-->

الفصل الثامن والعشرون - جسارة الإنتقام




 - الفصل الثامن والعشرون - 

لقد مر ما يقارب شهران بأكملهما منذ تلك الليلة التي لا تزال كل كلمة نطقت بها تدوي بعقله، يتذكر تلك الدموع التي سقطت من عسليتاها لتنهش بقلبه كمليون سيفاً ينغمس به لتُزهق روحه ثم يعود للحياة مجدداً حتى تُعاد الكرَّة، منذ ذلك الحين وتُضاعف تلك المواجهة بينهما عندما يتذكرها آلامه أضعاف مضاعفة وخاصة أنها لأول مرة وقفت أمامه بجرأتها لتجسد بلحظات قليلة كل ما حدث بينهم بتلك الليلة المشؤومة ليشعر بتهشم قلبه وثقل كاهليه بما لا يطيق..

يتألم وازداد انكساره ولكن ليس مثل قبل، فما رآه وما سمعه منها لم يُعطِ له فرصة أو أمل في أن يحاول مجدداً، شعر باليأس المطلق، قرر أن يدعها وشأنها، لا يظن أن هناك المزيد ليفعله على كل حال، رآى أنه قد حاول بكل ما يملك من طاقة، ظن أنه كافياً أن تبقى بالقرب منه، ظن أن بحمايتها وبخوفه عليها هكذا يكفر عن ذنبه، سيحقق لها كل ما تتمنى حتى لو طلبت الطلاق لن يتأخر بأن يفعلها، بل وسيترك لها كل شيء..

سيظل يتابعها ويراقبها ليس فقط لتملكه اياها ولكن لإدراكه بل وتأكده ما تستطيع "هويدا" أن تفعله بها، علم بخطتها مسبقاً التي تنويها وإذا فعلتها ستكون بمثابة إشارة البدأ له لأن يدمرها بالكامل، يقتله الخوف بأن تؤثر "هويدا" عليها سلباً بأي شكل من الأشكال..

ينتظر فقط أن تتعرض لها ولو لمرة واحدة ليطيح بها للأبد، يكفيه إنكساره وعقابه المريران اللذان يتجرعهما بنهم وكأنما أصبح عاشقاً لذلك الآلم كلما رأى "سيرين".. لذلك لم يُحاسب "هويدا" على ما فعلته به، وبالرغم من أن كذبها عليه وخداعه يدفعه لفعل للقيام بأشياء شنيعة ولكنه إلي الآن يتحمل لأنه مدرك جيداً أن ثقته العمياء بها كانت خطأه هو وحده.. 

أما إذا فكرت بالإقتراب لتؤذي "سيرين" ولو بمقدار ضئيل يعلم جيداً كيف يتصدى لها!! لن تكن السبب بإيلامها مرتان، لن يسمح لها لتفعل ذلك بالمرأة التي أحبها قلبه..

سيتسمر بإبتعاده عنها، لقد أعطى لها جميع ما ستحتاج، يحضر بناءاً على طلبها، ينفذ لها كل ما تريد، يثق بتلك الجسارة بداخلها وبالرغم من صغر عمرها إلا أنه لاحظ مدى دهاءها كسيدة أعمال لذا تراجع عن كل شيء لتشعر هي بالتحكم بل وإمرتها على الجميع.. أصبح يعمل من أجله هو بل وكأنه قد سأم كثرة الأعمال فاكتفى بما يملك، لماذا سيعمل وسيشيد ثروة على كل حال؟ من أجل من؟ لم يعد لديه من يثابر من أجله.. 

وحدته تواترت كل يوم وكل ليلة، لا يعلم لمن يتحدث؟ لم يعد يشعر برغبته في إثقال كاهل أحد بهمومه ومشاكله، لن يذهب لـ "نور" وهي أخته الصغرى العروس الذي لا يريد إلا أن يراها سعيدة، وبالطبع إذا باح بمكنونات صدره لـ "معتز" لن يستبعد للحظة أنه سيخبر زوجته وخاصةً أنه لاحظ كم يُحبها، "حسام" ربما؟! يتذكر جيداً كم أصبح معه بعدما حدث ..

لم يعد يملك غير صورته بالمرآة التي كرهها كثيراً حتى أصبحت ملامحه الجامدة الصارمة تشكل عليه عبئاً من نوع جديد لم يكن بحسبانه..

كان ونيسه الوحيد خياله الذي يحلق به في سماء الأحلام.. حلم يقظة يُسكن تلك الأوجاع لثوان قليلة ربما أمتدت لدقائق معدودة قبل أن يُفزع بالحقيقة المُرة..

يوصد عيناه متخيلاً معانقتها اياه ليبكي بصدرها هي وحدها، يُخبرها بكثرة كم هو آسف، كم هو نادم، كم تآلم ولا يزال يتألم بل ولن يسامح نفسه حتى لو فعلت هي.. 

ترتسم على شفتاه ابتسامة حزينة بعد أن يعوض وحدته بتلك الصورة التي خُيلت له بعد أن أنغمس في عالم الخيال، يفتح عينه ليشعر بوحشة الفراغ حوله ثم يتجرع تلك الآلام من جديد.

     

جلست لتعيد التفكير، ربما للمرة الألف، كم كرهت نفسها لذلك، أصبح عقلها لا يفكر إلا بكل ما يفعله معها مؤخراً، لقد ظنت أن هدوءه سيلازمه لأيام فقط ثم سيعود مرة ثانية لتلك الشخصية المغرورة المتحكمة مثلما عهدته ولكن كل يوم يمر بدأ في أن يُثبت لها كم تغير..

كرهت نفسها عندما تأكدت من ضعفها واستحواذه على تفكيرها بل ولأنها تأكدت أكثر من مرة أن ذلك الإنكسار بملامحه وحزنه يؤلمها هي الأخرى..

ضعفها أمامه عندما بكت، تلك الآلام التي انفجرت بداخلها عندما نطقت بتفاصيل تلك الليلة التي لا يعلمها سواها، تغيرها الشديد بأن أصبحت هادئة للغاية وهي لم تكن هكذا يوماً.. بغضت تلك الكتلة من المشاعر المتجمعة بداخلها كلما فكرت به وبعلاقتهما سوياً..

لقد مرت تلك الأيام عليها وهي غاضبة كثيراً، أين هو؟ لماذا لم يأتي؟ لماذا يكترث إذن وصمم على تعيين إحدى السائقين لها؟ لماذا فاجئها بإحضار مربيتها وخادمتيها من منزل أبيها؟ يغادر باكراً قبل أن تستيقظ ويأتي في ساعات الصباح الأولى عندما تكون نائمة، لماذا يتحاشاها؟ أيظن أن ذلك حقه؟ يا ترى ماذا يفعل؟ أعاد لذلك الرجل الذي اعتاد معاشرة النساء؟ أتصالح هو وأمه؟ مئات التساؤلات التي اندلعت بعقلها ولا تجد لها إجابة.

لن تسمح لها كرامتها أن تسأل أي أحد عنه وفكرت وهي تُغلق عينيها تعتصرهما بشدة:

 - وأنا مالي أصلاً بيه، يروح مكان ما يروح ولا يعمل اللي عايز يعمله.. أنا بفكر فيه ليه أساساً؟ وبعدين أنا حكمت قلبي وعقلي خلاص، أستحالة أسامحه، مش بعد كل اللي عمله فيا، ومهما حاول مش هوافق..

مش عشان يعني بيعملي كل حاجة بترضيني وبيعملي حاجات بحبها وبطل يعاملني وحش يبقا كده خلاص سامحته.. استحالة! ده ابن هويدا في الأول والآخر وهيفضل طول عمره انسان مقرف! وأنا أصلاً وافقت إني أعيش في مكان واحد عشان أنتقم نه هو وأمه وأرجع حق أبويا تاني وأشوفهم وهما مقهورين وأنا باخد حقه

زفرت في ضيق ثم تحدثت لنفسها قائلة:

- بس برضو حقي اعرف هو بيروح فين وبيجي منين! مش عمال يقولي جوزك ورجالة لأ وتركبي العربية دي وتيجي مع السواق، يبقا أنا كمان من حقي أعرف هو بيعمل ايه! من حقي اتأكد بيعرف ستات زي زمان ولا لأ؟ لازم أتأكد اتغير فعلاً ولا كل اللي بيعمله حركات على الفاضي؟! 

تعالت أنفاسها في غضب وتحفز لتمسك بالهاتف وتحدثت إلي "معتز" وانتظرت إلي أن اجابها:

- ازيك يا معتز عامل ايه؟

اجابها بنبرته الحماسية دائمًا وقال:

- تمام الحمد لله، مش ناوية تجيلنا بقا تخلصيني من نور شوية

ابتسمت لتتهكم قائلة:

- أنتوا لحقتوا؟

زفر في ضيق وقال:

- بهزر يا ستي.. دي روحي دي..

سرعان ما سألته بجدية:

- هو فين جاسر يا معتز؟

تعجب لفعلتها فهي لأول مرة تستفسر عن وجوده حتى ازداد الصمت عن المفترض فبادرت بالحديث: 

- أصله مبقاش بيجي الشركة زي الأول والمفروض هو بيشتغل هنا في الأول وفي الآخر يعني ولازم يكون موجود وشايفـ.. 

قاطعها بقليل من السخرية:

- أنتي فعلاً بتسأليني عن مكان جوزك اللي المفروض أنا أسألك عليه

بالطبع لم تكن تريد الشعور بذلك الإحساس الذي انفجر بداخلها ورغما عنها شعرت بالإهانة ولكنه أكمل حديثه متابعًا:

- جاسر بقا بيتابع شغله.. مكنش معتمد بس على ورثه من باباه الله يرحمه، وعموماً يا ستي ابقي كلميه وأسأليه.. هيتبسط اوي على فكرة 

عقدت حاجبيها وهي تهاجم كلماته ولكن بعقلها فقط لترد قائلة:

- طيب شكراً يا معتز 

أنهت المكالمة بسرعة دون أن تطرق لأحاديث جانبية لتشعر بالغيظ ولأول مرة تشعر بالحاجة لوجوده بجانبها، لا تدري هل هي خائفة من مواجهة "هويدا" وحدها أم هناك تلك الرغبة بداخلها لترى كيف أصبحا سوياً خاصة وأنها لم تسمعه يتحدث لها ولم تُصدق ما فعله بها عندما أخبرتها "نور" تفاصيل ذلك اليوم الذي قام بصرفها من المنزل.

     

تحدث له في مشاكسة قائلًا:

- يا عم التقيل.. المدام بتسأل عليك

صاح بلهفة وقلق:

- سيرين كويسة؟ جرالها حاجة ولا ايه؟

ضحك الآخر على ما قاله وتسائل بتلقائية:

- متقلقش.. بس واضح إن كرامتها ناقحة عليها شوية، أول مرة تسألني عنك.. صحيح أنت بطلت تيجي ليه؟

تنهد في راحة لإدراكه أنها بخير وقال: 

- مبقاش ليها لازمة.. كده كده سيرين عرفت كل حاجة في الشغل وأنت واخد بالك من الباقي

همهم في تفهم ثم سأله:

- يعني خلاص قررت تبعد وتسيب كل حاجة كده؟

اصدر تأتأة لبطئ فهمه وتحدث حانقًا:

- أنا مش بعيد يا معتز، أنا عارف كل حاجة بتحصل، وأصلاً أنا في الطريق وجي، وكمان كنت عاوزك في حاجة

عقد حاجباه وتعجب ليقول:

- خير فيه ايه؟

لم يود اخباره في الهاتف فقال:

- لما أجيلك بقا.. سلام دلوقتي

تمتم "معتز" وهو يعيد نظره لتلك الأوراق أمامه وهناك العديد من التساؤلات سيطرت على عقله بشأنهما:

- يا ترى ناوي على ايه تاني يا جاسر أنت والمجنونة اللي اتجوزتها دي! 

     

تحدث المحامي برسمية إليها:

- مدام سيرين، حضرتك فاهمه إن مدام هويدا كان معاها توكيل لحسابه و..

قاطعته بحدة رافضة لتلك الكلمات:

- توكيل لحسابه اللي كان بيستقبل عليه دُفعات من العملا، مش حسابه الشخصي كمان، وكفاية أصلاً إنهم سمحوا ليها في البنك تعمل كل ده

أومأ في تفهم وقال مُفسرًا:

- ماشي بس بردو الموضوع صعب، يعني لو اترفعت قضية قدامنا كتير أوي، يعني على ما نرجع لموظفين مش بعيد يكونوا طلعوا معاش أو أتنقلوا وأوراق وحاجات كتير جداً من يجي خمسة وعشرين سنة، أنا بس بحاول أوضح إن موقفك هيكون ضعيف ومش بالسهولة إننا نلاقي أدلة..

اخبرته وهي تشرد بنظرها:

- كفاية البلبلة اللي هنعملهالها، وأكيد هنوصل لحاجة عشان ألاقي بيها حقي..

شعرت بالخوف ثم استأذنته: 

- معلش هاعمل مكالمة وآجي لحضرتك على ما تشرب القهوة

أمسكت بهاتفها لتغادر المكتب ووقفت بجانب المصعد ثم همست: 

- مراد معلش.. تعالالي أنت ورامز ضروري

صاح إليها في قلق من نبرتها التي بدا عليها الخوف:

- فيه ايه يا سيري؟ انتي كويسة؟

تنهدت ثم اجابته على عجالة:

- لا مفيش، المحامي جه والمفروض العقربة هويدا جاية كمان شوية، وهنخليها تختار يا تتنازل عن اسهمها ونصيبها يا إما هرفع عليها قضية ونجري ورا بعض في المحاكم

صاح في انفعال:

- يخربيت عقلك.. طب كنتي ارجعي لحد مننا، جاية تقولي على ده النهاردة؟

غضبت بشدة لتزجره بنبرة حادة:

- بقولك ايه هتتعصب عليا أنا مش عاوزة منكوا حاجة!

زفر متأففًا ثم قال:

- أنا جاي وهكلم رامز اهو.. واياكي تبتدي حاجة غير لما نيجي

أنهى "مراد" المكالمة ليهاتف "رامز" مسرعًا وتنهدت هي وكادت أن تعود للمكتب ليوقفها صوته المنادي: 

- سيرين

التفتت له وتمنت أنه لم يستمع لنبرتها المتوترة التي حدثت بها "مراد" منذ هنيهة واجابته سائلة ببرود: 

- عايز ايه؟

نظر لها بزرقاويتاه ليدرك أنه اشتاق لها كثيراً حتى هي تعجبت لنظراته، ولكنه يعلم أنه لا يستطيع أن يقترب منها بعد أن عرقلت كل السبل أمامه للإقتراب لها وحدثها قائلًا:

- مش المفروض كنتي تقوليلي على اللي هتعمليه؟ كنت هساعدك على فكرة واجيبلك حقك من غير قواضي..

تحدثت بحنق ولأول مرة منذ اكثر من شهران يرى الغضب بادياً عليها:

- على أساس ايه إن شاء الله؟ لو قولنا جوزي فانسى الموضوع ده من غير ما نعيد ونزيد في كلام مالوش لازمة.. ولو على أساس إنك موظف هنا في الشركة زيك زي غيرك فأنت أصلاً مش هنا!! عايز تعرف وأقولك ازاي؟ 

علت نبرتها ثم تحدثت في عصبية حتى لاحظ بعض الناس: 

- أوعى تكون فاكر إنك لسه جاسر بيه الآمر الناهي، إنت هنا حتة موظف، اللي يمشي عليك يمشي على غيرك، وأنا استحالة أتهاون معاك في عدم حضورك ده.. أعتبره أول وآخر إنذار ليك!!

صاحت بكل ما أوتيت من قوة ثم عادت لمكتبها وقد تعجب البعض بعد أن أجتمعوا بسبب صوتها لتلك الطريقة التي تتحدث بها بينما هو لم يلاقِ كلماتها المُهينة بأي كلمة وتبعها في صمت.

جلست على مكتبها متصنعة الغرور والبرود التام بعدما سمعت خطواته خلفها ليراه المحامي الذي عرفه فصافحه ثم جلس ليدخل بعدها بقليل "معتز" الذي علم بما فعلته "سيرين" من كل المتواجدين بالشركة بينما وجد البرود التام يغلف الجو حول الجميع فتحدث بنبرته المرحة  محاولاً تخفيف تلك الحدة:

- خير يا جماعة فيه ايه؟ ساكتين ليه كده؟

كاد "جاسر" أن يتحدث لتبادر "سيرين" متهكمة: 

- مفيش.. مستنين الحرامية اللي سرقت فلوس أبويا ونصبت عليه زمان عشان آخد حقي منها

نظرت بعسليتاها إلي "جاسر" الذي بادلها النظرة وهو حقاً لم يكترث لما يُقال على "هويدا" ولكنها بدت مصممة اليوم على أن تكيل له تلك الإهانات دون تواني.

عقد "معتز" حاجباه لطريقتها اللاذعة واندفاعها الدائمان وشعر بالتوتر بينها وبين "جاسر" ولم يستطع التدخل فازدرد ريقه في صمت وكاد أن يخرج ليسمع طرقات الباب لتدخل "هويدا" بغرور وكبرياء وما إن وقعت عيناها على "سيرين" الجالسة على رأس المكتب التي نظرت لها بإحتقار شديد حتى شعرت بالغضب من نظرتها ووجهت زرقاويتاها المشتعلتان غضباً نحو المحامي وصاحت بحدة:

- أنت جايبني هنا عشان تهزقني ولا ايه؟ مش على أساس إن جاسر هو اللي عاوزني مش حد تاني؟

كادت أن تغادر ليحمحم المحامي ثم تحدث برسمية ووقار:

- بعد إذنك يا هويدا هانم أتفضلي اقعدي عشان بردو ميبقاش عملنا حاجة بدون علمك 

تأففت "هويدا" حانقة وجلست على مضض بجانب "جاسر" ثم كاد المحامي أن يتحدث فبادر الآخر بنبرة باردة هادئة فارغة من المشاعر:

- اخرجوا برا لو سمحتوا وسيبوني أنا ومراتي وهويدا هانم لوحدنا شوية

لم تبشر كلماته بالخير بعد أن تحدث بإسمها بتهكم لاذع لينظر له "معتز" في تعجب ثم غادر للخارج على مضض ثم تبعه المحامي الذي شعر بالإحراج.

التفتت نحو "جاسر" لتنظر له وهتفت في لهفة زائفة:

- وحشتني اوي يا حبيبـ..

قاطعها بحدة متحدثًا ببرود:

- كهن النسوان ده تنسيه ومش عليا أنا.. ولا نسيتي إني تربيتك

تعجبت "سيرين" بما سمعته ثم رآته ينهض وابتعد عن أعين كلتاهما ووجه ظهره لهما وتابع في غرور خفى به آلامه:

- أنتي جاية هنا النهاردة لحاجة من اتنين.. يا تتنازلي عن كل اللي ليكي في الشركات لمراتي ونلم الدنيا بإحترام كده ومن غير شوشرة بدل اللي سرقتيه زمان من حمايا، يا إما تجري في المحاكم وسيرتك تبقا على كل لسان!!

انفجرت "هويدا" غضبا بما قاله وصاحت بتوسل زائف:

- بتعمل في أمك كده يا جاسر، تعبي وشقايا السنين دي كلها جي ترميه في ايد حتة بت لا راحت ولا جـ..

قاطعها مُلتفتًا لها بأعين تشتعل غضباً :

- تحترمي نفسك وأنتي بتتكلمي عنها بدل ما أعرفك مقامك بجد

زيفت دموعاً بفيروزيتاها وشرعت في ذرفها:

- يبقا بجد اللي سمعته صح.. هي اللي فرقت بيني وبينك، خدت تعبي وشقايا طول السنين دي أنا وأبوك، بقيت جوز الهانم؛ بسببها ذلتني و..

 قاطعها مبتسماً بتهكم: 

- ما كفاية بقا شغل دموع التماسيح ده

تريث لبرهة ناظرًا لوجهها الخادع ثم استطرد:

- ده آخر إنذار ليكي، لو اتكلمتي عنها تاني أنا هكرهك في اليوم اللي فكرتي تجيبي سيرتها على لسانك

تحدث في جدية وكل هذا الوقت "سيرين" فقط تراقب كل منهما ولاحظت "جاسر" الداعم لها بشكل غريب ولكنها إلى الآن لا تستطيع أن تثق به وقررت أن تتدخل بالنهاية فقالت متحدثة بهدوء:

- بصي عشان منضيعش وقت بعض.. يا تتنازلي والمحامي موجود ويخلص كل حاجة يا إما المحاكم.. تختاري ايه؟

نظرت لها "هويدا" بحقد وكراهية شديدتان وصاحت بها: 

- أنتي تخرسي خالص ومتوجهليش كلام نهائي، مبقاش كمان بنت سلوى اللي توجهلي كلام، وإن كنتي متعرفيش إن أبوكي اللي أغتصبني و.. 

هنا لم يستطع "جاسر" أن يُسيطر على نفسه عندما اندفعت الذكريات المريرة أمام عيناه ولم يدرك ما فعله حتى وجد نفسه قد اطاح بما على المنضدة بوجهها وهدر بصوته في غضب شديد تشنجت على اثره ملامحه بأكملها: 

- اياكي تنطقي بالكلام ده تاني، فاكرنا هنصدق حاجة من الهبل ده، كفاياكي بقا كدب وافترى كل السنين دي، يا تتنازلي يا هويدا يا إما هتوقفي قدامي أنا، وأظنك عارفة كويس يعني ايه توقفي قدامي.. وأنتي اللي مربياني وعارفة ممكن أعمل فيكي ايه، واياك تفكري بس تأذي مراتي أو تيجي جنبها.. واتفضلي من غير مطرود وتبلغي قرارك للمحامي

توقف عن الكلمات وهو يلتقط أنفاسه الغاضبة لتُفزع "سيرين" من رؤيته بهذا المنظر لتتذكر تلك الملامح المخيفة خاصته فابتلعت في ارتباك وشعرت بالحاجة لوجود كلاً من "مراد" و "رامز" بجانبها ليفيقها من ذلك التفكير "هويدا" التي نهضت من مكانها وهي تجفف دموعها المزيفة في انفعال ثم عدلت من هندامها وتصفيفة شعرها  وتحدثت بكبرياء منقطع النظير وكأنها على حق:

- حتى لو المحاكم!! محدش هيعرف ياخد مني حاجة!!

توجهت لتغادر المكتب فأوقفها صوت "جاسر" الذي حذرها:

- يبقا أنتي كده أخترتي تواجهيني أنا.. مش هاسيبك يا هويدا 

لم تتوقف وتوجهت للخارج لتصفع الباب في انفعال حتى تعجب جميع الجالسين بغرفة الإستقبال ثم توجهت للخارج مبتعدة عن أعينهم.

حدثها بإقتضاب وقال:

- سيرين متخافيش.. هافضل وراها لغاية ما..

قاطعته بسخرية وقالت:

- ومين قالك إني خايفة.. أنا عارفة هاجيب حقي ازاي، اتفضل على مكتبك و..

 قاطعها متوجهاً نحوها وأمسك بيدها رغماً عنها وهوى جاساً على ركبتاه أمام كرسيها لتنظر له في تعجب ثم توسلها بلهفة حقيقية وانهال الصدق من عيناه:

- عارف إنك خايفة، ممكن تعملي نفسك قوية ومش خايفة قدام أي حد ما عدا أنا، أنا عمري ما هاسيبك وهافضل سندك وفي ضهرك، حتى لو مش مسمحاني يا سيرين او مش قابلة تتعاملي معايا، ليكي حق تعملي كل اللي أنتي عايزاه وأنا موافقك عليه، بس مهماً عملتي أنا خلاص حفظتك، عرفت امتى بتخافي وامتى مبيفرقش معاكي وامتى بتكوني مبسوطة، ومتقلقيش، هاعملك كل اللي أنتي عايزاه، بس أرجوكي بلاش تعملي حاجة مع هويدا أنا معرفهاش، الإنسانة دي مش سهلة وأنا خايف عليكي منها صاح 

تفقدت فيروزيتيه لدرجة أنها صدقته للحظة ثم ابتسمت في تهكم وهمست به مُدعية التأثر الزائف:

- لا والله.. برافو عليك.. فاكر إني مصدقاك بعد التمثيلية الحلوة دي.. فاكر إنك بالحركتين دول خلاص هاسامحك وأجري عليك واخدك بالحضن

انتزعت يدها من يداه في عنف ثم نظرت له بإحتقار: 

- لو هنفرض إنك خايف عليا وفي صفي.. أنت لسه مبهدل أمك بإسلوب زبالة ومطير الحاجة في وشها.. اللي مهما كان أمك بردو بعد كل اللي عملته، فاكرني هثق فيك؟ فاكرني هفكر ولو لثانية إنك اتغيرت؟ لا مش أنا يا ابن هويدا، متحاولش تاني عشان خلاص!! مهما عملت عمري ما هسامح وأنسى.. 

مش هاستنى تاني تدخل عليا بفتاة ليل ولا تمسكني تضربني ولا مش بعيد تغتصبني تاني.. كل اللي بيني وبينك هو كام حيطة بتجمعنا آخر الليل وقصاد الناس احنا متجوزين، أكتر من كده مالكش عندي حاجة، فبطل بقا حركاتك دي لأنها عمرها ما هتدخل عليا.. 

تحدثت بحرقة وهي تشعر بصعوبة أثر كل كلمة تنطقها وهي تهشمها من الداخل ثم أمسكت بحقيبتها وأخذت تلم أشيائها ولم تكترث بنظرات الإنكسار الشديدة والحزن الذي سيطرت على ملامحه لينهض في وهن ثم ابتلع ونظر لها نظرة أخيرة وتحدث بصوت هادئ وحزين:

- طيب يا سيرين.. اعمـ..

 قاطعته وهي تجاهد بشدة ألا تتأثر بألآمه الظاهرة عليه:

- أتفضل على مكتبك عشان مش فاضيالك

 غادرها للخارج ولم ينبث بكلمة ليتعجب الجميع لملامحه ثم تحدث بهدوء للمحامي:

- خد إجراءاتك وارفع القضية 

بمجرد خروجه تبعه "معتز" بينما دخل كلًا من "مراد" و "رامز" مهرولان لرؤية "سيرين" والإطمئنان عليها فتسائل الثاني في لهفة:

- ايه اللي حصل؟

نظرت لكلاً منهما ثم أنفجرت بالبكاء.

     

صاحت "هويدا" وهي ممسكة بهاتفها في حرقة بمجرد مغادرتها للشركة:

- اللي قولتلك عليه يتنفذ بكرة بالكتير.. سامعني؟ ويتصوروا ويتفضحوا قدام الكل، وأول اتنين يروحلهم الصور جاسر ونور!

آتاها الرد من الطرف الآخر:

- تحت أمرك يا هانم

 تحدثت بعصبية وتوتر وقالت: 

- وعايزاك في حاجة تانية.. هبعتلك تاريخ كده تجيبلي كل اللي كانوا شغالين في بنك .... وقتها والمسئولين عن السحوبات والإجراءات كلها، ومش عايزة أي تأخير أو غلط لحسن أفضحكم وأعرفكم كويس أنا مين!

لا تدري بم تنطق ولا ما الذي تقوله وكل ما أرادته أن ترى إنكسار "سيرين" أمامها التي كانت السبب في افتراق ابنها عنها وألا تبقى معه لتعوده هي بجانب "جاسر" ويُصبح كل شيء على ما يُرام أو هكذا ظنت ولكنها لا تعلم شيئاً..

ابتسمت بتهكم وهي تُفكر في كل ما أعدت لها وهي تظن أن خطتها ستنفذ كما أرادت لتُفكر بعقلها والغيظ يتآكلها:

- إن ما وريتكوا أنا مين مبقاش أنا هويدا!!! فاكرة حتة العيلة دي إنها هتقدر عليا، ده بعدها، أنا هوريها مقامها كويس أوي!

     

تحدث "جاسر" لكلًا من اخته وزوجها في تساؤل:

- فهمتوا بقا هتعملوا ايه؟

لا تزال الدهشة تسيطر عليهما لتقول اخته: 

- بس لازم تفهم سيرين يا جاسر، دي مصيبة لو حاجة حصلت أو.. 

قاطعها قبل أن تُكمل:

- مش هينفع غير كده يا نور.. يمكن ده الحاجة الوحيدة اللي نقدر نمسكها عليها

اشاح بنظره بعيداً عن كل منهما وهمس: 

- طبعاً مش هوصيكوا انكم متجبوش سيرة لحد، وبالذات سيرين، لأن أول حاجة هتعملها هتفهم غلط

أومأ كلاهما بالموافقة لتتسائل اخته:

- هي لسه مـ.. 

قاطعها قبل أن تُكمل:

- لسه يا نور، خليها براحتها، أنا خلاص مبقتش مستني انها تسامحني او تنسى

 تسائل "معتز" وبدأ أن يشعر بالغضب لتلك الحاله التي أصبح عليها:

يعني هتفضل كده؟ مش هاتعمل حاجة؟

تحدث كالمهزوم مجيبًا:

- أنا حاولت وعملت اللي أقدر عليه!

شعرت اخته بالآسى الشديد على حالته وقالت علها تستطيع أن تعطيه بعض الأمل:

- أنا هاكلمها؛ وهافضل وراها، إن شاء الله كله يكون تمام

ابتسم بإنكسار وهمس:

- ملوش لزوم.. خلاص هي قررت ان استحالة تسامحني

عانق كلاهما قبل أن يغادر إلي بيته وتحدث مجدداً ليودعهما متنهدًا: 

- يالا.. الوقت أتأخر.. تصبحوا على خير

     

تمتمت في حنق عندما استعادت كلمات كلاً من "مراد" و "رامز" وما أخبروها اياه:

- يعني هافضل كده، أنا زهقت بقا!!

سرعان ما توالت الكلمات من جديد برأسها التي وقعت صباح اليوم بالشركة: 

- بصراحة يا سيري أنتي زودتيها اوي معاه، وبعدين لما معتز حكالنا هزئتيه ازاي قدام الشركة كلها أنا بصراحة استغربتك أوي، وكل اللي بيعمله ميتفسرش غير إنه ندمان وعايز يصلح كل اللي عمله

تحدث "رامز" بهدوء مازحاً محاولاً أن يهدأها قليلاً ولكن بنفس الوقت يتفق معه

- وأنا كمان رأيي من رأي الواد الحنين ده.. بصي أنا لأول مرة هقولكوا الكلام ده وكان جاسر طالب مني إني مجيبش سيرة لحد

زفر بإرتباك ثم أكمل:

فاكرين لما كنا في الأسانسير وسيرين اضايقت وضربتني؟ 

تريث ليومأ الإثنان بتذكرهما ثم أنزعجت ملامحها لأنها تكره ما فعلته كثيراً فتابع:

- ساعتها ما شوفتش قدامي، رجعتله المكتب وكنت هموته، أنا مزعلتش من سيرين بس اللي حرقلي دمي إن هو اللي خلاكي كده، يومها كان معتز معاه في المكتب وخلاه يطلع برا، قالي حاجات كتير..

قالي انه مستعد يتنازلك عن كل حاجة في الورث ولو عايزة كمان فلوسه هو شخصياً ممكن يديهالك، حكالي كتير عن ازاي ابتدى يحبك، خيرني أنا يرضيني ايه أنا ومراد وهيسبنا نعمل اللي عاوزينه فيه، وعدني وفعلاً كان راجل معايا، قالي أنا هرجعها زي الأول وهتبطل الخوف ده وهترجع طبيعية وقال إنك لو متغيرتيش عنده استعداد يطلقك وهيسبلك كل حاجة اتنازلك عنها، وبصراحة لما بحط نفسي في مكانه ببقا كاره نفسي ومش عارف اتصرف ازاي.. 

وقال إن كل اللي عايزه منك هو فرصة تانية وهيحاول على قد ما يقدر وإن ده كلام رجالة وعمره ما هيعمل أي حاجة من الحاجات بتاعت زمان وقالي لو عايز أي ضمانات عليه اطلبها!

تريث ثم توجه نحوها رابتاً على رأسها في حنان واستطرد: 

- جاسر بيحبك أوي.. أديله فرصة، وأنا لو بجد هختار لأختي عمري ما هلاقي حد يحب حد ويخاف على حد كده

صاحت بدموع تواترت بلا توقف:

- أنا خايفة!! أنا تعبت من كتر التفكير!! أنا مش هاثق فيه، وهو لا بيحبني ولا حاجة، هو بس عايز يطلع ضحية قدام الكل

 جففها "رامز" دموعها على الفور بينما تسائل الآخر:

- أنتي شايفه إنه عايز يطلع ضحية وهو معترف قدام الكل إنه غلطان؟ أنتي مشوفتيش يا بنتي وأنتو مع بعض في الفرح كنتوا عاملين ازاي؟

اجابت بضيق:

- أنا كنت بمثل عشان نور وعشان اليوم يعدي على خير

ضحك كلاهما وهما يتبادلان النظرات ومن ثم ضيق "رامز" عينيه نحوها وسألها ممازحًا:

- يا بت؟! علينا احنا؟

نظرت له في غضب بينما ابتسم مُكملاً:

- رجعتيله بقالك أكتر من شهرين أهو ولا عمرك اشتكيتي منه، ولما في الأول اتجوزتوا مبقالكوش اسبوع جيتي وانتي مكسرة!! شايفة كل ده إنه متغيرش؟ ده أنتي بقيتي تبيعي وتشتري فيه قدام الناس وميفتحش بقه، ما تدي الراجل فرصة يا سوسو

تأففت ثم صاحت بهما:

- يووه بقا .. مش هاديله فرصة وعمري ما هسامحه.. ارتاحوا بقا

زفرت في حنق بعدما تذكرت حديثها معهما ذلك اليوم ثم تقلبت للجانب الآخر من السرير وهي لا تستطيع النوم من كثرة التفكير لتجد باب الغرفة يُفتح وكذلك الضوء فنهضت على الفور لترى "جاسر" وعيناه شديدة الإحمرار ووجهه يحمل آثار البكاء وملابسه مبعثرة على غير العادة ويتجه نحوها وهو ممسكاً بأحدى الأكياس المغلفة للقفازات وبيده الأخرى مسدساً فصاحت في خوف ثم ابتلعت وهي تُمسك بالصاعق الكهربائي الذي ابتاعه لها:

- أنت ازاي تدخل عليا كده، أنت أتجننت؟

اشار إلي الصاعق وقال:

- لا ملوش لازمة ده

ابتسم في تهكم ثم ألقى لها بالقفازات على السرير في غضب وتبعهما المسدس وحدثها في وهن:

- أقتليني يا سيرين

اندهشت ولم تستطع التحدث ثم توجه هو نحوها وصاح بها: 

- مش ده هيخلصك؟ مش انتي مش طايقاني؟ البسي الجوانتي ده وأمسكي المسدس واقتليني.. متقلقيش بصماتي عليه والبوليس هيفتكر اني انتحرت..

صاحت به وقالت:

- أنت أتجننت شكلك و..

قاطعها بصوت تمزق آلمًا وقال:

- آه أنا أتجننت، من يوم ما عرفتك واتكلمت معاكي وأنا أتجننت، مبقتش عارف أنا بعمل ايه ولا بتصرف ازاي، عقلي مكنش مستوعب إني حبيت بنت الراجل اللي أغتصب أمي دوناً عن ستات الدنيا كلهم، كل ما كنت بظلمك وبفتري عليكي كنت بتوجع وببقا مش عارف أعمل ايه في نفسي، كنت بحنلك وفجأة أفتكر إني عايز أنتقم من أبوكي فأعمل بلاوي سودا عشان أكرهك فيا وفاكر إني كده أنا كمان هبعد عنك وهاكرهك بس كنت مغفل!!

أنا عمري ما بطلت أحبك، أفتكري كويس ليلة ما أبوكي مات، أفتكري إني قولتلك ننسى كل حاجة، قولتلك بلاش تخليني أعمل كده، يوم ما بنتقم من حد أو بحاول أوجعه ببقا زي الأعمى مش شايف قدامي، فاكرة يوم ما أغتصبتك؟ فاكرة كل كلامي ليكي؟ لأول مرة في حياتي عيطت وأنا مع ست، كنت بموت من جوايا، كنت عارف إني هاكسرك للأبد، كنت بترعب من قوتك وجرأتك وجبروتك قدامي اللي عرفت إني مبحبش أكتر منهم 

تريث لبرهة ليمسح تلك الدموع التي حالت دون رؤيتها ليقترب منها مُمسكاً بذراعيها وصرخ بها:

- موتيني وخلصيني وخلصي نفسك، أنا مبقتش قادر أستحمل!

نظرت لها في إندهاش وهو يبكي أمامها كالأطفال في انهيار شديد وهدر صوته الباكي:

- أنا مش هاقدر أعيش بالذنب ده، مش هاقدر أسامح نفسي، أنا بموت كل يوم أنتي بعيدة فيه عني، كلامك ليا وابن هويدا اللي مش بتبطلي تقوليها بتحرقلي قلبي، أنا بكرهها أكتر من أي حد في الدنيا، لولا أننا كنا في الشركة كنت موتها النهاردة، مبقتش قادر أعرف انها عايشة وهي كل السبب في اللي أنا فيه.. 

أراح وجهه على أحدى كتفاه ليجفف فيروزيتاه وهو لا يزال ممسكاّ بذراعيها وتابع:

- أنا بقا كل أملي إنك تسامحيني أو حتى تديني فرصة إننا نبتدي من جديد، عارفة ليه، عشان أنا مبقاش ليا حد غيرك، الوحيدة اللي وثقت فيها لعبت بيا الكورة، استغفلتني، خلتني أكسر الوحيدة اللي حبها قلبي، أنا عمري ما حبيت قبلك، مش هقولك إني ملاك بس كل الستات اللي حواليا كانوا أوساخ، كل واحدة عايزة مصلحتها وبس، اللي كلبة فلوس واللي نفسها تقضي ليلة واللي عايزة تتصور قدام الناس مع جاسر شرف الدين وطمعانة في شهرة لكن أنتي عمري ما شوفت أنضف منك، أنا بقيت مجنون بيكي.. 

وكل الفترة اللي فاتت كنت بحارب نفسي، كنت بتحجج بإنك بنت هشام، بس مقدرتش، أنا بولع من الغيرة كل ما راجل يقرب منك، مراد ورامز متأكد أنهم زي إخواتك بس مبقدرش أشوف واحد فيهم يجي ناحيتك، بتقتليني بضحكتك ليهم اللي عمرها ما كانت ليا، كنت في حرب ما بينك وبين أمي، كنت غبي أوي لما أديت كل الثقة ليها، متخيلتش أم توجع ولادها أوي كده.. 

ازداد بكاءه لينهار أمامها على قدماه وأحتضن جسدها بين ذراعاه القويتان وهمس في ترجي:

- أرجوكي موتيني وخلصيني، مبقتش قادر أعيش أكتر من كده، كفاية بقا، متبقيش أنتي وهي، أنا أتوجعت بما فيه الكفاية وكل واحد آخد حقه مني، أرجوكي يا سيرين لو هتنفذيلي طلب واحد بس طول عمرنا مع بعض يبقا تموتيني.. حتى متسامحنيش بس خلصيني من كل اللي أنا عايش فيه ده

تحدث بصوته الباكي وهي لا تزال غير مدركة لإنهياره التام أمامها وأصبحت كالمشلولة لا تدري ماذا عليها أن تفعل لتتهاوي دموعها في صمت تام ولا يزال هو معانقاً اياها وهمست بين بكائها:

- ابعد عني

اجابها هو الآخر باكياً:

- مش قادر ابعد أكتر من كده.. لو بعدت يبقى بالموت

 حاولت إفلات ذراعاه من حولها ولكنها لم تنجح لتصرخ به ببكاء مرير مزق قلبه:

- كفاياك بقا أنت ايه.. أنت أعمى.. فاكر نفسك الضحية الوحيدة للي عملته هويدا؟ 

نهض ناظراً لها وتوسلها بندم لا نهائي:

- أنا آسف.. والله آسف.. أنا عارف إني غلطت ومبقتش عارف أعوضك بإيه.. أنا مبحاولش أكون ضحية.. عارف ومتأكد إنك أنتي الوحيدة اللي ملهاش ايد في كل د

جفف دموعها بيداه ثم نظر لها في جدية وتوسلها مرة أخرى: 

- موتيني وارتاحي مني وريحيني

تبسمت في تهكم وعسليتاها لا تتوقفان عن ذرف الدموع وتحدثت بحرقة:

- ارتاح؟ ارتاح من ايه؟ من الحرب اللي جوايا اللي ما بين قلبي وعقلي؟ ولا ارتاح من السواد اللي شافته عنيا معاك ومش قادرة انساه؟ جاي تقولي أموتك؟ فاكر ده الحل؟ للدرجادي غبي اوي؟ للدرجادي مصدق إني ممكن أموت الراجل الوحيد اللي فكرت فيه؟ أول راجل حبيت أكون حلوة في عينه؟ أول واحد حاولت أخليه غيران؟

لم تتوقف عن البكاء بينما توسعت عيناه دهشة وتوقف عن البكاء لتتابع بمزيدًا من التوجع:

- مين قالك إني هارتاح لو موتك؟ مين قالك إني إن موتك هيرحني؟ فاكرني مش هتأثر بموتك؟ فاكرني زي هويدا ولا ايه؟ 

ابتسمت بتهكم ثم أكملت بإنفعال:

- فاكر مش هاقعد أعيط زي العبيطة وأنا بفتكر أول مرة قربتلي، وأول مرة بوستني؟ فاكر إني علشان بحاول أكون قوية هنسى أول مرة بصيتلي وأنت شايفني حلوة؟ فاكرني لما تموت مش هافتكر قد ايه كنت خايف عليا وعينيك مليانة قلق عليا وأنت شايفني خايفة ومرعوبة من كل راجل حواليا؟ 

فاكرني هنسى خلتني ازاي أرجع طبيعية مع الناس، ولا يمكن فاكر هنسى كام مرة كنت غيران عليا وأنا شكلي حلو أو بقرب من راجل غيرك؟ ده أنا بقيت ماشية زي الهبلة بحاول أخلي اللي حواليا يقنعوني مسامحكش حتى بعد كل اللي عملته فيا، بحاول أمسك نفسي مجريش أترمي في حضنك وأنت شكلك موجوع من كلامي وأقولك مش هاجيب سيرة الكلام ده تاني.. بحاول ماسمعش لكل اللي بيقولي سامحيه ده أتغير عشان أنا أصلاً بتلكك من جوايا 

تعالى نحيبها ليتحول لشهقات مزقته إربًا وهي تتابع بآلم:

- فاكر موتك هيرحني؟ ده أنا بقيت خلاص بتحامى فيك، كنت هاكلمك النهاردة وأقولك خايفة أكون مع هويدا لوحدي وفضلت أحمد ربنا إنك جيت، أنا كلمت معتز عشان عارفة انه هيقولك دي سألت عليك وكنت هموت من جوايا وأعرف أنت ليه بعدت عني، بعد كل ده فاكرني ايه؟ فاكر إني صخرة؟ لا يا جاسر بيه.. 

أنا بنت زي كل البنات، أتبهرت بيك لما شوفتك، بالعافية منعت نفسي أحبك، حاولت أفهم نفسي كتير إنك كتير عليا واستحالة تبص لواحده زيي، كنت بترعب منك أوي بس بحاول أبان جامدة ومخافش، فرحت من ساعة ما شوفتك جنبي وأنت بتحاول تعوضني عن كل اللي حصل ما بينا، كل حاجة أنا فاكراها وعارفاها كويس أوي بس خايفة..

خايفة أقرب منك ترجع لجاسر بتاع زمان، خايفة أسمع لقلبي لا ترجع تاني تبهدل فيا، أنا كل اللي حبيتهم الظروف بعدتهم عني، أبويا بعد عني، أمي اللي بتفرج عليها في الصور بعدت عني وسابتني، رامز في يوم كنت حاساه هيبعد عني، حتى أنت أمك من البداية بعدتك عني، أنا خايفة أحبك أكتر من كده وأخسرك وتبعد عني أنت كمان.. أنا بحبك يا جاسر أكتر ما أنت بتحبني بس خـ..

توسعت عيناه من كلماتها المندفعة بصدق ثم قاطعها جاذباً وجهها لصدره مانعاً اياها من متابعة حديثها وعانقها بكل ما لديه من قوة ولم يرد أن يبتعد عنها بعدما سمع كل هذا منها!

#يُتبع . . .