الفصل العشرون - جسارة الإنتقام
صاح "معتز" متلهفًا خلف الباب الموصد ربما للمرة المائة و "نور" على مقربة تتفحصه في ترقب بفيروزيتان دامعتان عل اخيها يستجيب لندائه:
- جاسر افتح ارجوك
تريث من جديد بينما لم يجد ردًا منه فهتف بقليل من الإنفعال:
- متخلنيش أكسر الباب يا جاسر، افتح هنتكلم بس
اخيرًا سمعا صوت حركة فابتعدت هي حتى لا يراها وما إن رآه "معتز" توجع لمظهره فتنهد بينما لم يقابله "جاسر" بالنظر بعينيه مباشرة ووقف منكس الرأس واضعا يداه بجيويبه ولكن ليس بغطرسته المعهودة، بل عكست تلك الانحناءه بجسده الانكسار التام وبالطبع مظهر الغرفة خلفه دل على شدة غضبه، هو حتى لم يترك قيد أنملة بها سليمة فحمحم ابن خالته مخبرًا إياه بنبرة لينة:
- تعالى نقعد شوية مع بعض
أومأ له بالنفي ثم تركه وسار بشرود تام آخذًا خطوات بطيئة فتبعه الآخر متكلمًا:
- ما أنا مش هاسيبك وامـ..
قاطعه بنبرة خافتة وصوت مهتز:
- ارجوك سيبني لوحدي
تعجب من تلك النبرة التي لم يسمعها منه قبلاً لتكتم "نور" نحيبها وهي تدرك ذلك الانكسار الذي صرخ به صوته وظل متجهاً صوب غرفته للأعلى حتى اختفى عن انظارهما..
همست "نور" بدموع منهمرة على وجهها بعد أن اتجهت نحو "معتز" وصوتها آتى متوجعًا من أجل اخيها:
- أنا خايفة عليه اوي يا معتز!
تنهد وهو لا يدري ما عليه قوله ولكنه حاول:
- معلش يا حبيبتي.. اللي حصل مكانش سهل عليه.. سيبيه شوية أكيد أنتي عارفة طبعه، هيحتاج يقعد مع نفسه
تحدثت بصوتٍ باكية وهمست له:
- جاسر لو شوفته وهو بيبص لماما كان عامل ازاي هتخاف عليه يكون لوحده.. وفي نفس الوقت مش عارفة أكلمه ولا أقوله ايه
حاول أن يمنعها عن البُكاء ويُطمئنها قليلًا فقال مُخبرًا اياها ومحاوطًا وجهها بكفاه بإبتسامة مقتضبة:
- سيبيه هيهدى.. انتي عارفة طبع جاسر بيحب يبعد لفترات كده.. وبعدين هاكون أنا جنبه وأنتي كمان مش هنسيبه، وعشان خاطري كفاية عياط بقا، ينفع العيون الحلوة دي تعيط كده
أغلقت عيناها في حزن ثم فتحتهما ونظرت له وشردت لوهلة بعينيه وهمست متوسلة في احتياج:
- معتز خليك جنبي الفترة الجاية متبعدش عني
لانت ابتسامته ثم قبلها من جبينها وكلمها بنبرة هادئة:
- من غير ما تقولي.. كمان احنا لازم نتجوز في اسرع وقت..
ضيقت ما بين حاجبيها في تعجب وقالت مترددة:
- ازاي يعني واللي حصل وجا..
قاطعها متلهفًا:
- هشش.. استني بس..
نظرت له بمزيد من التعجب فقبلها هو على جبينها مرة أخرى ثم أمسك بيدها واخبرها:
- تعالي نقعد تحت وأنا أفهمك عشان الموضوع محتاج كلام كتير"
تسائل مراد بقلة حيلة:
- هو أنا هاقول لأدهم ايه؟
نظر له "رامز" بآسى وهز كتفاه ثم اجابه:
- بص هو أنا مش عارف هتعوزه في ايه اصلا بس اكيد سيرين هتقوله والا مكانتش طلبته بالاسم!
أومأ له على مضض ثم قال:
- طيب.. هحاول أفهمه بهدوء على قد ما اقدر وأنت دلوقتي قوم روح لنيرة وابقـ..
قاطعه في رفض تام:
- لأ أنا مش همشي"
نظر له بإرهاق ثم حدثه بصوتٍ متعب:
- كده كده هتفوق بكرة زي ما حسام قال، لازم نكون جنبها، واحنا صاحين بقالنا كتير ومش هنعرف نواصل، قوم روح لنيرة اسمع كلامي وناملك ساعتين وغير ونيجي هنا من بكرة بدري الساعة سابعة عشان لو فاقت في اي وقت
نظر له صديقه بحيرة وتردد ليبدو كلامه منطقي ليستطرد "مراد" متحدثًا:
- بس معلش هاطلب منك حاجة تعفيني منها..
رمقه بإستفسار ليُردف قائلًا:
- كلم بابا وطمنه على كل حاجة وحاول تبين أن كله طبيعي وقوله ان سيرين كويسة بس مشغولة!
خلل "رامز" شعره بعصبية حتى كاد أن يقتلعه بين يداه فأضاف متألمًا:
معلش أنا مش هاقدر أكلمه دلوقتي خالص.. بعد اللي حصل ده أنا حاسس إني السبب في كل حاجة
هز "رامز" رأسه متفهمًا ووافقه على مضض:
- طيب
تمتمت "هويدا" ضاحكة بإستهزاء وهي ترتشف قهوتها متحدثة إلي نفسها بصوت عج بالمكر:
- فاكر كده إني هسيبه ليها بالسهولة دي.. يبقا بيحلم!
شردت بعيدًا لتفكر بما عليها فعله كخطوة قادمة لتستمع إلي صوتها يتردد بعقلها:
- أنا بقا هاعمل الصح اللي معملتوش زمان، لازم اكرهه في بنتها، واني بعدت زمان وسبت هشام لسلوى ده مش هايتكرر تاني.. عمري ما اسيب ابني يضيع مني لواحده زي دي
وضعت فنجانها أمامها على منضدة بشرفة احدى ناطحات السحاب المطلة على النيل.. فهي بالطبع لم تكن ساذجة أو غبية، لطالما عملت جيدًا على تأمين نفسها بالأموال والحفاظ على صورتها أمام المجتمع في آن واحد..
أخذت احتياطتها على مدار السنوات بمنتهى الحذر تحسبًا لو أن زوجها أو ابنها قد علما الحقيقة.. حتى فكرت بيوم أنها قد تترك كل شيء خلفها، أو لربما سيحدث شيئًا ما وبالطبع لن تخرج بأيد فارغة.. لقد كانت على استعداد تام لكل ما حدث منذ الكثير من الوقت!
تلك الأموال التي آخذتها يومًا ما دون وجه حق من "هشام" وتلك السنوات التي كانت بها الآمر الناهي بكل مبلغ دخل أو خرج من إمبراطورية "شرف الدين" المُشيدة على باطل منها، برعت خلالها بتكوين كيان مخفي بعيد عن الأعين، لديها كل ما تحتاج لعمر كامل ضعف عمرها..
ارتسمت ابتسامة انتصار على شفتيها وهي تتوجه للداخل وهي تتحدث بداخلها:
- اخدتلي حقي.. واخدتهولي تالت متلت
فرحت لدوي صوتها بسعادة داخل عقلها وعادت لتكلم نفسها مرة ثانية:
- بس إذا كنت يا ابني فاكرني دلوقتي إني ست خاينة وبتطردني قدام الناس وبتقول إن ده بيت مراتك، أنا هادوقك بقا يعني ايه ست خاينة عشان كمان بنت سلوى تدوق من نفس الكاس، مش أنا اللي اترمي قدام شوية شغالين بالمنظر ده بسبب كلمتين من عيلة صغيرة لا راحت ولا جت!
تمتم عقلها بشر ثم تدثرت جيدًا بالغطاء بعد أو وضعت تلك المستحضرات التي تخدع كل من ينظر لها حتى تقاوم التقدم في العمر وذهبت للنوم في ترقب سعادة وشيكة قاربت أن تصل لها بتفكيرها الشيطاني!
أو هذا ما ظنته!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تناقش "معتز" مع "نور" محاولًا أن يُفسر لها بمنطقية ما يفعله اخيها فقال:
- بصي، جاسر أستاذ في إنه يختفي، متستبعديش إننا فجأة منلاقيهوش ومنعرفش نوصله بعد كل اللي حصل.. إذا أتجوزنا دلوقتي غصب عنه لازم يكون موجود وياخد باله من كل حاجة لأن أنا مش هابقا جنبه
تنهدت في حيرة لتتردد سائلة:
- بس ازاي نتجوز دلوقتي وسيرين بحالتها دي؟ بابا بردو لسه ميت، باباها كمان، ماما مش موجودة و..
قاطعها متعجبًا:
- نور يا حبيبتي أنتي فعلاً عاوزة مامتك تكون جنبك بعد كل اللي عملته؟!
شردت في كلماته التي لربما تبدو بسيطة بينما عنت الكثير في طياتها، هي والدتها ولكن ما فعلته كان دنيئًا للغاية لتجيبه بعد لحظات في تردد:
- مش عارفة يا معتز بجد، كل حاجة عمالة تحصل ورا بعض كأننا في سباق مصايب! يادوب اكتشفت الحقيقة ومعداش غير كام يوم كل حاجة بقت أسوأ..
هزت رأسها في انكار وهي تسترجع تفاصيل الأيام الماضية:
- بس يعني استحالة تطلع تخبط على جاسر وتقوله جوزني أختك وأنا اروح أول ما سيرين تفوق أقولها تعالي فرحي.. ده احنا حتى مينفعش نعمل فرح في الظروف دي
أومأ لها في تفهم ثم قال:
- بصي.. لو مهم بالنسبالك الفرح أنا ممكن استنى.. لكن أنا شايف إن مالوش لازمة خالص.. وسيرين أول ما تشد حيلها شوية نتجوز، وبالمرة تكون فرصة إنك تشغيليها معاكي بترتيبات الجواز لأن أكيد حالتها النفسية هتبقا متدمرة..
ابتلعت في آسى وهمست بمرارة:
- متفكرنيش أرجوك!!
اعتصرت عيناها بآلم وحزن ثم اردفت بصوتٍ واهن:
- أنا كل ما احط نفسي مكانها ومجرد إني أتخيل يحصلي كده من الراجل اللي المفروض جوزي أعصابي بتتعـ..
قاطعها وهو يرى ملامح الوجع أرتسمت على وجهها ثم لامس يدها بحب داعم:
- بلاش تفكري كده.. عمر ده ما هايحصل لأنك مش هاتتجوزي غيري.. وبالنسبة لسيرين أنتي بردو هتكوني جنبها ولازم على قد ما تقدري تفهميها كل حاجة
اكتثت زرقاويتيها بالدموع ثم همست:
- يااه يا معتز.. أنا مش عارفة أصلاً بأي حق هاجبلها سيرته.. وبردو المفروض جاسر يصارحها بكل حاجة.. ولا مش عارفة هتسمعله ازاي أصلاً لأن كل اللي عمله مالهوش مبرر.. أنا فعلاً متلخبطة أوي..
تنهد متريثًا لبرهة ثم حدثها قائلًا:
- أنا فهمت مراد ورامز هو عمل كده ليه.. وأنتي كمان لازم تعرفيها..
أومأت بالإنكار وقالت برفض تام:
- لأ يا معتز أنا مش هاقـ..
قاطعها غير متقبلًا هو الآخر:
- مبقاش ينفع نخبي حاجة تانية أكتر من كده.. اديكي شوفتي اللي حصل لما سكتنا
توقف عن الحديث للحظة لتجد هي كلماته منطقية وقرأ ذلك بملامحها فاستطرد متكلمًا:
- عايزك تهدي ومتقلقيش أنا هاكون جنبك وجنبها هي كمان..
أومأت بالموافقة ثم سألته:
- هي صحيح عاملة ايه؟ مفاقتش خالص؟!
اجابها بصوتٍ حزين:
- لأ فاقت بس كانت تعبانة فادوها منوم شديد وحسام قال هتصحى بكرة الصبح، لازم تروحيلها وخدي بردو رزان معاكي وحاولوا تكونوا جنبها.. وعلى فكرة حسام طمنا على وضعها وقال إنهم مش هايشيلوا الرحم وأحتمال الخلفة عندها مش معدوم..
زفرت بقليل من الراحة لتهمس:
- الحمد لله
ابتسم لها بإقتضاب يتلائم مع الموقف ثم اخبرها بإهتمام:
- أطلعي يالا نامي عشان من بكرة بدري لازم تروحيلها، أنا كمان هامشي اروح وافهم رزان كل حاجة وهاعدي على جاسر الصبح وهاخده بالعافية على الشركة وبعدين هاجيلكوا ولو أي حاجة حصلت كلميني هجيلك
أومأت في تفهم ثم ردت قائلة:
- طيب.. تصبح على خير
نهض ثم انحنى ليقبل جبينها وهمس بإبتسامة بسيطة:
- وأنتي من أهله
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
جلس "جاسر" شاردًا على فراشه، مظهره مبعثر، يشعر بالعجز، لا يدري ما الذي عليه فعله، أيذهب لنور، بم سيخبرها؟ أسيستطيع حتى النظر بوجهها بعد كل ما فعله؟ فكر كثيراً لماذا لم تخبره بكل شيء سابقا وهي تعلم؟ ابتسم ساخرًا من نفسه.. أكان سيصدقها؟ هو يعلم بقرارته لو أن أحد .. أي أحد اخبره بأن والدته كاذبة كان سيقتله في لمح البصر!!
لم يدع الفرصة لأحد بأن يقترب منه طوال حياته سواها هي، ربما "معتز" يعتبر صديقه الوحيد بينما كانت أمه من تمثل له كل شيء بالحياة.. يا لها من حسرة له على كل ما حدث!!
تحجرت الدموع بعينيه ليدرك أنه كان كالبيدق بين يداها، لم يكن سوى أداة تستعين بها بمنتهى السهولة حتى تحقق كل ما تشتهيه نفسها القاسية من انتقام خائب لا أساس له من الصحة سوى نفس إمرأة خبيثة، دنيئة، خدعت نفسها وخدعت الجميع، وخدعت ابنها!!
تحدث لنفسه لتُفجر كلماته بركان جديد من الآلام المتلاحقة التي ستلازمه إلي أن تغادر روحه جسده:
خدعتيني أوي، جرحتيني، اخدتي مني كل حاجة وأنتي متأكدة إني ممكن في لحظة اروح من بين ايدك، أنا لو بحب واحدة وخانتني مكنتش هحس بربع الوجع اللي حاسه دلوقتي..
ألقى جسده ليتسطح ثم أوصد عيناه بآلم ليرى أمامه وجهها البريء، تذكر جرأتها، كلماتها اللاذعة بإندفاعها وجسارتها، تلك المرات القليلة التي سرق النظر لضحكاتها التي لم تكن له، قسى عليها كثيرًا دون أن يعطيها مبرر ولا تفسير، تمنى لو أخبرها بكل شيء منذ البداية علَّ صدقه يشفع له ولو بمقدار ضئيل ولكن يا لخيبته.. هول لم يفعل ولو لمرة واحدة، لم يكن صادقًا منذ البداية!
تذكر تلك المرات التي تطاول عليها وأبرحها ضربًا، صفعات كثيرة، خيانة، احتقار وقسوة، عذاب وتطاول على والدها بالكلمات، لم يدع شيئاً قد تسامحه من أجله، لم يملك ولو ذرة من رصيد له عندها قد يرتكز عليه..
شعر بحرقة تسري بدمائه ليهمس بصوتٍ نادم:
- مكانتش تستحق مني كل ده! بس لأ.. استحالة أقدر اسيبها قبل ما تعرف كل حاجة، لازم تفهم كويس أنا ليه عملت كده
تهادى عقله لما توصل له من تفكير ليزفر بوجع وآلم اجتاحا كيانه ثم نهض متوجهًا للخارج وتوقف أمام غرفة "هويدا" التي حطمها منذ ساعات لعدة لحظات ونظر نحوها في حسرة وتذكر ولادة العديد من اللحظات التي حملها بداخله حتى كونت كل ذرة غضب وحقد به تجاه "سيرين" ووالدها، تلك الأيام التي مكث بجانب والدته فقط ليشعرها بوجوده وأنه لن يتركها أبداً وسيثأر لها..
ابتسم بمرارة على تلك السنوات التي كان ساذجًا بها كالطفل الصغير الخائب الذي لا يملك ولو بعضًا من العقل واستند على نقاء علاقته بوالدته التي لم يتصور في أسوأ كوابيسه أنها قد تكون كاذبة بعد تلك السنوات بأكملها ثم نظر مرة أخيرة للغرفة بآلم ليوصدها آخذا مفتاحها معه وهو يظن بداخله أنه لو اغلقها سيغلق معها ماضيهما وتوجه بخطوات هادئة للمرأب وذهب مستقلًا سيارته لرؤية "سيرين".
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تحدث "شرف الدين" ببطأ ومشقة وهو على سرير المشفى بأنفاس متسارعة ناهجًا من شدة وطأة المرض عليه:
- تعرف يا هشام.. كل ما نكبر أعرف قد ايه أنت إنسان نبيل وعظيم أوي.. بشوف كل حاجة عملتها عشاني وعشان مراتك وبعدها بنتك وقدرتك على إنك تسامح بعد كل ده، مقطعتش علاقتك بيا، فضلنا أصحاب دايماً وبالرغم من إنك ساعدتني زمان رفضت اني اساعدك زي ما عملت معايا، بنيت نفسك بنفسك من تاني، اثبت للكل مش إن الفلوس بس لوحدها هي اللي تقدر تبني كيان انسان، قولتلك تجوز بنتك لإبني وبردو مرفضتش مع إنه كان طبيعي تقلق من هويدا بعد اللي عملته زمان..
تنهد "هشام" وابتسم له بآسى ناظراً له بأعين ممتنة ليرد بوهن:
- خلاص بقا يا شرف الدين.. كفاية في يوم من الأيام يجيلنا طفل يقولي ويقولك يا جدي
ابتسم "شرف الدين" بصعوبة متهكمًا لكلماته وتعجب ساخرًا:
- تفتكر هاسمعها؟
امتعضت ملامحه ليجيبه مسرعًا:
- بكرة تقوم بالسلامة وكـ..
قاطعه بحزن وأكمل بلهاث:
- أنا حاسس إني خلاص.. علشان خاطري هاطلب منك طلب، يمكن يكون آخر طلب هطلبه منك في حياتي
أنتظر ليرى ملامحه ومدى استجابته لكلماته فرد عليه:
- طبعاً قول من غير ما تسـ..
قاطعه ناظرًا له بترقب متوسلًا بشدة:
- هويدا ليه عملت كده؟! ريحني قبل ما أموت وقولي ليه كل السنين دي كانت مصممة أنك سرقت الفلوس وأنا متأكد أنك معملتش كده؟ كفاية سكوت، وصدقني مش هاعمل حاجة، أنا خلاص نفس داخل ونفس خارج
ابلع ليجيبه بصوت متألم:
- أرجوك يا شرف الدين بلاش اجاوب على السؤال ده
توسله بقدر ما استطاع وحدثه بصوت مزقه التعب إربًا:
- أرجوك أنت تقولي، أنا خلاص مبقتش هاعمل حاجة، كده كده رايح.. مش هاطلب منك حاجة تاني
زفر "هشام" وهز رأسه بإنكار رافضًا وتمنع بكل ما امتلكه من قوة:
- بلاش، أعفيني
لم يقبل تلك الإجابة وتوسله مرة أخرى:
- لو ليا خاطر عندك ولو كنت فعلاً صاحب عمرك تقولي!
شرد الآخر مبتعداً بعينيه عن ملاقاة عيني صديق عمره وهو لا يستطيع تحمل تلك النبرة المتوسلة وذلك الحزن الذي يتحدث به صديقه الذي شارف على فقدان حياته ثم همس بصوت خافت متحشرج في خزي من قوله الذي تحدث به:
- هويدا.. كانت.. بتحبني وأنا رفضت وقولتلها إني بحب سلوى..
زفر بوجع موصدًا عيناه وكأنها زفرة يزفر بها آلم تحمل سنوات مريرة لم يصارح بها أحد أبدًا، وأخيرًا لأول مرة بحياته يتحدث بهذا بصوت مسموع لأحد، ما تحمله من سنوات شقاء وعناء وحده أخيرًا يبوح به ويغادر صدره هذا العبء الثقيل، يعلم أنه ليس من الصائب ولكن توسلات "شرف الدين" المتألم أمامه لم تعد ترفق به..
يعلم أنه ربما يلفظ أنفاسه الأخيرة بأي لحظة ولكنه يستحق أن يعلم لماذا حدث كل ذلك.. من حقه أن يجاب على سؤال لطالما تسائل به طوال حياته، من حق "هشام" نفسه أن يحل ذلك القيد الذي اختنق به طوال حياته ويتحرر مخبراً صديقه الوحيد بآلمه فعقب في حسرة:
- عرفت ليه خبيت؟ عرفت زمان حاجة زي دي كانت ممكن تعمل فيا وفيك ايه؟ علشان كده كنت ساكت ومرضتش أجرحك، مرضتش أشوفك بتخسر حد فينا، سيبتها تعمل كل اللي هي عايزاه عشان مخسركش يا شرف الدين ولو رجع بيا الزمن كنت هاعمل كده تاني
تهاوت عبرة من عينه ليهز "شرف الدين" رأسه في آلم متفهمًا ثم اخبره في انكسار:
- كنت حاسس انها عمرها ما حبتني
نظر له "هشام" بحزن نهش بأرواحهما وغرقا في صمت تام مستعيد كل منهما برأسه مشاعر مؤلمة مرت عليها سنواتٍ عجاف!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
نظر لها وهي على سرير المشفى متجرعًا تلك الآلام التي خلفتها غصة بحلقة لمظهرها المتعب الذي آلمه أكثر؛ بل مزقه آلمًا..
سخر من نفسه لتلصصه عليها كالسارق، لم يكن لديه الجرأة لأن يظهر أمام الجميع مقتربًا منها أو حتى متفقداً حالها فذهب في جنح الليل، عصفت برأسه كل لحظة جمعتهما معًا، أدرك مدى قوتها وهي تواجه المجهول دون خوف، علم أن بذلك الجسد الضئيل الذي تعدى عليه بمنتهى القسوة ترقد أقوى وأشجع من وقعت عيناه عليها بيوم..
من أين لها بتلك البسالة الضارية؟ كيف لها أن تواجه وتجابه شخصًا غريبًا عنها ينهال من ثغره كلمات لاذعة مؤذية لأي إمرأة، بل فتاة مثلها، وتهديد بإنتقام لا ينتهي ولم تعرف هي سببه حتى الآن؟
كيف لها أن تستمر وتقاوم وتنهض مرة تلو الأخرى وتتحلى بالجرأة دائمًا دون كلل أو ملل؟ أنى لها هذا وهي بتلك البراءة وذلك الضعف الذي تبدو به الآن؟
كيف له أن يغفل تلك البراءة من كل الذنوب والتهم التي أصر عقله المريض على توجيهها لها؟ كيف له أن يتجاهل عدم خوفها وإصرارها على حقها؟ أكان حقًا لعبة سخيفة ساذجة بيد هويدا لهذا القدر؟ ألهذه الدرجة خداعه كان بمنتهى السهولة وذكائه انطلى عليه حفنة دموع وكذبة أطاحت بحياته بأكملها؟
بكى وهو ينظر لها، لا يدري كيف له أن يصلح كل ما فعله؟ أسترى ما به؟ ما هو حقاً عليه؟ أستصدق ولو للحظة واحدة أي شيء مما حدث فعلًا؟ بم سيُفيد ندمه؟
بم سيخبرها؟ أنه كان أعمى؟ أصم؟ أبكم؟ بالطبع لا..
لقد رأى تلك العينان وشرد بهما كثيراً ولم يغادراعقله.. لقد سمع الحق من ثغرها الذي عشقه وكذبها ببشاعة.. ولقد أخبرها العديد والعديد مما لا يتحمله إنسان بالوجود وكل تلك الكلمات يتذكرها إلي أن كره نفسه..
تهاوت دموعه ليبتلع بمرارة كاتماً أنفاسه كي لا تقتله تلك العسليتان بغتة ثم تفلتت همساته رغمًا عنه:
- كنتي قوية أوي، أقوى من جبل، كنتي الراجل اللي أنا مقدرتش أكونه..
جفف وجهه وأكمل تعذيب نفسه بعقله متحدثًا بدلًا من أن تستيقظ من صوته:
- أنا ضعيف أوي قدامك.. أصغر من أنك تدوسيني بجزمتك.. جاسر شرف الدين أحقر من إنك تعطفي عليه بنظرة حتى لو كانت نظرة شفقة..
تساقطت عبراته التي انعكست كالحريق الذي التهمه بداخله وكادت أن تتحول دموعه لنحيب فكمم فمه بيده:
- لو قلتلك إني عمر ما قلبي دق لغيرك عمرك ما هتصدقيتي.. لو عرفتي كنت بكون قدامك تايه وخايف أحبك هتقولي اني كداب.. حتى لو قدرت اوريكي بعينك النار اللي كانت جوايا وأنا بحارب بينك وبين وجعي على الست القذرة اللي لعبت بيا هتكدبي عنيكي..
توبة.. عمري ما هاكون أنا، خلاص قتلتيني وأنا شايفك كده قدامي.. طلعتي القاتل وأنا المقتول، أنا فاكر كل كلمة قولتيهالي، هتتكسري وتقومي، أنا اتكسرت وعمري ما هاقوم..
قولتيلي إنك معايا للآخر وفاكر إني وصلتله بآذيتك بس أنا وصلت بعدك للدمار اللي مش هايعمر تاني.. قولتي يا أنا يا أنتي وطلعتي أنتي يا سيرين؛ أنتي اللي صح في كل حاجة وكنت أنا ومازلت غلطان..
محكتيش لحد وأنا الوحيدة اللي حكيتلها كانت بتستغفلني وبتحملني فوق طاقتي وعمر ما حملها خف وموتتني بالبطيء.. قولتيلي أنك هتقفي على رجلك تاني.. أكتر من النفس اللي محتاجة، نفسي تكوني قد الكلمة دي كمان وترجعي تاني نفس البنت اللي عرفتها بقوتها وجرأتها..
أنا هابعد عنك، هاعملك كل اللي أنتي عاوزاه بس من بعيد، هاحميكي من كل حاجة بس مش هاقدر أكون جنبك، مش هاستحمل نظرة واحدة منك، مبقاش جوايا قدرة تاني إني أستحمل أشوفك تاني بعد كل اللي عملته فيكي.. أنا آسف.. آسف وندمان واستاهل الحرق على كل اللي عملته فيكي..
أنهى عذابه لنفسه ليذهب بوجل وجسد مرتجف ليقبل جبينها بهدوء وفزع من أن تستيقظ ثم غادر الغرفة وأغلقها بهدوء خوفا من أن يُحدث صوتا ليُمسك بهاتفه واتصل بالذي أجاب بصوت ناعس بعد مدة:
- عاوز ايه يا جاسر؟
استمع لهذا الصوت الحانق ليبتلع ما تبقى من دموعه لتقف بحلقه تمزق شهقاته ليتحث بصوت متحشرج بالبكاء سائلًا:
- قولي.. قول انها كويسة.. هاتكون كويسة مش كده؟ مش هاتفضل كده وحالتها هتتحسن..
أثارت الدموع المتجمعة بحلقه نبرة انعكست كحد ألف سكين ناغزة قلبه بقسوة ليلاحظ "حسام" نبرته الغريبة وتصرفه هذا الذي لم يعهده من قبل فأجابه على مضض:
- مرحلة الخطر عدت، بس جسمها فقد دم كتير، حملها هايكون صعب في المستقبل لكن مش مستحيل.. هتحتاج فترة كبيرة اوي عشان تكون طبيعية فيها ومقدرش اقولك حالتها النفسية هتكون ازاي
رد بنبرة انكسار وضعف تعجب لها "حسام" وهو يمتن له:
- شكرًا يا حسام على كل حاجة وقفتك معايا..
وقبل أن يبادر بكلمات ليرد بها أنهى "جاسر" المكالمة ليتوجه مغادرًا وحاول ألا يراه أحد بالمشفى فهو لا يستطيع أن يواجه أحد الآن..
مشى بخطوات متهادية لسيارته التي دلف بها ليقود دون وجهة محددة في الشوارع كالتائه الشريد.. ذلك الإنكسار الذي بداخله امتزج بذكريات عدة خلف بعقله آلماً مبرحاً..
لا يستطيع التفكير بما سيفعله، ود لو أنه يستطيع أن يخرج قلبه لتراه هي، لترى كم هو متوجع لكل ما فعله بها، لم يتخيل ولو للحظة أن كل ما كوَّنَ ذلك الرجل الذي أعتاد أن يكونه معها بل ومع غيرها مجرد كذبة انطلت عليه ببراعة..
طعن بقسوة وحقارة بسبب ثقته العمياء بأمه! لا يصدق أن سخرية القدر أنتقمت منه بتلك الطريقة المخزية لتتركه كالجسد دون روح، كمجرم بما فعله بزوجته!
بعد ساعات من عدم القدرة على التفكير حمل جسده وذكرياته معه ليدلف داخل المنزل فارًا لغرفة مكتبه وجلس واهنًا مًنكسرًا بجسده أمام البيانو الذي لربما هو احدى الأشياء القريية له التي لازالت متبقية بجانبه.. دون كذب أو خداع!!
عصفت بعقله العديد من الصور لكلًا من "سيرين" ووالدته، العديد من المجادلات مع كل منهما، بكاء "هويدا" له، صوتها وهي تتشاجر مع أبيه، تلك الجرأة التي واجهته بها "سيرين" لمرات ومرات وهو يتجبر عليها دون حق، شعر كم كان كل شيء يحاول الفتك به، كل ما حدث يريده أن ينهار، أن يتدمر بالكامل، وكأن الجميع أتفق أن يؤلمه بالنهاية..
أنتقلت أنامله لتصاحب صوته المتألم وعيناه الدامعة عله يفرغ شحنة مما يشعر به، تجاه والدته، تجاه "سيرين" نفسها، تجاه مقدرته على عدم مواجهة أيًا منهما..
ما إن أنهى التغني بتلك الكلمات التي عبرت عن الكثير بداخله تهاوت دموعه في صمت تام وإنكسار ليجد يدا تربت على كتفه واستمع لصوت مألوف يُصيح به:
- اصحى يا جاسر الساعة بقت تمانية
أشرأب للمتحدث في تعجب رافعًا رأسه ليُصدر البيانو صوتًا فمرر "جاسر" يده بإرهاق على وجهه الذي طُبع عليه أثار البيانو ونهض صاعداً لغرفته فتبعه "معتز" متحدثًا له:
جاسر خلص بسرعة عشان عندنا حاجات كتيرة في الشركة ومحتاجك في موضوع مهم
سأله ببرود ولكن ليس بغرور كما عهده منه:
- موضوع ايه؟
اجابه بتلقائية:
- لما تفوق كده هقولك كل حاجة.. يالا خلص وهستناك تحت
أومأ له بالموافقة له ثم أكمل طريقه لغرفته كي يستعد ليلاحظ "معتز" أن طريقته وملامحه أختلفت كثيرًا عن ذي قبل وهدوءه بات غريبًا للغاية..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تسائلت "سيرين" بعد أن تحاملت على تلك الآلام التي تطيح بها:
- أدهم فين؟
أجابها "مراد" بإقتضاب:
- قاعد برا.. هندهولك
توجه للخارج كي يقوم بإستدعائه ليدخل "أدهم" خلال ثوانٍ وملامحه تعتريها الحزن"
- سيرين أنا لسه عارف وجيـ..
قاطعته وهي تستند بيدها على السرير:
- مش مشكلة.. اسمعني كويس لأني مش هاثق في غيرك في الموضوع ده..
بادر كلًا من "رامز" و "مراد" لمساعدتها لتنهاهم في غضب ممتزج بالهلع:
- محدش يقرب مني
نهرتهما بشدة ليتيبسا مكانهما وهما يشعران بالغرابة الشديدة فتعجب "رامز" وصر أسنانه غضباً، لم يتوقع منها تلك التصرفات الغريبة عليها تمامًا وتحدثت لهم في آلم ونبرة متوعدة بنظرة من عسليتاها الجسورتان:
- أدهم أنا عارفة إنك دكتور وليك كذا مستشفى وهتعرف تعمل اللي أنا عاوزاه.. أنا عايزة تقرير كامل عن حالتي ودكتورة تشرف عليا لغاية ما أكون كويسة، عايزة تقرير يودي الكلب اللي عمل فيا كده في ستين داهية، خدوني برا المستشفى دي، أكيد هو اللي جابني وأكيد حسام هو اللي عالجني وأنا بقا خلاص! مش هاسكتله اكتر من كده!..
احتقنت دمائها بالإنتقام؛ لن تتنازل عن أي شيء له بعد الآن.. ستأخذ بثأرها منه شاء أم أبى، بالطبع لم تصدق أيًا مما أخبرها به عن والدها بشأن اغتصابه لوالدته؛ كل ما فعله بها ستنتقم له، منه هو ووالدته..
فقط الآن عرفت لماذا كان يتوعدها كل ذلك الوقت، ولكن كل ما أخبره به عن والدها لابد من شخص ما وضعه بتفكيره، ستدمره هو وأياً كان من جعله يصدق هذا..
#يُتبع . . .