NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الرابع عشر (الجزء الثاني)
الحقيقة هي؛
أن كل وحشٍ قابلته أو ستقابله أبدًا،
كان يومًا بشرًا، بروح في نعومة الحرير وخفته..
لكن، أحدهم سرق نعومتها وتركها على هذه الصورة..
لذلك، في المرة القادمة التي تلتقي فيها واحدًا منهم، تذكر هذا دائماً!!..
لا تخَف ممَن أمامك،
بل خِف، ممَن خلقه!!
-نيكيتا جيل-
•¤•¤•¤•
قبل يومين.. مصر - الفيوم
فُتِـحَ باب تلك الحظيرة العملاقة لهذه المزرعة النائية، ليتقدم "مصطفى الشاذلي" بخطواته المهيبة وسط ثلاثة من رجاله في حين انتظره البقية بالخارج .. دس كفيه داخل بنطاله ليقترب من هذا السياج الخشبي العلوي ويتفحص باشمئزاز الطابق السفلي من الحظيرة، تحديدًا هذا القابع في المنتصف، يستند بظهره على أحد الأعمدة.
- جِئت باكرًا اليوم!!
قالها ماتيو بإنجليزية ذو لكنه إيطالية دون أن يرفع حتى رأسه وكأنه قد تكهن بهوية زائره .. فرجاله لا يتوقفون عادةً بعد فتح الباب، بل ينزلون له على الفور لأداء إحدى المهمتين .. إما تعذيبه، أو تعذيبه!!
حك "مصطفى" جانب ذقنه المهذبة بابتسامه فاترة بينما يهبط الدرجات ببطيء، وإن دل ذلك على شيء، فسيدل على نفاذ مخزون صبره .. بالأساس هو لم يكن يعرف شيئًا عن حدود صبره إلا مع هذا الوغد الإيطالي!! .. تبا له .. اللعين اسبوعان كاملان يُقطِع من جسده وهو على قيد الحياة ليخبره بمكان أدهم، ولم يلقى منه سوى اجابة واحدة .. ابتسامته المستفزة .. حسنًا، هذا وحده كان سبب أكثر من كافي ليمزق وجهه، وينسى لمّ خطفه من الأساس!! .. لا ينكر إعجابه بإخلاصه لـ أدهم في البداية؛ لذلك السماء تشهد أنه حاول كثيرًا كسبه والتفاهم معه، بالنهاية هو الرجل الأول لـ ابنه، إلا أن الآخر أصرّ على الطريقة الصعبة، رفض التعاون، وتسبب في إهدار الوقت في هذا العبث .. لكن لا بأس، الآن سيأخذ إجابه، وإلا لن يلقي بالًا لأهميته عند أدهم .. لأن واللعنة يمكن أن يكون أدهم في خطر بسببه الآن!!
وقف أمامه، ليرفع ماتيو رأسه ولم يفته رسم تلك الابتسامة اللعينة رغم تمزق وجهه، ليس لشيء، إلا ليُعرّف ذلك العجوز مع مَن يتعامل .. سحقا له، حقا هل يظن أنه يستطيع إجباره على شيء، وبالأخص خيانة سيده؟؟ .. إذًا لا يعرف مَن هو "ماتيو ميدتشي"، ولا يعرف شيء عن الجحيم التي آتى منها ليسمي ما يفعله معه بالتعذيب ..اللعنة لا يتذكر أنه قد حظى بفترة راحة كهذه منذ زمن بعيد، لديه فضول حقا ليعرف كيف أنجب شخص رقيق القلب مثله، شيطان كـ أدهم؟!
تشدق مصطفى بعد دهر من تبادل نظرات المستعرة بالتحدي والاستهزاء:
- لا تقلق، لن تكون هناك زيارات أخرى
اتسعت ابتسامه ماتيو:
- لا تخبرني أنك قد يأست، وستطلق صراحي الآن؟!
جلس مصطفي على أطراف أقدامه ليواجه بابتسامه مشابهه:
- هذا في حال أخبرتني أنت بما لديك!!
- هل أخبرك أحد مخناثيك أني اصبحت مثلهم؟؟
اكفهرت ملامح مصطفى واختفى منها اي أثر للمزاح لينهض من جديد وصوته يهدر بغضب:
- كلمة واحدة لا أكثر .. هل ستخبرني أين أدهم أما لا؟؟
لم يجب .. فقط نظر له من موضعه واضعًا الابتسامة المستفزة ذاتها بأقصى درجات البلادة .. لذلك لم يدري مصطفى بنفسه إلا وهو يسحب سلاحه من خلف ظهره ويوجهه له بعين تتقد شرار بينما يقابله ماتيو بأخرى متهكمة ومتحدية وهو يدفع رأسه أقرب لفوة المسدس وعينيه معلقه بخاصة مصطفى، وشفتيها المرتسمة بسخرية تكاد تنطقها .. هو لن يستطيع قتله، فإذا كان يعرف شيئًا واحدًا عن أدهم، فهو أنه نقطة ضعف هذا العجوز، ولذلك إغضابه سيجلب عليه عواقب وخيمة هو لن يستطيع تحمل كُلفتها .. لهذا مرة ثانية هو لن يستطيع فعلها!!
ضغط مصطفى السلاح أكثر بجبهته ليترك علامة هناك بينما يده حرفيا ترتعش من الغضب والعجز .. لأول مرة يشعر بالعجز .. فكرة تعرض أدهم للإيذاء طالما كان الجاثوم القابع على صدره ليل نهار، تركه طفله ولم يعود له أبدًا .. كل ما أراده أن يجعل منه رجلٌا، ولم يعرف انه يلقيه بالجحيم، حتى تفاجئ بالصدفة كونه تورط مع تلك المنظمة، فقط ليضخم أعماله ويستخلص لنفسه أسم أكبر من أسمه .. ومنذ ذلك اليوم، وكل ليلة يجافيه النوم من خوفه أن يستيقظ باليوم التالي على فاجعة فقدانه لابنه الوحيد، أما نهارًا، فيفعل ما يفعله الآن، يلهث بكل الطرق لتفادي أن يلثى ذلك المصير .. حتى تردده في قتل هذا الوغد، ليس لقلقه من غضب أدهم، بل لأنه الكارت الأخير الذي بقيا بحوزته، في محاولة أخرى لتأجيل ذلك الكابوس!! .. لذلك بعد أن استهلك أعصابه تمامًا ليمنع نفسه من قتله، رفع عنه السلاح ليمسك بتلابيبه موقفا اياه ثم يهمس من بين أسنانه أمام وجهه:
- أتعرف، ربما تعتقد أنك تحاول حمايته الآن، لكن الحقيقة، أنت تساعد في قتله!!
بالكاد تحرك جفن ماتيو وقد تكسرت النظرة البارده التي كانت على محياه .. وهذا فقط ما جعل مصطفى يكمل وعينه أصبحت محتقنه باحمرار كوجهه تمامًا بينما يضغط على كل كلمة يقولها:
- لقد شارفت المدة على الانتهاء .. المدة التي سبق وحددوها له كي يظهر ويفسر موقفه أمامه المجلس .. وهل تعلم ماذا سيحدث إذا لم يظهر قبلها وقد أنهاه موضوع فريدة ذاك؟؟
بادرة قلق تسربت لملامح ماتيو وتقلصت المسافة بين حاجبيه، لا ينكر أنه أيضا كان يفكر بحل لهذا .. كل ما أخبره به أدهم، قبل أن يبحر بالمركب وحده .. أنه سيبتعد بفريدة فترة لحين يتبين هو الفاعل وراء حادثة المطار، ولكن كل شئ تغير بعد يومين من إقلاعه عندما هاتفه مجددًا، وألقى عليه خطته المجنونة بسرعة .. أخبره أنه سيعزل المركب فترة بمنطقة إقليمية خارج نطاق التغطية لذلك لا يقلق إذا لم يستلم منه مكالمات لفترة، وأعطاه إحداثيات تلك المنطقة احترازيًا، ثم شدد عليه بالكتمان وعدم مقاطعته إلا في حال تجاوزت المدة الشهر، وعندما ينتهي من تسوية الأمر مع فريدة سيعود من تلقاء نفسه .. وها هو قد انقضى شهر ولم يعود، هذا يُعد آخر يوم في الفترة الآمنة التي حددها .. وبالفعل كان يُعد نفسه لإخبار والده، مع نهاية ساعات النهار عسى أن يخلف ادهم توقعاته ويعود، لكن ما قاله هذا العجوز الآن أوقد القلق بصدره من أن يكون صبرهم قد نفذ بالفعل، وذلك يعني أنهم قد يصلون لأدهم أولًا، وذلك ليس جيد .. لهذا، حرك شفيها بالكلام خلاف تلك الابتسامة وقال بجمود:
- حسنًا..
لم يبد على مصطفى أنه استوعب ما قاله، لذلك أكمل ماتيو بنبرة تأمريه:
- جهز كل ما لديك من أسطول؛ فعلى ما يبدو أن أمامنا رحلة بحث قد تستغرق اكثر من يومين!!
- ماذا تقصد بـ "أسطول"؟؟ .. سنحتاج سفن؟؟
سأل مصطفى باستغراب، لتتصلب ملامح ماتيو أكثر، ولم يفعل شئ اكثر من انه استدار قيود يديه، ومجددًا تساءل بعقله عن حقيقة النسب بينه وبين أدهم الدموي .. تبا، من أي عصرٍ هذا العجوز؟!
❈-❈-❈
توقف ليلتقط انفاس حماسه اللاهثة، ولا يصدق حتى الآن انها تركته يمسك بيدها ويقودها حتى الطابق السفلي من القارب .. تحديدًا أمام غرفة الطوارئ.
نظر جانبًا لها، كانت تحتفظ بمسافة صغيرة مبتعدة عنه وحدقتيها مزيج بين الترقب والتوتر .. حسنًا لا ينكر أنه يشاركها هذا المزيج، وربما أكثر قليلًا .. لنقُل كثيرًا؛ فهو حتى الآن لا يستطيع التنبؤ برد فعلها .. لم يطيل الأمر، وشرع يفتح باب الغرفة وينيرها سابقًا فريدة إلى الداخل كي تطمئن.
تبعته بخطى حثيثة وبداخلها تموج العديد من التصورات التي صدقًا كان بعضها شديد مظلم للغاية .. تخشى؟! .. لا بل ترتجف!! .. هذا ما تمثله لها كلمه مفاجأة المقترنة بـ أدهم .. ارتبطت معها بالخوف وتوقع الاساءة ووقوع الأسوأ!!
حقا ماذا يمكن أن ينتج عقل تعرض لمثل هذه الصدمات؟!
هكذا سخرت من نفسها، قبل أن تتجشم وتقترب منه أكثر لتراه يزيل مفرش الأرضية الصغير الذي كان يتوسط الغرفة ويجذب ذراع خفي بصعوبة يمكن تفرقته عن خشب الأرضية، لينفتح بعد ذلك باب مربع الشكل .. أسقط بوابته الخشبية الثقيلة لتصطدم بالأرض مصدره اهتزازة قوية أرجفت فريدة، فتراجعت للوراء بحذرٍ بالغ .. ليجلس أدهم على عقبيه، ويلقي عليها نظرة سريعة بحاجب مرفوع، قبل أن يعطيها ظهره غائصًا بقدميه داخل البوابة، ليبدأ في النزول وقد اتضح أن هناك سلم خشبي يؤدي إلى غرفة تحت غرفة الطوارئ!!
تلك اللحظة تدفق بذهنها العديد من المشاهد الأخرى كهذه، مشهد فتح فيه بابًا كهذا، ولكن ليس بشكل يدوي، بل بشكل أوتوماتيكي .. وهناك غرفة أخرى، غرفة أخرى بها مسند سلم خشبي دوار .. كل هذا تداخل بعقلها ليعبئ قلبها بالرهبة بينما ترى تلك الغرفة التي تخبئ تحت الطابق السفلي .. اللعنة، لقد اعتقدت أن هذه المركب عملاقة عندما ظنت أنها تتكون من أربعة طوابق، أما الآن، فهناك ما يشبه السرداب أسفل الطابق الارضي .. صدقًا ماذا يخبئ أيضا بهذه المُدرّعة البحرية التي يسميها بقارب؟! ماذا يفعل بسرداب سري تحت المركب واللعنة!!
هذا كل ما دار داخل عقلها وهي تشرئب بعنقها علّها تنجح في استراق النظر للمفاجأة اللعينة التي يخبئها لها .. لا ثقة تمامًا، لا ثقة، ومن أين قد تجلبها بالأساس؟! .. تنهدت بتوتر ثقيل بعد أن فشلت في رؤية شئ وكل ما قابلها بالأسفل سلم خشب يميل بزاوية ويصل بأرضية خشبية أخرى وضوء أبيض باهت قد تسلل لها ليشعرها ببعض الراحة، حتى فزعت حينما برز لها رأس أدهم على حين غرة من الأسفل وهو يناديها بجدية:
- هلا تكرمتي ونزلتِ؟؟
رفرفت بأهدابها وقد أفزعها حقا، ليقلب هو عينيه بملل ويقف مباشرة اسفل الباب العلوي يضع ذراعيه بخاصرته ثم اضاف بسخرية:
- هيا تقدمي، لن يأكل أحدهم منكِ قطعة!!
ضيقت عينيها بغيظ لتزم شفتيها بوعيد، قبل أن تتشجع وتنزل ببطيء شديد استطاعت أن تسمع من خلاله نبضات قلبها التي كانت تعيق تنفسها، رغم أنها تستشعر ممرات هواء باردة كلما هبطت درجة سلم .. وقبل ان تستقر قدمها على الأرض كانت عينيها تدور بالمكان، وتبا لما رأته!!
تاهت .. حقا تاهت وهي ترى تلك الرفوف التي تمتد على مساحة طويلة قد تصل لاتساع المركب ومقسمة لثلاث ممرات ضيقة، تمتلئ برفوف متتابعة من السقف وحتى الارضية بـ .. تبا ما هذا؟! .. انها مئات الاصناف العديدة من الاطعمة المحفوظة، تكفي لإطعام سَرّية جيش لأشهر!! .. ليس فقط أطعمة، بل هناك ملابس، ألحفه صوفية، سترات نجاة وحتى الزوارق المطاطية كانت هناك!! .. إضافة إلى جانب مخصص للأسلحة وبعض المعدات التي صدقًا لا تريد أن تعرف فيما تستخدم .. لقد بدأ حدسها يتأكد بأن هذه المركب لا تستخدم في الابحار الخاص فقط!!
اللعنة .. اللعنة .. اللعنة!!
هذا فقط ما ظلت تردده بعقلها في حين كانت ملامحها هادئة جدا وهي تدور بالغرفة، تمرر أطراف أصابعها سريعا على الرفوف دون أن تلمس شئ .. بدت له مستغرقة في أفكارها تمامًا، حتى تصاعد بداخله لحن القلق وبدأ حقا يرتاب في ردة فعلها بعد هذا الهدوء المريب .. تبًا، يعلم بأنه قد أخطأ بكذبه في أمرٍ كهذا ولكن مبرره كان أقوى .. هو ليس نادم .. كلا، هو نادم الآن .. تبًا لها حقا، ألا تعرف أن هدؤها أكثر ما يتلف أعصابه؟! .. لذلك قطع هذا الهدوء المريب دون استباق:
- صدقيني فريدة اليوم فقط قد تذكرت أمر هذه الغرف .. كما ترين أنها سرية و .. وعندما دخلتها صباحًا لأفتش لكِ عن أية أدوية تذكرت أمرها .. صدقيني!!
أرجوكِ صدقيني!!
تمتم بتلك الأمنية البائسة داخله وهو يدعك رقبته بطريقة صبيانية تلازمه حينما يصيبه الاحباط أو القلق .. وللحقيقة هو نادرا ما يعاني هذان الشعوران .. إلا منذ أن عاد، أصبح لا يشعر إلا بهما!! .. حبس بداخله نفس بينما يراقب جسدها الذي توقف عن السير بممرات الغرفة الضيقة لتلتفت له نصف التفاته وحدقته بنظرة .. تبا، نظرة من دهائها لم يصدق أن فريدة هي صاحبتها!! .. ومن ثم أومأت له ببطيء وكأنها تتفهمه، بينما تكمل جلستها الاستكشافية في الغرفة!!
تبا له!!
تبا له، ماذا تقصد؟!
تبا له مرة ثالثة، هذا يعني بالتأكيد أنها لم تنطلي عليها خدعته!!
لم يقترب منها، بل ترك لها مساحتها في فعل ما تريد .. الحقيقة انه لا يرغب في احداث أي تلامس معها، فما يستشعره أنه هدوء ما قبل العاصفة، وما يفعله الآن ليس إلا محاولة بائسة لتأجيل هذه العاصفة .. حتى تصاعد نبضه بشكل معاكس للقلق حينما تسمرت هي أمام حاوية رفوف جديد معبئة بأنواع عديدة من الحلوى المحفوظة كـالبسكويت والكيك، والشوكولاتة .. شوكولاتة!! .. لا يبالغ إن أقسم أن عيونها أصدرت بريق لامع على شكل قلوب متطايرة .. مجددًا تبا له!!
قبل أن يترجم عقلها ماهية ما تراه، كانت اصابع يداها تخطف وتعبئ بسرعة كل نوع شوكولاتة أمامها .. أخذت الكثير حتى امتلأت يدها وراحت تتساقط منها قطع الشوكولاتة أرضا .. فتلقائيًا وجدت نفسها تفترش الارض اسفل تلك الرفوف المحببة .. حسنا، هذا افضل حل، فكل ما كان يشغل بالها منذ قليل كيف ستنقل كل هذا الكم لغرفتها، والآن لا حاجة لهذا، فهي قررت أن تكون هذه غرفتها من الآن فصاعدًا .. هكذا لن تحتاج لترى وجه اللعين، اللعنة عليه، يظن نفسه أذكى منها، ستريه ثمن التقشف الذي جعلها تعانيه الأيام السابقة!!
وغد سادي، جعلها تشعر بالرعب من نفسها بسبب الافكار الانتقامية التي تطوف بخُلدها .. حسنا، هي لن تقتله بهذه الأسلحة وتلقي جثته بالماء، ولن تسُمّه بجرعة زائدة من أحد الأدوية .. وبالتأكيد، لن تُغرق جسده بالكيروسين وتلحقه بالجحيم .. لا، هذا الشخص وغد حقا، لن يقبل بأن يموت وحده، سيحرق المركب ويصحبها معه إلى هناك .. فقط هي ذو القلب الرحيم هنا!! .. ستكتفي بإقصائه خارج الغرفة، وليأكل هو السمك حتى تنبت له زعانف!! .. يبدو أن هذا الدواء الذي اعطاها اياه يجعلها تهذي كالبلهاء، أو ربما الصدمة .. فهي معذورة، بعد أن كانت تشتهي (خيارة) طازجة، تصعق بهذا الكم من الشوكولاتة!!
كمَن وجد مغارة كنز، غرقت تمامًا في بحر من اللذة، كما غرق هو .. جف ريقه بينما يشاهدها على هذه الحالة الكفيلة بقتله إثر جرعة مضاعفة من النشوة .. اللعينة كانت تأكل الشوكولاتة بشراهة، وليس لديها فكرة عما تفعله به .. كلتا شفتيها قد تلطختا بما يفيض من فمها الصغير، لتخرج لسانها وتلعقها بطريقة تثير الراهب، لتترك بالنهاية شفتيها تشع تنبض بالحُمرة، رطبة، وتلمع بخليط هالك من داخل فمها .. فمها الذي تنفخه كل حين بضيق لتبعد عنه خصلاتها التي اصبحت تلتصق بجوانب شفتيها من فرط هوجائها في التهام ما بيدها، لتطلق بالأخير زفير سأم، وقد أغاظتها تعطيل تلك الخصلات لها عن أداء مهامها .. فوضعت قطعت الشوكولاتة الباقية في يدها بين أسنانها لتحفظها هناك -والتي بالمناسبة لم تكن صغيرة أبدًا- لحين تتفرغ يديها لجمع شعرها المتناثر بفوضى في جديلة عشوائية، كيلا تختزل الوقت كله لاستمتاع بما لديها .. ومن ثم عادت لاستكمال مهمتها المقدسة!
احتدم وجه حرفيا بحمرة خانقه، وكل خلية بجسده تنصهر مع كل تأوه أو أنين لذة يفلت دون قصد .. واللعنة كان يعرف أنها تموء بهذه الطريقة القاتلة دون قصد، لذلك يعذرها؛ لأنه -ودون قصد- وجد جسده يغادره ويتحرك تجاهها، وقد عتمت على رؤيته سحابة الرغبة المميتة!
سحب من بين يديها الشوكولاتة التي كانت تتشبث بها كرضيع بثدي أمه حتى أنها نهضت مع جذبها، وقبل أن تُبدي أي اعتراض، كان يحتبس وجهها بين يديه ليغتصب شفتيها الملطخة بالشوكولاتة ويمتصها بين شفتيه كالظمآن، ليختبر بنفسه تأثير كل ما فعلته بالدقائق السابقة، يختبر وهج شفتيها من كثرة لعقها، ويختبر أيضا ضمها لهاتين الكرزتين معا .. كـميت عادت له أنفاسه من جديد .. فقد السيطرة على نفسه كالمدمن في لحظة توق لعينة، لذلك لم يكن رقيقًا أبدا، كان تقريبًا يعتصر وجهها ويلتهم شفتيها بجوع مريع كان يجتاحه، جوع سنوات .. سنوات عانى بها عقله من التذكر والتمني، وضحلت بها روحه لهذا اللقاء .. تأوهت داخل فمه، وتبا لذلك، خِدر لذيذ ابتلع دماغه وهو يشعر بروحه تنصهر مع روحها، فقط عندما تحركت شفتيها على استحياء تبادله .. الجنة .. مذاق شفتيها المطعمة بنكهة الشوكولاتة كـرحيق الجنة .. لم تكن تشبه ما ترسخ بعقله، ولسنوات مظلمة كان يصبر نفسه به، بل بلغت به لذّتُها عنان السماء، حيث لم تطأ قدماه من قبل!
أنفاسه انحسرت أكثر وتدَّاعى جسده بحرارة اللهفة، لتهدر بأوردته النشوة التي تكاد تفجر بنطاله الآن، تزامن هذا مع سماعه لصراخها القريب وأصابعها الدافئة تشد شيئًا ما بيده:
- لا تحلم بأن أعطيك قطعة واحدة!!
شهقة بالكاد تُميّز صدرت منه عندما استرجع بصيرته واسترد روحه، لتستقر نظراته بعدها على عينيها المندلعة بنيران الغضب .. كانت تقف قريبًا جدًا منه لدرجة استشعر بها دفئ انفاسها، الغاضبة أيضا .. تبا ما اللعنة التي تحدث؟! .. همس بها بسره وعلى الفور جاءته الإجابة من فريدة التي قد طفح بها الكيل من أفعاله الصبيانية:
- لا تقف كالأبله هكذا وأعطيني اياها!!
هذه المرة كانت جذبتها قوية لتنتزع منه قالب الشوكولاتة التي أخذها منها عنوة .. قاتل اللذات!! .. وهذا فقط كان كافيًا ليدرك أنه كان يحتلم بها كل هذا الوقت، مجددًا!! .. بالفعل كان كل شئ حقيقي، يعني هو أقبل عليها، ولكن كل جسده تسمر عند اللحظة التي سحب منها الشوكولاتة، أما الباقي فلم يغادر حيز خياله!! .. اللعنة عليها .. أجل اللعنة عليها هي، هي السبب بهذه الحالة البائسة التي وصل لها، هي ومواءها اللعينة، ألا تستطيع أن تغلق فمها وتأكل مثل البشر دون صوت .. قطة غبية!! .. كان غاضب، لا بل يستشيط غضب لفرط إثارته، والغبية تظنه يضع عينه بقطعة شوكولاتة .. تبا، هل قالت الآن أنه يحلم بقطعة شوكولاتة؟!
اللعنة عليكِ مجددًا أيتها الغبية جاحدة القلب، كنتُ أحلم بكِ!!
أسرَّ ذلك بنفسه ليتمتم من بين التحام أسنانه بسخرية ممتزجة بالمكر بينما يمسح وجهه ليخفف من وهجه:
- لا حاجة لي بها، فقد تذوقت ما هو أطعم منها!!
قالها عن قصد، واجتر ريقه، ليسترجع مذاق شفتيها بفمه .. شفتيها التي هي أطعم ما في الوجود .. وتلقائيًا، تدرجت عينه لشفتيها التي تمضغ الشوكولاتة وتلكوها بجوع متغاضية النظر عنه، تمامًا كما كان يفعل بها بمخيلته .. وهنا فقط انتبه لانتفاخ اسفله ليستدير على الفور داعيًا بسره ألا تكون قد انتبهت لذلك؛ فهو حقا لا يعرف كم استغرق في خيالاته السخيفة .. حسنًا لم تكن سخيفة، كانت أُمنية حياته .. وهذا فقط كان كفيل بتوليد غِصة متحجرة جرحت حَلّقُه، تزامنًا مع المرارة التي تصاعدت من قلبه .. ابتلع حسرته على الوضع الذي آل إليه .. صار يحلم بها وهي أمامه!!، أي شقاءٍ هذا!!
أولاها ظهره ولم يعد يحتمل الوجود معها في مكانٍ واحد .. وبينما كان يصعد السلم سمع صوتها يأتيه من الخلف وهي تتقيأ بتوعك، فوجد قدماه تسبقه لها .. استندت فريدة بذراعها على إحدى الجدران، ويدها الأخرى كانت تمسك بمعدتها لتجتر كل ما تناولته منذ قليل، فبالفعل هي لما تتناول منذ الصباح سوى الشوكولاتة الآن .. كل ما دار بذهنها أن اللعين قد حسدها، تبا له، المخزن بالفعل ملئ بالطعام ولم يجد ما سوى ما بيدها ليضع عينه به .. حسود لعين، سيقتلها بعينه السوداء!!
ما بين أفكارها وتوعكها، شعرت بقربه منها، ويده التي بادرت بحجب جديلتها بعيدًا عن وجهها كيلا تتسخ، ويده الأخرى تحركت لتسند خصرها بعد أن اصابها الهزال .. للحظات لم تجد القدرة على إبعاده، فحقا كانت بالكاد تثبت قدميها على الأرض، حتى انتهت وشعرت أن معدتها الآن أصبحت فارغة وقد توقف الألم بها، لتشهق بقوة كي تسترد شيئًا من عافيتها، وما إن هدأت أنفاسها حتى انتبهت له .. وجه كان على مقربة خطيرة منها، انفاسها اللاهثة رغمًا عنها كانت تضرب جانب عنقه بينما هو .. هو بدى مستغرقًا تمامًا في شيئًا آخر، يده مازالت تمسك بجديلتها غير المحكمة ويمررها بين أصابعه بشرود غريب، وقد فقد جزءًا منه داخلها!!
❈-❈-❈
قبضته أُحكمت على جديلتها المفككة ليرفع رأسها عن حز الخنجر وهو يهسهس بتلك النبرة المميتة:
- يبدو ان قطتي قد نسيت قواعد القلعة وتحتاج لإنعاش ذاكرتها .. لا حديث بدون إذن ايتها العاهرة!!
ومع انتهاء جملته كان يترك رأسها لتنسدل عائدة إلى الطاولة رويدًا رويدًا بالتزامن مع صوت حز الخنجر ممزقًا وقاطعًا لحزمة شعرها وفاصلا جديلتها عن رأسها نهائيا .. صرخت فريدة بقهر من اعماق روحها وبعض الخصلات يخف شدها ما ان تنفصل عن جذورها والاخرى في طريقها إلى ذلك ، وقد استشعرت جنون ما يفعل ، ولكن لم يحتاج الأمر اكثر من ثانية وكانت جديلتها المبتورة ملقاه أرضًا على مرئ من عينها!!
- اللون الاشقر لا يليق بك بيبي!!
قالها بنبرة يملأها الغل والكراهية الطلقة...
❈-❈-❈
اسودت ملامحه تمامًا لتشابهه آنذاك، إلا أن غضبه هذه المرة كان موجه لنفسه، خاصة وتلك الذكرى لم تبرح عقله مطلقًا، ولم يسمح هو بذلك، ربما لأنه بالأساس لم يسمح لها بأن تغب عن عينه .. لم تمر عليه ليلة لم يغفو وهو يحتفظ بها قرب أنفه .. رائحتها كانت المسكن والداء في آنٍ واحد، ولأكثر من سنتان رضى على ان يعيش على أثرها في كل شئ تركته خلفها، لم يترك شئ يحمل عِبقها إلا واحتفظ به قربه
فـباليوم الذي حُكم عليه فيه بالنفي، صدقًا لم يهتم لجمع اشياءه اكثر من اهتمامه بنقل كامل أغراضها المتبقية بقصره! .. حرص على نقلها بعناية شديدة، وخصص لها هناك غرفة كانت بمثابة غرفة الراحة والعذاب له .. عندها، أدرك عن حق مآله بعدها، لقد أصبح نسخه من "جاستن"!! .. وربما أسوأ!! .. فالآخر توقف هوسه عند تسجيل صوتي أما هو فكان يجد صعوبة في كبح هذا الهوس الذي أمتد حتى لأثار دمائها!! .. تلك السنوات كانت اصعب ما مر عليه بحياته، حتى لم يجد بُد من اللجوء للعلاج النفسي، كي يسيطر على هذا الهوس المتملك الذي لا يعرف أي حدود .. وإن لم يفعل هذا، كان مؤكد أنه سيضع يده عليها مجددًا، لا محاله .. وتلك المرة، الله وحده يعلم، إلى أي مدى كان سيؤذيها!!
ولكن رغم العلاج الذي جعل سيطرته افضل على هذه النزعة للتملك، إلا أنه لم يستطع أن يتخلص ابدًا من إدمانه لتلك الغرفة .. وربما هو لم يرد هذا .. لكن حقا ماذا كان يفعل، فالليلة التي لا يقضيها في تلك الغرفة يجافيه بها النوم، وتهتاج روحه وتتمرد عليه، ويصبح في اشد حالات جنونه مما يبعده مقدار شعره عن قتل نفسه .. وحدها رائحتها كانت تهدئه، تُهدِيه النوم وهو على موعد بلقائها، لم يكن يهم إذا كانت ستعذبه بذلك اللقاء لكن كان يكفيه أن يراها، ولم يكن يحدث هذا إلا بصحبه تلك الجديلة الذهبية التي رغم مرور السنوات لم تفقد عِبقها وكأنها معتقده به، لذلك كانت الأقرب لقلبه، كانت ونيسه، ولا ينكره أنه للحظات كان ينتابه الامتنان لقصها، فلولا حدوث هذا حقًا، لا يعرف أي حالٍ أسوأ كان سيؤول إليه!!
لذلك، مجددًا، منذ تلك الليلة وهو لم يسمح لجديلتها المبتورة بأن تفارقه، فرغم المشاعر السوداء التي كانت تغيم على عقله حينها، إلا أن قلبه المتملك أبىَّ أن يفرط في شئ يخصها، في جزءًا منها، جزءًا منه إن صدق التعبير؛ لأنها، وكل ما بها تخصه .. نعم، تبا لهوسه اللعين بها، ولكن هذا ما عليه الأمر .. منذ تلك الليلة التي عزم على قتلها في قلبه، وقد وجد أن ذلك لا يزيده سوى ولعًا بها، وبكل أثر تتركه .. حبها داخله كان أشبه بمرض العِضال الخبيث، ما إن تستأصله من جزء، حتى يفاجئك باستحواذه على أجزاء أخرى في المقابل، وهذا فقط كان يشعل الحريق برأسه، لينتهي به الأمر وهو يحرقها معه!!
وماذا كانت النهاية بالأخير، ها هما الآن محترقان، قد يبدو أحدهم السبب في اشعال الحريق، لكن هذا لا يغير من حقيقة أن كلاهما قد طاله الضرر!!
تنهد بتعب يثقل قلبه وبصعوبة أخرج عقله من أسر ذاكرته اللعينة، وقد شعر بحرارة أنفاسها تدغدغ روحه .. بالكاد رفع عينه عن جديلته ليتوه في قسمات وجهها المحببة، عينيها مسدله بتعب، ووجهها يتوهج بالاحمرار .. تدريجيا راحت يده تتمشى بسلاسة على وجهها، تساوي غِرتها، وتنزل على وجنتيها .. حتى استقرت اصابعه على شفتيها، تتلمسها، وتمسح عنها ما علق بها .. عندها، شرارة حسية ضربت الهواء بينهما، وشعر بها كلا منهما في اللحظة التي تقابلت عيناهما!!
نسى اصبعه، بل نسى نفسه مع ملمس طراوة شفتيها، وأصبح يتساءل إذا كانت بهذا الاكتناز من قبل أم زادت امتلاءً من بعده .. وتلقائيًا لم يستطع أن يقاوم من جديد ما اعتمل بداخله، خاصة مع تيقنه من أن هذه المرة حقيقة، وليست من صُنع خياله! .. راقب انسحاب عينيها عنه لتقطع تواصلهما، ولولا تهدج أنفاسها لكن اعتقد أنها لا تريد هذا القريب، وذلك فقط ما شجعه على الخطوة القادمة .. وهي تذوق شفتيها، تبا لكل شئ، سيموت إذا توقف .. وهو حقا تعب من العيش ميتًا!! .. يحبها، يذوب بأنفاسها، اللعنة كيف لم ترى هذا؟! .. لم يعشق بحياته شخصًا مثلها، من بَعدِها، حرّم على نفسه أي امرأة، أي متعة، حرّم على نفسه الحياة .. لما يُقارب الثلاث سنوات لم يكن يحلم إلا بهذا اللقاء .. أخطأ، بلى، يعترف، ودفع ثمن خطأه، ومازال يدفعه، ومستعد لبذل روحه فقط لترضى! .. ألا يكفي؟؟ .. أليس لديها أي رحمة عليها اللعنة؟!
عليها لعنة حُـبه!!
مجددًا
- ابتعد عني سأختنق .. سأتقيأ مرة أخرى من انفاسك الكريهة!
فقط هكذا، قتلت كل أحلامه وقتلته هو شخصيًا، بينما تدفعه بقوة ليبتعد عن طريقها، ومن ثم اطلقت العنان لقدميها وكأنها تهرب من موتها!! .. راقب طيف رحيلها بدرجة عليها من الذهول الممتزجة بجُذوة غضب تلتهم عينه .. نهج صدره وتعالت أنفاسه، وكأن شيئا بالداخل سينفجر .. تبا هو الذي سينفجر!! .. ستتقيأ من أنفاسه؟! .. انفاسه اصبحت تثير غثيانها .. أجل، هذا أشد ما اغضبه في الأمر وليس نشوته .. فو اللعنة نشوته ماتت في اللحظة التي دفعته عنها بتقزز هكذا، وكأنه جرثوم!! .. هذه المرة فقد السيطرة على غضبه وطاح بكل ما طالته يده من رفوف وطعام وكل شئ، ليجد نفسه في النهاية يقف وسط كومة من الفوضى، ولم يهدأ غضبه بعد .. ليجد نفسه يتحرك بما تبقى داخله بخطوات كقرع الطبول صوبها!
❈-❈-❈
بلغت فريدة نهاية السلم المؤدي للسطح العلوي من القارب لتلهث بعمق آخذه أنفاسها على شهقات متتالية .. أعصابها متفككة، ترتجف بالكامل، لدرجة أنها حينما أمسكت موضع قلبها الهلِع لاحظت ارتعاش أصابعها اللاإرادي هناك، كأصابع عازف بيانو .. حينها، اعتصرت صدرها بقوة، وكأنها تكاد تقتلعه، تصرّ أسنانها بضراوة، وعينها الذهبية غيمت عليها سحابة حقد .. ثواني مضت، وهي تشد أعصابها وتعتصر صلابتها كي تستعيد قوتها التي اختلت بالأسفل، حتى انتشلها من كل هذا، السماء التي استحالت من حولها للون الدامي في أوج شفقها.
لم تنتبه لكل هذا الوقت الذي قضته معه بالأسفل حتى شارف الليل على الحلول، وكالمجذوب انساقت قدميها نحو هذا المشهد الذي طغى على مشاعرها وبدد ذروة انفعالها وأرخى اعصابها المدمرة .. وبتلقائية، اضجعت الأرض محل وقوفها لتغرق في غمرة السحاب الدامي، وتلفها دفئ أشعته الحانية، بينما تلتقط أذنها أصوات ارتطام الأمواج الهادئة بالقارب، لتجد نفسها -ودون أن تدري- تعلو شفتيها ابتسامة صافية!!
- لم يكن هناك داعي لما فعلتيه، ببساطة كنتِ أخبريني أنكِ ترغبين بممارسة التأمل وحدك!!
فصلها من شرنقة السَكِينة التي كانت تحلق بها صوته الكريه .. بالتأكيد، ما إن يشتم لحظة هدوء تستمتع بها إلا وأفسدها .. إذا لم يفعل هذا، كانت لتستغرب، حقود!! .. قاومت غضبها الذي بدأ يتصاعد داخلها من جديد، ورغمًا عنها فتحت عينها، لتجده يُبحلق في وجهها بطالته الوسيمة الهالكة وهناك خصله صغيرة تتدلى على يسار جبينه وهو ينحني برأسه عليها، بينما يرتدي تيشيرت دون أكمام وإحدى السراويل القصيرة حتى الركبة، ويبدو وكأنه قد انتهى للتو من استحمامه.
لحظة، لماذا يقف فوق رأسها بهذا الشكل المستفز المهدد، وما هذه الابتسامة اللعينة التي يبتسمها، ماذا يقصد بها؟! .. وقبل أن تأخذ أي رد فعل، كان بثانية يطفئ جذوة انفعالها ويفترش الأرض جوارها بينما يتوسد ذراعيه أسفل رأسه متمتمًا دون النظر لها:
- لديكِ كل الحق .. إنه فاتن!!
ضيقت عينها محاولة فهم إلامَ يرمي، فتلك الابتسامة لا تريحها بتاتًا، لذلك تشدقت بنزق:
- ما الهراء الذي تتحدث عنه؟!
تجاهل ضيقها عن قصد، فبالكاد استطاع تهدئة نفسه بعد أن أضرمت النار بجسده ومن ثم أطفأتها بإهانة!! .. حتى انتهى به الحال أكثر من ثلث ساعة تحت الماء البارد، يجب أن يقول ان هذا لم يكن مفيد كثيرًا، لكن ليس بيده الكثير ليفعله، فهو لا يريد أن يحطم رأسها ويقنعها بطريقته القديمة أنه يحبها، وفي نفس الوقت لا يريد أن يتلمس نفسه كالمراهقين .. سحقا لكِ فريدة، ستجعل أدهم الشاذلي يضاجع نفسه بهذا العمر!! .. ابتسم بسخرية داخله على الأفكار التي كانت تدور بعقله قبل أن يصعد ويرها بهذا الوضع .. شيئًا برؤيتها هكذا أوقد الحنين بصدره لأول ليلة سمحت له فيها بالعبور إلى قلبها، ليلة زفافهم، لكن الفارق الوحيد هنا، أنها كانت تفترش حديقة منزله، وليس البحر!! .. تنفس بشجن وهو يعدد مواقفه الأخيرة معها التي جميعها اصبحت تعيد البدايات بينهما، هل يعقل أن تكون هذه إشارة؟! .. إشارة لفرصة أخرى واحدة، إذا كانت هكذا، فسيقضي ما تبقى من عمره يشكر خالقه عليها .. عاد لمعشوقته التي شعر بنظراتها له وكأنها تتصدد الفرصة لتفترسه، أي فرصة اخرى تتحدث عنها بربك؟! .. هيا ادهم، تجاهل هذا، مزاجها ناري هل نسيت؟؟ .. وهذا ما فعله، عندما أماء بذقنه بعيدًا تجاه السماء، و منحها نظرة جانبية شديدة الخطورة من عينه:
- هناك .. كيف لا تريه؟؟
مجددًا .. أنفاسه القريبة مجددًا!! .. مرة واحدة صدفة، مرتان أوغرت صدرها بالخوف .. علام ينوي هذا الخبيث اليوم؟! .. ابتلعت ريقها مشيحه بوجهها بعيدًا عن مداره اللعين، واربد وجهها بالحُمرة من جديد بينما ترى حيث أشار .. لتتبين أن الغسق قد حل معلنًا عن أول ساعات الليل، لتُضاء ظُلمة السماء بأنوارها الطبيعية، وكان النجم القطبي كعادته أشدهم وهجًا:
- ومَن أخبرك أني اجلس لأتأمله؟!
- إذا فيما تتأملين؟؟
تساءل مجددًا بنظرته الجانبية، لتجيبه هي بسلاسة بينما تشير بيدها لموضع بالسماء:
- في تلك النجوم، هناك!!
تتبعت عينه موضع اشارتها ليستعجب وهو يرى أنها تقصد سِرب نجوم صغيرة بالكاد تُميّز إلى جانب النجم القطبي:
- تقصدين هذه المجموعة الصغيرة؟!
- أجل
اعطته اجابه فورية لتزداد حيرته ووجد الفضول يسوقه:
- وما الذي أعجبكِ بها؟!
تنهدت برحابة صدر وقد عاد لها جزء من سكينتها بينما تلمع عينها لبيرق هذه النجوم بالذات:
- هدوءها .. جذبني هدوئها، ليست صاخبه كنجمك وتحاول جذب الانتباه .. فقط متضامنة معًا، كمجموعة من اليراعات الصغيرة (حشرة مضيئة) تحمي بعضها، وتعيش بسلام!!
كان في حالة متضاربة من المشاعر، يشعر بالاستغراب من حديثها ويحاول أن يصل للمغزى من ورائه، وفي الوقت ذاته تنتابه الغِبطة كونها تتبادل معه الحديث الآن بأريحية .. لا ينكر، تلك اللحظات القصيرة التي يسرقها من بين نوبات غضبها الممتدة كانت كالسحر بالنسبة له .. وجدها تكمل بينما تشير بإصبعها من جديد:
- انظر، إذا أمعنت النظر هناك، ستجد أنهم يشكلون حرفY مائل بالعرض!!
شرد للحظة في حديثها الذي إلى حدٍ كبير كان يشبه أحاديثهم السابقة!! وهذا ما جعله يريد التأكد من شئ يضاجع رأسه من وقت لآخر .. فسألها بشيء من ادعاء الاهتمام:
- وماذا يعني هذا؟؟
قطبت جبينها بدهشة من سؤاله لجزء من الثانية، قبل أن تجيبه بنبرة معبئة بالسخرية:
- وما ادراني انا بحق السماء؟! .. هل تعرف انت؟
ادار وجهه عنها ونفى بابتسامه شجية مليئة بالعاطفة ثم أمعن النظر هناك من جديد وقد تحولت ابتسامته لأخرى ماكرة:
- تبدو لي من هنا كذيل سمكة!
على الفور جاءته اجابتها على شكل نظرة تفور من غضبها .. لذلك سألها مغيرًا مجرى الحديث قبل أن تقلب موجتها:
- برأيك كم يبلغ عددهم؟
رفعت إحدى حاجبيها فقد باغتها بسؤاله وعادت بعينها للنجوم في محاولة للتركيز:
- أممم، مئات ربما؟
رفع ذقنه للسماء قليلًا بتحدي:
- برأي أكثر، ألاف، ملايين؟
سألته هي وقد بدى انها قد اندمجت بينما عينيها مازالت أسيره كتلة النجوم الصغيرة:
- لمّ تقول هذا؟! .. تبدو مجموعة صغيرة؟
تحدث بطريقته الفلسفية المعتادة، والتي صِدقًا تستفزها؛ فهو يتحدث وكأنه مُلِمّ بعلوم هذا الكون:
- هذا ما يبدو لنا يا صغيرة من بعيد .. لا تعرفين، ما قد ترَيّ من قريب؟!
هنا فقط نزلت عينها من موضع النجوم لهذا الكائن بجوارها:
- وهذا لا ينطبق أيضًا على نجمك الباهر؟؟ .. ألم تقل هذا صباحًا "الاشياء لا تبدو على حقيقتها.."؟؟
أومأ لها بغموض ثم أكمل لها بيقين بالغ:
- كما الأشخاص .. ماعدا هذا النجم .. هو واحد، وهذا واضحا تمامًا، لا يختلف فيه اثنين!!
لم تستسيغ حديثه مطلقًا، لتحطم آماله دون تردد:
- لم يعجبني، شيئًا بداخلي لم يستهويه!!
قالت ما قالته بلهجتها الباردة الفارغة المجردة من المشاعر وكأنها تبلغه رسالة ضمنية، لقد أصابها الضجر من كثرة ذِكره!! .. وذلك جعله يمعن النظر قدر المستطاع بعينها المغلقة علّه يعثر على أي بقايا لفريدة خاصته .. إلا أنها زجرته بنفاذ صبر ومازالت على وضعها:
- للمرة الألف، لا تحدق بلعنتي!!
انهت جملتها ومن ثم لمعت عينها بعَبرة حقد وهي تنظر لذلك النجم شديد البذخ في توهجه .. لكم استفزها؟!، كان يشبه كثيرًا اللعين الجالس بجوارها، يتباهى دائمًا بطلّته، وما يملك من بريق يزيده شأنًا عمَن سواه .. حسنًا، هذا يتوائم مع طبيعة شخصيته التي تعتقد في انها ترقى عن الجميع، ولذلك مجددًا، شخصٍ مثله يتوق لكل ما هو ذو بريقٍ لامع .. لكن ما لا يعرفه، انها ما عادت تنجذب للأضواء، وما عاد يستهويها كل بريق .. منذ أن فقدت هي بريقها!!
صِدقًا ليس كل ما يلمع، لابد أن يكون مميز!!
وليس كل ما يلمع يناسبنا!!
ومرة واحدة وجدت نفسها تسأله دون استباق:
- حقا ما لعنتك معه؟!
رمقها بجانب عينه بطريقة تحذيرية تتناقض مع ابتسامته اللعوب:
- أصبحت تلعنين كثيرًا، لم اعهدك كذلك!!
- أتساءل لماذا يحدث هذا بمجرد رؤيتي لوجهك!!
قضم جزء من شفته ليحبس شعوريه المتناقضان اللذان يطفحان على وجه، ملامحه تصلبت من الغضب وشفتيه ترتعش على حافة الضحك .. ماذا تفعلين فريدة؟! .. هربت من هذا السؤال الذي تراقص بعينه لتدير وجهه مبرره دون أن تشعر بذلك:
- بالأساس لم أفهم حتى الآن ما المميز به؟؟ .. إلا إذا كنت تقصد ان ما يميزه هو كِبر حجمه ولمعانه، فهذا حقًا سيكون حكم سطحي!!
هنا تحدث بمعالم جدية ترتسم على وجهه:
- ومَن أخبرك أن ما يميزه بنظري هو شكله فقط؟!
- إذًا..؟؟
سألته بشرارة من الشغف تدفقت في أوردتها بينما تتفحص وجهه الجاد عن قرب .. ليتهرب هو هذه المرة منها صاعدًا إلى السماء:
- بالنسبة لكِ، فما جذبكِ له هو شغف أستاذك به!!
اكملت لشعورها بتهربه من شيئًا، وذلك فقط كان يجعل جسدها يتقد من الفضول .. ما الذي يخفيه ولا يريدها أن تعرفه:
- وانت!!
ارخى عينه بعدم اهتمام وادعى عدم الفَهم:
- ماذا؟؟
رغم انه لا ينظر لها إلا انه شعر بعينها، عينها التي تراقب كل تعبير يتشكل على وجهه، وانفاسها الجميلة تصله من هذه المسافة التي لم تكن بعيدة .. لا تقوليها فريدة، لا تسألي من فضلك!! .. تمتم برجاء داخلي حقيقي:
- ماذا جذبك؟؟
تبًا!!!
نعم هذا بالضبط ما زفر به من بين انفاسه بينما يخرج زفير معبئ بالمشاعر حتى اصبح فارغ منها، وعندها اخبرها بنبرة محايدة:
- والدتي .. كانت شغوفه به أيضًا!!
تجعد جبينها على الفور هامسه بنبرة لم تخفي تعجبها:
- والدتك كانت رومانسية؟!
- نعم!!
ثانية .. اثنان .. ثلاثة
اعتدلت من محلها جانبه، وبلحظة أصبحت تجلس أمامه مستندة إلى السياج المقابل له .. تجلس وتميل براسها جانبًا ترمقه بملامح مَن قبض على لِص متخفي .. لعن داخله ليغلق عينه لثانيه ثم فتحها ليجدها كما هي فسألها باستياء:
- ما هذا التعبير الآن؟؟
تحدثت على الفور وكأنها كانت في انتظار السؤال فقط لتجيب .. فهذا قد اعادها للجملة التي قالها صباحا "انا لم أعرف الحب":
- كيف لشخص حظى بأم رومانسية ألا يعرف الحب؟!
- انتِ حقا لا تريدين المعرفة!!
زفر بتعابير فارغة الصبر حقا، لكنها كان قد عقدت العزم على معرفة ما يخبئه، وفي الحقيقة، تلك اللحظة كانت تستغرب نفسها بشده:
- ولمّ؟؟
- ربما لأنني ظننت لا ترغبني في معرفة شيئا عني؟!
أخبرها وهو يعتدل من تسطحه بكسل مستندًا على مرفقيه ليقابلها بنصف جلسه بينما ساقيه مازال ممددة:
- هذا صحيح، ولكن لا يعني أن هذا التساؤل لم يطرح بعقلي منذ البارح ولكني فقط لم اكن في وضع يسمح بالخوض في هذا .. اما الآن، فانا بمزاج جيد، ربما لتأثير هذه الليلة الجميلة والنجوم الصغيرة، وربما...
قاطعها بابتسامه ساخرة ولكنها كانت الأروع:
- وربما تأثير الدواء؟؟
هذا كان سخيفًا منه ولا تعرف كيف جعلها تضحك من عمق روحها بينما تؤكد متمتمه:
- نعم، يجعلني غبية اثرثر مع شخصٍ مثلك، هيا لا تفسد الأمر وتحدث، فانا لدي هواية برؤية الصورة كاملة؟!
"أجل أعرف هذا جيدًا .. مرحبًا بكِ مجددًا دكتور فريدة!!"
❈-❈-❈
Fireflies
اليراعات المضيئة
A million little pieces
ملايين القطع الصغيرة
Feeds the dying light
تغذي الضوء الخافت
And breathes me back to life
وتساعدني على العودة إلى الحياة
In your eyes
في عينيك
I see something to believe أرى شيئا للإيمان به
Your hands are like a flame
يديك مثل اللهيب
It brings the sweetest pain
راحة يدك أحلى ألم
Let the darkness lead us into the light
اترك الظلام يقودنا إلى النور
Let our dreams get lost,
دع احلامنا تضيع
Feel the temperature rise
اشعر بارتفاع الحرارة
Baby tell me one more beautiful lie
حبيبي، اخبرني كذبة أخرى جميلة
One touch and I ignite
لمسة واحدة وانا سأشتعل
Like a starship speeding into the night
مثل سفينة فضاء مسرعة في الليل
You and I get lost in the infinite lights
انا وأنت نضيع في الأضواء اللامتناهية
Baby tell me one more beautiful lie
حبيبي، اخبرني بكذبة أخرى جميلة
One touch and I ignite
لمسة واحدة، وانا سأشتعل
So alive
مليئة بالحياة
Your touch is like the daylight
لمستك مثل ضوء النهار
Burning on my skin
تحرق بشرتي
It turns me on again
تثيرني مرة أخرى
You and I
أنت وانا
Survivors of the same kind
ناجين من نفس النوع
And we’re the only ones
ونحن الوحيدون
Dancing on the sun
نرقص على الشمس
Let the darkness lead us into the light
اترك الظلام يقودنا إلى النور
Let our dreams get lost,
دع احلامنا تضيع
Feel the temperature rise
اشعر بارتفاع الحرارة
Baby tell me one more beautiful lie
حبيبي، اخبرني كذبة أخرى جميلة
One touch and I ignite
لمسة واحدة وانا سأشتعل
Diamonds are forever, but all we need is just tonight
الألماس يبقى للأبد لكن كل ما نحتاجه هو الليلة
We’re monumental tremors that can freeze the speed of life
نحن كالهزات الضخمة التي يمكن أن تجمد سرعة الحياة
Just like particles that's falling from heaven all over the stars
تماما مثل الجسيمات التي تسقط من السماء، في جميع أنحاء النجوم
Hear you calling for me أسمعك تناديني
Hear you calling me on from afar
اسمعك تناديني للأبد
Let the darkness lead us into the light
اترك الظلام يقودنا إلى النور
Let our dreams get lost,
دع احلامنا تضيع
Feel the temperature rise
اشعر بارتفاع الحرارة
Baby tell me one more beautiful lie
حبيبي، اخبرني كذبة أخرى جميلة
One touch and I ignite
لمسة واحدةوانا سأشتعل
❈-❈-❈
- ماذا تفعل الآن؟!
- تذمرت بهذا فريدة وهي تراه يتجاهلها تمامًا بينما يرص أمامها أصناف متعددة من الطعام، بعد أن تركها مرة واحدة ما إن أخبرته برغبتها في سماعه .. رمقته بحنق، فهي على علم بان ما يفعله الآن ما هو إلا محاولة لاهائها عن سؤاله .. لكن لم يخمن جيدًا، فما يفعله لم يزيدها إلا إصرارًا على معرفة ما يخبأه .. وكانت على وشك اخباره بهذا، لولا انه تحدث وأراحها:
- لن اخبرك شئ قبل أن تتناولين طعامك هذه المرة!!
احتدت نظرتها الناقمة .. هل يبتزها الآن، يعتقد انها ستموت شوقًا لسماع قصته المثيرة، يبالغ حقا في تقديره نفسه، حسنًا، هي مَن اعطته هذه القيمة، والآن ستعيد كل ذي شأن لمكانته .. فكرت بسرعة وكادت تنهض لتتركه يأكل نفسه بدلًا من الطعام، إلا انه سارع في القول:
- هيا فريدة، لا تكوني طفولية، أنتِ لم تأكلي شئ منذ البارحة!!
تحدث دون أن ينظر لها بلهجة جادة وبهت من الصرامة ما استفزها، ثم وضع آخر صحن على أرضية سطح القارب واستقر ليجلس من جديد ممدًا ساقيه الطويلتين بعيدًا، ويحمل بين أصابعه زجاجة (تكيلا) صغيرة .. عندما ظلت على وضعها طالعها ليجدها تقتله بعينها عدة قتلات .. فابتسم بسماجة وهو يتأنى في فتح الزجاجة ليستعد للقادم والذي كان كما توقع .. صرخت بوجه متورد من الغضب:
- أنا اتصرف بطفولية!! .. ولماذا قد أفعل من الأساس؟؟ .. وضح الآن ما الذي ترمي إليه!!
عض لحم فمه من الداخل كيلا يضحك، فليس لديها أي فكرة كم يعشق إغضابها، وبروز عروق جبهتها، مع انفها الصغير الذي يصبح أحمر تمامّا كحبة عنب .. ليس لديها أي فكرة!! .. ضم شفتيه وبالكاد استوعب ابتسامته وهو ينظر للبحر أمامه مضيفًا ببرود مصطنع:
- لا أعرف، ربما قد راق لكِ محايلتي واستجدائي، واعجبكِ ملاحقتي لكِ كل حين إلى غرفتك!!
أغلق عينه على الفور بمجرد انتهاءه، لتفتح هي فمها وتغلقه عدة مرات لا تجد رد، بينما عينها توسعت على آخرها من فرط الذهول والغضب .. هذا الوغد المتغطرس القذر العاهر، هل يلمح الآن انها تفتعل الغضب لتجذبه لها وتتمسح به؟! .. وعند هذه الفكرة فقط، طنّت أذُنه بزعيقها النافر وهي تتقفز موضعها من الغضب، وتسبه بكل ما أتى على لسانها من اوصاف بذيئة .. تقذف عليه كل ما طالته يدها من وسائد متراصة على طوال السياج، وهذا لم يطفئ غضبها، لتنخفض وتعليّ من مستوى جنونها، متناوله صحون الطعام قد جلبها، وامطرته بها ليخبئ وجهه على الفور خشيه اصابته بعاهة، مستقبلًا ضرباتها القاسية بعرض ظهره .. اللعينة اتضح انها تجيد التصويب، فلم يفلت صحن لم يصيبه، وهذا فقط جعلته يتيقن بالدليل القاطع أن هذه المرأة قد جُنت بالفعل وستقتلك هذه المرة!!
ومع ذلك لم يتحرك من مكانه حتى سمعها تلهث أنفاسها اخيرًا بعد انقضاء نوبة اللعنات التي صبتها عليه .. نفخ براحة، تبا، هو حي، لقد مرت على خير .. المرة القادمة يجب أن يتوخى الحذر في العبث معها، سيضيع شبابه هدر هكذا .. ولكن على مَن يكذب، فالعبث مع القطط الشرسة طالما كان هوايته المفضلة!!
نهض بصعوبة يفرد فقرات ظهره التي حطمتها واتسخ قميصه من الخلف بأشكال من الطعام والمشروب .. قابلته بحذر، وكانت ملامحها متعبة حقا، تستند بإحدى ذراعيها على خصرها، والعرق يتصبب من كل جانب بجسدها، وجهها عباره عن كتلة حمراء من الدماء يتصاعد منه الأبخرة .. ولا ينكر أن هذا أنبت الندم بداخله، فلابد أن هذا المجهود أرهقها كثيرًا .. تحرك صوبها، فرفعت رأسها ببطيء تنظر له بتعب ورغم هذا عينيها لم تتخلى عن غضبها .. وما إن تقدم خطوة واحدة، حتى انحدرت بجذعها تلقف الصحن الأخير والناجي الوحيد من المعركة، وقد كان معبئ بشرائح اللحم الباردة .. وقبل أن ترفعه لتقذفه به كان يمسك بيدها ويردف سريعًا:
- لا لا .. دعيه، فهذه المسافة ستكون قاتلة!!
زجرته بغضب تحاول افلات يدها، وبالفعل أبعدتها لتجده يتشبث بالطبق بقوة ويكمل بنبرة جدية:
- حسنا، ما رأيك أن نستخدمه استخدامًا جديدًا؟؟
استطاع بذلك سرقة انتباهها للحظة انتظرت تكملته بها بينما بدى هو وكأنه يفكر في التكملة قبل ان يضيف اخيرًا:
- نأكله مثلًا؟!
وكأنه يتحدث بلغة من خارج هذا الكون، حدقته مضيقة عينيها لأكثر من دقيقة، حتى تصدعت قسماتها الغاضبة عندما غمز لها بإحدى عينيه لتنتقل الضحكة من وجه لها، فتسري بها كالعدوى .. واللعنة هذا لا يبدو طبيعيًا، ولكن تكره أن تعترف بهذا، ذلك الوغد استطاع اضحاكها اليوم ثلاث مرات .. وهذا هو الغير طبيعي بالأمر!! .. رغمًا عنها ضحكت حتى اختل جسدها وتهادى إلى الارض مستغرقة في ضحكها الهستيري، هل اعطاها عقار مهلوس، ربما، مع انها واثقة من ذلك الدواء الذي اخذته .. إذًا مجددًا ما الذي يحدث معها واللعنة؟!
عندما فرغت من نوبة الضحك التي حقًا آلمت قلبها، رغم أن ربما ما قاله لم يكن مضحكًا لهذا الحد، أو ربما هي التي كانت يائسة للضحك إلى هذا الحد .. لا تقصد ما قاله ولكن تقصد كونه سبب إضحاكها .. كيف يكون هذا، وهو سبب بكائها كل ليلة؟! .. هنا، اغتمت ملامحها من جديدًا، لتفتح عينها التي ابتلت بدموع كرهت أنها كانت دموع لسعادة لحظية أهداها هو لها .. مسحتها وقلبها يعاني من تضارب في المشاعر بسببه، لتتبين انه كان جالسًا أمامها كل هذا الوقت، يراقبها فقط، يكاد يحبس أنفاسه كيلا تشعر بوجوده، فتتوقف ضحكاتها التي كان كالترياق بالنسبة .. وعندما سكتت، شعر وكأنك قد أطفأت أنوار شجرة كريسماس في ليلة العيد!!
تحمحم بتعابير شجية يملأها التخبط هو أيضا، ثم دفع الصحن بين يديها من جديد هامسًا برجاء:
- كنت أمزح معك فقط .. من فضلك تناولي شيئًا!!
أفرجت عن زفير حار ثم اعتدلت من رقدتها أمامه لتعدل الكنزة التي رُفعت عن خصرها لتظهر جزء من بطنها، بعدها اخذت منه الصحن بهدوء، وقد شعرت بالجوع يحرق معدتها، من أمدٍ بعيد لم تتناول طعام غير السمك، حسنًا، هذا ليس أمدًا بعيد، ولكن أسبوع كامل كان بالنسبة لها كالجحيم!! .. حسنًا ايضا، هو لم يكن جحيم، لأن طهيه للسمك لم يكن سيء، بل كان مبهر!!
"ما الذي تقوليه فريدة، يبقى سمك بالنهاية، وأسبوع كامل مدة مريعة، لذلك توقفي عن الحديث لذاتك، فذلك المعتوه كالثعلب يراقبك بخبث من تحت انظاره، وهو يدعي شروده بنقطة وهمية في البحر .. تبا له، الأعمى يلاحظ هذا، لا تدعيه يستغلك فريدة ولا تضحكي مثل البلهاء مرة اخرى على نكاته السخيفة مثله .. كريه الرائحة والطَبّع صحيح!!"
لفرط انفعالها وتصارع أفكارها وتضاربها لم تلاحظ كيف كانت تحشو فمها بالطعام، ولا كيف تغيم عينها بالحقد ثم ترتخي لتهدئ ثواني وتنفعل من جديد، كموجة شاطئ .. كنت ترمقه حقًا بهذه النظرات بينما تحتضن الصحن بحضنها وتأكل بأصابعها، لا بالشوكة .. فقدت السيطرة على انفعالاتها وكانت على سجيتها هذه اللحظة، غارقه بين تلاطم أفكارها؛ لذلك لم تكن تراه .. إلا انه كان يراها!!
الحقيقة انه لم يكن يفعل أي شئ سوى أن يراها .. وكأنها ستختفي من أمامه في اي لحظة .. وكأنه لا يصدق كونها تجالسه الآن بهذه البساطة .. روحه كانت تفيض سعادة لرؤيتها تتدحرج على الارضية من فرط الضحك مشعلة الجحيم بجسده من جديد، ليصدق للحظة أنها قد لانت له، أن عقابه من الممكن أن يكون قد أوشك على الانتهاء، سمح لنفسه يتمتع برؤيتها ترتدي ملابسه فائضة الاتساع عليه، تقص سرواله الجينز ليصل طولها، وتحزمه بحزام على قدر خصرها
ولكن في اللحظة التي انحصر قميصها كاشفا عن خصرها وما حمله جلدها الرقيق من ندوب تناقضه خشونة وقسوة، مات كل شئ بداخله .. وعاد ليعرف موضعه بالنسبة لها!!
تلك الليلة لا تعني شئ أدهم .. تلك الليلة كحلم من احلامك التي اعتدت ان تنتهي بكابوس في نهايتها .. وحتى تلك النهاية، استمتع باللحظة وما تمنحه لك، لا تبني أحلام أو آمال على السراب .. تقبل كل شئ منها وكُن ممتن .. حتى ولو كانت نظرات الحقد هي كل ما سيحصل عليه .. لكنه من بينها استطاع أن يرى الصراع، ذلك التصدع الخفي، الذي طالما وجد حائط ردم يفصله عنها .. عن رؤيتها على فطرتها، تلقائيتها التي افتقدها .. ولهذا مجددًا، كانت هذه الليلة هي الأروع على مدار ٣٥ عامًا!!
- أعرف أن وسامتي خطيرة، ولكن عندما تحدقين بي بهذا الشكل، أشعر انكِ ستبلعينني بين اللحظة وأخرى دون أن تدري!!
قالها على سبيل المزاح بعد أن لاحظ تعكر مزاجها .. يقسم أنها على سبيل المزاح .. ولكن على ما يبدو، أنها لم تفهم هذا، فقد شملته بنظرة بالغة السُميّة والتقزز، فقط ودون أن تتحدث أو تفعل شئ، جعلته يسترجع جملتها من قليل بالمخزن .. طالما كانت نظراتها هي الأسوأ بالنسبة له، لم يخبرها بهذا السر قط، ولكن في الحقيقة دائما كان يتعمد اغضابها واستفزازها لأنه يكره نظراتها المصمتة وما تفعله به؛ فهي تملك هذا النوع من النظرات الأكثر فتكًا من كل سِباب العالم .. بإمكانها اخبارك بأنك نكرة بمجرد نظرة لعينة، دون أن تحرك شفتيها أو تعابير وجهها، وبنظرة أخرى تفيض ذهبيتها عليك بالشغف لتجعلك تشعر وكأنك تملك الدنيا وما فيها .. أما تلك التي تثقبه بها الآن، كانت تقتله!!
كلما قرأها داخل عينها، لم تكن إلا ترجمة لكلمة (أكرهك) .. نعم، فأول مرة ألقت عليه تلك النظرة، كانت أول مرة سمع بها منها .. لذلك، مع كل مرة ترمقه بها، تذكره دون أن يدري بتلك الأيام، أيام شيطان القلعة .. وهنا تساءل كطفل يجهل علامّ يُعاقب: "ماذا فعل الآن ليحصل على هذه النظرة الآن؟!" .. بل والاكثر من هذا، فقد قرأ بعينها رغبتها المميتة في تلقينه هذا الصحن بوجهه، كل ما أراده أن يفتح معها حديث، لينتهي به الامر مفتوح الرأس .. تجعد جانب شفتيه ببادرة ضحكة ساخرة، ليبتلع رشفه من زجاجة (التكيلا)، يُمَرّئ بها المرارة التي تلازمه على الدوام، ومن ثم أضاف:
- هي أيضا كانت تأكل بأصابعها!!
هكذا، دون مقدمات تحدث بنبرة فارغة من كل شئ، بينما يشير إلى أصابعها المتسخة، ثم أخذ نفسًا وبدأ يسترخي أخيرًا في وجودها:
- كانت عفوية كذلك مثلك، مرحة وكثيرة الحركة كطفلة كبيرة .. ولهذا كنتُ أناديها غالبًا بـ "نور"، على خلاف أبي .. ربما لأنني لم اشعر يومًا بسلطتها كـأم، بل كانت أكثر .. كانت عالمي بالكامل منذ أن أفتح عيني، وحتى أغفو، مقارنةً بأبي الغائب أغلب الوقت .. "نور" .. وذكرياتي معها كُلُّها يملئُها النور .. للحقيقة، كانت الفترات ناصعة البياض من حياتي، فما بعدها لم يكن إلا بئر، يزداد ظلامًا كلما توغلتِ داخله!!
منذ أن بدأ يتحدث، وضعت فريدة الصحن أمامها دون صوت، وضمت ساقيها تحتضنهما لتسند رأسها إلى ركبتها، وهذه المرة كانت تسمعه بصدق .. أما هو، فتوقف للحظة يأخذ بها القليل من شرابه، علّه يستطع السيطرة على الحريق الناشب بقلبه .. كان يتألم، رغم ملامحه الهادئة إلا أن الحديث عن هذه الفترة بالذات كان أشد ما يؤلمه .. ربما لأنه لم يتحدث عنها لأحد من قبل، اكتفي بحفظها بصندوقه الأسود داخل قاع عقله .. كي يبقى حيًا بعدها .. اختلس بطرف عينه نظرة سريعة عليها، فوجدها تقابله بوجهها، وتنصت له وكأنها يروي قصة ما قبل النوم .. حسنًا، لا يهم، طالما تلك النظرة اللعينة سكنت واندثر بعيدًا وحل بعدها الهدوء .. لهذا، هدئ هو أيضا، وشرع يكمل:
- لفترة جيدة، عشت كطفل محظوظ، كما وصفتني من قبل .. حظيت بأفضل مناخ قد ينشأ به طفل .. طفل وحيد، لدى أب وأم مثَاليين .. حصلت على كل شئ حتى قبل أن أتمناه .. كنت مدلل جدًا بطريقة مقززة .. تبا لي، حمدًا لله أنني لم أكمل حياتي على هذا المنوال، وإلا كنت سأصبح مخنث كبير!!
قالها ضاحكًا بسخرية لاذعة، يحارب بها أي شعور أو حنين يصارع ليبزغ داخله، إلا انه وئد كل هذا بارتدائه للملامح الثلجية التي اعتاد أن يحتمي خلفها من نظرات الشفقة:
- أتذكر أن كل شئ كان يسير جيدًا حتى آتت تلك الأيام التي بدأت تتعذر فيها عن مشاركتي اللعب .. كنتُ بالسابعة وقتها، وحينما كنت أتذمر منها وأشتكي كطفل مزعج، كانت ترضخ لأنانيتي .. وفي إحدى المرات بينما نمرر الكرة لبعضنا، سقطت أمامي، هكذا فجأة، فقدت الوعي .. لم أكن أعي وقتها ما حدث، ظننتها مزحة بالبداية، حتى تبين لي العكس بعد ذلك!!
حبس بداخله نفس كاد أن يخنقه، إلا أن هذا كان أفضل كثيرًا من تلك المشاعر التي يحبسها .. نظر لها من جديد، وكأنه يخشى أن تكون مدركة لما يحدث داخله الآن، إلا أنها بدت مندمجة كليًا في سرده وتنتظر التكملة بعيون ناعسة .. ومن جديد، هذا هو التعبير الأمثل الذي رغب به .. ليُغالب تضخم قلبه ويسترسل نحو الهاوية:
- يقولون في علم النفس، أن كل شخص لديه مرحلة أمان معينة في حياته، تسبق نشوب الخوف المرضي داخل عقله .. تلك المرحلة التي يحاول العودة لها دائمًا في كل مرة يتعرض بها لصدمة .. أن يعود لأخر مرة شعر فيها بالأمان قبل أن يعرف طعم الخوف .. المحظوظون فقط مَن تكن حياتهم عبارة عن فترات متتابعة من الأمان، لا يذوقون الخوف فيها إلا قليل .. لكن هناك مَن تصبح حياته عبارة عن فترات متتابعة من الخوف، بعد أن يفقد الأمان في إحدى مراحل حياته .. أما أكثر الأوغاد حظًا، مَن تنتهي فترة أمانه في اللحظة التي يفارق فيها رحم أمه .. وبالنسبة لي فكانت هذه الليلة آخر مرة أشعر فيها بالأمان!!
ابتسم ابتسامه شاحبة، خالطت فيها مشاعر الحسرة، مشاعر الحقد .. الحقد علاما تلى تلك الليلة، والحسرة علاما فقده .. لذلك رفع زجاجته عاليًا واجتر منها الكثير هذه المرة حتى تأذى حلقه، وطغى الكحول على مرارة الذكرى، وتشبثت عينيه بذلك النجم، ذلك النجم الذي ينظر إليه الآن كـصديق دربٍ طويل ومنهك .. وهذه المرة كان حديثه موجهًا له، وكأنه يسترجع مع صديقه الذكرى التي تقاسموا بؤسها معًا:
- في ذلك اليوم -وعلى غير المعتاد- عاد والدي مهرولًا من عمله في منتصف النهار .. وبعد فحص منزلي، اصطحبها للآخر شامل بمستشفى استغرق يومًا كاملًا .. لمدة طويلة غالبت النوم وأنا أنتظر عودتها .. شغلت نفسي بمطالعة السماء، كانت هذه إحدى هواياتها .. ففي الليالي الصافية، كانت تُجلسني معها على العشب بالحديقة، ومن ثم تُسهب في حكاياتها عن النجوم .. لا أتذكر منها شيء سوى النجم القطبي؛ ذلك لأنها لم تنفك عن ذكر حُسن طالعه في كل مرة تراه .. كانت مفتونة به حقًا .. وتلك الليلة كان هو شاهدًا ايضًا!!
❈-❈-❈
نظر لذلك النجم المتوهج أكثر من المعتاد، عبر هذه النافذة العملاقة .. لو كانت "نور" هنا، لكانت بالتأكيد أخبرته أنها ليلة مميزة!!
ابتسم بداخله، ولكن ما لبثت أن اندثرت هذه الابتسامة وهو ينتبه لدقيّق الساعة الأثرية بالطابق السفلي .. إنها الثانية عشر .. لقد تأخرت كثيرًا .. هذه المرة الأولى التي تتركه بها ليلًا وحده .. لم تفعلها مطلقًا .. صحيح أنه ليس وحده تمامًا، فهناك مريم، لم تتركه حتى أدعى أمامها النوم ليتخلص من إلحاحها عليه بضرورة النوم المبكر.
ولكن، آنى له هذا في غياب والدته؟! .. كيف يفعل وهو بعيدًا عن دفء حضنها عندما تشاركه فراشه الصغير؟! .. كان يفتقد صوتها الحاني وهي تغني له أو تهمس بتلك القصص الممتعة حتى يغفو .. ولكن يبدو أنه رغم كل هذا سقط في فخ النوم .. لأول ليلة بدون والدته!!
استيقظ بعدها على أحدهم يحمله من قرب النافذة ليدسه في الفراش البارد .. ولكن بعدها غمره الدفيء وتسرب لداخله رائحتها التي تلفه بالأمان .. تمطى بين أحضانها وهو يستدير لينهل من هذا الدفيء وهذه الرائحة المسكرة أكثر، ثم طوق ذراعيه قدر المستطاع حولها، بينما يهمهم بكلمات عاتبه دون أن يفتح عينيه:
- نور، لماذا تأخرتِ؟؟
لم يكمل جملته إلا وأغرقت وجهه بسيل من القبلات الندية وهي تعتذر بنبرة مختنقة سمعها لأول مرة منها:
- آسفة حبيبي .. صغيري لا تغضب مني، نور آسفة كثيرًا .. لا تغضب مني أبدا أدهم .. تذكر دائما ماما تحبك .. عِدني صغيري أنك لن تغضبي مني مهما حدث!! ..همم؟؟
تنهد عندها براحة وسعادة أكبر وهو يسمع هديرها الحاني، ليزيد من تطويقيه لها كردً على سؤالها، ثم أومأ لها وهو يشك أنها تراه .. لم يكن يهمه شيء الآن إلا انه حصل على جرعته المعتادة من الحب .. وأخيرًا قد انتهى عذابه في تلك الساعات السابقة الطويلة!!
لم يكن يعلم حينها أن عذابه قد بدء للتو!
❈-❈-❈
كانت عينيه أسيرة السماء، حينما استشعر تلك الرجفة التي عبرت جسده، كما قد فارق حضنها الآن .. ليس وكأنه قد مضى على ذلك ٢٨ عامًا!!
ربما لأنه يشتم عِبق حُضنها الآن .. وربما لأن ذلك العَبق ينبعث من تلك الجالسة أمامه هنا، تنصت له بحضور كامل إلا أن عينيها لا يعبرهما أي عاطفة!! .. رمقها بنظرة ممتقعة بالغموض، وكم تصاعدت بداخله اللهفة لتغمره داخل حضنها .. فقط هذا كان أقصى ما يتمناه، وبالفعل كان قَصِيّ جدًا عنه لدرجة المستحيل!! .. لكن ذلك لم يمنع استمرار لهفته لتلك الأيام التي كان مبارح له بأن يتوسد حضنها في أي وقت .. حتى يفتش داخله عن رائحة أمانه الذي سُرق منه مبكرًا .. ينشد الراحة والسلام بعد سنوات من الدوران في دائرة مفرغة من البحث!!
أجل، ذلك كان أول ما جذبه لها .. في فترة غيبوبتها وقت حادثة "بن"، وعندما كان يتسلل لفراشها، صُعق حينها وهو يشتم ذلك الأمان الذي تحمله بين أحضانها اللينة .. في البداية ظن أنه يتوهم وانها خَديعة عقل، لكن مع تكرار الأمر في كل مرة، زرعت بداخله الخوف من جديد .. الحقيقة أن ذلك كان إحدى هواجسه نحوها .. كانت تثير بداخله مشاعر غير مألوفة بالنسبة له، تجعله شخص غير الشخص .. تعيده ذلك الطفل ذو السبع سنوات، فقط بضمة دافئة من ذراعيها .. تضعفه وتسلبه قوته .. تصيبه بالرهاب من فكرة تركها له يومًا .. فكرة تكرار مرارة حرمانه من منطقة الأمان خاصته .. لو فقط كانت تدرك ذلك، لربما كان يفسر لها تحولاته الشرسة .. إلا أن إيباء نفسه وكبرياءه الذي اعتاد الحصول على كل ما يتمناه بالقوة، هو مَن حال دون ذلك!!
أما الآن، فهو قد تغلب على هذا النقطة، وها هو يحكي كل شئ دون خوف أو رهبة .. ليس بالكامل، وليس قليلًا .. ولكن بالقدر الذي يمكنه من أم يجلس هنا، ويحكي ليس لغرضٍ منها ولا حتى لأنه بحاجة لمَن يسمعه!! .. مثله لم يُخلق بداخله هذا الاحتياج؛ فقد شبَّ على شيئًا واحد في هذه الحياة الرائعة، وهو كن متيقنًا أنك: "في اللحظة التي تُخرج بها أحد أسرارك، وأنت تظن أنك تشتري بهذا راحتك، حسنًا أنت بالفعل تشتري راحتك، ولكن راحتك الأبدية .. تشتري تذكرة إعدامك!!"
ولهذا، الوضع يختلف بالنسبة لـأدهم، فما يحثه على أن يخبرها بكل هذا الآن، هو شعوره بكونه مدين لها .. مدين لها بالحقيقة الكاملة التي طلبتها منه ذات ليلة بالمزرعة وأغدق عليها حينها بأقل القليل .. أو لأنه قد تندم على ضياع هذه الفرصة، وتشهد السماء كم قضى من الليالي يتحسر ويهذي بعودته لتلك الليلة؛ ليطرح بحضنها كل أشباح ماضيه .. لربما لم يكن حدث ما حدث، وربما أيضا لم يكونوا هنا .. مع ذلك، لا بأس، هو هنا ليصحح هذا الوضع ويعيد ترتيب المشهد .. وها قد واتته الفرصة التي حلم بها طويلًا، وسيستفيض في استغلالها!! .. من يدري، ماذا قد يحدث بعدها؟!
هز رأسه ليفض كل تلك الافكار التي تعاكس تعقله وتشتته عن هدفه، ثم شرع يستكمل وكأنه يتحدث عن شخصٍ آخر:
- بنهار اليوم التالي، استيقظت ولم أجدها بالمنزل، لأفاجئ فيما بعد أنها سافرت مع أبي .. لم أخفي استيائي وقتها من فعلتهما، بل تماديت .. كيف يسافران بدون أن يودعوني .. بالأساس كيف يسافروا هكذا بدوني .. وعلى مدار شهرٍ كامل لم ادخر هذا الاستياء في مكالماتي اليومية لها .. ولكن يومٍ عن يوم كان يغيب عني صوتها ويعتذر والدي بدلاً منها، حينما تحدثني كانت انتبه لنبرة صوتها المجهدة .. حتى جاءت ليلة... بقيت فيها معي على الهاتف طوال الليل، عوضتني عن غيابها الطويل، غنت لي، وقصت الحكايات .. فعلت كل شئ لتشعرني بوجودها ثم...
ابتسم ابتسامة جانبية وقد لمعت عيناه بدموع تلبست ثوب الصلابة وظهرت اسنانه المنمقة قبل أن يضيف:
- ثم ماتت .. فعلت كل هذا لأنها كانت ليلتها الأخيرة قبل أن تخضع لعملية لاستئصال ورم لعين بدماغها بعد أن فشلت تجربة علاج حديث معها طوال هذا الشهر .. إلا أن جسدها كان قد أصبح ضعيف جدًا ليتحمل مثل هذه العملية، فماتت .. هذا ما عرفته حينما كبرت من مريم ..
- من مريم؟؟
استوقفته فريدة بسؤالها، وقد رفعت رأسها عن ركبتيها بانتباه، وتلقائية وجدت عقلها يسترجع آخر ذكرى لديه، وقتما فاقت من الغيبوبة، وجدت من بين أهلها امرأة حضرت لتطمئن عليها بتلهف، وكأنها ابنتها، ولمّا تعذر على فريدة تذكرها، هرعت تلك المرأة بفزع من الغرفة ولم تراها منذ ذلك الحين، لتعرف فيما بعد أنها تُدعى "مريم".
خالط خلجات أدهم توتر خافت والكثير من الذكريات تتوافد على خاطره، ليزدرد ريقه ويجيبها مدعى بساطة الأمر:
- أوه، بالتأكيد لا تتذكريها؟ .. حسنًا، مريم كانت مساعدة والدتي إن جاز التعبير، يعني داخل المنزل تتولى أعماله، أما خارجه، فكانت تساعدها في إدارة وترتيب شئون جمعياتها الخيرية، وضيفي لكل هذا انها كانت تجالسني بعض الأوقات .. الحقيقة أنها اصبحت بعد ذلك جزءً لا يتجزأ مني .. لم أستطع مطلقًا التخلي عنها، كانت تذكرني بهويتي، نشأتي، كانت تذكرني بوالدتي، وكأنها ما بقي لي منها .. فصارت تلازمني على الدوام حتى عندما سافرت كانت معي .. وعندما تزوجنا أيضًا.
قضم ما بقي من الحديث واحتفظ به لنفسه، كيلا يخبرها بأن مريم كانت شاهدة على ما فعله بها .. وطوال فترة غيبوبتها كانت تلازم أمام غرفتها، ولا داعي لذكر ما فعلته به حينما استيقظت فريدة وتبين أنها فقدت ذاكرة .. حسنا، إلى الآن هو نفسه يواجه صعوبة في تصديق ردة فعلها، ما إن خرجت من غرفة فريدة ورأته أمامها مسحت الدموع التي كانت تغرق وجهها، وبالثانية التالية كانت تلك الدموع تبلل وجهه بعد أن صفعته بأقسى قوة تملك!! .. ومن بعدها اختفت من حياته، ولم يراها مطلقا!!
تلك اللحظة كان فارقة بالنسبة له .. صدقِا لم يهتم لكونها صفعته لأول مرة طوال عِشرتُها معه، لم تقسى حتى عليه .. كانت تخشى عليه كابن رحمها، حتى انها في وقت ما، خُيّرت بين مكوثها معه وبين ابنها الحقيقي، والذي انتقل للعيش بنفس الولاية بحكم عمله مع أدهم .. اختارته هو!! .. وفضلت أن تهبه ما بقي من حياتها، وتتردد في زيارات متقطعة على ابنها .. كانت تردد دائما أنه ليس فقط الأمانة التي تركتها لها نور، بل هي ترى به نور، فقد ورث عنها عينيها الكحيلة وشعرها الأسود اللامع .. والآن ماذا، قد تركته، وتركت نور .. تركته ليعاني اليُتم مجددًا، وليس مرة واحدة بل مرتان .. الأولى هي .. والثانية فريدة!!
❈-❈-
كحاله سائر هذه الأيام .. كان يربض أمام الهاتف ككلب أمين في انتظار مكالمة تشبع قلبه من والديه، بينما يحتفظ بقطتها بين ذراعيه الصغيرة .. هذا القطة التي كثيرًا ما نشبت المشاجرات بينه وبين نور بسببها، فرغم أنها لم تكن قطة منزل، وكل علاقتهم بها، أنه تمكث بحديقتهم وتنتظر الطعام من نور كل يوم .. إلا أنها يومًا بعد يوم، كانت تزداد تعلقًا بوالدته، حتى لاحظ التصاقها الدائم بها الذي وصلت إلى انها اصبحت تتبعها لداخل المنزل أيضا، وهذا كان موضع الخلاف دائما .. يعترف، كان يغير من هذا القطة كثيرًا، ومهما حاولت نور التوفيق بينهما إلا أنه لم يستسيغها أبدًا، لم يكن يراها سوى قطة شارع لئيمة تجرى الفوضى بذيلها .. تفسد لعبه وأشياءه، بل تفسد كل شئ وتقلبه رأسًا على عقب بمجرد عبورها من فوقه .. لكن، هذا كله قد تغير الآن، القطة نفسها تغيرت وأصبحت لا تجلس إلا بين احضانه بوداعه وسكون، وكأنهما يتضامنا معًا في غيابها، ويتشاركان حزنهما، ربما لأن نقطة خلافهما كانت حبها، أما الآن، قد حُرما منه .. حتى هو، قد تغير كثيرًا منذ سفرهما .. أصبح أكثر هدوءً وأقل كلامًا، بالكاد يأكل أو يباشر دروسه او تمارينه .. فما يحتل أكبر قدر من عقله هو غياب والديه .. وبالأخص نور.
مضى عليه ذلك اليوم كئيب دون ان يسمع صوتها .. لم ينم، كعادته ادعى النوم، ولكنه عاكسه .. ظل يطالع السماء بحثا عن أي شئ يطمئنه عن والدته .. لكن خلاف سائر الايام، سماء ذلك اليوم كانت صافية حتى نجومها بعيدة بالكاد تُرى .. وعندما شارفت عينيه على الانغلاق سمع رنين الهاتف .. قفز من فراشه مهرولًا لأسفل، حتى انه تعثر في أكثر من درجة سلم، وذلك ما مكن مريم من اللاحق بالهاتف قبله.
وقبل أن يصل ليخطف الهاتف منها كعادته المندفعة وجدها تغلقه، بل على اغلب الظن الهاتف سقط من يدها ليغلق .. لم يتركها، حاصرها بتذمره واسئلته وشغبه، لكن فجأة خرجت عن جمودها وكممت فمها لتحبس صرخة مقهورة بداخلها ثم انكبت على الارض حاضنه اياه ليسقط معها.
ومنذ ذلك الحين وحتى الصباح لم يتوقف بُكاءها الحارق .. فزعته ملامحها ولأول مرة بحياته يشعر بالخوف، بل الرعب حتى انه بكى معها دون أن يعرف السبب .. وهذا فقط ما جعلها تتوقف وتتماسك لتبتسم في وجهه بحسرة تاركه بعض الدموع تناسب بصمت مميت .. لم تجيبه مطلقا، كلما سألها كانت تبتسم له الابتسامة عديمة المعنى ذاتها وتحتضنه حتى تطبق انفاسه .. بقيت على هذا الوضع المريب حتى وهي تقف مع العاملين في القصر على قدمٍ وساق وكأنهم خلية نحل .. حتى في مواسم الحفلات لم يكونوا بهذا الاضطراب!!
وبنهاية ذلك اليوم المريب بالنسبة له، انتقت له ملابس فاخرة جعلته يتقافز بطفولية وهو يسألها بحماس:
- هناك حفلة بمناسبة رجوع ابي وامي .. وسأحضرها صحيح؟؟ .. هل وافق ابي أن أحضرها حقا؟؟
لم يستطع أن يلقى منها اجابه سوى مزيد من الدموع المصاحبة لامتقاع حمرة وجهها ثم طبعت قبلة حنونه أعلى جبهته وحثته على الارتداء .. وحينما انتهى سمع بوق سيارة والده .. فدفعها ليهبط للأسفل بجنون.
لمح والده يعبر البوابة الداخلية بحضور هادئ، نظارة سوداء تغطي ملامحه، فاندفع نحوه يعطيه حضن سريع، ومن ثم أراد أن يتركه ليبحث عن والدته، إلا أن والده أبى أن يفارق ذراعيه .. فراح أدهم يتملص منه بتذمر:
- هيا اتركني .. أريد أن أرى نور .. لماذا لم تدخل معك؟؟
شد والده من احتضانه للحظات زاد فيها تذمر أدهم وحركته حتى ابتعد عنه ليخلع نظارته ويواجه بعينٍ تلسعها الدموع
- نور، لم تأتي معي أدهم!!
لم يصدقه وهو يشب بعنقه ليبحث عنها بالخارج وعملت ذراعيه على دفع والده ليتركه حتى أمره مصطفى بنبرة صارمه:
- توقف أدهم واسمعني!!
سكن بالفعل لينظر له بغيظ، فسحب الآخر نفسا عميق يمنحه القوة والصلابة لتجاوز هذا الموقف:
- أدهم .. هل تتذكر ما أخبرتك به وقت رحيل جدتك؟؟
تقوست شفتي الصغير بعدم فهم ولكنه أجاب ببراءة:
- أخبرتني أنها أصبحت في مكان أجمل من هنا عند الله.
مسح مصطفى على وجهه بحنان وتمهل للقادم:
- أجل .. أجل، هذا صحيح .. أدهم حبيبي .. الآن .. نور .. نور ذهبت لذلك المكان الجميل رفقة جدتك!!
توقف عالمه الصغير تلك اللحظة، وهو يحدق والده عدم استيعاب ليدفع والده هذه المرة بقوة أكبر، يريد رؤيتها، يعرف انها تقف بالخارج الآن، متيقن هو من كذب والده، انها مزحة بالتأكيد، أليس كذلك؟! .. هكذا صور له عقله ما يحدث:
- كيف؟؟ .. كلا .. دعني .. أنت تمزح .. أين هي؟؟ ..نور .. ماما!!
وبالفعل، نجح في الافلات منه، لتهرع قدماه للخارج، يفتش بالأرجاء، عينيه تبحث عنها، تبحث حتى عن ظلها .. تفحص السيارة، جانبيات الطريق الداخلي للقصر، حتى بين الأشجار، ومن ثم استدار للحديقة الداخلية، بالتأكيد سيجدها هناك .. تلاعب القطة، وترحب بها قبله، لا يهم، صدقًا لم يهتم هذه المرة، سيتقاسم حبها معها لا بأس في ذلك .. فقط تعود، ويقسم أنه لن يتشاجر مع القطة على حبها ابدًا .. فهذا بالأساس ما جمعهما فترة غيابها، حبها!!
- أنا لا امزح أدهم .. وأنت لم تعد صغيرا لتفهم هذا، ماما ليست هنا .. ماما عند الله الآن!!
سمع هذا الصوت يأتيه من الخلف، بينما يقف في الحديقة الفارغة حيث يفترض أن تكون هنا، لكنها لم تكن .. ماذا يحدث؟! .. ضرب الأرض بقدم بطفولية ليعبر عن تلك المشاعر التي تزلزل عالمه الداخلي لأول مرة:
- لا .. كيف تذهب بدوني؟! .. كيف تتركني؟؟ .. لقد وعدتني أنها ستعود!!
- أدهم كف عن هذه الحركات!! .. أنت لست صغير، لقد صرت رجلاً الآن!!
هكذا جاءته الإجابة، غضب صارخ يقابل غضبه المستحدث، وعندها -عندها فقط- توقف جسده عن العِناد وبدأ عقله يدرك بشاعة الحقيقة .. انها حقيقة .. ليست مزحة .. وليست حلم .. لذلك ارتمى بحضن والده يبكي بنشيج ملتاع معبرًا عن ابشع مخاوفه الآن:
- يعني لن أراها مجددًا مثل جدتي؟؟
غمره والده بأحضانه عميقًا وقد انفرط عِقد دموعه بسبب هذه الجملة القاتلة بعد أن حارب كثير ليتماسك أمام طفله، حتى لا يزيد الوضع سوءًا .. ليجد نفسه بالنهاية يهمس له بنبرة مختنقة يواسي بها نفسه قبل أن يواسي طفله:
- هي سترانا .. وسنشعر بها!!
❈-❈-❈
- ولذلك، لم أعرف الحب بما فيه الكفاية .. اتمنى أن تكون هذه اجابة كافية لكِ!!
بلّادة ذات طبقة سميكة كست تعابير وجه، لتعطيها ذلك الانطباع اللامبالي .. بينما في عالمه الداخلي، كان يرى نسخته الصغيرة أمامه وهو يعيش هذا اليوم مجددًا، يُعاد عليه ذلك اليوم، والأيام التي تلته .. ومن جديد، شكرًا للكحول الذي طغى على مركز الشعور لديه وأصبح يتحدث دون عائق أن انفعال!! .. أو ربما لفرط الألم، فقد هو الشعور .. لأن ايما حدث بعد ذلك لم يكن مؤلم قدره!! .. بل كان مؤلمًا للقدر الكافي لينسيه الحب الذي شربه بسنواته الأولى!!
تعلقت حدقتيه بخاصتها، يلفها بهما، وللحظة رأى أنها تهتم، لأول مرة، تهتم له .. رآها تخرج عن جمودها، وتعتدل بجلستها وعينها غلبتها العاطفة الحقيقية .. لا الشفقة، بل العاطفة .. ربما لأنها تلك اللحظة شعرت وكأنه يقص عليها قصتها هي، مع اختلاف أنه كان يحظى بامتيازات عنها، حتى بالحزن، كان وغد مميز!!؛ على الأقل وجد مَن يهتم له، ويفسر غياب والدته .. أما هي، فلم يبالي بأمرها أحد، وكان عليها -بعقل طفلة في الخامسة- أن تفهم ما يدور حولها .. ألم تقل أنه كان وغد محظوظ!! .. شحذت صوتها لتسأله بتمتمة خفيضة:
- وماذا حدث بعدها؟؟
ابتسم، وكل ملامحه تنضح بالسخرية:
- آوه .. هل أعجبتك القصة؟؟ .. أعرف لدي أسلوب شيق في القصّ!
- ليس هذا ما أقصده .. لم تُجب على سؤالي بعد!! .. لا أظن أن وفاة والدتك قد أفقدك ما زرعته داخلك من حب .. إذًا .. ماذا حدث بعدها؟؟
تحدثت بعملية شديدة وعينيها أخبرته أنها تعرف أن وراء القصة قصة، وهي ترغب الآن بمعرفتها .. حسنًا أدهم، لا بأس، دعها تعلم كل شيئًا إذًا، ولتكن الحقيقة ما يميز هذه الليلة:
- ستحتاجين شئ لتشربيه، فليلتنا قد تطول!!
توقف عن الحديث لينهض ماشيًا صوب مقصورة القيادة والتي تودي به للطابق العلوي من جناحه.
❈-❈-❈
تبعته فريدة إلى مقصورة القيادة، وكعادتها وقفت على اعتاب الغرفة بحذر ولم تتوغل خلفه .. تشدقت دون أن ترى ما يفعل عنده:
- يبدو أنك مَن تحتاج للشراب هنا!!
حدثها بينما كان منهمكًا في إعداد شيئًا ما بين يديه:
- لهجتك تذكرني بـ "مايك" .. تبا، ستحمرّ أُذُنيه من الانفعال عندما يعلم بأني كسرتُ تحذيره لي من الشراب عدة مرات هذا الشهر!!
هذه المرة وجدت نفسها تتقدم ناحيته بتروي وهي تطرح سؤالها التالي قبل حتى أن تدرك أنها فعلت:
- ولمّ بالأساس يمنعك من الخمر!!
تصلب ظهره، استطاعت أن ترى هذا، لبضع ثواني قبل أن يلتفت لها على مِهل، وعلى ما بدى كان يكتم أنفاسه وكأن سؤالها كان صادمًا له .. أو ربما اجابته هي الأصعب .. حسنًا، هذا ما في الأمر، فكل ما يفكر به حاليًا، أن الاجابة ستجُـرّ عليه سرد أشياء، هو عن حق لا رغبة له في الحديث عنها .. توغل داخل عينيها الداكنة تحت الإضاءة الخافتة، كيف يخبرها أنه مُحرم عليه شُرب الخمر لأنه قد دخل ضمن دائرة إدمانها في بداية فترة ابتعاده عنها .. ابتعاده عن مخدره الأساسي .. لشدة يأسه، كان يستبدل شوقه لها بالمادة، ويطفئ بها شعوره المميت بالذنب .. لشهور انغمس في هذا حتى وصل به الأمر لفترات التعتيم الكحولي أو الغيبوبة الكحولية، كادت تفسد كَبده أو تفضي به إلى الانتحار .. ومنذ بدأ في علاجه، وقد أقلع تمامًا عنها .. حسنا، كان كذلك حتى عادت هي للظهور في طريقه .. لوي فمه بطريقة أشعرتها بانها تقحم نفسها في شئونه، ثم عقد ذراعيه أمام صدره ليستند على طاولة صغيرة خلفه، تُستخدم لأعداد المشروبات السريعة:
- لنقُل أني أصبح شخص سيء عندما أنتشي.
- مثلما أكون أنا كذلك؟؟
أومئ بهدوء يجوب ملامحه ثم أضاف:
- أو حين تتوقفين عن الدواء!!
رفعت حاجبها ضاحكة بخفه قبل أن تلتقط عينها ماكينة القهوة التي تعمل على إعداد كوبين منها خلف ظهره .. لتتمتم:
- لكني لا أشرب القهوة!!
- سأشربها أنا بدلّا منكِ.
اللامعة المعبئة بشيء من الحنين والشغف داخل عينه، تحفز لديها الرغبة في اقتلاعها .. لا تعرف، ولكن هذا ما تشعر به!!، لمعة الشغف تلك لا تتناسب أبدًا مع ملامحه التي حُفرت بذاكرتها كطاغية أفسد حياتها!! .. قضمت جزء من شفتها السفلية لتبتسم بغرور وهي تربع ذراعيها معًا متهكمة:
- وما الفائدة التي ستعود عليّ من هذا الفعل النبيل إذًا؟!
هز كتفيه ليجيبها ببساطة:
- سأظل مستيقظًا بالقدر الكافي لأرضى فضولك!!
تعجبت من التي يتحدث بها وكأن يتفضل عليها بذلك:
- وماذا إذا نِمتُ انا من الممل؟؟
- لن يحدث .. أضمن لكِ هذا!!
زادت نظرة استغرابها من ثقته الفائقة، وهذا إذا كان له دلالة على شئ، فلا يدل إلا على أن ما سيقوله سيجعل النوم يذهب بعيدًا .. أكثر مما تعانيه .. حسنًا، بدأت تتشكك حقًا إذا كانت تريد سماع القادم أم لا .. لكن أدهم لم يترك لها مجال، وهو يفرغ القهوة في كوب كبير، ودون استباق شرع في الحديث بينما يتوجه إلى أريكة في نهاية الغرفة:
- حسبما فسر دكتور 'مايك' حالتي، قسّمَ طفولتي لثلاث محطات تحوّل مررت بها، وشكلتي مسيرتي بعدها حتى أصل لهذا الجالس امامك الآن .. الأولى كانت وفاة والدتي .. وأجل، اعتقادك صحيح، لم يكن هذا ما قسم ظهر البعير، بل ما حدث بعدها!!
تيبست بوقفتها وهي تمعن النظر بهذه الأريكة التي شهدت على ذلك اليوم الذي انهارت، هنا، امامه، وهي تحاول عبثًا إيجاد منفذ للخروج من جحيمه .. أين هي الآن من كل هذا؟! .. غريب!! .. الليلة ها هي تشاركه الجلسة على هذه الاريكة بعد أن كانت تفضل الموت على صحبته .. ماذا يحدث معها؟؟ .. افاقت من شرودها لتنتبه له من جديد، وكان قد جلس هناك بأريحية، يمسك بكون القهوة بين يديه، ويضع قدمًا أعلى الأخرى ليكمل بعد أن ارتشف من قهوته علّه يستعيد تركيزه بعد أن تخلص من عبئ الجزء الأكثر ظلامًا بحياته:
- مضت سنة بعدها، سنة رمادية اللون كما أتذكرها .. كل الألوان التي كانت تملئ حياتنا انطفئت بذهابها .. البيت أصبح هادئ على الدوام، وتحولت أنا من طفل مشاغب وكثير الحركة لطفل انطوائي غريب الأطوار .. اتذكر أن يومي كان يمر بطيئًا جدًا، لا أفعل به شئ سوى انجاز واجباتي والاهتمام بالقطة..
- ووالدك؟؟
سألته فريدة لتنبث منه ابتسامه باهتة قبل أن يجبها:
- والدي كان يشاركني الحياة الرمادية ذاتها، فقد ازداد انغماسًا بالعمل أكثر .. إلا أن اجازته الاسبوعية كانت لي بالكامل..
توقف ليبتلع شيئًا علق بحلقه قبل أن يضيف وكأنه قد لاحظ هذا الآن فقط بعينٍ غارقة في الماضي:
- ربما كانت هذه أكثر فترة تقاربنا فيها على الإطلاق!! .. كانت أوقات راحته لي كاملة، كل اسبوع كنا نقضيه معًا بالخارج ولا نعود إلا وقت النوم، وكأن موتها قربنا من بعضنا .. لفترة طويلة خِضت انا واياه الحزن والوحشة معًا، حتى ظننت أنه لا أحد يستطيع التفرقة بيننا ..
معًا إلى الأبد!!
تمتم بهذه الجملة الأخيرة بصوت بالكاد يُسمع وبطريقة ساخرة أكثر منها متأثره .. ذلك لأنها كانت الكلمة السحرية التي اعتاد تبادلها مع والده .. العهد الذي جمعهما بعد فراقها .. سيكونا معًا للأبد .. هكذا كانا ينهيان كل ليلة، وحتى الخلافات التي نادرًا ما كانت تنشأ بينهما، كانت تنتهي بهذه الجملة .. لن يفترقا أبدًا ولن يسمحوا لأي شئ يفرقهما .. لكن هذا لم يدُمّ طويلًا، لم يدُمّ أمام أول عاصفة هبت عليهما، تشهد السماء أنه تمسك بالعهد رغم كل شئ؛ ذلك لأنه لم يكن مستعدًا لتكرار المعاناة مجددًا .. إلا أن والده كان أول مَن أفلت يده، وسمح للأفعى بالتفريق بينهما .. وهنا، تبدلت ملامحه بعدها للبرود وقد افاق على نفسه ليستطرد:
- ظل الوضع هكذا لما يقارب السنة، وفي يوم أحد الإجازات التي كنا نقضيها غالبا بالنادي، قاطعت خلوتنا امرأة كنت أراها لأول مرة .. ولكن فيما بعد لم أكن أرى سواها على الدوام .. سمر!!
ارتشف من كوبه ثانيةً قبل أن يسرد ما حدث بسلاسة:
- كانت مطلقة حديثًا حينما قابلتنا، وعلى ما يبدو أنها كانت تبحث عن صيدٍ ثمين، ولم تجد سوى أبي .. شاب، ثري، أرمل، وليس معه سوى طفلٍ واحد .. هل هناك فرصة أفضل من تلك؟؟ .. لم تُضِع وقتًا منذ أول صدفة سوداء جمعتنا، ترددت على بيتنا كثيرًا بحجة انها تعلقت بطفله الصغير، فكما ادعت انها عاقر، وتلك نقطة ضعفها!!
قاطعته فريدة لتسأله مستغربه هدوئه هذا:
- وهل كانت جيدة معك؟؟
اتسعت ابتسامته حتى برزت نغزته اليمنى:
- آوه .. ليس لديك أي فكرة إلى أي مدى كانت جيدة!!
لم يكن من الصعب عليها أن تدرك سخريته القاتمة خلف الابتسامة، لهذا تركته يكمل بملامح كالحة:
- كانت جيدة، أجل .. هذا ما أخبرته به حينما سألني ذات ليلة عن رأي بها .. لكني لم أخبره أنها كانت جيدة فقط في حضوره .. أما خلاف ذلك، لم تكن تهتم بأي لعنة تخصني .. اتقنت الدور ببراعة أمامه كأفعى محبه لأبنه، حتى انخدع كالأبله وصدق أنها يمكن أن تكون مناسبة كأم بديلة .. وبالفعل، تم هذا سريعًا .. وأصبحت زوجته رسميًا، وأمي الجديدة!!
- وهذه هي نقطة تحولك الثانية؟؟
خمنت فريدة وقد أصبح لديها رغبة في تخطي التفاصيل، لتتقلص ملامح أدهم باستنكار ثم غطى على هذا بسخريته كالعادة:
- آوه، لا .. لمّ أنتِ متعجلة؟! .. تحلي بالصبر قليلًا، لـكي تُحدثي تحوّل بحياة أحدهم، لا يكون بهذه الصورة اللطيفة!!
وضع الكوب أمامه ليتابع:
- أممم .. لنكمل .. بعد الزواج، كانت تصحبني كالكلب خلفها كل يوم في مكان بحُجة الترفيه عني، يمكنك القول أنني كنتُ تذكرتها للهو بأموال زوجها .. وأصبحت أقضي أغلب يومي بوجهها اللعين، وبالمقابل لم أعد أرى مريم طوال اليوم، أو حتى القطة، التي بالمناسبة لم تسلم من تدخلها السافر، وأرادت أبعادها عني مرددة، *أنها قطة شارع وستمرّضُني* .. لكن والدي كان له الكلمة الفاصلة في ذلك؛ فـهذه القطة أيضًا كانت تعني له الكثير .. رغم صغري حينها، لم يُخفي عليّ ما كانت تحاول فعله، كان واضحًا لي أنها لا تحبني مثلما تدعي، حتى أنها اشتركت لي بتدريب السباحة رغمًا عني، وعندما شكوت أبي، استطاعت هي اقناعه لأول مرة بأن ذلك مفيد لبناء جسدي .. وهكذا، صار لديها حُجة مقنعة للخروج كل يوم لتدريب السباحة اللعين!!
في هذا الوقت، وبينما كانت فريدة مولية كامل اهتمامها له، دبيب الألم برأسها بدأ يستولي على جزء من انتباهها .. القلق، الصداع، والرعشة الطفيفة في أطرافها، كل هذا عاد للعزف من جديد، رائع، على ما يبدو أن الدواء لم ينفع كثيرًا .. هي بالفعل كانت تعلم هذا، وكانت تتجاهل بوادر التعب، علّها تفعل المثل وتتجاهلها .. لكن هذا ألم أعصاب، لا مجال للمزاح هنا؛ لهذا، اعتدلت بجلستها وجمعت قدميها أمام صدرها لتحتضنها كعادتها عندما تستشعر الألم هناك .. مما جعل أدهم يتوقف عن سرده ويسألها:
- تشعرين بالبرد؟؟
اكتفت بهز رأسها بالنفي وبالكاد همست بكلمة واحدة:
- أكمل!!
أومئ لها وأكمل لينتهي من هذا الفصل الرتيب بحياته:
- يوم عن يوم، بدأت ألاحظ ما يحدث حولي .. ألاحظ أنها في فترات تدريبي تختفي تمامًا ولا تظهر إلا في الدقائق الأخيرة منه .. ولنقُل أن ذلك أشعل المحقق كونان لداخلي!!
ضحك بتهكم وكان بائنًا أن ضحكته مصطنعة قبل أن يسترسل بأكثر شئ صدمها حتى الآن:
- قررت يومًا أن أنفذ خطة سهرت لإعدادها .. بعد دقائق من اختفاءها المعتاد، اكتفيت بارتداء ملابس السباحة ولم اخلع الروب، لأدعي أمام المدرب أني قد نسيت شيئًا بحوزتها وأحتاجه، فتركني أذهب خلفها .. لا تنظري لي هكذا، كوني طفل هادئ ومهذب على الدوام لا يعني أني كنت أبله .. المهم، ذهبت خلفها .. ورأيت أين كانت تختفي كل يوم!!
تحفزت فريدة باهتمام وقد شعرت بأن القادم أسوأ، وقد كان، حينما ازدادت تعابير وجهه سطحية وأصبحت خالية تمامًا من أي شعور:
- كانت المرة الأولى التي أرى بها شيئًا كهذا .. بإحدى غرف المدربين الأجانب، خلف مجمع السباحة، كانت تختلي مع واحدًا منهم .. ولـعشرة دقائق كاملة وقفت أشاهد ما كانوا يفعلوه .. ودون أن يشعروا بوجودي، فعلى ما يبدو أن اللقاء كان حار لدرجة أنهم نسوا غلق الباب بالمفتاح خلفهما، وكأي طفلي فضولي كانت هذه فرصتي للمغامرة .. اتذكر هذا اليوم جيدًا، جسدي أصابه رجفة ثلجية جعلته يتخشب، بالنهاية كنت طفلًا وقتها بعمر الثامنة يرى لأول مرة بحياته علاقة كاملة، فماذا تتوقعي؟؟
- كشفوك؟؟
- بالطبع، حينما انتهوا فجأة، لم أكن قد استوعبت ما يحدث بعد .. كنت في قمة ذهولي .. ولشدة فزعي من أن يروني، أغلقت الباب بسرعة ليدوي الصوت وتبعته بانزلاق قدمي مع الأرضية الرخامية الناعمة بينما أحاول الهرب، لكن .. لكن ذلك العاهر الذي كان معها، لحقني في وقتها!!
❈-❈-❈
في هذه اللحظة، كانت سمر قد وضعت الفستان على جسدها في ثانية، ووقفت في زاوية الغرفة تقرض أظافرها بترقب، أحدهم قد كان يراقبهما، حياتها بالكامل صارت على حافة الهاوية .. وحينما رأت رفيقها يدخل حاملًا أدهم بين يده، شلّت الصدمة عقلها، فأقبلت عليه تشهق بصوت شبه عالي:
- رآنا؟! .. هل رآنا؟! .. لقد انتهيت!!
- أطبقي فمك هذا!!
هدر بها الآخر بسخط وبعربية شحيحة، بينما يحاول السيطرة على أدهم الذي كان يكافح بين يديه بشراسة .. ليضيف ووجه يعتليه الغضب:
- يجب أن نخلص منه!!
- ماذا؟!
بُهتت ملامح سمر وذهب لونها، لتبتلع ريقها وهي تردد بهلع:
- لا لا .. ماذا تقول؟! .. هل تريد قتلي واللعنة؟؟ .. مصطفى سيقضي عليّ إذا اصاب ابنه خدش، فما بالك عندما يموت؟؟ .. سيقتلني!! .. انسى تمامًا هذه الفكرة!!
احتدمت ملامح الرجل، وأخذت طور أجرامي يناقض وسامته الغربيّة ليزغرها وكأنها مجنونة:
- وماذا سيفعل عندما يخبره هذا اللعين بما رأى؟! .. سيقتلك ويقتلني أيضًا ايتها الغبية!!
- تبا، أصمت الآن، ودعني افكر!!
تفقدت ساعة يدها، لترى أن التدريب بقى ٢٠ دقيقة على انتهاءه، ليأكلها القلق أكثر .. هذا يعني أن مصطفى سيكون هنا خلال هذه المدة، وربما قبلها ايضًا، فأحيانًا يرغب في رؤية طفله أثناء التدريب .. انها هالكة!!
قبضت على شعرها الأشقر القصير تجذبه برفق لتستجمع ذهنها وتضع خطة بسرعة، وفي اللحظة التالية كانت ترمق أدهم الراقد ارضًا بين يدي عشيقها وبدى أن الأخر سيقتله خنقًا دون أن يدري .. لذلك سارعت تجثو أرضًا جوار الصغير وتهتف بالآخر:
- أبتعد عنه واتركه لي!!
- لو تركته سيصرخ وسينتهي أمرنا!!
أعترض الرجل، لتأمره مجددًا بحده:
- قولت أتركه لي وأرحل، لا وقت لدينا.. سأتدبر أنا أمره!!
حدقها الرجل بانفعال مخالط بالشك، ولكن بالنهاية ذهب، طالما سيخلص بنفسه من هذه الورطة، لا يهم حقا ماذا ستفعل .. فالأهم هنا، هو إثبات وجوده بمكانٍ آخر، تحسبًا إذا جَدَّ فالأمر شئ .. ففي الحقيقة، هو ليس لديه أي استعداد لأن يخسر فرصة عمله الذهبية هنا من أجل عاهرة مثلها!! .. تابعته سمر بعينها وفور أن تأكدت من اغلاقه للباب خلفه، التفتت لأدهم الذي كان يزحف من خلف ظهرها ببطيء جهة الباب .. وبسرعة لبؤة متمرسة انقضت عليه لتطرحه ارضًا من جديد، وقبل أن يصدر صوت كانت تكمم فمه، وقد اتقدت عينها ببريق شيطاني أربد خلايا جسده، ولولا أنه اعتاد دخول الحمام قبل التمرين، لفاضت مثانته الآن من فرط الرعب الذي يعيشه:
- هل ستكون طفلٍ هادئ أم أناديه مرة أخرى ليقتلك كما أراد؟؟
هز الصغير رأسه بهلع وفاضت عينه بدموع لم يبذل قدرها في حياته، ولا حتى حين وفاة والدته!! .. رفعت سمر حاجبها المنمق بتحذير مكثف:
- سأرفع يدي الآن، لا أريد أن أسمع صوت، ها؟؟
أومئ لها بتأكيد مفرط، لتبعد يدها عنه في لحظتها .. لهث أنفاسه بصعوبة والعرق يتصبب من كامل وجهه ليختلط بدموعه فصار كلوحة عن المعاناة، وسعاله الشديد بعدها كان أكبر دليل .. بينما سمر كانت خلافه، وميض عُشب عينها أثبت قوة موقفها، فسريعًا كانت قد رتبت أوراقها ووضعت خطة -ليس فقط لإنقاذها- بل لجعل أدهم خاتمها السحري للاستيلاء على أموال الشاذلي الكبير!!
مررت أصابعها الباردة على وجهه لتمسح دموعه وعرقه، أو ربما لتزيدها؛ فقد كان يرمقها برهبة كبيرة، وفي خِضم هذا باغتته بسؤال غير متوقع:
- مَن أنا أدهم؟؟
توترت ملامحه المرتعبة من سؤالها، ولم يفهم مقصدها .. لذلك سحبته سمر من رقدته وأجلسته أمامها لتصيغ سؤالها مرة ثانية بنبرة أكثر لينًا، تثق أنها ستُجدي مع طفل:
- أقصد كيف تراني؟؟ .. هل تراني كـ(ماما) أدهم؟؟
هنا، آثر الصمت، ونكس رأسه بدافع الخوف .. بداخله، كان يعلم أن الاجابة لن تروقها .. لم يكن طفل ساذج أبدًا، ولحظِه السيء، كانت تدرك هي هذا!! .. لنقُل أن ذاك تحديدًا سلاحها الذي ستلعب عليه .. وبرفق شديد رفعت رأسه لتقابل عينه الداكنة التي تتلألأ بدموع تُحِيلها لكُتلة حمراء، بينما يزم شفتيه ويقوسها ليوقف نوبة البكاء القهري التي تعتريه، ومع هذا يفشل فلا تزيده إلا ارتعاشًا .. وهذه المرة استعملت معه نبرة أشد نعومة من سابقيها لتحثّهُ على الإجابة:
- أخبرني أدهم ولا تخف .. لن أؤذيك صدقني، وسنعود للبيت بعدها .. فقط أصدقني القول ولا تكذب!!
- أبي يخبرني بهذا لكن .. لكن لا أحد مثل ماما!!
زفرت بحقدٍ حالك، لو صُوّر كلهيب مارد لتفحم الصغير أمامها، صرّت أسنانها لتكبت غيظها، فبالنهاية كان هذا مُرادها من السؤال .. ليست أول مرة يقولها لها، فمنذ اليوم الأول لها بالمنزل، سألته أن يناديها (ماما)، قابلها أدهم بعدائية صريحة لا تتناسب مع ملامحه الطفولية الهادئة، مرددًا الجملة ذاتها، وكأنه يخبرها أن هذه المنزلة مُحرمة عليها وعلى غيرها، فلا تتجرأ مرة أخرى وتطمع بها!! .. لهذا، ليس لأحد الحق أن يلومها فيما ستفعله الآن!!
لقوة نظراتها اللئيمة التي كانت تبُثهُ إياها، ظن أنها قد غضبت كعادتها، لذلك بهمسٍ مرتجف سألها:
- هل ستقتلينني؟؟
ابتسمت سمر داخلها، فعلى ما يبدو ان خطتها ستسير على الخُطى الصحيحة، رفعت غِرته الفحمية التي تبللت بندى جبينه، ثم سألته مدعية الجهل:
- ولمّ سأقتلك؟؟
قرع الخوف داخله أكثر وهو يجيبها ببديهية:
- لأنني رأيتكما!!
تابعت سمر ومازالت أصابعها تمسح على شعره:
- وماذا رأيت؟؟
تردد أدهم في اجابتها هذه المرة، خاصة وقد رأى المكر يبيّتُ في عينيها، ولكنها استقطبته في الحديث بينما تمسد شعره وتنزل أصابعها على سائر وجهه وحتى رقبته:
- ها أدهم، اسمعك .. أخبرني ماذا رأيت؟؟
- رأيتكما بدون ملابس..
- وماذا كنا نفعل أيضًا؟؟
- لا .. لا أعرف .. أشياء خاصة بالكبار!!
قالها بسرعة وبلجلجة مشبعة بخجل طفولي، بينما يوصد عينه بقوة .. لترتسم ابتسامة شر واثقة على وجه الأخرى وهي تستدرجه برويه أكثر:
- وبرأيك، هل هذا شيئًا سيء، أدهم؟؟
أومئ لها بعد فترة دون أن يفتح عينه حتى، لتأخذ هي قرارها في ثانية .. وفي الثانية التي تليها، كانت تعتدل واقفه ومن ثم عادت لتخلع ملابسها .. مجددًا!!
❈-❈-❈
في موعده، وصل مصطفى واتجه مباشرةً قاصدًا مجمع السباحة .. وفي طريقه لهذا، لمح سمر آتيه من بعيد، تمسك بيمينها يد ابنه .. فتوقف في انتظارهما، وعلى الفور أقبلت عليه هي تقبله دون حياء بالعلن، فسبقها يلثم جبينها ثم انحنى ليرى طفله الذي تأخر في الارتماء بحضنه على غير عادته .. كانت أول مرة لمصطفى يرى بها ابنه على هذه الهيئة، يقف بعيدًا عنه نوعًا ما، يخبئ وجهه بالأرض، وكل خلجاته تنضح بالخزي .. صاعقة بالنسبة له، أدهم الذي يقفز عليه ويطوق عنقه ما إن يراه، يتفاخر بتملّكه، يقف جانبًا ويتجنبه كأنه لا يراه .. ما الذي يحدث هنا بالضبط؟!
هذا السؤال وجّهه لسمر، التي أكتفت بوضع نظارتها السوداء وهي تعوج فمها مدعية الاستياء:
- آه، مصطفى .. لو تعلم ما فعله أدهم اليوم؟؟
هنا فقط رفع أدهم عينه بفزع لها، لا يصدق أنها ستخبر والده حقًا، ليصطدم بعين والده المندهش، فارتجف جسده لاإراديًا، وقبل أن يعود لتحاشيه، انحنى مصطفى ليجذبه بحنوٍ له بين ذراعيه، ومن ثم سأله برفق:
- ماذا حدث أدهم؟؟
حسنًا .. دعنا نفكر، ما الذي حدث؟! .. فهذا سؤال سهل ممتنع، لقد حدث الكثير بالفعل، فأي شئٍ بالتحديد تقصد؟! .. هل تقصد مشاهدته لـ(سمر) عارية ببن أحضان ذلك الرجل .. أم تقصد الجدال المحتدم بينهما حول قتله، بل ومحاولة قتله بالفعل؟؟ .. التهديد، الرعب الذي عاشه خلال ثلث ساعة مرت عليه كالضهر؟! .. ورجاءً لا تخبرني أنك تقصد ما فعلته سمر بالأخير!! .. وأجبرته هو أيضًا على فعله!! .. ليختتم كل هذا بكلماتها التي مازال صداها يطنّ بين جانبيات روحه:-
"أنت .. قذر .. هل تعرف ماذا فعلت الآن؟؟ .. بالتأكيد تعرف فأنت قد شاهدته من قبل!! .. أنت قمت للتو بما فعله ذلك المدرب .. وكما قلت منذ قليل، هذا شئ سيء جدًا، لذا دعني أخبرك أن والدك لن يكون سعيدًا عندما يعلم بهذا"
"سيقتلك!!"
"هل سمعتني، سيقتلك!! .. أقل شئ سيفعله هو رميك بالشارع كالقمامة .."
"سيفعل صدقني حينما يعرف بأنك قد خُنته مع زوجته .. أنت قولتها، انا لست والدتك .. لذلك ماذا سيفعل بما فعلته معي، سيكرهك أكيد، مَن سيحب ولد سيء، فاسد مثلك .. لن يسامحك أبدًا، لأنك .. خـائن!!"
خـائن..؟!
كلمة ثقيلة .. آنى لطفل أن يفقه ماهيتها؟؟ .. ورغم هذا، وقْعِها وحده، كان كفيل بأن يملئ قلبه النقي بآثامٍ لم يرتكبها!! .. يُوصمه لعمرٍ قادم لم يبدأ بعد!! .. كل الثوابت التي تعلمها حتى الآن ليس بها هذه الكلمة .. كل ما يعلمه عنها انها عكس الأمانة .. فأي أمامه يا ترى قد أضاعها؟؟ .. ومتى حملها بالأساس؟؟ .. الأمانة تعني له الصدق، وهو كاذب الآن، بالتأكيد كذب مرة .. لأول مرة .. وعلى ما يبدو أنه سيكذب كثيرًا!!
حلقه آلمه لدى استدعاء هذه الذكرى، وكأنه يبتلع به حجرٍ جاثم هناك .. ومن بعدها، غامت حدقتيه بسحابة جديدة من الدموع، التي على ما يبدو أنها ستصبح رفيقة دربه من اليوم .. اليوم الذي تهدمت فيه بُنيان عالمه الصغير، وتحول في لحظة من طفل لكهل، يحمل عبئ يأبى حمله الرجال .. اليوم فقط تذوق مرارة الشعور باليُتم .. أن تقبع وحيدًا في ركن مظلم، تنتظر أي عابر يبدد هذا الظلام .. الظلام الذي يهدد بالتهام روحه، نعم، اليوم فقط، كان شديد الفقر لنور .. وليس أي نور ..
بل نور .. والدته!!
عندما رأى مصطفى هذه العبرات لم يتردد أبدًا في غَمر ابنه داخل صدره، تلقائيًا شعر قلبه بأن الأمر له علاقة بوالدته .. أدهم لا يبكي إلا عندما يشتاق لها أو يسمع سيرتها .. لهذا تمتم له قرب أذنه:
- اشتقت لها، أليس كذلك؟؟
وكأنه ضغط على قلبه، لينفجر الصبي بالنحيب بلّوع .. أجل، هذا ما يفتقده .. هو يحتاج نور .. يحتاجها بشدة!! .. وعلى ما يبدو أن هذا لم يعجب أبدا "سمر"، التي كانت تشاهد ما يحدث بينما تكز اسنانها بغيظ، وقد أوشك كل ما فعلته على الفشل .. ذلك الطفل الكهيّن!!
سارعت بإفساد مخططه كما اعتقدت قائله بنزق:
- دعك منه مصطفى .. الأمر وما فيه أنه يحاول التغطية على فِعلته اليوم!!
حدجها مصطفى بنظرة استهجان لم تراها من قبل، لكنها لم تتراجع وأكملت عازمة على ما عقدته:
- ما سمعته صحيح .. تصوّر أنه تهرّب من التدريب اليوم ولم يحضره؟! .. وليس هذا فقط، بل وكذب على المدرب وأخبره انه كان بصحبتي!!
توسعت عين مصطفى بعدم تصديق ورغم هذا التفت للصبي يسأله:
- هل هذا صحيح أدهم؟؟
ولصدمته، أومئ له بخنوع واذلال .. تبا، ماذا يحدث؟! .. لم يكن يستوعب أن أدهم بذاته فعل هذا، هناك شيئا ما خاطئ:
- لماذا فعلت هذا؟؟ .. هل ضايقك أحدهم؟؟
ارتعشت شفتي أدهم بارتباك وخوف واضح، ولم يجرؤ على النظر لوالده .. خزي شديد يحتله ويقيد كيانه .. لم يكن بالشيء الهين أن يصدّق على هذه التُهم، لم يكن من السهل عليه مطلقًا أن يقف أمامه والده، في ركن الطفل السيء .. لم يكن أبدًا هكذا، إلا أن هذه التُهم كانت أفضل كثيرًا مما فعله!! .. ماذا حدث ليصل هنا؟؟
ماذا يحدث عن حق؟؟
والأهم من كل هذا، ماذا سيحدث؟؟
وبمشقة تمالك نفسه واستطاع النطق ليجيب والده:
- لا أريد حضور هذا التمرين .. لا أحب السباحة!!
بالكاد افاق مصطفى من ذهوله، واعتدل واقفا ليستجوب سمر نبرة صارمة نادرًا ما خاطبها بها:
- وأنتِ.. أين كنتِ حينما حدث هذا؟؟
فتحت سمر فمها باستغراب من هذا التحول المباغت والغير مُعد.. وبتلبك قالت:
- كنت .. كنت بالكافيتريا لحين ينتهي التدريب!!
علا صوت مصطفى بطريقة افزعتها وجعلتها تتلفت حولها خجلا من العيون التي صُوّبت عليهم:
- ماذا؟؟! .. تركتيه يحضر التدريب وحده؟؟ .. كيف تفعلي هذا؟؟ .. من المفترض أن تجلسي كأي أمّ، تحضر التدريب رفقه ابنها .. أنتِ هنا من أجل هذا، من أجله!! .. أنا لا أخصص لكِ سيارة بسائق كل يوم، كي تجلسي بالكافيتريا، لتستمتعي بوقتك وتتركي أبني!!
طأطأت رأسها وتقربت منه تناشده همسًا:
- مصطفي، أخفض صوتك من فضلك .. الجميع ينظر لنا!!
- تبًا لهم ولكِ، لا أهتم!! .. ما يهمني هو ابني!! .. سمر هانم، إذا كنتِ قد نسيتِ، فهذه هي المهمة التي تزوجتك من أجلها!! .. رعاية أبني .. فقط!! .. ما حدث اليوم من مصلحتك ألا يتكرر .. مفهوم؟!!
تحاشيًا لتوسع فضيحتها وجذب المزيد من الأنظار الشامتة، أومئت له بطاعة كي يرتجع ويصمت .. حسنًا .. في الحقيقة هو لم يكن بحاجة لأن يُوغِر صدرها جهة الطفل أكثر، ولكنها كانت ممتنة لما حدث، سيكون هذا حُجَتها في تبرير كل جرائمها السابقة واللاحقة .. هذه العائلة لا تستحق ذرة ندم، هل سمعتِ سمر؟!.. الشهور القليلة التي قضتها هنا جعلتها تتأكد أن هذه العائلة تستحق فقط ما تفعله تمامًا .. تستحقه بجدارة .. كان من الممكن أن تكتفي بما فعلته اليوم، كحلٍ لإنقاذ موقفها، لكن حديثه الأخير وعدم مبالاته بكرامتها أمام المجتمع، جعلها تقسم بأنها ستعمل جاهدة نحو هدفٍ واحد .. أن تراه أمامها، ويُدمي عينه من الحسرة على وحيده المدلل!!
❈-❈-❈
بالأيام اللاحقة، عاد أدهم ليمارس حياته بصورة عادية وكأنه شيئًا لم يحدث .. طوى ذكرى ذلك اليوم بجزء بعيد من ذاكرته، ربما لأنه بنسبه كبيرة لم يعي جوانبها، وربما لأنها كانت أكبر من إدراك عقله الصغير .. وبينما كانت مريم منشغلة بالإشراف على بعض الأعمال المنزلية اليومية، جلس هو أمام التلفاز يقلب بين قنواته بملل كبير، لا شئ يسترعى انتباهه، ولا حتى البرامج الكرتونية التي يستهويها .. فجأة فقد شغفه بكل شئ بعد أن عاقبه والده بالحرمان من الذهاب للنادي لمدة غير معلومة .. حسنًا، الحقيقة لم يكن هذا الشيء السيء، بالعكس فقط أسعده هذا وساعده نوعًا ما على طمر آثر هذا اليوم وتجاوزه .. فقط ما يحزنه هو غضب والده منه، كان يختبر هذا لأول مرة .. وصدقًا كان هذا أسوأ شعور يعبره!!
استرق انتباه بين تمريره السريع هذا مشهد حميمي في فيلمًا ما، وعلى عكس ما اعتاد ان يفعل، وجد نفسه يستبقي القناة التي تعرضه ويركز في تفاصيل المشاهد المختزلة .. وبشكل لاإرادي، كانت هناك مشاهد أخرى تُعرض داخل ذهنه .. مشاهد مختزلة لذلك اليوم الذي ظن أنه قد تخطاه .. ورغم أن ذاكرته لم تسعفه في تخزين كامل الأحداث حينها إلا انه انتقى من بينها ما هو أشد وطأة وتأثير على روحه!!
غامت عينه في مشاهده ذلك الرجل النصف عاري يقبل المرأة التي معه على الفراش، وبالجانب الآخر من عقله، كان يتذكر جسد سمر التي تعرّت أمامه بالكامل .. وعرّته هو أيضا!!
الحقيقة، لم تبذل حينها أي مجهود سوى في نزع الروب، فلم يكن يرتدي أسفل سوى لباس السباحة .. قبلاتها الدافئة له كانت تشبه ما يراه الآن، بل كانت أقرب لم رآها تفعله مع ذلك المدرب الأجنبي .. وأجل، تحسسن جسده كما تحسست جسد الآخر .. ولم تكتفي بهذا، بل أجبرته على لمسها هو أيضا .. لمس جسدها العاري، ولمس مفاتنها .. احتضنته ولم يكن حضنها يشبه أبدًا حضن والدته، بل كان يشبه ما يشاهده الآن بالفيلم .. جرت دموعه حينها كما لم يفعل من قبل، لكن صوتها المتأوه بسخرية كان له الأثر الأعلى وغطى علما عداه، ولكلماتها السلطة النافذة على روحه!!
- أدهم .. ماذا أخبرتك عن هذا؟! .. أغمض عينك ولا تنظر!!
كان منغمس تمامًا فيما يراه، حتى فزعته مريم فشعر وكأنه قد قُبض عليه بالجُرم المشهود .. لكن سرعان ما وجد نفسه يطرح السؤال قبل حتى أن يعي:
- لماذا؟؟
كانت مريم في طريقها للعودة لما تفعله، وأستوقفها سؤاله، فعادته له:
- ماذا؟؟
كرر أدهم سؤاله هذه المرة بجرأة أكبر:
- لماذا لا أنظر؟!
قوست جبينها بحدة:
- لأن هذا عيب!!
لهجتها كانت قاطعها، رمت جملتها وتركته، لكنه لم يفهم بعد، هناك شئ بعينه يريد أن يصل له، فأضاف بينما يتبعها:
- شئ سيء؟؟
أجابته مكملة سيرها:
- نعم، ولا يصح أن تنظر له!!
- أو افعله؟!
هنا فقط اصابتها الصدمة وتوقفت تنظر له بتجهم:
- بالطبع، أدهم .. هل تسأل؟! .. الأطفال الجيدين لا يفعلوا هذه الأشياء، ولا يتحدثوا عنها؛ لأنها عيب وحرام .. ربنا سيغضب منك، هل سمعت؟؟
الإجابة كانت صريحة وأكثر من كافية .. كل شئ أصبح واضحًا الآن، ما فعله كان شئ سيء وشنيع عن حق!! .. مريم غضبت، إذا بالتأكيد سيكون رد فعل والده أسوأ .. وليس فقط والده، بل الله أيضا .. وهكذا نور ستعرف!! .. ومن الممكن أيضا أنها قد رأته!!
أليس هي ترانا، ونحن لا نراها؟!!
باليوم ذاته، مرض أدهم كثيرًا، لازم الفراش وامتنع على الأكل .. بينما كانت مريم تجالسه، وتحاول أن تفهم ما يشكوه، إلا إنه لم يكن يفعل شئ سوى البكاء .. البكاء بإلتياع، وكأنه فقد أمه مجددًا!! .. وهذا ما كان يردده، انه يريد أمه .. لا يحتاج غيرها .. فهي الدواء الشافي لكل ما يعانيه.
حتى آتى والده ليتفقده بعد أن عاقبه بأن يلتزم غرفته لبقية اليوم، لكن لم يعتقد أن تسوء حالته هكذا، لم يرد أن يقسوا عليه، فمنذ أن رحلت نور، ولم يتفارقا أبدًا، بل تعاهدا على ألا يسمحا بحدوث هذا، ولذلك لم يصمد أمام بكاؤه، وراح يحايله ويطمئنه، ولمّا استمر الحال، استدعى له الطبيب .. كان يشعر بوجود خطبًا ما، لكن كلما ألح عليه بالسؤال، لم يكن ينطق سوى بعبارة واحدة:
"أريد أمي..!"
بعد الكشف عليه، طمأنه الطبيب بأنه لا يعاني مرض جسدي، كل ما في الأمر أنه يحتاج المزيد من الاهتمام والرعاية المكثفة.
قرب مصطفى كوب من الحليب الدافئ من أدهم:
- هيا، أشرب هذا .. فقط القليل!!
بإعياء هز رأسه برفض وعينه قد تعبت من البكاء، وهذا ما أعجز مصطفى وأرهق قلبه ليهمس له:
- ماذا بك أدهم؟؟ .. أخبرني .. ماذا تريدني أفعل كي تكون بخير؟؟
هنا فقط تعلقت عيني الصغير به وبرجاء مضجع أخبره بينما يرتمي بحضنه:
- ابقي معي الليلة كما كانت تفعل نور!!
أغلق مصطفى عينه بتعب، ما يفعله كان يشطر قلبه، ليقول بنبرة تحمل بعض الاستياء بينما يعيد على مسامعه الحديث ذاته:
- ماذا قُلنا أدهم؟؟ .. كُف عن التصرف بصبيانية، لقد أصبحت رجلًا!!
وهذا لم يفعل شئ سوى أنه زاد الطيّن بَلّة .. وأوسع الشرخ بداخل روحه أكثر .. هو لم يعد طفل، صار رجلاً .. يعني أنه ما قالته سمر صحيح، وما فعله لا يفعله سوى الكبار .. والده يراه من الكبار .. شحذ صوته وبنبرة باكية سأله:
- هل تعني أني أصبحت كبير الآن؟؟
لم يعي والده للحظة ما وراء السؤال، فبالمرة الأولى التي أخبره هذا، كان للجملة وقع السحر في تسكين بكاءه .. أما الآن، فزادته أضعاف، ورغم استغرابه أومئ له، لتشحب ملامحه أكثر وأكثر وقبل أن يستفهم منه عن ذلك سمع سمر تنادي عليه:
- مصطفى، هيا .. سنتأخر على الحفل!!
- لن أذهب
أجابها على الفور بلهجة قاطعة دون تفكير .. لتتشنج هيئة سمر:
- ماذا؟! .. أنت وعدتني!!
- أذهبي أنتِ إذا شئتِ، سأبقى مع أدهم!!
- وما به أدهم لتبقى معه؟!
سألت ولم تخفي استهجانها مما يفعله، ألن ننتهي أبدًا من حوار هذا الولد!! .. زجرها مصطفى بغضب، لتخرس، ودهاء أفعى كانت تتحرك صوب أدهم الذي كان يستوطن ذراعي مصطفى، لتنحني عليه مُدعية أنها تتفقده، ثم قبلت جبينه كأي أم تتجسس حرارة ابنها بشفتيها .. ومن ثم تشدقت بسماجة وهي تجلس بجانبه ممسكه بكفه:
- ليس به شئ، أنه بخير .. أليس كذلك أدهم، هل تحتاج بابا بجانبك؟؟
لمستها .. لمستها جددت عليه التجربة ذاتها .. نفر منها وتلقائيا انصاع لتهديدها الضمني، ويؤكد على قولها بهمسٍ شحيح، يريدها فقط أن تبتعد وترحل:
- لا بأس بابا، أذهب..!!
تأمله مصطفى بتشكك، فاغمض أدهم عينه ليتصنع النعاس، حيلته الوحيدة:
- انا بخير، أريد النوم!!
❈-❈-❈
I only wanted to have fun
كل ما أردته هو بعض المرح
Learning to fly, learning to run
أن اتعلم الطيران، اتعلم الجري
I let my heart decide the way
تركت قلبي يهديني للطريق
When I was young
حينما كنتُ يافعًا
Deep down I must have always known
في أعماقي لابد أني كنت أعلم
That it would be inevitable
أن هذا الأمر محتوم
To earn my stripes I'd have to pay
لكي أنال ما ابغي يجب أن أدفع الثمن
And bear my soul
وأن أجرّد روحي
I know I'm not the only one
أعلم أنني لست الوحيد
Who regrets the things they've done
النادم على أمور فعلها
Sometimes I just feel it's only me
أحيانًا أشعر انني الوحيد
Who can’t stand the reflection that they see
الذي لا يحتمل الافكار التي تمر بخاطره
I wish I could live a little more
أتمنى أن اعيش أكثر قليلًا
Look up to the sky, not just the floor
انظر إلى السماء وليس فقط إلى الأرض
I feel like my life is flashing by
اشعر أن حياتي تمر كالومضة
And all I can do is watch and cry
ولا أملك سوى أن اشاهد وابكي
I miss the air, I miss my friends
أفتقد النسمات ، افتقد اصدقائي
I miss my mother, I miss it when
أفتقد أمي، افتقدها حينما
Life was a party to be thrown
كانت الحياة مجرد حفلة تُقام
But that was a million years ago!
لكن ذلك كان قبل مليون عام مضى!
A million years ago!
مليون عام مضى!
❈-❈
يتبع