عبيط ولا كأن حاجة حصلت.. اعقلي وبطلي هبل.. تصبحي على خير!

أنهى المكالمة دون الإستماع للمزيد منها ثم جلس على سريره شاردًا في أرضية غرفته.. لا يُصدق كل ما يفعله من أجل إمرأة واحدة وهو يقضي معها أشهر فقط لإرضاءها.. ماذا تريد أكثر من ذلك؟ يشعر أنه بسببها بات يسير في طريق غريب لا نهاية له ليحصل في النهاية على موافقتها! 

أيُمكن حقًا أن عشق إمرأة قد محى كل ما هو عليه؟ أفاقت رغبته بها كل ما كان عليه يومًا ما؟ ما هذا الذي يحدث له؟! 

لماذا وقع اختياره على تلك العنيدة التي لا تقبل بأي شيء يفعله بسهولة؟ منذ سنوات قد عاهد نفسه أن يحصل على كل ما تمناه يومًا وعلى كل ما يريد ويرغب به، لماذا كل شيء صعب معها للغاية؟ 

نهض واتجه ليُشعل احدى سجائره  وأخذ ينفث دخانها في غضب هائل وأعاد بتركيز هائل كل ما مر عليهما سويًا منذ أن رآها في شركته وهي تحاول الوصول إليه إلي تلك المكالمة التي انتهت منذ دقائق.. لتذهب إرادته في النوم للجحيم.. غدًا الرابع عشر من فبراير.. ليكون عهدًا على نفسه إذن.. لن يمر أسبوعان إلا وهي زوجته شاءت أم آبت!! سيتعامل معها بطريقتها لو كان هذا هو الحل الوحيد أمامه!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الرابع عشر من فبراير عام 2020.. الخامسة مساءًا.. 

تفقدت مظهرها بلمحة سريعة في المرآة ثم رتبت شعرها وتوجهت لتُمسك بحقيبتها استعدادًا للمغادرة فتوقف "بدر الدين" خلفها بعد أن فرغ من ارتداء بدلته الرسمية وهو يرمقها بإبتسامة هادئة في امتنان شديد فرآته خلفها خلال تلك المرآة لتضيق ما بين حاجبيها في تعجب له وهزت كتفيها بتلقائية ثم سألته في استغراب اثر تلك النظرات المتسائلة من زرقاويتيها:

- فيه ايه؟ مش هنمشي علشانن نلحق الميعاد ولا إيه؟ 

أومأ لها وهو ينظر له بسوداويتان تفيضان عشقًا لها ثم امتدت يده ليُزين عنقها بعقد رقيق لائم ملابسها لتبتسم له في اندهاش ثم رمقته خلال المرآة وهمست له:

- حبيبي شكرًا يا بدر.. بس أنا عندي كتير يعني مكنش ليه لازمة.. 

اقترب منها ليحاوط خصرها بذراعاه وهو يضمها إليه ودفن وجهه بعنقها ثم همس لها:

- كان نفسي اعيشك كل اللحظات الحلوة دي، اخطبك واعملك فرح واجيبلك هدايا قبل ما نتجوز.. أنا آسف يا نورسين..

تنهدت وهي تنظر لصورتهما بالمرآة ثم حاوطت ذراعاه بخاصتها وتحدثت له بإمتنان:

- وهو احنا معيشناش سوا لحظات حلوة مثلًا طول حياتنا؟ سفر وفسح وهدايا وربينا ولادنا واحنا جنب بعض من غير مشاكل ولا خناقات؟ 

فيه مليون بنت وست عاشوا اللحظات الحلوة بتاعت الخطوبة والفرح والهوني مون بس في الآخر حياتهم مبتبقاش زي ما كانوا عايزين.. 

أنا كفاية عليا إنك تكون جنبي.. اني حاسة إني متطمنة ومش خايفة من أي حاجة طول ما عارفة إن الراجل اللي اتجوزته وحبيته في يوم عمره ما هيأذيني تاني ولا هيخيب املي فيه.. 

أنت يا بدر الزوج والحبيب اللي وانا بنت صغيرة اتمنيته.. الحنان اللي دايمًا بتدهوني طول السنين دي خلاني مش عايزة اي حاجة في الدنيا غير انك تفضل جنبي.. أنت الأب اللي اتمنيته لولادي.. لما بشوفك مع سليم ولا سيدرا بتأكد إن لولا اللي حصل بينا زمان كنت هاحبك في يوم من الأيام! 

رفع رأسه ليبادلها النظرات خلال المرآة لتدمع عينيها فعقد حاجباه في قلق لبكاءها الذي بات قريبًا بينما أكملت هي همسها:

- لولا طبعك الصعب وظلمك ليا زمان كنت هاحبك برضو.. الراجل الكبير اللي الكل بيعتمد عليه وبيعمله آلف حساب.. أنا عمري من يوم ما اتولدت لغاية ما قبلتك شوفت من راجل حب وخوف على اهله زي ما شوفت فيك.. انت كنت اول راجل يلمس قلبي.. لما نسيت زمان اللي عملته فيا حبيتك بجد ساعتها.. مكنتش في حياتي هتمنى اكتر من كده وانت دخلت حياتي وحبيتك بكل عيوبك ومميزاتك! حتى يوم ما طلقتني.. لو كنت انسان اناني كنت رفضت تطلقني! 

أرغم جسدها على الإلتفات بين يداه بخفة ليجفف بأنامله تلك الدموع التي انسابت من زرقاويتيها في رقة شديدة ثم همس لها في صدق:

- أنا آسف.. أنا لو فضلت اعتذرلك سنين عن اللي عملته مـ..

اوقفت بسبابتها عن الحديث ثم حدثته في مرح:

- ايه رأيك تعتذرلي على العشا بعد ما نخلص من قراية الفاتحة.. يا مجنون ياللي كنت فاكرني بحب زياد في يوم.. ادينا النهاردة بعد سنين رايحين نخطبله.. عرفت إن نظرية المؤامرة بتاعتك يا ملك الكون كانت هبلة؟!

توسعت ابتسامته وهو يومأ لها ثم اقترب منها ليقبل شفتاها في نعومة ولطف وفرق قبلتيهما ثم همس لها:

- ما بصراحة مكونتش قادر اصدق إن ازاي واحدة بجمالك مش لاعبة في دماغه وأنا اخويا كان اهبل ساعتها و..

قاطعته وعينتيها تتوسعان في زجر:

- ما خلاص بقى هنتأخر والله! 

أومأ لها بالموافقة بينما جذبت هي حقيبتها وأمسك بيدها في حنان ثم همس لها مُداعبًا:

- بس عندي سؤال.. بعد العشا يعني وبما إن كل واحد في الولاد خارج علشان valentine وكده وكل سنة وانتي طيبة.. اعشم نفسي بقلة ادب؟! ولا بلاها؟! 

هزت رأسها في انكار وهما يتوجها للخارج حتى لا يتأخرا وتمتمت بإبتسامة:

- مفيش فايدة فيه، عايز يضمن كل حاجة.. ملك الكون صحيح!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


ابتسم إليها وهي تجلس أمامه وعلى ملامحها السعادة الشديدة بعد تلك الهدية التي أحضرها لها وهو يتأكد كلما مرت الأيام عليهما أن اختياره لتلك الفتاة كان صائبًا منذ البداية ليطمئن أكثر بما وصل إليه من راحة وأمان معها..

 حاول أن ينتقي كلماته التالية كي لا يفتعل جدال ولكنه كان أيضًا على ثقة أنها ستتفهمه فحدثها في هدوء:

- لميس.. انتي مش ناوية تسيبي شغلك مع عمرو؟

ضيقت ما بين حاجبيها ثم اجابته سائلة في استغراب:

- ما أنا يا عاصم قولتلك إني عمري ما هبطل شغل، مش فاهمة ،إيه لازمة السؤال ده؟

حمحم ورمقها متريثًا في جدية ثم اجابها بمنتهى الهدوء والمنطق:

- أنا مش ضد الشغل خالص.. الفكرة في إن عمرو وقربك منه دايمًا بيعمل مشاكل بالذات مع مراته اللي اسمها شروق دي.. 

أومأت في تفهم وتنهدت بقلة حيلة لتجيبة بنبرة مُرهقة من كثرة تحدثهم في هذا الأمر ولكنها صمممت اليوم على أن تكون اجابتها قاطعة حتى لا يتطرقا لهذا الأمر في حديثهما من جديد فقالت:

- عاصم.. أنا بعز عمرو زي اخويا وعرفاه من زمان اوي.. ومظنش ان بعد الثقة الشديدة اللي بينه وبيني في الشغل دي هلاقي نفس التقدير والحرية كمان في شغل مع حد غيره..

أنا ياما حذرته يبطل اللي هو فيه بس هو عامل زي الطفل كده اللي كان نفسه في لعبة وراح علشان يشتريها لقاها خلصت وفضل يلف ويدوَر على لعبة زيها ملقاش.. 

دمر حياته بسبب واحدة محبتهوش والموضوع عدا عليه سنين وبرضو مصمم في اللي هو بيعمله.. دي حياته الشخصية هو حر فيها، وحتى مراته دي مش مساعداه خالص انه يكون احسن.. بس لغاية هنا أنا كنت بشرحلك علشان تفهم إن عمرو مش مبسوط في حياته فبيلجأ للسهر والشرب.. 

غير كده هو دكتور كويس جدا وشاطر في الشغل ومحترم معايا وده اللي يهمني وأنا خلاص وصلت في شغلي لدرجة صعب احققها بعد السنين دي كلها مع حد غيره.. 

وأظنك فاهم كويس إن personal assistant تبقى رقم واحد بعد صاحب الشركة لسنين ده موضوع مش هين وصعب جدًا إني ابتدي فيه من أول وجديد مع حد غيره!! استحالة اسيب الشغل في الشركة دي بعد سنين كتيرة وعمري ما هلاقي ثقة زي ثقة عمرو فيا وطلباتي اللي كلها بقت مُجابة.. 

حتى عنده استعداد يوم ما اجي اتجوز اخد اجازة مفتوحة زي ما احب وامشي بدري.. محدش ببساطة هيقدملي كل المميزات دي في شغل تاني! 

أومأ لها في تفهم ثم عقب على كلماتها بتنهيدة اعلنت عن خضوعه التام للتنازل وخسارة هذا النقاش معها ولكنه أضاف في النهاية:

- بصي.. انتي حرة وده قرارك وأنا واثق فيكي.. ما دام شايفة إن شغلك مع عمرو عمرك ما هتلاقي زيه الموضوع يرجعلك.. بس لو حبيتي حتى في يوم تعملي بيزنس ليكي لواحدك انا معاكي ودي ممكن تكون فكرة كويسة ليكي وساعتها هتقدري تروحي شغلك وتيجي منه براحتك وحتى كمان لو حابة تشتغلي من البيت كل ده هيكون سهل.. 

اعتبريه offer وأنا واثق إنك هتنجحي بسهولة في اي حاجة انتي عايزاها..

توسعت ابتسامتها في مفاجأة مما تستمع له وانعقد لسانها لبرهة أثناء بحثها عن الكلمات المناسبة لتقول بصعوبة:

- شكرًا يا عاصم يا حبيبي.. بجد أنا مش عارفة أقول إيه.. بس لسه اظن قدامي كتير اوي على خطوة زي دي.. أنا فاهمة إنك خايف عليا ومش بتحب المشاكل بس.. أنا.. أنا اوعدك إن لو في يوم من الأيام حسيت إن الموضوع كبر وبسبب عمرو ومراته صدقني هاجي اقولك وانا اللي هسيب الشغل بنفسي.. 

أومأ لها في تفهم ثم تلمس يدها وهو ينظر لها بفخر شديد وازداد عشقه لها كلما أدرك انها ببساطة حديثها وقدرتها على مناقشته بهدوء تبرهن له أنها الإختيار الوحيد الذي اختاره في حياته بأكملها ليتبين أنه كان الإختيار الأفضل على الإطلاق ..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

قدرته اليوم على ترك ذلك النزاع جانبًا والمرح الشديد معها بطفولية لم يستطع الإستمتاع بها يومًا ما كانت أكثر مما تصورت أنه يستطيع فعله.. 

أخذت تُفكر في هدوء بينما جلست بالمقعد الجانبي للسيارة وتذكرت ذلك الحنق ورغبتها في مناقشته إستكمالًا لنزاع ليلة أمس بمجرد رؤيته صباح اليوم ولكن تصرفه الهادئ معها إلي الآن جعلها تظن أن ربما ستكون تلك طريقته في حياتهما يومًا ما بعد الزواج.. 

لم تغفل كذلك عن عدم مصارحته بأمر معرفتها به منذ البداية.. ولكن هل بدأ حقًا في التغيير أم أن كل هذا إدعاء وقتي بأنه بات رجلًا أفضل؟ 

المزيد من دوامات التخمينات التي تسحبها بقسوة إلي أعماق ذلك الرجل الذي وقعت في عشقه وتسيطر عليها تيارات متضادة من سيكون أفضل بمرور الوقت وتيارات أخرى من أنه لن يتغير ولو بعد سنوات.. يمدها بتصرفات غريبة متوالية بكثرة لتغرق في محاولة فهمها وتحليلها ولا تنتهي أبدًا سوى وعقلها يتألم بشناعة!! 

ألا ترى أنها تسوق نفسها إلي علاقة مسممة وهي من كانت تُحذر الناس منها يومًا ما؟! يا لها من ساذجة!! 

أكملت تفكيرها وهي تُذكر نفسها أنه ربما بعد قضاء اليوم معه سيكون أمر معرفته عن علاقتها هي و "بدر الدين" وأنه السبب في دفعها لرؤيته بمثابة إثبات لها هل تغير حقًا أم لا..

أطفأ محرك السيارة ثم التفت نحوها مُضيقًا بُنيتيه وتفحصها بعناية ثم حدثها بنبرة مُخمنة وقال:

- بتفكري في ايه اوي كده؟

التفتت له بإبتسامة ارغمتها على شفتاها بعد أن انتشلتها نبرته من تفكيرها العميق وهمهمت في مفاجأة ليبادر هو بواحدًا من التخمينات فقال:

- ارجوكي متقوليش موضوع كلوديا.. ادينا خلصنا منها هو وسافرت..

قلبت عينيها في اشمئزاز من مجرد تذكيرها بشأن تلك المرأة التي باتت لا تكره أحد في الحياة أكثر منها لتخبره بإمتعاض:

- الله يخليك افتكر حاجة عِدلة! 

قلب شفتاه وهو يومأ بالموافقة ثم اشار برأسه للخارج:

- طيب انزلي يالا..

زفرت في قلة حيلة ثم هتفت به على مضض:

- مش فاهمة ليه مصمم على موضوع البيت ده النهاردة! 

ابتسم لترمقه في حنق بينما ازداد جاذبية بفعل تلك الإبتسامة لتطلق زفرة خافتة كارهة لنفسها وعلى ما تُفكر به بينما قدم يده لها في انتظار أن تُمسك بها وأخبرها:

- عاملك مفاجأة.. 

أمسكت بيده في وهن وهي تعلم أنهما تجادلا بشأن هذا الأمر آلاف المرات ولكنه دائمًا ما ينتصر عليها بكل جدال لتجد نفسها تتوجه معه نحو حديقة المنزل دون أن يدخلا البيت نفسه وتصلبت ساقيها وهي تنظر لما شابه الجنة على الأرض!! 

هل هي ببستان سحري ما يُحكى عنه في احدى الأساطير؟! هل حقًا صنع من أجلها كل ذلك؟ أصنع ما شابه حديقة بأكملها سقفها من الورود؟ 

تلك الأضواء الشاعرية الهادئة التي تنبعث من الشموع التي تبعثرت في المكان بأكمله.. تلك الوسائد المُلقاة على الأرضية بين النيران للتدفئة.. ذلك العشاء الذي ينتظرهما.. متى فعل كل ذلك وهو كان معها منذ صباح اليوم؟! 

أخذت للحظات تتفقد ذلك المنظر بتصميمه الساحر وأخيرًا استفاقت لتلتفت له ووجدت أنه لا يزال ممسكًا بيدها لتهمس إليه بإبتسامة في مُزاح:

- هو ده اللي كنت بتعمله التلت أيام اللي فاتوا؟

أومأ إليها ثم رفع يدها وهو يُقبلها بعد أن تقدم ووقف أمامها ناظرًا بعسليتيها ثم همس في صدق:

- زمان أنا مكنش يفرق معايا زعل أي واحدة ست في الدنيا.. إنما دلوقتي صدقيني اللي يزعلك أنا ممكن اموته! حتى لو كانت كلوديا! 

ضيقت عينيها وهي تتفحصه لتتعجب سائلة وهي تهز كتفيها بتلقائية:

- أنا مكنتش زعلانة من كلوديا على فكرة .. بس ده معاه إنك موتها؟

توسعت ابتسامته حتى زفر وهو يُطلق ضحكته وهو يرمقها في تعجب ثم تمتم:

- اقتل سارة زمان ابقى وحش إنما كلوديا عادي تتقتل.. تعالي تعالي..

جذب يدها بخفة بينما جلسا على تلك الوسائد وتسللت لأنفسها رائحة تلك الورود وذلك الطعام الشهي وهو يكشف تلك الأغطية عنه ولكنه بنفس الوقت لم يفشل في جعلها ترتعد من مجرد تقبلها رجل مثله في حياتها قد قتل من قبل وبسرعة انتشلها من صمتها ليبدأ في الحديث:

- كلوديا بمكالمتين منها وهي في تورينو جابتلك اللي قتل جوزك اللي كنتي بتدوري عليه بقالك سنتين!! اللي زي دي يتعملها ألف حساب.. لما تكسبيها احسن مليون مرة إنك تخسريها.. واديكي شوفتي موضوعها اتحل في ساعة زمن وأنا وانتي وهي عارفين كويس إن استحالة يحصل بيني وبينها حاجة ولو بعد مليون سنة!! 

بطلي شغل الغيرة العبيط ده.. ملوش لازمة خالص 

كادت أن ترد على كل تلك الكلمات ولكنه باغتها بوضع شوكة ممتلئة بالدجاج بين شفتاها ليُرغمها على عدم الحديث بأفضل طريقة رقيقة ترأت له بهذه اللحظة فهو لن يُقضي هذه الأمسية بالتحدث عن "كلوديا" أبدًا.. 

همهمت وهي تتذوق الطعام في اعجاب شديد بذلك المذاق الذي لم يداعب لسانها من قبل لتتوسع ابتسامته ثم سألها:

- عجبك؟! 

توسعت عسليتيها وهي تبتلع ثم هتفت به:

- عجبني!! بجد ومن غير مبالغة احلى حاجة اكلتها في حياتي! 

همهم في تفكير ثم أردف:

- اخليهم بقى يبدأوا ينزلوا الوصفة دي في الـ menu ما دام عجبتك..

حمحمت بينما ملئ الشوكة من جديد وأعاد اطعامها لتتفلت ضحكة من بين شفتيها ومضغت طعامها وابتلعته بسرعة وقالت:

- انت هتفضل تأكلني العشا كله ولا إيه! 

اقترب منها قليلًا ثم أومأ لها بالموافقة ومن جديد اطعمها فنظرت له بأعين تملؤها السعادة واستمر فيما يفعله بينما همست هي في تعجب بين تناولها للطعام فقالت:

- مين كان يصدق إن شهاب الدمنهوري راجل رومانسي اوي كده.. ورد وشموع وعاملي الأكل بنفسه وبيأكلني كمان..

ترك الشوكة بأحدى الصحون جانبًا وبعد لحظات من صمت نظر إليها في تردد وآتى صوته كمن يُعاني من شيئًا ما وهو يخبرها هامسًا:

- معاكي انتي بس.. عمري ما كنت كدهه مع حد غيرك..

حدقت في ملامحه بعشق ودت لو غرقت فيه بكامل حواسها ولكن صوت عقلها لم يتركها تهنئ بتلك اللحظة لتجده يباغتها بتلمسه ليدها في رفق بالغ وعاد ليهمس من جديد:

- أنا زمان كان نفسي اعيش كل ده مع واحدة بتحبني وبحبها.. وبعد اللي حصل مع غادة قررت إن عمري ما هاسمح لواحدة تقرب مني ولا عمري هاصدق ست في حياتي مهما عملت.. 

بس انتي غير الكل يا فيروز.. 

ابتلع وهو يُحدق بملامحها ورفع يده ليحتوي احدى وجنتيها ثم تابع حديثه الهامس إليها:

- لما باجي افكر في السبب اللي خلاني اعرفك وهو المشروع والأرض وموت جوزك للحظة بربطه بكلام الدكتور وبحس إني أناني.. بس حتى لو أناني أنا موافق ومعنديش مانع إني اكون أوحش إنسان في الدنيا لمجرد بس إنك هتكوني معايا على طول.. 

رمقته في تردد وشعرت بالرعب من مجرد اتيانه على ذكر هذا الأمر من جديد وانعقد لسانها ليعود من جديد وتحدث في همس بعد لحظات سكت بها وابعد احدى خصل شعرها ليضعها خلف اذنها ليبتلع وهو يتفقد ملامحها:

- أنا حتى أناني في اني عايزك معايا طول الوقت.. أناني في حبي ليكي بس مش عارف اعمل إيه وانتي الوحيدة اللي لما بكلمها ولا لما بكون معاها بحس إني مش عايز أي حاجة من الدنيا باللي فيها! مجرد إني اقضي يوم من غيرك بيبقى يوم كئيب وتقيل على قلبي وببقى عايزه يخلص علشان اشوفك تاني!! 

تبادلا النظرات لبرهة لتُحدثه بإبتسامة صادقة وهمست له:

- إن شاء الله هنكون دايمًا مع بعض.. فترة وهتعدي يا شهاب.. اوعي تكون فاكر إني بتبسط وانت بعيد عني.. أنا زيي زيك.. بحبك ويمكن اكتر من ما انت بتحبني.. بكل عيوبك ومميزاتك أنا بحبك وعايزاك تكون احسن واحد في الدنيا.. 

تلمس وجنتها بأنامله وهو يمررها عليها في تريث شديد ثم همس بحرقة وهو ينظر لها برغبة لا تبارى:

- ما دام بنحب بعض.. ليه منتجوزش؟ ليه منفضلش طول الوقت مع بعض؟! انتي شاكة اني مش بحبك او مش بتغير؟ 

تلك النظرات المتوسلة التي تنساب من عينيه لم تدع لها ملجأ سوى الإنسياق خلف مشاعرها وكادت أن تحدثه بينما باغتها بقبلة لم تلاحظ حتى كيف اقترب منها ومتى حدث ذلك ليُمكنه من سرق تلك القبلة وشفتيهما تتلامس في هدوء وتريث ليصرخ بها عقلها أن ما يحدث الآن مجرد صورة اخرى لذلك الرجل الذي لن يتغير أبدًا وهو قد فعل ذلك منذ ثلاثة أيام فقط وها هو يُعيد الكرة فدفعته بكلتا يديها وبالرغم من استطاعته أن يُكمل ما بدأ فيه ولكنه توقف..

نفس الغضب الذي لطالما نظرت له به عندما يفعل شيئًا لا ينال اعجابها ولكنه اليوم لن يتركها كي تذهب دون الحصول منها على اقرار بأنهما سيتزوجا وستصبح معه للأبد وسيفعل بعدها أي لعنة تريدها.. 

تحول غضبها لخيبة أمل وكادت أن تنهض كي تغادره ولكنه أمسك بها وسألها في انزعاج:

- هنفضل في الدايرة دي لغاية امتى؟ أنا نفسي اقرب منك وانتي بتصديني.. ليه بتعملي كل ده فيا؟

زفرت في حنق ثم صاحت به:

- أنا مش بصدك ولا بكرهك.. بس فيه حاجة اسمها حدود.. في حاجة اسمها حلال وحرام.. مش معنى اني اديتك الثقة في اننا نتقابل في مكان عام قدام الناس إنك كل مرة يا شهاب تقنعني لسبب من الأسباب والاقيك بتبوسني ولا بتقرب مني وبتلمسني! 

رفع حاجباه في اعتراض ثم رد مُعقبًا بنبرة نافذة للصبر:

- يبقى نبقى نتجوز.. مش فاهم إيه مشكلة اننا نتجوز ونكمل علاج ونكمل كل حاجة!! ليه مصممة تبعدي عني!

رمقته بحيرة وعينيها تبحثان في ملامحه عن سبب وحيد قد يجعلها تطمئن ولكنها قد طفح بها الكيل ولن تُكمل في تلك اللعبة السخيفة أكثر من ذلك لتهتف به في انفعال:

- قولتلك مش مصممة ابعد ولا زفت! 

فاكرني اني مش بتبسط وبطير من الفرحة لما بشوفك بتعمل حاجة كويسة ولا لما بشوفك بتتغير؟ فاكرني مش عايزة اشوفك ولا عايزة أنام في حضنك كل يوم؟

احنا مش صغيرين يا شهاب على الكلام ده علشان نفضل نقوله لبعض! 

في مليون حاجة اهم من الحضن والبوسة ببساطة.. فيه إنك تتأكد من مشاعرك ليا.. إنك تتأكد من ثقتك فيا.. وانا كمان أتأكد زيك إنك الإنسان المناسب اللي هاكون مطمنة معاه.. 

مش النهاردة سارة وبكرة كلوديا والله أعلم ايه اللي ممكن يحصل تاني.. أنت من ساعة ما رجعنا لبعض بكل اللي بتعمله متعرضتش لموقف واحد يطمني إن عمرك ما هتأذي حد أو تأذيني أنا شخصيًا.. 

رفع حاجباه وضحك بخفوت ساخرًا لتشعر بالغيظ من ردة فعله التي كانت بمثابة تعقيبًا وحيدًا على كل كلماتها ولكنه في النهاية توقف عن الضحك وحدثها بجدية عكست غضب مرير:

- اني ابعد عن كل الستات وانتي بعيد عني ومش شايفاني ميثبتش اني بقيت عكس زمان.. اني اروح اكلم كلوديا علشان تساعدني ودي اصلا واحدة دماغها سم ومبتساعدش حد غير لما تاخد منه حقها وروحت فتحت على نفسي الباب ده مرة تانية علشانك بعد ما كنت قافله سنتين بحالهم وابقى متغيرتش عن زمان..

إنك تقوليلي سيب الراجل اللي خبطني ومتعملوش حاجة ميثبتش إني اتغيرت عن زمان.. إني اكون انسان محترم زي ما بتحبي ميثبتش إني اتغيرت عن زمان!! اني اقرب من واحدة افتكرتها خانت ابويا وبعدت عني ورجعت تقرب مني بين يوم وليلة واني ارجع تاني معاها شهاب الصغير اللي نفسه في حضن امه يبقى كل ده متغيرتش؟

ثقة ايه اللي بتتكلمي عليها ومشاعر ايه؟ 

أنا لو مكونتش واثق فيكي مكونتش سمحتلك تقربي منك ولا كنت قولتلك حرف واحد بس من اللي حصلي وأنا عيل صغير.. انتي الوحيدة في الدنيا اللي تعرف مين شهاب بجد.. حتى لما ولعت في سارة والكلب ابوها حكيتلك..

ده أنا الكره اللي بحس بيه للناس بقولك عليه.. أتأكد ايه اكتر من كده؟

فيروز انتي معاكي توكيل بكل حاجة تخصني.. فاهمة يعني إيه؟ اثبتلك بإيه إنك الوحيدة اللي عايزها من الدنيا ولا الفلوس ولا أمي ولا الدنيا بحالها تسوى حاجة لو انتي معايا.. مفيش حاجة بقت تلزمني غيرك

لم تعد تتحمل تلك الكلمات التي صرخ بها بحرقة لتهبط احدى دموعها وقاطعته بنحيب صارخة:

- فكرت في يوم لو اتخانقنا هتعمل ايه؟ فكرت لو اختلفنا على موضوع كبير يخصني او يخصك هتتصرف ازاي؟ لو في يوم اضطريت ترجع تاني للمافيا وشغل الدم والقتل وانت فاهم اني مش هوافق، فكرت ساعتها هنكون فين؟ فيه مليون حاجة اهم من اننا نقرب.. فيه حياة كاملة بتفاصيلها.. فيه تفاهم ومناقشة واحترام ومودة ورحمة دول اللي أنا عايزاهم مش مجرد الحب وبس!

رد مجيبًا بصراخ ماثل صراخها بينما نهضت هي لتغادر فنهض وهو يتبعها:

- مش هنتخانق.. وعمرنا ما هنختلف لأنك دايمًا بتكوني صح.. لما بنتكلم بهدوء واحد فينا بيقنع التاني..

أوقفها ممسكًا بذراعها لتلتفت إليه بينما تابع حديثه في همس:

- أنا بحبك.. والله العظيم بحبك وعمري ما هأذيكي.. عمر ما حاجة بيني وبينك ممكن تحصل تخليني ابعد عنك.. بلاش يا فيروز تعذبيني اكتر من كده.. مش بعد كل السنين اللي كنت بحاول فيهم اكون حاجة كبيرة واتبهدلت وطلعت عيني لغاية ما وصلت للي أنا فيه.. لو عايزانا نتجوز حالًا الموضوع بسيط.. مش كفاية كل العذاب وكل اللي دخلت فيه وأنا كارهه جاية دلوقتي تكملي عليا وانتي اكتر انسان في الدنيا قريب مني.. ليه مصممة توجعيني؟

اتسعت مُقلتيها الباكيتان في ذهول ثم تمتمت في تعقيب على كلماته:

- مصممة اوجعك!!

هزت رأسها في انكار ثم هتفت بحرقة:

- أنا مش كويسة قولتلك مليون مرة وقربي منك ممكن يأذيك وانت نفس الكلام.. مستنية اتأكد إن فعلا حُبنا لبعض حقيقي مش مجرد كام يوم وهيضيعوا مع أول حاجة صعبة هتقابلنا.. 

صرخ بها متألمًا وهو يتسائل في استنكار:

- زي ايه الصعب؟ زي ايه فهميني؟

لم تدر كيف انطلق لسانها وهي تنظر له في انفعال وغلف عقلها ساترًا من مشاعر شتى لعشق أعمى ولم تلحظ نفسها وهي تصرخ به قائلة:

- زي إن بدر الدين الخولي هو اللي قالي عالجي شهاب وعرفتك من قبل ما اقابلك بشهور!! عرفت دلوقتي زي ايه؟ 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

cover credits : Haidy Muhammed