-->

الفصل الثاني والعشرون - جسارة الإنتقام

 


- الفصل الثاني والعشرون - 


ألقت نظرة أخيرة على مظهرها الذي لو استطاعت الكلمات وصفه لكانت أنيقة للغاية.. بزتها النسائية المهندمة بعناية فائقة أحتضنت إنحنائتها، مساحيق التجميل البسيطة الراقية، طريقة تصفيفها لشعرها وكأنها غادرت صالون التجميل للتو، لا تصدق أنها ترتدي هذه الأحذية الآن التي تلفت أنظار الجميع وتمسك بحقيبة يد تلائمها.. 

زفرت بخوف ووجل ثم استعادت رباطة جأشها وهي تصمم على الإنتقام منه وعدم إظهار خوفها أمامه مهما كان، بالرغم من خوفها من الرجال جميعًا ولكن رغبتها في الإنتقام كانت أقوى بكثير!!

ابتلعت وهي تحاول نفض خوفها بعيدًا وتغلبت عليه لتتمتم:

- إن ما وريتك يا جاسر الكلب مبقاش أنا

توجهت للأسفل وأستقلت سيارتها لتلاقي كلاً من "مراد" و "رامز" كما أتفقت معهما بالأمس على ملاقتها أمام مقر شركاته الرئيسي وتعجبا لمظهرها للغاية ليتحدث احدهما بعد أن اطلق صافرة إعجاب:

- ايه الشياكة دي كلها.. مش مصدق عيني، كل ده عشان جـ..

زجرته ورمقته بنظرة لا تحتمل النقاش مطلقًا مقاطعة اياه:

- أخرس يا رامز!

أشار له "مراد" بأن يلزم الصمت والتزما الهدوء وتبعاها للأعلى في سكوت تام وتبعتهم نظرات كل من عرف من هي في استغراب فهي للمرة الأولى تحضر بمقر الشركة منذ أن تزوجا من أشهر..

ترجل جميعهم من المصعد لتتنفس "سيرين" الصعداء، بالكاد تحملت تواجدها معهما بمكان مغلق وبعد استدلالهم على أين يقع مكتبه، دخلت "سيرين" أمامهما ليقع نظرها على ما تبدو سكرتيرته ورمقتها بغرور وتقزز وهي لا تصدق مدى تأنقها وملابسها الفاضحة ثم ابتلعت في ارتباك عندما تذكرت أنها الآن ترتدي مثل النساء جميعًا!

نظفت حلقها ثم صاحت بغطرسة وتعجب كلاً منهما لطريقتها الجديدة عليها فهي لم تكن تتحدث بتعالي مع أحد من قبل:

- جاسر جوا 

اجابتها بسأم ودلال مصطنع لم يلائمها:

- حضرتك عندك ميعاد؟!

زجرتها بنبرة قاسية غلفها التحكم:

- ادخلي وقوليله سيرين منصور برا و..

تأففت ثم قاطعتها بمزيد من السأم:

- لازم ميعاد.. مش هينفع عشـ.."

ابتسمت نصف ابتسامة في استهزاء ثم حدثتها متوعدة:

- ماشي!! أنتي أول واحدة هتترفدي!

توجهت بسرعة ولم تهتم بتلك التي تصيح خلفها بكلماتها الرافضة والمانعة وفتحت باب مكتبه لتصفعة بشدة للداخل وما إن تلاقت نظراتهما حتى تيبس جسد "جاسر" خلف مكتبه ولم يصدق أنها من جاءته وهو من كان يتهرب من مواجهتها بكل ما يملك من قوة..

نظرت له نظرة مليئة بالإحتقار والتقزز بينما هو ينظر لها في ارتباك مأخوذ بصدمته من تواجدها أمام عينيه ولكن اندفعت فيروزيتيه لتبدو مشتاقة لها كمن يفتقدها للغاية ولم يرها منذ سنوات وليس ثلاثة أشهر.. استكانت ملامحه لوهله برؤيتها لتُصبح لينة وهادئة غير ما عهده كل من نظر إليه وتبادلا النظرات هو وهي لمزيد من اللحظات وكأنما توقف الزمن حولهما.

تحدثت الفتاة مرة اخرى:

- قولت لحضرتك مش هينفع و..

هنا تدخل "معتز" الذي كان يجلس معه بعد أن لاحظ مدى الإرتباك الذي وقع به "جاسر" وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن ينظر لها وكأن ليس هناك احدًا معهما بالغرفة فقال بحزم:

- خلاص يا دنيا سيبي مدام سيرين واتفضلي شوفي شغلك..

خرجت متأففة لتصيح بها "سيرين"  بنبرة آمرة للغاية:

- سيبي الباب مفتوح..

 تعجب الجميع من غطرستها غير المعهودة بينما توجهت هي أمام مكتب "جاسر" الذي تابع حركاتها بفيروزيتاه المنصدمتان تمامًا وحاول "معتز" أن يخفف من حدة تلك النظرات خاصة بعد سكوت صديقيها عن الكلام:

- سيرين.. ازيك عامـ..

وجدها تقاطعه بإلقاء ملفاً أمام "جاسر" بغطرسة شديدة و صاحت به في جرأة وتحكم وقد تطلبا منها أن تتحكم بكل ذرة خوف ووجل بداخلها حتى تواجهه بهذه الطريقة:

- شايف اللي قدامك ده؟! بعد كده ما تقرا كل اللي فيه على رواقة هيكون قدامك حل من اتنين.. يا تتفضح ونجري ورا بعض في المحاكم وتبقى بقا ساعتها تستنى الحرامية اللي مربياك تدخل عليك بعيش وحلاوة يا إما تنفذ كل اللي أنا أقول عليه بالحرف! لما تبقى تفهم اللي قدامك ده فيه ايه تبقى تكلم مراد أو رامز وهما يبقوا يقولولك أنا عايزة ايه منك!

بالكاد نظر "جاسر" للملف بعد أن أشاح نظره عن عسليتاها التي افتقدها للغاية لجزءًا من الثانية وتعجب "معتز" لطريقتها التي لم يعتادها ثم تكلم ليحاول أن يوقفها بعد أن لاحظ أنها أوشكت على المغادرة: 

- سيرين لو سمحتي استني

اوقفها بكلماته لتلتفت له ناظرة بتعالي وزفرت لتقول على مضض:

- عايز ايه؟! 

اجابها مُسرعًا:

- مينفعش يعني تمشـ..

قاطعه صوت "جاسر" ليندهش الجميع له وهو حتى لم ينظر لتلك الورقات الملقاة أمامه حيث لا يزال الملف مُغلقًا:

- هعملك كل اللي أنتي عايزاه.. أتفضلي.. قولي عايزة ايه؟! 

تعجبت "سيرين" لمدى هدوءه وقبوله هكذا دون مجادلات ومناقشات هي في غنى عنها! ازدردت وهي تتنفس بتوتر وحاولت استجماع شجاعتها، لم تكن لتتوقع أن عليها أن تتحدث معه وتواجهه لمدة أطول من تلك الدقيقة التي ظنت أنها ستقضيها معه فنظرت له بإحتقار وتوجهت لتجلس أمام مكتبه بتعالي..

تسمرت فيروزيتاه بعسليتيها وهو ينظر لها بهدوء تام لتُلقي بتعليماتها عليه:

- كل  الشركات والمصانع من ورث أبوك تتنازلي عنها ويبقا بإسمي! وهتفضل ماسك كل حاجة.. هديك المرتب اللي تطلبه، وتتابع كل حاجة أول بأول مع مراد ورامز والقرار اللي أخده يتنفذ من غير كلام كتير

تريثت لترى أثر كلماتها عليه بعد أن رمته بتلك الكلمات بمنتهى الجرأة ليُعقب قائلًا:

- موافق.. كل اللي ليا من ورث والدي هيبقى بإسمك

اندهش الجميع الذي لم يلحظ "جاسر" أيًا منهما سواها هي فارتبكت ولكنها استعادت سيطرتها بسرعة وكلمته بلهجة آمرة:

- عايزة الـ Commercial Position بتاع كل الشركات عندي بكرة الصبح، وتفاصيل كل الفروع هنا وبرا، واياك تعمل حاجة غير اللي أقول عليه

نظرت نحوه بحاجب يتأبى أن ينخفض لتراه يجرى مكالمة بهاتفه وهو لا يزال ناظراً بوله تام لها تحت أعين الجميع ثم تحدث قائلًا:

- أشرف.. عايز Commercial Position بالتفصيل على مكتبي النهارة قبل ما تروح يكون جاهز..

أندهش "معتز" كثيرًا من طريقته الهادئة وامتثاله ما أخبرته به دون مناقشات لينهي "جاسر" المكالمة ويجري أخرى وقال: 

- عايز List كاملة بكل الشركات والمشاريع والمصانع بتاعتنا قبل ما نخلص النهاردة

أنهى المكالمة ثم وضع هاتفه مرة أخرى على مكتبه وعيناه لم تنتقل من عليها وحدثها في ثبات قائلًا:

- بكرة الصبح الساعة عشرة المحامي هيكون موجود عشان ننقل الحاجة بإسمك.. حاجة تانية؟!

ازدردت "سيرين" في حيرة ثم نظرت له بتقزز وكادت أن تغادر ولكنها تذكرت تطاول تلك الفتاة عليها من قليل لتتحدث بلهجة غاضبة:

- البتاعة اللي برا دي ترفدها، مش هشغلها هنا

زاد اندهاش الجميع فعقد "مراد" حاجباه وازداد اتساع عيني "رامز" بينما أردف "معتز" معقباً على كلماتها:

- هي كانت بتشوف شغلها ومـ..

قاطعه صوت "جاسر" الذي تحدث بتحكم تام ولكنه هادئ للغاية:

- دنيا تعاليلي.. 

وما إن دخلت حتى تحدث لها بهدوء حازمًا وهو لا يزال محدقاً بعسليتاها مما أغضبها وأضطرت لأن تشيح بنظرها بعيداً عن زرقاويتاه لتتفادى نظراته: 

- جهزي نفسك عشان من الأسبوع الجاي هتتنقلي فرع الشيخ زايد

اتسعت عيناها ثم قالت:

- هو حضرتك أنا غلطـ..

قاطعها ناظرًا لها بحدة:

- من غير كلام كتير نفذي اللي قولت عليه!

ردت بحنق:

- حاضر

اتجهت للخارج مُغادرة لينظر إليها مرة ثانية وسألها:

- فيه حاجة تانية عايزاها؟!

نظرت له بإحتقار مجددًا ثم كادت أن تغادر فأوقفها صوته: 

- نصيب أختي محدش هيلمسه!

التفت الجميع له متعجبًا فتابع دون اكتراث سوى لها وحدها:

- معتز ونصيبه ومكانه هيفضل زي ما هو

نهض واضعا يداه بجيوبه ليلاحظ "معتز" أن "جاسر" المغرور عاد مرة أخرى لتبتسم "سيرين" بتهكم ورمته بكلمات لاذعة معقبة على ما قاله:

- فاكرني حرامية زي الست الوالدة ولا ايه؟!

سحق أسنانه وشعر بالوجع والآلم يهشماه داخليا وهو يتلقى منها تلك الكلمات أمام الجميع لتضيف:

- متقلقش مش هاجي جنبهم في حاجة

كادت أن تغادر مرة أخرى بعد أن رمته بنظرات متقززة لتجده يتبعها ويصيح:

- لو كل ده تم مفيش طلاق يا سيرين!! 

التفتت له لتنظر له بإندهاش وإدراكها أنه لأول مرة يناديها بإسمها وكل من حولهما لا يستطيعان التدخل بتلك المعركة الضارية بين أعينهما وابتسمت بإستهزاء له لتقول ساخرة:

- ومين قالك إني عايزة أتطلق.. أهو ضل كلب ولا ضل حيطة 

بالكاد حاول التحكم في أعصابه من واقع تلك الكلمات عليه لتزداد دهشة "معتز" و "مراد"  و "رامز" لتضيف في تحذير:

- بس اياك تقربلي ولا تيجي جانبي! ابقى روح اقعد عند هويدا هانم.. اكيد هتاخدك بالحضن 

 ابتسم هو الآخر لها لترفع حاجبها في تمرد وقال:

- وده يبقا جواز برضو! 

صاحت به في جرأة وهو تبتسم في انتصار: 

- بعينك يا جاسر يا شرف الدين..

حدثته بلذاعة مُضيفة:

- بكرة الصبح الساعة عشرة هنتقابل وكل حاجة هتتم زي ما قولت

غادرت مسرعة وقدماها بالكاد يحملاها ولكنها تظاهرت بالقوة أمام الجميع على عكس ذلك الإرتباك والخوف الهائل من مجرد النظر إليه ورؤيته أمامها!

     

هتفت بإشتياق وهي تتحدث بهاتفها:

- وحشتني أوي يا بابا..

رد مُعقبًا في لوم وتسائل:

- وأنتي كمان يا حبيبتي، ليه تعملي كده وتبعديني عنك؟!

حاولت التماسك قدر ما استطاعت حتى لا تجعله يشعر بشيء وقالت:

- معلش يا بابا.. هانت وهترجع تاني متقلقش

 تسائل "هشام" في لهفة وقلق:

- بس ليه يا سيرين كل ده؟ أنتي فيه حاجة مخبياها عليا؟!

 همست ليشعر والدها بالقلق وهي تنهمر منها دموع لا تعرف من أين جاءت ولكنها تظاهرت بالقوة: 

- بكرة تعرف كل حاجة يا بابا

حاولت أن تغير الموضوع فسألته:

- ناقصك حاجة محتاجها؟! 

أجاب والدها بإستياء ووهن:

- ناقصني حياتي كلها، أنتي ومراد ورامز والشغل..

بحثت عن كلمات لتُطمئنه بها فقالت:

- حبيبي متقلقش.. صدقني خلاص هانت وهتكون جانبي تاني.. معلش استحمل شوية وأنا أوعدك إني هحاول أخلص كل حاجة بسرعة..

سألها بقليل من الإنفعال:

- حاجة ايه يا سيرين؟ فهميني متسبنيش كده..

بالكاد سيطرت على دموعها ومشاعرها واحتياجها لوجوده بجانبها لتهمس بشفتين مرتجفتين:

- بعدين يا بابا هتعرف كل حاجة.. خد بالك من نفسك.. سلام دلوقتي

 انهت المكالمة ثم اجهشت بالبكاء وهي تتحدث لنفسها: 

- أنا عمري ما كنت بالضعف ده.. عمري ما كنت كده، أزاي أنا بعامل مراد ورامز كده!! كل ده بسببه ومن تحت راسه.. بس مش هاسيبك يا جاسر غير لما أذلك وأهينك وأعرفك أنا مين كويس! هنتقم منك ومن الحرباية التانية دي كويس اوي!

تذكرت عندما غادرت مكتبه صباح اليوم وكادت أن تفقد توازنها بالمصعد فبادر "رامز" بمساعدتها على الوقوف ولكنه ما إن أقترب منها حتى سارعت بصفعه وأخذ عقلها يكرر ما حدث منذ ساعات..

لاحظ أنها لا تستطيع الوقوف وأقترب منها في عفوية بعد أن لاحظ أختلالها فمد يده ليساعدها على الوقوف فصاح في لهفة:

- سيرين حاسبي.. أنتي كويسة؟ 

زجرته بصفعة وهي تلهث بشدة من كثرة توترها من لمسته:

- اياك تقرب مني تاني

أنفرج فاهه في صدمة وتيبس جسد "مراد" ناظرًا لها بإندهاش ثم تحولت ملامح "رامز" للغضب الشديد وصر أسنانه بشدة لتجده يضغط على أقرب طابق ثم غادر المصعد

همس "مراد" في تلعثم مصدومًا:

- سيرين أنتي.. أنتـ.. ده رامز.. ليه عملتي كده! كان ممـ

قاطعته بهمس: 

- اسكت يا مراد أرجوك 

شعرت بالحزن الشديد من فعلتها وبداخلها لا تصدق ما فعلته للتو لتنساب دموعها بغزارة فبادرت بالبحث عن نظارتها الشمسية لترتديها حتى تهرب من أنظار الجميع وخاصة أعين "مراد" التي لم تعد ترأف بها من كثرة اندهاشه وذهوله من تغيرها معهما.

     

تحدث له "معتز" في اندهاش:

- بصراحة أنا مكنتش مصدق اللي أنت عملته.. ازاي بالسهولة دي كلها وافقت أنك تتنازل عن كل ورثك ليها؟! بقا أنت يا جاسر في ثانية كده تبقى هادي ومش عصبي.. لا بجد مش مصدق!

 حدق به بمزيد من الإندهاش بينما هو ظل شاردا بالفراغ  وكل ما أستطاع عقله رؤيته هو تلك العسليتان وكم أشتاق لتلك النظرة التي تبعثر كيانه بأكمله ليناديه الآخر بعد أن طال صمته:

- جاسر!

أجابه بهدوء مهمهمًا

سأله وهو يبتسم بتعجب:

- لا ده أنت شكلك مش معايا خالص.. مسمعتنيش ولا ايه؟! 

عقد "جاسر" حاجباه ثم نهض واقفًا أمام النافذة هاربًا من أستفسارات "معتز" له ليشرد من جديد وهو يتذكر كل ملامحها وتفاصيلها وتنهد بعمق وعقله لا يفكر إلا بشيء واحد فقط.. هو رؤيتها ثانية مهما كان الثمن ولكن بعيدًا عن الجميع!!

تنهد "معتز" من افعاله وكلمه قائلًا:

- يا عم.. سرحان في ايـ.. 

ولم يستطع أن يُكمل جملته ليقاطعهما "رامز" الذي أقتحم مكتبه في هرجلة ليلكم "جاسر" بدون مقدمات وصرخ به:

- وحياة أمي ما هيكفيني موتك على اللي عملته فيها

أخذ يلكمه بسرعة غاضبا وبدأ "جاسر" هو الآخر في تسديد اللكمات له دفاعًا عن نفسه بينما "معتز" لم يستطع إلا حمل جسد "رامز" ليفرق تلك المعركة وكي لا يتضرر أحدًا منهما أكثر من ذلك ليصيح وهو يُبعده:

- ده أنا هوديك ورا الشمس، خليتها مريضة نفسية خلاص؟! ده أنا هطلع عين اهلك على كل اللي بيحصلها ده.. هوديك ورا الشمس يـ..

صاح به "معتز" كي يوقفه عن الحديث: 

- خلاص يا رامز 

نظر له "جاسر" وهو يلتقط انفاسه وتملكته صدمة ليتلعثم قليلا حتى أستطاع تكوين سؤالًا منطقيًا:

- هو.. هو ايه اللي حصلها؟! 

 اجابه "رامز" لاهثاً بعنف بين أسنانه الملتصقة وصرخ به غاضباً وعيناه ينهال منها شرارًا يصمم على قتله:

- عاملي فيها راجل وأنت متعرفش مراتك مالها، بقا عندها فوبيا تقعد مع حد في أوضة مقفولة، مبقتش طايقة راجل يقرب منها، قافلة على نفسها ومش راضية تقرب من حد، مبسوط باللي وصلتله؟ فرحان باللي حصلها؟ كده أنت أنتقمت للواطية اللي ربتك وجبت حقها خلاص؟!

ازدرد في آلم وبالكاد "معتز" يستطيع منعه عن الإقتراب من "جاسر" ليتكلم متوعدًا من جديد:

- بس وديني ما هسكتلك، أنا مش هاسمع كلامها في حاجة تانية، من النهاردة خلاص أنت بتتعامل معايـ..

 قاطعه "جاسر" الذي تحدث بهدوء مريب:

- سيبنا يا معتز بعد إذنك لوحدنا شوية!

 ارتبك "معتز" قليلا وشعر بالقلق لتركهما وحدهما بينما لاحظ أن "رامز" أستعاد سيطرته على نفسه فتوجه للخارج بينما صدح صوت "جاسر" مجددًا 

- أقعد يا رامز.. كويس إنك جيت يا إما أنا اللي كنت هاروحلك!

     

آتاها ذلك الصوت من الطرف الآخر للهاتف:

- هي راحت شركة اسمها ... بعد ما قابلت مراد ورامز قدام الشركة وبعديها مفيش عشر دقايق نزلت ركبت عربيتها ورجعت على الشقة

همهمت في تفهم وقالت متسائلة:

- خليك زي ما أنت، راقبها وصورلي كل حاجة، والشقة اللي راحتها دي تبقا بتاعت مين؟!

اجابها بما يعرفه:

- دي شقة بتقعد فيها من ساعة ما خرجت من المستشفى

سألته من جديد:

- حد بيروح معاها؟

اجابها برسمية:

- أنا سألت الأمن وعرفني إنها قاعدة لوحدها

تمتمت بإبتسامة خبيثة:

- لوحدها! 

أكملت حديثها بنبرة متغطرسة: 

- خليك زي ما أنت واللي عاوزه هيوصلك زي ما احنا متفقين!

قال برسمية:

- تحت أمرك يا هانم..

ابتسمت بإنتصار وهي ترتب أفكارها وهمست بشر:

- بقا فاكرة هتضحكي عليه وهتدخلي عليه بالحركتين دول.. إن ما ندمتك على كل اللي عملتيه ورديتلك القلم عشرة مبقاش أنا هويدا!

     

تأكدت من إغلاق الباب الرئيسي لشقتها الجديدة التي تمكث بها وبالرغم من شعورها بالخوف لمكوثها وحدها ولكنها هكذا تشعر بالطمأنينة أكثر، أختارت مكان يقع بمنطقة تعتبر قريبة من الجميع لربما أحتاجت أحد من أصدقائها، وخاصة "أدهم" الذي تشعر أنه أكثر من يستطيع التعامل معها الآن..

هادئًا معها للغاية، لا تشعر بأنه يطالبها بالكثير، لا ترى الإلحاح بعيناه مثلما تراه بأعين كلًا من "مراد" و "رامز" والتساؤلات التي لا تنتهي..

كل شيء معه يبدو سهلا للغاية وكأنه متفهم حالتها تماما.. حتى الكلمات لا يُجبرها أن تخرج منها، بل يستطيع المكوث بجانبها لساعات دون التحدث، وكأنه يشاركها كل ما تشعر به عن طريق مشاركته للهواء الذي تتنفسه..

لن تنكر أنها ببعض الأوقات تشعر بإرادتها في الصراخ على أحد، تريد أن تبكي، أن تتحدث بلا توقف، أن تقص على أحد كل ما حدث لها وشعورها عندما عاملها بتلك الطريقة ولكنها تشعر بأنها فقدت شجاعتها للأبد، وبلرغم من كل هذا لا تندثر رغبتها بالإنتقام بكل ما فعله بها "جاسر".

فزعها يزداد كلما أدركت أنها عليها مواجهته بجرأة وعدم خوف، مجرد أن تتظاهر بتلك الجرأة يبعث الخوف لقلبها، كلما تعرضت لمن يذكر أسمه أو مثل اليوم عندما رآته يدوي سؤالًا واحدًا بعقلها، هل يا تُرى خوفها ظاهر له أم لازالت تلك القوية المتمردة التي عهدها؟!

عقدت حاجباها عندما مر أمامها حديثه لها اليوم، لا تُصدق طريقته بالإنصياع والإذعان لكل ما طالبت به، تتذكر جيدًا أنه ملامحه وطريقته اللينة التي لم تعهدها منذ أن عرفته وكأنما تعاملت مع شخص لا يُشبهه نهائيا وصاح عقلها:

- أكيد كداب وبيمثل 

لم ولن تستطيع أن تثق به وخاصة بعد كل ما فعله معها، لم يجد عقلها سوى هذا التفسير الوحيد .. لماذا تبحث عن تفسير لهذا الحقير من الأساس؟

ألمس قلبها الشفقة؟! بالطبع لا، فهي لازالت لا تتقبل ما فعله حتى ولو لم يكن على معرفة بالحقيقة، فحتى ولو خدعته والدته لا يزال كل ما فعله بها ليس له أي مبرر!!

 احساسها لم يعد مثل السابق، بالأمس هي كانت القوية المتمردة والجريئة لأنها كذلك وتلك هي طبيعتها، بينما الآن عليها أن تكن كذلك بالإجبار.. 

لم تُصدق مدى ضعفها وهشاشتها التي لم تبح بها لأحد، كم تريد أن تعيد عقارب تلك الساعات وترجع بالزمن كي ينتهي هذا الآلم بداخلها، أرادت العودة مثل السابق ولكن من أين لها أن تهتدي للطريق، لولا رغبتها بالإنتقام لما كانت لتستمر حتى اليوم، تشعر وكأنها سجينة تلك الحوائط التي لم يعد غيرها يمثل لها الأمان، كم تمنت أن تهشم تلك المرايات حتى لا ترى وجهها الذي ترتعد ما إن لاحظت خوفها باديًا على ملامحها..

     

تحدثت بصوتٍ هامس في الهاتف وعملت ألا يلاحظها أحد:

- مش عارفة حضرتك.. هي سألته على شقة واحدة قاعدة فيها، وقالتله راقبهالي وشكلها بتدفعله فلوس

همهم بتفهم ثم قال بلهجة آمرة:

- طب خليها تحت عينك وعرفيني أول ما تعرفي حاجة 

أنهى "جاسر" حديثه مع العاملة بمنزل "هويدا".. بالطبع من أعتادت على إصدار الآوامر لن تستطع الحياة بسهولة دون إمتلاك من ينفذها لها، سيدة المجتمع الشهيرة الزائفة التي تحاول أن تُظهر صورة لم تكن عليها يومًا لن تستطيع الحياة دون خدمٍ حولها..

لم يُصدق أنها بتلك الوضاعة التي أهلتها لأن تملك أكثر من منزل بحي راقي، تلك الأموال بحساباتها، وكأنها كانت تحتاط دائمًا بمنتهى الدهاء ما إن حدث شيئاً لها..

شرد بفيروزيتاه ليتنهد مُدركاً أنها بالطبع تراقب "سيرين" ولن تدع الأمور تمر مرور الكرام، فمن خدعته لسنوات ستريد فعلها مرارًا وتكرارًا ولن تتوقف أبدًا.. 

لأول مرة يشعر بالخوف عليها، بالرغم من تظاهرها بالقوة والجرأة دائمًا ولكن يعلم أن مكر "هويدا" قد يدمر الجميع بلحظة واحدة ودون مقدمات كما دمرته لسنوات عديدة، هي فعلت كل ذلك وخدعت ابنها فما بالك بغيره؟! 

عاطفته تأججت فجأة، لن يستطيع أن يطمئن وهي بعيد عن عيناه، لا يضمن قد يحدث لها أي شيء، يكفي ما أخبره به "رامز" وبما تمر به، هي بالكاد تستطيع التصرف والتعامل مع الغير، وأكثر ما يؤلمه أن كل هذا حدث بسببه هو، بسبب ما فعله بها، بسبب خطأه ووثوقه بمن انجبنته، هو من جعل من تلك الصلدة الجسورة منهارة تمامًا، هو من دمر ذلك الحصن المنيع ليساويه بالأرض..

زفر بحرقة ثم أشعل سيجارته ليدخنها في هدوء وصمت، وأوصد عينه مُتذكرًا ملامحها اليوم، تلك النظرة التي نظرتها له كانت كالسهام المحمومه بقلبه، يتذكر كيف كانت تنظر له قبل هذا اليوم ولكن الآن كل شيء أختلف، تبدو القوة عليها، رفضتا عسليتاها الإنهيار عندما قابلت زرقاويتاه ولكن أوصلت سيطرتها على نفسها لتلك الدرجة؟! من أين لها ذلك؟! 

لقد كان هادئًا لينًا معها ولربما لاحظت ذلك الإنكسار بعينيه لكن كيف لها هي أن تعود لتكون بذلك التمرد؟! يا لها من قوية!!

عواطفه تفتقدها، بل كل شيء بها، قوتها وجرأتها وحتى تلك الكلمات التي أعتادت أن تستفزه بها، ابتسم بمرارة على تلك المرات التي ناما بها سويًا بنفس الغرفة، تمنى لو أنها كانت أكثر من أن تعد على أصابع اليد الواحدة، بينما اليوم وبالرغم من كلماتها التي جرحته كثيرًا أمام الجميع ولكنه لم يكترث غير لإشباع فيروزيتاه من تلك الملامح التي أفتقدها، لم يشعر تجاه أي إمرأة قبلها بذلك، لا يهتم تحت أي مسمى وكيف تراه الآن ولكنه فقط يريد رؤيتها أكثر من أي وقت مضى..

وضع سيجارته بالمنفضة ثم نهض مرتديًا سترة بزته ليتوجه لها، لم يكترث بعدم موافقتها أو لا، يعلم أنها وحدها وقد تثير رؤيته أعصابها ولن تتقبل الحديث معه ولكن هو يتأكد جيدًا أن إحتياجه لوجودها معه الآن قد يجعله ينهار تماماً إن لم تصبح بجانبه..

صف سيارته أمام المبني الذي تقطن به وهو يستجمع كل الحجج المنطقية التي قد تجعلها بجانبه، العمل، الزواج بينهما، و أيضًا.. حسناً، لم يكن هناك غير ذلك ليجمعهما..

أومأ له رجل الأمن بإحترام فهو لا يزال يتمتع بتلك الهيبة والملامح التي تبعث التوتر في نفوس من يراه، بالطبع يعرف الرجل من هو، لربما يتألم ويعاني كثيرًا ولكنه لن يتركها أن تذهب من حياته.. فهي من تبقى له بعد رحيل الجميع.

للحظة شعر بالثناء على نفسه وذكاءه بأن يراقبها بل ويستأجر هو الآخر شقة بنفس العقار التي تقطن به وآتى لبعض المرات خلسة وحرص ألا تراه حتى إذا أضطرته الظروف أن يتواجد بجانبها فسيفعل حتى ولو رغمًا عنها..

توقف أمام باب شقتها.. وزفر ثم حاول أن يستجمع كل الشجاعة بداخله ليطرق الباب وهو لا يزال غير متأكد كيف سيبدأ الحديث معها يشعر بالخوف من مواجهتها وحدهما؟ والأسوأ ذلك السؤال الذي حيره، كيف ستكون ردة فعلها؟ فكر كثيرًا وجالت بعقله العديد من التساؤلات وهو يزدرد في خوف ووجل مما أوشك على الحدوث معهما..

#يُتبع . . .