-->

الفصل الأول - ELEVEN ELEVEN


 

-الفصل الأول-

(بداية)



كلما تلاشت من ذاكرتنا الأحداث،
أعادها لنا الكون في شخصيات وأزمنة مختلفة..

-غابرييل غارثيا ماركيث-
عن مائة عام من العزلة
•¤•¤•¤•


نيويورك
١١ نوفمبر ٢٠٠١


إنها التاسعة وربع مساءً .. تفقدت ساعة الحائط للمرة العشرون بلّازمة لاإرادية بينما أجلس بانتظار في غرفة المعيشة، لتتذبذب أنفاسي تزامنًا مع حركة عقاربها .. كلما مـر بيّ الوقت وأنا أنتظر قدومه يتوهج صدري من الشغف وشيئًا آخر خفي لا أعرفه .. أو حسنًا، أنا أعرفه .. إنه الخوف!!



لكن ما لا أعرفه، لمّ عساي أشعر بالخوف بيومٍ كهذا؟؟ .. التوتر، حسنًا، هو شيء طبيعي، لكن ما يُخالجني الآن هو شعور بالخوف، الرهبة إذا وسعنا القول .. ربما هذا طبيعيًا، أعني اليوم هو أول موعد حب لي .. أجل، أخيرًا قد حصلت على واحدًا!! .. لم أواعد شاب من قبل، ولم أحظى بمثل هذه اللمسات .. لقد انتظرت هذا طويلًا، إلا أنه تعثر عليّ كوني لما أجد مَن يقع قلبي له .. قد يكون الأمر سخيفًا للبعض، لكن هذا ما أؤمن به!! .. أؤمن بوجود شخص واحد خُلق ليهواه قلبي، خُلق من أجلي أنا، كما خُلقت أنا من أجله!! .. نظرة رومانسية حالمة، أعرف، لكن ماذا عساي أن أفعل؟! .. هذه شخصيتي وهوّيتي التي شَببتُ عليها، والتي كافحت طويلًا للحافظ عليها خلال جحيم المدرسة الثانوية، وكل هرائها المقرف .. تلك الأرانب التي لا تنفك عن مضاجعة بعضها في كافة المواسم، هذا بالليل، أما في الصباح، تكن أنت متعهم الوحيدة .. ولمّ بحق جحيمهم؟! .. لأن مؤخرة عقولهم لا تستوعب فكرة، أن أحدًا قد لا يرغب بتبادل أعضاءه مع أيًا منهم!!



سواي أنا..
"بيك" .. "جينيفر بيك"



أو "ويرد بيك" (بيك الغريّبة) .. هذا اللقب السخيف الذى اكتسبته خلال الثانوية .. حسنا، ليس سخيف بالكامل، أعترف، فانا أعتبره جزء من هَويّتي، لأنه يُصدقني الوصف، ويلائم شخصيتي إلى حد كبير .. لذلك، لا أجد حرجًا فيه، ربما كان هذا في البداية، عندما خلّعه علي حفنه من المراهقين النتنين وحاصروني به أيما ذهبت .. لكن مع الوقت، بدأت أدرك أنني بالفعل لا أشبه أحد، في الحقيقة، ليس علي أن أشبه أحد .. انا أُجيد فعل أشياء عِدة ليس لها علاقة ببعض؛ درست الأدب، أهوى الكتابة الحرة، لدي جنوح مرعب نحو رحلات الاستكشاف والمغامرة وتسلق أي شيء، وعندي موهبة بالرسم والتخطيط لا بأس بها، وأخيرًا أعمل كمدربة في مجال اليوجا والتأمل .. وللحقيقة، أنا مدمنة لهذا الأخير عما سواه .. لهذا، قد يصفني البعض بالغرابة، لكني لا أراها كذلك .. أن تكن مستقل برأسك، تفكيرك، نمط حياتك عن الجميع، ولا تتبع الباقية كالخراف، ليس بالشيء السيء دائما، مهما بدى غريبًا لهم .. وإن كان هذا ما يعنيه لقب "ويرد بيك"، فأنا أعتز به!!



حسنا، لأكن صادقة، هذا ليس السبب الوحيد .. أبي كان مدمن كراك -الكراك مخدر كيميائي مشتق من الكوكايين ولكنه أشد خطورة منه- ومات بجرعة زائدة منه وانا بالعاشرة .. الحقيقة، انا مَن عثرت عليه تلك الليلة .. أخبرنا الطب الشرعي لاحقا، أنها على الأغلب كانت محاولة انتحارٍ، كونه أدرك أنه في كل الأحوال سيموت، بعد أن بلغ مرحلة متقدمة من فيروس الإيدز، الذي التقطته في رحلة إدمانه، وهذا كان سبب انفصاله عن والدتي قبلها بخمس سنوات .. الأمر كان سيء وقتها، لكن لا بأس، فيما بعد، فادتني هذه الخبرة كثيرًا كي لا أقع انا بالمثل في هذا الوباء اللعين، خلال فترة المراهقة المشبعة بحفلات أسبوعية يميزها ثلاثة أشياء؛ التعاطي بغباء .. المضاجعة كالحيوانات .. والأمراض الجنسية الوفيرة!!



كان حَريًّ بي أن أنأى عن كل هذا .. لم أرد لأشباح الماضي أن تلحق بي وتدمر مستقبلي .. يكفيني كثيرًا ما اضطررت أن أمُـرّ به في الصغر، لذلك أصررتُ أنجو من كل ما يذكرني بمحنة والدي، ذلك لأنني لم رد أن ألقى نفس مصيره الذي وجده عليه تلك الليلة .. مجرد قمامة ملقاه بزاوية الطريق، لا ينتبه لها أحد!!
 أجل، هذه هي انا وهذه هي شخصيتي، التي حاربت كي احافظ عليها من أجل الشخص الذي يستحق، الذي يقدر قيمة ما أعطيه .. الشخص الذي استطاع أن يرى غرابتي، تفرد وتميز، الذي استطاع رؤية ذاتي الحقيقة عن حق!! .. لذا، لن يكون كثيرًا عليه عذرية قلبي وجسدي؛ لأنني بالتأكيد سأجد معه ما طالما تمنيته وافتقدته، لذلك مجددًا هو يستحق كل هذا..



ها هو قد أتى...



تبًا، لقد عاودني شعور الرهبة من جديد فور سماعي لرنين الباب، بعد أن كنت نسيته في الدقائق التي شردتُها .. نهضت بخطوات لاهثة صوب مرآة الباب، لا أصدق حقًا أنني أفعل تلك الحركات الخرقاء، اتفحص نفسي واتمم على هندامي قبل أن أفتح له الباب .. تأملت قَصّت شعري الجديدة وأعدت ترتيب خصلاتي، وفجأة دب بجسدي حرارة التوتر بمجرد أن التقطت عيناي إحدى خصلات غِرتي الشاردة عن أخواتها .. حاولت تهذيبها مرارًا بأصابعي لأصلح الوضع، وأنا ألعن بسري مُصفف الشعر الثرثار الذي أمضيت لديه ساعات من أجل أن يتكفل بهذا .. لكن من الواضح أن عقله كان شادرًا في شيئًا آخر، حسنا، أنا أعرف هذا الشيء .. ذلك الأحمق كان منشغلًا في التغزل بي، وإغراقي بعبارات الاطراء الغبية مثله، وكيف أنني أملك درجة لون شعر ذهبية ليست شائعة في أوساط أوروبا .. وأنه بحكم عمله الذي يتردد عليه يوميًا عشرات النساء، يشهد لي بأن نقاء خُضرة عيني تنافس نهر (هدسون) الذي يتمشى عليه كل صباح، وحريّ بي أن أكون فخورة بهذا بكل تأكيد!! .. كل ذلك، بينما أكرر له بين الجملة والأخرى، أني قصدت صالونه اليوم من أجل موعدي الأول!!



اللعنة مئة مرة على الغباء!!



تمتمت بسخط، وأنا أمرر يداي على جانبي فستاني المخملي الأسود، لأتمم على ثناياته المتعددة حول الخصر والتي تبرز نحوله كما أحب، خاصة مع انسدال كتفيه بنعومة ليصنع شق واسع بمنتصف الصدر .. أحببت هذه الإطلالة الكلاسيكية التي يمنحني إياها، إن ذلك يتلائم كثيرًا مع شعري القصير، فأبدو وكأنني عُدت لفترة الخمسينات .. أتمنى أن يعجبه هذا!!






قرع الباب من جديد، لأدرك انني قد تأخرت أكثر من اللازم في فتحه .. أخذت عدة انفاس عميقة لأسيطر على توتري وذلك الشعور الذي بدأ يتضخم بصدري، ثم فتحته..
- يا ويلي..!!



حسنًا، هل هذا كل ما استطعت قوله "توماس" حبيبي بمجرّد رؤيتك لي؟؟ .. "يا ويلي"؟!



فكرت بينما أتأمل تلبك توماس في وقفته لثانية، قبل أن يظهر يده اليسرى المخبئة خلف ظهره، ليقدم لي باقة ساحرة من زهور البنفسج التي أعشقها، كاشفًا عن ابتسامة اشرقت قلبي:
- آسف بيبي، أنا .. سامحيني انتِ تبدين فاتنة للغاية!! .. يروقني شعرك، تبدين كالأميرات..!!



آوه ، حسنًا، هذا أفضل "تومي"..!!



احتضنت الباقة وأنا أمرر أصابعي بلطف على كل زهرة بها، بينما اقضم شفتي بحركة تلازمني كلما رأيته .. يا إلهى، لا ينبغي لأحد أن يبدو وسيمًا ومثالي بهذا الشكل!! .. لم أحرم عيني من التمتع بكل تفصيله منه؛ شعره النحاسي المُصفف بعناية، وتلك اللحية الخفيفة التي توخزني يدي لألمسها دومًا، كانت تمنح ملامحه المنمقة، الطابع الرجولي الذي أذوب به .. حبست نفس لأغرق داخل عينه بلونها الفريد، تلك الفضية المشبعة بدرجة من العُشب، إضافة إلى كونه يملك لون متغاير جزئيًا بقزحيته اليسرى تأسر قلبي .. وتلك البدلة الأنيقة المرتسمة بوجاهة على جسده المتناسق، متناسق، وليس معضل، نوعي المفضل بالضبط .. لم أفهم أبدًا ما الجميل في كتلة عضلات متحركة؟! .. يكفي فقط أن يكون رياضي يهتم ببنية جسده، ويرتدي بدلة أنيقة كتلك من أجلي!! .. فـعادةً "توماس" يكره البدلات ويكره الرسميات ويكره كل شيء تقليدي، مثلي تمامًا .. وهذا أول ما جذبني له، لكن اليوم، كان لابد أن يسير كما تخيلته، ومن أجلي فقط فعل .. والآن، انا لا أرغب سوى في تقبيل هذه الشفاه المغوية كاللعنة، وهذا ما حدث..!!








فبحركة مفاجئة، وقفت على أطراف أصابعي لأصل لطوله، أجل، لا ارتدي حذاء عالي!! .. لم أرتديه من قبل مطلقًا، ولا أعتقد أنني سأرتديه بأي حال من الأحوال؛ لأنني لا أهوى تعذيب نفسي!! .. هذا إلى جانب أنني أحب الحفاظ على فرق الطول بيننا، أعشق تلك القوة التي تفوح منه، وتلفني بالحماية .. الحقيقة، أنا أعشقه بالكامل، لذا جذبت رأسه بنعومة دون تردد، لأجذب بعدها شفتيه وامتصها بشغف غزير أسرى الرغبة بجسدي كالحريق، لتنتقل على الفور لجسده، ومن ثم تناغم معي في تلك الرقصة الجامحة، ليحملني قليلًا عن الأرض، داعمًا جسدي بجسده، كي يتمكن من معانقة فمي أولًا قبل جسدي .. ويبدو أنه قد اعتاد منذ أن التقينا على جنوني ومباغتي له، حتى ولو كنا على عتبة البيت..!!



لفترة ما بعد مراهقتي، خِلتُ أن الخطأ بي، أني لا أواعد؛ لأنني باردة، فاقدة للحس والمشاعر كما وصموني آنذاك .. لكني كنت مخطئة، وهم كذلك .. فمع أول مرة رأيت بها توماس، كل المشاعر التي سمعت عنها طويلًا وظننت أنني لا أملك شيئا منها، تحركت بمجرد رؤيته .. وانا معه أشعر وكأنني شخص غير الشخص، كل جنوني وشهوتي تندفع وتتحرر في وجوده .. الأمر يشبه وكأنه يملك شفرة الإطلاق الخاصة بي!! .. إطلاق الأنثى المفعمة بالحياة داخلي!!



أبعدني برفق عن جسده لتستقر قدمي على الأرض مجددًا، وبالكاد تفرقت شفتانا عن بعضهما، لأرفع عيني له فأجده يقابلني بأكثر نظرة أعشقها في الكون .. نظره الحب التي تنبعث منه هو، هو فقط!! .. تحمحم بطريقة تقطر رغبة:
- أعتقد أن علينا الذهاب الآن، وإلا سنبدأ الليل من نهايتها!!
ضحكت بخفة وأنا أومئ، بينما مازالت أصابعي تمسد أسفل عنقه بنعومة، ليستجيب لها بابتلاع ريقه ومعاوده التحديق بشفاي مجددًا، لتسقط عينه بعدها على نهدي البارز .. وآوه نعم، بيبي، هذا هو التأثير الذي أردت الحصول عليه منك!!
- ماذا؟؟ .. ألن نذهب؟!



سألته بمكر أنثوي بينما أمرر شفتاي بإغراء، ليكن جوابه الوحيد عليّ هو تعديله لذلك التضخم الذي بدأ يتكون أسفل سرواله، ومن ثم لعن تحت أنفاسه وهو يجذب ذراعي بشيء من الحدة لنغادر البيت بسرعة .. فتح لي سيارته وقبل أن أدخلها، كان يسحبني مجددًا لأسقط داخل صدره، وبكل عنفوان الّتهم شفتاي .. تبا، لهذا الشعور!! .. حسنًا، لم يكن هذا على قائمة أمنياتي لليوم، لكنه لم يفعل شيء سوى أنه أغرقني بحبه أكثر .. كالعادة!!



أصبح جسدي محاصر بينه وبين السيارة، ليعتصر بقبضته مؤخرتي بخفة قبل أن يتسلل لها من أسفل الثوب .. وبالكاد استطاع التحدث داخل عنقي بصوتٍ خشن من أثر اللهفة:
- أعتقد بعض المداعبات البريئة ستُحمّينا لبدء الليلة، ألستِ معي في هذا؟!



❈-❈-❈



مطعم أدريانا


عانق توماس ذراعي بلفتة نبيلة ونحن نعرج إلى هذا المطعم الفاخر وسط المدينة .. تبادلنا إماءات لعوبة بينما ينحني لنا بترحيب عاملي الاستقبال، ويمكنني أن أحزر أن ما خاطرني قد خاطره أيضًا .. أعني، اللعنة، من دقائق فقط كنا على شفا ممارسة الحب لأول مرة في السيارة، وفي عارض الطريق، وقد جرفنا تيار القبلات المدججة باللهفة، ولم ندرِ بأنفسنا إلا وقد كدنا نفعلها حقًا!! .. الأمر الذي تطلب منا قضاء بعض الوقت في السيارة في عناء تهدئه أجسادنا المتعرقة من الرغبة واسترجاع مظهرنا، وراهن كلا بعدها بمزاح إذا كانا سنحصل على انحاءه الترحيب من العاملين أم سيرتابون في هيئتنا؟! .. ويبدو أنه هو مَن ربح الرهان!!



ما إن أصبحنا بقلب الصالة المهيبة، حتى عاودني الشعور ذاته، الخوف والرهبة، بل تصاعد دَقِيقُه أكثر!! .. يمكنني أن أُرجع هذا لتأثير المكان عليّ، فبحق السماء أنا لا أدخل مكانًا كهذا كل يوم!! .. وحتى الآن، لا أصدق أن توماس حقًا فعل هذا من أجلي، بالتأكيد ذلك العشاء سيكبده راتب شهر .. والذي بالمناسبة، هذا ليس بهين، فعمله كمحرر حُر في كشف قضايا الفساد في المدينة، يدرّ له عائد لا بأس به .. على كلٍ، هذا لا يعنيني في شيء .. لا يعنيني سوى أنني معه الآن!!



سحب النادل لنا المقاعد بأرستقراطية، لأجلس واستشعر ابتسامه متوترة تداعب وجهي .. ترى هل لاحظ هذا توماس؟! .. أتمنى ألا يكون، لا اطمح لأن أبدو كالخرقاء أمامه الآن، فاللعنة، لقد تجاوزت الواحد والعشرون منذ ٤ شهور!!
- متوترة...؟!
- قليلًا..



جاوبته وانا أتناول كوب الماء الذي عبأه النادل قبل أن يذهب .. وحينما رفعت عيني عن الكوب، قابلت وجه توماس الذي اقترب بجذعه مني .. كان قريبًا جدًا، قريبًا لدرجة خطيرة جعلتني أزدر ريقي مراتٍ متتالية، وقد استرجع عقلي الخبيث الطريقة التي قبلني بها منذ دقائق بالسيارة، وكل ما حدث بعدها .. برفق داعب بسبابته أصابعي المحاطة للكوب ليرسل بجسدي رجفة، وبتهادي شديد دون أن يقطع تواصل أعيننا أنزل الكوب وأحتضن يدي يدلكها بدفء.



 الأمان .. هذا ما شعرت به!!



- لا داعي للقلق، "بيك"!! .. الفترة الماضية عرفنا بعضنا بشكلٍ كافي، أليس كذلك؟!
ساويت شعري خلف أذني وأنا أمنحه ابتسامة عفوية حاولت أن أهدئ بها الضجيج الذي بصدري:
- بلي، نحن كذلك، وإلا لما قبلت أخرج معك في موعد!!
- ابتسامتك تدفئ قلبي، "بيكي" .. لا تبخلي عليّ بها يومًا!!



كان يحدق بي بزُمرة عينه الرائقة والتي تنهال منها نظرات شغف صادقة تقسم على كلامه .. تبا لهذا الشعور الذي أحياه مجددًا .. الطريقة التي قال بها هذا الكلمات، رغم أنها عانقت قلبي بقوة على الفور، إلا انها رفعت من مستوى قلقي وخوفي، وصدري انقبض أكثر وكأنه سينفجر بأي لحظة .. استطعت الآن تمييز هذا الشعور، انه خوف الفقد .. انا خائفة أن أفقده ومن ثم أفقد كل هذه السعادة التي يحملها لي .. كان مثاليًا جدًا، مثاليًا للدرجة التي تخيفيني من أن ثمة أمرًا خطأ .. ذلك لأني لم اعتاد بحياتي على المثالية، الحياة علمتني أن كل شيءٍ بها كوجهي العملة، كما يحمل الأثر الجيد، يحمل السيء .. وكوني لم أرى السيء حتى الآن، يجعل جسدي كله في حالة ترقب واستنفار، ويفقدني لذة الاستماع بتلك اللحظة الفريدة بحياتي..



”أين الشيء السيء توماس؟! .. هيا، أنا أشتم رائحته تحوم حولنا .. اتمنى من الله فقط، ألا يكون بك!!“



تنفست على مِهل لأسيطر على ما يُخامرني من أفكار سوداوية غريبة .. نعم، هذا وجهًا آخر لغرابتي، أن أتبع حدسي كاتباع الراهب لرسالات الرب!! .. حدسي لم يخطئ أبدًا .. والآن، بدأت تنقشع غمامة موعدي الأول، وأصبح بإمكاني قراءة شعوري عن حق!!



”انذار بيك، ثمة خطبًا ما خطأ!!“


- "بيك" .. ما الذي يشغل بالك؟؟ .. لا تبدين على طبيعتك!!
أجل، توماس، هذا لأنني بالفعل لست على طبيعتي، ولأنني واللعنة أجهل السبب!!



ابتسمت بإحراج كونه أمسك بي شاردة عنه في موعدنا الأول، وللحق، هذا ليس جيد!! .. خاصة وإذا كنت تجالس شخصًا وسيم يغمرك بعينين كأنهما الأحجار الكريمة .. أعني، مَن الغبية التي تهيم في بحر أفكارها الغريبة وهي بصحبة حبيبها في أول عشاء يجمعهما؟! .. حسنًا، ليس هناك غبية تفعل هذا سواي بالطبع!!



”كفِ عن التصرف بغباء بيك؛ لأنك تكرهيه!! ..هل نسيتِ؟!“



أنقذني من غمرة إحراجي ونظرات توماس المتفحصة، النادل وقد أحضر معه الشامبانيا التي سبق وطلبها توماس .. فور أن مُلئ كأسي حتى اجتررت منه النصف دون أن أدري، كنت في حاجة ماسة له كي أخرج من إحراجي الصغير .. ثم أدخل في بحرٍ من الإحراج!! .. هل ابتلعت للتو كأس الشامبانيا الأول بيننا كالبقرة، دون أن أشاركه نخب بدايتنا؟!



ما الغباء الذي تفعليه واللعنة أيتها الغبية!!



- انا آسفة .. تبا، اعتذر .. انا .. انظر .. دعنا نفعل هذا من البداية .. تظاهر بأنه لم يحدث .. هيا هيا .. ارفع كأسك ودعنا نفعلها...!!



وسط حُمى الإعاقة التي اندفعت بها -بلى، إعاقة وعتهّ؛ فقد تخطيت مرحلة الغباء ولي الفخر- انفجر توماس بالضحك حتى أُدمعت عيناه وتحول وجهه للون قاني لم يزده إلا جاذبية .. آوه .. لا لا .. هذا سيء، تلك الضحكة لا يجب أن يراها أحدًا غيري .. وبالتحديد، أنثى غيري!!



وفجأة بدأت أتلفت حولي بغرابة لأبحث إذا كان هناك أعين عاهرة وقعت على ما هو لي، وبالفعل ما حسبته وجدته .. هناك مُنحطة، لا تستحي من أنها تُجالس رجلًا وتُفتن بآخر دون حياء!! .. زجرتها بازدراء، وبذهني توافدت خططت التوعد لها بالانتقام، لتُلملم عُهرها أخيرًا، وتدير وجهها القبيح عنا .. لحظة واحدة، هل ما شعرت به الآن هي غيرة؟! .. تبا لي، لم اشعر بالغضب كوني أفسدت موعدي الأول وجعلت نفسي أضحوكة، قدر ما شعرت بالغيرة والرغبة في الاستحواذ على ضحكته .. الاستحواذ على كل ما به .. تبا لي، مرة أخرى أنا واقعة له حد الثمالة، وقريبًا سيصبح هوسي!!



“علّمي على كلامي هذا، بيك!!“



- الرحمة، بيك!! .. لمّ تتلفتين حولك؟! .. توقفي عن الشرود في موعدنا!! .. اقسم أنك تحضرين الآن موعد آخر داخل رأسك مع نفسك!!
تذمر توماس معلقًا على حالتي بسخرية بينما يدعي الانزعاج .. وهنا، أنا مَن انهار ضحكًا هذه المرة!! .. تبا له هذا الوغد جيد جدًا في قراءتي، ولهذا انا واقعة له!! .. ابتلعت انفاسي بعد نوبة الضحك التي اعترتني، وبدأت اشعر من فورها بالتحسن، وقد تخلصت من توتري .. اعتدلت بجلستي بعدها، وحملت كأسي مجددًا ثم وجهته له رافعة إحدى حاجبي بحركة عبثية:
- آوه بيبي، ليس من مصلحتك إذًا أن تعرف ما يدور داخل هذا الموعد!!



هز رأسه بقلة حيلة وملامحه تكاد تخبرني بأنه يعاني معي، ليبتسم بطريقة اظهرت أسنانه المتناسقة فتزيده من وسامته بقلبي، ومن ثم دنى مني ليقرع كأسه بكأسي هامسًا لي ببحة تردد صداها داخلي:
- نخب أول موعد لنا، جينفير بيك..!
- نخب حُـبٍ إلى الأبد، توماس إليجين..
- إلى الأبد..



تمتم ورائي بأمنية، وأخيرًا، احتسينا شرابنا الأول!! .. نهض بعدها كأي رجلٍ نبيل وجمع سترته، ثم مد لي يده برقي وسألني برسمية مبالغة أثارت رغبتي في الضحك:
- هلا شاركتني هذه الرقصة، آنسة بيك؟؟
- من دواعي سروري، سيد توماس..



عانقني بذراعه لاستشعر القوة بها، وأدفئ صدري برائحته المذكية التي أظنني أدمنتها .. كانت خطواتنا بطيء وكأن قد توقف من أجلنا الزمن .. مقطوعة ناعمة تعزفها أشهر الفرق بالمدينة لتلّفُنا، وكأنها شرنقة من النعيم الخالص .. كل ما يحدث كان مثاليًا كالحلم، لدرجة أعجزتني عن الحديث، فقط ظللت أتمعن بحُسن وجه الذي لن أكتفي منه أبدًا، بينما ينحني على مقربة مني، ليستند بجبينه لجبيني وتصبح أنفاسه انفاسي، فأضيع داخل حدقيته المغوية..



همهم لي بصوتٍ بالكاد يُسمع، ولم يغادر عيني قط بينما أصابعه الطويلة تمسد خصري من الخلف:
- بيك، ماذا بكِ اليوم؟؟ .. تبدين شاردة نوعًا ما؟!



أشرت برأسي نافية، ولازلت أفتقد صوتي للتواصل اللفظي معه .. حقا لا رغبة لي في أن اقطع لحظة التواصل الروحي بينا، أشعر بارتباط عميق نحوه الآن، وكأنني أنتمي له من زمنٍ مضى .. أملت رأسي على صدره لتغزوني راحة وسكينة لم أشعر كمثلها يوم، راحة مَن عاد لوطنه بعد غربه .. وعلى الفور استجاب توماس لي بضمة وتمسيده لظهري ليعزز هذا الشعور داخلي أكثر .. استغرب حقا ما أشعر إلى أبعد حد، وبالوقت ذاته لا استطيع منع نفسي عن الانجراف خلف هذا الشعور المذهل!!



بعد فترة لا أعلمُ قدرها، تحدث توماس مجددًا بينما يحتضن رأسي برأسه:
- هل الأمر له علاقة بروايتك الجديدة؟؟ .. يمكنك إخباري .. ها، عما تدور؟؟
بدا مصرًا هذه المرة، حتى أنه أبعدني برفق عن دفئه المحبب، ليتعكر مزاجي:
- توم، لا أعتقد أن الوقت يلائم مثل هكذا حديث!!



عبرت له باستياء وبدأت أفوق قليلًا من خِدر قربه، واتفقد العالم من حولي .. لقد تبدلت المقطوعة أكثر من مرة، والمطعم ازداد ازدحامًا، يبدو أننا قاربنا منتصف الليل .. لم أدري حقا بالوقت معه!!
- ليس مناسبًا، أم أنك لا تريدين إشراكي عما تدور الرواية؟!
تبا، هل حقا هذا ما سنتحدث عنه الآن؟! .. زفرت بتَمنٌع:
- آوه، لا تحاول .. لن تعرف عنها شيء حتى انتهي منها..!!



ظهرت الصدمة جلية عليه وكأنني أهنته:
- لماذا؟!
- لأنك ستخبرني ما أخبرتني به عن روايتي السابقة، أنني أرمي الإيماءات على اشخاص في حياتي، وستجلس بعدها تحلل ماذا أقصد بكل كلمة..!!



اخبرته بشيءٍ من السخرية مقلدة طريقته في الحديثة، ليضمني بحب وانا على يقين بأنه يضحك في صمتٍ الآن؛ فذلك اليوم شاجرته كالأطفال، واتضح بالنهاية أنه يفتعل هذه الطريقة من أجل إثارة غضبي .. هذا الوغد الوسيم!!
طبع قبله في مفترق شعري، قبل أن يتمتم بجدية ونبرة حانية:
- لن أفعل، أعدك!!
- لا تعني لا .. هذا ليس وقتها، توم!!



أردت أن ابدو صارمة قليلًا كي أُجدي معه ويرتجع عن محاولة افساده لموعدي بالأحاديث التي لا قيمة لها الآن .. نعم، أي شيء عدى الحديث عنا الآن لا قيمة له في نظري .. لكن من الواضح أن هذه المعلومة تعثرت في الوصول لعقله، وعاد ليكمل بنفس الموضوع:
- حسنا، لا تخبريني .. يبدو أنها ليست جيدة بالشكل الكافي لتخبريني عنها .. لكن لا بأس، أنا لدي واحدة من أجلك سأسعى بعد كتابتك لها لتتحوّل فيلم .. صدقيني، تستحق!!



حدقته ببلاهة، وانا أكاد أبكي مما يفعله .. هل هذا ما أعانك الله على قوله بيومٍ كهذا؟! .. لمّ، توم حبيبي؟! .. لمّ هذا الإصرار على إفساد الليلة؟! .. ألم يخبرك أحد أنني أكره الغباء!!



“سجلي عِندك، بيك .. أول نقطة تُحسب ضده!!“



عُدتُ له بذهني لأعقد حاجبي مصطنعة الاهتمام، وقررت أن استسلم لسماع تلك القصة اللعينة .. كان يسردها بطريقة أدائية ساخرة لم يجذبني منها سوى تعابير وجه الوجيه .. لأول مرة ألاحظ عن قرب كيف أنه يضيق عينه جزئيًا بتأثر بينما يتحدث، والكيفية التي يفتح بها فمه ويحرك شفتيه، يبرز القليل من أسنانه ويضغط على مخارج الحروف بلكنه بريطانية أصلية طبقًا لأصوله .. انزلقت من بعدها عيني لتُقبل طابع الحُسن الذي يزين ذقنه، ويُعطيها رِفعة إيباء، وكأنه أحد الأمراء .. وكم تليق به الإمارة!!



لو فقط يتوقف عن قول الهراء، ويفعل شيئا آخر أكثر اهمية!! .. يكمل ما بدأه مثلا بالسيارة؟؟



حقا، جسدي يشتعل كلما فكرت أنه -وبعد أقل من ساعة- سأعانق هذا الرجل وأنام بين أحضانه لأخوض لأول مرة ممارسة الحب!! .. لم لا يشعر هو بذلك، واللعنة؟! .. هل الأمر له علاقة بكونه قد مارس الجنس من قبل، وأنا لا؟؟ .. هل لأنه له خبرات في الجنس والمواعدة يفعل بي هذا، ويفسد موعدي الأول؟؟ .. لم لا يقدرّ أنني أتوق لخوض تلك التجربة معه، ولا أنفك أفكر بكل شيء لعين أريد تجربته معه؟!



تنهدت بعمق لأخفف قليلًا من تأثري بوسامته المُهلكة، وكافحت لأركز مع ما يقول قبل أن ينتبه لأنني قد شردت مجددًا، ومن ثم تفسد الليلة بالفعل:
- ...تلك الليلة، بينما يقود هذا الشاب عائدًا من مغامرة جديدة في عمله، وجد أمامه سيارة تتراقص إطاراتها فوق الطريق يمنى ويسرى دون اتزان وكأن سائقها مخمور .. وعندما نظر حوله علّه يجد شرطي يسعى خلفها، كان الطريق خاليًا تمامًا .. وليس هناك متسع من الوقت لمهاتفة النجدة، فاسرع ليستطلع ما يحدث مع سائقها، وليتبين أن مَن يقودها فتاة وأنها في حالة هلعة من الفزع وكأنها استيقظت للتو داخل سيارة مجنونة .. وفي بادرة شجاعة معتادة منه، قارب سيارته من سيارتها ليفهم من صراخها أن المشكلة لديها في مكابح السيارة .. وبسرعة بديهيته وجد الحل، وهو أنه ملاصقة سيارته من سيارتها بالقدر الكافي لتتمكن من القفز منها لديه، قبل أن تنقلب .. وبعد محاولة مريرة في اقناعها، جعلته يرغب في قتلها بعد انقاذها من كثرة صراخها الهستيري دون أن تعطي نفسها الفرصة وتصغي له .. حدثت المعجزة وقفزت؛ لأنها أدرك أنه بمطلق الأحوال سيارتها ستنقلب .. وركزي معي، "بيكي"، في الجزء القادم من القصة؛ لأنه سيكون مثيرًا جدًا..




آوه، لا لا .. لا يمكن أنه يقصد..؟! .. يا إلهي، هذا محرج للغاية!!
فتحت فمي من الصدمة والحرج بنفس الوقت، فور أن أوليت انتباهي له، وفطنت للتو أنه يسرد قصتنا نحن .. ليلة لقاءنا الأول .. أو حادثة لقاءنا .. ظَلمّته، الوغد الماكر، لم أتوقعه رومانسي لهذا الحد!!



 ”اللعنة على غبائك أنتِ، بيك!! .. إياكِ وسب هذا الأمير الوسيم برأسك مرة أخرى!!“



توسعت ابتسامتي الخجلة لتطول أذناي كبلهاء أصيلة، وانا أستقبل تلك النظرات التي باتت تمدني بالشغف والعشق، وكل ما تاقت له روحي .. تخللت أصابعه لتعبث بخصلات شعري وأقترب مني أكثر ليُلقنني بقية القصة همسًا:
- وحينما أصبحت بأُعجُوبة داخل سيارته، ارتمت كالداهية بحضنه، واستقبل هو قضاءه بتسليم .. وإذ به يجد تلك الفتاة أجمل فتاة رأتها أعينه، حتى وهي شاحبة وترتجف بعد أن رأت الموت!! .. لأكثر من خمسة دقائق ظلت ترتعش بجانبه وتعتصر عينيها المُغرقة بالدموع .. فلم يجد بُد من أن يُوقف سيارته جانبًا ليتفحصها، ليرى أن ما أصابها مجرّد خدوش، وكدمة اكتسبتها في جبهتها بين تفوّت لسيارته .. فقرر أنه سيُطببّها لها، وبالفعل هبط من سيارته ليُحضر عُلبة الاسعافات، وحينما عاد وجدها قد غابت عن الوعي بعد الفزع الذي عانته .. اقترب ونزح خصلاتها عن وجهها ليداوي كدمتها قبل أن تتضخم .. وبينما يفعل هذا، فُوجئ بها تفتح عينها وقد بدأت تستفيق .. كل ما خاطره حينما حدقته باستغراب جلّي، هي أنها تملك أعين، هي أجمل ما يكون!! .. وما صدمه أكثر، كان أول ما قالته هي .. "عينيك جميلة للغاية!!"..



كان يحيطني بعينيه الجميلتان وهو يتحدث بنبرة شديدة الحساسية على قلبي .. يضمني أقرب لجسده لاستشعر الحرارة المنبعثة منه .. ويده تعبث بظهري صعودًا وهبوطًا ببطء ٍ شديد لتجعلني قطعة من حريق .. والآن، يُكملها بتذكري بما حدث، ليغالبني الخجل، ولا أعرف لماذا، فقط قلت الصدق وقتها .. الرجل يمتلك زوج من العين لا تراه كل يوم!! .. مع ذلك وجدتُ نفسي كالخرقاء أدس رأسي بعنقه، لأختبئ من نظرات عينه اللعوب التي تحاصرني .. لكن هذا لم يشكل فارقًا مع إذا أكمل مزيدًا من وضعي سوءًا، وهو يوجه حديثه لي بنبرة صوت خدرت حواسي:
- نعم، "بيكي" .. هذا أول ما قالتيه بينما كنتِ شبه مغيبة، لكن دعيني أخبرك أن هذه الجملة كانت كلمة السر لوقوعي بحبك .. لأنني أدركت أنكِ المنشودة!! .. أجل، جينيفير بيك، لقد وقعت لكِ منذ تلك اللحظة .. وما حدث بعدها كان واضحًا لكلانا، تلك الشرارة الخفية التي سرّت بيننا، تناشد بشيء لم نستطع أن ننكره .. قُبلة كبداية .. وعنيّ، فانا لم أفكر كثيرًا، بيك؛ حينما استأذنتك بعيني فوجدتك تُصدّقي على ما وصلني من شعور، دنوت منكِ أكثر كما نحن الآن .. واحتضنت وجهك هكذا، لألمس أنعم بشرة عرفتها، ثم اغرق بنعيم أكثر شفاه بإمكانها قتلي....




وقبلني .. كان ألذ قُبلة حصلت عليها منذ أن عرفته .. كياني يذوب في كيانه، هذا ما شعرت به .. ثواني وربما دقيقة، دام عناقنا الشفوي على ملأ من الجميع .. وكأنني أهتم، بل أردت الحصول على المزيد وتمديد هذه القُبلة اللذيذة لأطول وقت تتحمله انفاسنا، علّني أخبر الكُل، أن هذا الرجل لي، وأنا له!!
رغم اعتزازي بهذا إلا أنه راودني بضع الخجل بينما أرافقه للطاولة فور انتهينا .. أشعر أن جميع الأنظار متسلطة علينا، لكن ما إن تذكرت تلك الحمقاء التي كانت تأكل توماس بعينها، حتى رفعت رأسي ابحث عنها لأتأكد من أنها قد شاهدت قُبلتنا المطولة، والأهم أن أرى الحسرة والقهرة بعينها .. ومع الأسف تعثر عليّ هذا، فلم أجدها على طاولتها، ربما قد غادرت أثناء رقصتنا .. حسنا، جيد، أتمنى أن تكون قد صاحبتها الخيبة آنذاك!!



ابتسمت بانتصار في خيالي ورُحت أنظر حولي مجددًا، ربما أجد من بينهم فريسة أخرى أُرضي بها غروري الأنثوي .. لكن توماس قطع عليّ لذتي هذه وهو يرفع حاجبه بدهشة من تصرفي:
- ماذا دهاكِ، بيك؟! .. هلا توقفتِ عن التحديق بالخلق، سيرتابون في أمرنا!!



تحمحمت بشرقة وقد بلغت قمة خجلي اليوم، لأتناول كأسي وأشرب منه القليل .. عندما وجدت توماس يسألني بينما يمرر قائمة الطعام لي:
- ماذا تريدين للعشاء؟؟ .. اقترح أن تشاركيني شيئًا من قسم المأكولات البحرية .. تعرفين، نحن بحاجة للطاقة لاحقا، بيكي!!



حسنا، هذا كان وقحًا، إلا أنه راق لي إلى أبعد حد .. مع هذا لم يسعني سوى أن أرفع قائمة الطعام عليًا لأختبئ خلفها من نظراته الخبيثة .. كان واضحًا أن يتسلى بإحراجي الليلة، والغبيّ في الأمر، أنني أحببت هذا أيضًا، لذلك كنت ارمقه من خلف القائمة وانا أقلب صفحاتها مدعية التفكير وبالنهاية أخبرته بغنج لطيف:
- حسنا، اختر لي أنت!!



أومئ لي وهو يمنحني نظرة مغترة وكأنه كان يثق مما سأختار .. اعطى النادل طلبنا ثم اقترب مني يستند بكلتا ذراعيه على الطاولة ليتحدث بجدية مفاجئة:
- أظن أنني محظوظ عن ذلك الشاب تبع القصة .. تعرفين لمّ؟، لأنه...



بسرعة كنتُ قد وضعت يدي على الفور اكمم فمه عن تكمله القصة، واغمضت عن رؤية ابتسامة عينه التي تتراقص بمكر، بينما أشعر بابتسامة ثغره اسفل أصابعي .. لا لا، ما هذا الاحراج الآن؟! .. تبا له، لم لا ينفك عن تذكيري بما حدث تلك الليلة!!



ما إن ضمنت سكوته عندما ضم أصابعي أكثر ليقبلها، انسحبت بخجل ممتقع عائدة لمقعدي، وبعد لحظة، شحذت صوتي بالكاد لأتمتم له بإيباء مخدوش وأن اساوي شعري:
- يكفي .. شكرًا لك، أصبح لدي تصور عن الخاتمة!!



أستطيع أن أتصور وجهي الآن، وهو ينافس حبة طماطم في لونها القاني، بعد أن اشتعل به وهج الخجل .. لا أفهم واللعنة، لمّ يتعمد إحراجي؟؟ .. أريد أن أبكي بكل مرة اتذكر انه كان على وشك منحي تلك الليلة قبلتي الأولي، وانا أفسدت كل شيء حينما اختارت معدتي هذا التوقيت لتتقيأ بوجهه!!




حبا بالله، فليغفر لي تلك الذكرى .. لقد اعتذر له كثيرا بعدها، حتى أني بكيت كالخرقاء من كثرة احراجي وإعيائي وقتها .. بينما هو وغد لئيم، لا يجد مناسبة لعينة مثله، وإلا ويذكرني بما حدث .. حسنا، لستُ نادمة فهو يستحق ما حدث، لأنه استغلالي حقير .. اراد استغلال اعياء وعدم وعي في تأويل رغباته، وأنني كنت انشاده بعيني ليقبلني، هاه!!



أمم، ليس تمامًا .. فانا بالفعل كنت أصبو لتلك القُبلة أكثر من أي شيء، ربما اندفاع الأدرينالين وقتها ما صوّر لي هذا!!
”على مَن تكذبين بيك؟! .. كنتِ راغبة حتى بما بعد القُبلة!!“
قضمت شفتي لأكبت جماح ابتسامتي البلهاء من الظهور، وأنا استرجع بذهني ما حدث ليلتها .. وكيف أنه هلع من بكائي الطفولي، فصار هو مَن يعتذر على تصرفه حتى جاءت الشرطة وأنقذته من ليلته معي!! .. وتفاجأت به بعدها يلحقني للمشفى كي يطمئن عليّ، وعندما عرف أنني انتقلت للمدينة من فترة وجيزة، مكث معي اليوم كاملًا حتى انهيت الفحوصات والتحقيقات فيما إذا كان الحادث نتيجة إهمال مني أم لا .. ولا أنسى تلك اللحظة التي استيقظت بها لأجد رأسه ساقطة على فراشي، وقد غلبه النوم بعد ليلة ويوم شاق، ولم يتركني حتى بعدها، بل أصرّ أن يوصلني للبيت .. وهناك، حصلت على قبلتي الأولى، وحدسي وقتها أنبأني بأنني حصلت على قصة حُب معها!!



انتظرت حتى انتهى النادل من تقديم الطعام الذي كان ارقى من أن يتم أكله، ثم قررت أن آخذ المبادرة واتولى دفة المكر في هذا العشاء بدلًا منه قليلًا:
- أتعرف؟ .. أظنني لدي قصة أفضل من قصتك..!!



رميت جملتي مدعية عدم الاهتمام ، وعلى الفور، التقط توماس الطُعم وسألني بفضول مستمتع:
- قصة أفضل؟! .. ما هي، أخبريني؟؟



دسستُ شوكتي في صحن سلاط (السيمون فيميه) الشهي .. لأقول بنبرة موّحية يملأها الغنج:
- امم، لازلت لا أعرف .. فهذه القصة مختلفة عن تلك، لأن أحداثها تدور في المستقبل وليس الماضي .. المستقبل القريب .. ربما الليلة مثلًا؟! .. لكن لدي سقف عالي من التوقعات بالنجاح!!
نعم توماس، هذه لعبة يمكن لاثنان أن يلعباها!! .. وضعت طرف الشوكة بفمي، ومن ثم سحبته من بين شفتي ببطءٍ مُوحي، وعيني التي تحدق به تستمع بانعكاس هذا عليه!! .. لبعض ثواني، بدى وكأنه سيختنق برغبته، وباللحظة التالية كان يضحك بطريقة رنانة .. ضحكته .. تبا، لضحكته، ألم أخبره ألا يضحك هكذا أمام أحد!! .. حسنا، انا لم أخبره بعد، ولكن عليه أن يعرف أن ضحكته من المخاطر العظمي التي يجب حَذّرها على كل البشر .. إلا أنا بالطبع!!



أستطيع أنا أجلس هنا أشاهده مدى الحياة وهو يضحك .. ذلك لأن ضحكته تمددني بالحياة نفسها!! .. يا إلهي .. لا أعرف بماذا ارجوك، ولكن أنت تعلم .. أعنيّ على حب هذا الرجل!!
وعلى حين غِرة، أصبح وجه المُشبع بحمرة الضحك يقابل وجهي الذي أدعمه بإحدى يدي، لأشعر بنفس اللحظة بأصابعه الدافئة التي تتسلق ساقي .. آوه .. هذا ليس جيد .. لا هذا جيد!! .. اعني من الجيد لمسته، لكن ليس وسط هذا الحشد العام!!



لم أدري انني تأوهت بصوتٍ عالي نسبيًا، إلا حينما سمعت توم يهمس قرب أذني منبهًا بطريقة هي الأكثر إثارة .. ومن يرانا من بعيد يظن أنه يلقنني بعض كلمات الغزل:
- هويدًا بيبي، أنا لم أفعل شيء، أردت فقط أن امنحك تصور عن أحداث قصتك .. ولو أنكِ بالفعل تملكين خلفية عنها أثناء مجيئنا!!



وكما اقترب مني فجأة، سحب يده التي وصلت لمنتصف فخذي فجأة .. وارتجع لكرسيه وكأنما لم يفعل شيء .. قبل أن يرميني بغمزة وقحة منه تصاحبها ابتسامه نصر ملئ فمه مضيفًا:
- بالمناسبة، لقد احببت ما ترتديه بالأسفل!!



قضمت شفتي حتى كدتُ أُدميها وانا اكاد اتلاشى اسفل نظرات اللعوب .. يا إلهي، أشعر بقلبي يقف بحلقي من فرط الإثارة لهذه الليلة، يمكنني أن أعترف هنا، هذا السافل الوسيم يمكنه أن يشعل جسدي بمحضّ نظرة من عينه!!



- ليس لديك فكرة كم أمضيت في انتقاءها من أجلك!!
عبرتُ وانا انظر بتحدٍ في صميم قزحية المغايرة التي اعشقها، بينما يدي لا تكف عن العبث بشعري، حتى خِلته فوضى الآن!!
مرر اصابعه على شفتيه بحركة مغرية قبل أن يهسهس لي بتوعد مُحبب:
- آوه بيكي، ليس لديكِ أية فكرة، كم أمضيتُ أنا في تحضير ما أريد فعله معك الليلة!!



ربي، فلتلهمني الصبر حتى هذه اللحظة!!



- هيا .. دعينا ننهي هذا الطعام، كي نتفرغ لوجبتنا الشهية لاحقا!!


آوه .. لا، لا أظنني استطيع .. فانا ليس لدي صبر من الأساس، لا أعرفه ولا أطيقه .. خاصة إذا الأمر يتعلق بهذا الرجل!!


فانا (ويرد بيك)، أنسيت؟!



- أمم، ما رأيك بأن نتجاوز هذه الوجبة .. ونكتفي بالأخيرة؟؟
عض توماس على شفته بمجرد أن استبقته القول، وعينه تتقد بمزيج من الدهشة واللهفة .. قبل أن يهز رأسه باستسلام ليبتلع بعدها ريقه متمتمًا:
- أوافق بشدة .. ولكن قبل أن نغادر عليّ أن أحذو حذو الرجال النبلاء في تلك المناسبات ..!!



دس يده بستره، بينما تعلقت عيني بما سيخرجه، وقد كان علبه سوداء صغيرة من القطيفة .. حبست أنفاسي وهو يفتحها أمامي، لاستطلع ما بداخلها، وقد كانت قلادة رقيقة تحمل قطعة من معدن البلاتين على شكل فراشة بحجم عقلتي إصبع .. إلا أنها كانت ذو تصميم فريد لم أراه من قبل .. لم استطع إلا أن اعبر عن إعجابي بها بعفويتي المفرطة وأحتضن يده بقوة:
- هذا كثير، توماس .. إنها رائعة للغاية .. كل ما فعلته اليوم كان رائعًا، ولابد أنه كلّفك الكثير!!



رفع يدي ليقبلها برقي بينما ينظرني بعتاب خفيف:
- لا تكوني سخيفة بيك!! .. أي شيءٍ لكِ، فقط لا تحرميني من هذا الابتسامة أبدًا!! .. والآن، تعالي لهنا، أريد أن أرى كيف ستبدو حول عنقك..



حبس نفسًا تشنج له فكيه وهو يغوص بعينه داخل شق الثوب الذي يحاوط صدري ثم أضاف بصوتٍ أجش:
- واثقًا أنكِ ستزيدينها إثارة..!!



حـلّ القلادة ليُلبسني إياها وذلك أسبغ عليَّ الحيرة؛ إذا تبينت أن عليّ أن أمدد عنقي قليلًا للأمام كي يتمكن من عقدها حولي .. كان الأمر بسيط ورومانسي؟ أليس كذلك؟! .. إذا ليس عليّ أن أتوتر!! .. آوه، انا بالأساس متوترة لأنه كذلك، وأظن أن توماس يشعر الآن بالوهج المنبعث من وجهي الفائر، مثلما أشعر انا بأنفاسه التي تلفحني عن هذا القرب الشديد وتفوح منها اللهفة .. حدقتيه التي أتوه فيها كانت رائقة جدًا أسفل ضوء الطاولة، تمطرني بنظرات تنبض بالشبق والنشوة .. تنحدر لتعانق شفتي ونهدي دون عناق .. اللعنة، هل يمكن أن أشعر يومًا بأني فاتنة هذا القدر؟!



أخذ كامل وقته وهو يعقد القلادة، أصابعه دافئة كثيرًا تعبث بعنقي هناك، يخدشني مدعي البراءة فيُصهرني أكثر .. خاصة حينما غمغم لي ببحة رجولية مميزة:
- هذه القلادة لم ابتاعُها، بيك .. لقد صنعتُها لأجلك .. فهكذا أراكِ، كـالفراشة حُره، زاهية، وقلبك نقي مفعم بالحيوية، .. أحبك بيك!!



لم يسعني الوقت أن أعبر عن أي شيء، لأنه في ثانية كان يأسر وجهي لديه قدر الإمكان، ليأخذ شفتي مجددًا بطريقة حامية فاقت ما جربنا من قبل .. أمكنني تذوق النشوة الخالصة التي تهدر بجسده من جوف فمه .. لكن بالنهاية كان علينا أن نتوقف قبل أن يقوموا بطردنا من المكان!!




قاومت بعدها انبعاج ابتسامة خجلة في شفتي الرطبة، لأستبدلها بأخرى يغمرها العشق، فبادلني توماس مثلها، بينما مازال يستحوذ على يدي لديه، ويلعق طرف شفته بطريقة أحرقت جسدي وجعلت نبيض الرغبة يصبح مزعج..
- هلا طلبت الحساب ريثما أعود من الحمام؟؟ .. احتاج انا اتأمل حُسنها عن قرب!!



سألته وانا أنهض بينما اشير له بطريقة هزلية مستخدمة فراشته التي اصبحت بعنقي .. لأسمعه من خلفي يتنهد بصوتٍ حار، ثم اشار للنادل وانا اسرعت للحمام .. لا أريد أن أتأخر عليه، بالأساس لا أصدق انني سأبدأ حياتي العاطفية أخيرًا، بالكاد استطيع ابتلاع حماسي واستثارتي التي توتر جسدي..



❈-❈-❈



دفعت الباب وكان الحمام فارغًا إلا من واحدة خرجت ما إن دخلت .. وقفت أتأمل نفسي بالمرآه .. لم أرى وجهي متورد لهذا الحد من قبل، شفتي منتفخة ورطبة مازالت تحمل أثر قبلة تومي .. بدوت جميلة للغاية بعين نفسي، وزاد اعتزازي بما لدي كأنثى .. طالما سمعت عن هذا الشعور، وحاولت كثيرا انا أتخيل كيف يبدو، لكن مع توماس، أصبح هذا الحقيقة..



أمسكت فراشته مجددًا، اتمعن فيها النظر بحب، كانت مثالية عن حق .. تلاءمت بانسجام مع شكل عنقي لتستقر بموضع ترقوتي وكأنه قد قدرها بالميللي، تمتد أجنحتها الفضية الصغيرة لتوصل عظمتي الترقوة .. وبمركز جسدها يستقر فصٍ لامع يبرق بقوة .. اعدت حديثه بعقلي من جديد..


“هكذا أراكِ .. كـالفراشة..”



آوه توماس .. إلى أين تأخذني؟!



تممت بأصابعي مرة أخيرة على موضعها هناك وانا أخرج زفير يفيض بالعاطفة .. قبل أن أتدرج باهتمام لشكل جسدي .. ولسان حالي يخبرني؛ لا بأس بي، لستُ سيئة، .. ومن ثم، انهالت عليَّ الأفكار من جديد .. ترى هل سأستطيع أن أُرضي توم حقا .. أعني أنا لا أعرف الكثير عن الجنس .. لا، انا اعرف بالطبع عن الجنس، ولكن ليس لدي تجارب، لذلك أخشى أن اكون مخيبة لآماله..



”بعضٍ من الجرأة، بيك ستكون كافية!!“
”آمل هذا!!“

همست برجاء سري للشابة الواقفة أمامي بالمرآه وترمقني بالمزيد الأمل والإثارة .. وباللحظة التالية، هوى قلبي حينما سمعت صوت تحطيم زجاج مُفزع .. تبا، لم يكن لمرة واحدة، بل عدة مرات متتالية، وكأن أحدهم يُحطم كل نوافذ المطعم .. ثم لحقها بالضبط صوت تتابع إطلاق الطلقات النارية .. اللعنة، توماس!!



هذا ما صرخت به وانا أندفع صوب الباب دون ذرة تفكير .. فور أن فتحت الباب، أصبح باستطاعتي سماع الضجيج بدرجة أعلى وضوحًا، صوت الرصاص الممتزج بصياحات الاستغاثة والألم .. اغلب الإضاءات تم إتلافها، لذلك قدماي تعثرت في المشي من أثر الصدمة والذهول خلال ضباب خفيف ناتج عن الحطام عَـمَّ أرجاء المكان يحمل رائحة الدم والبارود ليعزز شعوري بالضياع .. كيف سأجدك توماس في خضم هذه الفوضى..؟!



"بيك .. بيك"



وفجأة سمعت صوته الصارخ ينادي عليَّ من بعيد .. آوه، الحمد لك يا إلهي!! .. وفي لحظة تحولت لطفلة صغيرة تبكي لأنها عثرت أخيرًا على والديها بعد فترة من الضياع!! .. أجبته بصوتٍ باكي وانا أتمنى من الله أن يكون قد وصله، وفرّت قدماي تسبقني إليه .. خلال عبوري للممرات، بدأت أدرك الكارثة، كان هناك اشخاص ملثمين ومدججين بالأسلحة النارية، يجبون اروقة المطعم وكأنهم يمشطون المكان الارجاء ليفحصوا إذا كان هناك شخصًا نجا أم لا، وانتبهت الآن بالفعل أن اصوات الصياح والاستغاثة قد خبت، وهذا إن كان له دلالة على شيء، فهو أنه من المحتمل أن اكون أنا وتوماس الناجين المتبقين!! .. اللعنة، اللعنة .. لابد أن نداء توماس قد جذبهم!!




بقليل من الحيلة، ودموع غبية اختارت هذا الوقت لتهطل، حاولت أن اتحسس طريقي بحثًا عن توماس قبل أن يصلوا هم له أولاً .. هكذا كان ظني، كنت أعرف أن فرصتي ضئيلة في النجاة من هذه المصيبة .. حدسي لم ينفك عن ترديد هذا .. وعند هذه النقطة، فطنت الآن لمّ من الأصل كان يخامرني هذا الشعور منذ البداية، كنت على صواب إلا في أن هذا الخطب بشأنك توماس .. بل كان بشأن الكارثة التي ستدمر أهم أمنية لي في حياتي .. وأرجو فقط أن يتوقف الأمر عند هذا!!



مساحة المطعم كانت شاسعة مقارنةً بأي مطعم آخر في الولاية؛ ذلك لأنه مبنى أثري بالأصل وتم تحويله .. يضم عدة ممرات بداخلها قاعات مخصصة للحفلات الخاصة وكبار الزوار .. وللأسف، هذا كان عائقًا لي، فقد زاد من تعثري في العثور على توماس، ووجدت نفسي أتوه بين الاروقة كفأر يسير في متاهة، والمشكلة أنني لا أستطيع معاوده النداء عليه، وبالطبع لا اريده أن يفعل .. كلما ظننت أن قاربت على البقعة التي آتى منها صوته، لا أجد شيء، ناهيك عن أصوات الأقدام الغليظة التي من فرط فزعي لا استطيع تحديد اتجاهها إذا كان نحوي أم لا .. وهذا جعلني أهرع كخرقاء في أي جهة متحاشية الصدام، أو تأخير الصدام .. الحقيقة أنني أتحاشى الموت وليس الصدام .. حتى حدث ما كنت أخشاه .. لمحت ظِل اثنان من المعتدين في طريقهم لي ويتبادلون بعض العبارات بلغة لا افقهها، فبأنفاس تتساقط من رئتي هرولت للاتجاه المخالف لهم، وأنا احمد الله مرة أخرى كوني لا ارتدي نعل عالي!!



لا أعرف ماذا حدث بعدها، ففي لحظة كنت أركض واللحظة التالية كنت ٱحمل في الهواء ويدٍ صارمة تُكمم فمي بغلظة .. أصابني الهلع حينها وظللت أصرخ أسفل يده بهستيريا، وأسوأ كوابيسي تتحقق .. سأموت قبل أن أرى توماس للمرة الأخيرة!!
بحركة خاطفة، وارىّ جسدي خلف حائط جانبي، وأصبح ينكب علىّ بقوة، ورغم إحكام قبضته حول فمي إلى أن صوت همهماتي لازال يُسمع .. ضغط أكثر على فمي حتى شعرت بالألم في شفتاي، وانهمرت دموعي بقهر .. لو اردت تصوير درجة الفزع، فسأخبرك أني خِلتُ نفسي سأفقد السمع بسبب قرع قلبي المُلتاع الذي يضرب الآن طبلتي اذني بعنف!! .. سأموت..!! .. هذا ما لم يتوقف عقلي اللعين عن ترديده وأنا أحدق هذا الغريب الذي يرتدي قَلَنْسُوة من القماش يخفي بها وجهه مثل الباقية، إلا أن عينه المظلمة كانت واضحه لي من هذا القرب، والتي بالمناسبة كانت مشغولة بتتبع زملائه وهم يعبرونا، وكأنه حريصًا على ألا يرونا .. ماذا؟! .. لماذا..؟! .. اللعنة، هل سيخطفني بمكان مهجور ويغتصبني ثم يقتلني؟! .. أو قد يعذبني قبلها مدة لا بأس بها!! .. لا لا، يا إلهي لا تسمح بهذا أتوسلك!!



يستحيل أن أسمح أنا بهذا!!



وفي حالة تهور واندفاع معتاد مني، قررت أن استبسل في الدفاع عن نفسي، فاستغليت فرصة انشغاله بمراقبة الآخرين، وأمسكت يده التي تكممني ثم بعزم ما فيّ من شراسة، قضمتها!! .. وبكل فخر قد نجح هذا، وانحلت قبضته عني وهو يكافح ليخلص اصابعه السميكة ذو المذاق النتن من بين أسناني بينما يسحق فكيه كي لا يطلق صراخات الألم وننكشف!! .. أوتش، هذا كان مؤلمًا لي، لكن ذلك اللعين تألم أكثر بالتأكيد!! .. أحسنتِ بيك، يستحق!! .. حاولت حقًا أن أؤذيه بشدة وأترك له ندبة يحملها لفترة على ثلاثة أصابع، لكن العاهر اعتصر فكي بقوة ساحقة كي أترك اصابعه القذرة، وتبا كان هذا مخزٍ لي!!



ما إن تركته، حاولت أن أندفع في طريقي بعيدًا عنه، لكنه كان كالغراء وأمسكني على الفور ليعيدني محلي .. اللعنة الملعونة على يومك اللعين!! .. زمجرت بحمأة وحضرني غضب مستعر وثوران، وهذا ليس بشيء يُحمد عُقباه؛ لأن غضب "ويرد بيك" يختلف عن غضب أي أحد!! .. بشرارة تحامق اندلعت في رأسي بسببه وبسبب ذلك اليوم اللعين الذي أمر به بسببه أيضا!! .. دون استباق، وجهت له عدة ضربات عشوائية أراهن أنها باغتته لما أصابه من تلبك، وقبل أن يتمكن مني، خدشت أصابعي في وجهه لأبعده عن خِلقتي، لكنه لم يتأذى بشيء .. عدا أن قَلَنْسُوته قد انزاحت عنه وكُشف وجهه لي بالكامل!!



فلترقدي بسلامٍ بيك .. كنتِ حقا حمقاء طيبة القلب!!



عينه غدت أكثر قتامة ونظرته تتصاعد منها شرارة الجنون!! .. رمقني وكأنه يفكر ماذا سيفعل بي الآن!! .. أوه، أنا ايضا أتساءل عن هذا، لذا من فضلك كن مسالمًا ولا تكن مختل!! .. أمهلني هينه، هذا الوجه أين رأيته؟! .. رغمًا عني وجدتُ نفسي أمعن النظر به علّني أنعش ذاكرتي، شكله مألوفًا لي، ولكن ثمة شيء متغير به يُصعب من تذكره .. بشرته شاحبه نوعًا ما، ولديه قسمات منمقة وحادة بنفس الوقت، إضافة إلى لحية سوداء مشذبه .. ملامحه بدت أجنبية عليّ، ليس أمريكي ربما .. هذا ما دَوّنته في عقلي..!!






سحقًا أكاد أشعر أنني آلفه، ولكن أين ومتى رأيته؟! .. لا أذكر أني تعاملت مع أجانب كُثر في حياتي!! .. شطر تركيزي هذا، زاوية عيني التي التقطت من خلف كتفه، شخصًا يدنو منا بتريث وحذرٍ بالغ، بينما يحمل في يده سلاح موجهًا إياه لظهر هذا الغريب..



ولم يكن سوى توماس..!!



لثانية واحدة، نسيت كل شيء وتعلقت عيناي به بحركة عفوية .. ليس لدي أي تخمين عما سيفعله، عينه كانت تطمئن علىّ وتمسحني بقلقٍ بالغ وانا كذلك .. لثانية، غرقت فيها داخل عينه التي أهواها، وسجلت فيها كل تفاصيل وجهه، وعبارته الأخيرة تتردد في خلفية رأسي كأغنيتي المفضلة .. "أحبك بيك!!" .. شعرت أنه قريبًا جدًا مني، وكأنه يسكن داخل روحي .. وكأنني وصلت له وغمرته .. وكأنني أمتلك كل الوقت لأمتلكه هو .. لكن هذا لم يحدث!! .. فبالثانية التالية، كل شيء لم يعد في مكانه .. أعني بذلك كل شيء .. نظرة توماس تبدلت بأخرى هلعة وتعابير وجهه أصبحت متشنجة .. حتى عبارته داخل عقلي غطى عليها صوت طلقة نار عنيف جاء قريبًا ليصُم أذني .. وبالأخير، توماس .. ساقطًا على الأرض، وهناك ثُقبًا بصدره يتفجر منه الدماء..!!
لماذا..؟!



بذات الوقت، اندلع من بعيد أصوات صافرة النجدة، والكثير من الضجة التي عاودت الظهور لكنها لم تستطع ابدًا التغطية على الضجيج الذي بداخلي .. كان بعيدًا جدًا لأدرك حقيقة ما حدث أمامي .. قدماي تهاوت ارضًا دون إرادة فور ما حدث وكأنني فقدت القدرة على السير، لدرجة أنني حَبَوّت المسافة التي تفصلني عن توماس .. رباه، في بضع ثواني، ذهب لون وجهه المشرق، نور عينه توارى خلف جفنيه المتهدلان .. قاومت قشعريرة جسدي التي تجعل اسناني تصطك مما أنا فيه، وأول ما فعلته أني ضغطتُ اصابعي الصغيرة على جُرحه اللعين الذي يدر الدماء ببزغ مميت، ودون فائدة كانت تتسرب من بين يدي كالماء!! .. تشنج صدري بشهقة كادت تُميتني وانا أجذب جسده الثقيل من تلك الارض الباردة لأوضعه بحضني وانا أردد اسمه كتراتيل صلاة .. احتضنت وجهه الباهي بيدي لأهمس بتوسل له جددًا:
- توماس .. ارجوك اجيبني .. افتح عينيك .. أرجوك حبيبي لا تفعل بي هذا .. توماس!!



وحدثت المعجزة وفتح عينه لي، لم تكن كما عهدتها ابدًا .. لم تكن رائقة، تشع ألوانها المميزة .. بل كانت محقونه بالألم، والحسرة .. امطرت وجهه بالدموع رغم ابتسامتي باستعادته:
- حبيبي، ها انت هنا .. لا تخاف، النجدة هنا .. ستصل الآن، فقط اصمد قليلًا .. ابق معي، لا تغيب عن الوعي مجددًا ارجوك..!!
تمزقت حروفي في نهايتها ومزقتني من قبلها رؤيته وهو يعاني ليتحدث، فإذا به يسعل دمًا يغرق به وجهه ووجهي معًا .. بكيت، بكيت كثيرًا، بكيت بحرقة، أما هو فضحك .. ضحك ضحكته التي طالما أذابت قلبي، وانهاها بمزيد من السعال المُدمى .. وبما تبقى له من قوة اسمعني صوته المشروخ، بينما تفاحة آدم في حنجرته تتحرك بسرعة 30 مرة في الثانية:
- هكذا صِرنا متعادلان، بيك .. أنتِ تقيأتِ بوجهي مرة، وأنا الآن!!



لم تكن مضحكة توماس هذه المرة، ولكني من أجلك ضحكت..!! .. ضحكت لأنني لا يسعني أن ارى وجهك ولا اضحك!!



وجدته يكافح لرفع يده كي يتلمس وجهي فاحتضنتها على الفور دون تفكير، وقبلتها بروحي، فإذ به يهمس لي بنبرة متحشرجة أثقلته اعباء قلبي وعينه كانت زائغة خلفي:
- آسف بيك، لم استطع حمايتك..!!
- أششش .. لا تتحدث من فضلك .. لا تقل هذا .. لا تقل شيئًا .. فقط ابق ريثما تأتي النجدة .. أرجوك توم!!
- لا أظنني أستطيع .. أحبك، بيك!!



بصقيع عالٍ سيطر على أعصاب جسدي بالكامل، راقبت نور الحياة وهو يغرب عن عينه، كغروب الشمس عن مدار حياتي .. نعم، هذا ما ايقنت به وانا أهز رأسه كمختله، رافضة التصديق بحقيقة موته رغم نبضه الذي صمت بأوردة عنقه .. لم أهب فكرة موته قدر ما أهبت ما عليّ خوضه من بعده .. عانقت جسده لي بقوة لأخبأه داخلي وكأنه الأمل الوحيد لي في استشعار الدفيء .. دفئه الذي أدمنت أمانه .. الطريقة الباقية لدي لأطمئن نفسي أن ذلك لا يحدث .. لكنه كان باردًا هذه المرة وكأنما يؤكد لي تلك الحقيقة اللعينة .. حينها فقط صرخت من عُمق روحي بلوّع:
- توماس .. لا لا .. أتوسلك يا إلهي!!



ثم لا شيء .. ألم شنيع طبق صدري وبالخصوص قلبي لينتشر على ذراعي الأيسر فتتراخى رغمًا عني، حتى زاغت الرؤيا بعيني وتشوشت لأضحي في لحظة طريحة الارض جوار جسد توماس، اشاركه بحيرة الدماء ذاتها..



وقبل أن اغيب تمامًا .. رأيته .. 

ذلك الشيطان اللعين الذي سرق نور حياتي، مازال هنا!! .. 



مازال يحمل مسدس الموت بيده، لم يفر هاربًا رفقة الملاعين زملاءه .. وآخر ما التقطته عدستي، كان صورته وينحني على رأسي، يشملني بنظرة غريبة لم يملك عقلي القوى لتفسيرها، ويراقص مسدسه فوق جسدي..



.. انها النهاية.. بيك!!


❈-❈-❈


يتبع