-->

الفصل الرابع - وكر الأبالسة - Den of Devils




الفصل الرابع

❈-❈-❈


الشيطان يكفية عشر ساعات ليخدع رجلا والمرأة يكفيها ساعة واحدة لتخدع عشرة شياطين"


مثل ألماني


❈-❈-❈


بدأت حركات صدره التي ارتفعت وانخفضت في صخب بالهدوء نسبيًا وهو ينثر تلك المياة من يده التي غسلها من بقايا الدماء المُتعلقة بيديه من لكماته إلي "رزق" ليستمع لصوت "محروس" اللائم:

- كده برضو يا جاد يا ابني.. عايز تضيع اللي باقي من عمرك في واحد زي رزق..

رمقه بغضب حاول التحكم به فهو لن يسيء أبدًا إلي رجل كان صديق والده وبعمره تقريبًا فهسهس بإنزعاج بين اسنانه الملتحمة:

- ما هو اللي زي رزق لازم يتقطعله لسانه علشان مينطقش تاني

تفقده الآخر في آسى على حاله ثم حدثه ناصحًا بحنان أبوي فطري:

- يا ابني، ملهاش لازمة تضيع اللي باقي من حياتك علشان خاطر واحد زي ده، فوق يا ابني وشوف حياتك بعيد عنه

تشنجت ملامحه مشمئزًا وهو يتذكر تلك الكلمات التي لم تتفق معها نخوته ثم هدر بصوت غاضب:

- وهو أنا اللي كنت جيت جنبه ولا هو اللي اتسحب من لسانه زيه زي أي مرا..

تنهد "محروس" واقترب منه رابتًا على كتفه ثم قال بنبرة استفهامية منتظرًا بعدها إجابة منه:

- خلاص يا جاد اهو درس واتعلمه، انت يا ابني من بكرة تيجي وتقعد معايا وتشوف هتشغل الدكان تاني ازاي لغاية ما سعد يخرج بالسلامة وواحدة واحدة ترجعوها تاني.. قولت ايه؟

رفع رأسه نحوه زاممًا شفتاه بحقد شديد وبداخله يقارن بين ذلك المنزل الذي كان يتفقده بأعينه منذ عدة ساعات والآن يستمع لما يخرج من فم هذا الرجل الذي يريد مساعدة ابن "أنور الشهابي" الذي يملك أموالًا كفيلة لإصلاح حال أهل هذه المنطقة بأكملها ويستطيع أن يجعل كل واحد منهم رجل أعمال مبتدئًا ليردف بكراهية مكتومة مجيبًا:

- لا يا عم محروس.. مش هاقعد اسجدك بشوية كلام.. سيبني وأنا هارعف اتصرف في كل حاجة.. لو على الفلوس فأنا معايا اللي يمشيني الكام يوم الجايين.. ولا نسيت البيت اللي اتباع للحاج صلاح علشان عملية أمي وملحقناش نصرف الفلوس في حاجة؟

تنهد الرجل بعمق في آسى وهو يتفقده بنظرات حائرة بينما تمتم بقلة حيلة:

- ماشي يا ابني اللي تشوفه، ولو على رزق أنا هـ..

قاطعه بعصبية يحاول كتمها:

- لا تروحله ولا تتكلم معاه، أنا بس مستنيه يفتح بُقه بكلمة تاني وأنا ورحمة أمي لا أكون مموته! وفي كلب زيه بيتهجم على اهل بيتي مش هاخد فيه غير تلت سنين ولا حتى سبعة.. مبقتش فارقة معايا

زجره بنبرة ناصحة خوفًا من أن يُقدم على فعل ما يتفوه به بينما قال:

- لا يا ابني.. فوق واعقل.. متضعيش من حياتك اكتر من كده، أنت اللي زيك متجوزين وفاتحين بيت وعندهم بدل العيل اتنين وتلاتة، بلاها تخسر خسارة تانية بسبب الكلب ده.. اعقل وحط عقلك في راسك وأنا هاجيلك الصبح.. اهدى وصلي على النبي وقوم ناملك ساعتين.. الوقت أتأخر..

شرد بالأرضية بينما تمتم:

- عليه الصلاة والسلام! 

تركه ليسبح بأفكاره بين أمواج متلاطمة من ماضيه وحاضره، كان يحسب خطواته طوال سنوات من قضية تلفيق ظلم بالإختلاس الذي لم يرتكبه لا هو ولا "سعد" من مخازن "أنور الشهابي"..

يعرف جيدًا أنه ارشى الكثير ببزخ مما جعله ذو الثامنة عشر واخيه "سعد" ذو العشرون من عمره فجأة هكذا عاملان لديه بشركاته بل وقاموا بالإختلاس وسرقة مخازنه وعمل بكل قوته على أن يكونا مُذنبان ليتلقى كلاهما خمسة عشر عامًا من السجن المُشدد ظلمًا وزورًا.. 

الآن هو يستطيع أن يُثبت الكثير وقد قام بتحضير كل شيء ولكن ما لم يُفكر به هو عرقلة "رزق" إياه.. على كل حال، شرذمة مثله لن توقفه أبدًا عما يريد تحقيقه، ولو اضطر أن يرحل برحمة بعد إقناع اخيها من هنا سيفعلها.. كل ما يحتاجه هو كشف أوراق لعب أبناء والده، أو ليقول أبناء الشيطان الأعظم.. فهو لا يطمئن ولن يفعل لتلقيبهم بإخوته!

❈-❈-❈


لوت شفتاها وهي تتفقده جالسًا على احدى الكراسي بأريكة بيته بعد زجره لزوجته وأبناءه بالذهاب وتركه ثم تهكمت بنبرة صحبتها الشماتة:

- قولتلك يا اخويا سيبلي الحوار ده اجيبلك قراره، روحت اتسحبت من لسانك واتصرفت أنت! 

رمقها بإمتعاض بطرف عينيه ليهمس بقهر رجل تمزقت كرامته أمام الجميع منذ قليل لما تلاقاه على ايدي "جاد" وباغته بما لم يتوقعه:

- ما خلاص بقى يا وداد فضيها سيرة وقومي ناميلك ساعتين بعيد عني..

مصمصت شفتاها متنهدة ثم تصنعت الطيبة لتهمس:

- وأنا اللي كان غرضي اساعدك واجيبلك رحمة دي تحت رجليك واخليها تتمنالك الرضا ترضى.. باين كنت غلطانة..

تصنعت النهوض ليوقفها هاتفًا بها:

- استني بس يا وداد ياختي الكلام اخد وعطا.. 

حولت طرف عينيها إليه بتساؤل في صمت ليسألها:

- رسيني وعرفيني.. ناوية على ايه مع رحمة؟

تنهدت ثم اراحت جسدها بكرسيها وقالت:

- مالكش صالح باللي ناوية اعمله.. قولي انت الأول..

تفحصته بنظراتها لتعرف عما كانت تحدثه والدته بالسابق لتسأله:

- أمك كانت عايزة منك في ايه لما شيعتلك؟

حمحم وهو يتلعثم بإرتباك واجابها في النهاية بنبرة منخفضة:

- كانت عايزة.. كانت يعني بتتكلم على حوار جوازك!

امتعضت ملامحها لتقول بإعتراض:

- اللهم طولك يا روح.. ما قولت إني مش رايدة الصبي بتاعك اللي اسمه عاطف ده!

عقد حاجباه في استغراب ليتسائل:

- وانتي عرفتي منين إنه عاطف؟

زفرت مُخلفة صوت انفاسها بضيق ثم قالت:

- انت فاكرني نايمة على وداني.. بقى عايز وداد بنت الحاج صلاح تتجوز صبي شغال في جزارة ابوها.. ابقى قول لأمك إني مش هنفذ اللي في دماغها.. تصبح على خير يا اخويا، أنا نازلة انام!

نهضت لتغادره ليوقفها بلهفة:

- رايحة فين وانتي لسه مقولتليش هتعملي ايه مع رحمة!

توقفت في طريقها بينما اجابته دون أن تلتفت له:

- اديني يومين وأنت تعرف.. كل اللي عايزاه منك تبعد عنهم خالص ومالكش صالح بيهم غير لما اعرفك! 

اضافت بتحذير ونبرة غارقة في التفكير بما تُريده وترغبه قبل أن تغادره تمامًا:

- لم ايدك ولسانك لغاية ما اخلصلك الموضوع وإلا ورب الكعبة لا اقلبها عليك!

❈-❈-❈

ربتت اصابع يدها اليُمنى المُستندة على يدها اليُسرى وهي تستمع لنطق والدها المصحوب بمشقة شديدة وهو يخبرها هي وأخيها ما حدث منذ سنوات كثيرة بإتفاق بين كلًا من والدها ووالدتها..

زواج تم بالتزوير، كانا يريدان مجرد طفل يخلفهما، وفي النهاية عندما حملت "ناريمان بدوي" بهما تركا تلك المرأة وابنها دون رجعة واخفيا كل ما يدل على هذا الزواج.. خطة مُحكمة ولكن بعد مجرد جواسيس استطاع "راغب" تعينهم كشفوا ذلك السر الذي اختبأ لحوالي ثلاثون عامًا..

همهمت في تفكير بثباتها وثقتها المعتادان بينما لاحظت غضب اخيها الذي يتصاعد فهو لا يمتاز بالهدوء وقت العاصفة أبدًا على عكسها لتتهكم بداخلها لإختلافهما الشديد بالرغم من انهما توأم واحد وأكملت تهكمها عندما تابع والدها همسه:

- أنا مخونتش ناريمان.. أنا وناريمان اللي قررنا يومها كل ده مع بعض!

زفرت بضيق غير مُكترثة لما فعلاه يومًا ما حتى يُصابا كلاهما بتلك الكارثة وسألت هي عن ما يهُم:

- هو لما جالك كان جايب معاه اوراق ايه؟

لهث بصعوبة ولكن لم يكترث أي منهما لشدة مرضه، فالشيطان مثله لا يهتم سوى برغبته ولا يعبأ ولا يكترث بما يمر به الآخرون، ويا لفخره.. لقد كبر كلاهما ليُشبهاه تمامًا:

- جايب نتايج DNA بتثبت إنه ابني.. وقال إن فيه اعترافات متسجلة هينشرها.. دي لوحدها لو طلعت قدام الناس هتعمل دوشة كبيرة..

ظلت تربت بأصابعها على شفتاها وهي تهمهم بالتفهم ثم تسائلت مرة أخرى بينما أخذ والدها القناع ليستنشق منه:

- وأنت اتنازلتله عن الورث كله ولا عملت ايه؟

أومأ بالموافقة ليهدر صوت اخيها:

- انت ازاي تعمل كده؟ مش كفاية غلطك زمان ودلوقتي كمان جاي تصلح الغلط بغلط أكبر!

التفتت لترمقه بهدوء وزجرته بثبات ونبرة هادئة:

- استنى يا راغب.. 

اعادت رأسها نحو والدها ثم تحدثت بهدوء جعل الدماء تغلي بداخل عروق اخيها:

- كمل.. قول إيه اللي حصل؟

تريث لبُرهة ثم نزع القناع للأسفل وتكلم بمشقة:

- كان سائل كويس وعارف مين المُحامي.. اديتله زيه زيكو في الورث بالظبط.. وعايزني اعترف بالنسب.. مكونتش هاقدر ارفض يا إما واحد زيه هيتكلم ومش هايسكت وده هيأثر على وضع راغب في الإنتخابات.. كان لازم اعمل كده قدامه وأنا مفيش حد جانبي لغاية ما اشوفكوا واقولكوا..

سعل شاعرًا بالإختناق بينما لم يبادر أيًا منهما بمساعدته ليتصاعد غضب "راغب" بينما غرقت "رُفيدة" بالتفكير وأخذ والدهما بصعوبة القناع مرة أخرى ليغمغم اخيها:

- مش فاهم ازاي يعمل كده من غير ما يرجعلنا..

نظفت حلقها واخفضت تلك اليد التي كانت تُربت على شفتاها التي رطبتهما وهي تعقد ذراعيها بينما تحدثت بنبرة تحمل خُطة ما من نوعها:

- دلوقتي لما اتسجن كان بإسم غير اسم أنور الشهابي يعني.. لو أنت يا بابي اعترفت بالنسب هيبقى اسمه جاد أنور الشهابي والإسم ده قانونًا قصاد الناس مش هيبقى عليه احكام.. مش كده؟

تفقدت وجه كلاهما ليخلل اخيها شعره بإنزعاج واجابها بعصبيته المعهودة:

- معرفش.. لازم نقعد مع المحامي هو اللي هيجاوب على كل اسألتنا.. 

همهمت في تفهم وموافقة على كلام اخيها بينما اضافت:

- احنا كل اللي محتاجينه وقت، تنجح في الانتخابات، وبعدها كل اللي هايحصله قضاء وقدر، هنخلص منه بأي طريقة، نجيبه ونتكلم معاه بهدوء ونقوله إن مفيش أي مُشكلة في اللي بيطلبه.. وكلها مسألة وقت.. أول ما راغب يخلص الإنتخابات نبعده تاني عننا.. طبعًا هنراجع المحامي.. بس ده احسن حل في ايدينا دلوقتي.. واهم حاجة متجيبوش سيرة لحد..

تريثت لبرهة لتتحول تقاسيم وجهها للإستغراب وهمست متسائلة:

- بس هو ازاي دخل هنا ووصل لبابي؟

انتظرت إجابة أي منهما ليجيبها اخيها بإنزعاج هائل:

- مش عارف!

اشار والدها أن ينتظرا بينما خلع القناع عن وجهه وتكلم بإرهاق ناطقًا:

- الممرضة! 

هذا كل ما استطاع قوله لتهمهم بتفهم شديد بينما قالت بنبرة مُتعبة من كل ما مر عليها اليوم:

- نكلمها وتجيبه ونتكلم معاه.. مينفعش نحسس أي حد بحاجة وبالذات هي.. وبعد ما نوصل للي عايزينه نبقى نتصرف مع الكل! متقولش حاجة لنانسي ولا طنط سوزان ولا حتى ياسر.. تمام!

بحثت بوجه كلاهما ليومأ والدها بينما تقبل اخيها على مضض بملامحه المنفعلة لتقول هي:

- اليوم كان طويل اوي.. انا هنام.. تصبحوا على خير..

تركتهما بينما لحق بها اخيها وهو يتمتم:

- وأنا كمان.. خديني معاكي.. 

تركا والدهما دون التعاطف بتاتًا معه، فلو كان الشيطان الأعظم تمنى يومًا أن يُنشأ من يخلفه في شيطانيته فلقد فعل وبجدارة.. تلك القيم والمبادئ وحبهما للمال والعملية قد برع في ترسيخه بداخلهما، لقد أنشأ تفكير يشابه تفكيره، أبناء والدهما بحق، لو على دنائته فقد ورثها ابنه بالكامل كما يشابهه في غضبه الأليم.. وأما عن الهدوء والتفكير بخطوات محسوبة فلقد ورثتها "رُفيدة" عن والدتها.. يا لفخرهما الشديد بما صنعا! 

سار اخيها بمحازاتها ليلتفت بغتة لها متفقدًا اياها وأخيرًا تذكر ما كان لابد أن يبدأ به معها ليتعجب لها:

- رفيدة انتي كنتي فين من الصبح؟

ابتسمت ساخرة والتفتت له وادعت العفوية وهي تجيبه:

- مفيش.. سنوية مامي قربت، وحشتني.. حبيت اكون لواحدي شوية..

اجابتها لم تكن سوى عن علمٍ ويقين بأن كل من في هذا المنزل لا يكترث إلا لنفسه وحسب.. لو كان يكترث حقًا من اجلها لكان اهتم بمجرد سؤال ولكن كل ما يهمه هو وضعه الإنتخابي الذي سيتدمر لو تم معرفة أن له أخ غير معترف به! 

اكملت ابتسامتها المقتضبة بينما همست له:

- انا بقيت كويسة.. Bonne nuit..

تركته وغادرت إلي الخارج بالحديقة وانزوت إلي احدى الأركان ثم اشعلت احدى سجائرها وهي تستمع إلي صوت النسمات الهادئة بصحبة طقطقة اشتعال السيجارة التي تفجر بها ذلك العبء المتثاقل الذي لا يرأف بها منذ الصباح، أو ربما منذ الأزل! 

والدان منشغلان، منزل وحياة يجعلاها تحت الملاحظة، وكلما اختلت بنفسها بالسابق كانت تصل إلي كارثة من نوعها، كمكافحة زيادة وزنها أو سباحة في عالم الجنس الذي لم تكن تعرف عنه شيء وهي مجرد فتاة ذكية بعقل إمرأة في الثانية عشرة من عمرها وليس هناك من يزجرها أو يقول صواب وخطأ! 

ماذا كانت لتفعل خالة كل ما يهمها هو المنزل وقائمة الطعام والمناسبات الإجتماعية والحفلات والملابس وتوطيد العلاقات مع صفوة القوم؟ 

ماذا كان ليفعل والدان كل ما يكترثا به هو تشييد إمبراطورية "بدوي" للأعمال والإستثمارات وكل ذرة تخص عالم الأعمال؟

ماذا كان ليفعل "سلمان" الشاب الذي يلهو مع اصدقاءه والفتيات بوسامته المعهودة وعندما لاحظت عشقه كانت بالفعل إمرأة مع وقف التنفيذ! فتاة فقدت ما يميزها عن إمرأة متزوجة دون ممارسة فعلية مع رجل أو شاب.. لا منها تنتسب إلي الفتيات ولا منها تنتسب إلي النساء! 

لطالما سخرت من هذه الحقيقة التي آلمتها، فتاة، إمرأة.. لا فتاة ولا إمرأة! كانت تقف لسنوات عديدة ممزقة بين الحقيقتان.. لا تعرف حتى ما تطلقه على نفسها.. بسبب مجرد لحظة كررت ما رآته لفتاة تستمني بيدها خلسة بعيدًا عن أعين الجميع وها هي تخرج من مجموعة الفتيات لتقف على عتبة باب النساء! 

تنهدت بعمق وهي تغلق عينيها مستكملة استنشاق سيجارتها وهي تتذكر تلك الأيام البعيدة، ماذا كان عليها الفعل.. لقد واتتها دورتها الشهرية بعد هذا الأمر بساعتان، لقد ظنت أن الأمر طبيعي.. وعندما أصبحت بالمرحلة الثانوية أدركت أنها فقدت ما كان يُميزها عن النساء المتزوجات! 

لقد سألت والدتها هذا اليوم.. تقسم بكل ما يؤمن به الناس أنها فعلت لتقابلها بأن هذا الأمر طبيعي، لقد عللت أنها أصابت بالحكة وبعدها رآت الدماء، وبعد ساعتان واتتها دورتها، هل هذا طبيعي؟ ولقد اجابت والدتها أنها قد تأتي على مراحل لصغر عمرها.. لم تكن تعلم أنها افسدت جسدها بيدها.. وعندما أدركت بعد أن اصبحت في السادسة عشر فعلتها كان ليقول الجميع أنه يستحيل حدوثها..

لم تكن غبية لتُفصح لخالتها التي ستكون أول الشامتين، ولا وجدت اهتمام من والدتها سيدة الأعمال كي تبكي بعناق يجمعهما هذا إن صدقت.. لأنها ببساطة وبغيابها المتواصل عن المنزل سترتاب بأنها شاركت شابًا فراشه.. أو كانت لن تفعل.. هي وقتها كل ما شعرت به كان الإرتباك والإرتياب والخوف.. والكثير من الإحراج! 

هطلت قطرة واحدة من دموعها، واحدة فقط من أجل هذا الأمر الذي تقبله "ياسر" بمنتهى الحنان والدفء يومًا ما.. جعلها تثق في نفسها أكثر من أي أحد على وجه هذه الحياة.. لتتواتر قطرات عِدة عندما تذكرت أن مصدر امانها وثقتها قد انهار بالكامل! 

- لسه فيكي العادة دي؟

فتحت عينيها لتجد "سلمان" يتحدث لها ثم تسائل بلهفة:

- رفيدة انتي كويسة؟

أومأت له وهي تجفف دموعها بينما أومأت له بالموافقة وقالت بصوت مبحوح بينما سقطت بقايا السيجارة التي تحولت لرماد ارضًا:

- أنا تمام.. مامي وحشتني بس..

كي تنطلي الخُدعة لابد من أن يُصدقها الجميع ولابد من أن تفعل كل ما بوسعك حتى تُذيعها، ولقد صدقها كما فعل اخيها وزوجها ليهمس لها:

- طيب.. محتاجة حاجة اقدر اعملها؟

استمعت لهمسه الممتلئ بطيف عشق من طرف وحيد كان يحمله لها يومًا ما بينما صدته هو حينها وقبلت صديقه وجاره "ياسر" ظنًا منها أنه الأفضل فأومأت له بندم طفيف لن يُفيد أيًا منهما، فلقد أغلق قلبه من ذلك الحين ولقد عشقت هي رجل آخر وانتهى الأمر فأجابته واضعة نهاية لتلك اللحظة الغريبة التي لم تحدث بينهما منذ سنوات:

- لا تمام.. merci.. أنا لازم أنام علشان عندي شغل كتير الصبح.. Bonne nuit..

بالكاد انتهت من نطقها تلك الكلمات ولاحت ابتسامة مقتضبة على شفتي "سلمان" بينما ظهر زوجها من العدم ليقول بنبرة تحمل التحذير الخفي إلي "سلمان" والإكتراث المزيف إلي زوجته:

- حبيبتي بدور عليكي.. انتي كويسة؟

أومأت له وهي بداخلها تقهقه لكذبه وملامحه العاشقة التي لا تُصدق أيًا منها بينما لحقته بإبتسامة واقتربت منه متحاملة على تلك الآلام التي تلتهمها ولكنها لن تدع هفوة صغيرة من الإرتياب أن تتلصص لتفكيره الثُعباني وهمست له:

- كنت لسه هجيلك، يالا نطلع ننام! 

توجهت بصحبته للأعلى وهو لا يعلم بعد عن تلك الخُطة التي تعمل عليها صديقتها حتى يتم فضحه أمام أعين الجميع بخيانة مصورة له مع احدى العاهرات التي بمنتهى السهولة تستطيع "إيناس" اجتذاب واحدة منهن بقليل من الأموال أو بإتفاق سري بحصولها على عدد من أسهم قليلة بمجموعة "بدوي" وأمام إغراء وثمنًا كهذا قد تفعل حتى نساء تستتر بالنخبة والصفوة أي شيء.. فلكل رخيصٍ ثمنه حتى ولو كان باهظًا..

وبالنسبة إلي "رفيدة الشهابي" الأمر لم يكن خسارة، بل النقيض تمامًا.. الأمر كان مكسبًا وضربة موجعة إلي زوجها الخائن الذي ستسلبه كل ما ما امتلك بسببها هي ولكن بمنتهى التريث والذكاء! وأمّا عن امرها هي واخيها فلن يعلم عنه مثقال ذرة.. الإنكار هو سيد الموقف في هذه الأحيان!

زفر "سلمان" وهو يتابعهما بعينيه ذاهبان للداخل وهو لا ينمو بداخله سوى احتقارًا فوق احتقار لذلك الذي كان يطلق عليه يومًا ما صديقه المُفضل.. كيف حدث هذا على كل حال؟! 

جلس وهو يُعيد تذكر تلك الأيام، عندما أرادا والديه، خالته، وزوجها "أنور الشهابي" بالحصول على آخر قطعة أرض قريبة من منزلهم الذي ازداد مساحة شاسعة مع مرور السنوات والزمن.. لم يتبق سوى عقار وحيد مكون من اربع طوابق.. وكان من يملكه هو جد "ياسر".. صديقه وجاره! 

يتذكر أنه دافع عنه مُعللًا أنهم يمتلكوا بالفعل منزلًا شاسعًا ولكن أن يبقى لهم ركنًا كبيرًا معزولًا بعيد عن أعين الجميع بصحبة حراسة مشددة لأمان تلك العائلة وظهورها بمظهر لائق سيفيدهم، كان لا يتفق مع ضرورة ازدياد رقعة مساحة حصنهم.. كان يظن أنه كافيًا حينها ومن أجل صديقه الذي لو تنازل جده وقام بالموافقة على بيع المنزل لهم سيُحرم منه.. ولكنه كان فتى ذو عقلٍ خاسر أمام مشاعره بذلك الوقت.. 

لم يكن ليُفكر أبدًا أن بمؤازرته "ياسر" وعائلته كان الآخر كثعبان يلتف حول "رُفيدة" مقنعًا اياها أنه سيقنع جده ووالده ببيع المنزل المتبقي بجانب حصنهم المنيع.. 

دخل بينهم بصداقة مُزيفة، ومجرد حسن جيرة، ابتسامة ودبلوماسية غاية في التهذيب، بينما بين يومًا وليلة اقنع "رُفيدة" بعشقها اياه، وفي لمح البصر كانت زوجته! 

من مجرد زوج ابنة خالته التي يعشقها، ومهندسًا بأحدى الشركات الصغيرة التي يملكها والده، إلي رجل اعمال يُشيد ويبني مع حصوله على تمويل ضخم من زوجته التي اقنعت والديها بالربح المحتوم.. 

ومن مجرد صديق وفي وابن خالة يعشقها بعد تحولها فجأة من فتاة صغيرة إلي إمرأة غاية في الفتنة تحول "سلمان" من الرابح الوحيد بهذه القصة إلي النبذ والوحدة.. 

تجرع تلك الذكريات بعقدة حاجبان في خضم الليل الذي يفصله عن النهار سويعات قليلة، فعندما ينسدل الستار ويعانق السواد السُحب المُنيرة تسري شياطين الماضي ليُفسدوا في العقول التي يضمها الشر، بل والقلوب المجروحة.. 

تفقدت "رحمة" سقف غرفتها وهي تتذكر ما حدث بين "جاد" و "رزق" منذ قليل وشعرت بالوحدة التي قد تنتهي يومًا ما على يد من عشقته منذ الصبا، وكل ما فعله اليوم ليس دليلًا سوى على أنه يكترث من اجلها هي الأخرى.. وأخيرًا اقترب الوقت من مبادلته لها عشقها، وعلمت أن هذا سيحدث ولقد آن الوقت لحدوثه.. 

لم يكن هذا حالها وحدها، هي لا تعلم أن تلك الأرضية يتمدد أسفلها آخرًا سابحًا بأفكاره بين الشتات، أهل هذه المنطقة التي تربيا بها هو وأخيها، مسئوليتها التي عليه حِملها كما تفانت هي معه ومع اخيها نفسه طوال السنوات الماضية، مساعدتها اياه التي يحمل لها كل الإمتنان، ولكن كيف عليه أن يُحطم آمالها بأن كل ما تُفكر به بل وما تشعر به لن يُقابل سوى بالأخوة والمروءة.. ليس أكثر ولا أقل! 

بين مُشتت ومريض ومُفكر وعقول شيطانية بزغت وساوسها لنفسها بين ذراعي الليل كان هناك أيضًا من لا يترك هفوة لتمر مرور الكرام، فهناك واشيًا لم يختر مصيره فقط لأجل احتفاظه بعمله، وهناك من يمول تلك الوشاية، سيدة المنزل العظيمة "سوزان بدوي" لن تترك أمرًا غير معلوم، ولن تترك حدثًا واحدًا ليتم دون سيطرتها هي عليه لتكون المتحدث الرسمي وترس المحرك الرئيسي لكل الأحداث..

همهمت بتفهم بينما قالت:

- تمام يا سُهير.. تقدري تروحي تنامي.. ومحدش في البيت كله ولا الـ staff يعرف حاجة عن الكلام ده

ابتسمت بعد أن ودعتها مديرة المنزل التي تحكم "سوزان" سيطرتها عليها منذ الأزل، فلو كانت "ناريمان" اختها هي المتحكم الرئيسي في الأموال وعالم الأعمال، فهذا المنزل والحصن التي عملت كلتاهما علي تشيده قد ينهار معها! 

 حدقت بالفراغ وهي تُفكر، لو أن هناك أبنًا آخر سيتشارك مع ابناء اختها بالميراث والنسب سيكون مظهرها أمام الجميع بمجرد رجل في الأصل قد يكون لقيطًا أسوأ ما يكون! 

لابد من استبعاد هذا الشرذمة عن الجميع، وسيكون موقفها مُحددًا وقاطعًا.. لو كان قلب "أنور" سيرق في آخر أيامه فهذا قد يكون لمرض عقله كما مرض جسده، ولحسن حظ هذه العائلة هي لا تزال بكامل وعيها وفي أفضل صحةٍ وحال.. 

لوهلة قلقت وهي تنظر نظرة شاردة بالمستقبل إلي الأمام، لو انتهت حياتها يومًا ما من سيخلفها؟ ألا تعلم أن بالرغم من نجاح الأموال في السيطرة لابد من أن يترسخ في منزلٍ ذو أساس صلد لا يتأثر! وبالرغم من أن "رُفيدة" هي خليفة "ناريمان" على الصعيد الآخر تثق بأن "نانسي" ابنتها ليست خليفتها ولن تكون! 

تنهدت وهي تغير اتجاه نومها لتتلمس زوجها معانقة اياه بود ومشاعر مكبوتة بينما همست له:

- أنا عارفة إنك صاحي.. فيه ايه يا حبيبي؟ 

زفر بضيق ليُجيبها:

- نانسي ارجوكي سيبيني أنام علشان الوقت أتأخر وورايا حاجات كتيرة من بدري..

من جديد يقابلها بالرفض الظاهر على نبرته فهمست له في احتياج:

- طيب احكيلي ايه اللي كان معصبك.. شاركني يا راغب.. وحشني اوي الكلام معاك.. 

نهض بإنزعاج مغمغمًا لها:

- أنا رايح أوضة تانية علشان اعرف انام! انتي بقيتي مش معقولة..

تركها وغادر ليس لرغبته في النوم، وليس لأي سبب سوى الإختلاء بنفسه بعيدًا عنها، هو ليس بغبي، هو يُدرك جيدًا جفاءه معها، يتيقن بتلك الفجوة بينهما الذي لا يملك سوى أن يعمل على ازدياد اتساعها فيما بينهما.. فما يُعاني منه من ضعفًا جنسيًا وما جربه من وسائل عدة من معالجة الأمر لم يفده في شيء.. ولن تستطيع كرامته وسمعته المرموقة أن يمسها جرحًا بذهابه إلي طبيب لإصلاح الأمر.. 

لم تكن غلطته يومها أن يدخل هذا العالم وهو فتى صغير في الخامسة عشرة من عمره، لم يكن يظن أن بمجرد استماعه صدفة إلي صوت اخته المتآوه بالغرفة ستكون بداية اللعنة! لم يختر أيًا من هذا.. أو ربما اختار.. لا يعرف.. وسيظل مذبذبًا بمن بدأ هذا الأمر.. ولن يعرف من الذي أخطأ حقًا.. هي أم هو أم والديهما بغيابهما الدائم عنهما!

❈-❈-❈


صباح روتيني يخيم على أجواء الحصن المُشيد بالطمع والطموحات الواسعة، تظاهر بالإنشغال من زوج ضعيق جنسيًا، وتظاهر بإبتسامات من زوجة فاتنة تلقت خيانة موجعة لكرامتها ولكنها لن تركع أمام زوجها الخائن، وأخت وأخٍ يستران غلطات ارتكباها والديهما.. 

إمرأة تريد أن ترى ابنتها تخلفها، وتشحذ سكاكين المواجهة التي ستحدث عما قريب بين أبناء اختها ولن تتركهما ليغادرا قبل إصدار تحذيراتها وعدم قبولها لذلك اللقيط مهما حدث، بينما ابنها المجروح منذ سنوات فهي تريده أن يفعل ما يشاء! يا لذكوريتها المتعفنة بالرغم من تلك الصورة التي يراها الجميع.. 

وهناك إمرأة أخرى حزينة منزوية بمعاناتها المنفردة التي لو أفصحت عنها ستُلام من الجميع وقد يتهمها كل مستمع بأنها إمرأة غير جديرة بلقب زوجة، فالزوجة في معجمهم عليها التحمل، التحمل، والتحمل! ليس عليها فعل أي شيء آخر في حياتها سوى ذلك.. 

وفي النهاية هناك ذلك الرجل الهائم شاردًا بين بقايا الماضي المترسخ أمامه في زواج سعيد لا يعرف أنه ينهار في تلك اللحظة، وبين خطط حاضره بمحاولة البداية مع إمرأة كانت صديقته يومًا ما، لا يدري هناك حماسًا غريبًا بداخله لرؤيتها بعد سنوات، فلقد حاول مع نساء اخريات وكل ما يحصل عليه هي عدة لقاءات بممارسات جامحة يُفضي شهوته بها وتسعد النساء بها ومن ثم يذهب الشغف ولا يشعر بعدها بشيء!

اجتمعوا حول مائدة واحدة، نظرات وهمهمات قليلة، تظاهرات عدة بأن هذه العائلة مثالية، ولكن الحقيقة مؤلمة.. فليس هناك شيئًا مثالي وليس هناك سعادة دائمة، فلا الأموال هي مصدر السعادة ولا الزواج هو النهاية السعيدة ولا نهاية العلاقات هي الراحة المنيعة!

هتفت بنبرتها التي لا تدل سوى عن التحذير بالرغم من ابتسامتها التي لا تفارقها:

- روفي عايزاكي يا حبيبتي انتي وراغب قبل ما تروحوا الشغل!

عقدت حاجبيها متعجبة بينما فكرت أن خالتها لابد من توزيع فضولها الشرس عما حدث أمس فعقبت بمنتهى الهدوء:

- أنا اصلًا كنت ناوية اروح الشغل النهاردة متأخر.. بعد الفطار يا طنط..

ابتلعت "نانسي" الطعام دُفعة واحدة وهي تتعجب من كلمات كلًا من والدتها وابنة خالتها التي رآتها تنهض مبتعدة وهي تتحدث بهاتفها بينما همست إلي زوجها:

- راغب، المدرسة فيها اجتماع، مش هتيجي معايا علشان سيلا؟

أومأ وهو يحدق بهاتفه واجابها بعد أن انتهى من مضغ ما في فمه:

- لا أنا مشغول جدًا.. روحي انتي!

رمقته في حزن وازداد امتعاضها داخلها وكادت أن تصرخ به أمام الجميع ولكنها تمالكت نفسها بأعجوبة بينما نهض ليتبع اخته التي قد اتفق معها بالأمس على ما سيحدث اليوم بخصوص اخيهما غير الشقيق..

انتظر إلي أن انهت مُكالمتها ثم سألها بملامح متلهفة عن ما توصلت له:

- عرفتي توصلي للبنت الممرضة دي؟

أومأت له بالموافقة ثم تنهدت لتقول:

- ايوة.. وهتيجي كمان شوية علشان اتكلم معاها في كل حاجة وكل اللي في البيت هيفتكر إني بكمن على بابا مش أكتر.. وبعدها تبقى تقوله يجي ونشوفه..

اشارت بيدها بتقزز مما يحدث وكاد "راغب" أن يتكلم بينما دلفت خالتهما لتغلق الباب خلفها مما جعلهما يلتفتا عندما شعرا بتواجد احدًا معهما بأحدى غرف المكتب بالمنزل ليراها تتحدث بإبتسامتها التي لا تفارقها وهدوءها المُستفز وهي تسألهما:

- قولولي بقى يا ولاد.. إيه حكاية أخوكم؟!

ابتسمت "رُفيدة" نصف ابتسامة بإقتضاب لتعلم أن الآن اللعبة قد تفلتت من بين يديها.. ليكون إذن اللعب على المكشوف.. فهي ليس مُخطئة، وإذا كانت "سوزان بدوي" تظن أنها ستتحكم بتلك اللعبة فهي مُخطئة للغاية!

❈-❈-❈

زفرت بخوفٍ شديد وهي لا تدري ما الذي تغير.. ففي الصباح الباكر هاتفتها "رفيدة" بنفسها وهي تُحدثها بهدوء غريب لتُخبرها بأنها تريد ملاقتها للإطمئنان على حال والدها ولكن "رحمة" لم تُصدقها.. كانت محقة ألا تفعل خصوصًا بعد أن هاتفتها بعدها بقليل وهي تُخبرها أنها تنتظرها هي وأخيها لملاقاته والتحدث معه.. 

ابتلعت في ارتباك وهي لا تدري لماذا وافق "جاد" لمواجهة تلك الأفعى المغرورة وأخذت تنظر صوب بوابة المنزل من الخارج وهو يوشك على القدوم في أي لحظة قادمة.. فبقائها هنا كممرضة "أنور الشهابي" بات وشيكًا على النهاية في أي وقت.. ولا تعرف لماذا دفعها أن تأتي وتُكمل تلك اللعبة بينما قد تم كشف أمرها بأكمله أمام الجميع الآن!

أخذت تنظر وهي محتمية بأحدى الجدران القريبة من المرأب منتظرة قدومه، لن يكون اليوم الطبيب المُزيف بل سيأتي بصفته "جاد الشهابي" أخيهما المرفوض من قبل ابيهما وبداخلها تشعر أنهما لن يقبلاه مثل ما فعل معه والده يومًا ما.. 

شعرت بأنفاسها تحتجز برئيتيها غير قادرة على التنفس بينما استمعت لجلبة خلفها لتلتفت لتصدم من جديد بالوحيد الذي لا يحدث لها هذا الموقف سوى معه.. "سلمان يكن".. 

همهم بمكالمته ليُنهيها سريعًا وهو يقول:

- هاشوف حل متقلقيش.. 

وضع هاتفه بجيبه وهذه المرة تجرأ ليُمسك بمعصم يدها وقال:

- انتي مـ..

لم تنتظر أن يُلقنها عدة كلمات وقاطعته بسرعة وقالت:

- هتقولي انتي مين وإن المكان مش بتاع اللي بيشتغلوا هنا ونفس الحوار اياه.. شوف بقى أمّا اقولك وانت ماشي ابقى فتح ولا أنت اعمى ولا بتستعبط ولا فاكر نفسك ايه ماشي تخبط في خلق الله كده عمال على بطال!

رفع حاجباه بتعجب وهو حقًا لا يريد أن يبدأ يومه بمشاجرة مع ممرضة تعمل في هذا المنزل ولديه الكثير مما يُشغله بالفعل يجري بعقله ليتسائل بهدوء مأخوذًا بصدمته من كلماتها الحادة:

- انتي ازاي تتكلمي معايا بالأسلوب ده؟

رمقته بإمتعاض لغروره اللاذع وتسلطه بنطق تلك الكلمات ونفضت يده من على معصمها بقوة لتضع يداها بخصرها مما اعطى له مشهدًا رائعًا لرؤية تفاصيل جسدها بينما صاحت به:

- شوف يا سلمان بيه، أنا يمكن اول مرة غلطت، لكن تاني مرة ودلوقتي أنا مغلطتش وأنت اللي غلطان.. ولا يعني علشان حضرتك من اصحاب البيت هتفتري عليا! وبعدين انت اللي ازاي تمد ايدك عليا؟ أنا اللي يلمسني غصب عني اقطعله ايده..

تراجع خطوة للخلف وهو يتفقد شراستها في الكلمات ووقفتها المتجرئة أمامه وكأنه قصد أن يفعل ذلك ليتفقدها متفحصًا اياها وملامحها لتتعجب هي من سكوته ولم تعد تكترث بما قد يحدث من رجل مثله فلقد اوشكت على ترك هذه الوظيفة وهذا المنزل بلا رجعة فرمقته في تقزز وذهبت لتغادر بينما أوقفها جاذبًا اياها من جديد من يدها وسألها بعقدة حاجبان:

- هو انتي طولك كام بالظبط؟

اندهشت وهي تستمع لسؤاله بينما صاحت به:

- انت تاني بتمسكني أمّا بجح صحيح.. وانت مالك انت طولي كام! وسع كده وابعد ايدك دي عني!

جذبها بقوة عاقدًا قبضته أكثر على معصمها وهو يسير نحو سيارته المصفوفة بالمرأب آخذًا خطوات سريعة مما اجبرها على اللحاق به وهي مُرغمة كي لا تسقط أرضًا بينما حدثها بلهجة آمرة:

- تعالي أنا عندي موضوع مهم محتاجك فيه.. هديكي اللي انتي عايزاه.. 

❈-❈-❈


بعد مرور عدة أيام . .


وطأ بأقدامه في ثبات صوب هذا المنزل.. اعتصر قبضته على تلك الأوراق.. نظر يتفقد هذا البيت.. يبدو عظيمًا في نظر البعض بينما في عيناه هو ليس اكثر من ساحة للمعركة..

تقدم خطوة وبداخله ارتباكًا كاد أن يُفقده الثقة في نفسه، شيئًا يجعله يشعر بأنه ليس منزل ولا ليست مجرد أموال ونسب أخيرًا استطاع اثباته..

خطوة أخرى وتنهيدة طالت حتى ذهبت بآخر ذرات الهواء في صدره، اشعة الشمس تؤلم عينيه ولكنه يستطيع الرؤية خلالها.. يرى كل ما حُرم منه.. ولكن هذه مجرد الصورة الخارجية فقط..

اقترب اكثر.. استمع لصوت يُخبره بالعودة.. ربما كان عليه رؤيتهم بأي مكان سوى ذلك المنزل العتيق الذي كان يومًا ما مجرد بيت وأخذ يلتهم جميع من حوله.. حتى بات قصرًا..

ولكن هو اكثر من يعلم أن المظاهر خادعة.. حُلة ذات بضع اموال قام بتأجيرها وتصفيفه لشعره بات مثلهم، واحدًا منهم بتلك الوسامة التي ورثها من والده وبملامحه الاجنبية التي لسنوات جعلته يتحمل أسوأ المضايقات بسجن كئيب لا يصفه سوى بـ "المنكوبة"..

نفض مشاعره بعيدًا بصحبة ماضيه الذي قد تغير بالفعل بعد أن طُبع بجانب احرف اسمه "أنور الشهابي".. نعم لقد تم نسبه إلي والده قبل موته بيوم واحد.. ولكن لو مات الأسد فلا يزال هناك شبلًا سيزأر من بعده صباح كل غد..

خطوتان أقرب صوب هذا العرين، الذي بُني على يد الشيطان الأعظم.. يعلم أنه سيُلاقي الجحيم، فهذا نتيجة التعامل مع الشياطين.. ولكن لو كانا مثل ابيهم فهو البِكر.. لذا لربما عليه أن يرث اللقب.. سيكون إذن الشيطان الأعظم!

ابتلع وهو يحاول أن ينسى أنه "جاد عطا الله" المسجون ظلمًا.. يحاول أن ينسى والدته التي بالكاد يتذكر ملامحها وهي طريحة الفراش المُهترئ قبل موتها.. ابن الحارة الوسيم الذي تحاول الفتيات ملاطفته علّهن يحصلن على قُبلة مسروقة اسفل درج بمدخل احدى البيوت التي قاربت على الإنهيار..

تأكد من عِطره، لا تفوح منه تلك الرائحة المعبئة بالفقر ولا الجوع.. أيام وقد ولت ولن يعيدها، ولن يظل حبيس تلك الحياة بعد الآن..

عرينًا، جحيمًا، أم منزلًا وبيتًا.. سيكون له مكان هُنا شاء أم آبى الجميع.. سيحصل على كل شيء مثل أخته وأخيه.. يكفي معاناة حتى أمس، اليوم سيستعيد كل ما حُرم منه ومُنع عنه بظلم بيّن من والده..

وحتى لو انجب شيطانان فهو الأكبر والأحق بأن يرث صفاته.. وحتى لو يتقدم بخطواته ليُلقي بنفسه في براثن وكرًا للأبالسة..

لن يُغير هذا من إرادته المنيعة في حصوله على كل شيء.. ولو كان الثمن أن يكون شيطانًا مثل كل من بهذا الوكر..

مرحبًا بالجحيم ووداعًا لحُلمٍ قديم..

"جاد الشهابي" ليس هو نفسه "جاد عطا الله" الفتى الصغير.. لقد علمته سنوات ظُلم بها أن يُصبح شيطانًا حتى يستطيع اللهو مع الشياطين..



يُتبع..