الفصل الثاني - وكر الأبالسة - Den of Devils
الفصل الثاني
هذه القصة مستندة على احداث حقيقية ومأخوذة من ألسنة اصحابها مع الموافقة على النشر..
❈-❈-❈
" ينبغي الرد على الشيطان بلسان الشيطان"
مثل هندي
❈-❈-❈
فرغ لتوه من إرتداء ملابسه ولن ينكر أن هناك بداخله شعورًا لا إراديًا بالإرتباك والقلق، فهو اليوم سيُلاقيه.. لأول مرة وهو قوي والشيطان الأعظم ضعيف.. لأول مرة سيواجه والده.. أو ربما لثاني مرة منذ أن حكم عليه بأن يضيع أغلى سنوات حياته بسجن لا ذنب له به!
لا يزال يتذكر ذلك اليوم، منذ سنواتٍ عديدة كان كل ما يحتاجه هو بعض الأموال ليس إلا لإعانة والدته المريضة، فقط لعلاجها.. لم يطالب بحقه في أي شيء، لم يلمه، ولم يسأله حتى لماذا فرط به كنجله، لماذا حتى لم يكن والدًا كمثل بقية الآباء المتزوجون بإمرأتين، لم يتسائل.. هو كل ما أراده وقتها لم يكن سوى مساعدة.. ووقتها لم يكتفِ بصده فقط بل ظلمه بسجن لم يرتكب لأجله جريمة تُذكر سوى أنه ابنه الذي لا يرغب به!
دوي صوت والدته المريضة بمنتهى الوهن يومها لم ينسه، تلك التفاصيل بما حدث بينهما حتى يأتِ إلي هذه الدُنيا البغيضة ويتركه الجميع وحيدًا لا يزال يتذكر كل منها.. ولا يُصدق أن هناك طغيان يصل إلي تلك الدرجة من مجرد رجلٍ هداه عقله الشيطاني لكل ما أراده ورغب به بمنتهى الطمع ليظلم إمرأة وطفل ليس له ذنب بشيء..
ازداد قهره ليرتجف جسده على قشعريرة وزمة شفتان يمنعهما عن التخبط من كثرة غضبه وهو لا يزال يستمع إلي صوتها المُتعب وقتها..
جال بالغرفة امامها يحاول كظم غيظه وهي تجلس طريحة الفراش بعد أن أكد له الطبيب الذي لم يملك حتى مالًا لإعطاءه اياه وتكفل والده بدفع الأتعاب ليسألها من جديد وبالكاد يتحمل غضبه الذي سيطر عليه:
- ما نخلي ابويا يبيع الدُكان، ولا يتصرف يعمل اي حاجة! انتي ليه دايمًا مفرطة في نفسك كده قصاده؟
رطبت شفتاها بمشقة ثم همست له بنبرة متوسلة:
- أبوك يا جاد مش مخلي على جهده جهد.. سيبه في حاله متطالبهوش بأكتر من كده.. كفاية عليه سعد ورحمة!
رمقها في غيظ ثم هتف بها:
- يا اما وأنا مش ابنه وانتي كنتي مراته في يوم، انتي ليه مش بتحاسبيه؟ ليه مبتخديش حقك منه؟
لهثت بمجهود واضح وهي تحاول أن تواجه ذلك المرض اللعين الذي يفتك بها منذ سنوات ثم اخبرته بإبتسامة:
- اهدى يا جاد واسمعني.. عطا الله عمل اللي عليه وزيادة.. مراته وولاده وهو نفسه بيحبوك! بيعاملوك احسن معاملة.. متحملهومش فوق طاقتهم.. أنا لو مُت عايزاك تبقى كويس معاهم.. متكرهومش ملهومش ذنب في حاجة..
رمقها بمزيدًا من الغضب لسماعه تلك الكلمة تغادر شفتاها ثم صاح بإنفعال:
- يعني إيه لو موتي.. هو يتجوزك ويخلف وبعدين يرميكي! أنا هاروحله واتكلم معاه..
أوقفته بنبرة مُتعبة كي تنهاه عما أراد فعله:
- استنى يا جاد يا ابني.. اسمعني ومتلومنيش.. عطا الله مش أبوك..
تصلب جسده ناظرًا لها بصدمة بينما هي تسارع لهاثها شاعرة بإزدياد انقباض قلبها بين ضلوعها ثم همست بالمزيد:
- من تمنتاشر سنة جه واحد اسمه أنور الشهابي الحارة.. كان بيخلص نجارة في ورشة عم فتحي الله يرحمه كانت في حارة ساكنين فيها أنا وأمي.. شافني يومها وأنا واقفة على عربية الكبدة.. علشان مطولش عليك راح لأمي وقالها إنه عايز يتجوزني وهي ساعتها كانت كبرت وما صدقت تسترني.. واتجوزنا! بس كان متجوز واحدة تانية بنت اكابر اوي.. مش من توبنا، وكان عايز يتجوز تاني لأنها كانت مبتخلفش..
التقطت أنفاسها وانسابت احدى دموعها وهو يتفقدها في لهفة لتبتسم بمرارة:
- جه وجاب دهب والكل قال إنه هيعشني عيشة محلمش بيها وكمان قالي مش هاحرمك من أمك وهخليكي معاها، فرحت إني اخيرًا هتستت ويجيلي الراجل اللي يخفف عني الحِمل أنا وأمي.. وبعدها مفيش بشهرين.. فص ملح وداب وساعتها عرفت إني حامل..
هتف بها متسائلًا بلهفة شديدة وانزعاج:
- يعني ايه فص ملح وداب؟ فين ورقك، قسيمة الجواز؟ مروحتيلوش ليه؟
هبطت دموعها في قهر وهي تتحامل على آلمها ثم اجابته بوهن:
- كان واخد كل حاجة، ولما سألنا على عنوانه وجيت اروحله أنا وعطا الله، هددني وهدده، وكان واقف متحامي في وسط رجالته.. ملقناش ورق يثبت حاجة، وقالي لو مش عايزة أؤذي اللي في بطني انساه.. روحتله تاني علشان يسجلك يوم ما تتولد بإسمه طردني.. منه لله، كل ده علشان مراته التانية حِملت..
تفقدها وعينيه قاربت على ذرف الدموع ثم توسلها متسائلًا:
- يعني كل ده، كل السنين دي وأنا فاكر ابويا بيفرق بنا وأنا مش ابنه، انتي يا اما بتضحكي عليا علشان مروحلوش؟
أومأت بالنفي ثم تابعت بمشقة:
- يا جاد، ورب الكعبة ما بكدب، دي الحقيقة يا ابني.. لولا عطا الله وانه راعى اني بنت عمه وكتب عليا وسجلك بإسمه مكونتش هاعرف اروح ولا اجي بيك في حتة، عطا الله باع البيت القديم وجابلي البيت اللي في الحارة هنا.. مكنش حد يعرف غير إني بنت عمه، وقال للكل ده ابني.. وإنك ابن سبعة.. وبعدها طلقني.. واديك شايف إنه مش ناسينا.. كتر خيره اوي على كده.. كفاية عليه بيته وولاده ومراته، متحملوش فوق طاقته!
ازداد غضبه وهو يحاول كبح غيظه دون فائدة ثم سألها بغضب:
- أنور الشهابي ده بيته فين؟
رمقته بآسى ثم اجابته:
- بلاش يا جاد.. ده شراني يا ضنايا وأنت مش قده..
صرخ بغضب غير مُتقبلًا سوى أن يعرف من ذلك الرجل الظالم:
- بقولك ساكن فين ولا روحتيله فين؟
بعد جدال دام لمدة ليست بهينة استطاع الحصول على عنوانه منها ولكنه لم يكن يعرف وقتها أن فتى في السابعة عشر من عمره سيُلاقى إجابة مجرد سؤال عن عنوان عبارة عن سنوات سجن عديدة في انتظاره!
عاد إلي أرض واقعه الأليم بعد تذكره ما حدث بذلك اليوم الذي كان الأخير له في رؤية العالم بأكمله وكما تذكر تلك الذكرى التي تبعتها صدمات لا نهائية تذكر كذلك أن الوقت اقترب للغاية وأخيرًا سيتغير مجرى حياته..
خرج متجهًا إلي الخارج حيث سيذهب اليوم إلي وكر الشيطان الأعظم بنفسه وبقدميه مرة أخرى، ولكن هو اليوم أقوى بكثر مما كان عليه منذ سنوات، فهو لم يترك تلك السنوات لتذهب هباء، بل كان يعمل مليًا على أخذ حقه، حق والدته، وحق سعد، وكذلك والده الذي فقد حياته بسبب علمه بسجن ابنه هو الآخر..
يبدو أن الشيطان الأعظم لم يكن يكتفي بالإفساد في الأرض مرة، بل مرتان متواليتان لمجرد شابان لم يقترف أيهما ذنبًا ليضيع عمرهما خلف قضبان ظالمة..
مشى في طريقه كي يصل في الموعد الذي اتفق عليه هو و "رحمة" مسبقًا وبخطوات سريعة ادعى عدم النظر لأي أحد حوله ولكن لم يدعه "محروس" الذي ناداه ولم يكن هو برجل حقير ليترك رجلًا لم يكن سوى رجل بمثابة والد حقيقي ليناديه ويدعي هو الإنشغال فالتفت له بملامح بشوشة مبتسمًا:
- صباحك فل يا عم محروس
اتجه ليقترب منه بينما نهض الآخر ليرحب به أو ليخبره بما في جعبته وبما انتواه منذ أن رآه بالأمس:
- جرا ايه يا بكاش، جاي تقولي صباحك فل وانت من امبارح معدتش عليا ولو خمس دقايق والنهاردة من الصبح عايز تسيبنا وتمشي! طب افتكر عمك محروس وتعالى اشرب معايا الشاي..
أدرك أن نبرته الإخبارية تلك خلفها فضول مستتر فعلم أنه إن لم يُفصح عن وجهته سيتلقى السؤال بوجهه مباشرة فأبتسم له وقال:
- يادوب امبارح كنت بجهز المكان اللي هاقعد فيه والنهاردة عندي شوية مشاوير، لا مؤاخذة يا عم محروس، ملحوقة إن شاء الله
تمنى أن تكون تلك الإجابة كافية ليتنهد الآخر ثم تفقده بقلق حقيقي وسأله بود ونبرة جادة:
- ناوي على ايه يا جاد يا ابني بعد الغيبة دي كلها، هتفتح الدكان ولا هتيجي تشتغل معايا في الورشة؟
زفر بقليل من الضيق عمل بعناية ألا يُظهره ثم اجابه بإقتضاب:
- اديني بس شوية وقت وربنا يسهلها
ربت على كتفه وابتسم له وقال بنبرة داعمة:
- جاد يا ابني، أنت وسعد وصية عطا الله الله يرحمه، أنتو هتبقوا جنبي ومعايا وولادي الرجالة اللي مخلفتهومش، اوعى تحسبها إنك هتشتغل في الورشة يبقى هـ..
قاطعه وهو يعلم إلي أين تتجه هذه المحادثة:
- عيب يا عم محروس متقولش كده، أنا عارف معزتك عند أبويا الله يرحمه، انتو كنتو اخوات، وكمان الحاج صلاح.. بس أنا محتاج كده اخلص كام حاجة الأول وبعدين هاشوف هتمشي ازاي معايا.. ادعيلي يا عم محروس..
أومأ له بتفهم وملامح حملت غاية أخرى مستترة ولكنه سرعان ما تكلم:
- ربنا يوفقك يا ابني ويوقفلك ولاد الحلال في طريقك
تفقده بقليل من النظرات الإستفهامية ليحمحم ثم تابع حديثه:
- جاد يا ابني أنا مش عايزك تفهمني غلط بس يعني أبوك الله يرحمه كان قايلي على كل حاجة..
تريث لبرهة بينما بدأت ملامح "جاد" في التحول من التلقائية للإنزعاج بينما استطرد مسرعًا:
- مقصدش حاجة، أنا عارفك وعارف اخلاقك وتربيتك، بس قعدتك أنت ورحمة في بيت واحد متصحش وكمان محدش يضمن مين يعرف ومين ميعرفش.. أنا بقولك الكلمتين دول لأني خايف عليك وعليها، انتو زي ولادي..
ابتسم نصف ابتسامة بتهكم ثم تسائل بسخرية:
- تقصد رزق ابن الحاج صلاح؟
تنهد وهو ينظر له بقلة حيلة ولم يود أن يُجيب فتابع "جاد" حديثه إليه:
- متقلقش.. من النهاردة هتشوفوني في الدكان طول اليوم، ومش جاد ابن عطا الله اللي يتقاله الكلمتين دول.. واهي كلها يومين ويا عالم مين يقعد هنا ومين يمشي.. بالإذن يا عم محروس.. محتاج حاجة؟
سرعان ما وضع نهاية لتلك المُحادثة الكريهة لتنتهي بجُمل رتيبة بينهما وغادره كي لا يتأخر عن موعده الذي ظل لسنواتٍ ينتظره ولن يدع مجرد ثرثرة جانبية من شرذمة مثل "رزق" أن تعيقه عن كل ما حلم به!
❈-❈-❈
كالعادة غادر زوجها واخته إلي العمل دون تبادل احاديث تُذكر، غادرت ابنتها إلي مدرستها، اخيها لا يزال نائمًا إلي الآن بعد عودته بأولى ساعات الصباح الأولى من اليوم، وها هي جالسة بصحبة فنجان تُصر والدتها على التحكم بأنه لا يُستخدم سوى لقهوة ما بعد الإفطار، يا له من فنجان بائس، لم يسلم هو الآخر من تحكمات والدتها!
نهضت كمحاولة منها للوذ بالفرار من تلك الجلسة الكئيبة لتستمع لنبرتها التي تبدو دائمًا مُحذرة أكثر من أنها تخبر أو تطلب أو حتى تواسي:
- نانسي حبيبتي استني..
حولت حديثها لتلك التي تثرثر معها على الهاتف وأخبرتها بلباقة:
- معلش يا هاجر هكلمك تاني، باي..
انهت مُكالمتها لتتنهد الأخرى وعادت لتجلس على مقعدها المجاور لمقعد والدتها التي تسائلت:
- ايه يا حبيبتي هتروحي تغيري هدومك من بدري أوي كده؟
حاولت أن تتحامل على نفسها وهي تجيبها متسائلة:
- وهاغير هدومي ليه يا مامي؟
توسعت عينيها بغير تصديق وهتفت بدهشة:
- إيه، مش هنروح النادي النهاردة زي ما احنا متفقين؟ ده كلهم مستنينا وهـ..
قاطعتها بنفاذ صبر ونبرة عكست انفعالها الذي تحاول أن تُخفيه:
- مامي أنا زهقت من تجمعات النادي والستات الغريبة اللي مفيش وراهم حاجة غير الكلام عن الناس ويتباهوا بمظاهر وبس.. أنا مش رايحة النهاردة!
نهضت لتغادرها من جديد بينما اوقفتها متعجبة:
- طيب لو مش هتروحي النادي ناوية تعملي ايه؟
التفتت لها واجابتها بإنزعاج:
- ما تسيبيني براحتي شوية زي ما انتي سايبة سلمان ولا راغب ولا حتى رُفيدة.. مش معقول بقيت أم ومتجوزة وعندي طفلة ولسه مصممة تعرفي النفس اللي بتنفسه.. كفاية بقى يا مامي!
تفقدتها لوهلة بملامح مختلطة بين الحزن والتقزز ثم همست في آسى:
- كفاية.. انتي وطنط ناريمان كنتو مصممين إني أنا ورفيدة نبقى نسخة منكم.. يمكن رفيدة زي مامتها بس أنا عمري ما هكون زيك!
غادرت هذه المرة دون الإلتفات لمزيدًا من تحكماتها الخفية التي لا تظهر سوى بمجرد اسئلة تلقائية سهلة ولن يحكم عليها من استمع لها إلا بأنه مجرد اهتمام أمومي منها بينما في الحقيقة هو قمة التسلط الشديد الذي لا تكف عنه أبدًا بل ولا يكفيها ذلك، هي تريد أن تصنع من ابنتها نسخة منها..
صعدت بخطوات سريعة نحو غرفة اخيها ثم طرقت الباب ولكن لم يأتها رد لتطرق مرة أخرى وبعدها دلفت إلي الداخل لتجده لا يزال نائمًا لتناديه:
- سلمان، انت مش هتصحى بقى؟
همهم بنعاس ثم همس متسائلًا:
- هي الساعة كام؟
تفقدت هاتفها ثم اجابته:
- عشرة إلا تلت
همهم من جديد ثم قال:
- طيب شوية كده اجهز وهاجيلك
زفرت بضيق بينما غمغمت بالموافقة لتغادره واغلقت الباب خلفها ليتأتأ هو بإنزعاج عندما وجد إنعكاس اهتزازات هاتفه تنتصر على رغبته بالمزيد من الدقائق التي أراد أن يُفنيها بغفوة ليزفر بضيق وهو يجذب الهاتف الذي اجابه دون تفقد هوية المتصل فآتاه صوتها الذي من وقت لآخر يتذكره دائمًا برناته المميزة:
- صحيتك ولا صاحي؟
ابتسم بإقتضاب ونهض محاولًا الإستيقاظ ورد مجيبًا:
- يعني شوية وشوية، عاملة ايه؟
تنهدت لتجيبه بمنتهى الصراحة:
- مزنوقة ومحتاجاك
همهم بينما بدأ في تفقد الحديقة من شرفة غرفته بزرقاويتيه وغمغم بسخرية:
- صراحتك دايمًا مُخيفة.. قولي يا رغدة عايزة ايه؟
استمع لحمحمتها التي كانت بمثابة محاولة فاشلة منها أن تُظهر التردد فهو يعرفها جيدًا:
- فيه مهرجان قريب ومعنديش فستان وناقص اسبوع! وأنا ماليش غيرك اقدر اعتمد عليه في حاجة زي دي..
رفع حاجباه متنهدًا وهمس بتعجب:
- اسبوع! انتي بتهزري؟
حمحمت من جديد ثم اردفت:
- وعلى فكرة أنا في كازابلانكا، والمهرجان كمان!
زفر بضيق بينما عقب برفض شديد:
- لا استحالة.. مش هالحق لأ
همهمت وهي تهمس في دلال:
- علشان خاطري يا سلومتي.. صدقني مش هنسهالك.. وكل اللي يقولي صباح الخير هقوله ده فستان سلمان يكن.. وافق علشان خاطري..
تريث لبُرهة ثم قال بقلة حيلة:
- ماشي.. ابعتيلي المقاسات بتاعتك وهاشوف.. بس هرد عليكي النهاردة بليل إذا كان هينفع ولا لأ
تهللت نبرتها وهي تُحدثه بثقة:
- هينفع، أنا دايمًا واثقة فيك..
❈-❈-❈
أخذت تتجول بخارج غرفة "أنور الشهابي" وهي ترمق هاتفها بين الحين والآخر متلهفة أي اتصال قد يأتي من "جاد" الذي اقنعته بصعوبة أن يستخدم هاتفًا قديمًا كانت تملكه هي وكلما اقتربت الساعة من العاشرة صباحًا كلما ازداد خوفها ألا يتم الأمر كما خططا له..
لقد آتت إلي هنا، حاولت قدر المستطاع توطيد علاقتها بالعاملين فقط من أجل هذه اللحظة، اللحظة التي سيمر بها "جاد" من الخارج حتى هذه الغرفة بصفته طبيب اضطرت أن تدعوه لحالة عاجلة من أجل "أنور" وتتمنى بداخلها أن يمر الأمر بسلام..
لقد أعدت له مسبقًا احدى البطاقات التعريفية من المشفى التي تعمل بها بدوام ليلي حتى تساعده لو طلب احد رجال الأمن أن يبرز ما يُثبت أنه طبيب، وبمجرد تلقي مكالمة منه ستذهب لتلك المرأة العجوز أو حتى مدبرة المنزل لإخبارها بضرورة اجراء تحليل أو الإطمئنان لأن المؤشرات اليوم ليست بجيدة.. الأمر الطبي ليس بهام ولكن كل ما تخف منه هو رجال الأمن ليس إلا!
استمرت تحصي الدقائق القليلة في انتظار مكالمته بمنتهى القلق وما إن فعل اجابته بمجرد بزوغ اسمه ورقمه الجديدان تمامًا على هاتفها:
- ايه يا جاد، وصلت ولا لسه؟
اتاها رده سريعًا:
- اه وفي الطريق مع حد من الأمن..
رمق الرجل بضيق مكتوم لم يظهر عليه بينما هي توجهت سريعًا لمُدبرة المنزل كي تعلل قدوم الطبيب الذي لم يكن سوى ابن "أنور الشهابي" نفسه الذي رفضه منذ سنوات كثيرة وبالطبع لن يستطيع المرور إلي داخل هذا الحِصن إلا بموافقة إما مُدبرة المنزل وإما احدى أفراد الأُسرة!
❈-❈-❈
تملكها الغضب بداخلها وعج الإشمئزاز بدمائها، هي ليست تلك المرأة الضعيفة التي عاهدت نفسها على نسيانها منذ سنوات بين عناق جمعها وجمعه يومًا ما، يا لويلتها من استمدت منه القوة أصبح خائنًا أمام اعينها!
لطالما شعرت أن هناك أمرًا خاطئًا لذلك لم تود الإنجاب، حاولت أن تصدق عشقه لها الذي وقعت له منذ الوهلة الأولى، حتى عندما توقف الأمر على اختياره أم اختيار صديقة عمرها اختارته هو ويومها اخبرت صديقتها أنها كاذبة!
نهضت من على كُرسيها وهي تشعر بالتخبط بين الغضب والبُكاء، ليس بهينٍ على إمرأة مثلها أن تُخان بمثل هذه الوضاعة، ليست "رُفيدة الشهابي" من ستصمت على رؤيتها لخيانتها بأعينها من أجل استمرار زواج أدركت الآن لماذا تم من الأساس!
لم يكن سوى من أجل الطمع الذي حذرها منه ابن خالتها "سلمان" يومًا ما ولكنها اختارت أن تُكذبه هو الآخر! لن يُفيد الندم، ولن يُفيد ما حدث، كما أنه لن يُفيد سوى رد الصاع، وبقوة!
أوصدت حاسوبها، أمسكت بهاتفها لتضعه بواحدًا من ادراج المكتب، لغت كل مواعيدها وتركت كل شيء ليحترق الآن، جرحها وكبريائها لن يستطيعا تحمل المزيد لليوم، تعلم إلي أين ستذهب جيدًا.. "إيناس" هي الوحيدة التي تستحق الإعتذار بعد ما علمته..
ربما لن تُسامحها ولكنها ستحاول، على الأقل عندما تبكِ لاحقًا وحدها ستعلم أنها قد قدمت اعتذارًا إلي صديقتها التي ظنت يومًا ما أنها تريد خيانتها مع زوجها الذي اتضح بالنهاية أنه هو الخائن!
صممت على الذهاب وحدها دون السائق، كما حاولت التأكد بعناية أن ليس هناك من يُتابعها، فزوجها ليس بغبي، بل هو من أذكى الرجال الذين تعاملت معهم يومًا ما، وإن لم يكن لما كان خدعها طوال سنوات بأنه الرجل المخلص والجميع هم الحاقدون.. يبدو أنه هو الآخر يعلم تحركاتها جيدًا..
اسرعت وهي تلتهم المسافة الفاصلة بينها وبين الشقة التي تمكث بها "إيناس" وودت من كل قلبها أن تكون متواجدة.. فهي تعلم جيدًا أن صديقتها مجنونة إلي ابعد حد ممكن وقد تفعل فجأة وتُغير حياتها بأكملها وليست شقتها فحسب..
شعرت بالقليل من الإطمئنان عندما عبرت البوابة الخاصة بالمجمع السكني الذي يقع به شقتها بعد أن أخبرتهم أنها آتية لزيارة "إيناس" كما أخبرتهم برقم الشقة وكذلك العقار ليسمحوا لها بالمرور بعد أخذ ما يُثبت هويتها منها!
صفت السيارة وبخطوات سريعة غاضبة اتجهت لتستخدم المصعد وضغطت رقم الطابق ثم توجهت لتطرق بابها وبعد ما يقارب من ثلاث دقائق من الطرق المتواصل تحرك الباب واستمعت لصياحها المُنزعج بصوت ناعس:
- فيه ايه ما بالراحـ..
سكتت "إيناس" من تلقاء نفسها عندما تلاقت اعينهما لتشعر هي بالصدمة والأخرى نظرت لها في ندمٍ شديد لتهمس لها بآسف:
- أنا آسفة.. انتي كان معاكي حق!
❈-❈-❈
ابتسم نصف ابتسامة وهمس له بقهر أخيرًا استطاع أن يُخرجه والتلفظ به:
- ياه يا أنور يا شهابي الدنيا دوارة، زي ما سجنتني في يوم علشان كل اللي طلبته منك كان حق عملية لأمي، تيجي انت بكل فلوسك وجاهك وهيلمانك واللي تعرفهم تترمي عاجز تاخد نفسك.. ربنا مبيسبش!
جحظت عيني والده عندما أدرك من هو اسفل جهاز التنفس بينما توسعت ابتسامة الآخر في تشفي ورمقه بمزيد من الشماتة وسأله مُستنكرًا بإبتسامة أظهرت صفي أسنانه:
- مفاجأة لا كانت على البال ولا الخاطر مش كده؟
رفع حاجباه بإعجاب بنفسه وهمس في زهو:
- لأ.. ولسه لما تعرف نتايج التحاليل دي اللي بتثبت إني ابنك..
القى بملف شفاف نحوه ليُمسك به "أنور" بيدٍ مُرتجفة وهو يتفحصه بصعوبة ليتحدث ابنه بثقة:
- مع إن حق ربنا إنك تموت زي ما أمي ماتت وواضح إن ده اللي هيحصلك مع الوقت..
اشار برأسه له وهو يصمت لبُرهة بسخرية وشماتة ثم استطرد:
- إنما أنا الراجل اللي رباني علمني اكون كويس حتى مع الوحش.. مش هطلب غير تعترف بيا بالتي هي احسن واورث فيك زيي زي اخواتي.. يا إما يا أنور يا شهابي هفضحك في البلد أنت وولادك..
تبادلا نظرات نارية فيما بينهما لتلين ابتسامته وهمس بغل:
- أنا عمري كله ضاع في السجن ومبقاش عندي حاجة اخسرها.. بس الفضيحة هتوجعكوا اوي وابنك اللي مش قد المقام ابن الحارة المسجون هيشوشر على سمعة ولادك!
رفع احدى حاجباه ثم تابع مُخيرًا اياه بينما في الحقيقة هو يُجبره بإستتار:
- كنت سمعت إن ابنك وأخويا الصغير ناوي يترشح في مجلس النواب الجاي.. بس أخ ليه من أم تانية ومسجون هتوجعه اوي حتى لو مجرد اشاعات ولف على القنوات ومداخلات هاتفية زي ما بيسموها.. وشكلك هيبقى ميسرش بين اصحاب الشركات اللي زيك..
تنهد متصنعًا آسى زائف وزم شفتاه بينما تابع وهو يحدجه بكراهية ليست لها نهاية:
- المغزى من كلامي.. يا تجيب المحامي بتاعك وتلم الموضوع على الضيق من غير ما حد يوصله خبر ويا دار ما دخلك شر ولا نلف في محاكم وورق واعتراف بالنسب، يا إمّا أكبر الحوار واحاول اوصلك تاني زي ما وصلتلك اولاني وبدل ما تعيشلك شهرين اخليهم اسبوعين.. تحب تعمل إيه؟!
خيره الآن، يريده يظن أن كل ما يُريده هو الأموال ليس إلا.. ولاحقًا بعد تمكنه من كل ما يُريد سيُحقق أن يُطبع اسم والده بجوار اسمه يومًا ما..
الأمر مجرد رهان بينه وبين نفسه، ليس لحُزنه عليه وليس لأنه كان منبوذًا مثلًا.. ولكن إحقاقًا للحق هو يريد هذا ويرغب به وسيُحققه عن قريب فعلى كلٍ لن يعيش سنواتٍ مماثلة لسنوات افنى أعزها بسجن لم يستحقه!
❈-❈-❈
لهث متخلصًا بأنفاسه المتثاقلة من تلك الرغبة التي سرعان ما يُبددها بإستمناءه المتكرر الذي أصبح رفيقه الدائم منذ سنوات كثيرة في تلصص تام وزفر نفسًا أخيرًا في راحة ولكنها لم تتساوى مع ارهاقه البدني الذي لطالما شعر به بعد كل مرة فعلها وحده..
جذب هاتفه ليجد الكثير من المكالمات الفائتة من زوج أخته، زوجته، ابنته، وأخرى تخص العمل، ولكن رآى أن اهم تلك الإتصالات هو إتصال من احدى الرجال الذين يغدق عليهم بالأموال لإستمرار حملته الإنتخابية!
سرعان ما أعاد الإتصال به واجابه الآخر بسرعة ليستمع منه إلي ما دفع القلق له:
- هو بصراحة لازم اشوف حضرتك، لأن المُشكلة دي لو متحلتش هتأثر على الحملة جامد..
عقد حاجباه في إنزعاج ليتسائل مُلحًا:
- فيه إيه بالظبط؟
حمحم الرجل بقليل من التوتر ثم قال:
- يا ريت اعدي على حضرتك أو نتقابل.. الموضوع يخص أنور بيه.. موضوع قديم ولو الصحافة عرفت مش هيبقى في صفنا!
جلس في انتظاره والقلق يعتريه فهو لا يُريد ما يُفسد هذا الأمر وأخذ يحاول التفكير فيما قد يفعله والده، ربما صفقة مشبوهة مثلًا؟ هل هناك أي تجارة له هو ليس على علمٍ بها؟ هل هناك خصام بينه وبين احدى رجال الدولة؟
جالت العديد من التساؤلات برأسه وهو يُخمن ما الذي لا يعلمه عن والده وتعالى افتقاره للثقة المعدومة التي يحملها بداخله والدقائق تمر حتى يلقى ذلك الرجل الذي آتى في النهاية وبعد عدة جُمل روتينية وازدياد للقلق بداخل "راغب" الذي أدرك ملامح الرجل التي لا تُبشر بالخير تحدث اخيرًا وتلهف الآخر لسماع ما الذي وجده:
- أنا معرفش ازاي الموضوع ده قدر يستخبى عنك السنين دي كلها بس والدك كان متجوز، وعنده ابن.. والمشكلة إنه كان مسجون!
❈-❈-❈
مشى وهو يشعر بالراحة الشديدة بعد أن تم التنازل من والده على جزءًا له من الميراث الذي سيقسم عند موته بالتساوي بين ابنائه وأخيرًا اقترب ولو قليلًا من من أخذ حقه الذي لو كان تقدم بأخذه منذ سنوات ربما قد كانت والدته الآن على قيد الحياة ولكن ربما هي حكمة إلهية لا يعلم الغاية منها بعد..
اطمئن بعد أن انطلى على الجميع أنه طبيب وأن "رحمة" ستلازمه بالأيام القادمة إلي أن يتأكد مما أراد، فهو كل ما يحتاجه هو مفارقته للحياة حتى ينتهي منه ومن شروره إلي الأبد..
لا يُصدق أنه أب.. هو حتى كان يرمقه بكراهية، لم يرى منه نظرات نادمة أو توسلات.. وبالرغم حتى من ترك ابنائه له بالأيام التي قد تصل لشهر دون السؤال عن حاله لم يشعر بإحتياجه لإبن من صلبه ليستفسر عن حاله!
شعر بالإمتنان الشديد لمن ساعدته حتى تتم خطته على أكمل وجه ممكن، لولاها لما كان علم الكثير عن تغير هذه الحياة ولا وضع اخوته ولا حتى والده، ولكن لا يدري كيف سيصدمها بأنه لا يشعر نحوها بنفس المشاعر التي تحملها له!
هو يراها كأخت، ليس إلا، لن يتغير هذا مهما فعلت من أجله.. هل استغلها لتحقيق ما أراد؟ ربما.. أحيانًا ينبغي استخدام نفس الوسائل الشيطانية لمحاربة شيطان آخر ولم يكن يملك سواها كوسيلة.
تنهد بحزن وهو يتذكر ذهابه لزيارة قبر والدته في الغد وكذلك قبر والده الذي أدرك متأخرًا أنه أفضل من يستحق بالتلقيب بالوالد والأب الحقيقي له، لو كان أدرك هذا منذ أن كان طفلًا ربما لكانت تبدلت الأقدار، أو على الأقل لما كان نظر له نظرة المظلوم بينما كان "عطا الله" بعيد كل البُعد عن الظالم!
- ألف حمد الله على السلامة، نورت الحتة..
التفت على هذا الصوت لذلك الكريه "رزق" الذي لم تتوطد صداقتهما أبدًا ولم يتقبل أي منهما الآخر على عكس والديهما ليرد بنبرة غير مُرحبة:
- منورة بأهلها وناسها يا رزق!
ابتسم له بحقد وهو يتوجه نحوه بينما تسائل:
- إلا اختك فين صحيح لغاية الساعادي؟
كز أسنانه بغضب هائل ليتلفظ بنبرة محتقنة:
- مالك ومال اختي يا رزق؟ ما تلم لسانك وتسترجل ولا عايزها تبقى عاركة ما بينك وما بين مسجون زيي؟
رفع حاجباه وادعى الإستياء ليقول:
- رحمة بنت حتتنا وطول السنين اللي فاتت كلنا بناخد بالنا منها.. أصل غيابك انت واخوها طول والأصول بتقول إني اخد بالي من أهل حتتي
زفر بضيق بينما نهاه بلهجة نافذة للصبر:
- طيب يا سيدي متشكرين، عملت الأصول كتر خيرك لغاية هنا.. مالكش دعوة بقى برحمة راحت فين وجات منين!
كاد أن يتحدث ليرد عليه بينما تدخل "محروس" الذي رآهما من على مسافة وهو يعلم جيدًا أن اقتراب الوقود والنيران من بعضهما البعض لن يكون أمرًا هينًا:
- كويس يا جاد إني لحقتك، تعالى اشرب معايا الشاي.. يالا روح استناني على القهوة..
استمر في تحديج "رزق" بكراهية وتقزز فهو يُدرك أنه يعلم حقيقة الأمر، كلا والديهما وكذلك "محروس" لم يفترق ثلاثتهم، وبالطبع لقد أخبر "عطا الله" كلًا من صديقيه بمن يكون هو ولماذا تزوج من والدته صوريًا كي يُسجله بإسمه ثم رد في النهاية بنبرة محتدة:
- لامؤاخذة يا عم محروس خليها وقت تاني..
اقترب منه وربت على كتفه بينما زجره بقليل من المُزاح:
- يا واد عيب لما أبوك يقولك كلمة وتنيها.. يالا روح استناني على ما اجيلك.. شهل يا واد
زفر بضيق رامقًا ذلك الكريه مرة أخيرة وتلفظ بين أسنانه المُلتحمة:
- ماشي.. علشان خاطرك انت بس!
ذهب متوجهًا للمقهى بينما تحدث "محروس" بتحذير:
- شوف يا رزق لما اقولك.. علشان عامل خاطر لأبوك الله يرحمه والحجة أنا مش عايز اعمل مشاكل.. اقسم بالله لو ما شلت جاد ورحمة من دماغك لا أكون شايف شغلي معاك.. سمعت؟!
زم الآخر شفتاه بضيق بينما تركه قبل أن يعقب بكلمات ليس لها فائدة ليجد اخته تقترب منه وهي تُحدثه:
- ماله عم محروس، كان قالب وشه عليك كده ليه يا أخويا؟
زفر بضيق ليُردف متآففًا:
- وأنا ناقصك انتي كمان يا وداد، خير.. إيه اللي جابك؟
مصمصت شفتاها وهي تتفقده بملامح متعالية وقالت:
- يا سلام.. ايه اللي مش ناقصك دي كمان؟ أنا غلطانة، ملقتش حد اشيعه يندهك فقولت اجيلك بنفسي، أمك عايزاك يا اخويا مش عارفة هتكلمك في ايه!
أومأ لها بالتفهم ثم قال:
- طيب روحي انتي وأنا هاجيلها بعد ما اقول لعاطف يقفل الجزارة!
رمقته بتفحص ورآت ملامحه التي جعلتها ترتاب بأمره لتقول:
- أنا شايفاك كده مزاجك مش ولا بُد من ساعة ما كنت بتكلم عم محروس و..
توقفت عن الكلام لبرهة بينما تابعت سائلة:
- وجاد! مش ده جاد ابن عطا الله اخو رحمة وسعد؟
زفر حانقًا وهو يومأ لها بإقتضاب وازداد انزعاجه لتسأله:
- ما ترسيني، ايه الحوار بينك وبينه، يمكن اختك اللي مبيفوتش عليها هفوة في أي بيت في الحتة تعرف تساعدك!
يُتبع..