الفصل الأول - وكر الأبالسة - Den of Devils
الفصل الأول
❈-❈-❈
" عشم إبليس في الجنة"
مثل شعبي..
❈-❈-❈
الطمع كان كل ما أراد .. لم يكن يريد سوى ذلك .. لم يكن يشتهي سوى انعكاس صورته في المرآة وهو يتباهى بما وصل إليه ..
سليلة العائلة الثرية .. المرأة ذات الحُسن الآخاذ .. الرجل الوسيم الذي لا يملك سوى عقله الشيطاني للتفكير والنجاح .. وابناه التوأم غاية في الحُسن كما والديهما .. يا لها من أُسرة سعيدة .. ويا له من صنيع!!
شيطان توفر به كل طرق الشر ليلد رجلًا وإمرأة بنفس خصاله الشيطانية .. ورثا كلاهما عقله الفذ الشيطاني .. حتى وهو بين جدران هذا السجن يسمع عنهما!! ابناء ابيهما عن حق!
ولكن ماذا عنه؟! ما الذي سيحدث له؟ وإلي متى سيظل مقهورًا؟! لن يقبل هذه الحياة الفقيرة .. لن يقبل أن يغادر هذا السجن دون أن تكون له نفس الحياة التي يمتلكها كل من اخيه، اخته، والشيطان الأعظم، والده!!
يقولون "من شابه أباه فما ظلم" .. لو كان يُشبهه في أمر فهو الطمع .. تلك الإرادة التي لم تندثر منذ خمسة عشر عامًا بأن يثأر لتلك الأيام المؤلمة .. وحياته التي تعذب بها كثيرًا بينما تنعم هو وابناءه في حياة اخرى تمامًا ..
هو طامع حد الثمالة .. طامع بثأره، بحقه في الحياة، بأن يُدعى وينتسب إلي والده .. "جاد أنور الشهابي" الإسم الذي ظل يحلم بأن يراه مطبوعًا بأوراقه الرسمية، الإسم الذي تمنى أن يُنادى به، يُريد تلك الحياة بأكملها والأهم؛ يريد أن يعترف به والده ولو بعد أكثر من ثلاثون عامًا..
كان عليه أن يبحث في اعماقه عن هذا الشيطان الذي لابد وأن دُفن في مكان ما بداخله .. الشياطين هم من يستطيعوا التوغل بداخل كل إنسان كي يتلاعبوا بمكنونات انفسهم.. وعند وصولهم لتلك المرحلة يترفعوا عن صنعهم هاتفون:
- أنت من فعلت هذا وليس أنا!!
ابتسم في حقد والتقت زرقاوتاه بتلك السماء الصافية، لآخر مرة سينظر لها من باحة السجن الكريه هذا، غدًا سيغادر، وغدًا سيثأر من كل ما حدث له من ظلم وافتراء بسبب هذا الشيطان والده!! وسيطمع هو الآخر في أن يعيش مثله هو وابناءه!
يرى ملامحهما التي حفظها عن ظهر قلب ترتسم بتلك السماء الربيعية، يرى ملامح تُشبهه وكأنما الاقدار تُصمم على إجباره أن يتذكر من هو وما عليه فعله.. لماذا يتشابه مع هذا التوأم الكريه لهذه الدرجة؟! لماذا تحكم عليه الأقدار بأن يبدو كمثلهما إلي هذا الحد؟! ألم يكن كافيًا أن يحمل كلاهما دمًا واحدًا فحسب؟!
احس بنفسه من جديد يقع في مزيد من الكراهية نحو ذلك الشيطان الأعظم الذي انجبه، ومزيد من الشفقة والرثاء على حالة وهو يعقد حاجباه محدقًا بلون السماء المشابهة للون عينيه ودون أن يشعر زم شفتاه حانقًا وهو لم يعد يتذكر سوى تلك النظرات التي رماه والده بها وهو يحكم عليه أن يظل حبيس هذا السجن منذ سنوات وهو يتبرأ منه دون رحمة!
بات لديه عشمًا لا يتوقف عن التزايد.. سيكون وسيكون يومًا ما.. ولكن بعد كل ما أدركه وتشبث به خلف تلك الجدران الكئيبة لم يكن سوى أملًا في أن يعيش يومًا ما مثل ما كان عليه العيش.. فهو ليس بأقل من اخواه، فهو يحمل نفس دمائهما..
كاد أن يستمع لصوت غليان دماءه ولكن آتى "سعد" لينتشله من شروده ليحدثه في حماس مبتسمًا نصف ابتسامة لم تُغير من ملامحه القاسية شيئًا:
- خلاص يا واد يا جاد.. سايبني وخارج!
التفت له بملامح غاضبة بينما هتف محذرًا:
- سعد! انت اخويا وسندي .. عيب عليك.. انا عمري ما اسيبك في المنكوبة دي من غيري أبدًا!
اطلق ضحكة خافتة مستهزءًا وحدق كما كان يفعل "جاد" بالسماء بحلكة عينيه واعاد رأسه للخلف ثم قلب شفتاه لينهض الآخر في غضبه اللاذع ثم صاح به:
- مش مصدقني، بكرة اوريك..
ضيق عينيه وهو ينظر نحوه في محاولة لتحمل ضوء النهار ليحدثه بنبرة لا تحمل ذرة من اكتراث غارقًا في اليأس:
- ولو صدقتك هيجرى ايه! مبقاش يفرق خلاص يا جاد.. هاخرج ليه؟ امي ماتت وابويا مات والدكانة اتقفلت وحتى رحمة بقى ليها حياتها وشغلها في المستشفيات! خليني هنا الكام سنة اللي باقينلي! مبقاليش حد خلاص!
لم يتقبل ذلك الإحباط الذي سمعه ليتفاقم غضبه وتحدث بين اسنانه الملتحمة في إصرار وثقة:
- وأنا؟ جاد عطا الله! اخوك! كل ده ومالكش حد.. فاكرني هقدر على اللي عايز اعمله لوحدي؟ من غيرك؟ تفتكر بعد ما كنت السبب في سجنك هسيبك وانفد بجلدي ومعرفكش!
اشار بسبابته نحوه مُحذرًا وتابع أمام تلك الأعين الحالكة التي تتفحصه:
- اسمع يا سعد وحطها حلقة في ودانك! انا مش خارج من هنا علشاني.. انا خارج من هنا علشان احنا الاتنين! وسنينا اللي ضاعت دي هنعوضها بكل ما فيها!
ابتسم بإقتضاب وهو يشيح برأسه بعيدًا ليتنهد ثم همس له:
- ابقى خد بالك من رحمة .. ومعلش يا جاد يا اخويا لو هتقل عليك .. ابقى تعالى زورني متنسانيش!
تفاقم غضب الآخر ثم قال بنبرة منزعجة:
- الاه! انت يعني مالك ولامؤاخذة.. ايه المغزى؟ قالبها نكد وغم ليه من الصبح!
قاطعهما واحدًا من السجناء المعروفين بنواياهم شديدة الحقارة ووجه كلماته نحو "جاد" في خبث وهجة ابتزاز واضحة:
- مش ناوية تيجي يا حلوة.. ده انتي خلاص خارجة بكرة، مش هتسبيني ابسطك ولا إيه؟!
اكشر عن انيابه بإبتسامة صرخت بالشر وعبرت تمامًا عن نيته الراغبة بتدنيسه وقبل أن يتوجه "جاد" نحوه كالعادة نهض "سعد" لينهال عليه بلكمات شتى ولم يتوقف قبل أن اجتمع بقية السجناء ليحولوا بينهما إلي أن آتى احد مسئولين السجن يهرولون نحوهما..
مرة أخرى يتعرض "سعد" للكثير من اجل أن يحمي "جاد".. ومرة أخرى يحول بينه وبين فساد حياته وتدميره لنفسه.. لم يكن الأمر سوى عهدًا خفيًا كبر كلاهما على اتباعه.. الأخ الأكبر هو حامي الأصغر دائمًا.. والصغير ينصاع ويُذعن للكبير! ولكن هل قد يختلف كل شيء بعد أن يفترق عنه غدًا؟!
❈-❈-❈
مشت بخطواتها الرشيقة وهي تتجه نحو والدتها مُجبرة نفس الإبتسامة الروتينية التي إن لم تتصنعها سرعان ما تلومها والدتها وجلست على احدى المقاعد بالقرب منها في انتظار لتجمع بقية العائلة لتهتف والدتها بنبرتها المميزة التي في ظاهرها لطالما حملت السعادة والتفاؤل ولكن باطنها يحمل الكثير من التحذير وكأنها تحذر الجميع من شيء غير معروف:
- نانسي حبيبتي صباح الخير.. الفستان ده حلو اوي..
توسعت ابتسامتها التي اجبرتها سابقًا ثم بادلتها الإطراء السابق بإقتضاب:
- ميرسي يا مامي.. صباح الخير..
تصنعت عدم الملاحظة لتسألها:
- سلمان فين؟ أنا مشوفتوش خالص.. متعرفيش صحي ولا لسه؟
كبحت غضبها بداخلها ألا تنفعل وتمنت لو توقفت عن سؤالها عن كل من بالمنزل فهي ليست مراقبة عليهم، ليست نسخة منها لتعرف كل الأمور عن الجميع، ولن تكون، ولن تفعل يومًا ما..
حاولت استلهام الهدوء وابتسمت لها مجددًا لتهمس لها:
- هاروح اشوفه..
نهضت وابتسامتها تتلاشى لتلاحظها والدتها لتخبرها بنبرة مُحذرة:
- حبيبتي راغب نازل يفطر.. متخليهوش يشوفك مكشرة!
زفرت في ضيق واسرعت بخطواتها كي تذهب إلي اخيها وتتفقد لماذا لم يأتٍ بعد لتلتقي بطريقها بزوجها لتتوقف وهي تنظر له وكادت أن تُلقي عليه تحية الصباح بينما اكمل هو طريقه وكأنه لا يراها لتشعر انها قاربت على فقدان عقلها مما يحدث بينهما!
اكملت طريقها نحو غرفة اخيها الأكبر التي تقع بالدور الثاني من المنزل فالدور الأول يخصها هي وزوجها وابنتهما، وبقيته تُركت إلي "رُفيدة" ابنة خالتها وزوجها "ياسر" وبالدور الأرضي هناك غرفة لزوج خالتها الراحلة "أنور" وأخرى لوالدتها بينما بالدور الثالث وبدرج آخر هناك غرف التخزين والمساعدين بالمنزل ومربية ابنتها "سيلا" ولا يزال الطابق الرابع بأكمله مُغلق..
كادت أن تطرق الباب ليُفتح من تلقاء نفسه وقابلها اخيها بإبتسامة رائعة وتحدث على عُجالة:
- نانسي.. بونجور حبيبتي.. فيه حاجة ولا إيه؟
بادلته الإبتسامة واجابت سؤاله:
- بونجور.. مامي بتسأل مش هتفطر معانا يا سلمان؟
تفقد ساعته باهظة الثمن التي تلائم مظهره العصري للغاية وأومأ بالإنكار ثم اجابها:
- النهاردة صعب أوي.. فيه photo shoots و sessions علشان الـ line الجديد!
أومأت بالتفهم وتلاشت ابتسامتها لتتنهد ثم قالت بإقتضاب:
- حبيبي good luck واكيد هستنى تعزمني على الـ Défilé علشان اتفرج على الـ designs الجديدة..
هز رأسه بالموافقة وغمغم وهو يطالع هاتفه:
- طبعًا.. آلو..
كالعادة انشغل بواحدة من مكالماته الهاتفية التي لا تنتهي فهو طوال الوقت يعمل على احدى تصميماته التي تُصنع خصيصًا للصفوة مثلهم ومتبوعة بخمس مصانع لتصنيع الملابس الجاهزة وثلاث شركات تهتم بالموضة والصيحات العصرية..
هذا ما توجه إليه بعد أن أنشأ لنفسه كيان بعيدًا عن بقية العائلة، فر هاربًا بعد أن رفضته "رُفيدة" منذ كثر من خمس سنوات وتزوجت بصديقه "ياسر" ليُصبح بهذا المنزل كالضيف تمامًا..
هي تعشقه، تتمنى له كل السعادة، ولكن ما يؤلمها حقًا أنها في هذا العصر الذي تتساوى به المرأة مع الرجل، كل من حولها لديه عمله، اخيها وزوجها وابنة خالتها وزوجها بينما هي تجلس بالمنزل أو بصحبة تلك النساء التافهات زوجات رجال الأعمال ولا يكترثن سوى بالنميمة والتباهي بالأموال فقط ولا شيء سوى ذلك!
لا تلوم سوى والدتها التي ابعدتها منذ صغرها عن العمل بكل شراسة لتجد نفسها بعد أن انهت دراستها تُزف إلي ابن خالتها "راغب" الذي كانت تعشقه بجنون وقتها ولكن سرعان ما تلاشى عشقهما ليتحول إلي جمود، وانتج طفلة وحيدة!
فجأة انتبهت على صوت اخيها وهي تسير إلي جانبه للأسفل:
- أنا نسيت المحفظة هاروح اجيبها.. انزلي انتي افطري علشان مأخركيش!
أومأت له بإقتضاب لتُكمل طريقها على مضض استعدادًا ليومٍ جديد بصحبة نصائح والدتها لها ولكنها رغمًا عنها توقفت واندفعت عينيها لرؤية ما يحدث بالقرب من باب غرفة ابنة خالتها وزوجها وكادت أن تذهب ولكنها لم تستطع حيث تصلبت ساقيها في الأرض دون أن تملك المقدرة على تحريكهما فنظرت لتجدهما يُقبلان بعضهما البعض في نهم لتبتلع في ارتباك بينما تحدث "ياسر" إلي زوجته:
- نفسي افضل معاكي طول اليوم ومسبكيش ابدًا.. بس لازم نروح الشغل بسرعة.. النهاردة عندي اجتماعات كتيرة اوي!
تنهدت وهي تحيط عنقه ونظرت إليه بعشق وحدثته في حماس:
- حبيبي أنا كمان هكون مشغولة.. ايه رأيك نسافر نغير جو؟ Euro trip حلوة أو نعمل أي حاجة جديدة؟
توسعت ابتسامته إليها ثم حدثها بمكر شديد:
- أنا كل اللي عايزه هو trip حلوة في السرير.. يمكن اطلع ببيبي قمر زيك .. بس اجيب الوقت منين!
ضيق عينيه مشاكسًا لتفهم هي ما ستؤول إليه تلك النظرة لتهتف به:
- لا ياسر احنا هنتأخر بجد!
دفعها إلي ان استندت على احدى الجدران خلفها ويده تعبث أسفل ثوبها وتناغمت شفاههما بقبلة جديدة لتبدأ هي في التآوه اثناء قبلتهما لتصاب "نانسي" بمزيد من التوتر وزجرت نفسها عن مراقبتها اياهما لتغادر مسرعة وهي تشعر بالحسرة بداخلها أنها لم تملك ولو مثل هذه المداعبات مع زوجها يومًا ما..
❈-❈-❈
مشت وهي تتلفت حولها يمينًا ويسارًا وهي لا تُصدق أن هناك من يملك منزلًا بهذا الحجم وهي مشدوهة تمامًا لتجد نفسها تتمتم في بلاهة:
- يا لهوي! بقى انت يا جاد ابوك واخواتك عندهم البيت ده كله وسايبينك معانا في الحارة! ناس ليها بخت وناس ملهاش صحيح!
التفتت لترى مساحة الرواق الشاسعة التي تتوسط الطابق الثاني لتجد نفسها ترتطم بجسد فجأة لتشهق من ذلك الرجل الذي ارتطمت به ليحدجها بزوج من العيون العسلية الرائقة تمامًا لينظر لها في تساؤل متعجبًا:
- انتي مين؟
حمحمت ثم ابتعدت عنه واجابته برسمية وابتسامة عفوية:
- أنا رحمة.. الممرضة الجديدة.. جيت علشان Mr أنور! أنا لسه جاية جديد من خمس ايام و..
أومأ في تفهم لم يخلو من الغرور وهو يُشير بكفه أن تتوقف عن الكلام ففعلت ليتركها هاززًا رأسه لتلك الفتاة التي ظن أنها كلمتان آخرتان وستسأله من هو وغادر ليقول بغطرسة وهو ذاهب بطريقه لغرفته كي يُحضر حافظة نقوده:
- الدور التالت بتاعكو مش التاني خالص!
هزت رأسها في تهكم وامتعضت ملامحها لتغمغم في محاكاة:
- مش التاني خالص! ده ايه الناس دي.. ليه حق جاد ميعرفهومش!
تنهدت وغادرت مسرعة وتمنت لو توقفت عن فضولها الذي لطالما يُسبب لها المتاعب وذكرت نفسها سريعًا انها هنا لأمر واحد فقط.. أن تساعد ذلك الرجل الذي لطالما عشقته منذ أن كانت فتاة صغيرة..
لقد نجحت بأخذ العينات اللازمة التي ستساعد "جاد" في اثبات نسبه عندما بدأت في العمل مع "انور الشهابي" منذ عدة أيام، هذا كل ما آتت لأجله وستكون هي من تساعد "جاد" في أن يحصل على حقه من تلك العائلة الظالمة يومًا ما!
لانت شفتاها بإبتسامة سعيدة وهي تتذكر أنها ستراه أخيرًا غدًا وستُحدثه في مكان آخر سوى تلك المقاعد الكئيبة الخاصة بزيارة المسجونين وتمنت لو مرت تلك الساعات التي تفصل لقاءهما بسرعة شديدة، فلقد اشتاقت لذلك الفتى بملامحه وهي تراه كل يوم يكبر عن ذي قبل ليُصبح في النهاية رجُلًا رائعًا سيكون لها وحدها يومًا ما..
تعشمت بالكثير من اللحظات، الذكريات، الإبتسامات التي لم تكن تعلم أنها ابتسامات اخوية منه، وابتسامات غائبة في العشق الذي لم يكن سوى من طرفها هي وحسب!
❈-❈-❈
استيقظت ورأسها يتهشم من كثرة الصداع الذي يضرب ثنايا عقلها بأكملبه لترفع يدها محتويه جبينها واطلقت زفرة متوجعة من شدة آلمها ثم نهضت بتأني نحو مطبخها لتصنع القهوة، أو ربما الكثير منها!
تمنت لو عالجت نفسها ببعض الكحول ولكن اليوم هو الزيارة السنوية اللعينة لعائلتها حيث لا تفعل شيئًا سوى الإستماع لأخيها، زوجته التي تشابه احدى الزواحف السامة، وتحمل نظرات والدتها الساخطة.. تشكر الجميع وترحل بملامح متهكمة ساخرة!
توجهت لمبرد المياة لتخرج قنينة مياة وتجرعت منها الكثير بصحبة قرصان علهما يستطيعا معالجة صداع اسهابها في ثمالتها ليلة أمس، كم زجاجة احتست.. تظن انهما اثنتان!
جذبت هاتفها لتتفقد به حسابها على احدى مواقع التواصل الإجتماعي لتجد أنها اسرفت في الرقص، الضحك، واحتساء الخمر.. حسنًا، لن تكون المواجهة بينها وبين عائلتها بهينة أبدًا!
ولكن على كل حال هم من جنبوها بأكملهم الحياة معهم.. ليذوقوا ماذا يعني أن يُفسد لك احدى الأشخاص حياتك وهو بيوم ما كان قريبًا لك للغاية..
لتتمتع زوجة اخيها بالأموال ولتصفق والدتها لهما.. لا تكترث بكل هذا.. طالما تحصل على الأموال اللازمة للحياة فهي لا تريد شيئًا آخر.. لتستعد إذن لواحدة من تلك المحاضرات التي لا تنفك رأسها عن إيلامها وهي تهتز بالموافقة والإذعان ظاهريًا إلي أن تنتهي من جلستها معهم، وإلي اللقاء..
ضغطت على احدى الأيقونات لتعود للصفحة الرئيسية لتجد أمامها صورة صديقتها التي ابتعدت عنها منذ أربع سنوات بصحبة زوجها، ذلك الحقير!! لقد كان السبب في إفساد كل شيء بينهما يومًا ما! لا تدري لماذا "رفيدة" بكل ذكائها تقبلت أن تتزوج "ياسر" بكل خبثه وما هو عليه؟
ليعيشا ويتمتعا مثلما أرادا، لا يهم، بالرغم من أنها كانت أقرب من لها بالحياة ولكن ما دام تُصدق حقًا انها كانت خائنة لها لتفعل ما تشاء.. ليست أول من ستخسرها بالحياة!
شعرت بغصة تنفجر بحلقها وهي ترمق صورها بلمفها الشخصي ووجدت أنها تُعيد النظر إلي مثل تلك الصور مجددًا التي تطالعها آلاف المرات فألقت بهاتفها بعيدًا وهي تناشد نفسها أن تتوقف عن فعل مثل تلك الحماقات! لقد اخرجتها "رفيدة" من حياتها دون الإكتراث للحقيقة وعليها أن تفعل المثل!
❈-❈-❈
تنهدت وهي تنظر إلي تلك المنحنيات التي تُمثل تقريرًا من احدى التقارير التي تُقدم للإدارة التنفيذية ثم تفقدت وجهي كلًا من اخيها وزوجها وغمغمت في تساؤل:
- هو سلمان مش ناوي يجي برضو زي كل مرة؟
رفع اخيها كتفاه ثم اخفضهما وكدلالة على عدم المعرفة واجابها:
- اللي اعرفه انه مشغول.. ممكن فعلًا ميجيش
حمحمت ثم نهضت لتتجول بالغرفة حولها وقالت:
- هو حر.. بص يا راغب لو كملنا بنفس المستوى ده مش بعيد يبقى كلها خمس سنين بالكتير ونلاقي اللي بينافسنا، بالذات في شركات الشحن.. وكل يومين بيطلعوا بفكرة جديدة فيه.. لو بصينا مثلًا لشركة زي امازون وطريقة الشحن الذاتي اللي عايزين يطبقوها دي حرفيًا ممكن تمحي شركات قديمة من زمان في المجال.. لازم نشوف فكرة نطور بيها ده! مدير تنفيذي جديد.. نختاره ونشوف الـ plan بتاعته..
أومأ لها بتفهم ليتدخل زوجها متحدثًا:
- بس رفيدة أنا كنت عايز أقول إننا لازم برضو نخلي بالنا من شركات المباني.. مبقالناش كتير في المجال، وكذا شركة عملت عروض كتيرة علشان طرق السداد، ممكن نعمل حملة اعلانية جديدة خالص وطرق سداد نمدها شوية ده هيرفع رقم مبيعات الوحدات!
زفرت في ارهاق ثم قالت بعدم اكتراث:
- ياسر ارجوك شوف انت الموضوع ده واعمل اللي أنت عايزه.. أنا ورايا حاجات تانية وانت اللي بتفهم في شغل المباني والحاجات دي.. مفياش دماغ خالص ليها!
ابتسم برسمية إليها بينما بداخله امتلئ بالفرحة، هذا ما كان يتوقعه منها وتمامًا ما تخيل حدوثه، لقد توقع انها لن تأخذ قرارًا بالأمر هذا فرد متصنعًا الإنشغال:
- تمام يا حبيبتي.. هروح انا الفرع التاني واحتمال ملحقش العشا النهاردة!
أومأت له بإبتسامة مليئة بالعذوبة وتفقدته إلي أن غادر غرفة مكتبها ونهض أخيها ليتبعه ولكنها أوقفته هاتفة:
- راغب استنى..
التفت ناظرًا إليها بملامح متسائلة عما تريده بينما سألته:
- مش ملاحظ إن ياسر فيه حاجة غريبة النهاردة؟
أومأ لها بالإنكار قالبًا شفتاه ثم قال:
- لأ حاسه عادي يعني..
هزت رأسها مهمهمة ثم اجبرت ابتسامة على ملامحها وهي لا تنفك تُفكر بحالة زوجها الغريبة ولكنها تابعت كلماتها إلي اخيها:
- تمام.. يالا مش هاعطلك.. أنت صحيح مصمم ترشح نفسك في موضوع مجلس النواب ده؟
أومأ لها بالموافقة ورد ليقول:
- صدقيني هيفدنا كتير.. لما نبقى مستثمرين ورجال اعمال غير لما نبقى مسنودين من جوا.. اكيد فاهمة قصدي
تنهدت وهي تتفقده وردت بنبرة واثقة:
- اكيد، خد بالك بس علشان الدخول في الحاجات دي مش سهلة، والدخول فيها مش زي الخروج منها أبدًا..
ضيق عينيه متفحصها ثم تسائل:
- هو فيه حاجة انتي تعرفيها ومخبية عليا ولا ايه؟
اشارت برأسها بالإنكار ثم اجابته:
- انت عارف إني دايمًا بحب اخد بالي من كل حاجة! وعمومًا الحاجات دي مش مضمونة اوي اليومين دول، وخد بالك إن رجل اعمال زيك ناس كتير هتنتقده فلازم تبقى مستعد من دلوقتي لكل لكلام ده..
ابتسم بإقتضاب لاويًا شفتاه إلي احدى الأركان ثم قال:
- متقلقيش، متنسيش إن لينا معارف اصحاب بابا يقدروا يسهلوا الموضوع.. يالا أنا هامشي اروح مكتبي واحتمال منروحش سوا..
أومأت له بالتفهم لتجلس مُطنبة التفكير بأمر زوجها بينما هو غادر وفي طريقه اخبر مساعدته الشخصية:
- أنا ورايا شوية حاجات.. مش عايز ازعاج خالص ساعتين كده!
نهضت وهزت رأسها بالموافقة ودخل هو مكتبه ليغلق بابه وكان المكتب الوحيد بهذا الصرح بأكمله الذي صُنع دون أبواب زجاجية، وليس هناك من يستطيع فرض أمرًا عليه.. فهو يفعل ما يريده بهدوئه المبالغ فيه بمنتهى الخبث الدفين..
أخرج هاتفه من جيبه ليجد مكالمات فائتة من زوجته، ابنته، وخالته كذلك ليقرر أنه سيتحدث لهم لاحقًا ثم انتقل سريعًا لأحدى المواقع بعد أن تأكد أنه ليس متصلًا على الشبكة الخاصة بالشركة كي يحصل على بعض المُتعة المحرمة التي يبالغ في الحصول عليها بمفرده لأكثر من مرة في اليوم معللًا لنفسه أنه كبت يُخرجه حتى يُصفي عقله لعمله ومشاغل حياته!
❈-❈-❈
حاولت تفادي تلك النظرات المعترضة على افعالها واسلوب حياتها الذي كان عليه اخيها يومًا ما بينما استمعت لزوجة اخيها التي تتصنع الطيبة وهي تقول:
- ايناس يا حبيبتي كده مينفعش.. اعملي اللي انتي عايزاه بس انتي فاهمة إن ده بيضرنا!
ابتسمت لها ابتسامة لم تقابل اعينها بينما تحدث اخيها بحزم:
- أنا أول واخر مرة انبهك للموضوع ده، فضايحك اللي انتي بتعمليها دي بتأثر علينا في السوق.. إيناس أنا مش عايز اتصرف معاكي تصرف يضايقك وسايبك براحتك!
ابتسمت بسخرية على كلماته لتتمتم بإستنكار:
- مش ده نفس اللي كنت بتعمله في يوم من الأيام، غريبة!
انفجرت ملامح اخيها بالغضب بينما لم تكترث ولم تتأثر بأي مما يحدث حولها ليصيح بها:
- أنا لآخر مرة هحذرك.. اعملي اللي انتي عايزاه من غير ما حد يعرف، إنما مصايبك اللي كل ساعة والتانية بنتبهدل قدام الناس بسببها دي هيكون ليا رد فعل تاني عليها!
نهض من كُرسيه مغادرًا واحدة من غرف الإجتماعات بشركة والدها التي استولى عليها كلًا منه ومن زوجته بينما حدثتها والدتها برفق:
- يا حبيبتي مش كده.. ماينفعش اللي انتي بتعمليه فينا وفي نفسك.. ما ترجعي البيت وتعيشي معانا زي زمان.. ايه لازمتها الحياة اللي ملهاش لازمة دي وتبعدي عني وعن اخوكي ومراته! اعقلي يا ايناس انتي بقيتي كبيرة مش صغيرة زي زمان!
استمعت لأصوات ضحكها الساخر بداخلها بينما أظهرت الجمود أمام والدتها لتنهض وهي تقول بإقتضاب:
- ايناس اللي سيبتوها تمشي عمرها ما هترجع تاني!
جذبت حقيبتها بينما نظرت لها والدتها بقلة حيلة وشعرت بملامح التآفف التي اعترت وجه زوجة اخيها فأضافت:
- الإجتماع خلص المرادي.. فلوسكوا كالعادة هتوصلكوا وأنا فلوسي هتوصلني ومتشكرة.. مع إني بتسرق بس يالا مش مهم.. شكرًا على الإحسان بتاعكم!
تركتهما خلفها وغادرت بأقصى سرعتها وهي تشعر وكأنما العبء أخيرًا انتهى ولن يكون عليها مواجهة أي منهم سوى بعد سنة كاملة من الآن لتُعاد نفس الجلسة ونفس الكلمات ونفس كل شيء في روتين سنوي كئيب!
يتعشم الآن احدًا منهم أن تعود لهم مثل ما كانت معهم يومًا ما ولكن هذا لن يحدث، فمثل ما تركوها لتذهب، ستترك جميعهم يتمنوا أن تكف عن افعالها ولو ليومًا واحدًا وليندم جميعهم أنها لم تعد معهم!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي..
شعرت بتوقف الشعيرات على جسدها بأكمله، مُصابة بحالة من الإرتباك الشديدة لمجرد فكرة رؤيته، والآن تفرقها عنه بضع ثواني قليلة وهي تترك تلك السيارة التي طلبتها من احدى التطبيقات وتوجهت حيث سيظهر هو من خلف ذلك الباب بعد سجن دام لأكثر من عشر سنوات!
ذهبت والفرحة المترقبة تفعمها بالحياة، ترتدي ابتسامة لينة تعلم أنها ستزداد عند تلاقي اعينهما، عينيه لقد اشتاقت لهما للغاية، منذ الكثير من الوقت الذي دام لسنوات لم تره بعيدًا عن تلك الجدران الكئيبة ومدد الزيارة المحددة التي لازمه بها اخيها أغلبها!
تناولت نفسًا عميق وظلت منتظرة إلي أن رآته يُسمح له بالخروج أخيرًا لتبتسم له وأقبلت نحوه آخذة خطوات متسارعة لتقول بفرحة:
- حمد الله على السلامة يا جاد..
نظر إليها لتلين شفتاه راسمة ابتسامة لم تُظهر اسنانه ورد بإمتنان قائلًا:
- الله يسلمك، برضو صممتي تيجي؟
نظرت إليه بلومٍ شديد ثم عاتبته بنبرة حزينة:
- ما أنت عارف إني استحالة مجيش.. وبعدين الدنيا مبقتش زي الأول.. يالا أوبر مستنينا..
مشت بجانبه بطاقتها المرحة دائمًا في خطوات سريعة تحاول أن تُهدأ منها بينما تعجب مما استمع له ليسألها:
- إيه أوابر ده ولامؤاخذة؟
صدحت ضحكتها بتلقائية ثم قالت مُجيبة ببقايا آثار ضحكتها:
- أوبر مش أوابر.. وكمان فيه كريم وكريم باص وأوبر باص.. الدنيا اتطورت جامد عن زمان.. وده عبارة عن عربية كده بتطلبها بتطبيق على الموبايل..
تنهد متعجبًا ثم تمتم:
- اوابر ولا اوبر ما علينا.. اهو كله تاكسي..
التفت إليها بجدية ثم سألها:
- عملتي اللي اتفقنا عليه؟
رمقته بمزيدًا من اللوم ثم اجابته بتنهيدة:
- أيوة عملت، اخدت العينات منك ومنه وخلاص النتايج قربت تطلع! ارككب بس الأول ناخد نفسنا ونروح وبعدين نبقى نتكلم في كل حاجة..
دلف بالمقعد المقابل للسائق ليُلقي عليه التحية:
- سلامو عليكم..
ردد الرجل التحية هو الآخر بينما بدأت عينيه تتفقد الطريق الغريب الذي لم يعد مثل السابق أبدًا وهو يرمق تلك اللوائح المُعلقة للإعلانات ليتذكر ابيه الثري وأخواه كذلك فسألها:
- رحمة أنا عايز اروحله النهاردة..
زفرت بضيق وتريثت قليلًا في محاولة منها لإنتقاء الكلمات بعناية:
- استنى شوية يا جاد لما نتيجة الـ DNA تطلع، وبعدين لازم ابقى فاهمة البيت ده كويس.. أنا لسه يادوب هناك مكملتش اسبوع!
تنحنح خوفًا من ذلك الرجل الجالس مع كلاهما فهو يُعتبر غريب وليس عليه معرفة تفاصيل شيئًا ليلعن حظه ولكنه قرر أن يترك الكلام جانبًا الآن فلقد انتظر للكثير ولم يتبق سوى القليل.. القليل للغاية..
لقد تعشم كثيرًا بالعودة، أخذ ما هو له.. حقه مثل حقهما تمامًا.. لا، بل يريد تعويضًا عن تلك السنوات التي لم تكن لتضيع كالهباء بسبب والده، أو كما يُلقبه الشيطان الأعظم!
❈-❈-❈
تلاشت ابتسامتها المُزيفة التي كانت تحافظ عليها طوال الوقت الذي كانت تتحدث به معه على الهاتف بينما تعالى الشك بداخلها، هناك ثقة لا نهائية بداخلها تزداد بمرور الأيام بأن زوجها لا يعد نفس الرجل الذي عرفته يومًا ما فقررت أن تهاتف رقمًا آخر ثم هتفت به في جدية:
- رأفت.. تسيب كل اللي في ايديك وتطلع على الجونة تشوفلي ياسر بيعمل إيه هناك..
آتاها رده المُرتبك ثم قال:
- أصل يا مدام أنا..
قاطعته بحنق ولهجة لا تحتمل النقاش:
- رأفت! بقول تسيب كل اللي في ايدك وتروح الجونة! سامع؟!
تنهد بقلة حيلة ثم رد متعللًا بحجج واهية:
- أصل، أصل اكيد ياسر بيه هيسافر طيران وأنا يعني هـ..
زفرت في تأفف ثم قاطعته من جديد:
- تعلالي كمان ربع ساعة هكون حجزتلك، ابعتلي صورة الباسبور حالًا..
أنهت المكالمة معه بينما أرسلت صورة جواز سفره إلي مساعدتها الشخصية وتبعتها بإحدى الرسائل الصوتية:
- احجزيله على أول طيارة طالعة الجونة، حتى لو business class، بسرعة يا هنا وتبعتيلي confirmation والتذكرة..
نست انها لم تُحدد تاريخ العودة فأرسلت لها من جديد:
- خاللي تاريخ العودة كمان تلت أيام.. بسرعة!!
رمقت الهاتف لتجد أن مساعدتها قد استمعت بالفعل لرسائلها وطبعت رسالة مكتوبة بأنها تعمل على الأمر لتضع هاتفها بعيدًا وبداخلها أخذ الإرتباك يتزايد.. هي تفعل كل ذلك ولا تريد أن تصدق بتلاعب زوجها..
هي ببساطة لا تريد أن تدرك أن الجميع كانوا صائبين وهي الوحيدة المخطئة.. وخاصةً صديقتها.. هي لا تريد أن تكون على خطأ وخصوصًا بما يخص "ياسر"..
هي ببساطة لن تتحمل أن يكون زوجها خائنًا وهو من أفسد الأمر بينها وبين صديقة عمرها "إيناس" التي اختارت ألا تُصدقها وتُصدقه هو يومًا ما!
❈-❈-❈
مشيا سويًا متجهان إلي الحارة بإحدى المناطق الشعبية التي ترعرع بها كلًا منهما وترك بينهما مسافة مقبولة فهو يعلم نظرات الجميع هنا إليهما وبمجرد اقترابه استمع لمن يناديه ليلتفت ووجده "محروس".. هذا الرجل الذي لم تر عائلته الصغيرة منه سوى كل خير..
اقترب نحوه بإبتسامة وعانقه بحفاوة ليستمع له وهو يُردد:
- حمد الله على سلامتك يا جاد يا ابني..
بادله الإبتسامة وقال بإمتنان:
- الله يسلمك يا عم محروس..
ربت على كتفه برفق ثم قال:
- يالا شد حيلك وهتلاقي شغلك وكل حاجة مستنياك.. الورشة موجودة، ولو عايز كمان تفتح الدكان أنا عينيا ليك.. رحمة كانت يتوصلني اخباركوا اول بأول
ربت على صدره بكف يده ليقول بمزيد من الإمتنان:
- تشكر يا عم محروس، ومن غير ما تقول أنا عارف جدعنتك وأصلك وكرمك
قاطعهما صوت استغربه "جاد" في البداية ولكن عندما نظر جيدًا عرف من هو:
- ياااه.. جاد ابن عطا الله، والله والأيام بتعدي هوا.. ازيك يا أخويا، عامل إيه؟
رمقه بضيق بينما اجابه ونظراته تحمل عدم الود:
- بخير طول ما أنت بخير..
ابتسم له بتهكم ثم قال بسخرية:
- حمد الله على السلامة، والسجن للرجالة برضو.. واهي شدة وزالت ومسيرها تزول وتنسى اليومين اللي اتسجنت فيهم، ألا يا عم محروس هو جاد وسعد بقالهم كام سنـ..
زجره "محروس" بشدة قائلًا:
- جرا إيه يا رزق، ما تروح تشوف شغلك.. مالك جاي سخن علينا كده ليه؟
ابتسم "جاد" ناظرًا لكلاهما ثم قال:
- لا يا عم محروس ملوش لزوم أنا كده كده ماشي هاروح ارتاح!
تسائل "رزق" بملامحه الممتعضة متعجبًا:
- ألا انت ناوي تقعد في بيت أبو سعد الله يرحمه؟
كادت أن تتحدث "رحمة" بينما أدرك "جاد" ما يعنيه جيدًا وسبقها:
- لا ودي تيجي ورحمة قاعدة معايا في بيت واحد، أنا هاقعد في الدكان! ابقي اتفضل تنورني وتشرب الشاي وتاخد واجبك.. أصل ده اللي أبو سعد علمهولي..
نظرا لبعضهما البعض نظرات غير مُرحبة تمامًا ليضيف "جاد" متحدثًا:
- بالإذن يا عم محروس..
أومأ له وسرعان ما اتجه هو وهي إلي بيتهم الذي يبعد مسافة خطوات قليلة عن ذلك المقهى الذي لم تغيره السنوات ليتحدث "محروس" في زجر:
- وكان لازمته ايه يا رزق الكلمتين دول؟ الراجل لسه خارج تقوم قايله الكلمتين دول؟
لم تغادر عينيه تفقدهما حتى وصلا لبيتهما ثم اجابه:
- الاه! ما أنت عارف اللي فيها يا عم محروس.. ده الحاج صلاح الله يرحمه كان مفهمك كل حاجة.. ازاي يعني رحمة بنت عم عطا الله هتقعد معاه في بيت واحد لواحدهم؟ ميصحش واحنا ناس مبتقبلش الحال المايل!
نظر له بسهط وهو يتفقده مليًا بينما قال بزفرة مُرهقة:
- يا ريتك فهمت من أبوك الله يرحمه اللي أنا فهمته.. وبعدين انت متجوز يا رزق وعندك عيالك.. شيل رحمة بقى من دماغك.. لا انت تنفعها ولا هي تنفعك!
❈-❈-❈
استمع لطرقات الباب الخلفي الذي يطل على الدرج الخلفي للبيت فذهب ليتفقد من الطارق ليجدها أمامه حاملة ما يبدو أنه طعامًا مُغطى لتقول بإبتسامة:
- عملتلك بقى أكلة تستاهل بوقك..
تفقدها بنظرات ممتنة وتناول الصينية من يداها ليحملها عنها ثم قال:
- مكنش له لزوم تتعبي نفسك.. تسلم ايديكي..
ابتسمت له بلهفة وهمست بلوم:
- وأنت بس مين اللي هياخد باله منك يا جاد، عيب تقولي الكلمة دي، مفيهاش تعب أبدًا ولا حاجة!
تنهد وهو يومأ لها بتفهم ثم قال:
- لا مؤاخذة هاقفل الباب..
تلهفت قائلة:
- استنى بس.. احنا لسه متفقناش بكرة هنعمل إيه؟
هز كتفاه بتلقائية واجابها بحزم:
- هنعمل ايه يعني.. اللي اتفقنا عليه..
حمحمت وهي تشعر بالإرتباك وودت لو فقط دعاها للداخل فقالت بتلعثم:
- يعني.. أنا مجهزالك شنطة والهدوم و.. ولما توصل لازم تـ..
قاطعها عندما استشعر أنها تريد الثرثرة ليس إلا:
- رحمة، ميصحش حد من الجيران ولا أهل الحتة يشوفك واقفة بتتكلمي معايا كده..
زمت شفتاها بضيق لتندفع قائلة:
- فيه إيه يا جاد؟ ما كل الناس تعرف إنك اخويا!
نظر إليها بإنزعاج ليزجرها قائلًا:
- يعرفوا ولا ميعرفوش.. مشوفتيش رزق وهو بيلقح بالكلام، وأنا مرضالكيش بكلمة تتقال عليكي.. اتفضلي اطلعي من سُكات!
دخل سريعًا وأغلق الباب ليتعالى غضبها من طريقته الفظة معها ولكنها سكنت أوجاعها التي تحملتها لسنوات وهو بعيدًا عنها بأن كل ذلك سينتهي عندما تتغير حياته، حياة اخيها، وحياتها هي.. فهي تعلم جيدًا أنه لن يتركهما خاصة بعد كل ما فعله والده من أجله ومن أجل والدته..
تعشمت من جديد أنها عن قريب، خلال عدة أيام فقط ستستطيع رؤيته والتحدث معه دون خوف أو شُبهات، فهو لن يجد من يعشقه مثلها.. حب منذ الصغر لن يجده بأي إمرأة أخرى!
يُتبع..