-->

الفصل الثاني والسبعون - شهاب قاتم




 الفصل الثاني و السبعون

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

 نعم أستطيع أن أنظر إليكِ و لن أستطيع أن أنظر إلا إليكِ و أنتِ أتطيقين أن تنظري إلي ؟ أمازلتِ تضمرين لي الانتقام؟!

(طه حسين - دعاء الكروان)

     

بعد مرور أيام..

نهاية مايو عام 2020..

شعرت بالآلم الشديد الذي لم تشعر بمثله من قبل في حياتها يتحكم بكامل جسدها وقارب على قتلها حتمًا لتصرخ مجددًا:

- مش قادرة من الوجع.. الدكتور قال كمان اسبوع مش دلوقتي!

اشتد اعتصاره لكفها وهو جالسًا بجانبها ومسح جبينها الذي كساه قطرات العرق بأحدى المحارم وتلهف متكلمًا بملامح مرتعدة:

- معلش يا حبيبتي خلاص قربنا نوصل.. استحملي شوية.. مفيش خمس دقايق هنكون هناك! اوعدك هتكوني كويسة..

صرخت مرة اخرى وهي تشعر بأن شيئًا بداخلها يتمزق لتصيح في غيظ وهي تبكي من شدة الآلم:

- أنا الدكتور ده لو شوفته هموته! كدب عليا وقالي كمان اسبوع مش دلوقتي!

ربتت "نورسين" على كتفها وحدثتها في قلق امومي:

- معلش يا حبيبتي دكتور مش فاهم.. مكنش يقصد .. اهدي واستحملي واحنا خلاص قربنا نوصل وهنتكلم معاه!

تلاقت اعين "سليم" بسوداويتي والده في المرآة الداخلية للسيارة حيث كان يتوجه معهم إلي المشفى وبدلًا من أن يُقدم له بعض الدعم وجده بالكاد يحاول ألا تتعالى ضحكاته على ذلك المشهد الذي يراه فتقدم قليلًا للأمام كي يهمس بأذنه وهو جالس خلفه:

- وربنا يا بدر لا نتحاسب بس بعد ما اطمن على زينة! انت فرحان فيا؟! 

اهتز كتفاه ضاحكًا وهو يكتم ضحكته ألا تتهادى لمسامع الجميع ليحدثه مُجيبًا في سخرية:

- يا عم شكلك انت اللي بتولد مش هي! 

صرخت وهي تلكمه بذراعه:

- انت بتهزر معاه يا سليم وسايبني!! 

هنا لم يستطع "بدر الدين" أن يخفي ضحكته التي ملئت أركان السيارة بأكملها لتصرخ زينة من جديد متألمة:

- ماشي يا خالو! مش هنسهالك! 

حاول "سليم" أن يهدأها لتلك الدقيقتان التي تفصلهما عن المشفى بينما انزعجت "نورسين" بشدة على تصرف زوجها واقسمت بداخلها أنها لن تترك هذا الأمر ليمر مرور الكرام على تلك التراهات التي صدرت منه! 

     

بأحدى المشفيات بألمانيا.. 

دخلت تسير بين موكب من رجالٍ يتشحون بالسواد ذوي اجساد ضخمة، البعض سبقوها والآخرون خلفها ليحموا دون عائلة "كروتشيتا" الصقيلية وزعيمتهم جميعًا "كلوديا فريدناند فالياني" وهي تسير نحو الغرفة التي علمت أنه هو والخرقاء يمكثان به منذ ذلك اليوم! 

فتح احدى الرجال الباب على الفور وهو يُفسح لها المجال بعدها كي تتوجه للداخل ومن ثم أغلق الباب بينما هي سقطت عينيها عليه لتجد ملامحه بمظهره الرديء اقتربت من ذلك اليوم الذي ذهبت له به إلي مصر.. ولكنه اليوم كان يبدو أسوأ! 

تلاقت اعينهما بعد أن خلعت نظاراتها الشمسية لتبتسم له بإقتضاب واقتربت لتجلس بالقرب منه وشرعت في التحدث له:

- تُفجر بي قصرًا شاسعًا وانجو، بينما تلك الخرقاء لا تتحمل رصاصتان! بربك ليو، لماذا تختار إمرأة ضعيفة مثلها؟

نظر إليها بملامح حزينة وأعين تمتلئ بالعبرات التي كلما تحدث إلي احد يجذبه إلي ارض الواقع كست بنيتيه الباهتتان ولم يستطع أن يتحدث لتزفر هي في ضيق وتكلمت بجدية:

- حسنًا ليو.. اعتذر.. استظل في حالتها تلك؟! ستفقد وعيها هكذا إلي الأبد؟ أليس هناك أي اخبار من الأطباء؟! 

هز كتفاه في وهن وأومأ لها بالنفي وحدثها بصوت مبحوح:

- لا أدري.. ليس هناك أي اخبار! 

قلبت شفتاها لتضيق حاجبيها سائلة في محاولة أن تتجاذب معه اطراف الحديث:

- وماذا؟! استظل طوال عمرك هنا أنت وهي؟ ألن تفعل شيء إلي أن تستيقظ؟ هل ستظل منتظرًا اياها أن تستيقظ لتجدك بمثل هذه الهيئة القبيحة؟ أظن رجل مثلك لديه عمل وأُسرة وحياة.. فلتعودا إلي مصر و..

قاطعها بصوتٍ مزقه الآلم:

- أرجوكِ كلوديا.. أنا بالكاد استطيع التحدث.. المشفى هنا افضل من العديد من المشفيات الأخرى.. 

نظرت إليه وهي تزم شفتاها وشعرت لأول مرة أنها باءت بالفشل أمام ملامحه تلك وهيئته المزرية فسألته بصرامة قليلًا:

- ما الذي فعلته بفرانك؟ هل قتلته حقًا؟

أومأ لها بالموافقة ثم همس لها:

- لقد قلت انني سأتخلص من كل ذلك وكان لدينا اتفاق! 

تريث لبرهة ثم أضاف متألمًا وهو ينظر إلي جسد "فيروز" الممدد بين المعدات الطبية على الفراش وهمس بندم:

- ويا ليتني لم افعل!

تطلعته وهو يتحدث بتلك النبرة لتتألم بداخلها من أجله ولكنها ادعت الصلابة وحاولت أن تمازحه:

- ستكون بخير لا تقلق ليو.. ستستيقظ عما قريب أنا على ثقة بهذا.. وقتها تستطيع أن تُصلح الأمر، ولو وددت أن اساعدك بـ..

قاطعها رافضًا وهو لا يزال على وهنه:

- لا كلوديا.. لا مساعدات ولا أي معروف بعد الآن!! لقد وفيت بوعدي لكِ هذه هي النهاية، انتهيت من كل هذا! 

رفعت حاجبيها في اندهاش فتنحنحت وأومأت بالموافقة واستطردت بقليل من التردد:

- افهمك جيدًا.. انت تفعل ذلك من اجلها.. انهض لنذهب لنحتسي بعض القهوة كما انني اريد التدخين! 

أومأ بالإنكار ورد بنبرة حادة:

- لن احتسي معكِ شيئًا.. ارجوكِ كلوديا.. أنا وأنتِ قد انتهينا! 

تجهمت ملامحها وهي تستمع له وفكرت للحظة.. هو حتى لم يخبرها بذلك منذ ثلاث سنوات عندما قرر أن يترك العائلة ويغادر إيطاليا، هل هذا يعني أنهما لن يكونا حتى اصدقاء؟ هو ينهي الأمر بأكمله بتلك الكلمات، لم يفعلها من قبل، ولطالما ترك القليل من المساحة لعودتهما حتى تحت أي مسمى! 

تنهدت وهي ترفع احدى حاجبيها بتحفزٍ وأردفت سائلة:

- هل يعني هذا اننا لن نكون حتى اصدقاء مثل سابق عهدنا؟! 

ابتسم بمرارة ونظر نحو "فيروز" لتكتث عينيه بعبرات الحسرة واجاب بخفوت ممزقًا من إدراكه كل ما ارتكبه بحقها:

- لم نكن يومًا أصدقاء، ربما من يسبقني بتنظيم اجرامي، شركاء في علاقات جامحة.. لم املك اصدقاء بحياتي سواها هي.. وصدقيني هي الوحيدة التي سأختارها وسأفضلها لى الجميع! 

التفت ونظر إليها وتساقطت دموعه وأكمل بهمس ينتزع روحه:

- هي لا تحبك ولا تريدك! وأنا لن افعل سوى ما تحبه وتوافق عليه! لن نكون أصدقاء ولن تربطنا أي علاقة منذ الآن كلوديا.. ربما عند موتي سأفكر وقتها أن احدثك كوداع ليس اكثر.. ولكن بعد كل ما اختبرته في حياتي لن استطيع أن اخسرها.. هذا إن لم اكن خسرتها بالفعل! 

رفعت حاجبيها وملامحها مأخوذة بالصدمة من كلماته لتقضم شفتاها ثم تنهدت لتضيف بضع كلمات كي تحفظ بها ماء وجهها فهي لن تتوسله اكثر من ثلاث عشر عامًا عرفته خلالهم وقالت في ثبات:

- حسنًا ليو.. على كلٍ لقد اصبحت أنا من يدير تلك العائلة اللعينة، لدي الكثير من المسئوليات.. ولكن انت تعلم جيدًا أنك ستجدني متى كنت بحاجة لي.. ولو حتى بعد آلف عام!! 

حاول ألا تُفسد الأمر بينك وبينها هذه المرة.. وداعًا..

تركته وهي تذهب للخارج ولم يعرها أي من اهتمامه وحتى لم يتبعها بنظرة بنيتيه التي عادتا في ثوانٍ نحو جسد "فيروز" الممدد امامه ليهمس متوسلًا:

- كفاية بقى اصحي.. هاعملك كل اللي انتي عايزاه بس اصحي.. اتخانقي معايا او قولي اي حاجة.. 

تساقطت دموعه من جديد وهو ينظر لها كعادة ايامه منذ أن تلقت تلك الرصاصتان ونجت منهما بأعجوبة لينتشله مؤقتًا من النظر إلي خيبته بكل ما فعله بها صوت هاتفه الذي اعلن عن وصول مكالمة فأجابه بعد أن كان ينتظر هذه المكالمة من اخيه "هاشم" بفارغ الصبر:

- كده الوضع المالي كله بالميزانية بالمشاريع اتبعتلك في ايميل.. 

نهض وتوجه لحاسوبه وهو يتفقد ما تم ارساله إليه في تركيز  دون أن يُبادله أي كلمات ليُحدثه في تساؤل متعجبًا كما كان طوال الفترة الماضية يتعجب لقراره الغريب:

- بس مش فاهمك يا شهاب، أنت ليه عملت كده؟! ليه صفيت الأرباح بالنسب دي واتبرعت بالباقي؟ ده تقريبًا اكتر من 10 مليار! أنا بجد مش فاهم! عمري ما بدخل في قراراتك، بس الناس كلها مستغربة وأنا شايف الموضوع غريب اوي بصراحة! آسف على السؤال وطبعًا لو مش حابب تجاوب فأنت حر براحتك!

ابتلع في حيرة وهو بالطبع لن يستطيع اخباره أن كل ما فعله هو عبارة عن محاولة لتخلصه من جميع رأس المال الحرام الذي آتى بسبب عمله في المافيا لسنوات وفقط بقي على رأس مال والده الذي بدأ به والأموال التي ربحها بالمسابقة منذ حوالي ثلاثة عشر عامًا وتنحنح بعد أن أدرك أنه قد سكت لأكثر من اللازم ليجيبه في النهاية:

- كفاية كده عليا.. أنا مش حابب الموضوع يكون اكبر من كده وبعدين دي كلها اعمال خيرية.. يعني.. عايز الفترة الجاية اسيبني من مواضيع الشغل واركز على حياتي أنا وفيروز! 

التفت ناظرًا لها في حسرة وتمنى لو انها كانت تشاهد الآن ما يفعله وعلى الطرف الآخر لم يقتنع "هاشم" بتلك الإجابة التي اجابه بها فتنهد سائلًا:

- هي دلوقتي بقت عاملة إيه؟ فيه اي تحسن؟! 

شُلت عينيه وهو لا يزال ناظرًا إليها دون أن تتحرك جفونه ليعود له من جديد رغبته في قتل نفسه على كل ما سببه لها بيداه وحاول أن يتحدث بصوت تلقائي ولكن نبرته آتت متحشرجة وهو يُجيبه بمشقة:

- لأ.. زي ما هي! 

تنهد في حُزن من اجلها ثم تكلم بعفوية:

- فريدة وهبة هيتجننوا علشانها.. انا مش عارف ليه بس الناس مؤذية كده! منهم لله اللي عملوا فيكم كده! 

تغلب البُكاء عليه من جديد ليضم شفتاه في قسوة بإرتجافة ألا يفعل وهو يعلم أنه كان لابد أن يكذب على الجميع عندما اخبرهم أن كل ما حدث كان بسبب محاولة سرقة بمنتصف الطريق ليلًا وابتلع تلك الغصة بحلقه محاولًا أن يتماسك ثم اخبره:

- إن شاء الله اول بس ما تفوق هخليكم تيجوا على اول طيارة! بس لغاية دلوقتي هي لسه على الأجهزة ومفيش تغيير في حالتها! 

كاد "هاشم" أن يُحدثه بالمزيد من الكلمات ولكنه منعه مُسرعًا عندما قال:

- معلش يا هاشم محتاجني تحت في الريسبشن، هاخلص وهبقى اكلمك.. سلام! 

انهى المكالمة ثم توجه ليجلس بالقرب منها وتلمس يدها بأنامل ارتعشت في خوف وهمس متحدثًا إليها كما هي عادته بالأيام الماضية:

- انا بقيت بعمل كل حاجة صح وحلال، بقيت بعمل كل اللي انتي كنتي عايزاه.. صدقيني كنت هتغير زي ما قولتلك.. صدقيني كل حاجة بقت احسن.. ارجوكي كفاية كده، وحشتيني اوي! اصحي بقى وهاعملك كل اللي انتي عايزاه! 

من جديد اجتاحته نوبة بُكاء مرير وهو ينظر إلي صنع يديه، هل حقًا كل ما يحدث لها هو طوق نجاة من كل ما اوشك على فعله بها للمرة الثانية؟ 

بمجرد تذكره لصوتها وهيئتها وهي تُخبر "فرانك" عن تخطيطه لموته على يديه وأنها تتفاوض على أن تتركه يشتعل بداخله لهيب الإنتقام، كان سيعذبها اشد العذاب.. ولكن سرعان ما يخمد شيطانه الجحيمي النهم للإنتقام كلما نظر إلي جسدها الممدد أمامه وهي غير قادرة على إيذاء ذبابة! 

لماذا على الشخص أن يُسامح ويقبل كل ما لم يكن يتقبله بعد فوات الأوان؟ لماذا يستيقظ دائمًا على الخسارة الفادحة؟ لماذا يضيع كل ما هو مهم بنعاسه في نومه بين طيات الظلام؟! 

ارتجفت شفتاه في همس متحسرًا على كل ما فاته معها ونطق بصعوبة بعد أن قبل يدها:

- أنا مش فارق معايا كل اللي حصل.. مش فارق معايا غير إنك تصحي وتقومي وبعدين نبقى نتعاتب على كل حاجة حصلت! 

أدرك قوله ثم أومأ بالرفض القاطع على ما تسلت من لسانه ليهمس من جديد باكيًا:

- أنا غلطت ومش فارق معايا اللي عملتيه، اصحي ومش هنتعاتب حتى.. أنا آسف.. آسف وعمري ما هارجع زي الأول أبدًا معاكي وهتشوفي! ارجوكي اصحي بقى! 

قضم شفتاه وهو يحاول ألا يرتفع صوته الباكي وهو ينظر إليها وكتم نحيبه بمشقة وهو يشعر أن رأسه قاربت على الإنفجار من كثرة الآلم وبُكائه الذي بات أمرًا مستديمًا كتنفسه بكل لحظة تمر عليه وبين محاولاته أن يتنفس نظر بالساعة بجانبه ليعلم أن وقت الإفطار قد مر منذ ساعة كاملة فأقترب يُقبل يدها مرة أخرى ثم ذهب ليتناول بعض المياة كي يبتر صيامه الذي شرع فيه منذ أيام لتعويض ذلك اليوم الذي قام بإفطاره متعمدًا!

     

 نهاية يونيو عام 2020..

جلس على الكرسي المجاور لوالده  بينما تستعد الأُسرة لتناول الطعام ليحدثه الثاني بسخرية:

- اخيرًا شرفت يا حيلتها! أنا نفسي افهم مين فيكوا اللي بيرضع بس علشان ابقى واخد بالي! 

نظر إليه بطرف عينيه على مضض ثم حدثه متهكمًا:

- الله يرحم ايام ما كانت ناس لازقة في نوري وسيدرا وسايباني مع تيتا! يالا اهو كاس وداير! 

ابتسم له بسماجة ورد بغيظ:

- لا بتعرف ترد كويس اوي!! بس كنت بروح شغلي مش مقضيها من البيت!

زفر في ضيق ثم حدثه بإمتعاض:

- أنا مش فاهم باصصلي في حياتي ليه.. ما بشتغل من البيت ومفيش حاجة متأخرة.. وبعدين عندك عاصم بيروح الشغل، وإياد رجع هو كمان، والعقربة هانم على قد ما مش طايقها ومطلعة عيني بعمايلها لكن دي عُقر ومبتسبش حاجة تبوظ! عايز إيه بقى مني؟! 

تناول شهيقًا مطولًا ثم زفره ببطئ وتكلم بجدية:

- بص احنا الأتنين لازم نرجع.. كل اللمة الحلوة اللي بتقول عليها دي خلاص هيتجوزوا الشهر الجاي.. وكمان عمك هينزل يتجوز وياخد مراته وبنتها ويسافروا.. كده مش هيبقى باقي غير بنت عمتك.. وأنا وأنت فاهمين إن دي مينفعش تتساب لوحدها يا إما هتمشي الدنيا على مزاجها! 

تمددت شفتاه بإبتسامة لم تلامس عينيه وهو يُدرك أنه مُحق تمامًا بكل كلمة يقولها ليرد مُعقبًا:

- حاضر يا بدر.. حاضر.. هسيب مراتي اللي لسه والدة وهنزل اتمرمط في الشغل حاضر..

ضيق عينيه وهو يرمقه بمكر سوداويتيه متفحصًا اياه ليهمس له حتى لا تستمع زوجته وابنته شيئًا:

- يا واد.. يا واد بطل طبطبة وحنية.. ده احنا ما صدقنا مراتك ولدت والحمد لله بقت كويسة! كنت حاسس انها هتفضل طول عمرها حامل وادينا خلاص فوقنا وبقينا حلوين وبنلاعب سيف! انشف بقى يا اخي هفضل اعلم فيك لغاية امتى؟! ولا هو لازم تلزقلها!

اشار بيديه في سأم لينهاه:

- ما خلاص يا بدر قولت هتنيل وانزل عايز مني ايه تاني.. وبعدين يعني مش على الصبح كده.. ده بدل ما تبقى جدو لذيذ كده ولا هو لازم تعكننها عليا! لم الدور بدل ما اسبهالك وامشي!

رفع حاجباه في تعجب وتوسعت ابتسامته وقال محذرًا بنبرة مُداعبة:

- سيبها يا اخويا وامشي وابقى وريني هتاخد ابنك ومراته ازاي! يا أنا يا أنت بقى في البيت ده!

هنا تدخلت "نورسين" لتنهاهما عن جدالهما الصباحي:

- ما خلاص بقى يا جماعة خلونا نفطر في هدوء! 

نظر كلاهما لبعضهما البعض في تحفز بينما رد "بدر الدين" وهو ينظر إليها بإبتسامة:

- علشان خاطرك بس يا حبيبتي! 

توسعت ابتسامة "سليم" ليُتمتم في انتصار:

- ناس متخافش غير من الحكومة صحيح! 

التفت نحوه عاقدًا حاجباه بملامح جادة ليصيح به:

- امشي يا ابن الكلب مالكش فطار معانا وابقى افطر مع مراتك لما تصحى! غور من هنا! 

ابتسمت كلًا من "سيدرا" ووالدتها على ما يحدث بينما نهض "سليم" من المقعد بجانبه عندما لكمه والده بخفة على ذراعه وجلس بالقرب من "نورسين" ونظر له في تشفي متكلمًا بإستفزاز:

- لأ هافطر معاكم علشان نوري مبتقدرش تفطر من غيري! مش كده يا حبيبتي يا نوري يا قمر؟! 

صدحت بضحكتها وأومأت له بالموافقة بينما نظر ثلاثتهم إلي "بدر الدين" الذي نهض بتلك الغيرة الطفولية بداخله ليقول:

- انا اللي مش هافطر! سايبهالكم ورايح اعمل قهوة.. حاجة غم!

تركهم وغادر ليتحدث "سليم" لوالدته قائلًا:

- الحقيه اصل ده قماص وما بيصدق.. 

أومأت له وهي تصنع بسرعة بعذ الشطائر له ولها حتى يتناولا فطورهما سويًا وتركت خلفها كلًا من "سليم" و "سيدرا" ليتناولا فطورهما معًا..

      

ارتشفت من قهوتها وهي تتناول الفطور معه بأحدى المطاعم بينما امتعضت ملامحه  واتضح عليها الإستياء وهي لم تعد تطيق تحمله، فهي اقتربت منه فقط كي تستطيع الإنتقام من "شهاب" وزوجته ونشر الأمر أمام الجميع ولكن ما لم تأخذه في الحُسبان هو مغادرتهما التي طالت عن الحد وكذلك تصفيته لأعمال شركته بتلك الطريقة تجعلها تشعر بعدم الإطمئنان لتعلم أن عليها إيجاد أي طريقة كي يعودا إلي مصر كي تستطيع فعل كل ما خططت له بتلك الشهور الماضية! 

ادعت الإكتراث الزائف وهي تنظر له في اهتمام وحدثته سائلة:

- مالك يا عمرو يا حبيبي؟ حساك متضايق..

نظر لها بطرف عينيه ليعقد حاجباه منزعجًا وتشدق بإجابته:

- بقى مش عارفة مالي!

تنهدت وهي تبتلع واعادت برأسها كل حرف قالته "لميس" يومًا ما عنه وعن زوجته وحتى عن "فيروز" ثم همست مُجيبة:

- ما انت عارف يا عمرو.. استحالة مامي تقبل اننا نتجوز وانت متجوز اصلًا! 

رمقها متفحصًا ثم رد قائلًا:

- قولتلك كذا مرة مش هاينفع اطلق شروق! وانتي مش صغيرة.. فيها ايه لما نتجوز وحتى من غير ما اهلك يعرفوا؟!

أومأت بالإنكار ثم ادعت البراءة لتقول:

- ويا ريتها بس على مراتك وانها ممكن تعرف باللي ما بيننا.. انت كمان حبيت بنت خالتك من زمان اوي.. وعارفة إن لسه جواك حب ليها.. لو بس شوفتها هتحن ليها تاني! 

كز أسنانه في غيظ من كلماتها وحدثها بصوت منخفض كي لا يستمع إليهما الناس وهو بالكاد يحاول كبحه ألا يتهادى لمسامع الجميع:

- أروى.. قولتلك الموضوع ده انتهى! متفتحيش فيه تاني! فيروز دلوقتي ست متجوزة وهي حتى سافرت مع جوزها من شهور! مش هاروح أنا احب واحدة ست متجوزة.. وبعدين ده حوار قديم ونسيته من زمان..

رطبت شفتاها ثم همست في حُزن سائلة:

- والستات اللي كنت تعرفهم؟ تفتكر هاقدر اثق إني اتجوز راجل ليه ماضي بالشكل ده؟ وكمان هتجوزه في السر مش قدام الناس! 

زفر في حنقٍ شديد ثم حدثها بغضب:

- بقولك إيه، انا مخبتش عليكي حاجة.. هطلق شروق بس مش دلوقتي.. وأظن إني مبقتش زي زمان واتغيرت.. طول اليوم يا إما معاكي يا إما في الشغل! عايزة إيه بقى تاني؟! 

لم تنظر له مباشرة بينما ادعت التردد وهمست مجيبة:

- أنا خايفة.. خايفة نتسرع اوي في قرارنا! 

لمحته بطرف عينيها وهو يومأ في تفهم ثم نهض في غضب شديد وحدثها بلهجة مُهددة:

- أروى انتي عارفة ومتأكدة إني اتغيرت، واني بحبك.. وأظن انتي تقدري توصليلي كويس.. لما تبقي مش خايفة وتاخدي قرارك ابقي عرفيني! 

تركها وغادر لتتابعه بعينيها ثم تأففت وهي تشعر بداخلها يحترق وهي تعلم أن عليها التصرف بسرعة.. ربما عليها أن تؤذي ابنة خالته الأخرى "فريدة" كي تُجبر "فيروز" على القدوم بأي طريقة.. ربما حادثة سيارة أو حادث اختطاف.. عليها أن تُنهي رؤيتها لذلك الرجل الحقير الذي قد أُرهقت من كثرة تحملها إليه! 

ولكن مالا تعلمه أنها قد تأخرت للغاية لأن "فريدة" هي وزوجها وعائلته قد سافروا للخارج!

     

بإحدى المشفيات بألمانيا..

نظر إليها في رعب شديد وهو يبدو كشبح رجل، جسده بات هزيلًا ووجهه بات كمن يفارق الحياة بدلًا منها هي.. لم يعد يستطيع التحمل بأن يراها أمامه كل يوم بنفس الحالة، جسد ممدد، ووجه شاحب، وطنين أجهزة طبية باتت تحيا عليها ليلًا نهارًا! 

ألهذا الحد يحميها منه؟ يعاقبه على ما فعله بها؟ أم يعاقبه على سنوات كُفره؟! لماذا لا يُسامحه؟ لقد فعل كل ما يقول وأنزل بكتابه، آمن وتصدق وتاب كل يوم آلاف المرات عله يرحمه برؤيتها حية بدلًا من ذلك الجسد.. ألهذه الدرجة هو يكرهه؟! 

تساقطت دموعه من جديد وهو لا يستطيع أن يُسيطر على شعوره بذنوبه الكثيرة، تأتي المصائب التي فعلها على مر السنوات لتومض برأسه مرارًا وتكرارًا وكأن عذابه الآن بحرمانه منها هي الجزاء على كل ما ارتكبته يداه! 

اقترب "هاشم" منه متكلمًا في وهن:

- يالا يا شهاب علشان الدكاترة هيدخلوا! 

نظر إليه ولم يعد يكترث أن دموعه تتساقط أمام احد ليهمس له:

- طب خليني معاها شوية كمان! 

زم شفتاه ليتنهد وحاول أن يُطمئنه قائلًا في تأثر:

- إن شاء الله لما يشيلوا الأجهزة هتفوق.. خلي ثقتك في ربنا كبيرة! 

اقترب ليُقبل يدها وهو يبكي في آلم ليهمس متسائلًا:

- طيب ولو مفاقتش.. ممكن تموت؟ يعني مش هاقدر اشوفها تاني؟! مش هاكلمها ولا هتبقى معايا؟

اقترب من اخيه وهو يربت عليه ثم حدثه:

- متقلقش.. ربنا كريم.. بإذن الله النتيجة هتكون كويسة وهتصحى.. يالا يا شهاب ارجوك علشان خلاص لازم دلوقتي يدخلوا! 

شعر بإرتجافة تسيطر على جسده بأكمله وكأنما يجبره القدر على الإنتحار بأخذها منه ليقترب مُقبلًا جبهتها ودموعه لا تتوقف عن التساقط وجذبه اخيه بخفة ليخرج كلاهما من الغرفة! 

تنقلت عينيه بين والدته، اختها واخته.. الجميع يدعون ويبتهلون علّ الله يُنجيها، هل سيستجيب لهم ولن يستجيب له؟ لقد فعل كل ما يلزم حتى يُسامحه.. فعل كل شيء صحيح حتى يغفر له كُفره! لقد أدرك فداحة كل ما فعله وابتعد عنه آلاف الأميال، ما الذي ينقصه ليفعل بعد؟! لماذا لا يريد أن يُحقق له الشيء الوحيد الذي يريده؟! 

جلس خائبًا على احدى الكراسي لتتلاقى أعين "هبة" بعينيه وبداخلها لا تدري هل تقتله بيديها أم تؤازره لهيئته الظاهر عليها أنه يتمزق إربًا من شدة الآلم! 

هذا الرجل منذ أن دخل حياتهم والأمور تُصبح أسوأ شيئًا فشيء.. تضرع بداخلها أن تستيقظ فقط كي تعلم الحقيقة، فهي إلي الآن لا تبتاع تلك القصة التافهة بمداهمة السرقة التي شُنت عليهما اثناء قيادتهما لأحدى السيارات!

     

بعد مرور عشرة ايام..

شهر يوليو عام 2020..

اقتربت والدته منه وهي تربت على كتفه في حنان ثم همست له:

- مش هاتفطر با حبيبي؟ مينفعش اللي بتعمله في نفسك ده يا شهاب!

أومأ بالإنكار وهو ينظر نحو "فيروز" التي لا زالت فاقدة للوعي ولكن الآن بداخله أملًا جديدًا في أن تستيقظ في أي وقت وبعد أن أكد الأطباء أنها تستطيع الآن التنفس دون مساعدة أي اجهزة صناعية والأمر متروك لإستجابة جسدها ورأسها التي تعرضت للإصابة بفعل عدم وصول الأكسجين إليها لوقت ليس بهين ليلتفت لوالدته ثم حدثها في تساؤل هامسًا:

- هو انتي لسه بتحبيني زي زمان؟ لسه بفرق معاكي؟! 

رمقته وهي تبتسم في آسى وهتفت مجيبة:

- يا حبيبي مفيش حد يقدر يكره ولاده.. طبعًا بحبك وبتفرق معايا من زمان يا شهاب.. ربنا لوحده يعلم إني حاولت اوصلك كتير وزمان حاولت مع كرم وهو الله يسامحه على اللي عمله فيا بقى.. حاولت على قد ما قدرت في الأول كرم كان بيصدني وبعدين أنت اللي كنت مصمم تبعد عني! 

لو تعرف فرحتي بإني شوفتك تاني يوم خطوبة هاشم ومراته كانت عاملة ازاي وإني كنت هموت واتكلم معاك كلمتين على بعض بس انت يومها صدتني تاني! انت ابني.. اول فرحتي في الدنيا.. مقدرش ابدًا اكرهك!

أومأ لها بالموافقة وصدقها، فكلماتها بصحبة ما حدث منذ سنوات وقصته عليه تلك الممرضة يؤكد أنها بريئة، ولكنه بالرغم من كل هذا لم يشعر داخله بالتأثر، لم يحس بشيء من الأساس، هو لا يزال يواجه صعوبة في تفهم مشاعر الآخرين، تلك الجلسات التي يُتابعها اوضحت له ذلك الأمر.. ولكن لماذا يشعر بالإختلاف مع "فيروز" وحدها؟ 

اقتربت منه والدته وهي تعانقه باكية ثم همست له:

- ربنا يخليك ليا يا حبيبي وميورنيش فيك أي حاجة وحشة أبدًا..

بادلها العناق بتلقائية ولكن بداخله وكأن ما يحدث لا يُحرك به أي مشاعر.. هذه هي طبيعته إذن التي عليه أن يتعامل معها مثل ما قال المُعالج.. هو لا يشعر! لا يشعر بالعديد من المشاعر الطبيعية التي يشعر بها الجميع.. وكل هذا لأنه مريض! 

كاد عقله أن يذهب لإلقاء اللوم على والدته ووالده ولكنه عاد من جديد لكلمات المعالج الذي يُكمل علاجه معه وكلمات "فيروز" التي حدثته بها يومًا ما.. هو شخص ضد المجتمع بأكمله وسيُحمل كل ما يحدث له على عاتق الآخرين دائمًا.. ولكن إذا فعلها لن يكون سوى مريض لا يفرق معه العلاج في شيء.. 

نبهته والدته من تفكيره لتهمس له:

- هقوم يا حبيبي اجيبلك حاجة خفيفة تاكلها.. اتفقنا؟! 

أومأ لها بإقتضاب بينما ذهبت هي لتتركه جالسًا بين افكاره وبين مراقبته لها التي باتت أمرًا مفروغ منه لا يستطيع سوى فعله علّ الله يُكافئه برؤيتها مستيقظة أمام عينيه، وكإشارة منه على التوبة عليه ومسامحته على كل افعاله وذنوبه التي ارتكبها!

     


أشرق صباح يومٍ جديد فنهض مغادرًا تلك الأريكة التي باتت فراشه الدائم طوال الشهران الماضيان وأسرع نحوها وهو يتفقدها علها استيقظت أو ربما هناك أي تحسن بحالتها فلم يجد أي تغير فاقترب مقبلًا اياها من جبينها وتوجه نحو الحمام المُلحق بالغرفة كي يتوضأ ويُصلي لتسيطر السُخرية على ملامحه وهو يتمنى لو أنها كانت تشهد كل ذلك التغير الذي اعتراه! 

الآن هو وحده تمامًا.. بعيدًا عن مراقبتها اياه.. لا ينتظر منها أن تخبره بأن عليه فعل كذا أو كذا ويا لخيبته بات يفعل كل ما تريده وتمنته به يومًا دون دون وجودها بجانبه..

فمثل ما كان قادرًا على الإدعاء والذهاب لواحدًا من رجال الدين بات الآن يستطيع أن يسأل بكل أمور الدين ليعلم الصحيح من الخاطئ، بات يحاول التعامل مع جميع افراد اسرته ويحاول أن يتجاوب من مشاعرهم بالرغم من عدم فهمها، أصبح يحاول بشتى الطرق أن يسيطر على الرغبة الكامنة بداخله أن يؤذي العديد من الأشخاص وأن يكف عن خبثه وتفكيره الخاطئ، كل ما به يحاول أن يسيطر عليه ويُغيره متبنيًا أفكارًا أخرى جديدة عكس كل ما كان عليه بتلك السنوات الخمس والثلاثين الملعونة ولكن حظه وقدره يجبراه ألا ترى من يعشقها ذلك! 

فرغ من صلاته ثم توجه بالقرب منها وهو من جديد حاول أن يتحدث لها مثل ما اعتاد وهو ينظر إليها فقال:

- شعرك طول تاني.. شكلك حلو اوي.. بس هتبقي احلى لو صحيتي وكلمتيني! 

ابتسم بمرارة ابتسامة مُقتضبه وتابع: 

- لو تعرفي وتشوفي أنا اتغيرت قد ايه بجد مش هتصدقي.. بس أنا متأكد إنك لما تصحي لو اديتي لينا فرصة هتتأكدي بنفسك.. 

زفر بعمق وهو يتلمس وجهها بأنامله وبعد احدى خصلاتها عن جبهتها وتكلم بحماس:

- انا خلاص بعدت عن كلوديا.. سبت ايطاليا.. صفيت كل الفلوس الحرام.. بقيت بعمل خطوات علاج كتيرة اوي.. وبقيت احسن مع ماما! وعارفة.. هي وفريدة لسه هنا ومسافروش.. هبة كانت هنا بس كان لازم ترجع علشان بنتها وهاشم رجع علشان الشغل.. 

بس فيه خبر حلو أنا متأكد إنه هيبسطك.. 

فريدة اختك حامل.. أنا عارف قد إيه انتي بتحبي الأطفال ونفسك تبقي أم.. فاكرة اول مرة شوفنا جميلة سوا؟! فاكرة كام مرة كلمتيني إنك نفسك يبقى عندك طفل؟! 

اكتثت عينيه بالدموع من جديد ليبتلع ملوحتها بحنجرته ثم همس من جديد:

- لما تصحي هتتعالجي وهتبقي احسن أم في الدنيا.. أرجوكي اصحي.. كفاية كده! 

هزمته عبراته التي حاول أن يواجهها لتفر من بُنيته هابطة على وجهه ذو الذقن المُكتثة وهو ينظر نحوها فاقدًا لكل معانٍ الأمل في أن يستمع لصوتها مرة أخرى بحياته وامسك بيدها ليقربها من شفتاه المرتجفتان وهو يبكي ليتحدث في حرقة:

- أنا آسف.. آسف على كل حاجة عملتها.. والله آسف.. مكنتش اقصد اعمل كل ده! غبائي كان عميني بإني انتقم منك وخلاص.. مكنتش اعرف إن كل ده هيحصلنا.. سامحيني.. لو بس صحيتي مش هاعمل اي حاجة تضايقك تاني.. مش هافكر غلط تاني.. صدقيني المرادي غير أي مرة قبل كده! 

اهتز جسده وهو يبكي منتحبًا بشدة واعتصر عينيه مُغلقًا اياهما ولم يعد يرى أمامه سوى بحرًا من قتامة أزلية لا يرى خلالها ولو شعاعًا من نور يُطمئنه أنه يومًا ما سيحدثها من جديد..

فلتذهب كلمات الأطباء للجحيم.. لقد قالوا انها ستسيقظ عما قريب.. هذا هو اليوم الحادي عشر منذ أن نزعوا تلك الأجهزة البغيضة، لماذا لا تستيقظ أبدًا؟ لماذا عليه تحمل كل ذلك الآلم وحده؟

هو نادم.. يشعر بالندم.. لن يخبره اعتى المعالجين انه لا يفعل وأنه يستحيل أن يشعر بمثل ذلك الشعور بسبب مرضه.. إذا كان ليس لديه القدرة على فعلها، وإذا كان لا يشعر بتأنيب الضمير، لماذا كل يوم يشعر بمغادرة روحه جسده كلما نظر إليها؟! يريد تفسيرًا لعينًا لتلك الآلام التي تلتهمه في براثنها دون رحمة!

لقد تاب وآمن، لقد ابتعد عن كل شيء كان عليه.. ما الذي عليه فعله بعد؟ ما الذي ينقصه ليستمع لأي كلمة منها من جديد؟ ما تلك اللعنة التي يفتقدها ونسيها كي يفعلها وجعلها تستيقظ؟! 

اعتصر يديها بقوة وهو يبكي وشهقاته كادت أن تُمزق كيانه بأكمله، يشعر بالرعب من رؤية ملامحها النائمة مرة أخرى، تُصيبه بالعجز والشعور بأنه قد أذاها بكل الطرق منذ أن عرفها! لم يعد لديه ملجئًا كي يحتمي به من كل ذلك العذاب! لم يعد شيئًا يتغير سوى أنه ييأس كل يومٍ عن ذي قبل.. 

رمقته بأعينها في استغراب ولوهلة ظنت أنها شخصًا غريبًا لا تعرفه وقبل أن تتحرك او حتى تنطق بكلمة شعرت بوجع لم تشعر بمثله من قبل يجتاح رأسها لتصرخ من كثرة تلك الآلام بينما ظن هو أنه يتذكر صراخها منه يومًا ما ليتعالى بُكائه أكثر إلي أن شعر بتحرك يدها الممسك بها وهي تجذبها منه!

     

#يُتبع . . .

الفصل القادم بتاريخ 4 مارس 2021 على مدونة رواية وحكاية