-->

الفصل الثامن والسبعون - رواية شهاب قاتم

 




- الفصل الثامن والسبعون -

     

ثم إن الدنيا كلها ليست سوى فصل واحد من رواية سوف تتعدد فصولها .. فالموت ليس نهاية القصة ولكن بدايتها !

(مصطفى محمود)

     

منذ شهر. . .

الأول من ديسمبر عام 2020. . .

أخيرًا استطاعت أن تمكث بمفردها بعد الإجراءات التي باتت خبيرة بها، نفس وجع الرأس بالصداع، نفس الآلام، كل شيء يتكرر.. حتى وجه اختها المهتم الذي يُقطر آلمًا وصديقتها التي نظرت لها بآسى وشفقة وزوج اختها الذي كان لا يدري ما الذي عليه قوله والخجل يعتريه وحتى والدته كانت متعاطفة معها.. ولكن الأسوأ أن لم يأتِ أحدًا منهم على ذكره ولم تستطع هي أن تسأل عنه!

زفرت والآلم ينهشها، الآلم لم يعد يترك بها ذرة إلا وسيطر عليها، ليس الآلم الجسدي فهذا هين، بل الآلم بالخيبة الشديدة والإهانة والقسوة وكل ما عرضت نفسها له يومًا ما.. 

أخذها الغرور، قالت أنه ستُساعده، ستُعالجه، ستغيره بالعشق، بالدعم والمؤازرة، وثقت بمن لا أمان له، اختارت ذلك الطفل المُراهق وهي تظن أنها ستكون شعاع الأمل له في الحياة، ستكون له صديقة وعاشقة، أُمًا وزوجة، ستكون كل من افتقده بالحياة وإلي ماذا أوصلها هذا؟ إلي الآلم أم إنتهاك روحها؟ 

لقد أخطأت.. والآن أدركت.. أدركت كل شيء!! أدركت أن ذلك الحلم معه وعلاجه الذي عذبها لأكثر من عام لم يكن سوى ذريعة استفاد هو منها بمنتهى الذكاء، استخدم كل ما عالجته به ضدها.. خدعها.. أكاد حقا أن يقتلها؟ أبفعلته تلك اهداها كل ما تمنته يومًا ما؟ جنينًا وطفلًا سيكون هو والده أو والدها؟!

لقد اصبحت بعلاجه هو مريضة، خائفة أن تغادر جدران تلك الغرفة، تتظاهر أمام الجميع ولكن أن تذهب للمرآة وتتفقد جسدها، هذا ما ترتعب منه! 

لا تزال تتذكر تلك العصا وهي ترتطم بجسدها، تلك النيران وهي تُلهب جسدها وتحرقه، اعتداءه عليها بمثل هذه البشاعة، اغتصابه اياها من جديد، وتتذكر كل مرة صدقته، كل مرة آمنت بأنها ستُغيره، لقد كان الحل منذ البداية أن يُعزل هذا الرجل لسنوات حتى تُحدث به تغييرًا!

ما الذي جذبها؟ هل هي جاذبيته؟ هل هي شخصيته بمزاحه الطفولي؟ ربما وجه رجل الأعمال الدبلوماسي؟ هل يُمكن انها سعدت بأمواله ونجاحه وكل ما هو عليه؟ 

لقد اختارت منذ حوالي عامٍ بأكمله بمحض ارادتها ولم تستمع لأي شخص وظنت أنها لديها الطاقة بتغيره وتغير الكون كله، ولكن الآن أدركت مدى خطأها وفداحته.. فلقد اختارت لنفسها برغبتها أن تُصبح روحًا ممزقة مُنتهكة لم يعد بداخلها سوى طيف إنسان لا يقوى على الإستمرار.. ويا لويلتها لقد كانت على ثقة بكل ذلك منذ البداية وخطأت كل الخطأ بالإستماع لصوت قلبها وتجاهلت كل أصوات العقل بداخلها وبخارجها من أصوات الحقيقة المُجردة!

استمعت لطرقات على الباب فضمت ملابسها عليها ظًا بأن الطارق احدى الممرضات أو الطبيب بعد أن صممت تمكث بمفردها الليلة فهي بالكاد تستطيع النظر لوجه احد ليُفتح الباب فشرأبت نحوه لتجد أن الطارق هو "معاذ" الذي حدقها بتساؤلات عدة انهمرت من عينيه ولكنه ابتسم بإقتضاب واتجه نحوها ليقول:

- حمد الله على السلامة يا فيروز.. 

بادلته بهمس:

- الله يسلمك.. شكرًا يا معاذ.. 

أومأ بإقتضاب ثم حمحم وحدثها بجدية:

- بصي يا فيروز.. انتي مرات اخويا وزي اختي.. لأ انتي فعلًا اختي.. أنا مانع تحقيقات وحاجات كتيرة اوي عنك أنا وعيلة بدر الدين الخولي لغاية ما تكوني احسن.. وحبيت معرفكيش اي حاجة غير لما اسمع منك الأول ووصيت إن محدش يعرفك حاجة من اللي حصل! 

ضيقت حاجبيها في استغراب تجاهه وقبل أن تتفوه بأي كلمة بادرها هو:

- أنا عايزك تحكيلي حاجتين.. الأول ايه اللي خلاكي تعيطي ساعة ما لبنى كلمتك وكنتي منهارة.. وتاني حاجة تحكيلي اللي حصل بالظبط في الليلة دي وقوليلي كل اللي تفتكريه علشان مفيش كلمة كده ولا كده تطلع في التحقيقات وتأذيكي! 

رمقته في ذعر وهي تستمع لتلك الكلمة وسرعان ما تذكرت قتله إلي "عمرو" ابن خالتها، صوت "أروى" وهي تعاتب "شهاب" وتبعها صوت الأعيرة النارية، الآن تعلم أن تلك الوجوه التي رآتها منذ ساعات بكل تلك الشفقة التي احتلتها كانت من أجل أمرٍ جلل! 

هدأت من تلقاء نفسها لتتنهد وكأن الأنفاس التي تغادر رئيتيها كما الخناجر التي تمزقها وتطعنها دون هوادة لتبدأ في قص كل شيء عليه مثلما طلب منها! 

جففت دموعها التي تساقطت منها وهي لم تخبره فقط بما حدث تلك الليلة، بل ما حدث منذ البداية لتهمس في النهاية:

- بس.. هو ده كل اللي حصل وساعة ما اضربت بالنار محستش بالدنيا حواليا ولا حتى عرفت مين اللي شالني وجابني المستشفى! 

أومأ لها في تفهم ولم يجد ملجأ من أن يُحدثها بالحقيقة المُجردة ليحمحم وملامحه لا تحمل سوى الجدية والصلابة وبنفس الوقت الشفقة على حالها وبدأ هو الآخر في قص ما حدث عليها:

- أنا يومها وصلت البيت متأخر وكنت جايلك أنا ولبنى في الطريق.. فجأة لقت الناس على انستجرام معلقين على صورتك، وبعدها لقت صور تانية وانتي مع عمرو واخر حاجة فيديوهات مع اللي حصل ما بينك انتي وشهاب! 

طأطأ برأسه للأسفل في خزي مما يقوله لوهلة بينما هي ارتعدت وأُصابت بالذعر لتهتف بفوضوية متلعثمة:

- ايه! يعني.. يعني كل اللي حصل ده .. لا مش ممكن يعني.. معاذ الكلام ده بجد؟

انهمرت الدموع من عينيها وهي تدرك أن قد أصابت بفضيحة من العيار الثقيل وارتجفت شفتاها وهي تبكي في قهرٍ على ما لم بها ليُحدثها بنبرة مواسية:

- فيروز ارجوكي اهدي علشان تفهمي كل حاجة.. مش هينفع تتوتري خالص دلوقتي! لازم تجمدي لغاية ما نشوف هنتصرف ازاي! 

تعالى بُكائها وهي تتذكر بشاعة ما حدث معها لتهمس بحرقة:

- أنا كده اتفضحت قدام الناس كلها، اجمد ايه بس! لغاية امتى هافضل اجمد واعدي واسامح، لغاية امتى.. انا تعبت بقى! 

نظر إليها بملامح مواسية ولكنه لن يستطيع الإنتظار اكثر وقد تبدأ التحقيقات صباح الغد فتحدث ليُسكتها:

- بعد ما الموضوع اتعرف مفيش تاني يوم الضهر فجأة لقينا المحامي جاي بيسلمنا عقود.. كل حاجة بتاعت شهاب بقت بإسمك.. وبعدها بيوم بليل عرفت إن اتقدم بلاغات عن شهاب بإبتزاز جنسي وصفقات ممكن تكون مع المافيا بس لسه طبعًا التحقيقات شغالة ومحدش يعرف مكانه! محدش عارف يلاقيه! ومحدش عارف يثبت حاجة غير الفيديوهات اللي مفيش ولا واحدة من اصحابها اتقدموا ببلاغ واصلًا ملامحهم متشفرة فيها وهو لواحده اللي ملامحه واضحة.. لكن شغله مع المافيا ده صعب اوي محدش لاقي دليل لسه! 

وكأنما سقط على رأسها جبالٍ من الجليد فأغمضت عينيها تعتصرهما وهي الآن باتت إمرأة مُغتصبة من زوجها المجرم الذي يبتز النساء وإمرأة خائنة لزوجها، فضيحتان متتاليتان في ليلة واحدة، في وقتٍ واحد، فضيحة موثقة بالصور وأخرى موثقة بمقاطع مُسجلة صوتًا وصورة ولم تُصدق أيًا مما تستمع له لدرجة انها تمنت لو انها ترى كابوس وسينتهي بمجرد أن تفتح عينيها لتفعل بعد وهلة ولكنها وجدت أنها لا تزال تواجه نفس الكابوس لتهتف به:

- هات موبايلك يا معاذ!

رمقها في تردد لتصيح به صارخة:

- بقولك هات الموبيل! 

ابتلع وهو يفعل لتدخل على احدى التطبيقات الشهيرة الخاصة بعرض التسجيلات المرئية ثم طبعت اسم "شهاب الدمنهوري" وزوجته لتتفاجئ من اعداد النتائج لتفتح اول نتيجة التي كانت احدى برامج المذيعين ذائعي الصيت:

- يعني احنا دلوقتي عايزين نفهم.. هي خانته الأول ولا اغتصبها.. يعني دي مهما كان قضية شرف.. وهل هو اللي قتل الراجل ولا مش هو؟! 

ازاي! ازاي الراجل اللي كل الناس كانت بتتكلم عن اعماله الخيرية فجأة يطلع ليه علاقات جنسية ومصايب زي دي وصفقات مشبوهة؟

طب منين ده يحصل وفجأة كل التحقيقات مش عارفة توصل لحاجة، وبعدين هو مين يعني شهاب الدمنهوري اللي فاكر نفسه فوق العدالة!! وازاي اصلًا بعد كل ده الجرايد بتتكلم، والتحقيقات بتثبت إن كل املاكه مكتوبة بإسم مراته! 

يا جماعة عايزين حد يوضحلنا، حد يفهمنا، حد يقولنا من فريق التحقيقات النهاية للموضوع ده!

احنا تعبنا من الموضوع ده.. يا عم تعبنا.. يا عم شهاب الدمنهوري ايه ومراته إيه.. احنا عايزين نوصل للنهاية وايه اللي حصل وايه الموضوع علشان نفهم! 

سرعان ما اغلقت هذا التسجيل فهي لا تصدق أن هذا المزيع الشهير برأسه الصلعاء ونبرة صوته التي جعلتها تشعر وكأنها مذنبة يتحدث عنها لترى واحدًا من التسجيلات الأخرى لمذيعة شهيرة وهي زوجة المذيع الأول:

- نذهب للخبر الأهم النهاردة اللي كل الـ social media بتتكلم عنه، خيانة زوجة رجل الأعمال شهاب الدمنهوري وطبعاً الـ videos والصور والتريند الأشهر في مصر بقاله اسبوعين حتى الآن ومحدش لسه عارف الحقيقة فين.. 

تساؤلات كتيرة جدًا هل هو فعلًا المتواجد بالتسجيلات مع الستات ولا حد غيره، وهل كان ليه صلة بخلايا إجرامية زي ما بيُشاع ولا لأ! هل حصل خيانة من زوجته، الموضوع قضية شرف ولا اكتر، وهل زوجته فعلًا قامت بسلبه كل ممتلكاته كما يُقال! 

بس احنا علشان نصل للنهاية ولمعلومات حقيقية تؤكد إيه اللي تم في الموضوع ده والإجراءات التي أتُخذت معنا على الهاتف المتحدث الرسمي للفريق المتولي البحث بـ..

انفرج ثغرها وهي لا تصدق ما تشاهده لتبدأ بمراجعة المزيد سريعًا لتجد أن اكبر المذيعين الذين يدخلون كل البيوت بأكملها قد تحدثوا عن ما حدث لها لتترك الهاتف ليسقط على ساقيها دون شعور وبكت بمرارة وهي تشعر بالرعب من مجرد مغادرة هذه الغرفة لتنظر بوجه العالم بأكمله! 

تريث لبرهة ليترك لها مساحة قليلًا أن تتلقى الصدمة بينما عاد ليتحدث بعد فترة:

- انا يومها روحت وشوفت اللي حصل في البيت.. شهاب كان لسه بينزف! 

رمقته بأعين مقهورة لا تتوقف عن البُكاء ليُكمل حديثه:

- ولقيت عمرو مقتول.. انا نقلت شهاب مكان محدش يعرف يوصله فيه لأنه كان مصاب بتلت طلقات.. استئصلوا الطحال وكمان رجليه بقى بعاهة دايمة! محدش يعرف هو فين غيري! 

توقفت عن البُكاء في صدمة ليتابع حديثه:

- انا مرضتش اخد اي إجراءات غير لما تصحي وتفهميني إيه اللي حصل.. حتى اللي اسمه بدر الدين الخولي أنا مرضتش اثق في كلامه غير لما اعرف منك الأول لأن كلامهم مأقنعنيش! 

تفقدها بجدية ثم وجه لها السؤال الأصعب على الإطلاق ليُذيل به كلماته:

- دلوقتي انتي وشهاب اتلفقلكوا موضوع الخيانة ده، انتي هيجيلك تحقيقات بسبب توقيت نقل الأملاك ليكي.. هياخدوا اعترافاتك عن شهاب وقتل عمرو.. هيسألوكي عن سلاح الجريمة وكل التفاصيل.. هياخدوا كل اقوالك.. بس عايز اقولك حاجة.. أولًا متنسيش إن شهاب ابو اللي في بطنك.. ثانيًا، هو في غيبوبة لغاية دلوقتي، احتمال بنسبة 90% عاهة مستديمة في رجليه.. 

لغاية دلوقتي مفيش دليل على إن الصفقات اللي سليم سلمها تخصه.. محتاجين ادلة كتيرة اوي علشان يقدروا يتأكدوا ان هو ويدولوا حكم.. ويوم ما يصحى بعد اجراءات كتيرة جدًا وقواضي ممكن يطلع بمرض نفسي وممكن بمحامي يطلع منها بعدم كفاية الأدلة.. واذا الأدلة كانت كفاية اخف حكم ممكن ياخده ويتنقل طول عمره في مصحة! والإختيار دلوقتي ليكي.. عايزة تسلميه للشرطة ولا لأ؟ 

ساد الصمت لبُرهة ليُضيف بهمس:

- لازم تفكري وتاخدي قرارك بسرعة علشان اعرف اتصرف.. انتي اختي قبل اي حاجة وهاقف جنبك.. أنا ماهر وصاني عليكي يا فيروز قبل موته، إن حتى مكنش ليكي فهيبقى علشان خاطره هو! الوحيد اللي اقدر اعمل كده علشانه! ده اخويا !! وبعد كل التفاصيل الكتيرة دي بينك وبين جوزك، الموضوع مش هيخلص قبل سنين في المحاكم ومش بعيد يتحكمله إنه مريض!


     

في صباح اليوم التالي. . .

أطلق زفرة خافتة وهو يضجع بجانب ابنه وحفيده ليمازحه قائلًا:

- جرا يا أبو سيف.. هتربي الواد انت ونشطب شُغل! 

أخذ يُلاطف ابنه وهو يُجلسه على احدى ساقاه ثم التفت له بنظرة غيظ وتمتم له:

- خللي بس نوري ولا زينة يسمعوك وانت بتقول أبو سيف دي وهيجوا يطربقوها فوق دماغي ودماغك!

تهكم بصوت خافت ليقول بسخرية:

- بلاها أبو سيف.. خلينا في حيلتها!! وبعدين اقولك.. طول ما احنا ما بنخاف من الحكومة وبنمشي جنب الحيط عمرنا ما نتسجن أبدًا.. وانت كده ماشي صح.. أنا فخور بيك!

هز "سليم" رأسه في انكار على مُزاح والده الذي لن ينتهي أبدًا وأخذ يلاطف ولده وهو يُطلق اصوات من دورها أن تضحكه لتصدح قهقهاته الطفولية البريئة بين الحين والآخر ليسأله "بدر الدين" بجدية:

- موصلوش في حوار شهاب لحاجة؟

تأتأ في إنزعاج لذكره تلك السيرة ليُجيبه بغضب:

- يا بدر ما يغور في ستين داهية بعيد عننا.. لا موصلوش ولسه مراته فايقة امبارح! 

تنهد "بدر الدين" في آسى ثم قال بنبرة حزينة:

- بس البنت اللي حصلها ده كتير برضو.. اتفضحت وسط الناس وجوزها بهـ..

قاطعها بلهجة قاسية دون أن يشعر:

- بابا اسمعني بقى علشان الموضوع ده أنا مش عايز كلام فيه تاني.. الكلب ده اتفضح بسبب الحيوانة اللي معملتش لينا حساب وراحت بهدلت الدنيا من ورانا.. اللي حصله هو ومراته بسبب وساخته.. انا مروحتش فضحت حد غيره هو وبعدت عن مراته.. واديك بعينك شوفتها كانت عاملة ازاي في المستشفى وربنا جعلها عمر لما انا وعمي وصلنا.. 

أنا مراته مشوفتش منها حاجة وحشة، وأقسم بالله إني هاروح بكرة ليها واخيرها بين انها ترفع قضية على أروى ده إذا عرفوا يلاقوا دليل على الشيطانة دي أو لأ! ومأذيتش ولا واحدة ست كل ملامحهم اتشفرت في الفيديوهات ووشه بس اللي باين وواضح!

أي تعويض على اللي حصلها انا مستعد ليه، عايزاني اساعدها في أي حاجة ماشي.. لو انت كنت السبب في انها تعرف القذر اللي اسمه شهاب فأنا اسِد واتحمل عنك اي حاجة.. لكن شغل حنية تاني مع اي حاجة ليها علاقة بشهاب الكلب ده والله ما هيحصل! 

رفع والده حاجباه في تعجب لتلك اللهجة التي قلما يُحدثه بها ليزجره قائلًا:

- جرا ايه ياض هتعلي صوتك عليا.. وبعدين متتحمئش اوي كده.. كنت هاقول نفس كلامك.. لو عايزة مساعدة ولا حاجة وهي بقت لا أب ولا أم وحتى الكلب جوزها مش لاقينه لازم نساعدها.. بكرة يا حيلتها هاروح معاك!

زفر بحنق ثم أردف بكراهية لكل ما حدث وهو يتذكر هيئتها وهي عارية ومصابة بنزيف بأنحاء جسدها وحروق شتى ليهمس بحرقة:

- كل ده كان غلط، لا كنا نساعده ولا كنت تقول نعالجه.. يا بدر .. يا بدر انت خامة نضيفة مش زي القذر ده! يا بدر انت بكل اللي حصل زمان عمرك ما اغتصبت واحدة ست بدون رضاها، إنما ده! اغتصب بنت عمه وجاتله الجرأة يعملها.. 

ماهي أروى اهى شيطانة، بس ده ميخلنيش اروح اغتصبها! أنا مش فاهم ده بني آدم ازاي! ده بشع معندوش دم ولا كرامة ولا رجولة.. وجه بمنتهى البجاحة في عزا تيتا، وجه وقال ايه بيشكرك إنك عالجته، وخلاك تشهد على جوازه وجواز اخوه! ده شيطان! استحالة ده دلوقتي زيك انت زمان!

فجأة صاح "سيف" ببكاء ليحاول أن يهدهده فوق ساقاه ليغمغم:

- اهو اتفضل على السيرة اهو قلب وشه وهيقضيها عياط..

رمقه والده بتعالي مازحًا ثم قال:

- هات يا حيلتها أنا هاسكته وروح الزق جنب مراتك! 

ناوله "سيف" لينهض "بدر الدين" وأخذ يلاعبه وهو يُسير به بخطوات سريعة قليلًا بينما تمتم الآخر:

- على يوم اجازة هينكد عليا.. أب مفتري!

رمقه بثاقبتاه وهو يُضيق عينيه نحوه وقد أدرك تلك النظرة المتوعدة بمزاح من عينيه بينما قرر أن يختفي عنه فهو قد خلصه قليلًا من متابعة "سيف" واخيرًا سيختلي بزوجته لعدة دقائق!

     

اعادت برأسها تلك الكلمات التي أخبرها بها "مُعاذ" ليلة أمس لتتنهد وهي تتذكر قرارها الذي لم تدر أهو صائبًا أم لا وراجعت كلماتها بعناية..

- أنا مش عارفة يا معاذ.. كل اللي مريت بيه ده زي ما يكون درس، بسأل نفسي.. يعني انا غلطت إني وافقت اتجوز انسان زي ده، ولا أنا اصلًا بوظت حياتي وحياته وظلمته وزودت مرضي ومرضه.. واحد زي ده كان لازم يتعزل من بدري وأنا كابرت.. 

عشت على أمل إني يمكن اغيره، يمكن انجح معاه، وبعد ما حبيته قولت يمكن الحب يغيره بس وثقت في كلام تافه ومفكرتش بعقلي وسمعت صوت قلبي وادي النتيجة هي.. 

مريض نفسي، مجرم، وكمان مريض بعاهة زي ما قولتلي مش سهل يتعالج منها وكمان احتمال اخرج بطفل من كل ده! طيب ذنب الطفل إيه يعيش من غير أب؟ ذنب الطفل ده إيه يعيش مفضوح بأبوه وأمه؟ طفل حتى مش ضامنة هيجي للدنيا ولا لأ.. ذنبه ايه في كل ده؟! 

تواترت دموعها من جديد وهي تتساقط على وجنتيها ليحاول هو أن يُهدأها:

- إن شاء الله ربنا يقومك بالسلامة ويباركلك في ابنك او بنتك.. ربنا كبير يا فيروز.. لو مكنش ليه حكمة في كل اللي حصل ده يبقى اكيد مش هيعمل كده!

أومأت له بإقتضاب لتهمس:

- ونعم بالله! 

تريثت لبُرهة وهي تُفكر وحاولت التوصل لقرار سريع لتنظر له وقد تمالكت نفسها بصعوبة كي تحاول أن تجد مفر من كل هذا العذاب:

- أنا مبقاش ليا حاجة هنا.. فريدة ربنا يسعدها مع هاشم، هبة نفس الكلام عندها بيتها وبنتها وجوزها ربنا يباركلها فيهم! أنا مش هاستحمل اعيش مفضوحة وسط الناس يا مُعاذ، خلاص كده.. مبقاش فيه حاجة تخليني استنى في البلد دي!

عقد حاجباه متفقدًا اياها في تعجب ليتسائل بغير تصديق:

- تقصدي انك عايزة تعيشي برا؟

أومأت له بالموافقة ثم نظرت له وبدأت في تفسير ما تهادى عقلها له:

- لو تقدر تساعدني اسافر برا بهوية تانية خالص غير اسمي.. تتصرفلي في ورق.. عارفة إن الموضوع هياخد وقت بس هو ده الحل الوحيد قدامي علشان اعرف اطلع من البلد من غير شوشرة! يمكن يبقى ليا فُرصة اعيش زي أي إنسان طبيعي.. بعيد عن الفضايح والتحقيقات والقضايا!

اعترى ملامحه الرفض ليُردف:

- بس انتي حامل يا فيروز ولازم تـ..

قاطعته متنهدة بسخرية:

- صدقني لو روحت اي مكان في الدنيا هيبقى احسن من هنا.. كندا ولا امريكا ولا اي حتة بيتكلموا انجليزي، هلاقي رعاية صحية كويسة وكمان خبرتي في المدارس والعلاج النفسي ممكن اشتغل بيهم والدراسات اللي كنت عاملاها زمان.. ده طبعًا إذا الحمل كِمِل على خير ومحصلش اللي قبل منه!

همست جُملتها الأخيرة بحُزن وترقرقت عينيها بالدموع ليشعر هو بمعاناتها فسألها:

- إن شاء الله يكمل على خير.. بس هتثبتي الطفل بإسم مين؟!

تريثت لبُرهة لتُفكر جيدًا ثم اجابته:

- بعد كل المصايب دي اسم شهاب الدمنهوري بقى شُبهة! لو ثبت ابني ولا بنتي بإسمه هيتعرف في يوم كل حاجة.. وده أنا مش عايزاه أبدًا.. إذا الحمل كمل مقداميش غير اننا نجهزله ورق بإسم تاني خالص.. ومش عارفة حتى هثبت البنت او الولد ازاي برا .. يمكن انت يا معاذ تكون ادرى مني بالتفاصيل دي.. 

همهم في تفهم وهو يُطنب بالتفكير ويبحث بعقله عن من يساعده في مثل تلك الإجراءات ليهمس لها:

- سهلة إن شاء الله! ربنا يسهل.. 

تنهد وهو يفكر بالكثير من الأشياء ثم سألها:

- طيب وشهاب؟ هنعمل معاه إيه؟ 

ابتلعت في تفكير وعينيها تحدق بيديها وهي مُنكسة رأسها للأسفل لترفع عينيها له وشارفت على ذرف الدموع لتهمس بمرارة:

- أنا كنت في لحظة زي دي مش محتاجة غير حضن بابا جنبي.. والله لو كان موجود كان كفاني عن الدنيا باللي فيها.. لو الحمل ده كِمل مش هاقدر احرم طفلي من باباه! أنا مش وحشة اوي كده يا معاذ! أنا عمري ما كنت قاسية لدرجة احرم ابني او بنتي من ابوها لو حتى كان شيطان!

انفجرت ببكاء تعالى بشهقات تمزق حنجرتها ليشعر بالتعاطف الشديد من اجلها ولكنه لن يترك الساعات التي تفصلهم عن النهار كي تضيع فسألها:

- وإذا لا قدر الله مكملش؟ 

أومأت له بالإنكار ثم قالت:

- ابقى سلمه يحبسوه ولا يودوه مصحة! 

حاولت أن توقف نفسها عن البُكاء ليُردف هو:

- بس انتي عارفة إن لسه فيه فترة طويلة على ما تقومي بالسلامة.. اكيد هيفوق في الفترة دي.. 

استنشقت الهواء بصعوبة بداخلها وهي تومأ بالموافقة لترد مُعقبة:

- شهاب اول ما يصحى توصله كلمتين.. اول حاجة اني فوقت، جسمي مستحملش وجالي نزيف بسبب إجهاض لأن جسمي وحالتي النفسية مستحملوش.. ولما فوقت وصيتك إنه يتعالج ويستجيب للعلاج! وعرفه إني مسمحاه على اللي حصل بسبب أروى بسبب إني حامل واداني الطفل اللي طول عمري كنت بتمناه! 

بس أنا عايزة اطلب منك طلب تقيل اوي يا معاذ! 

انتظرت وهي تتفقده بأعين متسعة ليقول بتلقائية:

- يا بنتي قولي على طول من غير استئذان! 

تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته كعادتها قبل مواجهة الصعاب دائمًا ثم تحدثت له قائلة:

- هما طلبين.. الأول إنك توهمه إنه مسجون بسبب إن سليم ابن بدر الدين قدم كل الدلايل اللي معاه وتجبله حد يعالجه في حبس انفرادي.. التاني هو اني عايزة اختفي.. عايزة الكل يعرف إني جالي حالة إجهاض ومن كتر النزيف مقدرتش استحمل! وأنا اصلًا كان بيجيلي اجهاض كتير زمان..

حدقها رافعًا حاجباه على ما يستمع له منها لتضيف هي:

- أنا مش هاقدر اواجه لا تحقيقات ولا غيره.. كفاية إني اموت.. وفريدة تبقى تورثني بقى بعد ما التحقيقات تخلص وانا معايا مبلغ كويس هاقدر اعيش بيه فترة برا على ما الاقي شغل.. وممكن لو مش هاتعبك انا معايا رقم حسابي على الـ mail ممكن نسحب بيه مبلغ في مبلغ الـ limit من أي ATM ويبقى علشان مصاريف المستشفى والدفنة والعزا والكلام ده.. اظنك ممكن تظبطها وتقولي الأنسب إيه!

قال مسرعًا بفوضوية:

- لو على الفلوس أنا ماهر كان سايبلي مبلغ كويس ممكن تستفيدي بيه، متقلقيش من ناحية الماديات خالص.. بس انتي متأكدة إنك عايزة تعملي كده؟! 

أومأت له بالموافقة ثم همست له:

- مبقاليش حاجة هنا خلاص.. لو تقدر تساعدني الليلادي بالطريقة دي ماشي.. لو عايزني اعدي تحقيقات بُكرة وتبقى حادثة عربية ولا انتحار ولا أي حاجة ماشي.. أنا عايزة ابعد يا معاذ بأي طريقة! اهم حاجة اعرف اسحب المبلغ ده بليل بأي طريقة.. وابقى قول لهبة إني اللي طلبت منك كده وابقى اديها الباقي مش مهم!

زفر بعمق وهو يحك مؤخرة رأسه ليقول بعد صمت دام لفترة:

- لو ده هيريحك وقرارك ماشي.. بس اولًا لازم اداريكي شوية في مكان لغاية ما اخلص ورقك والدنيا تهدى وتقدري تسافري برا..وتاني حاجة الموضوع مفيهوش هزار يا فيروز، لا هينفع تكلمي اصحابك ولا اختك ولا اي حد تعرفيه! 

أومأت له بالتفهم ثم همست مُعقبة:

- موافقة.. 

حدقت بالأرضية وكاد هو أن ينهض ليُجرى مكالمة هاتفية ليرى ما إن كان يستطيع تخليصها من هذا الأمر لو هاتف أحد اصدقائه بالمعمل الجنائي وشرح له الأمر ربما يقدر على أن يتفهمه لتوقفه بعد أن رآت أنه من حقه أن يعلم ما الذي حدث لصديق عمره وبعد أن اضاع الكثير من وقته للبحث خلف موته فهمست قائلة:

- معاذ أنا عرفت مين اللي قتل ماهر.. شهاب عرفلي اسمه ايه!

فاقت من تذكرها تلك الكلمات وهي ترتدي تلك الملابس التي تخفي وجهها وجسدها بأكمله ولم تُصدق أن حضور هؤلاء الرجال بملابسهم الزائفة التي خدعت الجميع بأنهم من أفراد الشُرطة وبصحبة صديق "مُعاذ" من المعمل الجنائي بمجرد الإبلاغ عن نزيفها في احدى الساعات الأولى من الصباح اهتزت المشفى بأكملها لتكون على قدمٍ وساق بعد أن اخرج كلًا منهما ما يُثبت انهما مُلتحقان بالشرطة.. 

لا تدري كيف نجاها الله ووافق الطبيب على كلمات صديق "معاذ" الذي تحدث بثقة شديدة وهو يُخبره أنها قد فارقت الحياة بعد اكياس الدماء المختلطة بالماء التي اراقتها بنفسها على الفراش وملابسها وتدخلا بالأمر كي لا تتعرض بأن تمكث جثتها بمشرحة المشفى وسرعان ما تدخل من جديد وتعلل بأنه ليس هناك داعٍ لأن يراها اهلها بمثل تلك الحالة واقنعهم بأن تُغسل وتُكفن بمعرفة العائلة! 

انتهى تقرير أنها ماتت، لقد ساعدت "لبنى" بتغسيلها وتكفينها ولكن إن فُتح الكفن لن يجدوا شيئًا.. هي الآن يُقام لها جنازة، لابد من ان اختها تذرف الدموع في لوعةٍ وحرقة عليها وكذلك صديقة عمرها التي لو كانت استمعت لما قالته لما كانت وصلت لهذه المرحلة..

لقد ماتت حقًا.. مات كل شيء.. ربما الموت هو البداية الوحيدة لها، أن تبدأ حياة جديدة بأملٍ جديد.. أيكره الناس الموت؟ يا لهم من سُذج.. أحيانًا يكون الموت هو البداية الجديدة، بلا ماضٍ، بلا مُعاناة ومشقة، دون أن تجد نفسك تُلام وتُعاتب من قِبل من يعرفوك.. يموت ماضيك ويندثر معه الكثير آملًا أن حياتك الجديدة بعد البعث ستكون مُغايرة تمامًا لكل ما لاقيته بحياتك السابقة، ربما جنة تنتظرك وأنت لا تعرف هذا! 

استنشقت هذا الهواء وهي تُغمض عينيها ليسري قشعريرة تُذكرها بماضٍ بعيد، نسائم بحر مدينة الإسكندرية بالشتاء.. هبطت دموعها وهي تتذكر زوجها الراحل عندما كان يُحدثها بأحدى ساعات الصباح الأولى وهو عائدٌ من عمله ليُخبرها بأنهما سيتناولا طعام الفطور هنا على شاطئ البحر وعليها أن ترتدي ملابسها بسرعة لأنه أوشك على الوصول! 

يا لها من ذكريات بسيطة، صادقة، لا تحتوي على الثراء الفاحش، ولا الكذب ولا الخداع ولا كلمات المراهقة وثرثرة الهاتف التي لا طائل لها.. الرجل افعال وليس اقوال حقًا.. يا لها من أيام رائعة كان كل ما يحتوي عليها هو الحب الصادق والود والإحترام والعفوية.. ولكنها تخلت عن أن تعيش على ذكراه لتذهب لرجل آخر.. ربما عشقته بجنون، ربما لا تزال تحمل له العشق، ولكن كل ما حدث بينهما وكل ما هو عليه لا يصفه سوى كلمةٍ واحدة.. معقد !

فتحت زمرديتاها لتتسكن جروحها لوهلة وهي ترمق امواج البحر الزرقاء وهي مُستقلة تلك الحافلة التي اوشكت على الوصول.. سرت بها طاقة غريبة، طاقة على المثابرة، أمل جديد وهي تمرر أناملها فوق ذلك الجنين الذي ينمو بداخلها، ربما تذكرت الكثير بمجرد أن استنشقت هذا الهواء.. بمجرد أن آتت للملاذ الذي لطالما شعرت به بالراحة والأمل والهدوء.. وكأنه مقبرة احزانها يمتص منها كل أنفاس اليأس المحمومة بلهيب الحياة ويُبدله بهواء نقي مفعم بالأمل.. 

لطالما احضرها زوجها السابق هنا للفطور، للعشاء، كلما تعرضت لتجربة إجهاض! يا لك من حاذق يا "مُعاذ".. هو يعرفها جيدًا.. يعرف ما الذي سيُبدل حالها.. لقد قام بأسره هنا خاصةً وأجبرها على التواجد بالقرب من المكان الوحيد الذي سيجعلها تشعر بالتحسن.. حقًا لقد كان عليها أن تأتي هُنا.. وأن تُصبح بجانبه! 

إذا كان أخذها غرورها ومثاليتها في البداية بأن تُعالجه، وإذا كان أخذها تعاطفها وعشقها له بأن تراه يتغير لاحقًا، وإن كان منذ حديثها من الوهلة الأولى مع "بدر الدين" بأن تساعده فليكون إذن! 

إن لم يكن بالعشق والدعم والمساعدة فليكون بالصدمة! هي لن تفشل أبدًا.. لن تفعلها ولو بعد آلف سنة! لن يذهب كل ما حدث لها سُدى.. 

أهي مغرورة؟ ألديها أعراض نرجسية؟ هل هي أنانية؟ إمرأة سيئة؟ مُكتئبة أم تُعاني من تكرار الصدمات الذي لا يرأف بها؟ فليحدث.. لقد ماتت وستبدأ من جديد.. ولكن ربما يكون الوهم هو الحل!

ستعيش هي على وهم وأمل أن تلد طفلًا يومًا ما، وستجعله هو يعيش على وهم أنه قتلها وقتل جنينًا بأحشاءها.. هذه ستكون محاولتها الأخيرة وكل ذلك دون أن تراه ولا تتعامل معه!

ستؤجل جروحها وآلامها، ستُنكرها مثلما أنكرت الكثير، لقد أنكرت أنها عشقت قاتل ومجرم، وستُنكر ما حدث لها، ستتحاشى النظر بالمرآة، وستتشبث بأنها ستكون أم ووالدة! لن تنظر إلي جروحها، ولن تتذكر تلك الليلة بكل ما فيها.. ولاحقًا سيحين وقت المواجهة ولكن ليس الآن!

     

بعد مرور شهر آخر..

الأول من يناير عام 2021..

مررت أناملها على جنينها وهي لا تُصدق أن الحمل استمر الآن لثماني اسابيع.. ألهذا الحد اختارها الله ليعوضها بأن تكون أمًا؟ أهذا عطفه عليها بأن تحملت وكابدت وثابرت طوال السنة الماضية لذلك من الله عليها أن تُصبح والدة؟ 

حاولت ألا تبكِ من فرط السعادة وهي تُجبر نفسها أن تُخفي كل آلامها وجروحها وكل الذكريات السيئة من أجل ألا تسوء نفسيتها لتحمي ذلك الجنين.. ليس له ذنب بشيء.. هو مسئوليتها وستُحاسب عليها.. عندما ترى طفلها بخير وقتها فقط ستترك العنان لمشاعرها! ولكن الآن ستتحمل من اجله، أو من أجلها.. 

انتظرت قدوم "مُعاذ" فهو الوحيد الذي يدخل ليطمئن عليه في تلك الزنزانة التي شابهت غرفة مشفى، أو الطبيب الذي يُعالجه وهناك رجلان يتوالان في وردييتان نوبة صباحية والأخرى مسائية حتى إذا استيقظ ستتركه يُصدق أنه مسجون بالفعل! 

قابلت "مُعاذ" بإبتسامة مُقتضبة ما إن رآته ثم حدثته:

- حمد الله على سلامتك..

بادلها الإبتسامة هو الآخر ليقول:

- الله يسلمك.. 

حدثته بالإمتنان من جديد ربما للمرة الآلف وقالت:

- بجد يا معاذ مش عارفة اقولك ايه.. أنا متشكرة اوي.. 

ادعى الإنزعاج ثم هتف بها:

- ما قولنا خلاص بقى.. 

أومأت له في تفهم لتسأله:

- اخبار الورق والحاجة إيه؟

اجابها بعفوية قائلًا:

- تمام.. مستني بس كده شوية إجراءات وممكن تسافري كمان شهر ولا حاجة.. هانت إن شاء الله والدنيا ابتدت تهدى شوية! 

تنهدت بعمق وهزت رأسها في شرود ليقول هو:

- أنا هادخل اشوفه يمكن يكون فاق.. والدكتور طمني انه لسه حالته مستقرة!

ردت مُعقبة وهي تفسح له الطريق:

- تمام..

توجه نحو الباب ليقول بصوتٍ مسموع:

- افتح يا ابني خلينا نشوف ورانا إيه!

فعل ذلك الرجل الذي يتقاضى راتبًا جيدًا فهو لديه الكثير من المعارف من الرجال هنا بالأسكندرية هو وصديقه الراحل "ماهر" والكثيرون ممن سيساعدوه فلقد فعل الكثير بعلاقاته الطيبة مع الناس وهم على أتم استعداد لرد الجميل!

جلس يترقبه لمدة ليست بالقصيرة ولم يدرك بالطبع أن "فيروز" تسترق السمع على مقربة من الباب جالسة على احدى الكراسي البسيطة..

كاد أن ينهض ليُغادر ولكنه وجده يفتح عينيه وهو يشعر برأسه تكاد أن تنفجر من الآلم وهو على سرير صغير بغرفة غريبة ليجد رجلًا يظن أنه يعرفه ليتحامل على الآلم الذي لا يتوقف ثم همس:

- فيروز.. فيروز فين؟

أخذ يخلع تلك الأجهزة الطبية عنه وتذكر الآن أن الذي يجلس أمامه هو "معاذ" ليراقبه بإمتعاض وصاح الآخر وقد بدأ يستعيد وعيه ولم يكترث للآلام التي تفتك برأسه:

- بقولك هي فين رد عليا!!

ترك السرير ليحاول الوقوف اكثر من مرة ليجد أن قدمه اليُمنى التي تلقى بها الرصاصتان لا تحمله مثل السابق ليحاول السير وكل ذلك الوقت يراقبه "معاذ" في سكوت ليصرخ مجددًا:

- أنا ايه اللي بيحصلي ليه مش قادر امشي، ده من الطلقتين اللي اخدتهم.. فهمني ايه اللي بيحصل.. وفيروز فين بقولك!

تنهد لينظر له بآسى ممزوجًا بالغضب ثم همس له:

- رجليك اتصابت وعمرها ما هتبقى زي الأول..

شعر بالصدمة وهو يستمع لتلك الكلمات ليطأطأ الآخر برأسه وتابع بحزن:

- البقية في حياتك.. فيروز ماتت وهي حامل! 

توجه نحوه بصعوبة وهو يرتمي عليه حيث باءت قدمه بالفشل في حمله ليصرخ به:

- يعني ايه ماتت وهي حامل؟ أنت!! أنت كداب! استحالة لأ! أنت اكيد كداب.. أنا مراتي راحت فين؟! انطق.. راحت فين؟

امسكه يشُد بتلابيبه بينما شعر "مُعاذ" وكأنما يتكأ عليه وهو يُشارف على السقوط لينهض ودفعه على السرير خلفه وصاح قائلًا:

- تعالى ادخلي هنا علشان نشوف المسجون ده! 

أخرج اصفادًا معدنية من جيبه الخلفي ودخل الرجل على الفور الذي ارتدى زيًا يدل على انه احدى الرجال الذين يعملون بالسجون وتوجه كلاهما نحوه وهما يُصفدان يده بالسرير المعدني البسيط ليصيح "شهاب" مرة ثانية:

- ايه الهبل ده، انتو مش عارفين انا ممكن اعمل فيكو ايه؟ ده انا ابهـ..

صاح "مُعاذ" به بغلظة:

- ولا كلمة!! انت مسجون بعد ما اتفضحت مع الستات ومراتك والمافيا!! 

نظر بقسوة إلي الرجل ليوجه حديثه له:

- روح شوفلي الدكتور بسرعة! 

رد الرجل مسرعًا قبل أن يتجه للخارج:

- حالًا يا باشا يكون جه! 

كادت أن تبكي وهي تستم لما يدور بالداخل ولكنها تمسكت ألا تفعل فهي لن تؤثر على طفلها بسبب مشاعر لرجل مثله واستمعت لصوت "معاذ" الذي هدر بحدة وهو يُلقي بوجهه ورقة مطوية اخرجها من جيبه:

- شهادة وفاة مراتك اهى.. صحيت.. قعدتلها كام ساعة.. وأول ما دخلت الحمام شافت اللي انت عملته في جسمها في المراية جالها انهيار وماتت بإجهاض! ابقى رجعها بقى هي واللي راح!

     

#يُتبع . . .

 الفصل القادم بتاريخ الثلاثاء 16 مارس 2021