-->

الفصل التاسع والسبعون - شهاب قاتم

 


- الفصل التاسع والسبعون -

     

ماتت.. تعني انهيار الحياة

ماتت.. كلمة تأتي من الأعماق
تحمل معها أنفاس الألم الحقيقي
ماتت.. هي التلاشي
هي الخواء العاجز والشامل

(ماريو بينديتي - الهدنة)

     

لن تنهار، لن يملك قلبها الشفقة، لن تُعاتب.. لن تبكي، لن تشعر بالآلم، لن تفعلها الآن، ستهزم تلك المشاعر ولن تستمع إلا لصوت العقل المجرد.. لقد حرمت على نفسها أن تستجيب لأي شيء.. ستُكمل الطريق الوعرة وستُكمل ما أرادته.. ستتشبث بضراوة وبكل ما تبقى بداخلها من قوة بآخر فرصة لها بالحياة.. ستصل إلي نهاية الطريق ولن يوقفها أحد.. ليس من اجله ولا من أجلها بل من أجل جنينها فحسب!!

ابتلعت العبرات التي تكونت بمُقلتيها وهي تحارب نفسها ألا تتأثر بصوته الصارخ بالداخل وأقسمت على أن تكون قوية حتى النهاية وأجبرت نفسها على سماع المزيد عندما صاح بصوته:

- أنت كداب! هي مماتتش.. فيروز دايمًا بتصحى.. انت كداب.. دي حركة انت عاملها عليا بس! 

لم يُصدق تلك الكلمات التي رُصت في توالي جعله يشعر بالقهر وهو يقرأ على تلك الورقة المنسوخة من الأصلية ما يُفيد بوفاة "فيروز أحمد عبد الحي".. زوجته بسبب نزيف ادى إلي إجهاض! 

ابتعد "معاذ" عنه ليقف ناظرًا له بإحتقار ليُحدثه بنبرة امتلئت بالإشمئزاز:

- حاولنا نبعدها عن المرايات.. مكنتش متوقعة اللي هتشوفه.. بعد ما قالت انها سمعت اللي حصل قبل ما تضرب بالنار، وللأسف كانت سامحتك.. بس لما شافت الفضيحة مع منظرها طلبت اننا نبعد عنها وتاني يوم الصبح لقيناها ميتة! 

نظر إليه يتفحصه بأنفاس متسارعة ليضيق نظره وإلي الآن لا يُصدق أي من تلك الكلمات ليستطرد الأول حديثه:

- كل البلد شافتك وانت بتعذبها، عريانة من غير هدومها.. اخواتك مش عارفين يودوا وشهم فين من الناس! أنت دمرت كل اللي حواليك! 

ابتلع وهو يتريث ليقرأ الصدمة بملامحه ليحاول أن يستعطفه قليلًا:

- كانت فرحانة اوي بالحمل.. بس الصدمة بعد ما بقت تريند البلد كلها كانت صعبة اوي عليها! كانت بتقول إنك هتتعالج وهتخرج من كل التهم دي وحتى قالت لأخوك يجبلك محامي.. بس يوم ما ماتت مفيش حد وقف جنبك ولا فرقت معاه.. حتى أمك وأخوك! 

رمقه بملامح غير مقروءه ليرى أن صدمته تتحول لإمتعاض وهو يُطبق أسنانه ليصرخ به وفكاه قاربا على التهشم:

- انا عايز موبايل! 

رفع "معاذ" حاجباه في دهشة ليحدثه هازئًا:

- انت اهبل! فاكر نفسك قاعد في اوتيل! انت هنا مسجون.. غسيل أموال.. ابتزاز وتحرش جنسي.. قتلك لعمرو ومراتك لسه مأخدتش فيه حُكم! موبايل ايه اللي أنت عايزه! اصلًا مش مسموح ندخل بموبايلات!

نظر إليه مليًا وهو يتفحصه ليتحلى بثبات انفعالي هائل وقال له:

- أنا محتاج الموبايل دقيقة أو اقل، وتقدر تدخل موبايل ويجيب شبكة تحت الأرض.. تحب اقولك الأنواع اللي بتستخدموها! 

تفحصه الآخر بإستهزاء وهز رأسه في انكار ولم يوافقه ليُردف:

- اقل من دقيقة وهتكلم قدامك.. ولا عايز حد يلحقني من السجن ولا بقت فارقة! لو حتى عايزني اعترف بكل اللي عملته في أي جلسة أنا موافق.. بس قصاد دقيقة واحدة بس! 

عقد "معاذ" حاجباه وهو يتفحصه في تعجب ولكنه سرعان ما توجم بملامحه وطرق على الباب ليفتح له الرجل وسرعان ما توجه إلي "فيروز" وأشار بسبابته لها ألا تتحدث ليتوجها بعيدًا ثم هتف بها متسائلًا:

- انتي سمعتي كل حاجة؟

أومأت له أنها فعلت وملامحها تدل على الحُزن الشديد لتخبره بثقة:

- متديلوش حاجة، متتكلمش معاه كتير.. هتلاقي نفسك في الآخر مقتنع بكلامه!

رمقها في تفحص للحظات ثم قالت:

- الدكتور على وصول.. لازم يطمن عليه وبعدين نخدره وننقله الأوضة التانية علشان يحس إنه خرج من مستشفى راح زنزانة.. بس لسه بقى هاكلمه في شوية تفاصيل كده علشان يقتنع بجد..

وافق على كلماتها ليُهز رأسه بإقتضاب وكاد أن يعود للغرفة ثم توقف والتفت لها قائلًا:

- فيروز بلاش تسمعي كل حاجة.. الأحسن تـ..

قاطعتها برفض تام وهي تتحدث بهمس:

- هيجرى ايه اكتر من اللي جرا.. خلاص بقى معدش فيه حاجة هتغير اللي حصل.. لازم اتابعه وافهم كل حاجة علشان اقدر اعرف فعلًا إذا هيكون مؤهل في يوم يربي طفلي ولا لأ! 

تأثرت ملامحه في شفقة ليعقب قائلًا:

- اللي تشوفيه! أنا بس مش عايزك تضايقي

ابتسمت بإنكسار لتقول:

- مش هضايق خلاص! مبقاش فيه حاجة تضايق اكتر من اللي حصل!

زفر في حيرة بعد سماعه لكلماتها ليتنهد في النهاية بيأس وأومأ لها بالموافقة ثم توجه مرة أخرى عائدًا نحو الغرفة التي يمكث بها وصاح بصوتٍ مسموع:

- افتح الباب خلينا نخلص! 

بمجرد دخوله وجده جالسًا ويده لا تزال مُصفدة بالسرير وأخذ نحوه خطوتان على حذر إلي أن وجد "شهاب" أن تلك الخطوتان كفيلتان بمباغتته بما يريد فعله وهو بالفعل قد حرر يده من الأصفاد المعدنية ..

كان عليه أن يكسر إبهامه ويضر سبابته وذهب ليقتلع احدى الأجزاء المعدنية المُدببة بسرعة من اي جهاز طبي.. كان سيفعلها بأي طريقة ليبحث خلال غيابه عن الغرفة كي يخدعه بأنها لا تزال مُحكمة على يده بينما قاد قام بفكها ووصل في النهاية لما يُريده..

تذكر أن اهم ما بالأمر هو عنصر المفاجأة، رجل مثله لا بد أن يكون مقهورًا بما سمعه فادعى الشرود وهو يعلم جيدًا أنه سيواجه رجل شُرطة ليقترب الآخر منه أكثر فنهض واقفًا على قدمه اليُسري ويده الأخرى بها احدى اسلاك الأجهزة الطبية التي كان يُخفيها كي لا يُلاحظه عند قدومه ليحاوط عنقه بها محاولًا خنقه وحدث كل ذلك في لمح البصر!

حاول "معاذ" تحرير نفسه وكذلك "شهاب" واجه صعوبة على التحمل فهو لا يزال هناك جرحًا بمنتصف بطنه وقدمه لا تقوى على الإحتمال ولكن هو لا ينسى انتقامه أبدًا.. وإن لم ينتقم الآن من الوحيدة التي دمرته بخدعة حقيرة وجعلته يقتل المرأة الوحيدة التي عشقها سيقتل نفسه لا محالة! هذه هي الفرصة الوحيدة امامه وعليه الثبات! إمّا يتغلب عليه وإما لن يستطيع تحقيق ما يُريد!

حاول دفعه بشدة ولاحظ فرق جسديهما، فذلك الرجل ليس بهين وتلك الآلام بجسده لا تساعده ليدفعه على الفراش وهو يقوي من جذبه للسلك حول عنقه بإحدى يداه ليجبر يد "مُعاذ" اليُسرى على جذبها وصفدها بنفس الأصفاد وترك السلك على عُنقه وأمسك بيده الأخرى ووجهه لا يزال مُقابلًا للفراش! 

لم يُرد أن يُصدر أية أصوات وهو على علم أن الطبيب سيأتِ بأي لحظة الآن كي لا تندفع "فيروز" للداخل ولم يود أن يبالغ معه بشيء كما أنه باغته عن حق ولم يتوقعها منه!

امتدت يد "شهاب" إلي احدى جيوبه ليجد هاتف "مُعاذ" ليطبع سريعًا رقم "كلوديا" الذي اجابت ليهتف بها بالإيطالية بحرقة وكتم دموعه:

- اريد معروفًا.. لن ارده لكِ يكفي انني جعلتك تحصلين على العائلة.. لقد قتلت ابنة عمي غير المتزوجة، زوجتي!!.. اقتليها بطريقتي بأسرع وقت ممكن.. احرقيها آلاف المرات أرجوكِ وأخبريها انني الفاعل!

انهى المُكالمة وقصد ألا ينطق بإسمها كي لا يسمعه وحاول ألا يبكي بينما مسح الرقم من سجل الهاتف وألقى به "مُعاذ" وحرره من مسكته إياه وكذلك من الأصفاد ثم ابتعد عنه وهو يتكأ على نهاية السرير ليغمغم قائلًا:

- مكنتش هاعمل فيك كده! كنت اديني الموبايل من الأول وبعدين واضح اننا في حتة فيها شبكة كويسة! قولي بقى..

التفت لينظر له وسأله بمصداقية:

- ايه اللي حصل لفيروز لما فاقت! عايز اعرف كل حاجة!

     

توجه باحثًا عنها ليعلم من ذلك الحارس أنها توجهت للخارج بالقرب من البحر فسار لمدة دقائق تُعد على أصابع اليد حتى وجدها ترتدي ملابس تغطي وجهها وجسدها بأكمله ليشعر بالتعاطف على ما وصلت له! 

بالرغم من أنه اخبرها بأن الجو آمنًا ولن يعرفها أحد إلا أنها لا تزال تود إرتداء تلك الملابس الغريبة عنها وكأنها تتوراى عن العالم بأكمله.. ما حدث لها ليس بهين.. لقد نهش المجتمع بضراوة بكل مقطع وكل صورة تم رؤيتها بها بصحبة زوجها أو ابن خالتها وربما إلي الآن لا يزال البعض يتحدثون عن الأمر.. 

اقترب منها هاتفًا في هدوء:

- فيروز!

ارتعد جسدها لمفاجئته اياها ليُلاحظ أن نفسيتها تأثرت بشدة من مجرد أن ينادي عليها وهو لم يقصد أن يُخفيها فالتفتت له وهي تحدثه بإرهاق:

- معلش يا معاذ كنت سرحانة مأخدتش بالي.. 

أومأ لها بإقتضاب في تفهم ليخبرها بما ود بجدية:

- بصي أنا يادوب امشي.. احنا نقلناه اوضة تانية ولسه بقى الدكاترة هيتابعوا معاه.. وانا مظبط المحامي اللي هيجيله والناس وهيحسسوه إنه مسجون فعلًا بس اخد باله إننا في مكان شبكته كويسة.. خدوا بالكم واوعي تظهري قدامه خالص! يادوب عرفت اقنعه بكل اللي اتفقنا عليه.. وعمومًا يمكن اعدي عليكم كمان عشر أيام أو اسبوعين!

هزت رأسها في تفهم لتردف بنبرة ممتنة:

- بجد لو قعدت اشكرك سنين على كل اللي بتعمله معايا مش هاوفيك حقك! 

ابتسم لها بود ليُعقب بمصداقية:

- انتي اختي.. ياما وقفتي جنبي مرة واتنين وانا بيتي بيتخرب! عايزاني مردلكيش كل اللي عملتيه معايا في يوم؟

بساطة كلماته ذكرتها بتلك المرأة التي كانت عليها يومًا ما، لم يقصد أن يجرحها بمثل هذه الشناعة ولكنه فعل، ربما لا يظهر هذا على ملامحها المُغطاة وامتنت لعزلها نفسها عن أعين الجميع ولكن بالنهاية هناك جروح غائرة بداخلها لا تبرأ أبدًا.. 

أخذ سكوتها كعلامة على الإمتنان فتحدث قائلًا في حيرة:

- أنا متأكد إن محدش هيقدر يوصلكوا هنا وفيه ناس كتير هتقولي اي حاجة تحصل بس مش عارف اخد مني الموبايل وبصراحة مكنتش متوقعها والموضوع حصل بسرعة وكلم حد بلغة غريبة اسباني تقريبًا او ايطالي!

رفعت حاجبيها لتعلم أنه بالطبع تحدث مع احد من ايطاليا وذهبت كل شكوكها تجاه "كلوديا" ولكنه عقب:

- متقلقيش أنا هحاول اجيب المُكالمة دي وافسر اللي فيها.. وأنا إن شاء الله آخر الشهر ده هبقى جهزت كل حاجة.. ممكن على أول اتنين كده لو تحبي تسافري الموضوع هيبقى سهل!

هزت رأسها في صمت ليُردف بتساؤل:

- متأكدة يا فيروز إنك مش عايزة تفضلي هنا؟ هنبقى جنبك أنا واختك واصحابك و..

أوقفته عن الحديث وهي تقاطعه بمرارة:

- ذنبهم إيه ولادك تدخل واحدة مفضوحة في وسطهم؟ طيب ولادك وأنت ولبنى هتصدقوني.. هاشم وفريدة هيصدقوني وهبة وجوزها، طيب وأولادهم لما يكبروا.. 

مش دي طنط مرات فُلان؟! مش دي اللي خانت جوزها؟ هتلاقي الأطفال بتكبر وبتسأل مين شهاب الدمنهوري! أنا خلاص بقى مجرد الوجود جنبي عار! ذنب الناس دي كلها إيه؟ وذنب الطفل اللي هاجيبه للدنيا دي إيه؟

حدق برمال الشاطئ اسفلهما وهي تحيط جسدها بتلك السُترة الثقيلة في محاولة للإحتماء من البرد ليسألها بتردد:

- طيب ممكن لو حابة، عيشي هنا بس بهوية مختلفة! ومع الوقت كل حاجة بتتنسي! 

التفتت لتنظر له في خزي ولم يظهر منها سوى عينيها خلف ذلك النقاب الذي تستر به وجهها ولكنه قرأ بمُقلتيها كل معاني الآلم التي أُدرجت ولم تدرج بجميع معاجم الحياة وآتى صوتها في النهاية مهتز يعكس دمارها:

- أنا مرعوبة حد يشوفني.. حد يقول مش هي دي اللي خانت جوزها.. ولو الوقت داوى كل حاجة والتريند اتنسى!

همست جملتها الأخيرة بسخرية لتضيف متجرعة الكثير من آلامها التي عكستها نبرتها:

- تفتكر مش هحن إني اشوف اختي وصاحبتي من جديد.. اختي خلاص هتبقى أم.. تفتكر مش هيجيلي قلب اشوف ولادها! وأنت يا معاذ كل شوية هتيجي تساعدني.. أنا خايفة أؤذيك في شغلك.. عندك بيت وولاد ومراتك.. تفتكر إني استغلالية لدرجة إني اسبب لكل اللي حواليا الأذى؟ مش كفاية اوي إنك ساعدتني لغاية كده؟

التوت شفتاها في كراهية لنفسها وكل ذلك الأذى الذي سببته للجميع لتُردف ببكاء هزمها لتدفع مُقلتيها عبرات الآلم التي سيُمزقها لسنوات:

- مش بسبب اختيار اخدته في وقت غلط افضل اؤذي كل اللي حواليا.. انا بعد الأيام علشان اشوف حملي المرادي هيستمر ولا لأ! إذا استمر هاقولك وسفرهولي.. وإذا مستمرش ابقى سلمه! 

أنا مش هافضل اتحمل كل حاجة لواحدي وهو غصب عنه هيتحمل المسئولية معايا.. لكن أنت واختي وجوزها واهله مالهومش دعوة! صدقني كلكوا متستحقوش إني اوصمكم بعار طول حياتكم ولا اسببلكم وجع وذل ومشاكل اكتر من كده! دي غلطتي من البداية وهاستحمل لغاية الآخر! 

يمكن ربنا عمل كل ده علشان يعوضني بطفل.. التمن كان كبير اوي.. كبير بس يستاهل.. وأنا مش معترضة على حكمة ربنا بس.. التمن كان غالي اوي عليا!

انفجرت بالبكاء لينظر لها "مُعاذ" في تعاطف مُشفقًا عليها وبالرغم من أنه يعلم أن الصواب أن يقوم بتسليم هذا الحقير والإنتهاء منه ولكن هو لا يتصور بأسوأ كوابيسه أن يُحرم من احد اطفاله! 

لوهلة نظر لتألمها الآن، وتألمه هو الآخر منذ قليل.. ما اصابها يفوق ما اصابه بكثير.. ربما هناك عشقًا قويًا بينهما.. ولكن لماذا على العشق أن يكون مؤلمًا بهذا الشكل؟ 

ابتلع وبداخله أخذ يحمد الله أنه لم يتعرض هو و "لبنى" في يومٍ ما إلي هذا القدر من المصائب.. أحيانًا رؤية آلام الغير تخفف علينا الكثير وتجعلنا ندرك أننا في أفضل حال وأن كل ما نمر به لا يساوي مثقال ذرة في خضم حياة آخرين! 

تنهد وأومأ لها ثم عقب قائلًا:

- إن شاء الله ربنا يقومك بالسلامة.. بس اوعديني لو جه ولد تسميه مُعاذ! 

جعلتها تلك الكلمات تتوقف عن البكاء لترد بصوتٍ خافت:

- اوعدك والله! 

ابتسم إليها ثم حدثها قائلًا:

- بُصي.. الأحسن حتى لما اخلص الورق تفضلي هنا.. اولدي الأول علشان نعرف نسجل البيبي بإسمه الجديد وبعد كده ابقي سافري.. لأن انتي صممتي إنه يكون طليقك مش جوزك!

أومأت له في تفهم وردت بإقتضاب:

- خلاص اللي تشوفه.. انت عارف إني بموت في اسكندرية.. ما صدقت اجي هنا! استنى وخلاص.. ويا عالم هاجي هنا تاني امتى!

أومأ لها بالموافقة ثم اعتذر منها كي لا يتأخر اكثر من هذا:

- معلش انا لازم امشي.. مش محتاجة حاجة؟ وبجد متهزريش!

هزت رأسها بالنفي وتحدثت بتلقائية:

- والله ما محتاجة حاجة.. كله تمام .. يالا علشان متتأخرش وسلملي على الولاد ولبـ..

توقفت من تلقاء نفسها عندما أدركت ما تهذي به، هي لم تعد بالحياة.. ماتت وحتى اقرب الناس إليها لا تستطيع أن تُرسل لهم مجرد تحية بسيطة خوفًا من المصائب التي قد تُسفر عن هذا!


     

بعد مرور يوم..

جلس على هذا السرير المُهترئ مُنكسًا رأسه ومن جديد بكى دون صوتًا مسموع، وحده في تلك الظُلمة الحالكة في تلك الزنزانة الحقيرة! لوهلة ذكرته بأيامه مع والده بمنزلهما! لقد عاد إلي نقطة الصفر من جديد!

فكر في كل ما حدث، لا ينسى حرفًا ولا آنة ولا صراخ غادر شفتاها، ويا لبراعته مع النساء.. كل من ظلمها يومًا وقام بتخديرها رُدت له في الوحيدة التي عشقها!

كيف لم يُحدثها قبل أن يُكمم فمها؟ كيف صدق ذلك الوغد الحقير؟ هل بسبب رؤية رجل منتشي وسماعه لهمهماتها صدق أنها تقوم بخيانته؟

أدرك الآن انها كانت تستغيث، يندم أشد الندم بداخله على كل ما سببه لها، لماذا لم يتوقع انتقام "أروى" الحقيرة؟ لماذا لم يستمع ولم ينظر ولم ير؟ لماذا كان بكل ذلك الغباء؟

قتامة أزلية ليس بها ولو شعاعًا من نور، وعندما آتت هي لتنير حياته بأكملها فعل كل ما بوسعه كي يقتلها ويمتص ضياءها حتى انغمست بمزيد من القتامة الموحشة إلي أن أُهلكت بشراسه في قتامته! يا للسخرية، النور هو من يُضيء الظلمة، ولكن ظُلمته تبتلع الضياء! جُب عميق من قتامة أزلية حقًا.. سيلتهم ببراثنها كل ضياء ليُدمره!

لقد فعل كل شيء، علاج وإيمان، دفع نفسه بكل ما فيه أن يحاول الشعور، وضع كل افعاله تحت بنود الصواب والخطأ، ابتعد عن الخاطئ وفعل الصواب.. وفي النهاية يُعاقب مثل هذا العقاب.. لماذا يحدث له كل ذلك! 

رفع وجهه إلي الأعلى ظنًا منه أنه يتحدث إلي السماء التي لم يرها واستُبدلت بقتامة الغرفة حوله ليتحدث ببكاء وهو يسخر من كل ما يحدث له:

- اديني اهو قدامك.. ندمان.. يا ترى مبسوطة يا فيروز؟ مبسوطة بكل اللي وصلتله ده؟ علاج هايل مش كده؟ اديني معزول، بعيد عن كل الناس ومش هاقدر أؤذي تاني!

ابتسم بمزيد من السخرية ودموعه تجري على وجنتاه ثم تابع كلماته بتساؤل هاكمًا:

- وأنت.. يا ترى مبسوط؟.. مبسوط وأنت بتعاقبني في اكتر حاجة بحبها.. تاني بتاخد مني اهم حد بالنسبالي علشان يبقى شهاب وحش ويتعذب تاني وتالت ورابع!! بس لأ مش هيحصل! 

ارتجفت ملامحه من شدة بكاءه وهو يحاول أن يوقف ذلك الآلم الذي لأول مرة يشعر به في حياته بصحبة رهبة غريبة، هل هذا لظنه أنه يتحدث لخالقه؟ لا يدري ولكن لأول مرة يشعر بالخوف بمثل هذه الطريقة فتابع بصوتٍ باكي:

اخدتها مني ليه؟ ليه هي بالذات؟ انت عارف ومتأكد إن آخر مرة بجد كانت غير أي مرة تانية.. مقدرتش تصبر وجاي تخلص مني كل اللي عملته في حياتي فيها هي؟! 

أنا قدامك اهو.. عايش وبتنفس ولسه مكفرتش بيك! بس ليه تعمل فيا كده وتخليني أؤذيها؟! ليه عقابك ليا صعب اوي المرادي؟ للدرجة دي اللي عملته مرضتش تسامحني عليه غير بإنك اخدتها مني علشان اتعذب بعدها؟! 

تعالت شهقاته وعقله لا يواكب بعد أنه فقدها بالفعل ليهمس في إنكسار:

- كان قدامك سمعتي وفلوسي واهلي.. كان قدامك إني اتسجن.. وحتى كان قدامك اللي حملت فيه مني.. خدهم كلهم.. عاقبني فيهم، بس ليه عاقبتني فيها هي؟

تعرف علشان هي الوحيدة اللي اخلتني افكر فيك وآمن بيك وصحت جوايا حاجات كتيرة اوي، أنا مش هارجع بنفس شري ووساختي تاني.. أنا مش عايز يوم ما اموت واقابلها تبعد عني تاني! 

حاول التوقف أكثر من مرة عن البُكاء ولكنه لم يستطع ليتذكر أنها الوحيدة التي كان يبكي امامها بمثل هذا الطريقة ليتكلم بحرقة:

- أنا عايز يوم ما اقابلها في يوم تحس إني اتغيرت بجد.. مموتش وأنا كافر وبقتل وبغتصب.. عايزها تعرف إني اتخدعت زيي زي أي راجل اتوجع لما شاف مراته وهي في حضن واحد تاني.. خلاص مبقاش قدامي غير إني افضل اطلب توبتك وإنك تسامحني علشان يوم ما اشوفها اثبتلها إني اتغيرت بجد!

بكى بمرارة وهو يشعر بالندم على كل مافعله، الندم الخالص، أدرك فداحة ما ارتكبه من اخطاء بحق الجميع، شعر بنفس الوجع ونفس الآلام وهو يحرق ويقتل ويجبر النساء.. فلقد فعل نفس الأفعال بالوحيدة التي عشقها وجعلته يشعر.. يشعر فحسب.. هو لم يكن يعرف ما معنى الشعور سوى بمعرفتها هي.. ذهبت وتركته وحده بصحبة تلك المشاعر التي لم تمت كما ماتت هي.. يا ليت تلك المشاعر تتلاشى بذهابها ولكنها لا تفعل.. 

عندما يطأ العشق اقدامه بداخل الإنسان فلابد من أن يترك آثارًا له.. سواء جيدة، مفيدة، ضارة أم سيئة.. ولكنها تترك ما يدل على أن العشق له بصمته في النهاية! 

تنهدت بخفوت بعد أن استمعت لكلماته الهامسة وبُكاءه من خلف ذلك الباب المُغلق لتعود من جديد لتفكيرها.. ربما إن في حقيقة الموت تكمن أسباب الحياة!! جعلتها ذريعة أن تتماسك، ألا تبكي.. عليها أن تظل صامدة للكثير من الوقت حتي ينتهى الأمر بأكمله على خير!

     

طرقت بكعب حذائها على الأرضية الرخامية وهي تتجه صوب الباب الرئيسي للمنزل ليوقفها صوت والدتها المُنادي:

- رايحة فين يا أروى؟

تأففت زافرة ثم التفتت لتنظر لها بكبرياء لا يُقهر واجابتها:

- إيه! هاكون رايحة فين؟ هافضل قافلة على نفسي مثلًا.. عايزاني افضل قاعدة في البيت الكئيب ده! ولا فكراني زينة اللي كلمتين بيخوفوها..غايرة في ستين داهية من هنا!

اقتربت منها والدتها وحدثتها بحدة:

- انتي لولا ستر ربنا عليكي كنتي اتبهدلتي.. لولا إن اختك معترفتش عليكي كان زمانك مرمية في السجن! رايحة فين؟! ها.. قوليلي رايحة فين وانتي مبقاش حد طايق يبص في وشك.. حتى صباح الخير مش بيعبروكي بيها!

عقدت ذراعيها وهزت احدى قدماها في نفاذ صبر ثم اجابتها بفتور:

- ما احنا طول عمرنا من زمان محدش طايق التاني.. إيه الجديد؟

نظرت لها وهي لا تُصدق أنها من انجبت كتلة الشر تلك بأكملها إلي الحياة لتصيح بها في زجر:

- الجديد! الجديد إننا بنتعظ.. بنتعلم من غلطاتنا.. جيتلك واتحيلت عليكي وخدتك في حضني بدل المرة آلف مرة.. قولت اعالجك واساعدك ورفضتي.. وبعد كل ده يوصل بيكي الجرأة إنك لا تقوليلنا مين اللي اغتصبك ورايحة تقتلي وتعملي مصايب من ورانا وفي الآخر تؤذي اختك وخالك بالمنظر ده! 

غلطت يا بنتي فيكي! آه غلطت.. بس بتحايل عليكي بقالك اكتر من سنة.. وانتي يا أروى بالذات اقرب حد ليا من ولادي.. تيجي بين يوم وليلة تفضحي ست ملهاش ذنب وتضربي بالنار! لولا بدر ووجوده جنبنا كان زمانك مسجونة.. كان زمان قلبي بيتقطع عليكي.. ليه يا بنتي مش عايزة تكوني كويسة؟

سامحي وصفي نيتك.. اللي انتي فيه ده اخره مش كويس.. لا اخواتك عايزين يكلموكي ولا اخواتي وولادهم.. ايه هتعيشي كده وحيدة؟ صلحي علاقتك بالناس دي اديكي شايفة بين يوم وليلة الشر بيعمل إيه في الناس! 

نفخت أنفاس احتقنتها بصعوبة وهي تستمع لتلك الكلمات لتصيح بها:

- متجيش تمسحي غلطاتك فيا، انتي اللي كبرتينا كده وخلتينا طـ..

اوقفتها بصفعة قاسية ثم نظرت لها بخزي والعار يملؤها لإنجابها هذه الفتاة ولم تغفل عن الندم بكل ما فعلته بأبناءها يومًا ما لتهمس لها بنبرة حزينة:

- الله يسامحك! أنتي اسوأ واحدة في ولادي.. كل اخواتك بقوا كويسين.. كل اخواتك سامحوني واتغيروا وبقى عندهم حياة وجنبهم اللي بيحبهم.. وانتي اكتر واحدة دلعتك وفضلتك وعملتلك كل اللي نفسك فيه وقربتك مني.. حتى الشغل اللي كان حياتي اديتلك مكاني فيه.. 

ملكيش حق يطلع الشر والأذى ده كله منك! اتفضلي امشي روحي مكان ما تحبي بس اي مصايب تانية هكون أنا اللي مودياكي القسم بإيدي.. بس أنا يا أروى مش راضية عنك.. ولا هرضى عنك طول ما انتي ماشية بدماغك الغلط دي! 

تفقدتها في آسى لتبكي عندما فرت ابنتها للخارج لتهرول "شاهندة" نحوها وبدأت في أن تُهدئها كي تتوقف عن البُكاء الذي اصابها بمجرد أن استمعت لصفعة الباب خلف ابنتها! 

دخلت "أروى" سيارتها وهي تُفكر من أين تبدأ! الآن لن تستطيع الذهاب إلي الشركة وقد مُنعت منها، هل عليها ترصد "سليم" كي تُنهي هذا الزواج الذي كل مرة يعاندها في أن يكتمل ولا يتأثر بشيء؟ 

لا يزال معها بعض الأموال بالحسابات الخاصة بإسمها ولكن هذا ما تبقى لها إلي نهاية عمرها بعد أن منعت العائلة بأكملها عنها جميع الأموال! ولكن ستريهم! 

أخذت تسير بأحدى الشوارع لتنعطف ووجدت خلفها سياراتان قاتمتان تتابعها منذ أن غادرت المنزل لتحاول أن تُسرع ولكنها وجدت سيارتان مُقبلتان في أمامها عكس الإتجاه فاضطرت أن تهدأ من سرعتها ليخرج الرجال وبعد تهديد منهم استطاعوا أن يحصلوا عليها ليذهبوا بها إلي دون عائلة كروتشيتا بأكملها لتقوم بتعذيبها.. 

دون عائلة مافيا، قاتلة، ومجرمة درجة أولى، إمرأة مُثيرة حد اللعنة ويقبلها الرجال إلا هو.. ولكنها عشقته بجنون.. وستفعل كل ما يُخبرها به.. لا تدري لماذا لم يطلب منها بأن تُخلصه من تلك الورطة ولا أين هو في خضم كل ما حدث له فحتى الآن لم يُستدل على مكانه، ولا تعرف كيف وصل به الحال إلي هذا ولكنها ستفعل من أجله كل ما يطلبه! ويومًا ما قد تتلاقى الأوجه! فهذه الحياة الدنيئة كل شيء وارد أن يحدث!

أطفأت بقايا سيجارتها بالمنفضة بأظافرها المطلية باللون الأسود وهي تتفقد تلك الهزيلة التي أُلقت اسفل قدميها لتتنهد في إرهاق ثم صاحت بها بالإنجليزية وهي تسحب تلك الفوهة التي ستُطلق نيرانها عليها:

- مرحبًا ايتها العاهرة! ما الذي فعلتِه بشهاب الدمنهوري؟ هيا اخبريني فأنا ليس لدي الوقت.. وأريد أن اعلم الحقيقة قبل أن احرقك مرارًا.. الأمر لكِ إما التحدث بسرعة وإما ببطئ.. ستموتين على كل حال! 

رمقتها "أروى" في خوف وهي تبتلع عندما رآتها تُشعل تلك النيران من الفوهة الممسكة بها بيديها ثم تركتها جانبًا بعد أن أطفأتها وجذبت سكينًا كي تمرره على جسدها مثلما يفعل هو بضحاياه قبل قتلِهم وتمنت لو انها استمتعت بالأمر قليلًا لمعرفة ما حدث ولكنه طلب أن تقتلها بأسرع وقت فعادت لتبتسم لها وحدثتها في زهو ونبرة مغترة بنفسها:

- لا تقلقي.. ابتهجي قليلًا.. إنها موتة ملحمية.. دون عائلة كروتشيتا ستقتلكِ بيداها وليس احدى الجنود التافهين معدومي السُلطة.. والآن هيا لنحظى ببعض النميمة! ما الذي فعلتِه بإبن عمك ايتها القذرة حتى يريد أن يقتلك بهذه البشاعة؟!

     

نهاية عام 2021...

لاطفت تلك الصغيرة وهي تنظر لها بإمتنان شديد في مهدها، لا تُصدق انها باتت أمًا.. منذ أن انجبتها تنظر لها وهي تحاول تصديق انها ابنتها فعلًا.. تلك الإبتسامة البريئة، تلك الصرخات التي تنقل بها انزعاجها، وتلك الأعين وهذه الصغيرة.. هي ابنتها.. ليست ابنة صديق ولا صديقة بل هي لها وحدها فحسب! 

تنهدت في راحة وتطلعتها مرة أخيرة بمهدها وهي تتمنى لو انها استمعت لصدى ضحكات اختها وصديقتها الآن وكلتاهما ترددا الكلمات الممازحة بسعادة حولها هي وابنتها.. ولكنها هي من فعلت ذلك بنفسها منذ البداية وكان عليها التحمل حتى النهاية!

أغلقت الباب وتوجهت إلي غرفة المعيشة الصغيرة المتواضعة التي تمكث بها منذ أن آتت إلي الأسكندرية وجلست تتذكر كل ما مر عليها طيلة هذا العام، لولا ستر الله ومساعدة "مُعاذ" لها لما كان انتهى ذلك الكابوس.. 

يا ليتها استطاعت أن تُصبح معه ببلد واحد إلي أن تكبر ابنتها.. أفضل أخٍ و وأوفى الأصدقاء الذي قد يجده المرء في حياته.. لو لم يكن بجانبها لما وصلت لكل ما وصلت إليه الآن، لا هي، ولا هو! 

تتذكر تلك الليالي الكثيرة طوال وقت حملها عندما كانت تسترق السمع من الغرفة المعزول بها وهي تستمع همسه وبُكاءه.. تتذكر كل ما مر بحوالي سبع شهور كاملة والطبيب يطمئنها أنه أخيرًا يستجيب، لا لم يستجب فحسب، بل اعترف منذ اول جلسه بمرضه واعراضه وتشخيصه كذلك! ولكل هذا العذاب الذي مر به، أطلقت اسم "كاميليا" على ابنتهما عله وقت رؤيتها سيرق قلبه قليلًا من اجلها وعلّ هذا العذاب الذي كان عليه أن يخوضه سيكون مُجديًا من أجل طفلتهما..

لا تُصدق أنه طلب من المحامي الذي يُفترض انه يتولى قضيته بإرتكابه لكل ما فعل دون أي كذب، وكأنه لم يعد يُمانع العقاب.. أكان الحل معه أن تتركه وتبتعد عنه؟ ربما العزل كان هو الحل الوحيد لرجل مثله.. أم صدمة شديدة من شأنها أن تبدل حاله.. هي لم تعد تريد التفكير بالأمر.. حقًا لقد كرهت علم النفس وكل ما درسته ولا تود حتى التفكير بذلك.. 

كان الأمر صعبًا بأن يقنعه بأن الأمر سيتأخر، المحاكمات نفسها التي لا يذهب إليها، كان عليهم احكام الكثير من الأشياء حتى يعتقد بتصديقها وبتلك الجلسات التي تؤجل والحبس الذي يُجدد والتحقيقات التي لم تنتهِ بعد.. ولكن ما ادهشها حقًا هو يأسه بالحياة بأكملها.. 

كان نادمًا، يستجيب للعلاج، وبنفس الوقت لا يريد شيئًا من الحياة سوى ذلك.. ولكنها بالرغم من هذا التغير الهائل الذي تعرض له، وكل ما يمتثله من محاولات التحسن.. إلا أنها لم تنس الكثير! 

لم تنس أنه كان وراء اختفاء "أروى" التي ربما قُتلت بعد تلك المكالمة التي استطاع "معاذ" أن يُترجمها بعد يومان من اختفائها.. لم تنس طريقته في إيذاءه يوم استيقاظه وهو يُبرر أنه فعل ذلك لأجل القصاص ممن دفعه لقتل زوجته.. لم تنس كل لمسة منه تلك الليلة التي لا تغيب عن ذاكرتها وهي تحاول أن تتغافل عنها بشتى الطرق وتطفأ عقلها في أن يُفكر بها.. كل صرخة اطلقتها.. تلك الكلمات التي تحشرجت بحنجرتها وهي تحاول الإستغاثة! 

ربما تغيره الهائل هذا هو الشيء الوحيد الذي دفع الشفقة بقلبها أن تُسمي طفلتها بالإسم الذي لطالما تمناه.. ربما يكون سببًا له أن يتعامل مع ابنتهما ويقبلها ويحاول أن يمتلك بداخله مشاعر لها.. هي تعلم أن مرضه وما هو عليه يجعله لا يشعر بنفس مشاعر الرجال الطبيعين نحو اطفالهم ولكن ما العمل.. لقد اختارته منذ البداية وعليها تحمل نتيجة اختيارها!

لا تزال تتذكر آلم النيران التي لحقت بجسدها، ذلك السكين وهو يمر على انحناء جسدها، دفعاته بها وكلماته القاسية.. تتذكر كل شيء ولا يغيب عن رأسها حرفًا..

ولكن لقد حان الوقت.. ستراه غدًا وستواجهه بالأمر بأكمله، إما المصحة والعزل وإما السجن.. لن تؤجل الأمر أكثر من هذا.. يكفي طوال الأشهر الماضية كانت تُحاول أن تتماسك من أجل حملها وهي لتوها قد انجبت وها هي الآن بعيدة عن كل ما حدث وغدًا ستغادر إلي الخارج.. عليها أن تواجه نفسها.. 

لابد أن ترى بشاعة جسدها.. يكفي هربًا وإنكارًا لأشهر طويلة.. عليها أن ترى ما الذي حل بها بسببه كي لا يملكها شفقة ولا تعاطف نحوه.. 

تعلم أنها بالغد ستقابل رجلًا جديدًا.. رجلًا تم عزله قرابة العام بأكمله.. بين غيبوبة وعلاج وصلاة ومراجعة لأفكاره ومحاولة ترسيخ افكار جديدة بداخله! ولكنها إلي الآن لا تأمن مكره بعد! 

ابتلعت وهي تسير لأول مرة منذ أن استيقظت بالمشفى نحو المرآة، بكامل إرادتها، وهي تخلع عنها جميع ملابسها شيئًا فشيء.. تسير بتباطؤ نحو المرآة وهي تشعر بالقشعريرة.. خائفة ولكنها عليها المواجهة حتى لا يملك أي ذرة تعاطف في قلبها له.. 

لم تغفل عن تلك المرات التي لمست بها جسدها بعفوية وشعرت بعلامات في جسدها ولكنها سرعان ما كانت تهرب.. كانت تنكر الأمر وتتشبث بإبنتها.. كانت لا ترتدي سوى كل ما يحتوي على ما يستر عنقها.. ولكن بعد كل تلك المُدة كان عليها أن ترى ما حل بها!

وقفت تنظر بالأرض أمام المرآة، ترى اصابع اقدامها، تشعر بالرعب ما إن رفعت نظرها واستدارت.. ما ستراه تعلم أنه سيُفجعها.. ولكن عليها أن تحمي نفسها به كي لا تتعاطف معه.. ذلك اللهيب الذي شعرت به يومها على ظهرها وعنقها لا يزال اثره إلي الآن يرعبها.. 

صوت النيران وقتها بصحبة صوته وهو يُصيح بها لم يكن هينًا، لا يزال برأسها إلي الآن.. السكين وهو يُمزق بشرتها.. الذعر الذي شعرت به.. لم تنس ولن تفعل! 

استدارت واصبح ظهرها موجهًا للمرآة.. لقد اخبرها "معاذ" مرارًا إن احتاجت لعمليات تجميل ولكنها وقتها رفضت.. لم تكن لتخاطر بأمر أن تُعرف حتى ولو كل سُبل الأمان موفرة.. ابتلعت والتفتت لتبدأ تلمح جسدها الذي أصبح جسدًا مشوهًا لإمرأة أخرى ذات ملامح مُدمرة لم تعرفها قط..

     


#يُتبع . . .