-->

الفصل التسعون والأخير - الجزء الثاني - شهاب قاتم



 


 - الفصل التسعون والأخير -

الجزء الثاني

     

~ أريحيني على صدرك 
لأني متعب مثلك 
دعي اسمي وعنواني 
وماذا كنت 
سنين العمر تخنقها دروب الصمت    
وجئت إليك لا أدري لماذا جئت 
فخلف الباب أمطار تطاردني 
شتاء قاتم الأنفاس يخنقني 
وأقدام بلون الليل تسحقني   
وليس لدي أحباب 
ولا بيت ليؤويني من الطوفان 
وجئت إليك تحملني 
رياح الشك.. للإيمان 
فهل أرتاح بعض الوقت في عينيك 
أم أمضي مع الأحزان؟

..

(فاروق جويدة)

     


خرج كلاهما في اتجاه سيارة "سيف" الذي كان مصدومًا وهناك آلاف من علامات الإستفهام التي تلوح بعقله غير قادر على استيعاب تلك الكلمات التي استمع لها، سواء من جده نفسه أم من والد فتاة شعر بالإعجاب نحوها للتو!

لم يكن يتصور أن مجرد ذهابه خلف فتاة محاولًا أن يتجاذب معها أطراف الحديث قد يتحول ليُصبح حديث غريب بماضي لا يعرفه ولا يعرف متى حدث بل وكيف حدث!

لم يستطع منع تلك التساؤلات التي لاحت بعقله وأخذت تتواتر دون توقف مما دفعه للتوقف عن أخذ الخطوات بصحبة جده ثم التفت ليسأله:

- جدو.. أنا مش فاهم أي حاجة من اللي حصلت! مين شهاب ومين فيروز.. وإيه علاقة خالتي أروى بالموضوع؟ أنا اسمع إنها اختفت من زمان أوي يمكن وأنا صغير جدًا، ماما قالتلي كده! بس أنا مش فاهم كلامكم كان غريب اوي وأنت مسكت الراجل بهدلته وتقريبًا هددته! ممكن تفهمني فيه إيه؟

لانت شفتاه بهدوء وهو يتفحص حفيده بملامح يعتريها الخزي والحزن ليُحدثه متسائلًا:

- مش مهم كل ده، كده كده هتعرفه وهنتكلم فيه كتير! بس اللي عايز أسألهولك، أنت لسه عايز البنت دي؟ اقصد حتى لو والدها طلع مش كويس.. أنت لسه قدامك فرصة كويسة إنك تبعد، سيبك من الكلمتين اللي أنا قولتهم لأبوها، بس أنت عايزها بجد ولا مجرد واحدة وعجبتك وهيجي آلف غيرها؟

انعقد لسانه وهو يحاول صوغ الإجابة المناسبة وتجعد جبينه بعدما تطايرا حاجباه ليتحدث في النهاية بقليل من التلعثم:

- الفكرة إني، أنا.. أنا معرفش ده حصل ازاي وامتى بس، جدو أنا.. أنا أول ما شوفتها حسيت إني أول مرة في حياتي أشوف بنت غريبة عني وارتاحلها، عايز اعرفها اكتر واقرب منها وعايز طول الوقت اتكلم معاها مش عارف!

صاحبت جُملته الأخيرة زفرة استشعر الآخر منها حيرته ولكنه أطنب بالمزيد:

- عارف يا جدو لما فجأة تشوف واحدة وتبقى عايزها دايمًا معاك.. تقرب منك، تتكلموا على طول من غير زهق، أنا عارف إن كل حاجة جت بسرعة وهي صراحتها عجبتني اوي غير ملامحها وشكلها الهاديين.. عجبتني لما سمعت كلامها في المقابلة وشوفت قد ايه هي ذكية ومتفوقة..

يمكن كنت عايز علاقتنا متبقاش رسمية بالسرعة دي بس ليه لأ؟ هو مش المفروض الخطوبة اي اتنين بيتعرفوا فيها على بعض بعد ما بيحصل إعجاب في الأول ومع الوقت يا حصل أكتر من إعجاب ما بينهم وحسوا بتفاهم يا إما مينجحوش وبينفصلوا!

ابتسم له وهز رأسه ونظر له نظرة مطولة ليُردف بهمس:

- زيي أنا وليلي يعني!

تريث لبرهة قالبًا شفتاه وتابع مغمغمًا:

- ونورسين كمان.. الاتنين اتجوزتهم بسرعة جدًا! بغض النظر عن الفرق بين الجوازتين!

انعقد حاجباه متعجبًا ثم تسائل:

- تيتا ليلي الله يرحمها؟

أومأ له بالموافقة ثم قال:

- لو على البنت هجوزهالك لو حابب يبقى جواز مش خطوبة بس.. ولو على ابوها متشغلش بالك بيه.. ولو على كل حاجة فأنا هاعرفهالك دلوقتي.. سيبك من كلام الراجل الخرفان الكبير اللي كان بيتكلم من شوية وركز، اهم حاجة تكون متأكد من اللي أنت عايزه! لعب عيال مش هاينفع خالص في الموضوع ده!

تفقده بعينيه التي شابهت خاصته وهمس بتساؤل:

- لو لعب عيال وأنا مش متأكد كنت هاجيبك من مصر لغاية هنا؟ وبعدين هو مين اللي راجل خرفان! أنت لسه شباب يا بدر..

توسعت ابتسامته ثم اخبره بملامح ممتنة:

- انت اغلى عندي يا جدو من إني ادخلك في لعب عيال!

ضيق عينيه وهو يتفحصه ليقول بتنهيدة:

- ماشي يا ابن سليم يا بكاش.. وبطل تقولي يا جدو دي بتحسسني إني هموت بكرة.. تعالى بس نشوف حتة نقعد فيها علشان افهمك هنتصرف ازاي!

     

في لحظة واحدة، لحظة فقط من بين واحد وعشرون عامًا، مرت كلمح البصر، لحظة جعلتها تتيقن أن حياتها بأكملها كانت مجرد كذبة لا نهائية، خداع فوقه خداع وكذبة تليها أخرى..

كذبات تتراكم ولا تتوقف، هل كانت تستحق كل هذا؟ وما الذي فعلته ليكون والدها مجرم يغتصب النساء وعضوًا قديمًا بواحدة من عائلات المافيا الصقيلية؟

ما الذي فعلته لتكون ابنتهما؟ من أين يأتي هذا الصوت بعقلها؟ هي لا تستطيع الإستماع له أكثر من ذلك! صوته الذي يخبرها بكل الحقائق التي اخفاها هو ووالدتها عنها بدأ يتلاعب كهمهمات غير مفهومة بالنسبة لها كموسيقى تصويرية حزينة لحياتها التي كانت عبارة عن كذبة!

رفعت يديها كإشارة منها أن يتوقف عن الكلام وهمست بين دموعها التي لم تجف بعد على وجهها:

- بس.. كفاية اللي عرفته! كفاية أوي، أنا لغاية هنا مش عايزة اسمع حاجة منكم! انتو الأتنين استحالة اصدق فيكو حد تاني! استحالة! أنا أصلًا مش عايزة اعرفكوا تاني!

ارتجفت ملامحها وهي تحاول أن تتناول الأنفاس من بين دموعها وملامحها المصدومة ليُحدثها والدها هاتفًا بها بتوسل شديد بأعين باكية:

- عايزه تتجوزي اتفضلي انا مش همنعك.. حتى لو كان ابن سليم الخولي.. عايزة متعرفنيش تاني انتي حرة.. لكن فيروز عملت كل اللي في ايديها علشان تحاول توفرلك حياة كريمة وتربيكي وتخليكي كويسة بعيد عن كل الماضي اللي ميشرفش أبدًا.. ده حتى استحملتني سنين علشان خاطرك!

متستاهلش منك كده! هي بالذات!

انهمرت دموع "فيروز" في صمت وهي لا تستطيع التحدث أبدًا ونظرت لإبنتها في حزن ويأس من ملامحها التي لأول مرة يتضح عليها النفور الشديد بينما استمعت لها وهي تهتف في غضب منتحبة:

- أتجوز.. جواز ايه بالضبط واقول لهم ان جدكم قاتل ولا مجرم ولا اكذب عليهم زي ما كذبتوا عليا..

ولا لما جدهم الثاني يتعصب و يجيب سيرتك هاقول لهم جدكم الثاني كذاب جواز ايه اللي بتتكلم عنه ازاى اقدر اواجه اولادي في يوم ولا عايزني اكون كذابه زيكم..

ازاى اقدر اواجه حد بحقيقة أهلي سواء سيف ولا غيره.. انا محتاجه سنين علشان انسى اللي عرفته حرام عليكم بجد ما كنتش اتوقع منك كده ولا منك انتي كمان..

تواترت المزيد من الدموع من عيني "فيروز" دون توقف وارتجفت ملامحها بعد شعورها بالعجز وكذلك بأنها قد تكون خسرت ابنتها للابد وفي نفس الوقت حاول شهاب ان يمنع دموعه ولكنه حين تفقده لها وهي تبكي بهذه الطريقة لم يستطع التحمل ليهمس بصوت متحشرج:

- عايزة تكرهيني انا اكرهيني، عايزة ما تعرفنيش تاني ماشي لكن هي مالهاش ذنب.. هي عملت كل ده علشانك علشان تربيكي علشان تكوني انسانة كويسة استحملت اللي ما حدش ممكن يستحمله بعدت عن كل اللي تعرفهم علشان بس تطلعي بين ناس ميقولوش إن أمك ست خاينة.. استحملتني في حياتها حاولت معايا بكل الطرق وكل ده علشان خاطرك في الاخر انا مش مهم ممكن تخسريني للابد بس بلاش تخسريها لأن انا من 58 سنة لو كان عندي ام زيها أو كنت اتربيت زيك، ما كانش زمان ده حالي..

توسلها بنظراته وهو يشعر بالخزي والإنكسار أمامها وهي تتفقده بنظرات ساخطة ولم يتوقف أي منهم عن البُكاء ثم همس وهو ينهض:

- يمكن اتحكم عليا بالمرض ده لأني ملقتش اللي يربيني ولا يقولي صح وغلط.. ويمكن حبي ليكو انتوا الاتنين الحاجة الوحيدة اللي بقيت عايش علشانها.. يمكن متغيرتش في كل حاجة وشهاب الدمنهوري هيفضل زي ما هو، بس اللي اعرفه إن حبك اتزرع في قلبي من غير ما أحس.. كان الحل الوحيد قدامنا اننا نخبي عليكي.. تصبحي على خير يا كاميليا..

اتجه ليُغادر ولكنه توقف بجانب "فيروز" التي نظرت له بإستغاثة من مُقلتيها المحتجبتان خلف دموع لا تنتهي فهي لا تستطيع أن تتحمل مجرد فكرة مواجهة ابنتها وحدها وهمس لها بإبتسامة حزينة وهو يحاول أن يوقف نفسه عن البُكاء بأعجوبة:

- مبقاش لازم تهربي وتخبي اكتر من كده! خلاص كل حاجة اتعرفت..

أكمل طريقه نحو الخارج بتباطؤ وهو يحاول ألا يبكي ولكن ربما اليوم يحق له البُكاء، ولأول مرة هو يبكي لأجل أمرًا آخر سوى علاقته بـ "فيروز".. لم يكن يعلم أنه يومًا ما سيشعر بكل ذلك الحب لإبنته الذي لا يعرف متى وكيف اجتاح كيانه تجاهها!

أوقفته بغتة بعد شعورها بالحيرة وهي تهتف به بتساؤل:

- لو بتقول فعلًا إنك اتغيرت، تقدر تسلم نفسك وتعترف بكل اللي أنت عملته؟ تقدر توافق على السجن بجد مش مجرد سنة تمثيلية؟

التفت لها ثم أومأ بالإنكار واجابها بصوت لا يزال يحمل آثار بُكائه:

- صدقيني أنا اتعذبت بما فيه الكفاية وبعدت عن أي حاجة القانون يعاقب عليها! مش هكذب عليكي انتي بالذات علشان استعطفك واخليكي تسامحيني.. أنا استحالة اعيد تجربة السجن دي تاني، مش أنا يا كاميليا اللي يعمل كده في نفسه! اعتبريه مرض أو اجرام، بس لأ مش هسلم نفسي! أنا أصلًا عايش في سجن كبير حبتين، فمش لازم اربع حيطان ومحكمة في آخر عمري!

     


همس له وهما يدخلان المنزل في محاولة ألا يصنعا أي ضوضاء حتى لا يتم اكتشافهما:

- تصبح على خير!

أومأ له الآخر وتوجه كلًا منهما نحو غرفته فلقد أوشك الصباح على الإنبثاق ليوقفهما صوت "سليم" الذي لم يغمض له عين وبالكاد يتحمل تلك الصدمة التي واجهها منذ ساعات:

- وبتتسحبوا ليه؟ يا ترى جوزتهاله وأنا مش موافق ولا صغرتني تاني قدام شهاب وعايز تاخده بالحضن زي زمان؟

ابتسم "بدر الدين" بسخرية ولكنه التفت ناظرًا إليه بعد أن فتح "سيف" الأنوار وعلم أنه ليس هناك مفرًا من مواجهة والده بالأمر، ولكن الآن لن يتحدث وسيترك زمام الأمور إلي جده، فهو الوحيد الذي لا يرفض له والده كلمة وترقب في صمت بينما استمع لصوته المُجيب:

- بنتسحب علشان منعملش دوشة يا حيلتها واحنا وش الفجر.. ولا مصغرتكش! 

أومأ له ابنه ثم تفقد كلاهما بملامح ساخطة وتحدث بنبرة قاطعة:

- أنا مش هناسب الإنسان القذر ده! وأنت يا سيف لو عملتها عمرك ما هتدخل البيت مع البنت دي! ده غير إنك عمرك ما هتكون عندي زي الأول!

نظر "سيف" نحو جده الذي لحقه بنظرة أدرك معناها وهمس له:

- اطلع أنت نام وسيبهولي!

أومأ بإقتضاب ليتجه للأعلى بينما اتجه الآخر نحو ابنه زافرًا بإرهاق وحدثه بنبرة مُتعبة:

- اقعد يا سليم! اقعد تعبتني أنت وابنك!

جلس كما طلب منه والده ولكنه قال بنفور شديد:

- بابا الموضوع مفيهوش نقاش! 

همهم في تفهم ليقول بتساؤل مستنكر:

- يعني لو أنت رافض ارتباط ابنك ببنت شهاب، فمن باب أولى كنت أنا أو هديل وقفنا في وش جوازك من زينة، مش كده؟

توسعت عينيه بغضب لم يتوقف ولم يخمد بداخله منذ رؤيته لوجه ذلك الرجل الكريه وقال حانقًا:

- يا بابا زينة مكنش ليها ذنب ودي بنت اختك و..

قاطعه بنبرة واثقة متريثًا في تلفظه للكلمات:

- والبنت ملهاش ذنب إن شهاب أبوها.. ولا أنا ليا ذنب في إني ابقى ابن وفاء وصابر، ولا زينة ليها ذنب انها تبقى بنت كريم! ولا أنت كان ليك ذنب تكون ابن بدر الدين اللي كان بيفتري على الناس، ولا نسيت أبوك كان مين وكان بيعمل إيه؟

نسيت عملت إيه في نورسين، ولا كريم اللي من باب أولى زينة كانت تسيبك علشان أنت ابن خالها اللي موت ابوها بالحياة! تفتكر كان من حقها تسيبك ولا لأ؟

نظر له بصدمة وانعقد لسانه لأكثر من مرة وهو لا يجد الكلمات المُناسبة لقولها ليضيف والده بصوته الرخيم:

- البنت مكنتش تعرف اهلها مين، اتصدمت زيها زينا، أنا قريتها في ثواني! شاطرة وذكية ومحترمة وزي القمر.. لو كسرت سيف وموافقتش عمره ما هينسهالك.. هو هيسمع كلامك آه، بس مش هينسهالك! عايز بعد تعبك ورباتك ليه تخسر حتة منه بسبب شهاب؟!

تفقده في حيرة ليبتسم له بوهن ليربت والده على قدمه وقالبخفوت ونبرة اتضح عليها الإرهاق:

- أنا مش هافضل يا سليم عايش طول عمري جانبك.. احنا اصحاب قبل ما نكون أب وابنه، نفسي تكون كده مع سيف.. اطلع صالحه، هيحكيلك احنا اتفقنا على إيه، متجيبش سيرة لحد انها بنت شهاب خالص.. ويوم ما يجوا يقولوا يا جواز يبقى يحلها حلال! مش لازم ابوها وأمها يظهروا.. وكويس أن محدش غيرنا عرف هي بنت مين.. 

ولو أنت قبلتني في يوم وقبلت حقيقتي الله أعلم كاميليا هتقبل شهاب ولا لأ! متخسرش ابنك علشان أي حاجة مهما اختلفتوا! خليك صاحبه يا سليم، هو مبيحبش حد في الدنيا قدك!

أطلق صوت خافت وهو يدفع الأريكة أسفله لينهض متوجهًا لغرفته ثم قال بنبرة مرحة:

- بس بيحبني اكتر منك يا حيلتها، تصبح على خير!

     

لا يعرف حقًا هل يستمع لما يقوله ويفعل كما آمر لأنه والده، صديقه، أم لأن علاقتهما علاقة فريدة من نوعها، أم لأن نوعًا ما يسيطر على كل أفعاله خاصةً مع أبنائه، يعرف هذا الرجل منذ أكثر من خمسون عامًا وفي نهاية كل نقاش ينتصر عليه بكلماته له! ولا يدري ما النهاية لذلك الأمر!

طرق الباب ثم دخل بتلقائية ليجد ابنه واقفًا بالشرفة فتلاقت اعينهما ليتجه نحوه متحدثًا بنبرة اخبارية وضيق حاول التغلب عليه ولكنه فشل به تمامًا:

- بنت شهاب يا سيف! بين امريكا ومصر ملقتش غيرها! وتقولي تستورد ونبعد عن القرايب في الآخر رايح تلف وتجيبلي واحدة من العيلة الهباب دي!

تفحصه بنظرات لا تنفك تُذكره بوالده ليتسائل بشبح ابتسامة:

- جدو اقنعك مش كده؟

عقد حاجباه وشرد بتفكير ثم اعاد نظراته إليه واجابه بإستياء:

- يعني مقتنعتش اوي.. وبعدين أنا لسه مش بالع خطوبة بعد اسبوعين دي!

توسعت ابتسامته له ثم سأله:

- مش قادر على بُعدي يا سولم؟

زفر حانقًا ثم جلس على احدى المقاعد القريبة وزجره:

- متهزرش وأنا بتكلم جد! إيه اللي عاجبك فيها أوي، ما تشوف واحدة غيرها!

تجعد جبينه وهو يتفقد والده ليتمتم:

- أنت شكلك عايز تدردش.. ما قولتلك اللي عاجبني فيها!

اتجه ليجلس أمامه وتفقده لبرهة ثم تكلم بهدوء:

- إنسانة جميلة، محترمة، شاطرة، مجتش تتباهى باللي عندها ومكانتش رافعة مناخيرها في السما وهي بتكلم خالو.. وفي نفس الوقت واثقة في نفسها.. واضحة وصريحة، سهلة جدًا وعارفة هي عايزة إيه.. فيها طاقة كده غريبة خلتني عايز أكون معاها طول الوقت!

رمقه بإستخفاف ثم عقب ساخرًا:

- طاقة.. اجوزك لمبة كام فولت وسيبك منها!

ضحك بخفوت بينما تنهد والده ليقول:

- بص، أنا عمري ما اجبرتك على حاجة، ولا عمري هاعملها.. بس اعرف البنت كويس قبل ما تتجوزها.. 

امتعضت ملامحه وتابع على مضض:

- حتى لو هتتخطبوا قبل ما نرجع مصر، بس خد وقتك لأنها لو شبه باباها أظنك هتبعد عنها وأنت طلعان عينك! 

ضيق عينيه متفحصًا والده بأعين مليئة بالتساؤلات وتعجب مهمهمًا:

- أنت خايف عليا منها ولا إيه؟

هز رأسه برفض لكلماته واجابه:

- مش حكاية خايف، أنت متعرفش ابوها كان عامل ازاي وعمل ايه سواء فيا ولا في زينة ولا حتى أروى! خد بالك من نفسك يا سيف ولو حتى حصل خليك معاه بالذات على القد، مفيش داعي تقرب أوي منه!

أومأ له بتفهم وقال معقبًا بتنهيدة:

- جدو حكالي كل حاجة حصلت زمان! 

تفقده بتنهيدة ليهمس في توسل:

- بس بجد يا بابا البنت عجبتني.. أنا عارف اللي حصل صعب بس أنا اخترتها!

أومأ على مضض زافرًا ليقول بقلة حيلة:

- ما دام دخلت جدك في الموضوع من الأول يبقى هيمشي زي ما انت عايز.. 

ابتسم له بمكرٍ وقال بلهجة انتصار:

- علشان كده كنت عايزه يجي معانا، من أول ما أنت استغربت فكرة الجواز عمومًا قولت جدو هو اللي هيحلها.. 

انهمر الغيظ من عينيه ليغمغم متآففًا:

- ماشي يا ابن جدك!

عاتبه بنظرات متوسلة وقال:

- عيب عليك يا سولم ده أنت اللي في القلب..

أشاح برأسه وعقب بسخط:

- بس ياض يا بكاش..

ابتسم حتى ظهرت أسنانه وقال بعد أن غمز له:

- يا فندم أنت اللي مشربني البكش والحنية.. ياللي مفيش حد يقدر يزعل منك أنت يا كبير!

رفع حاجباه ثم اخفضهما وهو يهز رأسه بإنكار ثم سأله:

- اتفقت على إيه أنت وجدك؟

هز كتفاه بتلقائية واجابه متنهدًا:

- مفيش.. قالي إن أنا وهو الصبح، نروحلهم أو نتقابل في أي مكان.. هو عايز يقعد مع مامتها وأنا اصالحها، ونحدد معاد تاني معاهم علشان قراية الفاتحة، بس مش عارف يا بابا والله ازاي هقدر اتكلم معاها خصوصًا بعد اللي أنت وجدو قولتوه! أنت اتعصبت وهو ادى باباها كلام زي الزفت وحاجة صعبة اوي!

أشار بيده كدليل على عدم الإكتراث وعقب قائلًا:

- انتو صغيرين ملكوش دعوة بمشاكلنا، هتعدي.. ابوها مكنش بلسم اوي يعني! مجتش على الكلمتين اللي راجل كبير قالهومله، ولو عليا أنا ابقى اتصرف معاه ده لو ليه عين أصلًا يبص في وشنا بعد كل اللي عمله! 

أومأ له بتفهم ثم تمدد بجسده الفارع في كُرسيه وهو يُفكر مليًا بما حدث وما سيحدث غدًا بينما نهض والده حتى يحصل على بعض النوم فلقد تأخر الوقت للغاية!

     

في نفس الوقت. .

تفقدته بزرقاويتيها وهو يتوجه نحو فراشهما بعد أن بدل ملابسه ولم تبدأ بالكلمات حتى يجلس بالقرب منها وتدرك أنه سيتحدث من تلقاء نفسه وانتظرته إلي أن فعل:

- منمتيش برضو

ابتسمت له وهزت رأسها بالنفي وقالت:

- من امتى بنام واسيبك

تنهد بإرهاق واقترب منها بعد أن تمدد على الفراش وعانقها ثم أراح وجهه على صدرها وقال بنبرة مُتعبة:

- ابنك وحفيدك هيجننوني! اخر حاجة في الدنيا كنت اتوقعها.. كنت أعرف إن شهاب هربان وفيروز ماتت.. بس فجأة كده اشوفهم قدامنا خلوني اتجنن!

عقد حاجبيها وهي تضمه إليها ثم سألته:

- أنت عملت معاهم إيه؟

تريث لبرهة وهو يتذكر كل كلمة نطق بها ثم همس مجيبًا:

- قولتله كلام زي الزفت، تهزيئ ومعايرة وتهديد.. بهدلته يا نوري!

شعرت به يتشبث بها أكثر ثم تابع:

- بس خلاص بكرة يقولوا راجل كبير وخرف وهو مش عارف هو بيقول إيه..

ابتسمت متهكمة ثم همست له:

- اهرب اهرب.. حاجات بتبقى مركز اوي فيها وحاجات تانية بتقول إنك خرفت وكبرت ونسيت ومش واخد بالي وخلقي ضيق..

همهم بزفرة مصحوبة بتآوه مُتعبًا وهمس مُعقبًا:

- لسه بتعرفي تقفشي حركاتي..

مسدت شعره بأناملها وعقبت قائلة:

- لو أنا مقفشتش حركاتك مين يعرفك قدي، وبعدين هتعكل إيه في موضوع سيف..

همهم وهو يتحرك برأسه ليحاول الحصول على وضع مريح وقال بنعاس:

- الصبح هروح اقعد مع فيروز ونتكلم بالهداوة وهو يروح يصالح البنت بكلمتين حلوين، ياما اللي بيحبوا بعض بيسامحوا.. ولا انتي شايفة ايه؟

قلبت شفتاها ثم اجابته بنعاس هي الأخرى:

- ممكن يسامحوا.. بس لو بيحبوا بعض اوي وده لسه عارفها من يومين!

استشعرت ابتسامته بزفرته الخافتة في ظلام الغرفة واستمعت لصوته المتسائل:

- انا عارف إن انتي سامحتيني، بس ايه اللي خلاكي تسامحيني؟ ازاي قدرتي تعمليها؟

زفرة مطولة اجتاحت هدوء غرفتهما ثم همست له:

- يااه يا بدر، أنت جاي تسألني السؤال ده دلوقت بعد ما عجزنا خلاص؟

همهم لها لتبتسم بإنكسار وتابعت:

- لما شوفتك زمان كان فيك حاجات طول عمري كان نفسي فيها ملقتهاش من وأنا صغيرة، خوفك اوي على عيلتك، كنت خايف على زياد مني، وأنا مكنش عندي اللي يخاف عليا.. عارف.. مكنش ليا الضهر والسند، عمري ما كنت برتاح ليُسري جوز ماما وهي كانت دايمًا طيبة معاه.. 

مكنش عندي الأخ ولا الأب ولا حتى القريب اللي يعمل دور أب! مكنش عندي العيلة الكبيرة ولا حتى ماما الله يرحمها كانت زي ماما نجوى، لقيتك أنت وشاهي وماما بتعوضوني، لما دخلت بيتكو وشوفتك، كنت عايزة جوايا حد زيك جنبي، كنت بسأل نفسي كتير عنك ومكنتش بفهم كل حاجة بس لما كبرت فهمت إني كنت معجبة مش أكتر.. بس الكلام ده قبل ما يحصل اللي حصل زمان! 

شعر بالحزن لما يستمع له وسأل بصوتٍ مهتز في توسل:

- انتي بجد سامحتيني؟ كل قسوتي عليكي وكل اللي عملته، كل ده متأكدة إني لما أموت هتبقي مسامحاني ولا هتقولي ده كان قاسي عليا؟

اخفضت رأسها لتقبل جبينه وهمست له:

- بعد الشر عليك يا بدر، بقى بعد العمر ده كله جاي تقول الكلام ده، مش هقول غير إنه كان احن راجل في الدنيا، وبعدين أنت مش هتبعد وتسيبني، ولا ناوي تعملها زي زمان! 

تناول نفسًا مُطولًا وزفره ليهمس بنعاس وشعرت بكامل ثقل رأسه على صدرها لتعلم أنه قارب على السقوط في النوم:

- مش هسيبك غير وأنا ميت، تصبحي على خير!

ردت مُعقبة بنعاس هي الأخرى:

- وأنت من أهله

     

أحيانًا، أو ربما طوال الوقت، يُفجعنا القدر بما لا نستطيع تحمله، كمجرد فكرة، أو ماضي أليم لم نكن نصدق أنه موجود ولكن في النهاية نُدرك أن هذه حياتنا..

لا تستطيع النوم، لا تستطيع سوى تذكر كلمات والدها إليها، بكاء والدتها، تلك الكلمات التي استمعت لها من "بدر الدين" الذي يفترض أنه جد ذلك الشاب الرائع الذي عجبها وظنت أنها تفعل الصواب ولكن فجعها القدر بأنه ليس مجرد شاب رائع، بل احدى اقربائها من الدرجة الألف.. نجل ابنة عم والدها!

والدها!! الذي اغتصب ابنة عمه الأخرى، المجرم، القاتل الذي كان له علاقة بالمافيا يومًا ما.. رجل الأعمال، أو هذا ما كان عليه.. وهو نفس الرجل الذي انجبها، ولكنه عذب والدتها! 

تلك الأسئلة اللعينة والحيرة بداخلها، الصدمة نفسها؛ لا تستطيع التعامل مع كل ذلك.. حياتها بين يوم وليلة من أفضل والد ووالدة تُحسد عليهما من الكثير إلي أسوأ شخصان على وجه الأرض مفعمان بالكذب!

أكان كل ذلك الهدوء كذبة؟ أكانت حياتها بأكملها مجرد تمثيلية؟ هل كل ذكائها لم يكتشف لوهلة أنهما مخادعان؟ مجرد هاربان من عدة قضايا وفضيحة هائلة؟! 

رفعت شعرها تعكصه للأعلى ثم نهضت من فراشها وتوجهت للأعلى حيث غرفة والدتها ودخلت لتجدها جالسة متكورة على نفسها على كرسي جانبي لتتفقدها بأعين حائرة فتأهبت الأخرى بلهفة وهي تنظر لها بأعين نادمة لتلاحظ عتاب ابنتها الشديد ينهمر من عينيها بينما تبعت عتابها بنبرة منكسرة وهي تتسائل:

- المفروض اننا قريبين واصحاب وعلاقتنا مثالية قدام ناس كتير، مفكرتيش ولو لمرة تحكيلي؟ مفكرتيش مرة واحدة تقوليلي حقيقة اللي حصل بينك وبينه؟ تضحيتك العظيمة مخلتكيش تفهمي إنك بتتستري على مجرم وقاتل؟ مخطرش على بالك ولو لثواني يوم ما أعرف حقيقتكم هتعملي إيه؟

ارتجفت ملامحها بعد أن هبطت دموعها من نبرة صوت ابنتها التي لأول مرة في حياتها تُحدثها بها ثم نهضت وهمست بخزي:

- فكرت في كل حاجة.. كامي أنا عايزاكي تسمعيني، تفهمي كل حاجة! 

ابتلعت بصعوبة بين دموعها وتلعثمت بنطق الحروف التي تغادر شفتاها وتابعت وهي تعقد ذراعيها:

- أنا.. أنا عارفة كل اللي عملته كانت أنانية مني، بس فيه حاجة محدش هيعرفها زيي!

قضمت شفتاها المتخبطتان ببعضهما البعض في مجاهدة منها أن تحاول البحث وصوغ كلمات صحيحة وأكملت:

- شهاب اللي أنا اعرفه مبينساش.. شهاب بينتقم.. وذكي جدًا، أذكى من أي حد ممكن تقابليه أو تعرفيه.. لقيت نفسي قدام إني اختارك واهرب بيكي علشان متعشيش وسط بلد بحالها عارفين قصة باباكي ومامتك، نعيش أنا وانتي لوحدنا بعيد عن كل ده واسجن شهاب بكل القضايا اللي كانت عليه! 

ابتلعت دموعها وهي تنظر لها بخوف وتردد واستطردت:

- بس لما فكرت، وعرفت القضايا، كان، كان هيخرج هيخرج.. مسألة وقت! ده كان اختياري الأول، وحتى لو كنت زيفت إن فيروز عبد الحي ماتت واخدتك وسافرنا، لو كان شهاب عرف في يوم من الأيام إني خبيت عليه حقيقة إنك موجودة كان هينتقم! مكنش هيسكت.. كانت حياتنا كلها بقت حاجة تانية!

توجهت بخطوات بطيئة لنهاية فراشها لتنظر بشرود إلي الأرضية وجلست لتُكمل:

- واختياري التاني إنه يبقى موجود.. يبقى باباكي، يربيكي معايا، قدرت إنك في يوم هتسألي عنه وهتحتاجيه، بس مرضتش يقرب منك غير لما يتعالج.. أنا اخترت الإختيار ده خوف منه.. عارفة المثل اللي بيقولك خلى اصحابك قريبين واعداءك أقرب! هو ده اللي أنا عملته!

رفعت رأسها نحوها وهما تتبادلان النظرات لتجد نفسها تنفجر بالمزيد:

- كان لازم استحمله، أركن خوفي منه ومشاعري على جنب، ذُل إني اخترت راجل كل الإشارات ساعتها كانت بتنبهني إنه غلط.. كان لازم استحمل منظري بالحروق، كان لازم انسى كل اللي عيشته معاه علشانك! علشان في يوم هتقوليلي بابا فين.. فاكرة أول مرة سألتي عنه؟ كنتي صغيرة أوي! مكنش عدى وقت كبير ساعتها! فاكرة؟ كان عندك اربع سنين!

انهمرت المزيد من دموعها وتحدثت بنحيب لتنظر ابنتها إلي ملامحها وشعرت بالحزن لأجلها بينما تحدثت بالمزيد الذي كانت تتمنى لو قصته على أحد منذ أكثر من عشرون عامًا:

- أنا كنت بحضنك وانتي اللي بتهوني عليا كل حاجة، كنت، ولسه بحبك! انتي الوحيدة اللي من غير ما تعرفي حاجة عني اللي كنتي بتهوني عليا.. كاميليا أنا عمري ما كنت اتمنى حاجة غيرطفل.. كنت استحالة أؤذي بنتي علشان تطلع عايشة وسط ناس بيقولوا مامتها خاينة، لو كنت جنب أختي وصاحبتي كنا هنخبي عليكي يوم واتنين وهتعرفي بس يا ترى كان هيبقى عندك كام سنة؟ عشرة؟! تمانية؟! اتناشر؟!

ارتجفت ملامحها لتهتف بقلة حيلة:

- ولو مكونتش هربت شهاب كان هيلاقينا وانتي عندك كام سنة؟ عشرة؟ خمسة؟! شهاب كان اكتر واحد عارف إني اتعالجت.. يمكن اتصدم اول ما صحي من الغيبوبة بس.. بس اكيد كان هيعرف! شهاب بيحبني حب يخنق.. حبه مرضي ومتملك وكان ممكن يوم ما يسيب السجن يدور عليا.. بيلاحظ كل حاجة.. ولو كنت دخلت حد غير معاذ مكنش هيستحمل السجن اللي بجد وأي حد في المافيا كان ممكن يوصله ويخرجه! تقدري تقوليلي كان قدامي حل إيه احسن من كده إنك على الأقل تطلعي بأب وأم وحياة سوية على قد ما قدرت وسط ناس مش هيغلطوا في أهلك؟!

اقتربت لتجلس بجانب والدتها وهي تحاول التفكير بينما اجهشت الأخرى بالبُكاء وهتفت بنحيب:

- أنا يمكن كدبت عليكي في اسمي واسمه، بس مكدبتش عليكي في حبي، مكدبتش وأنا بعلمك الصح والغلط.. حاولت مقصرش في أي حاجة!

التفتت ونظرت لها بتوسل وجسدها يهتز من كثرة بكائها لتهمس بتساؤل:

- لو كنتي طلعتي وانتي عارفة كل ده تفتكري كنا هنعيش بنفس الطريقة؟ لو سبتي إني فيروز عبد الحي ومسكتي في روز جايكوب وفكرتي في أمك، عمرها قصرت معاكي في حاجة؟ عمري اجبرتك أو حرمتك من حاجة؟ حتى باباكي، راي آرون، بغض النظر عن انه متعلق بيكي زي الطفل اللي متعلق بلعبته وخايف عليها من أي حد يقرب منها، عمرك شوفتي منه حاجة وحشة؟ 

تفقدتها ابنتها في حيرة وبكت على بكاؤها وهزت كتفيها كدلالة على عدم المعرفة لتهمس والدتها بقهر:

- أنا بحبك يا كاميليا، وصدقيني لو مكنش ربنا رزقني بيكي كنت سبته للسجن اللي كان هيخرج منه، انتي متعرفيش البلد عندنا وقتها كانت عاملة ازاي، القوانين، الرشاوي، المحامين! أنا بس قصرت الطريق، سجنته سنة بدل الخمسة ستة اللي كان هيتسجنهم ويخرج إن مكنش اقل! حاولت علشان خاطر تطلعي في حياة هادية وطبيعية على قد ما قدرت.. 

أنا آسفة إني كنت أنانية وخبيت عليكي.. بس مكنتش هاقدر استحمل منظرك في يوم وانتي بتتاخدي من حضني، ومكنتش هاستحمل لو عيطتي بسبب كلمة اترمت كده ولا كده عن حقيقتي أنا وابوكي!! أنا مرضتش إنك تتعاقبي بسببي وبسببه.. أنتي مالكيش ذنب في كل ده!

سيطر عليها البكاء بشدة وطأطأت رأسها ناظرة أسفل قدميها وهي لا تدري ما الذي عليها قوله أكثر من ذلك بينما شعرت الأخرى بالغضب الشديد لتصيح بها باكية:

- كفاية يا ماما عياط أرجوكي.. كفاية الله يخليكي!

التفتت لها وهي تحاول كتم شهقاتها بينما عانقتها ابنتها لتتشبث بها "فيروز" بشدة ثم همست بنبرة معتذرة:

- أنا آسسفة، بس مكنش قدامي حل تاني، كنت خايفة عليكي وخايفة تضيعي مني، يا إما شهاب كان هايخدك علشان يحرمني منك ويعاقبني إني خبيت عليه، يا إما كنت هتعيشي في بلد ومجتمع مبيرحموش، كنت خايفة تطلعي معقدة.. كنت خايفة أوي يا كامي.. 

ربتت عليها وهمست لها:

- خلاص طيب بطلي عياط.. أنا محتجاكي أوي يا ماما، مش عارفة أنا كمان هاعمل إيه! مش عارفة اتكلم مع مين!

فرقت عناقهما وهي تحاول التنفس بمشقة بين شهقاتها وجففت دموعها ونظر إلي ابنتها بتساؤل بينما سارعت الأخرى:

- أنا.. أنا مكنتش احب احطكوا في الموقف ده، ولا مش عارفة كان لازم اعرف الحقيقة، ولا.. ولا هسامح بابا ازاي.. وسيف اللي.. 

ابتسمت بسخرية وانكسار بين دموعها وتابعت:

- يا ريتني ما شوفته يومها، يا ريتني ما اتسرعت! 

تنفست من جديد وهي تحاول تناول بعض الأنفاس بعد حرب مُهلكة مع شهقاتها وامسكت بيد ابنتها تشد عليها وهمست لها بتأكيد بقليل من التلعثم بسبب آثار بُكائها:

- بصي.. الناس دي ناس كويسة جدًا.. مامته أنا اعرفها، وجده وجدته، وباباه، كلهم كانوا كويسين! بس لازم تشوفي هو نفسه قد المسئولية وتصرفه هيعمل إيه.. متفكريش في شهاب خالص! أنا هاعرف اتصرف معاه.. أهم حاجة تاخدي قرارك!

تمتمت بُحزن وملامحها بكاملها اعتراها الإنكسار:

- بابا! أنا حتى مش عارفة هتعامل معاه ازاي!

أومأت لها بالتفهم ثم حدثتها بإبتسامة مُقتضبة:

- الوقت هيحل كل حاجة، احنا ملناش ذنب احنا ولاد مين، وما دام مسببلكيش أذى وبيعاملك كويس يبقى هتسامحيه مع الوقت.. هو بيحبك أوي يا كامي.. بيحبك حتى اكتر ما بيحبني!

مطت شفتاها لتتنهد وأردفت بقهر في تعقيب على كلمات والدتها:

- بيحبني علشان شبهك! وبعدين لو الوقت بيخلينا نسامح، كنتي انتي سامحتيه!

ابتسمت لها وأومأت بالإنكار وقالت:

- انتي هتسامحي شهاب علشان ليه عندك رصيد.. حب وأمان واحتواء وبينكو صحوبية جميلة وحتى بتقدروا تفهموا بعض اكتر ما أنا ما بفهمكوا! لكن أنا وهو، زمان كراجل وزوج، شهاب مكنش ليه عندي رصيد غير إنه كان بيتحاول يتغير وفشل معايا وشوهني وشك فيا! 

رطبت شفتاها وهي تحاول أن تتغلب على رغبة بكائها لتهمس بصعوبة:

- مكنش ليه مبرر لكل اللي عمله غير مرضه، تربيته الظالمة.. ولو على المرض حاولت اساعده لغاية ما اتعالج، ولو على التربية اديته فرصة يربيكي.. كامي أنا مش بكره شهاب! الراجل اللي اتغير وبيحاول يعافر علشان يكون أب كويس أنا بحبه! أنا يمكن كمان جوايا ليه مشاعر وفرحة باللي بيعمله علشانك بس..

هبطت دموعها رغمًا عنها لتجد ابنتها تشد على يدها في مؤازرة ودعم بينما تابعت بنحيب:

- بس لو رجعتله اخاف يبقى زي الأول.. أخاف اجرحه اكتر ما بجرحه اصلًا.. لو هو مريض فأنا مريضة بأنانيتي ومثاليتي اللي بحاول احاربهم، احنا كده احسن من اتنين متجوزين وحب هيوجعنا احنا الاتنين.. أنا بحبه زي ما هو كده.. ابو بنتي اللي مفيش اغلى منها في الدنيا عندي.. لكن إني اقربله تاني.. مش هاقدر، مش هاقدر اسامح.. اللي عمله فيا مكنش سهل أبدًا! والله ما كان سهل! 

استمرت في بُكائها لتنظر لها ابنتها في تعاطف شديد ثم همست متسائلة:

- ازاي حبتيه؟ وازاي لسه بتحبيه؟ انتي استحملتي كل ده ازاي؟

تفقدتها بأعين باكية ثم همست بعد محاولات عدة أن تصوغ جملة مُفيدة وسط بُكائها لتهمس بقهر:

- هحكيلك.. كان نفسي احكي اوي لحد.. هحكيلك كل حاجة!

     

مر الوقت وهي تُحدثها كما لم تتحدث مع أحد قبلها، وهي تخرج أعباء ليست بهينة، آلام سنوات بأكملها أخيرًا تستطيع أن تُدلي بها مع أحد غيره هو.. الآن فقط تستطيع مشاركة كل ما مر عليها مع أغلى من خُلق في هذه الحياة لتبوح لها بكل ما آلمها، بحقيقة مشاعرها، وبكل ما تمنت أن تجده يومًا ما ولم تجده سوى معها! 

زفرت براحة بعد أن انتهت وقد أصابت كلتاهما بإرهاقٍ شديد بينما ارتشفت ما تبقى من قهوتها الثانية فلم تنم هي ولا ابنتها لتتنهد في النهاية بينما همست "كاميليا" في تساؤل:

- تفتكري هاقدر اسامحه؟

تفقدتها وهي تومأ لها بالموافقة وهمست لها بإبتسامة:

- انتي بتحبيه وهو بيحبك.. مشوفتيش منه حاجة وحشة.. فترة وهتسامحيه، هو مغلطش فيكي! 

ابتسمت بتهكم ثم قالت ساخرة:

- وقال أنا اللي كنت عايزاكم ترجعوا لبعض! بلا وجع قلب والله! 

قابلتها بإبتسامة ساخرة وقالت لها بنبرة شابهت نبرتها:

- لا ياختي روحي جوزيه! أنا مبرجعش لحد! 

ضيقت عينيها في تفحص لها ثم سألتها:

- يعني بعد كل اللي حكتيه ده لو اتجوز وجت واحدة خدته بعد ما اتغير اوي كده مش هتضايقي؟  

رفعت حاجبيها واخفضتهما بإستنكار وردت قائلة:

- تتهنى بيه والله! هيطلع عينها!

التوت شفتاها في ابتسامة جانبية وكادت أن تتحدث لتستمع كلتاهما لطرقات على الباب لتنظرا لبعضهما البعض في تعجب ليجدا أن الساعة قاربت على العاشرة صباحًا فسألتها:

- مين اللي جايلنا بدري كده؟ ممكن شهاب؟!

رفعت كتفيها واخفضتهما بينما اجابتها:

- مش عارفة.. تعالي نشوف..

امتدت يدها لتناول والدتها حجابها الذي وضعته سريعًا وتوجهت كلتاهما نحو الباب وفتحته "كاميليا" لتجد أمامها "سيف" حاملًا باقة زهور مبالغ بحجمها الكبير قليلًا وسألها:

- ممكن اتعزم على قهوة؟!

تفقدته بحيرة لتتنهد وللتو لاحظت وجود جده بجانبه الذي قال:

- استنى هنا.. أنا اللي هتعزم مش أنت، وبعدين انت مش خدت نصيبك واتعزمت قبل كده؟ الدور عليا!

ابتسمت بإقتضاب وكذلك فعلت والدتها التي قالت:

- اتفضلوا.. 

تفقدها "بدر الدين" بإبتسامة وسألها وهو يدخل:

- ازيك يا فيروز؟ وحشتيني.. بس اوعي تقولي لنورسين!

توسعت ابتسامتها أكثر ثم ردت قائلة:

- الحمد لله!

تنهد هو ثم اقترب من "كاميليا" وحدثها بنبرة مرحة:

- ما تيجي تعمليلي قهوة ونسيب البتاع ده لحماته تمتحنه!

همس له حفيده قائلًا:

- جدو القهوة ممنوع!

نظرت لوالدتها في استغراب ثم بينما هزت رأسها بالموافقة إليها وذهبت معه نحو المطبخ ليجلس هو على احدى المقاعد لتحمحم وسألته:

- حضرتك تحب تشرب إيه؟

تفقد ما إن كان "سيف" يُتابعه أو يراه فوجد انهما وحدهما ثم قال:

- قهوة سادة!

رفعت حاجبيها في تعجب وعقدت ذراعيها بتحفز لتقول:

- وعايزني اضرك أنا واعملك قهوة؟ على فكرة سمعت سيف!

عقد حاجباه وأشار بيده ليغمغم:

- طيب.. شوفي إيه عندك يتشرب!

أومأت له وأتجهت لتسكب احدى العصائر بينما استمعت له يقول:

- بصي يا كاميليا يا بنتي.. والدك كان راجل ذكي وشاطر وسيبك مننا احنا الكبار دول بيخرفوا بدري.. انت ما لكيش اي ذنب في اللي حصل و مالكيش دعوه بمشاكلنا.. ممكن تعاتبيه وتلوميه براحتك.. بس لازم في الاخر تسامحيه..

مححدش بيختار اهله ممكن آنتي وسيف تبعدوا عن بعض ممكن تكرهيني انا شخصيا لكن تكرهي والدك و تبعدي عنه.. مش هتقدري.. بالذات إن شكله بيحبك آوي..

تصلب جسدها في مكانها ولا تدري لماذا بدأ معها الحديث بهذا الأمر لتلتفت له وقدمت له العصير بينما توجهت لتصنع كوبًا من القهوة لها وتحدثت بتلعثم:

- هو يعني حضرتك.. 

همهمت وهي لا تجد الكلمات المناسبة ليلحقها سريعًا:

- لا قوليلي يا بدر علشان مبحبش حضرتك دي!

التفتت ناظرة له بتعجب ليومأ لها بتأكيد فقالت بتنهيدة:

- بدر! أنا، أنا مش عارفة أصلًا اذا كنت أنا وسيف هنكمل ولا لأ و..

قاطعها بنبرة مرحة وقال:

- وأنا مالي بيكي انتي وسيف.. ما تكملوا ولا متكملوش! الموضوع ده يخصكم.. إنما أنا اللي يخصني هو اللي حاولت اساعده زمان، متجيش بنته بسببي أنا وابني وحفيدي تكرهه!

رفعت حاجباها في تعجب لتسأله بسخرية:

- هو مش حضرتك برضو اللي كنت بتهدده امبارح.. ده اللي سمعته يعني! جاي النهاردة عايزني اسامحه!

نظر لها غاضبًا لتشعر بالإرتباك قليلًا ولكنها ثبتت على موقفها لتجده يقول:

- برضو حضرتك! مش قولنا بلاش الكلام ده! تعالي اقعدي يا كاميليا وانتي شبه مامتك كده!

تناولت كوبها واتجهت لتجلس على احدى الكراسي في مقابلته ليتفقدها بأعين خبيرة وابتسم لها وتحدث بهدوء:

- ابوكي اخر مرة شوفته فيها، او سمعت اخباره مكنش سايبلي احسن حاجة! كان فيه ما بيننا حاجت كتيرة مفتوحة!

نظرت له بخزي لتسأله:

- تقصد موضوع خالة سيف؟

أومأ لها بالموافقة وتنهد محاولًا التغلب على مشاعره وقال:

- ما دام بقى حكولك كل حاجة فخليني اقولك إن أنا امبارح مقدرتش اتحكم في زعلي وحرقة قلبي على بنت اختي! ده اغتصاب برضو.. يمكن مكنتش انسانة كويسة بس.. بس من يومها وأنا حاسس إني زي ما بيقولوا في مصر واخد على قفايا.. أبوكي ضحك عليا.. خلاني اقبله واساعده والحقيقة انه اغتصبها!

شعرت بأن الموقف صعب للغاية ليتجدد بداخلها ذلك الشعور بعدم مسامحته ليتابع "بدر الدين" حديثه:

- كامي، أنا يمكن علاقتي بأهلي مش احسن حاجة.. ويعني، والدي مات وأنا في دور سيف كده.. بعد كل اللي كان بيني بينه كان بيجي عليا اوقات بقول لو كان بس موجود يمكن كان شافني، أو شاف اولادي.. أنا ندمت على حاجات كتيرة بعد ما هو مات! أبوكي دلوقتي موجود وعايش واللي اعرفه إنه بيحبك اوي وانكو اصحاب.. سيبك مني ومن كلامي معاه احنا ما بينا مشاكل من قبل ما تتولدي.. وما دام ما شوفتيش منه حاجة وحشة يبقى تسامحيه! 

تفقدته بحيرة بينما أضاف بهمس:

- لا سليم ولا شهاب هيعيشوا قد اللي هيعيشوه.. واحسن إن شهاب في امريكا وسليم في مصر.. يعني لو اتقابلوا مرة مش هيتقابلوا سنين! متفرطيش في أهلك يا بنتي.. الأهل اهم حاجة للواحد.. وطول ما بيربوكي صح ومش قاسين عليكي واتقوا ربنا فيكي متجيش تضيعيهم بعد السنين دي كلها!

نظر لها بإبتسامة واهنة ثم أخبرها بنبرة مرحة:

- دلوقتي بقى تروحي تندهي ماما شوية علشان وحشاني بقالي يجي حاجة وعشرين سنة مشوفتهاش وروحي اعزمي سيف تآني علشان تاخدي حق العزومات دي كلها منه بعد الجواز.. خديها مني.. على قلبه فلوس متلتلة!

ابتسمت لها بعذوبة ثم نهضت لتذهب باحثة عن والدتها وكذلك "سيف" لتجدهما يتبادلان الإبتسامات فذهبت نحوهما وحدثت والدتها:

- ماما، عمو بدر عايزك!

توسعت ابتسامة "سيف" الذي نهض واخبرها:

- لو سمعك وانتي بتقولي عمو دي هيقتلك!

نهضت والدتها بعد أن أومأت بالموافقة بينما تركتهما لتنظر له وردت قائلة:

- لاحظت آه.. قوليلي يا بدر..

أطلق زفرة ضاحكة ليقول بتنهيدة:

- جدو كده من يوم ما اتولدت تقريبًا!

هزت رأسها بهدوء بينما تبادلا النظرات ليبحث عن الكلمات الصائبة وقال بقليل من التلعثم:

- بصي.. امبارح كان.. رد فعل جدو وبابا و..

ابتسمت وهي تقاطعه في اندفاع لتقول:

- سيف.. أظن إن المشاكل كده هتزيد، ويعني، احنا حاولنا وفي الآخر طلع فيه مصايب من زمان.. خليك ذكرى حلوة في حياة بعض وخلاص!

رفع حاجباه ليتجعد جبينه وهو يتفقدها ثم قال بنبرة مرحة:

- مكنتش اتوقع إنك من البنات اللي بتستسلم بدري!

عقدت حاجباها في استغراب وأوشكت على قول شيء ولكنه أوقفها مبادرًا:

- خطوبة، أو قراية فاتحة.. محدش من اهلي غير بابا وماما وتيتا وجدو اللي يعرفوا الحقيقة.. هنعيش بين مصر وامريكا هنا فترة وهناك فترة.. ده لما نتجوز طبعًا.. ونشوف بعض ساعة الخطوبة.. يمكن نقرب اكتر ويمكن نحس إن اختياراتنا مكنتش صح من الأول!

تفقدته بنظرات مترددة لتزفر بضيق وقالت:

- بس حتى لو قربنا واتجوزنا، هنقول لولادنا إيه؟

اقترب منها بغتة وأمسك يدها ثم اجابها:

- هنقولهم اتقابلنا ازاي، وإنه كان حب من أول نظرة.. وإن ماما هي اللي عزمتني.. وبعدين كده ولا كده اتواجهوا وخلصنا.. هنخسر إيه تاني!

تفقدت لمسته ليدها ثم رفعت مُقلتيها إليه وزجرته:

- ايدك لو سمحت!

عقد حاجباه في استغراب ثم سألها:

- بتتكسفي؟

ابتسمت له بغيظ واجابته بحزم:

- لا ماليش في شغل الرومانسية! وبعدين بتلمسني بتاع ايه معلش؟! 

تنهد وهو يدعي الجدية بالرغم من تلك الإبتسامة على وجهه واجابها:

- بتاع إني يمكن هبقى خطيبك! 

اطلقت زفرة هاكمة مصحوبة بهمهمة ساخرة وقالت:

- حتى لو قدرنا، وحتى لو عرفنا نعدي المشاكل واتخطبنا.. مش أنا البنت اللي هتسمحلك تقرب منها قبل الجواز!

همهم وهو يهز رأسه بالموافقة وغمغم متسائلًا:

- شكلك هتطلعي عيني! وبعدين انتي متأكدة إنك عايشة هنا طول عمرك؟ 

ضيقت عينيها نحوه ثم جذبت يدها بعنف ورفعت حاجبيها بإنتصار لتجيبه:

- انت لسه شوفت حاجة، وبعدين مش معنى إني متربية هنا يبقى هاخدك بالحضن وابوسك كل ما اشوفك.. اه متربية هنا بس مسلمة وأمي علمتني ديننا كويس!

قلب شفتاه وتفقدها بعقدة حاجباه ليتسائل:

- بس انتي مش محجبة! هل ده ملوش علاقة بالدين؟

توسعت عينيها ثم اجابته:

- لا طبعًا ليه.. بس هالبس ازاي حجاب والتزم بيه وأنا لسه مش مستعدة للموضوع ده؟! مش لازم ابقى قد القرار اللي هاخده؟

همهم وهز رأسه بالموافقة ثم قال مقترحًا:

- تمام.. طيب.. إيه رأيك اساعدك في كل قرارات حياتك، دلع ودعم وحنية وضحك، وكل اللي انتي عايزاه، بس توافقي بعد اللي حصل اننا نجرب موضوع الخطوبة ده؟ 

ابتسمت له ثم همست بجدية:

- سيف صدقني أنا من أول ما شوفتك كان نفسي فعلًا يحصل ارتباط واعرفك بس..

قاطعها وهو يدفعها نحو والدتها وجده:

- بس جدو هيتدخل وهيحلها، بدر بيعمل كل اللي هو عايزه وأنا شبهه اوي! تعالي بس نشوف هنعمل إيه!


     

منذ ما حدث ليلة أمس وهو يجتاحه اليأس الشديد، لا يُصدق أن كل ما حصل عليه في الحياة قد فقده في لحظة واحدة، بمجرد مواجهة من هذا الكريه وابنه اللزج قد خسر ابنته! 

لأكثر من عشرون عامًا وهو يعرف انها بخير، يعرف أنه قد اصبح لديه فتاة، بالرغم من عدم شعوره لها منذ الوهلة الأولى بمشاعر من الأساس ولكن مع الوقت اصبحت الإنسان الوحيد الذي يحاول من أجله! 

لقد خسر والدتها يومًا ما وها هو قد خسرها هي الأخرى! لماذا يحكم عليه ماضيه دائمًا؟ أليس هناك خلاصًا؟ نعم لقد ارتكب الكثير والكثير من الأخطاء، ولكن لماذا خلقوا كلمات كالغفران والتسامح والتوبة والتغير والفرصة الثانية؟! 

هو لم يخطأ بحق ابنته.. ربما كان يخاف عليها كثيرًا.. هناك بعض تصرفات منه غاية في التحكم والسيطرة ولكنه لم يفعل بها شيئًا خاطئًا، لقد حاول أن يكون والدًا جيدًا كوال الوقت، ولا يستحق بالنهاية أن يخسرها، لن يستطيع أن يفقد الشعاع الوحيد المضيء بحياته القاتمة! لن يفقدها هي الأخرى..

هبطت احدى دموعه قهرًا ليجففها سريعًا وحاول أن يتغلب على تلك المشاعر ثم نهض ليتجه لمنزلهما، منذ ليلة أمس ولم يستمع ولو لكلمة منها، لقد أوشكت الشمس على الغياب، استنتظر أكثر من هذا؟! 

فتح بابه ليجد كلتاهما واقفتان أمام منزله لينظر لإبنته في صدمة لتحمحم هي في ارتباك عندما رآت ملامحه الباكية ثم اخبرته بقليل من التلعثم:

- احنا لسه كنا هنخبط!

ابتسم لها بإقتضاب وأومأ لها بالموافقة وأفسح لهما الطريق لتدخلا كلتاهما وقصدت "فيروز" ان تبتعد عنهما قدر المستطاع بينما وقفت ابنته بجانبه وقالت بتبردد وكلمات تقطعت لأكثر من مرة:

- بابا أنا! أنا اللي عرفته كان! 

زفرت بضيق وهي لا تستطيع التحدث بهدوء لتنفجر به دفعة واحدة:

- بابا أنا مش هاقدر اعدي الموضوع بين يوم وليلة.. أنا محتاجة وقت.. ويمكن وقت كبير اوي، ومش عارفة هاعمل ايه.. ومش عارفة هل في يوم هقدر اتعامل معاك زي الأول ولا لأ.. أنا مشوفتش منك حاجة وحشة بس فجأة اصحى إن بابايا ليه الماضي ده كله وأنا اعرف من اهل واحد عجبني ووالله مكنتش عايزة اعمل أي حاجة غلط ولا ابدأ أي علاقة معاه غير بعلمك انت وماما و..

قاطعها معانقًا اياها رغمًا عنها عندما رآها تبكي بينما لم تبادله فقال بحنان وصعوبة منه ألا يبكي هو الآخر:

- اهدي.. محدش هيجبرك على حاجة.. 

فرق عناقهما لتأخذ هي خطوة للخلف وتفقدته بعبرات محبوسة بمُقلتيها ليسألها:

- انتي عايزة تعملي إيه وأنا اعملهولك؟

رمقته في تردد وجففت دموعها ثم اجابته:

- أول حاجة مش عارفة أنا وأنت هنبقى عاملين ازاي مع بعض.. لا أنت ولا ماما ربتوني اكدب!

ابتسم لها بإنكسار ثم تنهد وسألها:

- والحاجة التانية؟!

رطبت شفتاها وهمست بإرتباك:

- سيف عايز يخطبني.. قبل ما يرجعوا مصر.. بس أنا مش هاقدر اعمل ده غير بموافقتك.. 

همهم متفهمًا ثم قال بملامح لم تظهر عليها أي مشاعر:

- طيب تعالي نتكلم قدام فيروز!

زفرت وهي لا تزال تتعجب من اساميهم الجديدة عليها تمامًا ولكنها توجهت في النهاية معه حيث والدتها ليبادر هو بالحديث بعدة أسئلة:

- مبدئيًا كده، انتي مصممة عليه مش كده؟

تفقدت كلاهما بأعين حائرة وشعرت بتجمع الكلمات في حلقها ثم اجابت في النهاية:

- والله أنا كان قصدي إن يبقى فيه ما بيني وبينه خطوبة.. نتعرف على بعض ونشوف هيكون ما بيننا تفاهم ولا لأ! هو سيف لغاية دلوقتي مشوفتش منه حاجة وحشة..

همهم متفهمًا ونظر نحو "فيروز" ليلمح مُقلتيها باهتتان من كثرة البكاء، هو يعلم كيف تتحولا مُقلتيها هكذا لابد أنها بكت كثيرًا منذ ليلة أمس..

طالت نظرته إليها ليعقد حاجباه وهو يتفحصها، ثم فجأة ابتسم لتستغرب كلتاهما ردة فعله ولكنه سألها:

- وانتي يا فيروز موافقة؟

تناولت نفسًا مطولًا ليشعر بالإرتباك قليلًا مما ستقوله:

- أنت عارف رأيي من زمان في عيلتهم.. وعارف إني زمان ساعدت زينة وكنت في يوم قريبة منهم.. ويمكن لو الظروف غير الظروف اللي احنا فيها كنت هبقى فرحانة إنها هترتبط بيه.. بس القرار في الأول وفي الآخر لكاميليا..

همهم في تفهم ثم ذهب ليجلس وأطال التفكير في الأمر لتنظر لوالدتها في تساؤل بينما رفعت كتفيها واخفضتهما كدلالة على عدم معرفة سبب صمته بينما تحدث في النهاية:

- أنا موافق بس على كام شرط!

رمقته "فيروز" في غضب وكادت أن تتحدث بينما اسرع هو متابعًا:

- أولًا الخطوبة دي تكون هنا، مش هنعملها في مصر.. المكان اللي تختاريه.. وثانيًا يوم ما تتجوزي السنة تتقسم بين إنك تكوني معانا انتي وهو هنا في امريكا وبينه بقى هو وأهله.. ثالثًا، مش هتحرميني منك ولا من احفادي في يوم من الأيام اللي هيتولدوا هنا مش في مصر..

تحولت نظراته ثم رمق كلتاهما في توسل وهمس بإبتسامة بائسة:

- كامي انتي صاحبتي وعيلتي وبنتي.. مش هاستحمل إنك تبعدي عني! 

امتلئت عينيها بالدموع وكذلك فعلت "فيروز" ليهمس متسائلًا بصت متحشرج بعبراته المكتومة:

- موافقة؟

ابتلعت وهي تنظر له ثم أومأت له بالتفهم لتنهض وقالت بنبرة مختنقة بالدموع:

- هاروح اكلم سيف وأقوله!

ابتسمت له بإقتضاب ليبادلها وبمجرد سماع والدتها لصوت ابنتها المتحدث التفتت له ثم همست كي لا تستمع إليهما ابنتهما:

- بدر الدين جه النهاردة واتكلم معايا، وكامي اتكلمت معايا طول الليل امبارح.. وأنا بصراحة حكيتلهم على كل حاجة.. ما عدا..

تلعثمت قليلًا وتوقفت بعدها عن الكلمات ليتابع هو بدلًا منها:

- اني قتلت أروى اللي خلتني اخسرك!! كويس إنك مقولتلهومش!

ابتلعت وهي تطأطأ برأسها للأرضية وهمست له:

- أنا تعبت من الكدب يا شهاب! تعبت ومش هاقدر أؤذي معاذ بعد العمر ده كله.. لو حد عرف إن المكالمة دي كانت من موبايله أو قدروا يمسكوا دليل عليه أنا مش هسامح نفسي بعد كل اللي عمله معانا.. وده طلع معاش! حرام اهدله حياته في نهايتها والسبب إنه كان بيساعدني!

ابتسم بسخرية وقال بثقة:

- متخافيش.. مبقيناش مضطرين نكدب تاني.. 

أشرأبت ناظرة له بحيرة ليهمس بإبتسامة:

- فيكي حاجة متغيرة النهاردة.. شكلك منمتيش من امبارح بس.. بس فيكي حاجة متغيرة!

ضيقت ما بين حاجبيها ثم ابتسمت له بمرارة وهمست:

- ارتحت.. ارتحت إني اتكلمت مع ناس اعرفها ويعرفوني زي بدر الدين، وارتحت إني حكيت لكامي على كل حاجة!

هز رأسه ثم توقف عن النظر لها ثم قال:

- شكلك حلو اوي، زي زمان! عمرك ما اتغيرتي في نظري!

اطلقت زفرة متهكمة بإبتسامة منكسرة ونظرت هي الأخرى أمامها ثم قالت:

- وأنت كمان!

التفت ناظرًا لها بتعجب لتتابه هي قبل أن يتسائل:

- شكلك حلو أوي وأنت اتغيرت بجد.. مبقتش شهاب بتاع زمان.. على الأقل معايا أنا والبنت! مع إني للحظة بعد كلامك مع بدر الدين امبارح حسيت إنك متغيرتش، بس اللي عملته مع كامي أكدلي إنك اتغيرت! 

توسعت ابتسامته وقال بسخرية:

- يااه! بعد كل السنين دي فكراني متغيرتش! 

التفتت وهي تتفقده لتقول:

- أنت مش مضمون!

تلاقت اعينهما من جديد لتلين ابتسامته وهمس لها:

- عندك حق!

ابتلعت ثم أخذت تتفقده للحظات ثم سألته:

- أنت ليه كلمت بدر الدين كده امبارح؟ ليه مصمم تفضل زي ما أنت؟

نظر إليها بحزن ولكنه ابتسم بغيظ واكتثت عينيه بعبرات محبوسة وهمس مجيبًا:

- علشان بكرهه، بكره العيلة دي، كان نفسي ابقى زيهم ومعرفتش! وعمري ما كان عندي أب زي بدر الدين! عمري ما بطلت احسدهم على اللي عندهم ومش عندي!

تعجبت من صراحته الشديدة وشعرت بالآلم لأجله لتهمس له بإبتسامة:

- بقى عندك كامي.. انتو اصحاب.. قريبين أوي لبعض! وبكرة تبقى جدو.. أنت عندك حاجات كتيرة حلوة.. يمكن بدر الدين حياته غير حياتك بس يمكن هو معندوش واحدة صاحبته زي القمر جانبه وأم بنته! ولا أنت شايف إيه؟

تفقدها مليًا وأومأ لها مبتسمًا من جديد:

- عندك حق.. بس تفتكري كامي هتسامحني ولا هافضل احاول معاها عشرين سنة زي مامتها؟ 

أومأت له بالموافقة ثم همست:

- هتسامحك.. اديها وقتها بس!

     

بعد مرور عام . . 

وقف يتفقد مياة النيل من شرفة جناح يقع بأحدى الفنادق ليتنهد وهو لا يدري كيف مر ذلك العام وابنته الوحيدة قد تمت خطبتها لإبن ذلك الكائن اللزج المُسمى بـ "سليم" الذي يبدو أنه عليه تحمل أنه جد أحفاده المنتظرين إلي نهاية العمر ولا حتى يُصدق أن اليوم زفافها! 

سيتم عقد قرانهما هنا، بهذه الغرفة، ربما بعد عدة دقائق، هل هذا يعني أنه خسر كلتاهما للأبد؟! 

منذ أن سقطت جميع الأقنعة وهي تعامله بحدود مبالغ بها، هل ستكون هذه هي النهاية لما ارتكبته يداه؟ ما ذنب ابنته بكل هذا؟ وما ذنبه؟ حسنًا لن يخدع نفسه، القائمة طويلة بلهيب ودماء وسرقات.. ولو حتى تاب عنها! 

حمحم ثم استند على عكازه واتجه لغرفة ابنته حاملًا احدى الأظرف الورقية ثم طرق الباب وانتظر إلي أن فتحت "فيروز" بنفسها الباب لينظر إليها وتلعثم للغاية ثم قال بصعوبة:

- شكلك حلو أوي.. 

ابتسمت له ثم همست:

- وفر الكلام الحلو ده لكامي..

أفسحت له المجال ليدخل بتباطؤ خوفًا من رؤيتها بثوب زفافها لأنه يعلم أنه لن يتحمل تلك اللحظة وسيبكي كثيرًا ولقد حدث هذا بالفعل! 

التفتت لوالدها بعد أن لاحظته بالمرآة لتمتلئ اعينها بالعبرات وهمست له بالإنجليزية:

- لا تفعل أرجوك.. 

رفع كتفاه واخفضهما وهو يتفقدها مليًا وقال بصوتٍ مبحوح:

- كيف يُمكنني ألا أفعل.. أنت جميلة للغاية.. وأنا سأفقدك للأبد وربما لن تـ..

قاطعته سريعًا وهي تقترب منه لتقول:

- لم يحدث، ولن يحدث.. أنا لا زلت احتاج بعض الوقت.. نحن الآن أفضل من عدة شهور سابقة، أليس كذلك؟

أومأ لها بالموافقة وسألها متوسلًا ودموعه لا تتوقف:

- ممكن حضن؟! 

توسعت ابتسامتها له واتجهت لتعانقه ليشتد بكائه الذي فشل في أن يوقفه لتزجرهما "فيروز" ببكاء من مشهدهما سويًا:

- كفاية بقى الميكب وهدومها هتبوظ والمأذون جه!

تشبث بها بشدة وهو لم يتوقف عن معانقتها ثم همس لها مناولًا ايها ذلك الظرف الورقي:

- دي حاجتك.. 

تعجبت لتتفقد ما بالظرف لتجد تنازل منه عن كل ما يملكه إليها لينعقد لسانها وتعجبت والدتها كذلك ليضيف هامسًا:

- المفروض كنتي تاخديها من بدري.. ملهومش لازمة عندي.. 

عقدت حاجبيها وقالت بإرتباك:

- بابا بس أنا مش هـ..

أوقفها عن الحديث ونظر إليها بتوسل وهمس:

- أنا مش عايز أي حاجة غيرك، ومن زمان أنا سجل كل حاجة بإسمك.. مبروك يا حبيبتي، ربنا يسعدك!

نظرت إليه لا تدري بإمتنان، بحنان وود، بسعادة! لا تدري ماهية مشاعرها المختلطة لتشعر وكأنها قست عليه كثيرًا بالسابق لتهمس له:

- بابا.. أنا ماليش دعوة باللي حصل زمان.. أنت عندي زي ما أنت وبحبك وعمرك ما هتخسرني! 

انهمرت دموعه وهو يبتسم لها ليتعانقا مرة أخرى لتتحدث "فيروز" ببكاء:

- نكدية زيه بالظبط، كل حاجة شبهه! 

فرقا عناقهما لتنظر لها بإبتسامة وقالت:

- بس طالعة قمر لروزي.. 

ابتسمت لها لتقترب ابنتها منها مقبلة يدها فربتت هي على رأسها وهمست:

- مبروك يا حبيبتي.. ربنا يملى حياتك فرحة وسعادة! 

تفقدتها ثم عانقتها وهمست بأذنها:

- انتي احسن أم في الدنيا.. سيبك من اني فيا شبه كبير من تصرفاته.. لولاكي لا أنا ولا هو كنا وصلنا للي وصلناله دلوقتي.. أنا طول الوقت اللي فات لما فكرت كويس، لو كنت عشت في مكان تاني ولو كنتي قولتيلي الحقيقة بدري كان زماني متعذبة، أنا بحبك اوي يا ماما..

انهمرت دموعها وهي تشعر بأنها امتلكت العالم أكمله بين يديها بفعل تلك الكلمتان وعانقتها بشدة وما إن انتهيا حتى توجه ثلاثتهم لعقد القران ليتم زفافها بعدها!

     

لأول مرة لم يكترث لرؤية تلك الأوجه الكريهة له وهو يبكي عندما عقد قرانها، لم يكترث حتى للنظر إلي أحد سوى ابنته و "فيروز" و "سيف" الذي بالرغم من كرهه الشديد لوالده وجده يبدو أنه سيتعلم التعامل معه خلال السنوات القادمة شاء أم آبى سيفعلها.. هذه ابنته الوحيدة على كل حال وليس هناك اختيار آخر أمامه! 

فرغا من التقاط الصور وتبادل التهنئة فتوجه وانزوى بأحدى أركان الغرفة بينما يتابع ابنته أمامه بإبتسامة سعيدة لفرحتها وحزينة لخسارته إياها ليشعر بأن السنوات السابقة قد مرت في لمح البصر دون أن يشعر..

باغته "بدر الدين" الذي لم يلحظ متى اقترب منه ليستمع له وهو يحدثه بتساؤل ولوم حزين:

- كان نفسي اساعدك.. ليه عملت كده في نفسك؟ ليه وصلتنا لكده؟ ليه تخليني اكرهك وأنا كنت بعتبرك واحد من ولادي وصعبان عليا اللي أنت فيه؟ اديك شوفت في الآخر الكدب ملوش رجلين.. 

تفقده كثيرًا وهو يشعر بداخله بالكراهية الشديدة نحوه ولكنه حاول انتقاء كلماته بعناية من أجل ابنته ليجيب في النهاية بإقتضاب على مضض:

- انت ساعدتني..

زفر بضيق ليضيف:

- شكرًا..

تركه وتوجه للخارج فلحقته "فيروز" التي هتفت به متسائلة:

- شهاب انت رايح فين؟

التفت لها متنهدًا ثم اجابها:

- مش قادر استحمل إني خسرتكوا انتو الاتنين.. عايز ابقى لواحدي شوية!

تفقدته لوهلة ثم زجرته قائلة:

- انت مخسرتش حد.. أنا اهو جانبك، كامي بكرة ترجع من الهوني مون وتبقى معانا.. و كل حـ..

قاطعها متوسلًا وانفجر في البُكاء:

- ارجعيلي أرجوكي.. أنا مبقاش ليا حد غيرك! 

نظرت له لتحتجب مُقلتيها بالعبرات ثم همست بوهن وتنهيدة متألمة:

- بعد العمر ده كله.. 

أومأ لها بالموافقة ثم همس:

- لو ناقص في عمري يوم موافق اعيشه وانتي مراتي وجانبي.. أنا محتاجك أكتر من أي وقت عدى علينا، أنا كبرت واتغيرت ومبقتش زي زمان! أرجوكي يا فيروز! 

قضمت شفتاها المُرتجفتان في قهر وانهمرت دموعها ثم همست له:

- انا من أكتر من عشرين سنة وأنا بقولك لأ.. بس..

ابتلعت وهي تتفقده وقالت بتردد وقليل من الخوف:

- اوعدك إن المرادي هفكر في الموضوع.. نخلص الفرح ونرجع كل واحد بيته وهرد عليك! 

ابتسمت له بعذوبة ليتوقف عن البكاء وتفقدها في تعجب ثم سارعت قائلة:

- لا قولت آه ولا قولت لأ! دلوقتي تعالى علشان البنت وبعدين ربنا يسهلها! 

     

في النهاية تسقط جميع الأقنعة، نرتكب الأخطاء وهناك من يغفر ويُسامح، وهناك من لا يفعل.. لسنا برب الكون الذي يُحدد ويملك المقدرة على تغير الأقدار، لسنا مثله لنملك نفس القدر من التسامح، ولسنا مثله كي نحكم على الجميع!

أدرك هذا وهو ينظر لهما وكلاهما يمرحان والتف حولهما الكثير من أصدقائهما، الكثير من أولاد وبنات عائلته بأكملها، وتفقد والدتها التي ترتدي ما يحجب وجهها وابتسم بمرارة شديدة.. 

وجد قُبلة تُطبع على كتفه لينتبه إليها فسألته:

- أبو العريس بيشارك أحزانه لواحده ولا إيه؟

ابتسم لها ثم همس ممازحًا:

- أبو العريس بيفكر في أم العريس.. ما تيجي يا مُزة نسافر احنا كمان ونعيد أيام الشباب! 

غمز لها لتتوسع ابتسامتها وحدثته:

- ونسيب بدر ونوري.. والله ما تقدر!

أومأ لها بجدية ثم قال:

- عندك حق.. 

تفقدته بحرص وقالت بنبرة تعج بالقلق:

- سليم.. فيروز ساعدتني في يوم، وعمرها ما هتربي البنت غلط! متزعلش بقى علشان خاطره وخاطري.. وعلشان خاطر بدر، متصغرهوش بعد ما اتفقنا اننا هنمسح شهاب ده من حياتنا ونركز في فرحة ابننا وبس..

أومأ لها بقلة حيلة ثم حاوط خصرها جاذبًا ايها بذراعه ليضمها إليه وقال بنبرة مرهقة:

- عجزنا يا زوزا.. عجزنا والأيام لسه عمالة تعلم فينا.. الدنيا صغيرة اوي.. ولادنا بيكبروا وفجأة كل حاجة بتتغير..

ابتسمت له لترمقه بزرقاويتيها وهمست له:

- مش مهم ولادنا يكبروا ولا حتى مهم إن حاجة تتغير.. المهم همّ اتربوا على إيه.. لو اتربوا صح عمرنا ما هنخاف ولا نقلق عليهم.. ولو اتربوا غلط هنفضل طول عمرنا خايفين من اللي ممكن يعملوه.. بس أنا وأنت  ربينا صح يا سولي، مش كده؟

أومأ لها ثم قبل جبينها وقال مجيبًا:

- كده يا روح سولي

     

توجهت تأخذ خطوات نحو غرفته بالفندق وهي لا تدري ما المهم للغاية الذي يريدها به ثم طرقت الباب ليفتح لها والتقت أعينهما ليتوقف متفقدًا اياها بينما سألته:

- فيه إيه؟ وبعدين أنت مش كنت واقف بتتفرج على الفرح، سيبته وطلعت ليه؟

ابتسم وضيق عينيه ثم قال بنبرة مرحة:

- كنتي المفروض تلبسي نقاب من زمان.. اخيرًا عرفت إن عينيكي لونها عسلي! 

ابتسمت ثم رفعت النقاب عن وجهها ثم همس لها:

- تعالي ادخلي عاملك مفاجأة! 

تنهدت في إرهاق وهي لا تصدق تصرفاته الطفولية التي لن تتغير في مثل هذا اليوم ثم قالت بضيق:

- شهاب أنا قولتلك إني لسه هافكر ولما نرجع و..

جذبها من يدها رغمًا عنها وهو يقاطعها:

- الصبر بقى.. بالراحة شوية حرام عليكي!

كادت أن تصيح به ولكنه دفعها للداخل لتقع عينيها على اختها، أخيه، أخته، و "معاذ"!!

تيبس جسدها من كثرة الصدمة والجميع ينظروا إليها بينما تهللت ملامحها وتساقطت دموعها وهي تبتسم إليهم ولكنها لم تستطع التحرك ولا الرد على كيفية تلك التساؤلات التي اندلعت برأسها لتستمع إليه يتحدث قائلًا:

- هو بصراحة أنا وصلت لرقم معاذ من موبايلك وانتي مش واخدة بالك بس عرفت إنه هيقدر يساعدني وكان معايا فيديو بإعتراف أروى على كل اللي عملته زمان! 

اقتربت "هبة" وكذلك فعلت "فريدة" لتعانق كلتاهما وهي تبكي بشدة ليشاهد ثلاثتهم وابتسم لسعادتها ثم هز رأسه بإمتنان نحو "معاذ" وبعد أن تناول الجميع الأحاديث والدموع والكثير من العناقات والمصافحة معها اقترب ليقول:

- فيروز.. أنا هامشي علشان الحق الطيارة! 

نهضت وهي تنظر له في تعجب ثم استأذنت منهم وتوجهت معه إلي الشرفة ثم سألته:

- استنى نرجع سوا.. 

ابتسم إليها بإقتضاب وتنهد قائلًا:

- أنا عارف إنك محتاجة تقعدي معاهم براحتك.. ولسه باقي الفرح.. أنا هامشي احسن!

توسعت عينيها ناظرة له بغضب ثم زجرته:

- لا يا شهاب مش هتمشي.. هنرجع سوا.. وكمان لسه عايزة أشوف هبة وفريدة يومين بس!

عقد حاجباه متسائلًا بخبث مازح:

- ده انتي مش قادرة على بُعدي ولا إيه؟

ازداد غضبها منه ثم قالت:

- أنت ليه بتعملي حاجة حلوة اوي وفي المقابل لازم تاخد مني حاجة تانية؟

تحولت ملامحه للجدية وازداد تعجبه من كلماتها لتندفع به متحدثة:

- لو كنت اقدر اسيبك كنت سيبتك من سنين! أنا وأنت يا شهاب مصيرنا بقى واحد.. بطل شغل الأطفال ده! مش معنى اننا مش متجوزين إني بكرهك، لو بس بصيت على حياتنا هتلاقي إنك أقرب واحد ليا.. يمكن أنا أنانية، وأنت زي ما أنت بس اللي مش هنقدر نكدب فيه ولا نخبيه إن مفيش واحد فينا يقدر يعيش من غير التاني.. سواء صاحبي ولا حبيبي وجوزي ولا حتى أبو بنتي!

تفقدها بإبتسامة حقيقية ثم همس متسائلًا:

- ده معناه إني احجزلنا هوني مون؟!

توسعت عينيها في غيظ ثم غمغمت وهي تغادر:

- صبرني يارب!!

صاحت بعدها لتقول:

- ومفيش سفر من غيري يا شهاب!

     

ابتسم متنهدًا وهو ينظر إلي الجميع حوله وتابع حديثه إليها:

- بس بقى يا ليلى.. الولاد كبروا واتجوزوا، وبكرة يخلفوا، ويا عالم هشوف ولاد حفيدي ولا لأ!

همهمت على مضض ليسألها متعجبًا:

- مالك يا بنت سليم، إيه مش عاجبك؟

حمحمت ثم قالت بتردد:

- مفيش حاجة يا جدو.. هو بس يعني.. حضرتك حكيتلي الكلام ده كتير!

تنهد وهو ينظر لها بغيظ ثم تمتم بخفوت:

- انتي صحيح اسمك على اسمها بس مش زيها.. فيها إيه يعني لما احكيلك وتسمعيني مليون مرة.. 

تفقدته وهي لم تستمع لما يقوله لتسأله:

- جدو، هو حضرتك بتقول حاجة؟!

قلب شفتاه بإمتعاض واجابها:

- لا يا بنت حيلتها، روحي ياختي لحمزة ابن خالك واندهيلي نوري!

شعرت بالإرتباك الشديد ثم همست بتساؤل متلعثمة:

 - وهو يعني.. يعني.. اشمعنى حمزة؟

ابتسم لها بمكر وقال:

- فكراني مش فاهمك أنتي وهو! روحي اندهيلي جدتك علشان اكلمها لما سيف يخلص شهر العسل ويرجع بالسلامة اجوزك واخلص منك انتي كمان!

تهللت ملامحها ثم هتفت به:

- بجد يا جدو؟ هتخلي بابا يوافق؟

قهقه بخفوت ثم قال:

- ما كنا من شوية اشمعنى حمزة! قومي ياختي قومي اندهيها أحسن مش قادر اقف واليوم كان طويل وتعبني أوي..

     


قبيل شروق الشمس..

أغلقت عينيها بإرهاق مستمتعة بتلك النسمات الهادئة الفجرية وهي لا تصدق أنها زوجت ابنتها، رآت أختها وأصدقائها، شعرت بكل هذه السعادة بيومٍ واحد فقط ولم يحدث ما يُعكر صفو تلك الفرحة ولو للحظة واحدة..

لم تكن لتظن أبدًا أن هذه هي النهاية..

ولكن نوعًا ما كانت أفضل مما تعتقد، لقد حصلت على كل ما تمنته، ابنة، حياة، وقد عالجته حتى تغير بالكامل والآن فقط تستطيع أن تبدأ بإعطاءه بعض الثقة بالسماح لنفسها بأن تعيد تفكيرها به مرة أخرى! 

ربما حياته قاتمة بماضٍ مظلم، وأخيرًا استعادها بعشقٍ جديد.. عشق ابنته الوحية، دون كذبات.. دون خيانة.. ودون المزيد من القتامة.. ربما عليه الآن أن يدرك كل هذا، وبداخلها، هناك سعادة بداخلها هي لن تنكر الأمر بعد الآن!

لم يتوقف عن تفقدها والإسهاب بملامحها التي لا يعشق أكثر منها وهو مستند على عكازه وبين ذلك الصمت الذي قد طال للغاية همس لها:

- ما تتجوزيني بقى بدل ما أنا قاعد اتشاهد في جمالك كده!

فتحت عينيها لتتفقده ووجدته ممسكًا بعصاه بكلتا يداه ورأسه مستندًا عليها وهو ينظر لها بقاتمتيه العاشقتين لها ثم همست:

- لسه هفكر.. متستعجلنيش..

ابتسم بوهن وهز رأسه ثم تمتم متوسلًا:

- استعجلي الله يكرمك.. بقيت عاجز وداخل على الستين، وأنا كل اللي عايزه حُضن!

ضيقت عينيها له وامتعضت ملامحها الممازحة ثم قالت:

- على فكرة لو اتجوزنا مبقاش فيها لا احضان ولا بوس.. وتحرشك اللفظي البريء ده متجيش تلعب بيه عليا.. كان زمان!

توسعت ابتسامتها في انتصار ليهمهم هو متسائلًا:

- طيب لو اتجوزنا وانتي وافقتي ترجعيلي، ممكن يبقى فيه تحرش جسدي مش بريء؟

توسعت عينيها لتزجره:

- احنا كبرنا على الكلام ده ما تكبر بقى وتبطل شغل مراهقين!

قلب شفتاه ثم قال:

- أنا بالنسبالي تمام مفيش أي مشاكل وبيقولك ممكن بجلسات خصوبة مُكثفة الست تخلف بعد الخمسين! إيه رأيك في الموضوع ده؟ ممكن نجيب بيبي ونسميه ايه؟

رفعت حاجباها وأعطته نظرة غاضبة من عينيها وقالت:

- أنا غلطانة إني قاعدة معاك.. تصبح على خير.. أنا هبة وفريدة جاينلي من الصبح بدري!

نهض ليتبعها هاتفًا بها:

- استني بس، وبعدين عينيكي قلبت خضرا ليه؟! طيب هترجعيلي ولا لأ؟ فيروز!!

     

تمت!