-->

الفصل الحادي والثمانون - شهاب قاتم

  


- الفصل الحادي والثمانون -

     

- لم يكن أي شيء من العالم أجمع أهم من سعادة ابنتي، مع أنني لم أفهم قط لماذا كانت تختار على الدوام الدروب الأصعب والأكثر إيلامًا. لكن لا ينبغي للأم أن تفهم كل ما يجري. عليها ببساطة أن تُحب وتؤمّن الحماية، وأن تشعر بالفخر. 

 انطلقت مُبكرة في البحث عن استقلاليتها. كانت لها عثراتها وإخفاقها، لكنها أصرّت على التفرد في مواجهة أي عاصفة.

(ساحرة بورتلاند - باولو كويلو)

     

بجانبه.. اقرب إليه من الحائط المُقابل لفراشه المهترئ داخل اكذوبة سجنه.. رأى السماء بلون أعين جديدة تقارب لونها المُلبد بالغيوم.. شعر بالهواء الشديد والبرودة.. رآى ناس من جديد سوى وجه المحامي، الحارسان، المعالج و "مُعاذ" .. 

لا يُصدق أن بعد ما يُقارب من عام مثل تلك الأشياء الزهيدة يشعر بإختلاف لرؤيتها.. وها هي جانبه، حية وتتنفس ولكنها كالجماد لا تجيبه ولا تغادر شفتاها كلمة واحدة.. 

شعر بالسخرية على حاله وهو يهرب بتلك الرأس الحليقة والأعين الزرقاء المُزيفة واللحية المُهذبة.. عكاز طبي يُساعده على التنقل.. بدلًا من الإستناد على جدران ممر السجن، السجن المُزيف الكاذب.. يا للسخرية.. ما الذي بات حقيقيًا في هذه الحياة وما الذي اصبح خادعًا؟ 

أهو بحلم يرفق به لتلك الشهور التي عاشاها وحده؟ اهذه قمة العلاج؟ أن يرى كل تلك التفاصيل وهو يُصدق انها حلم جميل؟ لا تزال حية ولديه ابنة لم يعرفها بعد واستطاع الهروب لخارج البلاد بصحبتهما وبصحبة عصا طبية تُساعده على السير! 

اهي رحمة من الله؟ هل هذا يعني أنه قبل توبته وغفر له واستمع لكل ذلك الدعاء وهو ساجدًا يبكي كوليد بعناق والدته؟ هل تقبله اخيرًا؟ هل بات على وفاق معه الآن؟ ربما أن هذا ما يفعله.. يُعطيه حياة أخرى كعلامة ودليل أنه تاب عليه وسامحه! اخيرًا قد قبل توبته ودعاءه وتضرعه إليه.. يا له من غبي.. يا ليته فعل هذا من قبل مثلما اخبرته هي يومًا ما!

اخيرًا وصل ثلاثتهم لتلك الطاولة باحدى المقاهي المتواجدة بالمطار ليجلس بعد مشقة من نزوله من الطائرة في احدى محطات التوقف.. فالطائرة الأخرى لا يزال لديها ساعات.. لذا لن ييأس طالما لا يزال وقتًا.. 

تفقد ملامحها التي ظهرت من اسفل تلك النظارة السوداء التي تتخذها درع كي يحميها من عيناه.. هو يحفظها.. يعرف انها لا تود أن تتحدث وتتوارى عنه بشتى الطرق.. ولكنه يعلم انها لطالما واجهته بالنهاية.. 

كانت تأخذ وقتها دائمًا وفي النهاية تُحدثه.. تصدقه وتعاتبه وتلومه.. وبعد حديث طويل تُسامح! لطالما سامحته.. وهو لن يتوقف قبل أن يعلم أنها سامحته! 

ابتلع من جديد وتنفس بعمق ليشرع بالحديث مرة اخرى بنبرة متوسلة:

- مش هتردي عليا! فيروز ارجوكي قولي اي حاجة! 

تنهدت في إرهاق ثم اخفضت رأسها لتطمئن من نوم ابنتها التي تضمها إليها ثم رفعت رأسها إليه لتلاحظه بملامحه الغريبة عليها خلال قتامة ضئيلة تحجب اعينهما على التواصل معًا وحاولت التغلب على آلام تفتتها حتى تُصبح دمار لن يرمم أبدًا لتهمس وهي تُصحح له:

- روز.. روز جايكوب.. مش فيروز.. لازم نبتدي نتعود من دلوقتي.. 

رطبت شفتاها وهي تشعر بالقهر من مجرد اسم جديد لا يُمت إليها بصلة ولا تعرفه حتى وحاولت التماسك لتسأله:

- عايز إيه؟ عايز نتكلم في ايه؟

إنكسار وبأس.. قوة وضعف.. انهزام وانتصار.. نبرتها حملت الكثير.. ها هي بصلابتها تجلس تحتمي بذلك الكيان الصغير بين ذراعيها ولكنها مظلومة قوية! كيف اضاع مثل تلك المرأة بكل ما هي عليه من بين يداه؟

ندم خالص شعر به الآن.. يا لفرحة كل معالج جلس معه.. بداية بها ونهاية بذلك الرجل ذو اللحم الكثيف الذي عالجه لأشهر بسجنه الكاذب.. 

نظر إليها بملامح حزينة ثم همس لها بندم:

- أنا آسف.. آسف على كل حاجة عملتها.. آسف على كل أذى أذيته ليكي وكل مرة قولـ..

قاطعتها بنبرة متألمة وهي تتنهد بوجع بتر روحها كخنجر حاد سام لا يكف عن تمزيقها:

- ما خلاص بقى.. كبرنا انا وانت على الأسف.. مبقاش فيها آسف وهتغير وآخر مرة.. مبقاش ينفع.. ده أنت حتى بقيت أب وراجل عاجز.. لو الكلام يقدر يغير الحقيقة كنت سمعتلك.. إنما مبقاش ينفع خلاص!

اخترقته كلماتها بُصحبة ذلك الصوت الذي غادر حنجرتها ولأول مرة في حياته يستمع إليها وهي بذلك الوهن الذي حمل بثناياه كل ذرة قوة لينعقد لسانه وهي لا يدري ما الذي يُقال.. اقنعته هذا اليوم اكثر من أي يوم سابق مر عليهما معًا ليبتلع في آلم وكاد أن يبكي ولكنه منع نفسه بأعجوبة ليهمس متكلمًا:

- أنا بجد مش فاهم حاجة.. أنا بعمل بس كل اللي بتقولي عليه لأني عارف ومتأكد إنك صح.. عارف وواثق إني غلط وغلطت وظلمت وكل ده اتردلي فيكي.. واثق  إنك مبتكدبيش ولا تخوني!

فرت دموعهما سويًا بمجرد نطقه لتلك الكلمة ليتذكر كل منهما معاناته في صمت ولكنها جففت تلك الدموع التي انهمرت بينما لم يكترث هو ليتوسلها متسائلًا ودموعه لا تتوقف، ولكن ليس لإستعطافها ولا شفقتها، بل لشعوره بفداحة ما ارتكبه:

- قوليلي إذا كان كل اللي عيشته السنة دي كلها كان كدب؟ زي السجن وإنك ميتة؟ زي إنك سامحتيني وكنتي عايزاني اربي بنتنا؟ كل اللي معاذ قالهولي.. كل التوبة واني بحاول اتعالج.. قوليلي إن كل ده مكنش كذب.. قوليلي إن اي حاجة فيه كانت حقيقة! ارجوكي انا حاسس إني في حلم وهاصحى منه! من ساعة ما شوفتك لغاية دلوقتي.. 

تريث ليحاول التنفس بين بكائه الذي توالت به دموعه لتبلل لحيته وملابسه لتنظر له متألمة ليُتابع:

- أنا خايف.. خايف كمان ساعة افتح عيني بعد كل اللي عرفته ده والاقي نفسي في نفس الزنزانة واشوف مُعاذ تاني.. طمنيني ان اي حاجة من اللي بتحصل دي بجد مش بتخيل ولا بحلم!

 هل شعرت باشفقة لأجله؟ هل تستمع لكلماته بصحبة كل تلك الجلسات التي استمعت لها؟ هلى بكائه الآن أبلغ من كل مرة بكى بها وحده بتلك الغرفة وأي مرة بكى أمامها؟ هل هناك تغير؟ يا للسخرية.. الإجابة هي نعم!

تريثت وهي تتنهد وتحاول بمشقة ألا تتألم على ما تراه امامها وهي تدرك ما وصل إليه كلاهما.. هي جالسة تنزف آلمًا لا ينتهي بل يزداد كلما نظرت إليه.. وهو كالعصفور الصغير المبتل يرتجف خوفًا.. 

لن تهد ما حاولت تشييده منذ اكثر من عامان، لن تفقد كل هذا التقدم.. ليس من اجلها ولا من أجل مثاليتها اللعينة ونهمها في النجاح منقطع النظير.. بل من أجل ابنتها ومن أجل أيام قادمة ستسأل يومًا ما سؤال لا تعرف كيف ستجيبه.. ألا وهو، أين والدي؟! 

تناولت نفسًا مطولًا ليكف هو عن بكاءه.. يعرف انها ستقول شيئًا مرعب.. بعض العادات لا تتغير أبدًا حتى ولو تلاقى السماء والأرض، والشمس والقمر.. والموت والحياة.. كل نفس بشرية لو حدث لها المستحيل سيظل بها ما لا يتغير أبدًا.. جعله ذلك لوهلة يعرف الحقيقة.. ربما سيتغير وقد تغير بالفعل ولكن سيظل بداخله بعض العادات التي لن تتغير أبدًا.. وبها هي كذلك! 

اعتصرت عينيها وهي تزفر ما حبسته في رئيتيها منذ ثوانٍ وهي تحاول أن تشحذ همتها وتستلهم قوتها من تلك الصغيرة بين ذراعيها لتحدثه مُجيبة على تساؤلاته، وعلى ما لم يصغه ولا يعرف كيف سيصوغه، وعلى تاريخ كامل بينهما تعرفه جيدًا وتحفظه عن ظهر قلب ولن يتغير إلا بمعجزة إلهية تمنت أن كلماتها التالية قد تحققه:

- أنا عارفاك وعارفة الحوار ده هيخلص على إيه! عارفة إنك هتتآسف وتقول سامحيني وإن المرة دي غير كل مرة.. بس خلينا نخلص كل حاجة حالًا.. كل الكلام الكتير إللي قولته واللي مقولتهوش.. خليه يكون آخر كلام ما بينا والله اعلم هنكرره تاني بعد قد ايه ولا يمكن منكررهوش.. خليني أسأل سؤالك بلساني وارد عليه برضو بلساني علشان منسيبش حاجة واقفة في النص.. منسيبش أمل لحاجة مش هتحصل.. 

كفياني أذى وظلم ليك ولنفسي ولبنتنا اللي ملهاش ذنب في حاجة.. كفايا كذب ووعود وآمال عمرها ما هتتحقق ومش في مكانها ولا هي حقيقة.. ما انت عارف أنا المرة الوحيدة اللي كذبت فيها كذبة بيضا والأمل اللي اديته ليك ولنفسي وصلنا لإيه.. اديك شايف! 

انهمرت دموعها في لحظة من تريث مؤلم تحاول أن تجمع به شتات نفسها، الضعف لم يعد اختيار لها، لقد باتت أم ووالدة، بالسابق كانت الفتاة التي تستطيع أن تُنكر وتبكي وتهرب.. أما الآن عليها أن تكون اقوى النساء كي لا تُظلم هذه الصغيرة.. بكائها وضعفها امامه لن يُفيدها هي في المقام والأول ولا ابنتها التي لا ذنب لها بشيء..

رطبت شفتاها وهي تحاول أن تتغلب على ملوحة تلك الدموع لتهمس:

- كل اللي حصل ولغاية دلوقتي كل ده كان حقيقي.. أنا فعلًا كنت ميتة.. لأ أن مُت وشوفت الموت.. سواء وانت بتعذبني من أول جوازنا لغاية آخر ليلة! انت موتني آلف مرة! وأنا وانت عارفين ده كويس.. ملوش داعي نعد مواقف! 

زفرت بحرقة لتهزم احدى شهقاتها في أن تهرب من بين شفتيها التي ارتجفتا في صعوبة ولكنها جففت دموعها لتُكمل بمنتهى الصلابة والبأس ولم تكترث لنحيبه الذي انفجر فجأة بسماعه لما قالت:

- الموت كان حقيقي والورق مضروب.. محصليش اجهاض بس كنت بنزف من كل جسمي وانا داخلة المستشفى.. بنزف وجع وحب حبيتهولك.. بنزف كل امنية كان نفسي تتحقق بإني اشوفك كويس.. كنت بنزف وأنا بسمع لكلام المذيعين والسوشيال ميديا عن الست الخاينة اللي خانت واحد متهم في قضايا كتيرة.. بس اللي خلاني اثبت وابقى قوية هو كاميليا! 

كاميليا هي الحقيقة في وسط الكذب ده كله.. كاميليا اللي خلتني ابقى جامدة ومخافش واحاول الاقي حل واجمد.. بنتك وبنتي هي اللي ساعدتنا! 

لو سؤالك إن كل ده حقيقي ومش بتحلم فهو فعلًا كل ده حقيقي.. احنا اهو في مطار برا البلد.. بعيد عن مصر وايطاليا والقضايا والتهم والفضايح والانتقام والوجع والموت والسجن والعذاب اللي كنا عايشينه! مكان جديد احنا التلاتة قاعدين فيه بس حقيقي وبجد.. بعيد عن الموت واقرب خطوة للحياة!

لوهلة ذلك الإدراك الذي اندفع بعقلها جعلها تستكين ولكنه فشل في أن يُسيطر على بكائه، هدوءها اللحظي جعلها تثابر لتُكمل ما ودت قوله عله يُشفيها قليلًا وتستطيع أن تُعزي به نفسها في سنوات قادمة مُختبئة بغيوم ماضٍ قاسٍ لا تستطيع رؤيته خلاله ولكن وثقت أن ربما تلك المُحادثة بكل ما تحويه من مُعاتبة وآلم ستساعدها في أن تكون اقوى لاحقًا فتابعت بهمس ينهش بروحها مع كل كلمة تغادر شفتاها:

- نيجي بقى لأسئلتك اللي متأكدة إنك هتسألها.. مسمحاك أو سامحيني أو سامحتيني! أنا عارفة إنك هتسأله وهتتحايل وتعيط وتتوجع بس خليني اجاوبك واقصر عليك الطريق.. 

أنا سامحتك.. سامحتك مليون مرة.. ولسه فاكرة كل مرة سامحتك فيها من أول يوم شوفتك فيه اللي سرقتني فيه الساعة.. لو عايزني اعدلك بالمواقف سامحتك قد ايه هاعدلك.. 

هزت رأسها بآسى ولانت شفتاها بمرارة واردفت:

- بس تعرف.. من كتر ما سامحتك قلبي قسي.. قسي اوي ومبقاش قادر.. مظنش إنك مستني اسامحك وابصلك واضحك في وشك واقبلك.. 

لكن اقولك مفاجأة.. اعتبرني مسامحه على كل حاجة.. وهسامح اكتر.. هاقبلك واضحك ليك واتبسط إني اعرفك.. هابص في وشك ومش هاشوف الراجل اللي ظلمني ووجعني وخلاني واحدة معرفهاش لا في المراية ولا جوايا.. بس تعرف كل ده هيكون امتى؟! 

يوم ما ابصلك واشوفك أب بجد، لكن قبل ما ده ما يحصل عمري ما هاقدر اسامح!

نظرت إليه وهي تعلم أن الأمر مشروط ولعلها ستكون هي الدافع من جديد لتُغيره ولكنها لن تقبل بحياة قاسية لإبنتها فتابعت وهي تحاول أن تتمسك بكل الأسباب التي ستدفعه لإمتثال اقصى درجات العلاج والتغير:

- عايزة اشوفك أب بتحمي وتتحمل مسئولية وبتحب بنتك.. مش كرم الدمنهوري اللي رمى ابنه في الشوارع، ولا آمال اللي قالت انا ماليش ذنب ومعرفتش اوصل لإبني.. لما اشوف الراجل اللي جواك بيحارب علشان بنته وعلشان يربيها تربية سليمة وسوية ومحسسها بالأمان والحب.. يومها هسامحك بجد! ولا تحب تعيد تربية شهاب الدمنهوري تاني؟! 

ابتلعت متألمة بتلك الملامح التي ارتسمت على وجهه عندما ذكرته بماضيه الأسود الذي يكرهه هو نفسه اكثر من أي احد فطرقت على الحديد وهو ساخن علها تستطيع أن تُلينه وتُلين قلبه النابض بداخله لتلك الفتاة التي لا ذنب لها في شيء:

- أم مفضوحة بس مش في الحارة، لأ، العرب كلهم تقريبًا يعرفوا إن فيروز عبد الحي خانت جوزها اللي موتها وموت عشيقها في سريرهم.. أب بخيل وطماع.. بس البخل مش بخل فلوس ولا جشع في شوية شركات ومباني.. البخل في إنك تبخل على نفسك.. بخلت على نفسك تكون محترم.. 

كام ست نمت معاها؟ كام واحدة اذيتها؟ طمعت في فلوس حرام ومش مشروعة بالخراب للدنيا كلها.. ضحكت على عقول الناس زي ما كرم الدمنهوري ضحك عليك.. تخيل اني لو كنت استسلمت كان زمان بنتنا هتواجه نفس اللي عيشته زمان؟ إيه رأيك في كلامي؟ مش صح؟ مش كل اللي حاربت فيه ده طول السنة دي كلها كان أأمن حاجة لبنتنا؟ 

لو كانت ليك أم بتحاول زي ما أنا ما بحاول دلوقتي كان زمانك بقيت راجل تاني بحياة تانية؟ وريني بقى لو عايز اسامح راجل بجد.. راجل بمعنى الكلمة يُعتمد عليه بيحافظ على بنته وبيعافر علشانها! 

سكتت لوهلة وقد توقف هو عن البُكاء لتستلهم المزيد من القوة على الإستمرارية واستطردت بعدها كي توضح له المزيد، فهي تُريد أن تُغيره من اجل نفسه ومن أجل ابنته وليس لها أبدًا:

- لو إني اسامح فالموضوع سهل.. أنا يمكن مسامحة بدر الدين اللي بسبب كلمتين وقت هزار هو ومراته خلوني اقبل اقرب منك واعرفك.. بس إني ارجع واعرفه واتعامل معاه مبقاش ينفع.. 

أنا مسامحة نفسي إني اختارتك بس إني اختارك تاني مبقاش ينفع! في يوم هسامحك .. حاضر .. الوقت يمكن يكون دوا لكل جرح جوايا.. 

بس تعرف إني كل جرح جرحتهولي كنت بخسر معاه حتة في قلبي ليك.. جرح قصاده جزء من قلبي كان بيموت.. يمكن اسامح بس السماح مش هيرجع قلبي اللي كان بيحبك.. اصل القلب يوم ما بيتعب مبيرجعش عمره زي الأول! 

انهمرت دموعها وفعل هو الآخر مثلها وكلاهما يدركان كل كلمة نُطقت من شفتاها، يتقبلا الأمر الواقع، لقد فرغ هو من كل الأسباب المُقنعة بأن يجعلها تُسامحه وتغفر له وتعود له، ولقد فرغت هي من عشقها اياه.. لم يعد بداخلها نفس المشاعر أبدًا.. لقد ذهبت مع تلك الرياح التي هبت بيوم عاصف لتتركها خاوية تمامًا! 

تنهدت علّ تلك الأنفاس تُسكن جروحها ولكن لم يُفيدها لتهتف بهمس:

- طب اقولك.. أنا مسمحاك.. يالا اهو يمكن سبب ربنا يردوهولي في بنتي ويصلح حالك.. لأن هو الوحيد اللي قادر على كل حاجة.. 

بس تعرف! حبي ليك كراجل وزوج وحبيب مش هاقدر الاقيه جوايا.. لأن ببساطة كل جرح اخد حتة من قلبي وموتها لغاية ما انت قضيت عليه في الليلة اللي صدقت فيها إني ست خاينة.. في الليلة اللي قضيت عليا فيها! 

امتزج النحيب بنبرتها ليقتله آلاف المرات بداخله وهو يرى آلامها لا تندثر بل تتفاقم وهو كالطفل الصغير امامها يبكي أمام جثة والدته لا يعرف كيف عليه التصرف، فلقد غادرتها الحياة وانقطعت عنها الأنفاس ولا يدري ما الذي عليه فعله بينما هي كانت تُحاسب على ما اقترفته من خطأ بحق نفسها وبحقه هو الآخر لتُردف باكية:

- أنا قلبي مات بسبب الحب وبداله ربنا عوضني بكاميليا اللي زي ما تكون قلب جديد صافي بدل اللي مات واتقضى عليه.. تقدر بقى تقولي ازاي بقلب طفلة منك احبك وارجعلك تاني كراجل وزوج وحبيب؟! 

انتظرت لتستمع إلي اجابته وطال انتظارها.. لم يعد يملك المزيد من الكلمات وهو امامها يشعر بالخزي والندم الخالصان على كل ما فعله بنفسه وبها لتجرف آلام كلًا منهما في شلال لا ينقطع من دموع وعبرات فشل كلاهما في التغلب عليها لتُصبح معركة خاسرة لكلاهما في محاولة استرجاع عشق لم يكن صائبًا منذ البداية لتهمس هي من جديد بحسرة:

- حبي ليك ورجوعي ليك ده إذا حصل وكان في يوم من الأيام هيكون حبي لأب ولصاحب، ده اذا كنت في يوم أب وصاحب لبنتك قبل اي حد تاني!

اعادت ظهرها بكرسيها وحاولت أن تتوقف عن البُكاء وضمت ابنتها إليها اكثر لتتذكر أن كل ذلك من اجلها هي فقط دون الجميع، حتى قبلها هي نفسها وقبله هو وأخذت تُعزي نفسها بإمتلاكها لقطعة صغيرة منها ودماء تسري بعروقها مختلطة بدمائه هو الآخر علها هي من تستطيع مواساة كلاهما وتكون مُعجزة حقيقية في أن تُعالج كلاهما وتداويهما بكل ما افتقرا له! 

تفقد ملامحها بشعرها الأشقر الذي لم يعرفه يومًا وهي تعانق ابنتهما ونظر إليها ليشعر بخيبته الشديدة التي لا توصف ولكن عقله لا يزال مُنكرًا.. بالرغم من كل ما استمع له كان حقيقيًا للغاية ولكنه قد عشقها، لقد شعر بعشقها له هي الأخرى، كيف ستكون هذه هي النهاية لكلًا منهما؟ أكلماتها تعني أنه يستحيل أن يكونا معًا يومًا ما؟ حتى ولو بعد عشرات السنوات، حتى ولو ادى دوره كأبٍ وصديق، هل سيفقدها حقًا بعد أن وجدها امامه حيةٌ تُرزق؟ 

ارتجفت ملامح وجهه واجهش بالبُكاء ليتسائل بصوتٍ مُهتزٍ من آثار شهقاته وأحرف مُتلعثمة:

- بس احنا كنا بنحب بعض في يوم، حبنا كان حقيقي، حبنا ده كله بكل اللي عدى عليه واننا بقى عندنا بنت ميغيرش كل حاجة؟ للدرجة دي محستيش مني بأي حب؟ حبنا مش كفاية نكمل بيه في يوم وحتى لو بعد سنين؟ مش كفاية إنه يغيرني ويغيرك ويغير كل اللي حصل؟! 

التهم شفتاها ابتسامة ساخرة بشجن وحسرة وانهمرت دموعها من جديد لتهمس مجيبة:

- حب إيه اللي يغير اللي حصل ولا يغيرنا! كان غيرني وغيرك زمان.. لو على مجرد الحب فهو موجود.. موجود جوايا لبنتي وأبو بنتي وبس!

صدقني إني حتى مبقتش احب نفسي، مبقتش قادرة إني احبها بعد كل الظلم اللي ظلمته لنفسي.. قسيت عليها اوي وخليتها تستحمل كتير.. من ساعة ما ماهر مات من سنين وأنا بقسى على نفسي لغاية ما خلاص مبقتش احبها.. 

عمالة اؤذي فيها، ظلم وقسوة وتحمل لما خلاص بقيت ببصلها في المراية لا تعرفني ولا اعرفها.. لا منها غريبة عني ولا منها قريبة مني وبحبها! 

ما هو طول ما الواحد مش عارف يحب نفسه عمره ما هيعرف يحب غيره بجد.. لازم نحب نفسنا الأول علشان نحب غيرنا.. وده أنا وانت فشلنا فيه من زمان اوي! احنا منعرفش نحب بعض اصلًا..

تنهدت بإبتسامة ونظرت إلي ابنتها لتهمس بمصداقية:

- أنا مبقتش مسنودة غير على حبي لكاميليا، لكن اللي يساوي حبي ليها هو احساس تاني جوايا، الندم!! ندمانة على كل يوم وساعة ولحظة ضيعت نفسي فيها سواء معاك ولا قبلك.. وغير الندم وحبي لبنتي حبي لراجل مبقاش ينفعني خلاص! 

اكتر من اني أم وبحب بنتي مبقاش فيه مسمى للحب في قاموسي.. أي تعريف في الدنيا للحب بقى بنتي وبس! بنتي اللي يمكن ربنا نجاني وقدر يزرع حبها في قلب مات واتدمر وعانى واداني القوة بسببها إني اكمل.. علشانها مش علشان حد ولا حتى علشان نفسي.. 

تفقدته من اسفل نظاراتها التي تحول التقاء اعينهما كما حُجبتا داكنتيه خلف تلك العدسات الزرقاء التي لم تعرفها بعد ولا تعتاد رؤيته بها لتضيف من جديد وهي تحاول الهامه اي اسباب من دورها تجعله أب يعشق ابنته يومًا ما فهمست:

- انا مكملة علشانها وعلشان حبها، عندي ثقة في ربنا إنك تكون احسن وتكون أب بجد.. ربنا مش بعيد عليه يوجد ويخلق جواك مشاعر علشان بنتنا وليها.. ده الحب اللي يمكن يبقى موجود ويقدر يغيرنا بجد.. 

لكن أي حب تحت مسمى تاني أنا معرفهوش، واي حب بيني وبينك غير لبنتنا مش هيفيدك ولا هيفدني بحاجة.. أنا ظلمتك زمان لما ابتديت علاج معاك بالطريقة الغلط وحبيتك واستعجلتك وضغطت عليك وانت اظن ظلمتني بما فيه الكفاية.. 

حبها.. حاول تتعلم تحب بنتك وجزء منك وحد بريء ملهوش ذنب يمكن في يوم اقدر انسى كل حاجة، وانت كمان تنسى وتبتدي بحبها من جديد.. ياريت تكون ليها أب وراجل كويس تعتمد عليه.. خليني في يوم احس إني سامحت راجل بجد حارب وعافر علشان بنته ومين عارف يمكن نكون في يوم فخورين بيك انا وهي انك في حياتنا! 

لكن حبنا لبعض مش هيجي من وراه غير القسوة واللوم والوجع.. مبقاش ينفعنا خلاص!

بدأت "كاميليا" في الإنزعاج والبُكاء لتنتبه هي على صوتها فأخذت تحاول أن تُهدئها وأدركت أن عليها اطعامها فنهضت لتقول:

- اظن اذينا بعض بما فيه الكفاية، أنا ظلمتك وانت ظلمتني.. وقولنا كل حاجة ممكن تتقال.. فكر في كلامي كويس.. وخد بالك الباسبور وكل ورقك معايا والفلوس كمان وانت بقى فاهم وعارف إن الموضوع هيبقى صعب في بلد غير البلد وحد بأوصافك سهل نلاقيه ونوصله.. هاروح أأكلها وارجعلك.. يا راي! 

شددت النطق على مناداته بهذا الإسم حتى يبدأ في التعود عليه لتذهب هي وأخذت تراقبه بتمعن من على مسافة لترى ما الذي سيفعله وبنفس الوقت تحاول أن توقف ابنتها عن البُكاء.. 

دفن وجهه بين يديه وشعر بصداع شديد يقسو على رأسه دون هوادة.. ادرك بفعل كلماتها أنه فقدها للأبد، فقدها حيث اللارجعة، لن يستطيع أن يستعيدها.. ما الذي سيقوله ليُقنعها أن تعدل عن قرارها بشأن حياتهما معًا يومًا ما، رآى رفضها التام هذه المرة، رآى أنه قد فرغ من كل الأسباب التي من دورها ستجعلها تعود إليه، يكفي فقط أنه صدق بلحظة أنها خائنة وسبب لها عذابًا آليمًا لن تبرأ منه أبدًا..

رآى اليوم كل ما فعله في حياته اجتمع بأكمله لينعكس عليها وعلى ملامحها، رُد إليه كل ما فعله ظُلمًا لكل الناس، وكما رآها تُسلب من بين يديه تاركة آخر خيطًا من أمل منكسر بعودتهما يومًا ما رآى عشقها وتمسكها بتلك الصغيرة التي هي ابنتهما!! 

كلماتها لا يزال صداها يدوي برأسه، بُكائها وضمها لإبنتهما اكثر من مرة، ألهذا الحد تعشقها؟  هو حتى لم يلحظ أي شيء بملامح تلك الصغيرة سوى عينيها الذي لم يستطع تحديد لونهما، استعذبه بهما أيضًا كي يتسائل ما لون اعين ابنته؟! 

أطلق زفرة مطولة وهو يُعيد كلمات شتى وماضي لا يعرف آلمه سواه، لو سأله أي احد ما إن كان يُريد أن تعيش ابنته نفس ما عاشه أو أي احد لن يستطيع سوى الإجابة صارخًا، كلا.. وآلافٍ من كلا.. لقد كان ماضٍ مُظلم والعشق ربما ينير حياة قاتمة تقاسمها مع روحه المُظلمة، العشق وحده والحياة والرغبة في أن يكون أب ووالد غير والديه، عكس كل ما كانا عليه يومٍ ما.. 

ولكن هل سيستطيع أن يجد بداخله تلك المشاعر، هو بالكاد كان يُعامل اخوته ووالدته، ولكن إدراج شخص جديد كي يستطيع أن يُجبر نفسه على عشقه والشعور نحوه بمشاعر صعب.. صعب للغاية! شاق ومجهد وسيؤلم رأسه.. ولكن ليس بمستحيل!!

آتت من جديد لتجلس امامه فتفقدها ولكن ذهبت عينيه المُزيفتان بالزرقة لوجه تلك الصغيرة ذات الأعين المتسعة مجهولتان اللون الصريح مثل والدتها وهي ترمقه في تعجب وشعر بالإستغراب نحوها ليحدق بملامحها وهو يُطيل النظر إليها بتمعن فلاحظت "فيروز" ما يفعله لتتركه ينظر لها فربما سيستيقظ بداخله أي مشاعر لها لتراه يمط شفتاه في تعجب ولم تعلم أنه بدأ في ملاحظة ملامح منه بوجهها!

عقد حاجباه وهي يشعر بالفراغ بداخله المصحوب كذلك بالإستغراب ثم هز رأسه لتتعجب هي الأخرى وهي تهز ساقها التي تُجلسها عليها وتُربت على ظهرها بإستمرار ليباغتها بتساؤل ذو صياغة مُبهمة بتلعثم طفل في الثالثة من عمره لم تظن أنه سيسأله أبدًا:

- بتحسي معاها بإيه؟ يعني مشاعر إنك أم، ازاي؟ يعني، بتحددي المشاعر ازاي أو جواكي لما بتقربي منها في حاجة مختلفة بتحسيها؟ 

تفقدته مليًا لوهلة لتنهض وناولته اياها ليُمسك بها في تحفز امتزج بالغربة وجاهد أن يشعر بشيء بداخله فلم يجد سوى أن يُجلسها على ساقه اليُسرى وفعل ما كانت تفعله فأخذ يُربت على ظهرها بتأني ليأتيه صوتها المُجيب في هدوء:

- بحس بأمل وحب ودفا.. حياة جديدة حلوة وسوية.. أمان وراحة وهي بتضحكلي وأنا بحلم نبعد عن كل القديم وننساه سوا انا وهي! بحس بحب منها.. حب غير مشروط.. لا بشوف في عينيها ماما مفضوحة ولا بابا قاتل ومجرم! 

اشتدت ملامحه وهو يحاول أن يُفكر بتلك الكلمات لتتنهد هي بإبتسامة وتابعت كلماتها:

- بحس بحب ومشاعر جميلة، مش بتطالبني فيها اني اتغير او اتعالج او اسامح او انسى ومش بتحكم على تصرفاتي.. لما بتمسك بإيديها الصغيرة حوالين جزء من ايديا بحس انها عايزاني زي ما أنا.. مهما كان اللي عملته ومهما كنت أنا ايه في يوم من الأيام.. حاول تمسك ايديها كده! 

أخبرته ليبتلع في ترقب ومد سبابته بالقرب من يدها لتُمسك هي به في تشبث غريب وضمت كامل اصابعها حول اصبعه لتشتد ملامح وجهه بينما لم تتوقف هي عن ارسال المزيد من الكلمات إليه فأردفت لتقول:

- شايف.. مسكت فيك وقبلتك من غير ما تقول إنك اتفضحت ولا اننا اخترنا غلط.. قبلتني انا وانت من غير احكام.. ولا قالت مين ظلم مين ولا شاورت وظلمت وسمعتنا كلام مش كويس.. من غير ما تعرفك اتجاوبت معاك.. 

مش هتطالبك بإثباتات إنك تتغير ولا إنك تكون احسن زي ما كنت انا بعمل، حب فطري ربنا خلقه جواها.. حب يستاهل إنك تعمل المستحيل علشانه! 

حب بقى بعيد عن الشهوة والعلاج والجواز والناس.. حب بينك وبينها انت وبس.. مجرد مسكتها فيك دي انا حسيت ان علشان خاطرها لازم احارب الدنيا.. حاول تدور جواك على المشاعر وتفهم إنها تكون اكبر سبب في انك تعرف نفسك وتسامحها وتقبلها وتحبها زي ما هي بتقبلك.. 

ابتسمت بمصداقية عندما دفعت اصابعه وأطلقت بعض الغمغمات غير المفهومة لتُكمل كلماتها:

- قبولها ده اداني القوة إني اعافر واحاول اقبل نفسي واحبها واسامحها ولسه اهو في الطريق علشان اعمل كده بجد.. ياريت تقدر تعمل معاك زي ما عملت معايا.. 

أنا السنة اللي فاتت كلها محدش في الدنيا قدر يخليني قابلة الحياة وكل حاجة صعبة ومستحيلة غير كاميليا وبس.. لو فهمت بجد كلامي وفكرت فيه يبقى هتعمل زيي.. 

هي الوحيدة اللي هتغيرنا وتخلينا نعمل المستحيل واحنا راضيين بيه.. اكتر من الحب والعلاج! وكمان هـ..

فجأة تجشأت ليشعر بالتقزز مما خرج من فمها بينما توقفت هي عن الحديث وتوسعت ابتسامتها قليلًا في انتصار لتحدثه بلهجة آمرة:

- المناديل قدامك .. خد منها واتعامل! عمرك ما هتكون أب غير كده! 

     

بعد مرور اسبوع..

أطلق صوت مصحوب بزفرة وهو يتكأ على المقعد بجانب والده ليلمح كلاهما البحر الهادئ وزرقته متمتعان بأشعة الشمس الدافئة في هذا الشتاء قبل عودة كلاهما عن قريب لتلك الأجواء الباردة ليشرع "سليم" في التحدث بعد ان التفت ناظرًا له:

- ده احنا شكلنا مبسوطين خالص.. اشوفلك مزة بقى من بتوع برا دول وانت رجل اعمال قد الدنيا والفرحة تبقى فرحتين.. سيدرا وادهم ووراهم بدر وماتيلدا!

التفت نحوه بإستخفاف ليتشدق هاكمًا:

- ماتيلدا يا حيلتها! هتبقي دي اخرتها.. بعد نورسين اختمها بماتيلدا! 

أومأ في تفهم ليمازحه بنبرة مستفزة:

- القصة مش في ماتيلدا.. انت هتموت وتسبني علشان نوري وحشتك انا عارف! هانت.. كلها يومين ونرجع وانا اوعدك إني هقولها انك شرفتنا ورفعت راسنا مع كل مزز الـ hotel

انزعج من كلماته ليغمغم بطيف من الغضب الضئيل:

- عيل ابن كلب صحيح! 

امتعضت ملامحه وهو يتفقده بإشمئزاز ليُضيف متوعدًا:

- ابقى فكر كده بس تطلع من بوقك كلمة بالكدب ده وأنا اطلقك من مراتك في ثانية! 

اطلق ضحكة متوترة ثم همس متراجعًا في لمح البصر:

- بهزر يا حاج.. ده انت حتى راجل كُبارة وبتصلي الفرض بفرضه وإمام مسجد الأوتيل كان اجازة فكنت انت الإمام وحاجة اللهم صلي على النبي آخر ايمان وتقوى وربنا يجعلنا نصيب نكون زيك في يوم.. بهزر.. والله بهزر متقفش! طلاق مين بس يا بدر! 

رفع احدى حاجباه بنظرة من طرف ثاقبتيه منتصرة ليتمتم:

- ايوة! تعدل كده وتجيب ورا.. قوم شوفلي سيجارة بقى في اي حتة!

تفقده في لوم ثم زجره قائلًا:

- لا دي بقى اللي فيها طلاق وقتي لو نوري عرفت.. وانا ممشيش في الطريق الغلط ابدًا.. انا ابويا مربيني احسن تربية ومليش في الشمال! 

اعتدل بجلسته ليقترب منه وضربه بخفة خلف عنقه لينهاه بزجر:

- بقى انا شمال يا كلب يا حيوان.. بحرضك على الفسق والفجور علشان سيجارة يا واطي.. قوم ياض امشي من هنا!

حاول أن يوقفه وهو يُمسك بيده ليتوسله بمرح:

- خلاص يا عم ايدك دبش.. ايه معندكش اخوات بنات يا مفتري.. اهدى مش كده ذلة لسان.. وبعدين أنا جاي اكلمك في المهم! اديك هتنسيني اهو! 

قلب شفتاه بإمتعاض وعقب ساخرًا:

- اخوات بنات.. قول يا خلفة الندامة.. يا ما جاب الغراب يا حيلتها..

تنهد بعد أن اخفض الآخر يده ليتكلم قائلًا:

- شاهي ونوري المزز ظبطوا البيت والأوض وبيحاولوا يقنعوا عاصم ولميس يجوا يعيشوا معانا.. يمكن عمتي تفك شوية من يوم ما أروى مرجعتش! كده هنرجع على بيت تيتا على طول!

رفع حاجباه في تعجب ليضربه من جديد بقوة هذه المرة ولكن دون أن يُبالغ:

- بتقول على اختي ومراتي مزز قدامي يا كلب!

تصنع الضرر وحاول أن يوقفه ليتوسله بنبرة مازحة:

- يا عم ما هم عمتي وامي يعني في بيتها! بالراحة.. ايديك طارشة..

لم يتقبل كلماته لينهره مازحًا:

- في بيتها يا كلب.. قوم فز يا حيلتها.. قوم ياض من هنا احجزلنا علشان نتغدا..

فر ناهضًا وهو يشيح ذاهبًا ويداه تتحدث بدلًا من لسانه ليتابعه "بدر الدين" بإبتسامة ثم تنهد وهو يشعر بالفخر من ذلك الطفل الذي كبر كثيرًا ولم يعد يداعب شعره مثل السابق بل بات رجل للعائلة بأكملها يتحمل مسئولية الجميع على عاتقه!

     

جلس يتناول ذلك الطعام الكريه الذي لم يلق اعجابه منذ الوهلة الأولى بهذه المصحة البغيضة ليلاحظ تلك المرأة التي لا ترتدي سوى اللون الأخضر فنهض ثم اتكأ على عصاه الطبي ليذهب بملامح ممتعضة وهو يُمسك بصينية طعامه باليد الأخرى وتوجه إلي احدى الأركان البعيدة حتى لا يلمحها فهذا آخر ما كان يعتقده.. أن يرى كل ذلك اللون الأخضر كل يوم بكل ساعة بكل ثانية لعينة! ما لعنتها تلك البغيضة مع ذلك اللون الكريه؟

اطلق زفرة متأففًا عندما آتى ليجلس بالقرب منه ذلك الرجل الهزاز الذي مُصاب بمتلازمة ما لا يعرف عنها شيء ولا يكف عن توجيه الإبتسامات نحو الجميع.. لديه قدرة هائلة ولا يشعر باليأس أبدًا من محاولة التعرف على الجميع ومصادقتهم وكأن لديه مخزون لا نهائي قد وُلد به يُسمى "الصداقة للجميع"..

ما بال ذلك اليوم؟! وكأن كل شيء يُرغمه على احراق تلك المصحة اللعينة بدايةً بحارسيها ونهايةً بالعاهرتان الممتلئتان وصديقهما النحيف.. إلي أين عليه الذهاب إذن؟! 

حدق بمحتويات صحنه ذو الطعام المُقزز وهو يحاول أن يكف عن اطلاق تلك المُسميات بعقله.. ستقابله ذات الرداء الأسود لاحقًا لتُمرر عليه حياته بأكملها بأفكار علاجية بغيضة وهو بالكاد يحاول التعامل مع ذلك!

زفر وهو يعبث بالطعام في طبقه ليتنهد وهو يُذكر نفسه لماذا يفعل كل ذلك.. ربما من أجل تلك الصغيرة التي غفت بين ذراعيه سيتحمل كل شيء.. عليه أن يكون والدًا جيدًا مهما طالت السنوات هنا! 

ولكن هل عليه تحمل اللون الأخضر؟! اللعنة على تلك المرأة.. لماذا لا يقتلها وهي نائمة.. أو على الأقل يُمسك بالعاهرتان الممتلئتان ويقطع من اجسامهما المكتظة باللحم مثلما كانت تفعل "كلوديا" بضحاياها! أو يحرق المصحة بالكامل! الأمر بسيط!

زم شفتاه في انوعاج وأخذ بعضًا من الطعام ليبتلعه دفعة واحدة دون أن يمضغه حتى وهو يُذكر نفسه بأن هناك حياة تنتظره.. سيكون الأمر شاقًا هذه المرة ولكن سيصل إليها! وعليه التحمل! من اجل نفسه ومن أجل ابنته.. فربما في سعادتها يكمُن خلاصه!

     

#يُتبع . . .

الفصل القادم يوم السبت أو الأحد المقبل

دمتم بخير