-->

الفصل السادس والسبعون - شهاب قاتم

 


- الفصل السادس والسبعون -

     

أمس راقبت ذبابة سقطت في خيوط عنكبوت .. كانت في البداية تتصرف بخيلاء وثقة. كانت تعتقد أنها حرة، وأن بوسعها التملص بشىء من الجهد الصادق .. ذبابة قوية مثلها لن تعوقها خيوط من حرير لا يمكن كتابة سمكها علي الورق .. لكنها بدأت تقلق .. بدأت تتوتر عندما عرفت أن كل حركة جديدة تقيدها أكثر .. 

لابد أن ربع ساعة قد مرت وهي تزداد تورطاً، وفي النهاية عرفت أن عليها أن تصاب بالذعر .. بدأت ترفرف بجناحيها بقوة وتطن بصوت مسموع وعال، حاسبة أن هذه الهستيريا سوف تحقق ما عجزت عنه .. لا جدوي .. لا جدوي.. لكن كان لطنينها نتيجة واحدة أكيدة، هي أن الذبذبات وصلت إلي العنكبوت .. 

لقد جاء من مكان ما، ووقف علي طرف النسيج يختبره بقدم .. تأكد من أنه متين، ثم اتجه نحو الذبابة .. كأنه كابوس يمشي علي ثمان أقدام .. لهذا يصاب الناس بالأراكنوفوبيا .. هذا المخلوق جدير بأن يستأثر لنفسه بنوع كامل من الفوبيا .. بحركات رشيقة مدروسة راح يدور حولها ليحكم الكفن الحريري. دورة. دورتان.. ثلاث دورات .. الخيط يخرج ويلتف أكثر والذبابة لم تعد مرئية تقريباً ... وفي النهاية دنا منها ليحقنها بالسم .. وسرعان ما همدت وبدأت عملية الامتصاص .. 

غداً تهب الريح وتهدم جزءاً من النسيج .. لو فتحت هذا الكفن لوجدت هيكل ذبابة بعد ما امتص منها عصارة الحياة ... هيكلاً يتهشم لو نفخت فيه .. الذبابة المغرورة التي حسبت أنها تملك إرادتها .. لكن الغرور كان مفيداً للعنكبوت ..

(أحمد خالد توفيق - أسطورة معرض الرعب)

     

التفت ناظرًا إليها وهما بتلك السيارة التي اصطحبتهما خصيصًا من المطار وهو منتظرًا أن يسمع منها ولو كلمة واحدة أو حرفًا واحد فهي منذ علمها بالخبر وهي صامتة ولا يدل على ما تشعر به سوى ملامحها الحزينة!

لا تصرخ به ولم تسأله حتى عن ماذا حدث لأختها ولا لأخيه.. هل هي حزينة أم كل ما ارادته هو العودة إلي مصر فحسب؟ هل ذلك الشعور بأنها ستخدعه سيلتلزم منها أن تكون هنا؟

نهى نفسه سريعًا عن التفكير بتلك الطريقة ليتشبث بتلك الأيام الماضية التي بعثت به شعاع أملًا مفعمًا بالحياة في سعادة من جديد معها وتلمس يدها وهو يتوسلها ربما للمرة المائة:

- فيروز ارجوكي اتكلمي! 

التفت لتحدجه بنظرات إتهام صريحة وحاولت البحث عن كلمات شتى لتصوغ به مشاعره التي تخبطت بداخلها ثم همست ليتحول همسها لكلمات تتقاذف دون انقطاع ولا تريث:

- اقول إيه.. أنا خايفة أسأل إيه اللي حصل ولا اختي عاملة ايه لا يقولولي ماتت ولا بتموت.. دي حامل ولسه عروسة و.. واللي حصلها كتير اوي! طيب افكر ولا اتكلم وأسألك علشان اقولك انت ورا اللي حصلهم فتقولي أنا استحالة اعمل كده واتلخبط جوا مني وافتكر موت اهلي وارجع افكر إنك ممكن تكون سبب مباشر او حتى غير مباشر!

اضمن منين إن الناس اللي في ايطاليا مش همَّ السبب.. اضمن منين إن كل ده مش من عمايل كلوديا مثلًا.. ولا.. ولا تصفية حسابات ولا.. مبقتش عارفة اقول ايه وخايفة خلاص افكر اكتر من كده اتجنن! أنا حاسة اني اتجننت بجد من كتر التفكير.. بحس بالوجع بيكسر راسي من كتر ما بقيت افكر فيك وفي اللي حصل واللي بيحصل.. مبقتش حاسة بأمان معاك وأول حاجة بتيجي في دماغي إنك ورا كل مصيبة بتحصلي!

نطقت كلماتها الأخيرة بمعاناة صرخ بها كيانها بأكمله لتنفجر باكية فضمها إليه محاولًا أن يهون عليها وأخذ يربت عليها في حنان ورفق مثل ما عهدت منه بالأيام الماضية وحدثها في هدوء:

- اهدي يا فيروز وأنا هحاول اعرف مين اللي ورا كل حاجة.. اهدي علشان هتروحي تطمني على اختك ومينفعش تشوفك كده.. أنا استحالة أؤذي هاشم أو فريدة.. لو مش مصدقة إني دلوقتي بقيت بعامل اخواتي كويس فصدقي اني بقيت بعتمد عليه في الشغل ويبقى قمة الغباء اني اؤذيه او اعمله حاجة.. 

فرقت عناقهما لترفع مُقلتيها الباكيتان نحوه وهي حقًا لم تعد تعرف أتُصدقه أم عليها سماع صوت عقلها أن كل ما تختبره في طريقهما الوعر ستكون نهايته الموت الحتمي.. 

من جديد تحلت بالصمت وباتت كشبح إمرأة ساكنة تمامًا وانتظرت بفارغ الصبر انقضاء الدقائق كي ترى اختها وتطمئن عليها ولا تريد سوى أن تستمع للأطباء وهم يخبرونها أنها ستكون بخير.. أمّا كلماته ولمساته التي يظن أن يهون بها عنها فهي باتت كسراب.. مجرد شيء لا يُفيدها ظمأها الشره لإدراكها أن كل ما تعاني منه سينتهي عن قريب! 

بمجرد توقف السيارة أمام بوابة المشفى انطلقت في اندفاع كالرصاصة ليتبعها على حذر وتركها تفعل ما يحلو لها وراقبها بعينيه وهي تسأل عن اختها واخيه وتبعها بخطوات واسعة حتى يلحق بها بينما هرولت هي ووقفت امام المصعد الذي ضغطت عليه ووقفت في ارتباك وخوف في انتظاره ليقف بجانبها وهو يتفقدها في سكوتٍ تام.. 

توقف المصعد لتنطلق بين الغرف وهي تبحث عن الغرفة التي مكث بها "هاشم" وطرقت الباب ثم فتحته على عجالة وتمزق قلبها برؤيته وهو مُغطى بأنحاء جسده بالجص لتذهب بالقرب منه وهمست متسائلة:

- ايه اللي حصل.. ايه اللي عمل فيكو كده؟ فريدة هتصحى امتى يا هاشم؟ 

تواترت الدموع من عينيها واجهشت ببكاء مرير لتنهض هبة واتجهت نحوها لتحاول أن تُهدأها لتعانقها وبكائها يزداد بقسوة حتى ظنت أن روحها ستُنتزع منها من كثرة نحيبها! 

حاولت أن تدفعها نحو الأريكة ليحاول "هاشم" أن يُصيح من على مسافة:

- متقلقيش يا فيروز أنا هبقى كويس وفريدة هتفوق إن شاء الله.. راسها بس اتخبطت جامد في الحادثة.. 

دخل "شهاب" ليقترب منه وحدثه متكلمًا بهدوء:

- الف سلامة عليك.. مش تاخد بالك وانت سايق؟ 

توقفت عن البُكاء وانتبهت على ما يقوله ليرد اخيه قائلًا:

- والله كنت واخد بالي بس مش عارف الفرامل كان فيها ايه وحاولت اتفادى العربيات على قد ما اقدر والعربية لفت بينا اكتر من مرة.. الحمد لله انها جت على قد كده.. 

نهضت "فيروز" لتوزع نظراتها بينه هو واخته لتتسائل:

- طيب فريدة.. انا عايزة اشوفها.. هيخرجوها من العناية امتى.. وحملها؟ بجد قولولي هتكون كويسة؟ أنا مش هاقدر استحمل لو جرالها حاجة!

انهارت في نوبة بكاء من جديد لتحاول "هبة" أن تُهدئها وكذلك نهض "شهاب" ليقف امامها بقلة حيلة ثم اجابها "هاشم" وهو يُطمئنها:

- والله هتبقى كويسة.. هي بس كانت بتحاول تحط ايديها على بطنها والخبط كله جه في راسها.. البيبي كمان كويس الحمد لله.. 

أومأت بالإنكار وهي لا تُصدقه لتصرخ بهم جميعًا:

- أنا عايزة دكتور يقولي الكلام ده.. أنا مبقتش اصدق خلاص.. شوفولي دكتور بسرعة يطمني.. انا مش هاصدق حد فيكو..

نظر الجميع لها بتعجب واستغراب ولم يدرك ما تمر به سوى "شهاب" الذي رد مُعقبًا على الفور:

- هاجيبلك دكتور حاضر بس اهدي ارجوكي.. 

بدأت في الهدوء قليلًا عندما غادر لتجلس على الأريكة وهي تغمغم بغير تصديق:

- يارب ايه اللي بيحصلنا ده استغفر الله العظيم..

ربتت "هبة" على كتفيها وحدثتها مُهونة:

- ده قضاء وقدر يا فيروز .. الحمد لله.. الحمد لله إنها جت على قد كده..

نظرت إليها وأطالت من نظرتها وتمنت لو تخبرها بالكثير الذي تتمنى لو ازاحت ولو جزءًا ضئيلًا من ذلك العبء الذي حملته وحدها طيلة اشهر ولكنها لن تفعلها.. لن تملك الجرأة بأن تفعلها حتى فاكتفت بمعانقتها وهي تبكي بمرارة..

ربتت من جديد عليها وكلمتها في قلق ممزوج بالخوف، فهي لم تعد تلك المرأة القوية التي عهدتها وانهيارها مبالغ به هذه المرة فسألتها متحدثة:

- اهدي يا حبيبتي.. هيكونوا كويسين والله.. فيروز انتي فيه حاجة تانية مضيقاكي؟

رفعت رأسها مسرعة من عناقهما وأومأت لها بالإنكار وسرعان ما انتبهت وجففت دموعها لتدعي حُجة تافهة مسرعة:

- مفيش.. انا بس جيت وكنت خايفة اوي علشان هي حامل ووفاة بابا وماما معداش عليها كتير.. حسيت إننا في سباق مصايب.. وكمان منمتش طول السفر وأنا صاحية بدري وحاسة راسي وجعاني اوي من الصداع.. 

تنهدت لتومأ لها وتلمست يدها في دعم ثم اخبرتها بإبتسامة مُقتضبة:

- طيب هاروح اجيبلك عصير ومسكن للصداع ده.. وانتي اطمني عليهم على طول وروحي نامي ساعتين علشان خاطري.. اتفقنا؟ 

أومأت لها بالموافقة وبمجرد خروج "هبة" شعرت أن الوحيد الذي سيساعدها هو "هاشم" فاقتربت منه ليبادر بالكلمات:

- يا ستي هنكون كويسين والله.. ويمكن ده سبب اننا نشوفك جنبنا تاني.. وحشتيني جدًا ووحشني القاعدة معاكي.. حتى من كتر الشغل مبقتش لاقي وقت اكلمك..

ابتسمت بمرارة وعادت دموعها لتتساقط في آلم ولم تشعر بكل تلك الكلمات التي غادرت شفتاها بسرعة قبل قدوم احد واقتنع تمامًا بما تقوله ليكون هو الوحيد الذي سيساعدها بما تريد.. 

لن يستطيع على الوثوق في هذا الرجل المُخادع القاتل المُغتصب كما اخبرته "فيروز" وبالرغم من ارادتها في عدم الإفصاح ولكن ما بيدها حيلة.. إلي من ستذهب كي يُساعدها، حتى ولو كان اخيه، فكل ما قصته هذا بمصاحبة تعامله معه منذ شهور ماضية وتصفيته المفاجئة لأمواله الآن يُدرك ما الأسباب ورائها وسيكون الأفضل لهم جميعًا لو ابتعدوا عنه!

حتى ولو ستساومه على كل ما يملكه بالتوكيل العام الذي اعطاه لها.. هو لم يترك لها أي اختيار آخر كي تحاول الإبتعاد عنه وتفر منه هاربة إلي كل ما تتمناه وهو راحة البال والأمان!

     

في مساء نفس اليوم..

دخلا سويًا إلي المنزل الذي تزوجا به منذ تسعة أشهر ماضية لتشعر بالرهبة بداخلها وهي تتذكر تفاصيل آخر يوم قبل أن يغادرا وابتلعت بملامح سيطر عليها الوجوم ليتفقدها بطرف عينيه وقد أدرك ما الذي تمر به ليهمس لها:

- حابة تتعشي.. انتي مكلتيش حاجة من الصبح.. 

انتبهت على صوته ثم أومأت بالرفض لترد بنبرة مُرهقة:

- لأ.. انا بس هادخل استحمى ومحتاجة انام.. اليوم كان طويل ومتعب اوي.. السفر والمستشفى وخوفي على فريدة وهاشم.. يمكن لما انام اكون احسن..

تلمس كتفها بتلقائية وقال:

- طيب لو تـ..

ارتجفت بعفوية من لمسته ليتوقف من تلقاء نفسه وابتعدت هي تتهرب منه ليبتسم بسخرية ثم تكلم بهدوء:

- لسه برضو مفيش حاجة بتتغير.. بس صدقيني إني مبقتش زي زمان يا فيروز.. 

تركها وغادر ليزداد تأكده بصحبة ما علمه وهو بالمشفى فلقد سمع أمر ارادتها بنقل كل ما يملكه بإسمها هي وظنت أن "هاشم" سيُساعدها بنقل العقود وهو يعدها لها بعد أن اجرى عدة مكالمات هاتفية.. وتفلتت هي لتوقع على العقود التي ربما ستوثق بالغد أو بعد غد ولا يدري كيف لها أن تأتي بأحدى صور التوكيل.. ربما كانت تحتفظ بها على احدى مواقع التخزين او ببريدها الإلكتروني.. هو حتى لا يُريد أن يُفكر في الأمر ولا يريد أن يكتشف كيف فعلتها..

ما حيلتها؟ أن تخبره بأنها ستنقل لنفسها كل ما يملكه؟ حسنًا هو يوافق منذ البداية أن يُعطي لها كل الأموال.. وإلا لكان لغى هذا التوكيل منذ شهور عِدة! 

ربما كان سيفعل بعد تلك الأيام الوردية ببداية زواجهما وقارب على إلغاءه بالفعل ولكن بعد ذهابهما ايطاليا ورغبته بها وعشقه لها دفعاه لإرادة المحاولة معها من جديد ولم يكن ليُفقد واحدًا من الأسباب التي برهنت لها انه لا يكترث سوى لها فحسب.. 

توجه ليأخذ التوكيل وامسك به بين يديه ثم عاد ليبحث عنها فوجدها بواحدًا من الحمامات المُلحقة بالغرف تاركة منامة منزلية على السرير كي ترتديها بعد الإنتهاء واشعلت التدفئة بالغرفة من ثم استمع لهدير المياة فانتظر جالسًا على الأريكة إلي أن تخرج وجلس وهو يُفكر، منذ قليل ودت أن تبتعد عنه من مجرد لمسة عفوية بينما طيلة الشهر الماضي كانت تمارس الحب معه!

لم يعد يعرف مع من يتعامل، ولكنه يعرف شيئًا واحدًا فقط.. هو يعشقها ويريدها بكل ما هي عليه، سواء مُخادعة، كاذبة، حتى إن كانت ستسامحه أم لا فهو يُريدها..

فرغت من الإستحمام لتغادر الحمام وهي تلتف بمنشفة قطنية لتتلاقى اعينهما ووجدته لا يزال بنفس ملابسه لتهمس في ارهاق:

- شهاب ارجوك أي حاجة عايزنا نتكلم فيها خليها وقت تاني لأني تعبانة اوي..

تنهد ثم أومأ بالتفهم ونهض ليتوجه نحوها بعد أن امسك بملف لاحظته للتو ليحدثها بنبرة مُنكسرة:

- عارف إنك تعبانة علشان كده هاوفر عليكي.. أنا دورتلك على التوكيل وجبته بنفسي.. 

رمقته متوجسة وهي تبتلع ثم تلعثمت بصعوبة وهمست له:

- إيه ده.. وأنا مالي ومال التوكـ..

قاطعها متكلمًا بسخرية:

- لا ما أنا عرفت إن العقود جاتلك المستشفى ومضيتي عليها، طبعًا مكنش ينفع تعملي كده في ايطاليا أو المانيا لأن مكنش حد هيقدر يشحنلك الحاجات دي وأنا قاعد ليل نهار جنبك.. برافو.. بس انتي مش بتتعاملي مع واحد غبي يا فيروز.. حركة التوكيل دي متوقعة اوي.. بس عارفة إيه اللي مش متوقع! 

تفقدها بإنكسار ليتحشرج صوته وتابع كلماته:

- إني اعرف كل ده وابقى مش عايز أؤذيكي.. لأ أنا كمان قولتلهم يوثقوا العقود ولا كلمت هاشم ولا قولت اي حاجة.. هتعملي ايه بقى بكل اللي هتاخديه مني؟ هتقوليلي كل اللي معايا قصاد إني اسيبك؟

تفقدها بخيبة أمل لتبتلع هي في خوف وابتعدت عنه ليُلقي بالتوكيل حتى استقر اسفل قدماها ليهمس بصوتٍ مبحوح:

- فاكرة الأحلام اللي كنت بشوفها.. اتحققت تقريبًا.. النار وإنك بتضربي بين ايديا وأنا بحاول الحقك.. كل ده شوفته بيحصل.. انتي كنتي بتموتي قدام عينيا، يمكن هي دي الحاجة الوحيدة اللي خلتني افوق! لو عايزة الفلوس والمشاريع والشركات خديهم.. بس ده مش هيخليني ابعد عنك ولا اطلقك! 

اقترب نحوها ليُمسك كلتا ذراعيها وعينيه تلتمع ببريق عبراته المكتومة وهمس بصوتٍ شارف على البُكاء:

- بقى بعد كل اللي فات ده محسسكيش اني اتغيرت ولو للحظة واحدة؟ أنا بقيت بتعامل معاكي بالشوكة والسكينة لا اعمل حاجة تضايقك وانا مش واخد بالي.. 

كل اللي فات من ساعة ما قولتيلي ارجع البيت ونحاول، لما قولتلك كلمة في وقت كنت محتاجك فيه وانتي رفضتيني لقيت نفسي بجرحك وكل يوم اعتذرتلك عنها، أنا مكنتش اقصد اتكلم إنك مش بتخلفي ولا اعايرك.. غصب عني الكلمة طلعت وأنا مضايق وانتي حتى فاقدة الثقة فيا إني مش هاقدر اتحكم في نفسي لدرجة إني هاجبرك تكوني حامل! 

هبطت دموعه في توالي من عينه اليسرى اولًا متبوعة باليُمنى ليريح وجهه على كتفه ليتخلص من تلك العبرات التي تحول دون رؤيته وابتلعت هي في رهبة من تلك الدوامة التي لطالما جذبها إليها بكلماته وهي تلمس تعاطفها له وينجح ببراعة في فعلها وانتهى سكوته وهو يُردف: 

- خدي الفلوس وخدي كل حاجة بس خليكي معايا.. هاعمل كل اللي انتي عايزاه.. اقولك كمان.. لأ انا هثبتلك إنك علشان تبعدي عني تعملي ايه.. 

ابتلع ملوحة مُرة بحلقه وهو يحاول أن يُسيطر على نفسه ألا يبكي ثم استطرد قائلًا:

- أنا كنت حاسس إن اليومين اللي فاتوا انتي ناوية على حاجة والنهاردة اتأكدت من نيتك وإن كل كلامك عن المحاولة كان وراه سبب.. مكنتش احلام المرادي كان مجرد احساس.. بس برضو في نفس الوقت حسيت إن لسه جواكي حب ليا.. لا انتي اللي هتموتيني ولا انتي الست الضعيفة اللي هتموت نفسها.. مقدامكيش غير إني اموتك لما تخونيني.. وانتي الست اللي عمرها ما تخون! أنا اختارتك بعد ما عرفت ستات بعدد شعر راسي ومحبتش حد في الدنيا زيك!

تفقدها بتساؤل ثم همس بحرقة:

- دي اخر تلت حاجات باقية علشان ابعد عنك.. أنا عندي استعداد ارجع العيل اللي بيشتغل اي حاجة وكل حاجة.. أنا اعرف كويس اجيب فلوس.. تاني وتالت ورابع.. بس مش هاعرف اعوضك! 

كلماته المنطوقة بتلك المُعاناة التي تتضح عليه جعلتها تبكي هي الأخرى مثله وشعرت بمصداقيته لتجده يهزها بعنفٍ متوسلًا في تساؤل:

- ايه اللي ناقص اعمله علشان تقبليني؟ علشان تسامحي على كل حاجة عملتها فيكي؟

ارتفعت شهقاته وهو يتفقدها بنظرات جنونية ثم هتف بحرقة:

- ايه تاني اللي يثبت إني بتغير ومعملتوش؟ اثبتلك بإيه إني بحبك وعمري ما هأذيكي؟ غلطت وعارف إني غلطت وعمال اصلح في غلطي بقالي شهور ومكمل.. 

التقط انفاسه بصعوبة بين بكائه وتابع مستنشقًا الهواء لرئيتيه بمشقة:

- أنا تعبت يا فيروز.. أنا مبقتش قادر اتكلم.. أنا هاسيبك تهدي.. وهامشيلك بنفسي في إجراءات نقل أي حاجة بإسمي ليكي.. بس طلاق مش هاطلق.. عايزاني ابعد عنك.. حاضر.. همّ يومين هاروح اقعد مع ماما وهارجعلك.. لكن غير كده مش هاقدر اعمل حاجة! 

تركها وهو يمشي مهزومًا بإنكسار لتوقفه صارخة ببكاء:

- وانا مبقتش حاسة بأمان ولا عارفة اثق فيك.. حاولت وقربتك ليا تاني بس كانت ايه النتيجة؟ مش عارفة اسامح، مش عارفة انسى ولا اعدي اللي حصل بيني وبينك!

بتعايرني بإني مش بخلف غصب عنك، هتقولي كلمة طلعت وقت ضغط.. تمام أنا مصدقاك بس وبعدين؟ بعد ما نبقى سمنة على عسل وكل حاجة تمام هتقولي كلوديا محتجاني وأصل آخر مرة.. واصلها هتؤذيكي لو مسعدتهاش.. قولي ايه ممكن يحصل تاني.. عايزني اعيش معاك وأنا كل يوم معنديش ثقة ولا أمان! كل يوم اصحى اقول يا ترى المصيبة ايه النهاردة.. ولا يا ترى هاكتشف ايه عن الإنسان اللي المفروض حبيته علشان الاقيه بيتبسط بحرقه للناس ومش عايز يتغير؟ 

تريثت لبرهة عندما التفت لها متفقدًا اياها بإمتعاض لتهمس بحرقة:

- انا مش عايزة فلوس ولا زفت.. عارف عايزة ايه؟ عايزة موقف بجد يثبت بجد إنك اتغيرت وبحاول ادور عليه في كل تصرفاتك.. وانا سامعاك بتتكلم بالأسلوب ده يمكن قلبي حن شوية وخلتني اصدقك.. ويمكن بجد لو بعدنا فترة ربنا يسبب الأسباب ويخلينا نرجع لبعض.. بس أنا دلوقتي خلاص! مبقتش واثقة فيك! 

تنهدت في ارهاق ثم اردفت بآسى عكس روحها الممزقة:

- يمكن لو سبتني بجد اعمل اللي عايزاه ده يحسسني انك بتتغير وساعتها اديك فرصة جديدة.. بس بعد ما اهدى واحاول اتعالج من اني بقيت شبهك وعمالة اخطط واختبرك وانتقم! انت خلتني نسخة مشوهة منك ومن نفسي! اصلًا مبقتش عارفة أنا عايزة ايه معاك!

أنا اتحولت.. ايوة اتحولت من واحدة بتحاول تعافر في الحياة وكل املها تعدي صدمة وقولت هارجع لشغلي ودنيتي وحياتي بقيت بين يوم وليلة مريضة جبانة خايفة.. اتحولت من واحدة وثقت في انسان حبته لواحدة مرعوبة.. 

دماغي بقت بتودي وتجيب وهي بتفكر في الإنسان اللي قال انا بعدت عن كل حاجة حرام وكل حاجة غلط وخلاص بتعالج وبحبك لواحدة بتشوف نفس الإنسان اللي خلى جوازهم باطل وحرام ورجع للقتل والحرق والإفترا.. ده انت حتى اغتصبتني وضربتني في بيت اهلي وبعدها بفترة قولتلك هنحاول سوا.. تقوم تروح تضربني تاني وتخدرني تاني وتمنعني اكلم اهلي! أنا حتى مبقتش عارفة ايه اللي مر علينا وكان حقيقي وايه مر علينا وكان كدبة منك!

زفرت في آلم وهي تحاول أن تسيطر على بكائها وشهيقها واستطردت بهمسٍ هشمها: 

- هتقول بتحبني وفوقت واتعالجت.. ماشي مصدقاك.. بس لو بتحبني بجد هتعمل اللي أنا عايزاه من غير ما تجبرني على العيشة معاك.. الحب اللي بجد من غير مرض ولا أذى إنك تسمح للي قدامك بالإختيار! وتحترم قراره وتوافقه عليه! 

تفقدها بأعين تودعها ثم اقترب ليأخذ التوكيل ممسكًا به من أسفل قدميها وأخرج هاتفه ليتحدث به:

- ابعتلي حد على بيت اكتوبر ياخد التوكيل ويخلص كل حاجة.. بكرة الصبح عايز كل العقود تكون اتوثقت! 

انهى مكالمته لينظر لها بخزي شعر به ليهمس لها:

- حاضر هاسيبك واطلقك.. هاعملك كل اللي انتي عاوزاه.. وحتى الفلوس خديها.. مبقتش عايز اي حاجة خلاص! 

رآى ملامح الإعتراض على وجهها وكادت أن تتحدث ولكنه منعها بقبلة مرتجفة تذوق كلاهما خلالها الآلم وطعم دموعهما ثم ابتعد ليهمس لها:

- لو ده الحب من وجهة نظرك خلاص هاعمل اللي يريحك.. خدي بالك من نفسك ولو احتجتي حاجة ابقي كلميني.. موبايلك القديم هتلاقيه في درج مكتبي لو عايزاه وانا اتصرفت وخليتهم ميلغوش الرقم من واحنا برا.. سلام! 

تحشرج صوته في النهاية ولم يستطع منع نفسه من البكاء ليلتفت وهو يكتم شهقاته ليغادر المنزل بأكمله وهي تتابعه ببكاءٍ هي الأخرى بتر روحها ومزق ثنايا عقلها فهي لم تعد تعرف ما الذي عليها فعله.. تناديه لتخبره بأن ينتظر وستحاول أن تُسامحه أم تتركه ليذهب دون رجعة!

     

في نفس الوقت..

دفع احدى الأبواب الخاصة لمنزل كان يحتفظ به للقاءه بعشيقاته بينما تبعته هي بإبتسامة فهي كان عليها أن تُقنعه أنها أخيرًا حققت ما أراده لطيلة أشهر بمجرد سماعها بتواجد كلًا من "فيروز" و "شهاب" بمصر من جديد.. 

لقد نجحت تلك الحادثة المقصودة التي خططت لها ببراعة والآن بدأت تستنشق رائحة الإنتصار الوشيك الذي ستحققه لا محالة ولكنها فقط تتمنى أن يتم الأمر كما تمنته..

التفت إليها بإبتسامة سعيدة وهمس لها:

- مبروك يا حبيبتي.. 

ابتسمت له هي الأخرى ثم همست بدلال مزيف:

- أنا بجد مبسوطة اننا اتجوزنا.. مش مصدقة نفسي.. 

همهم لها واقترب ليتلمس اسفل ذقنها ليتسائل:

- وهتتبسطي اكتر بعد اليومين الجايين.. مش قايلالهم في البيت إن عندك شغل في الغردقة والجونة وهيبقوا كام يوم حلوين؟

أومأت له بالموافقة لتتوسع ابتسامته في خبث وهو ينحني ليُقبلها فمنعته قائلة:

- ايه رأيك تدخل تاخد shower وتغير هدومك على ما احضرلنا العشا؟ أنا من الصبح تقريبًا مكلتش..

توقف وهو يومأ لها هاززًا رأسه ليهمس متنهدًا:

- ماشي هانت! 

تفقدها بنظرة خبيثة لتدعي الخجل وتوسعت ابتسامتها وبمجرد أن غاب عن عينيها تفقدت المكان سريعًا فلم تجد أي كاميرات للمراقبة وسرعان ما توجهت لمبرد الطعام وهي تخرج احدى الأدوية المُخدرة ووضعتها في الطعام قبل أن تُخرجه من المُبرد كزيادة للأمان ليس إلا ثم تمتمت بداخل عقلها:

- ده انت قرفتني.. اخيرًا هخلص منك! الحاجة الوحيدة اللي فدتني فيها موضوع الأدوية ده والتخدير.. إنسان مقرف!

صدح هاتفها بالرنين لتجيبه فآتى لها احدى الأصوات الرجالية التي عملت طيلة الفترة الماضية في جعلهم يعملون لحسابها بعد أن اغدقت عليهم بأموال عِدة:

- حضرتك هو سابها ولسه خارج من البيت..

تعجبت من تلك السرعة الشديدة التي تم بها الأمر لتهمس قائلة كي لا يُسمع صوتها وهي تتفقد ما إن آتى "عمرو" أو رآها:

- تمام.. خليكوا وراه زي ما فهماكوا.. وتابعوا الموضوع عندها ولو حاولت تخرج امنعوها حتى لو هتخدروها.. وأنا نص ساعة بالكتير وهكلمكم .. ابعتلي بس حد بالعربية على اللوكيشن اللي بعتهولك.. 

انهت مكالمتها وبداخلها تتخيل منظره عندما يجد من تزوجها عارية بفراش واحد مع ابن خالتها لتبتسم في خبث واخذت تُعد الصحون في انتظاره ليتناول من هذا الطعام حتى تضعه بغيبوبة مؤقتة! 

     

فتحت هاتفها وهو لا يزال متصلًا بالشاحن الكهربائي لتتفقده بأنامل مرتجفة وهي تتفقد سجل الهاتف لتجد تلك المكالمات بينها وبين والديها قبل سفرها وهي تبكي بمرارة لتدخل على المكالمات المُسجلة واستمعت لأصواتهما ولم تستطع أن تكف عن البُكاء.. 

لم تصدق أنها لم تودع أيًا منهما، ربما شعرت بأنها تحتاجهما بشدة قبل تلك الحادثة التي ازهقت العديد من الأرواح بالعقار، حاولت فقط أن تتماسك ألا تبكي فلقد نجت اختها بأعجوبة عندما ذهبت لتحضر لهم بعض الطعام! 

توقف صوت المكالمات المُسجلة عندما رن الهاتف لتجد اسم "لبنى" يتضح على الشاشة فحاولت منع نفسها عن البُكاء واجابت المكالمة لتستمع لصوتها:

- ايه يا بنتي فينك كل ما اكلمك موبايلك مقفول واسأل هبة تقولي مع جوزها برا، ولسه شايفة على اكونت هبة موضوع هاشم اخوها وفريدة.. ما صدقت لقيت موبايلك اتفتح وحمدت ربنا اصلًا بعد ما كنت فقدت الأمل إن رقمك ده الاقيه شغال.. انتو كويسين يا بنتي؟ 

شعرت وكأنها كانت في سجن بالكاد تحاول التخلص والهرب منه ووجدت نفسها تجهش بالبُكاء وهي تتذكر كيف كانت حياتها يومًا ما بين اصدقائها ومعارفها وحتى من تُحدثها الآن وتستمع إلي صوتها كانت واحدة ممن تردن أن توضح لها كيف تتعامل مع زوجها وطلبت نصائحها يومًا ما، بينما هي من اصبحت لا تدري كيف تتعامل مع زوجها ولا تعرف كيف عليها الفرار منه لتجيبها بصوتٍ مزقه البُكاء والآلم:

- والله ما بقيت عارفة يا لبنى.. مبقيتش عارفة أنا ايه اللي بيحصلي ولا بيحصل لأهلي اللي ملحقتش حتى اكلمهم! 

تعجبت لإنهيارها الشديد الذي لأول مرة تواجهه لتهتف بها:

- طيب اهدي بس يا حبيبتي.. اهدي علشان نعرف نتكلم.. تحبي اجيلك طيب؟ 

توقفت للحظة وهي تُفكر، ربما تكون "لبنى" اقل ضررًا من "هبة" لو باحت لها بالقليل مما مر عليها، فهي تشعر أنها ستفقد عقلها لو استمرت بهذه الطريقة وحدها دون التحدث لأحد فهمست لها:

- ماشي.. كمان شهاب عند مامته وهبات الليلادي لوحدي..

حاولت أن تُهدئها ثم قالت:

- خلاص تمام.. كلها ساعتين كده ولا حاجة ومعاذ يوصل، انتي عارفة إنه بيخلص متأخر وهو مش هيرفض طبعًا اني اجيلك ده بيعزك جدًا.. هاخليه يوصلني ومتناميش هاجيلك ونقضيها سهر ورغي في كل حاجة! 

تنفست بصعوبة ثم ردت قائلة:

- ماشي.. هستناكي.. 

انهت المكالمة وبداخلها القليل من الشعور بالحظ لمجرد سماعها صوت مألوف عليها لتتذكر كيف تعرفت على "لبنى" يومًا ما لتجد أن الإجابة هي "ماهر" الذي كان افضل رفيق وزوج ورجل بدلته بمحض ارادتها بأسوأ الرجال على الإطلاق!

توجهت لتصنع بعض القهوة حتى تساعدها على الإستيقاظ وهي تنتظر مجيء "لبنى" وأخذت تتذكر العديد من المواقف التي مرت عليها معه وهي تحس برأسها قاربت على الإنفجار من كثرة التفكير لتتفاجئ بجرس الباب لتتجه نحوه فيستحيل انها قد استطاعت الحضور في تلك الدقائق القليلة!

     

ناول ذلك المندوب من قِبل المحامي الخاص التوكيل ليفعل ما وعدها به وبداخله كل التقبل بأن يفعل كل ما تريده.. ولكن أن يبتعد عنها! هذا الأمر لا يستطيع تقبله! 

اخرج هاتفه بعد أن دخل جالسًا بالسيارة التي صفها على مقربة من منزله وتردد كثيرًا بأن يهاتف اخيه فهو يتوقع أنه قد اخبر والدتهما بكل ما اخبرته به "فيروز" الذي لا يعلم ما هو حقًا وامتعضت ملامحه في تقزز وهو يشعر وكأنه وقع في ورطة جديدة عليه تمامًا..

هو بالكاد يحاول تفهم تلك المشاعر الخاصة بالأسرة والأخوة والأم وكل تلك التراهات ويرغم نفسه على تقبلها والآن عليه التوسل لشيء لا يفهمه بالحقيقة ولا يفعله سوى لأنه الصائب فحسب!

عاد ليتذكر حديثه مع "فيروز" وما دار بينهما من كلمات، لتترقرق الدموع بعينيه، الوحيدة على سطح الكرة الأرضية التي تجعله تبكي، الوحيدة التي يشعر معها بالمشاعر، سواء حب، عشق، احتياج، رغبة، لا يدري كيف! 

لماذا مرضه العظيم الغائر الذي لا يُشفى منه منعه عن الشعور بكل المشاعر سوى معها هي وحدها؟ لماذا كان عليه الوقوع في عشق مُعالجة نفسية استطاعت ببراعة أن تصل معه لكل صدماته التي كان مُغلقاً عليها منذ اعوامٍ سحيقة؟ لماذا اختارها هي فحسب؟ 

يا لفرحتها لو تعلم كيف يُفكر الآن لكانت علمت انها نجحت معه، نجحت بكل ما ارادته يومًا ما، هو يُفكر بطريقة لا يُفكر بها سوى الأخصائيين النفسيين والمعالجين بل ويقتنع بكلماتهم جميعًا.. تلك المرأة كالفولاذ، أقوى منه، لا تفشل في شيء.. تنجح بكل اهدافها ومقاصدها وهو الذي فشل في أن يُحافظ على إمرأة.. فاشل.. خائب ولم يُفده ذكاءه في شيء!

هل يبكي؟ يبكي من جديد؟ وصل أنه جالس بسيارة قد تؤول ملكيتها لها بالغد؟ وصل إلي نقطة الصفر.. خائف من أن يذهب لوالدته التي قد ربما يكون نمى إلي علمها أنه رجلٌ مجرم وقاتل ومغتصب وملحد؟ 

اخته التي اجبر نفسه على التحدث معها هي وزوجها ولاطف ابنتها وهو لا يشعر بأي مشاعر تجاهها إذا ذهب إليها الآن قد تكون علمت الحقيقة وهي التي كانت رافضة كل الرفض بأن يقترب من "فيروز" منذ البداية! يا لسخرية القدر منه! 

الآن يتذكر كلماتها، عندما اخبرته أنه هو وهي لن يستطيعا أن ينجحا بهذه العلاقة، يتذكر كل حرف اخبرته به يومًا ما، لقد حدثته بمنتهى الصراحة ليتذكر كل كلمة الآن وهو بواحدًا من الشوارع بمفرده لا يملك شيئًا على الإطلاق..

- شهاب أنت متعرفش فيروز.. استحالة تعرفها زي ما أنا اعرفها.. لا دي فيروز بتاعة زمان، ولا عمرها هتكون.. شهرين مش زي سنين أبدًا! أنا معرفش فيه ايه ما بينكم غير الشغل وانكوا بقيتوا اصحاب.. بس نصيحة مني بلاش تقرب اوي منها! مجرد نصيحة وافتكرها كويس اوي، انت وفيروز عمركوا ما هتتفقوا.. اخركوا هيكون الشغل بس، اكتر من كده بلاش احسن!

ابتسم في حقد ومقتها بنظرة لا تتحدث سوى بالكراهية الشديدة وتحدث هازئًا:

- ودي بقى هبة اللي عارفة كل حاجة الطيبة العاقلة اللي فاهمة كل الناس علشان كده لازم تتصرف والناس تعمل اللي تقول عليه! زي ما كنتي عايزة تعملي مع هاشم ووالدتك!

رفعت احدى حاجبيها في سخرية لحديثه عن والدتهما بهذه الطريقة ونظرت له بتماثل شديد وتصدت له متحدثة في ثقة:

- أنا معرفكش.. بس عارفة صاحبتي، وأعرف أخويا وأعرف ماما كويس اوي! والجو اللي انت عامله ده لا هيفيدك ولا هيفدنا بحاجة.. وصدقني بكرة هتيجي تقول الأول كان احسن! مفيش حاجة هتتغير يا شهاب.. أنا فهمتك من يوم الخطوبة والعربية والهدايا وعيد الميلاد والعزومة وكل ده أنا فهمته كويس.. انت عايز تسيطر على كل اللي حواليك وتثبت إنك احسن من الكل بأي طريقة.. سميها بقى اسرار المهنة.. بس كل ده..

توقفت وهي تشير بسبابتها وعينيها ثم تابعت بخفوت وضيقت عينيها متفحصة اياه:

- مش هاينفع! صدقني مش هيفيدك ولا هيفدنا!

لقد كانت مُحقة بكل حرف، كل كلمة، وكل ما قالته كان صحيحًا.. لم يُفيد كل ما فعله، لم ينفع معها ولا مع أُسرته ولا معه هو نفسه!! 

يا ليته استمع لتلك الكلمات وعمل بها.. اليوم في هذه الليلة هو وصل لكل ما جلس لسنة بأكملها يحاول أن يصل لأنه هو وحده هو الصحيح والجميع كانوا خطأ! السيكوباتي لا يستيقظ إلا عندما يجد نفسه بمفرده! 

لا أُسرة، لا عمل، لا شيء.. بكل ما تحتوي عليه الكلمة من معانٍ لا شيء.. اهدافه قصيرة المدى مثلما قالوا، والآن هو فقد كل شيء في خضم هدف آخر قصير المدى بأن يحصل على عشق إمرأة، ولكنه هذه المرة يخسر بمحض ارادته! 

له أن يوقف إجراءات نقل كل ما يملكه لها، له أن يؤذي الجميع، يستطيع بمكالمة واحدة إلي "كلوديا" العودة لمجرم ذكي قادر على فعل الكثير ولكن ما الفائدة؟ 

ما فائدة فعل الشر؟ ما الذي حصده من كل افعاله؟ لا شيء.. ليس هناك مبررًا يستطيع أن يقتنع به بداخل عقله بكل الشر الذي فعله لسنوات.. 

ويا ليته أدرك ذلك ولكن الوقت قد فات! تأخر للغاية، تأخر سنوات.. تأخر ستة وثلاثون عامًا.. يسأل نفسه الآن لماذا لم يبحث عن والدته منذ سنوات؟ يسأل نفسه لماذا اختار المافيا بدلًا من العمل الشريف؟ يتسائل لماذا انتقم، يحرق البشر ببشاعة، يغتصب ويُجبر النساء، يهدد الجميع وينتقم مرة واثنان وثلاثة! 

لمن يذهب؟ لم يعد بجانبه شخص واحد.. حتى من اراد أن يُساعده.. "بدر الدين" بكل الأذى الذي سببه لعائلته وله لن يستطيع أن ينظر بعينيه.. يا له من رجل ذكي استطاع ان يعالجه ونجح فيما اراده.. الآن يشعر بفداحة ما ارتكبه.. لن يستطيع الكذب مرة اخرى! 

والآن "فيروز" تريد الابتعاد، يكرهه الجميع، الجميع بلا استثناء يريدون التخلص منه، هذا هو مرضه الذي لم يقتنع به وبات اليوم في هذه اللحظة يُصدق كل ما قاله الجميع! لقد اصبح وحيدًا.. سواء بسبب افعاله أو بإرادته هو وحيد دون أحد ليؤذيه أو احد يستغله لما يُريد تحقيقه.. 

قتله الإدراك.. قتله ملايين المرات وهو يبكي على اللبن المسكوب في وحدته وخوفه وعدم استطاعته أن يفعل المزيد.. هو ببساطة وصل إلي الحضيض! 

أدرك أن الشر نهايته العذاب، يتعذب في الدنيا به ويشعر بالآلم، ولكن هل ذلك سيخفف عنه عذاب الآخرة التي بات مؤمن ومصدق بها؟ هل سيعذبه الله على كل ما فعله؟ هل سيُحاسب على كل مرة حرق به جسدًا أم أنه الوحيد الذي سيغفر له؟ ربما يستطيع أن يسامحه ويغفر له.. لقد كانت مُحقة يومًا ما عندما اخبرته أن يتوب ويُصلي ويؤمن ويشكو له كل ما لا يستطيع البوح به لأي إنسان.. 

يا ليته فعلها وقتها.. هو الآن يُدرك أن الله وحده من خلقه يعلم أن ما بداخله قد تغير، أنه سيبتعد عن الشر للأبد.. هو من يعلم الخفايا وحده.. ولن يُصدقه غيره خاصةً بعد أن ابتعد الجميع عنه، وبعد أن ادرك أنه وحيد لا يستطيع المواجهة! 

استيقظ متأخرًا بعد فوات الأوان! 

يريد أن يتحدث لها، سيُقنعها من جديد بألا تتركه، مرة واحدة فقط علها تُسامح، سيقنعها بأن الله يغفر ويُسامح لذا عليها تقبله هي الأخرى.. حتى ولو تريد أن تُلقي به في واحدة من المصحات خارج البلاد.. ولو دام الأمر لسنوات ولكن ربما بعد العلاج المُكثف قد يصلا للسعادة.. حتى ولو بعد سنوات لن يعيش معها سوى شهور تعد على اصابع اليد الواحدة هو يوافق تمامًا.. 

ابعد دموعه عن عينيه وهو يتفقد هاتفه ليتصل بها ولكنها لم تُجبه، مرة واثنان وثلاثة وليس هناك إجابة.. أدرك أنه يهاتفها على الرقم الجديد فحاول أن يتصل على الرقم القديم ليجدها ترفض الإتصال.. فعلتها مرة واثنان.. اتصل بها للمرث الثالثة لترفضه من جديد وقبل أن يتصل للمرة الرابعة وجد إشعارًا من واحدًا من مواقع التواصل الإجتماعي من حساباتها وقرأ الإشعار..

"لقد قامت فيروز عبد الحي بنشر صورة جديدة" 

ابتلع دموعه وهو يتفقد تلك الصورة التي تجمعها بصحبة ابن خالتها جالسًا بجانبها على نفس الأريكة التي كان يجلس عليها هو نفسه منذ قليل وكتب عليها بصحبة وجوه ضاحكة:

- الذكريات دايمًا حلوة لما ترجعوا للسهر والفرفشة والضحك والهزار مع الناس اللي بتحبوهم.. بس اختاروا ولاد خالة ميسبكوش ويناموا منكم وسط السهرة!! اعتراف مني بالصورة دي المرة الجاية مفيش سهر معاك يا عمرو!

ولم تنس أن تشير بصحبة هذه الصورة إلي حساب ابن خالتها!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

سيتم نشر الفصل القادم بتاريخ الأحد 14 مارس 2021  على مدونة رواية وحكاية وبعدها بأربعة وعشرون ساعة على الواتباد ولو تم الإنتهاء منه قبل التاريخ المذكور سيتم نشره..