-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الخامس عشر (الجزء الأول)


 

الفصل الخامس عشر (ج1)



أنا إسقاط للمرأة التي جرحتك
تصريف للألم الذي سببته..
بعد هذا الوقت كله،
ما زلت أُعاقب لأنني الشخص الذي أتى لاحقًا..!!
-لانج لييف-
•¤•¤•¤•


بوجهٍ يخلو من المشاعر، وصقيع ينافي ما تحمله الكلمات من بشاعة، هكذا تحدث ببساطة وكأن الأمر برمته لا يعنيه، وكأنه الشيء الأكثر طبيعية في العالم .. واستقبال فريدة لهذا لم يختلف كثيرًا عنه، قساوة الأمر لم تكسر شيء في تعابيرها الزجاجية إلا أن عينيها التي تجمدت لدقيقة لم ترمش بها وكأنه سيلتقط لها صورة، أخبرته أنه مازال بإمكانه صدمها .. حسنا، إذا لم يصدمها هذا، فبالتأكيد القادم سيفعل!!


- إلى متى..؟؟
سألته فريدة بنبرة باهتة مشروخة، وعندما لم يأتيها سوى الصمت، رطبت شفتيها من جديد وأضافت بصوتٍ أوضح:
- إلى متى ظللت تعتقد هذا؟؟


رأسها كان شاردًا في بقعة أسفل قدميها .. عينيها ذاهلة، تتحايل عن النظر له .. تُطيل أكمام قميصها لتغطي حتى أصابعها الكامشه، وتضمها في قبضة راعشة أمام فمها، مترقبه اجابته القادمة بأعصاب لم تتعافى بعد من السابق ذِكره .. وبالفعل لم يبخل عليها بالمزيد:
- لفترة كافية لجعلي خادمًا لدى العاهرة!!



اعترف ببساطة .. وبذات اللحظة، حركت فريدة بصرها لزاويته .. لم تستطع هذه المرة، واللعنة حاولت كثيرًا أن تفعل هذا، ولكن لم تستطع .. في حين اكتفى هو بتجعد جانب ثِغره بالكاد ليشكل ابتسامه مُعتقة بحقدٍ قاتم، وبدى وكأن هذا كل ما استطاع أن يتلفظ به .. وكأن هذا أكثر من كافي ليترك لخيالها أن يَصُيغ التكملة .. وصدقًا، يمكن للخيال أن يكون أكثر رُعبًا من الحقيقة!!


 توغلت كثيرًا بتعابيره إلا أن الجمود واللامبالاة، كانت هي الأكثر سطوة على محياه، خلاف ابتسامته التي فشلت في تحديد هويتها .. على كلٍ، كانت ممتنة له؛ فلولا هذا لما استطاعت التمسك بصلابتها وعدم السماح له بـاختراق عواطفها، ليستنزف مشاعرها مجددًا في دائرة ماضيه المهلكة!!


 خاصة، وأن أشد ما أوّجع قلبها كونها قد خاضت جزء من تجربته في ماضيها .. الفقد، الاحتياج، الإساءة، كلها أشياء تعرف جيدًا ما تتركه داخل المرء .. عليها أن تسحب جُملتها السابقة عنه، عن كونه أكثر حظًا منها في طفولته .. اللعنة عن أي طفولة تتحدث، تبًا لذلك، أحيانًا مجرد معرفتنا بمعاناة الآخرين، قد تكفي لإصلاح فِكرتنا عن أنفسنا!! .. تخفف من حجم الألم الذي نحمله من ماضينا .. فقط لمجرد رؤيتنا أن هناك مَن يحمل الأسوأ!!


وها هو قد نجا!!
بدون نواح .. أو دراما!!


الأمر كلّه يكمن في تَمرّكُز نظرتنا حول ذواتنا، وتكثيف معاناتنا، وكأنها محور الكون .. وكأننا الناجون الوحيدون من الحرب العالمية!! .. صحيح، بداخلنا نعلم أن هناك دائمًا مَن هو أسوأ مِنا حالًا، إلا أن اختبار هذا رؤى العين، يكن له وقعًا آخر!!

ولذلك مجددًا، تبا لها!!


الآن فقط أدركت، لمّ انجذبت سابقًا لشخصٍ مثله؟، وكيف استطاع هو التكهن بماهية مشاعرها على هذا النحو من البراعة؟! .. وللدرجة التي أشعرتها بأنه الوحيد على الكوكب القادر على الشعور بها!!


لم تكن براعة منه فريدة، قدْر كونه يحمل الألم ذاته بداخله، ليس أكثر!! .. لأن شخصًا جريحًا مثلك، يعني الأقرب إلى قلبك..
حتى، وإن لم يكن كذلك بالفعل!!


وبفضل هذا، استطاعت أن تسمعه الآن دون أن تسمح لمشاعرها بالانجراف خلف خُدعة مداواته من جديد .. هذه المرة هي تسمعه كطبيب نفسي ليس أكثر .. طبيب نفسي اصابته الحيرة في تشخيص شكوى مريض، فتجده يستغرق معه في الاحداث ويستقطب منه المزيد من التفاصيل .. ليس فضولًا، ولا مدفوعًا بعاطفة ما .. بل كُل ما يُحركه هو دافع الوصول لجذور المرض:
- وطوال هذه الفترة، لم تفكر مرة في إخبار والدك بالحقيقة؟؟ .. لم يحاول هو حتى أن يعرف ما يدور؟؟ .. أعني .. لابد أن أحدث ذلك تغيير واضح في شخصية ابنه .. تغيير فَـجّ، ليشك بالأمر، ويحاول أن يعرف، حتى لو أنكرت أنت!!



نبرتها لازالت تحمل أثر الذهول، إضافة إلى كونها مُجرّدة من أي شعور أكثر من أي وقتٍ مضى .. ليس وكأنها تضغط الآن على موضِع جُرحٍ، إذا فُتِح، السماء وحدها تعلم عواقب هذا!!
 ليست هي .. لا، ليست فريدة .. بدت كشخص غريب يُجالسه بإحدى البارات ذات الليالي البائسة .. الأمر ليس وكأنه يستجدي عطفها وشفقتها، كل ما هنالك، أنه يتأمل الآن الفراغ المتسع بين انفعالاتها بليلة المزرعة، وهنا!! .. تلك المرة، ورغم أنه لم يمنحها سوى أقل القليل عن حياته، إلا أن ما رآه بعينها وقتها، كان يُلخِص كل المعاني التي كانت تموج داخله وقتها، دون منفذ للخروج .. وهذا أغناه عن ساعات من الحديث والوصف!!



أين أنتِ فريدة حقًا!!
يبدو أنني ..
وبكل وقت ..
سأظل أتساءل أين أضعتك؟؟ ..
وأي السُبل أسلك لاستعادتك؟!
بالأساس، أما زال بيننا أي سُبل؟!!


 ومع ذلك، عبئ أدهم نفسًا لم يكن كافيًا أبدًا ليوقف نزيف صدره، إلا أنه مكّنه من مباشرة الحديث مستفيضًا .. وكأنه يحكي عن شخصًا آخر، يحكي وعينيه مُعلّقة بصميم عينها، لا يحيد أو يرجف له طرف .. وجد نفسه يتحداها، يُخبرها عن طريق تهكمه بين كلمة وأخرى، أن ذلك كله لم يؤذيه، أو يؤثر به مقدار شعرة:
- بالطبع تغييري كان واضحًا للجميع، وليس هو فقط، بل مريم، وحتى طال الأمر المدرسة .. فقد أصبحت طفل كئيب بالمعني الحرفي، أكثر انطوائية وغرابة من ذي قبل، اختزلت كل صُحبتي في القِطة .. الضغط النفسي المستمر الذي وضعتني العاهرة فيه كان يستحوذ على كامل ذهني على الدوام؛ ورُويدًا رُويدًا كنت أهمل دروسي، أفقد تركيزي، وأتخلف في تحصيلي الدراسي .. شعور الذنب والخزي كان يتغذى علىّ من الداخل كلما أرى أبي أمامي، أكثر من رهبتي من ردة فعله تجاهي .. خاصة، والساقطة راحت تُشركني بالفعل في أغلب نزواتها، وتجعلني كسِتار لتغطية عُهرها!! .. تسحبني خلفها في مواعيدها الساخنة مع عاهرها، تحت حُجة الترفيه عني .. الحقيقة، أنها أرادت أن تُشهدني على خيانتُها، لتُـثقل كاهلي بالآثام حتى الغرق، فلا يتثنى ليّ الخلاص من عِبئها .. لهذا فريدة، لم أكن أجرؤ على التفكير حتى في اخباره، فقد بَرَعَتْ في جعل هذه الفكرة بعيدة المنال عن عقلي .. إلى جانب كل هذا، لم تدخر جُهدًا في إفساد علاقتي بـأبي، ووضعي دائمًا في خانة الصبي المشاغب، سيء الخُلق، كثير المشاكل .. ودعيني أخبرك أنها -من أجل هذا- فعلت كل شئ يمكن أن تتصوريه .. كل السلوكيات السيئة التي يمكن لطفل أن يرتكبها، اعترفت أنا بفعلها -دون أن افعلها- فقط لخشيتي من أن تخبر والدي بما فعلته، مما جعلني اعيش في فترات متتالية من العقاب .. الأمر كان كالرُهاب بالنسبة لي، نوبة فزع تمتد لساعات، يتوقف خلالها عالمي علمَّا ستقرره العاهرة!! .. كنتُ بائسًا جدًا وقتها، مستعد للاعتراف بأي شيئًا تريده، فقط لا تخبره بما فعلته معها!!


- تقصد "بما اعتقدت أنك فعلته"!!
صححت له ليحدق بها لثواني -فقط لثواني- ظن أنه رأى بريق عاطفة يعبر خلجاتها، ومن ثم اختفى، كما ومض فجأة، ليومئ هو لها .. سمعها تتمتم ببطيء وكأنها تهمس لنفسها، والحقيقة أن التعب بدأ يلعب لُعبته برأسها، مما أثقل تعابير وجهها وزادها سطحية على ما هي عليه، هي بالفعل تجاهد لتُجري معه حديث .. الأمر يشبه عندما يشتد بك النعاس في مُقتبل ليلة سهر لم تبدأ بعد، تصبح عندها أقل مُحَاكاه لما يدور حولك:
- غريب .. ما تحكيه عنها .. يتنافى مع ما رأيته منها!!


على الفور، تنبهت فرائس أدهم واعتدل بجلسته، ليستند بمرفقيه على ساقيه وقد ظللت جوانب وجه قسوة غير مبررة، وكأنه قد عاد بثانية لسابق عهده معها .. الحين فقط، تذكر أمر ذلك المؤتمر الغبي الذي جمعها بـ سمر، ولم يتيح له ما حدث أن يسألها عنه، أو في أي ظروف قد تلاقت هي وسمر؟! .. لوقتٍ طويل ظن أن العاهرة هي مَن بادرت بهذه الخطوة، وتوعد لها بعقاب رائق يليق بها ويعيد لها الذكريات .. كي تتعلم كيف تقف حدها ولا تقترب مما يخصه، لكن توالي الاحداث الكارثية لم يعطيه أبدًا هذا الفرصة .. لذلك استنفذ كامل قدرته على السيطرة والتحلي بالصبر ليسألها بحنكة من بين أسنانه بينما يغمض عينه:
- وما تلك الاشياء الجميلة التي رأيتها من سمر؟؟


تدلت شفتي فريدة باستغراب وقد فاجأتها طريقته الجافة، أكثر من السؤال ذاته .. وفي هذه اللحظة شعرت بأنها قد زَلّ لسانُها وورطت نفسها معه، وقبل أن تأخذ وقت أطول في التردد، غاص قلبها في القاع حينما فتح عينه ورمقها بتلك النظرة الحالكة التي انعشت بعض الومضات بذاكرتها، في لمح البصر!! .. كان يرمقها فقط .. لم يتحدث .. إلا حدقتيه المعتمة أمطرتها بالكثير من الاتهامات.


لم تكن تتخيل، كان حقيقي، حتى انفاسه التي بدأت تتشبع بعبق الغضب، أخبرتها أن كل شئ حقيقي، وليس من اختلاق عقلها المتعب .. هي أيضا لدقيقة، وربما اكثر، أكتفت بالصمت وتلقي نظراته، بينما كل ما يطوف بخُلدها، أن هذا الشخص مثل الحرباء، في إمكانه في ثانية أن يتلون بألف لون .. وستصدقينه في كل أحواله!!



 رفعت حاجبها بانزعاج بائن، قبل أن تعتدل هي الأخرى وتواجه جلسته، لتعطيه الإجابة التي لم يكن يتوقعها ابدًا:
- بعد فترة وجيزة من استفاقتي من الغيبوبة وانتشار الفوضى التي خلّفها اختفاؤك .. كان أسلم حل لي أن أعد لموطني مع أسرتي .. وفي الوقت الذي انشغل به أخي وأمي في تجهز الإجراءات اللازمة .. وفي خِضم معاناتي لاستوعب وضعي الجديد .. اقتحم غرفتي دون سابق إنذار والدك .. هددني كثيرًا لأخبره أين أنت، اتهمني بأني أدعي المرض، واصطنع فقدان الذاكرة رغم كل الأدلة الطبية التي تثبت هذا .. اخبرني بأني السبب في كل ما حدث معك، وأنك تواجه الخطر بسببي .. ألقى على مسامعي الكثير والكثير، في حين لم أكن أملك وقتها رفاهية البكاء حتى، لا الدفاع عن نفسي .. لم أملك حتى القدرة على أغلاق جفناي كيلا أراه .. حاول الاطباء ابعاده عني، لكن، هيا، أنت تتحدث عن الشاذلي، الذي في غياب ابنه، يعتبر المالك لهذه المستشفى الاستثماري؛ لذلك لم يُشفق أحدً على وضع سواها .. سوى سمر .. هي وحدها مَن استطاع التدخل وإثناءه عني .. حسنا، هي لم تدافع عني، ولكن أخبرته أن ينظر لي جيدًا بوضعي الحالي، انا عديمة الفائدة له، من الأفضل ألا يضيع وقته الثمين معي .. وبالفعل كان هذا كافيًا وأقتنع .. ورحل عني .. هذا كان الموقف الأول .. أما الثاني، فكان بالمؤتمر، حينها كُنتُ احتاج أحد من عائلتك ليدعم ظهوري في حملة البحث عنك، وبعد ما فعله والدك سابقًا، لم يكن هو الخيار الأمثل .. لذلك لجأت لـ سمر، والتي عكس ما توقعت، رحبت بذلك، وأظن أن ظهورها كان له الأثر المرجو .. أليس كذلك؟؟



انهت حديثها وكانت تضيق عينها بنظرة مليئة بالتهكم لم يستسيغها أدهم مطلقًا .. بل خلافًا لهذا قد ازدادت ملامحه جهامة بعدما قالته، وكأنها كَبّتْ الزيت على النار .. ليردف بذات الطريقة الجليدية:
- ماذا أخبرتك؟؟


زفرت فريدة بملل من حالته وأدارت عينها عنه .. اللعنة، الجلسة أصبحت مملة حقًا، ورأسها يطنّ ألمًا، والبغل عن ماذا يتحدث؟! .. عادت له، تدلك فروة شعرها مختزله كل الوقت، بينما تشمله بإحدى نظراتها الفارغة .. مع ذلك ابتلعها أدهم على مضض وهو يضغط على كل عصب لعين بعقله كي يتماسك، حتى يأخذ إجابته اللعينة .. والتي أخيرًا تصدقت عليه وقالتها دون اهتمام:
- "أدهم ليس فقط ابن زوجي .. بل طفلي الذي لم أنجبه" .. هذا كل ما ذكرتك به، أي شيءٍ آخر؟!



ختمت جملتها الأخيرة بضحكة مكتومه ومنهكة بسبب الصداع الذي يشطر رأسها نصفان الآن ويكاد يجعلها نصف واعية .. لا تعرف بالأساس لمّ ضحكت، ولم تقصد أبدًا السخرية منه، ولكن هذا ما حدث معها .. آوه، يبدو انها قد بدأت تفقد التحكم في انفعالاتها، وهذا ليس جيد ابدًا!! .. حالتها مزرية، لا يمكن أن تخبره إلى أي وضع، والجميل أنها بمرور الوقت ستزداد سوءً، ولا فرار من هذا .. لا تملك القدرة حتى، كل ما لديها أن تلتهي عن ألمها، بألم الجالس أمامها الآن، صدقًا هذا كل ما في إمكانها!!
فقط هذا، وليكن الله بعونه هو عندما تفقد السيطرة هذه المرة!!
أعادت نظراتها الخاملة له لتجد قسماته أصبحت ألين، وقد تبدد غضبه .. والأكثر أن هناك أثر ابتسامه مخبئة بين شفتاه، لنقُل أن هذا ما اعادها للانغماس في حياته مجددًا:
- إذًا .. كيف ومتى عرفت الحقيقة؟؟ .. حقيقة انها استغلتك!!



على الفور، فرد أدهم ذراعيه براحبة على مسند الأريكة، في بادرة للتظاهر بالاسترخاء، إلا أن تشنج كتفه الذي أبىَ هذا، كشفه .. بالكاد تفرقت شفتاه ليسرد التالي:
- بعد شهور مما حدث، تفاجئ الجميع بخبر حمل العاهرة، وكان نصيب أبي هو الأكبر .. فتلك الليلة سمع صوته الغاضب كل مَن بالبيت، وهو يردد جملة واحدة، علّقت وقتها بذاكرتي حتى اليوم، وظللت لأيام أفك في أُحجيتها: "انتِ كاذبة .. انتِ خدعتني .. لم أتزوجك إلا لأنكِ عاقر!!" .. بعد هذا، اختلف كل شيء .. لم يكن هناك بُـد من أن يُسلم بالأمر الواقع!! .. وبالفعل تحسنت معاملته لها كثيرًا من أجل ذلك الطفل، اصبح يهتم لها أكثر من اللازم، يتجنب اثارة غضبها، وفي المقابل ساءت معاملته معي .. ذلك لأن الأفعى -ورغم انشغالها- لم تتوقف أبدًا عن بث سمومها بيننا، وتشويه صورتي أمامه، تمهيدًا لِـولي العهد القادم .. ومع تطور التُهم لما هو افظع -من كذب، تخريب ممتلكات المدرسة، تهرّب منها، والاعتداء على زملائي- صار أبي يعاقبني على الفور دون سؤالي إن كنت فعلتها أم لا، كما كان يسير الأمر .. لم يعد يأتي ليُصالحني بعد انفعاله بوجهي، وكأنه ما عاد يهتم .. وبالأخير، أصبح ينسى ما تعاهدنا عليه .. أننا معًا إلى الأبد!! .. رغم أن هذا كان مُسَكِني الوحيد لما أواجه، إلا أنه قد نسى، وهنا... هنا كانت بداية انفراط العقد بيننا حقًا .. ودعيني أخبرك أنه من بعدها، لم تحتج العاهرة لبذل مجهود في اختلاق التُهم لي .. فيمكنكِ القول، اني بالفعل كنت قد بدأت في اكتساب هذه السلوكيات وتصديق أنني كذلك .. ذلك لأن أهم شخص بحياتي، صَدّق عني هذا!!


مرر خشونة تلك الأيام عبر حنجرته المتصلبة، وبدأ تقطيب جبينه يزداد وهو يحرك اصبعيه أسفل فمه بحركة عصبية رغم سَكينة تعابيره:
- لازلت أتذكر هذا الشعور، مكاني بالبيت صار مُهددًا، حياتي أصبحت على المحك، لا أحد يهتم لأمري، وليس هناك طريقة لإثبات أنني لستُ سيء .. يعني مهما عملت، لن يشكل ذلك فارقًا بعين أبي، لم يكن يهمني سواه، أما هو، فكان في انتظار طفله القادم الذي سيعوضه عني .. وهذا الشعور تم تأكيده مما سمعته من رفقاء المدرسة عن معانتهم مع الطفل الجديد، والنبذ الذي يتعرضوا له بعدها .. كان هذا كثيرًا حقا بالنسبة لي .. فبالكاد كنتُ اتحمل مشاركة اللعينة بأبي، فما بالك بطفلٍ جديد، مما جعل عُمق الخوف بداخلي يترسخ أكثر من قدوم هذا الطفل .. خاصة وانا ارى كل يوم بعينها، أنها صارت الفائزة في معركة، لا أعلم عنها شيء!! .. معركة هُزِمت فيها، قبل حتى أن أدخلها!! .. لذلك تركت زمام حياتي، واخترت أن استسلم أخيرًا للطريق الذي رُسم لي .. فقدت صُحبتي الجيدة، لأنني لم أعد أجد ما يشبهني بيهم .. حياتهم مازالت مثالية، لديهم كل ما كنت أملكه في يوم وفقدته، ولازال هم يملكوه .. عاطفة القهر كانت تلتهمني كلما أراهم سعداء، اذكر أن هذا انعكس جليًا في سلوكياتي العنيفة نحوهم ومحاولة التنمر منهم ونبذهم .. اعترف، سعادتهم كان تؤذيني، لماذا عليّ وحدي أن اعاني!! .. ذلك السؤال نخر عقلي تلك المدة حتى نبذوني هم أيضًا، وهنا أصبحت أكثر عزلة وغرابة، تراجعت أكثر في مستواي الدراسي، وكان بديهيًا أن انغمس بالنهاية مع طلاب المقعد الأخير!!



تخلل حديث قهقه خفيضة مع لمعة خاضت بين ثنايا حزنه الدكان، لتلائم الصورة التي كان عليها:
- وحينها، تعرفت على صديق كان يشبه تمامًا حالتي، من اهمال ولامبالاة وتأخر دراسي، وكونه وحيد والده بعد انفصاله عن والدته التي لم تتأخر فالزواج بآخر .. لكنه كان يفوقني عمرًا، كونه رسب مرتين بالصف، ويعيدها للمرة الثالثة .. كانت تجربة جديدة تمامًا بالنسبة، فطالما تم تحذيري من صُحبة أمثاله، إلا إنني بالأخير لم أجد ما يفرقني عنه، وبالعكس، فوجدت المواساة لما اعانيه، واستطعت اخيرًا أن اشركه بعضًا عن حياتي كما يفعل هو، وكان هذا أكثر شيء احتاجه وقتها .. وجدتُ معه معنى جديد لحياتي بعد أن كنتُ قد فقدتُ الشغف بها .. ووجدت كذلك الشغف تجاه كل المحرمات، والأبواب المغلقة، فبالنسبة لي كان قُدوتي في هذا العالم .. تذوقت رفقته المتعة في كسر القواعد والتمرد على الاخلاق والمثالية .. قرأت يومًا أنه حالمّا تسمحين للظُلمة بدخولك، فلن تبارحك أبدًا .. أظن أن هذا ما حدث، فبعد فترة من تعارفنا، فعلت اشياء كثيرة لم اتوقع قبل أن افعلها .. شجعني على الهروب من المدرسة، ولأول مرة فعلتها حقا، لا افتراء .. تسكعنا بالشوارع ودخلنا السينما وقتها وعرفني على صُحبه أخرى جميعهم كانوا يكبروني سنً، إلا أن هذا كان أفضل الأيام التي قضيتها حينها .. منحوني القبول والانتماء، فشعرت بأنني اتحرر من عزلتي واندمج من جديد مع مَن يشبهوني .. لذلك، كررنا هذا عدة مرات، وقد راق لي كثيرًا متعة هذا المغامرة، خاصة ولم يُكتشف أمرنا لفترة!!



توقف أدهم لثانية، يستدعي الآتي بعقله .. منذ زمن بعيد لم يخوض التفكير بكل هذا، والآن عليه اجترار مجددًا .. الأمر فقط، أنه يجد خواء داخله، لا يسعفه وصف أي شعور، إلا الاستغراب .. الاستغراب من البلادة التي تعتريه الآن، وقد اعتقد لسنوات أنه لن يستطيع فعل هذا .. أنه سيختنق بالكلمات فور تلفظها .. لكنه لم يختنق، بل ها هو يحكي بسلاسة .. يحكي لها، وهي تصغي باهتمام .. وهذا أكثر ما يستغربه!!


عاد من المتاهة التي بداخله، ليجهز الكلمات، ويستأنف ما بدأ:
- في يوم، بعد هروبنا، أخبرني بحماس أننا سنذهب لمنزله هذه المرة، وانه قد أعد لي مفاجأة لم أرى مثلها من قبل .. كان البيت خاليًا، ووالده في العمل، ولا أحد يهتم من العاملين، وبدون تضييع وقت، أرآني المفاجأة .. والتي كانت عبارة عن شريط فيديو إباحي، اكتشفه بالصدفة وسط مكتبة والده .. ففي تلك الفترة، كانت بداية انتشار هذا الشيء كالوباء في مصر، ولأن والده كان كثير السفر للخارج، فكان له السبق في دخول هذا العالم .. ولا حاجة لأن أخبرك أن بعد مشاهدة هذا الفيديو ما يقرب العشر مرات، أدركتُ حينها الحقيقة .. حقيقة أن العاهرة لعبت بي لُعبة ساذجة للغاية، وحقيقة أنني أضعتُ سنة من عمري في تصديق هراء .. وأضعتُ كل ما تبقى لي في الحياة .. أضعتُ أبي!! .. فهمت، فهمت الكثير، وقدر ما كان حجم الصدمة، قدر ما كان الغضب .. طاقة كبيرة من الغضب لا عهد لي بها، وأعرف كيفية تصريفها .. لم أكن متأكد حتى مما عليّ فعله!!


غاصت عيني فريدة داخله لتتكهن بالآتي .. عقلها يواجه صعوبة في مواكبة الكوارث التي يقصُها، ولا تكاد تصدق أن كل هذا قد حدث لطفل بالتاسعة، وحديثه المنفصل تمامًا عن مشاعره لا يساعدها أبدًا .. لذلك بجزء صغير داخلها، تمنت أن كل هذا من اختراع خياله!!:
- أخبرني أنك واجهتها!!


توسعت ابتسامته حتى برزت أسنانه وغمازته بطريقة صارت تعرفها، عندما اضفى بصوتٍ محقونًا بالألم:
- حسنًا، ربما لم أخطط لهذا، إلا أنه قد حدث!!


❈-❈-❈


- أدهم!!!

قرع قلب مريم بتوتر وهي تسمع نداء سمر اللاذع للمرة الرابعة، بينما لم يتحرك ساكن لأدهم الجالس بفراشه، يحتضن قطته ويتظاهر بأنه يداعبها .. الحقيقة أن أدهم كان ضالً في عالمه الجديد الذي لتوه به أولى خطواته، يستعيد بذهنه ما عرفه من رفقته الجديدة خلال الأيام المنصرمة .. عانى من التنمر والتهكم البالغ من رفقاءه المخضرمين بمثل هذه الأمور بعد أن فتش سِره أمامه صديقه .. حينها تعلم منهم مصطلحات جديدة وكبيرة على عالمه، كالانتصاب، المضاجعة، القذف، أن هذا ما يلزم لتتم علاقة جنسية .. وهو لم يمر بأيٍ منهم، ولن يمر قبل أن يحدث ما يسمى بالبلوغ؛ لأنه واللعنة مازال طفل!! .. تلك الكلمة التي تغنى بها الأوغاد فوق أُذنه في كل مرة لعينة يرون وجهه بها .. أنه طفل .. طفل، ليس رجلًا بالغًا بعد!! .. ليس كما أخبروه، ليس كما أخبره والده!! .. الآن فقط فهم لمً أجساد العواهر كانت ملتحمة بتلك الطريقة المقززة!!



وكم كان كل هذا شاقًا عليه، شاقًا كالضوء شديد السطوع الذي يضرب عينك بعد سنوات من الظُلمة .. هكذا كان يشعر، ويظن أنه يحتاج لمزيد من الوقت حتى يعتاد ألم هذا السطوع، ويتخطاه لطريقه من جديد .. لكن ما حدث، أن الأمور لا تسير عادةً وفق ما نبتغي!!


نفخت مريم بقلة حيلة لتناشده مرة أخرى أن يلبي نداءها، فتلك الخبيثة منذ أصبحت حامل، وصارت تتعامل معهم جميعًا كعبيدي أُمِها .. ومصطفى قد سهل لها هذا مؤخرًا، كونها بأواخر شهور الحمل .. لكن لا تفهم حقا ما به هذا الولد؟! .. فقد كان يهرع لها ما إن تلفظ اسمه من المرة الأولى، فما باله الآن يجلس بهذا البرود ويتعمد تجاهلها .. تبا لهذه الحياة، الأفعى من دون شئ تتصيد له أي فرصة كي تُوقعه بالخطأ:
- هيا أدهم .. لا نريد أن يحدث شجار معها دون داعي .. لأجلي انا، انظر ماذا تريد، ولن يحدث شيء؟!


لا شيء .. فقط لا شيء سوى عينه التي رمقتها بغضب لم تجد لها له سبب، وكادت تحاول مجددًا، لولا أن باب الغرفة قد فُتح فجأة، لتتصدر سمر ببطنها المنتفخ، وملامحها التي لا تبشر بخير، ودون مقدمات هدرت بأدهم:
- أنت!! .. هل طُرشت؟! .. ألم تسمعي ندائي كل هذا؟؟


تمادى أدهم في بروده الذي كان شيء جديد يمارس تأثيره لأول مرة:
- سمعتك .. لستُ اطرّش!!
- همم .. ولماذا لم تُجب إذًا؟!


سألته باستهزاء قبل ان تنحدر عينها للقطة التي تتوسد معه الفراش، ومن ثم تحولت لجمرتي غضب:
- ألم أقل مئة مرة ممنوع اصطحاب هذه القطة القذرة للفراش؟؟ .. بالأساس ممنوع دخولها المنزل، هل تتحداني؟!


احتضن القطة أكثر بعد أن ارتجفت من صوتها الناكر، كانت قطة ذو فصيلة برية تتميز بفطنتها وذكاءها الكافي لتعلم أن سمر شخص مؤذي، فهذه ليست أول مرة تختبر شرها .. لذلك دفنت رأسها بين ذراعي أدهم، وكأنه أفضل حالٍ منها، فقد كان في حيرة بين نيران غضبه المستحدث والخوف الذي زرعته داخله على مدار سنة، إلا انه تغلب على هذا وهو ينطق الكلمات التي فتحت أبواب جحيمه:
- "بوسي" ليست قذرة وستبقى معي .. لن أتركها وحدها بالبرد!! ..ولن اتركها أبدًا .. ولن أفعل ما تمليّه عليَّ بعد الآن!!


صُدمت .. لا تنكر أن هذا الوغد الصغير قد صدمها .. رفعت حاجبها بطريقة هو يعلمها جيدًا، لكن لِنقُل أنه لم يعد يبالي للعنتها من اليوم!!
- مريم، هلا نزلتي وأشرفتي على إعداد العشاء بدلّا مني؟؟ .. مصطفى صار على وصول!!


هكذا قالتها بدرجة عالية من عدم الاهتمام ودون أن تنظر لها .. فقط أعينها مسلطة على أدهم الذي إنتابه بعض الارتباك، لكنه لم يخف .. هو بموضع الحق، يعني هي مَن عليها أن تخاف وليس هو، أليس كذلك؟!


الحقيقة أنه لم يكن يعرف عواقب ما يفعله، إلا انه نفذ ما أملاه عليه شعوره .. بالأساس لم يخطط حتى للخطوة التالية، لم يكن متيقنًا حتى مما عليه فعله .. لم يكن متيقنًا من شيء إلا أنه لم يعد يخافها بعد الآن .. جُلّ ما كان يحلم به هو لحظة أن يعرف أبيه بحقيقة براءته، ويطردها خارج حياتهما، ليعود له وحده من جديد .. يعود له عالمه الذي ألفه، استقراره، وجزء من أمنه الذي والىّ!!


- ماذا أفهم من هذا الأسلوب؟؟ ألم أنبهّ عليك بأن تتحاشى غضبي كيلا أخبرك أباك بفعلتك السوداء ليقتلك واخلصُ منك!!

قالتها بنبرة خطيرة وهي تستند بإحدى يديها على منضدة السرير لتبدو له من موضع مُرهب، ويدها الأخرى تمسك ظهرها .. إلا أن كل هذا لم يفلح معه هذه المرة ولن يفلح معه بعد الآن .. نهض من مضجعه ليقف جوار الفراش ومازالت القطة بين يديه، لا يعرف إذا كان يحميها أو يستمد منها الحماية .. رغم هذا، كان وجهه محقون بلون دموي غاضب، أنه صاحب الحق هنا، لكن ثقته كانت مهزوزة في الفوز بهذه المعركة بعد تاريخ عتيق من الهزيمة!!:
- افعلي ما شئتِ .. أنا لستُ خائف منكِ!!


تصدعت ملامحها الخبيثة فور انتهاءه لتستقيم وتسأله بشك:
- ماذا تعني بهذا؟!
رفع هامته اقصى ما استطاع ليهتف بغضب ممتلئ وقد اخذ قراره بفعل ما شار عليه به اصدقاءه:
- أريدك أن تخبري أبي .. أريده أن يعرف ما حدث..!!


خُيل إليه أنه رآها تبتلع ريقها برجفة قبل أن تقسى ملامحها مجددًا وهي تردف بتوعد:
- حسنًا أدهم .. أنت مَن اختار .. سيعرف كل شيء عن قذارتك وخيانتك له .. فقط لا تبكي ندمًا بعدها!!


اهتاجت أنفاسه وفي لحظة نادرة استطاع فعلها .. استطاع البوح بكل ما كاد يقتله طوال هذه المدة المريرة .. لقد استطاع مواجهتها، بغضب عفوي، والأهم، دون خوف!!:
- توقفي .. انا لستُ كذلك .. توقفي عن ترديد هذا الكذب .. أنتِ كاذبة .. أنتِ الخائنة وأنتِ القذرة .. لقد عرفت كل شيء، وسأخبر والدي عن ذلك الرجل الذي تقابلينه .. سأخبره بما تفعليه معه .. انا لم أفعل شيء أيتها الكاذبة!!


لم يكن من الصعب تلك اللحظة أن يرى موته بعينيها واضحًا .. بالأساس كان من الخطأ تركه على قيد الحياة بعدما رآه، كان من الأوّلىَ أن تأخذ بقرار رفيقها من البداية .. لكن لا بأس، هذا الخطأ ستعمل على تصحيحه الآن .. وبالوقت الذي تحركت فيه تجاهه، تأكد من قرار نيتها لتتقهقر خطواته صوب الباب .. وبعدها، كل شئ حدث سريعا!!



فزعت القطة من حدة الأحداث، وأصدرت صوت هسهسة تشبه فحيح الافاعي، أتبعته بعويل عالي دلالة على شعورها بالتهديد .. وما إن اقتربت سمر أكثر من أدهم، قامت بخدشها بعداء، ومن ثم قفزت لتختبئ .. إلا أن سمر كان قد طفح بها الكيل من هذه القطة الغبية، وهذا الولد والبيت اللعين بأكمله، فبنفس اللحظة قد تمكنت من التقاط جسدها الصغير قبل أن تختبئ .. وفي ذروة غضبها، ووسط هتاف أدهم، اطاحت جسدها في الهواء بقسوة مطلقة، توقفت فيها رئتي أدهم عن العمل، بينما يشاهد جسد قطته الصغير يطير بالهواء، ليعبر حدود النافذة المفتوحة في لحظة .. دون أن يتبادر منه أي رد فعل!!


انتهى كل شيء..!!


هذا ما ردده عقله .. قبل أن يستعيد آلية عمله في الطوارئ، ليندفع بجسده إلى النافذة ليبحث بعينه عن القطة .. لقد رأى بعينه كل شئ، رغم هذا لا يصدق حدوثه .. حتى وهو يرى من الأعلى، رأسها المتفجر بأحجار الأرضية التي تخضبت بدمائها .. حتى اندثر تلك الصورة بالكامل خلف زحام من الدموع الصاخبة .. دموع من أدرك أن كل شئ قد انتهى بالفعل!! .. ووسط غمرة صدمته شعر بيدين سمر تأتي من خلفه لتحاوطه، وقبل ان يلتفت كانت تحمل جسده بالهواء، في طريقها لأن تلحقه بقطته!!


بالطابق الثالث، لواحد من القصور العريقة، الذي قد يتخطى ارتفاع الطابق الواحد به الأربعة أمتار .. واجه الصغير الرعب في أوج صوره .. بعقلها، الخطة لم تكن لتتجاوز الثلاثين ثانية، لكن، بطنها الكبير كان ذو عائق بالنسبة لها عن حمل أدهم بالقوة الكافية لإلقائه بسرعة .. خاصة، وهي تستخدم يد واحدة، فالأخرى كانت مشغولة بكتم صراخه الهلع، اضافة إلى طوله الفارع مقارنة بعمره .. مما نتج عنه مزيد من المعافرة الشرسة من أدهم، كَـبَـدّتها العديد من الركلات الخلفية العشوائية، التي لسوء حظها أصابت جنينها بقوة .. فكان صراخها المستغيث هو المسموع، بدلًا عن أدهم!!


وفي اللحظة التي تراخت فيها يديها، نجح أدهم في الإفلات من قبضة الموت تلك، ليثبت قدميه أخيرًا على الأرضية ويستدير ليواجهها مدافعًا عن نفسه بكل عنفوان، ولازال عقله يندفع ببواقي الصدمة الحاضرة .. لم يكن يعي بما يفعله حقا، إلا أن القهر، الغضب، والحقد، كل هذه المشاعر التي من المفترض أن تكون بعيدة كل البُعد عن طفلٍ مثله، كانت تستحوذ عليه، ويرى من خلالها كل شيء ضبابيًا، لا نجاة به .. كان يريد النجاة، وصدقا هذا كل ما كان يريده، لذلك وظف كامل الأدرينالين بجسده في تسديد تلك الضربات من عنف يديه الصغيرة، لأنه كان يعي أن النجاة التي ينشدها، تساوي الخلاص من هذه اللعنة .. إلا أنه وفجأة، كانت هناك يدين أكثر صرامة وقوة تحمله وتطيح بجسده بعيدًا جدًا عن سمر ليستقر على حافة فراشه..


ولم يكن سوى والده..


أنكب في ثانية ليتفحص سمر التي كانت تصرخ متألمة بصوتٍ ملتاع بينما تهتف ببضع كلمات متلعثمة لم يفهم منها شئ سوى أنها كانت تنقذ أدهم من رمي نفسه عبر النافذة عقب سقوط قطته، وجزاءً لهذا، راح يضربها هي بجنون .. وقبل أن يستقر الكَلِم موضعه بعقله، تحول تركيزه لأدهم المتخشب على موضعه .. وتلك اللحظة، تحققت أسوأ كوابيسه، ذلك لأن والده كان يرمقه، وكأنه لم يعد ينتمي له .. وكأنه عدوه!!


- مصطفى .. أنجدني، انا .. انا أنزف .. ابني يموت .. أدهم .. أدهم قتل أبني!!


حسنا، لقد نجح هذا في صرف انتباهه عنه .. إلا أنه صرف انتباهه للأسوأ، فقد كانت سمر تنزف بغزاره، وتتلوى أرضًا من الألم .. وفي ثانية، كان كل مَن في القصر يحتشد أمام الغرفة، بما فيهم مريم التي غمرته بحضنها، وهي تسأله عما حدث وإذا كان قد أصابه شئ .. لكنه بتلك اللحظة لم يملك القدرة على النطق، وكل ما استطاع التركيز عليه، هي عين والده الممتقعة بالغضب والوعيد، بينما يحمل سمر ويركض بها للمشفى!!


Times like this,
أوقات كهذه
I wish I never existed
أتمنى لو لم أحيا أبدًا
Nobody wants to listen
لا أحد يريد الإصغاء لي
I’m screaming out for help
أنا أصرخ بأعلى صوتي طلبًا للمساعدة
Times like this,
أوقات كـهذه
 I wish that I could let go
أتمنى لو بإمكاني ترك كل شيء ورائي
And open up a window,
وافتح النافذة
Free to be myself
لأكن حرًا كما أريد


❈-❈-❈


عندما أتمّ كلماته، لم يكن يتوقع أبدًا أن يكون هذا رد فعلها .. ملامحها، تبًا، ملامحها كانت تشبه هذا اليوم .. اللعنة على هذا اليوم!! .. مستحيل أن ينسى أبدًا النظرة التي أعتلت محياها .. نظرة شخص انشطر إلى أحدٍ آخر، أحدٍ ليس له به أية صلة .. يوم أردّى كلبتها "بيري"، على مرئ سافر من عينيها .. عينيها التي كانت ترمقه بها، كما تفعل الآن!!
عينيها كانت غائره، محتشدة بكثير من الدموع العالقة، وشهقة متوجعه هربت من بين شفتيها، وقد سقط قناع التبلّد عن تعابيرها أخيرًا:
- لا أصدق كيف استطا...


عجزت عن التكملة ولم تُسعفها الكلمات، لتسقط رأسها بين يديها بعجز محاولة السيطرة على حالتها التي تتسرب بعيدًا عن السيطرة بمرور الوقت .. مسحت وجهها مرارًا وتكرارًا، وبالكاد تركزت حدقتيها المرهقة عليه:
- آسفة، إني فقط لستُ في حالتي الطبيعية قليلًا .. هذا .. هذا مؤلم!! .. يبدو أن تلك السنين كانت مليئة بالمرار!!



هذا المرة أصابه التعجب في مقتل، كانت نبرتها صادقة عن حق .. وما قتله أكثر، ما اكتشفه بينما يُعيد سرد الأحداث معها هنا، كونه قد جعلها تخوض الألم نفسه!! .. باختلاف أنه كان الطاغية بالقصة!! .. ومرة أخرى خلال ذات اليوم، يتساءل عن عُمق الأذى الذي أحدثه داخلها دون أن يفكر لثانية بما يفعله؟! .. دون أن يفكر بأنه يكرر ما أصابه بها، يعيد ماضيه معها على النحو نفسه .. يؤذيها بذات الطريقة التي تأذى بها .. يؤذيها هي فريدة، الشخص الوحيد الذي حفَلَ به، وأراد تحريره من ظلام هذا الماضي .. فإذا به ينتزعها من نورها، ليقيدها معه هناك!!


وباسترجاع بسيط لشعوره حين قُتلت قطته أمامه، بينما يقف يشاهد موتها بعجز، بالأخص تلك الفترة التي عانى بها فيما بعد .. استطاع أن يكون صورة بسيطة عما فعله بها يومذاك..!
نعم، كان هذا مؤلم، فريدة، على نحو منقطع النظير!!

وحمدً لله أنكِ لا تتذكريه!!


- وكيف تأقلمت بعدها؟ .. أعني هل صدقّها والدك حقا؟!

هز رأسه بكسل وعينه أسيرة الألفة التي باتت تغلف عسل حدقتيها:
- صَدّقها، كان هذا سهل جدًا، وصار عليّ أن أتأقلم معه سواء شئت أم أبيت .. لم يكن هناك بُـد من هذا .. بكل الأحوال بعد ولادة "سمر" المبكرة بسبب ما حدث، ألتصق بي لقب الفتى الفاسد بجدارة وانتهى الأمر .. لشهور بعد الولادة، عاقبني والدي بعدم الحديث معي وتحديد اقامتي بالمنزل .. لم يكن مسموح لي حتى برؤية "ريم"!! .. لم أراها إلا خِلسه بمساعدة "مريم"، فقد رفضت "سمر" ذلك رفضًا قاطعًا، خاصة وقد أصبح حملها بعد ذلك شديد الصعوبة، مما أوغر صدر أبي بأني أحمل الضغينة جهة "ريم"، وإني ربما أفكر في التخلص منها ريثما تسنح لي الفرصة .. والغريب، هو لم يدافع عني مثلما توقعت، بل وَجَّه أوامره لـمريم، بأن تراقبني على الدوام، وألا تسمح لي بصعود غرفة الصغيرة في غيابهما .. حسنا، لا أنكر، كان من الطبيعي مع كل هذا أن تصيبني الغيرة من "ريم"، وربما افتعلت بعض المضايقات الصغيرة في كل مرة كانت تتوفر لي الفرصة ...


هذه المرة لمعت عينه بضحكة حقيقية بينما يتذكر افساده للعبها أو التسبب في بكاؤها .. ومن ثم عبئ نفسًا ليستند بذقنه على مرفقيه متابعًا بنبرة جدية خالية من الهزل:
- لكني أبدًا لم أصل بتفكيري حد إيذائها!! .. كنت أغيّر أجل منها، وأغيّر أكثر لأنها أصبحت محور اهتمام أبي، وقد تحقق أسوأ كوابيسي .. مهما حاولت طويلًا أن اتلافى هذا المصير، إلا أنني أصبحت في النهاية الطفل المنبوذ .. أمضى وقت طويل، وربما النهار بأكمله دونما أن يلاحظني أحد .. حتى مريم، انغمست معهم في الاعتناء بالمولود الجديد، وراحت تنسى وجودي عدا أوقات الأكل والنوم، كانت تسألني بروتينية عاجلة كيف قضيت يوم، أو إذا كنت أشكو من شئ .. ودومًا كانت إجابتي 'لا شيء' .. لتمضي في مهامها، وكأنني غير مرئي .. أنتِ تعرفين هذا الشعور، أن تمكثين بركنٍ ما، في انتظار أن يمنحك أحد نظرة اهتمام وحب مما تتطوقين له، إلا أن هؤلاء الأشخاص لديهم بالفعل مَن يمنحوه هذا الحب والاهتمام!! .. لذلك، تبا لكل شيء، إلى هنا وكنتُ قد زهدتُ من صدّ والدي لي، صدقًا حاولت أن أفسر له ما حدث كثيرًا، لكنه كان رغبًا عني بطريقة مزقتني .. ومع الوقت، رغمًا عني حملت الضغينة له بقلبي، ليس لسمر، بل هو .. اقتنعت بكونه يستحق ما فعلته العاهرة به .. يستحق أن تخدعه لأنه صدقها، صدقها هي الكاذبة، وكذّبني أنا!! .. كذّب ابنه الوحيد .. لذلك اصدرت حكمي عليه بأنه يستحق الخيانة، وتعهدت أمام نفسي، أنني لن أحاول معه مجددًا، حتى لو تكررت الخيانة أمامي، لم يعد هذا من شأني .. أجل، هذا ما توصلت له مع صحبتي الجديدة، والتي أصبحت ملجأي الوحيد بعدما لفظني الجميع .. وجدت بها الاهتمام الذي كنت احتاجه، ووجدت أكثر من هذا .. وجدت طريقة سحرية استرعى بها اهتمام مَن أريد .. أعنى إذا لم تعد المثالية طريقة لجذب الحب، فبالتأكيد التمرد وافتعال الفوضى سيكون طريقة نجاحه!!



أجل، هي تعلم ما يعنيه هذا الشعور .. ذلك لأنها قد عانت منه بالمثل، ولابد أنه استخدم هذا التعبير، لأنه يثق من أنها ستستدعي طفولتها فور أن يقول هذا .. ومن ثم، تبدأ في نسج المشاعر التي تربطها معه من جديد .. ذلك ما كان يغوص به ذهنها بينما لاتزال تعاني الضياع وسط كل ما يحكي .. لاتزال تعاني مما حدث معها، ولاتزال تعاني من تعبها الآن، الذي تثق أنه يجعلها غير جديرة مطلقًا بالحكم على الأمور .. ولأجل هذا، أجلّت حكمها ريثما يكمل حديثه، وريثما تستعيد هي كامل وعيها:
- لو أردت اضفاء لونٍ على تلك الفترة، فسيكون الأسود الباهت .. الباهت، لا الحالك، فسيأتي دوره فيما بعد .. أممم، لا أتذكر منها سوى مشاعر الغضب .. الكثير من الغضب .. كنتُ غاضب على الدوام، ناقم على الجميع، وناقم على نفسي قبله .. انخرطت وقتها في السلوكيات العدوانية، الشغب، والعِناد المستمر تجاه كل سُلطة في البيت أو المدرسة .. ذات يوم، عرف والدي عن تغييبي من المدرسة، ونصب لي المحكمة ذات، لأول مرة كنت مذنب، هذا جعلني لا أبالي، بل جعلني سعيد .. كنت أتلذذ بإغضابه، بإشعال كراهيته، ومن هنا اظنها ترسخت داخلي كطريقة انتقام من كل شيء فعله .. فإذا كنت افعل هذا سابقًا من اجل الاهتمام، الآن أفعله للانتقام!! .. أحببت ذلك بنفسي، وتلاحمت مع تلك الشخصية الجديدة الأكثر جرأة، وقوة وعنف ضد مجتمع الكبار عامةً .. حتى وصل بي الأمر لتجريب التدخين معهم، وكان كل مصدره في البداية صديقي ورفقاءه!!



توسعت ضحكة ليست في محلها، وكم أثارت استفزاز فريدة عدا أي شيء .. كان يحكي بشكل فكاهي ساخر ممتزج بالعاطفة:
- كنت منبهر بتلك القوة التي تمنحني إياها تأثير الجماعة، لذلك كان من السهل جدًا مجاراتهم أيما يوّجهوني .. وفيما بعد، جاء دوري لأن أثبت وجودي بينهم، وأنني قادر أن أمثالهم في فعل تلك الاشياء الخطرة .. فبدأت في سرقة الفلوس أولًا من مكتب والدي، حتى اكتشفت أين السجائر، فصرت أسرقها على فترات متباعدة كيلا ينتبه، ومع الوقت لم يعد هذا كافيًا، بعد أن حصلت من وراءها على مكانتي وسط الجماعة .. كنتُ منتشى فقط بالجو الذي يحدثه دخانها، وطريقه امساكها، واللعب بها في فمي، الأمر كله وكأنني أصبحت الأقوى على الإطلاق .. فصرت أسرق بالعُلب، التي لم تكن تمكث بحوزتي سوى أيام فقط؛ وقد ذاع صِيتي حتى خارج الجماعة بأني فتى سيء، يقصدني كل كبير وصغير للسجائر، وأشترك في الاشتباكات والمعارك بعد المدرسة .. كنتُ بالعاشرة، وعليّ أن اعترف، كانت تلك ميزة لا تُقدر وقتها؛ لهذا تماديت في افعالي، وارتأيت أن سرقة السجائر صارت موضة قديمة، لما لا نجرب ما هو أكثر رجولة .. الخمر مثلا؟! .. نعم، فريدة، بهذه السن المبكر، جربت الخمر، وأغويت زملائي على تجربتها، وبادلتها معهم بالأموال .. وهنا، بدأت أكتشف بداخلي موهبة جديدة، ويكتشفها بي الجميع، بإمكاني أن أبيع أو أحصل على أي شيء أريده، دون الحاجة لوالدي .. الذي بالمناسبة كان منغمس في غمرة فرحته بابنته المدللة، وبسبب هذا، لفترة طويلة لم يُكشف أمري .. حتى ..



اردفت فريدة بطريقة مقاطعة، وكأنه قد وقعت على اكتشاف:
- هذا اضطراب مَسلّك .. ما تحكي عنه، تلك أعراض اضطراب المسلك أو الجُناح (Conduct Disorder) .. أنه مرحلة مبكرة من اضطراب الشخصية السيكوباتية، إذا استمر مع الطفل حتى بلوغه سن الثامنة عشر .. لم أتوقع أبدًا أن البداية جاءت مبكرًا!!


عادت له ابتسامته العابثة، وقد أسعده كونها قد انغمست في تحليل حالته من الناحية النفسية .. شيئًا من فريدة خاصته قد عاد .. مما أشعل الأمل بداخله من جديد، فربما تعود هي بالكامل .. من يعلم، إلى أي مدى قد يمتد سحر هذه الليلة المميزة؟! :
- حسنا، هذا أيضًا ما أخبرني به "مايك" .. وأجل، لقد بدأت سلك هذا الطريق مبكرًا، وكأنه عِقد قد انفرطت حَباته .. تعرفين، حتى وإن انتبه أحدهم ليعيدني لمساري الصحيح، فما أدراكِ أنه سيكون الاتجاه الصحيح؟! .. أعني، أليس هناك احتمال، أن يكون كل ما حدث في البداية، ليس إلا مرحلة إعداد وتأهيل لما هو قادم وأكثر صعوبة؟!


رفعت فريدة عينها بحركة ذاهلة متشككة:
- ثانية واحدة .. هل هذا ما تعتمد عليه في تجنب الشفقة على ذاتك ايبان ما ألّـم بك؟!


اصدر حركة غير مكترثة بكتفيه، وكأنه يتحدث عن الشيء الأكثر طبيعية في الكون:
- ولمً أفعل؟! .. ستعرفين الآن، أن كل سيء اصابني، لم يكن سوى لقاح يقوي مناعتي ضد القادم .. السيء جيد، فريدة، لهذا، أنا لا آسى على نفسي، فلولا كل هذا، لمّا استطعت العيش للحظة الحالية!! .. تلك هي النقطة .. معادلة الألم والسعادة .. ليس هناك سعادة مطلقة، فريدة!! .. هذا مجرد وهم لعين، يودّي بحياة صاحبه .. أينما وُجدت السعادة، وُجد الألم، هما كوجهان لعملة واحدة!! .. فقط عليكِ أن تتقبلهما معًا، وإذا أردتِ أن تحظي بالسعادة، عليكِ أن تتعلمين كيفيه التعايش مع الألم المصاحب لها!! .. لا تنكريه .. فقط تعايشي معه .. هذا أقصر طريق للسعادة صدقيني!!



كانت يحدثها بطريقة شديدة الحِنكة، وكأنه يلقي بخطبة تحفيزية أمام الجمهور على منصة TED))!! .. بدى لها شديد الاقتناع والتقبل لما حدث له، وكأنه كان لابد أن يحدث!! .. بدى لها لو أن الأمر بيده أن يُعاد من جديد، لاختار أن يعاني كل هذا، وأن يخوض كل جزء مؤلم به .. وأن يسلك طريقه حتى النهاية!! .. وهذا فقط، كل هذا كان ثقيل جدًا على رأسها .. لا تستطيع تحمله وفك أحجيته المنيعة .. إذا كان لا يرى نفسه ضحية أبدًا، لمّ قرر الانتقام منها هي لاحقا بدلًا عمَن آذوه؟! .. تبا لتلك الدائرة اللعينة، فلتتركيه يكمل فريدة علّنا ننتهي!!



- وكيف تعايشت أنت مع الألم؟؟ .. بتعلم التدخين والمخدرات بسن العاشرة؟!

سألته، ولم تعد متيقنة بأنها ستحب سماع الإجابة .. ثمة جزء سيء قادم، حدسها يُنبأها بهذا .. وتبًا كم كان هذا سريعًا:
- بعضهم يكون هذا أقصى أمنياته صدقيني، إلا أن هذا لم يدم طويلًا .. فوالدي مع الوقت بدأ ينتبه لمخزون مكتبه الذي يتناقص .. بالبداية لم أكن أهتم، لأنه كان بديهيًا أن يتهم أحد الخدم بذلك .. ولا تنظري لي هكذا، فقد كان هذا حقا آخر اهتماماتي، لذلك أكملت بعبثي .. وبصباح يوم، فوجئت به يقتحم غرفتي، ويسحبني من الفراش أراضًا، ليقلب عاليه اسفله، ويظهر ما كنت اخبئه تحته .. نصف زجاجه ويسكي، وعلبتي سجائر .. مخزون شهرًا لي ولجماعتي..!!


❈-❈-❈


- سجائر وخمر، أدهم؟! .. ابني أنا يدخن ويشرب بالعاشرة؟!


بين آثار النوم وصدمة الافاقة، وقف أدهم يستقبل صوت أبيه المصعوق ليُفتت أجزاء أحلامه .. رغم قساوة ملامحه المفزوعة، والتي حرّكت بداخله اطلال المشاعر التي طواها من بعيد، وجعلته يرغب في الاعتذار منه ومحاولة استرضاءه كما كان الحال في الماضي .. إلا أن دخول العاهرة حينها أفسد كل شيء بينما وقفت خلفه تربت على كتفه في لفتة ظاهرية بالتهدئة:
- لا عليك مصطفى .. حمدً لله أنك قد أخذت باقتراحي، وإلا ظلمنا أحد العاملين بسبب استهتاره!!


لم يعي بعد ما يحدث، لكنه هتف بوهيج غضب مستعر من مجرد وجودها:
- لا تصدقها بابا .. أنا لم أفعل شيء!! .. هذه الأشياء ليست لي!!


ما إن أتمّها، حتى وجد خِلقه غير الخِلقة من مصطفى وهو يجذب ذراعه ويسحبه للأسفل رغمًا عنه:
- أوتكذب أيضا؟! .. تعالِ إذًا لترى نفسك وأنت تسرق أيها المتبجح!!


وفي خلال لحظات، كان يقف في غرفة مكتب والده، أمام شاشة التلفاز التي تعرض له صورة بالأبيض والأسود دون صوت .. أثناء تسلله بالأمس ليسرق، ومن بعدها تحجر الكَلِّم في حلقه .. هذه الكاميرات اللعينة، متى قام والده بتركبيها؟! .. نعم، يعرف أن والده قام بتركيب هذه التقنية الحديثة على جميع بوابات القصر، للحماية من السرقة، لكن متى قام بتركبيها هنا، وأين كان هو من كل هذا؟! .. تلك ليست أفعاله، تلك افعال الأفعى زوجته .. وعلى ذِكرها، ألقت بها الرياح:
- هذا هو الولد الذي سيحمل أسمك سيد "مصطفى"؟! .. انظر جيدًا، حفظه الله، يحتسى الخمر منذ العاشرة، فماذا سيفعل بنا حينما يكبر؟!
- أخرسي أنتِ ولا تتدخلي بيني وبين أب...


صفعة لاذعة لم تمهله حتى أن يُكمل جملته .. صفعة مُهينة لم يتوقع أبدًا أن يتلقاها من والده .. شعر وكأنه يبتلع لسانه آنذاك، بينما كل العيون بالغرفة كانت تتمركز عليه، إلا أنه لم يكن يهمه سوى عيني والده التي تلبك غضبها لجزء من الثانية .. أول مرة يُضرب، كانت أول مرة يختبر ألم كهذا!! .. ألم الضعف، وألم المهانة!! .. وأن يأتي هذا الألم من مصدر أمنك الوحيد، الشخص المسؤول عن حمايتك وتجنيبك هذا الألم، لهو شيئًا قاتل!!


بعقله، امتدت تلك الثانية لثواني عديدة، قضاها جميعُها في انتظار، متيقنًا من أن والده سيُقبل عليه بالنهاية، ليغمره معتذرًا ويمحو بذلك حقد الافعى الشاهدة بشماته .. إلا أن ما حدث كان عكس هذا، وكأنه إعصار قلب مجرى حياته، فقد عاد مصطفى لتماسكه وأمره بصرامة مجحفة:
- يبدو أني تساهلت في تربيتك حتى انفلت حالك .. اعتذر منها حالًا!!
زادت أنفاس أدهم حتى شارفت على الانهيار، فور دخول مريم على أصواتهم، وقد هالها وجه أدهم المحقون، لتندفع له حينما اندفع بغضب يداري به قهره:
- لن يحدث .. لن أعتذر!!


توسعت عيني مصطفى صدمة، لا غضب!! .. ما يحدث كان خارج أي توقعات يعرفها عن أبنه .. ولم تكن سمر لتفوت هذه الفرصة:
- أرأيت بنفسك؟؟ .. لم تصدقني حينما كنت أخبرك عن سوء أدبه معي، وتعدّيه عليَّ بالألفاظ والصوت العالي .. تذكر الفلوس التي تضعها وتختفي؟؟ .. ومَن يعلم، ربما يكون هو أيضًا مَن سرق مجوهرات "نور"؟!


عِـد معي للعاشرة .. تلك اللحظة كانت فارقة عن حق!! .. ورجاءً، لتجعلن الثواني ساعات هذه المرة، فربما يُسعفه الوقت ولا يخذلني!!


وقتما لفظت باسم والدته، تعلقت أنفاسه ليستوعب كامل أجزاء الجملة .. بريق عينيها كان ذو رونق زمردي مميز، يعرفه .. بلى، لقد فهم نظرتها، فهم أن وراء الحديث حكاية يجهل تفاصيلها .. لكن "نور"؟!! .. هذا ما أحرق آخر ذرة صواب داخله .. وتلك النظرة اللعينة كانت اعتراف ضمني منها بأنها الفاعلة، لم تكتفي بمكانها كزوجة لـ(مصطفى) ولا بقَصرِها .. ولا حتى بطفلٍ من صُلّبِها .. بل وصل بها الجشع حد الاستيلاء على مقتنياتها المادية .. ما تبقى له منها .. أجل، هذا ما كانت تقوله نظرتها اللعينة!!
لفترة كان يتساءل عن هذا، عن هدوءها وتحاشيها له .. ساذج، ظن أنه قد انتهى من ألاعيبها، وانها قد ملّت أو انشغلت بطفلتها .. هي بالفعل انشغلت، ولم يكن انشغالها إلا بالإطاحة به!! .. كان صغيرًا جدًا، ولم يدرك أنها راقبت في هدوء أفعى، تحيّنت فرصة ليس لها دخلٍ بها، فرصة تصلح لتغطي على مرادها الأكبر .. وكل ما فعلته أنها حركت البيدق الأخير وضربت به عصفورين دفعة واحدة!! .. أخذت كل شيء، سلبته كل شيء!!


انتهت اللعبة أيها الجرذ الصغير!!
هذا ما قالته عيناها!!



- مَن سرق مجوهرات السيدة "نور"؟؟ .. هل تتحدثون عن أدهم؟! .. مستحيل أن يفعل هذا! .. سيد مصطفى، من فضلك، قُل شيء!!
صوت مريم كان يأتيه من بعيد، وكأنه من خارج حدود الواقع .. ففي تلك اللحظة قد انغلقت دائرة وعيه على والده، مازال حتى الآن في انتظار ردة فعله، لتنقذه من النيران التي تنهش داخله، ومن فورة الدموع التي تلتهم عينه وتشوش رؤيته .. حتى جاءه رده .. وليته لم يأتِ:
- مريم هانم!! .. بالتأكيد ستدافعين عنه .. بالأساس ما وصل له الآن كان نتيجة تدليلك وافسادك له!! .. لا أريد أن أسمع منكِ كلمة، تفضلي مِن أمامي، فحسابك معي لاحقًا .. أما أنت، هل ستعتذر لها أم لا؟!
- لا .. يستحيل أن أعتذر لهذه السارقة .. هي مَن سرقت أشياء ماما، أنا متأكد!! .. بابا، لا تصدقها!!


تشنجت خلجات سمر، وكاد أن تخرج عينيها من محجرهما، ولو أُتيحت لها الفرصة الآن، لفتكت بالصغير دون أن تعبأ بأحد!! .. تبًا لهذا اللعين، من أين أتى بكل هذه الجرأة ليتهمها هكذا أمام والده؟! .. يبدو أنها قد فقدت تأثيرها عليه .. ومن هنا بزخ الهلع داخلها، من أن ينجح في اقناع والده، وقلب الطاولة عليها، ومن ثم ضياع كل تعبها!! .. لا لا، لن تكن سمر إذا سمحت بهذا!!


وقبل أن يتبدى من مصطفى رد فعل، وبسرعة تُمدح لها، بدّلت جلدها، وارتدت ثوب الأم المضحية ذو الكرامة المطعونة:
- لا لا!! .. إذا كنت ستسكت عن سوء أدب ابنك، فانا لن ابق بهذا البيت بعد سماع اهانتي من طفل اعتبرته ابني!! .. الله وحده يعلم، كم حاولت أن أعوضه عن أمه، لكنه بدون سبب يكرهني .. والآن يتمادى في تبجحه، ويُلّفق لي فعلته!! .. جِد حلًا لهذا مصطفى، وإلا لن تراني!! .. لا أنا، ولا ريم!!


صرخ مصطفى بانفعال جَـمّ ليوّقف الهرج الدائر حوله، بينما عقله مازال في حالة ذهول من الوضع بأكمله:
- هذا يكفي!! .. لن يذهب من هنا إلا المخطئ!! .. هل سمعتني أدهم؟؟ .. هيا اعتذر منها، وأخبرنا أين أخذت المجوهرات، ودعنا ننتهي من هذه القصة السخيفة!!


وبهذا انتهى كل شيء، وطويت صفحاته داخل عقله .. لم يتحمل أن يسمع من هذا الهراء المزيد، ووجد قدماه الصغيرتان تسوقانه للخروج راغبةً بالاختباء .. وقد ضاق عليه المكان في لحظة، سينفجر إذا بقي لثانية أخرى!! .. لكن مصطفى لم يسمح له، وهو يمسك به مستكملًا في تعنيفه:
- أين تظن نفسك ذاهبًا؟؟ .. ألم تسمع ما قلت؟! .. أعتذر لماما "سمر" واطلب مسامحتها الآن!!
- لا تقُل عليها ماما!! .. تلك ليست ماما .. ولن اعتذر لها أبدًا!! .. اتركني .. دعني أذهب!!


حاصرته شهقات بكاء خانقة قَسَّمتْ حروفه، وفاضت عينيه بعبرات كثيفة .. لم يدرك أيًا ممَن بالغرفة أنها كانت حافة الانهيار داخله!! .. كان الصغير في حاجة بالفعل لأن يتركه، كان يختنق من الداخل، والخارج أيضًا، بينما اعتقاده بأنه ما عاد يتأثر بما يفعله والده، كل هذا أصبح كالسراب!! .. لذلك كان يختنق، تتجدد عليه كل آلامه بالأمس مع خيبات والده اليوم، ليصبح قاب قوسين أو أدنى من الانفجار .. وللأسف لم يدرك والده هذا أبدًا:
- أما زلت تُعاند؟؟ .. حسنا، لن تفلت هذه المرة!! .. ستعاقب على كل أفعالك الغبية .. لن اتساهل معك ككل مرة، وسترى مني وجهًا آخر!! .. أعرف كيف أعيد تربيتك جيدًا .. وسترى!!


❈-❈-❈


- ماذا فعل؟؟
سألت فريدة بتعابير تزداد شحوبًا وتبعثر كلما توغلت بين طيات ماضيه، ليرفع أدهم حاجبه بطريقه غير مبالية، وهو يمط شفيه باعتيادية:
- المدرسة العسكرية الداخلية..!!


عقد ذراعيه في وضع دفاعي، ومن ثم أسرّف في تنهداته ليطرد عبق تلك الفترة السوداء عن مخيلته:
- أمهلني يومان كي أعتذر .. أعتقد أن كلانا راهن على تراجع الآخر، ومبادرته بالاعتذار!! .. لكن هذا لم يحدث .. خاصة بعد أن عاقب مريم وأبعدها عن المنزل، لأبقى بعد هذا وحيدًا عن حق!! .. كان يظن أنه يكسر بهذا عِندي ويُقـوّم سلوكي المُنفلّتْ، لكن ما لم يعلمه، أن هذا النوع من العِند، لا يشبه العِند الطفولي المتعارف عليه!! .. إنه عِند اضطراب المسلك .. كلما أزدّتِ ضغطًا عليه، كلما زاد سَماكه .. والنتيجة كانت المدرسة العسكرية .. لم ينتظر حتى أن أنهي صَفِيّ الخامس؛ فهذا هو الحل الوحيد الذي ارتأه ليُصلح حالي، ويجعل مني رجل يُعتمد عليه .. عملًا بنصيحة عاهرته!!


رطبت فريدة شفتيها لتستطيع أن تستعد للقادم، بينما عينها غارقة بالكامل داخله:
- وهذا كان .. أعتقد انه كان أكثر من كافي ليقتل أي شعور بالحب تجاه الجميع..!!


حانت منه ابتسامه ساخرة متبوعة بغمزة من عينه، وكأنه يعرض لها أفضل لحظات حياته:
- آوه، فريدة .. الحقيقة، هذا كان الفصل اللطيف من طفولتي .. هل نسيتِ؟، مازال لدينا مرحلتي تحوّل ساهموا في تشكيل الشخص الجالس أمامك!!


طالت النظرات بينهما .. طالت أكثر من اللازم .. نظرات زجاجية خاوية، لا أثر بها للعاطفة، لا شيء .. ليس وكأنه ذلك الطفل المُمزع، ولا هي مَن كانت تسمع للتو أقصى لحظات قد يَخبِرّها طفل!! .. تمطت فريدة في جلستها، لتجاريه في لعبته، ودون استباق عاجلته بسؤالها الذي كان ينتظره من البداية:
- إذًا..؟؟ .. كانت تلك مرحلة التغيير الثانية؟؟


دلك جانب صدغه ليكثف تركيزه في تحديد الذكرى .. وببحه مميزة لائمة صفاء حدقتيه الداكنة بحزن أنيق، غمغم:
- ليس بالضبط .. أعني لا استطيع أن أحدد إذا كانت لحظة تركي للمنزل هي نقطة التحوّل .. أم أول ليلة لي هناك هي ما أحدثت التغيير بعدها؟؟ .. لا أعرف تحديدًا، كل شيء جرى سريعًا .. وكأنه حُلم تتلاحق أحداثه دون ترتيب!!


جمعت فريدة خصلاتها خلف أذنيها، ليتثنى لها رؤية أفضل .. القادم أسوأ .. تلك الجملة لا تتوقف عن القرع داخلها .. لا تريد أن تسمع حقًا، ولكن ماذا ستفعل إذا أوقفته الآن، واختلت بنفسها؟؟ .. حسنًا، الخيارات ليست كثيرة، هي تعرف، ستختلي بألمها، لا بنفسها .. فتعبها في تزايد، والشيء الوحيد الذي يساعدها على تجاهل هذا التعب هو الانغماس عن الواقع في حياة هذا البائس!! .. الأمر أشبه بالهروب من شقاء حياتك داخل أحداث فيلم لعين يحتضر كل أبطاله!! .. فذلك فقط هو الطريقة الأمثل لتخدير عقلك وجسدك .. ولو لساعة واحدة..!!


في الحقيقة، هي لا تعرف ماذا عليها أن تفعل فيما بعد!! .. كل ما يهمها، فقدان ذلك الشعور المُوحش والنفسية المُمَوهة، التي لا تنفك أن تُفاجِعها، أما في حضوره الآن، هي شبه خفيّه الآن، وهذا جيد!! .. براح من الهدوء النسبي، لا أكثر .. هذا بالأساس أكبر دوافعها لسماعه .. تعرف، واللعنة تعرف أنه في اللحظة التي سينتهي بها، سيكون عليها العودة لقواعد حياتها اللعينة!! .. الاستسلام للألم، وتذكر المعاناة .. معانقة الأرق، وانتظار الخلاص الذي لا يأتي .. وإضافة إلى كل هذا، أن تضع في الاعتبار تأثير ما تسمعه!!


وتبا له، فهذا الأسوأ!!


أرجحت فريدة رأسها بخفه فاقدة لتعبير يُسعفها، وبالكاد افترقت شفتيها بعد فترة صمت طويل لتزدر ريقها:
- حسنا، انا أنصت ..!!

تخللت اصابعه سريعًا بين خصلاته المتبعثرة، ليرفع عينه ويسألها بارتياب حثيث:
- أنتِ على ما يرام مع هذا، أليس كذلك؟!


لم يكن غافلًا عما تعانيه، جلستها المتململة على الدوام أمامه، أخبرته بأن التعب يعاودها .. لكنها استمرت في انكارها:
- قُـلت لك أنا بخير .. لا تفصل تركيزي رجاءً، وتابع!!


اختار أن يصدقها للمرة الثانية، على تعهد بأنه لم يبقا أمامهم الكثير، فالقادم رغم سوؤه، إلا أنه ليس بعيدًا عن شخصية أدهم الشاذلي التي تعرفها .. لذا دعنا ننتهي من هذا!! .. حرك عينه في مساحة الغرفة، وكأنه يبحث عن منفذ للحديث .. الحديث عن أعتم بِقاع شخصيته .. نعم عزيزتي، أنتِ الآن على وشك العبور بالجزء الأقتم سوادًا في حياتي!!

كيف صُنع أدهم الشاذلي؟!!


سمح للأمواج بالخارج أنه ترتطم داخل أُذنيه، وهو جديًا يقف حائرًا بين البوح بذلك لها، أو تضييع تلك الفرصة الجليلة، كما سبق أن فعل بالمزرعة؟؟ .. هي لا تعلم، ليس لديها فكرة عن سنوات القَسـمّ التي نذرها في حفظ ذكرى المدرسة، وما حدث خلف أسوار المدرسة!! .. لأن ما حدث خلفها، كان ولابد أن يبقا مخبأنًا خلفها .. هكذا أقسم، وهكذا تعهد .. لكنها هنا تنتظر، عيناها تطالب المزيد .. تمارس عليه أشد أنواع الضغط، دون أن تفعل شيء حقًا!، والله وحده يعلم كم يطوق لأن يلبي طلبها ذلك!! .. ربما لأنه في أعماقه، كان هذا طلبه الذي ينشد به الراحة والسكينة، من حمل هذا العبء الجاثم على صدره لسنوات .. فلينتهي الليلة، ولتذهب كل الأعباء للجحيم!!


شرع في الحديث بمجرد أن انهى المعركة المضرمة بجمجمته، ليخبرها كل شيء على صورته القبيحة:
- ذلك اليوم، حرصتُ دائمًا ألا انسى تفاصيله ابدًا؛ ربما لأنه يذكرني بهويتي الضعيفة، وكيف كنت قبل أن أصبح أدهم الشاذلي، عملاق الاقتصاد!! .. لم أبكي يوم فتح أبي لي السيارة لأفارق بيتي لأول مرة .. لم أبكي طوال الطريق، ولم أتوسل الرجوع .. بالعكس كنتُ هادئ جدًا على غير عادتي، ذلك لأني حتى آخر لحظة، ظننتُ أنه ليس جديًا، يهددني فقط كي أرضخ .. كنت طفل، ورغم كل شيء، راهنت بكل ما تبقى لدي من حبٍ له على أنه لن يفعلها أبدًا!! .. لن يخذلني!! .. وكنتُ الخاسر بالرهان؛ لأنه فعل!!


ابتسم ابتسامة حالكة، وحرك شفتيه وكأنه يستسيغ طعم الموت بجوفه .. في دهاليز عقله، تنهمر الذكرى الآن بقوة، لتضرب أعمق ما فيه .. لكنه أبى أن يغادر هذا الضعف داخله، وأكمل ضاغطًا على ندوبه بقوة، لتتفتق الواحدة تلو الأخرى .. لعلّ الدماء هذه المرة تُطهره:
- كان كل شيء مُرّتب حينما وصلنا هذا المبنى الكئيب .. بالبداية، لابد وأن تخضعي لما يُسمى بالكشف الطبي الشامل، قبل أن تُودَعيّ بغرفة اقامتك، ودعيني أخبرك بأنها كانت خبرة جيدة لطفلٍ بالعاشرة .. التعري بالكامل؛ ليتأكدوا إذا كنتُ قد خضعت لأية عمليات جراحية من قبل .. وليتأكدوا أيضًا أنني لم اخضع لـشيءٍ آخر!! .. أنتِ تعرفين، هذه الجماعة لا تقبل بالمخنثين وضحايا الاغتصاب!! .. وهذا الشعر الجميل، يتم حَلّـقُه بالكامل، مع عِدة تطعيمات .. ثم أهلًا بكِ في مصنع الرجال!!


قهقه بخفوت ليُخفي شيئًا ما خلف هذا لم تستطع تبيّنه فريدة، بينما يعيّد تهذيب شعره بعفوية .. لكن ما لبثت أن توقفت أصابعه فجأة، واندثرت هذه الضحكة من ثغرة، ليتحول لصخرة، وعينه حدقت بها بقوة .. نظرته كانت مظلمة إلى الحد الذي جعل فريدة ترتاب في أمره، وازداد تملمُلّها أمامه .. لم تعرف فيما يفكر، عينه القاتمة أخفت كل شيء .. والشكر لهذا، فما خاطر ذهنه حينها، ليس بالشيء الجيد لتعرفه .. شيئًا خبيث برأسه، يُصرّ إصرارً على عقد الروابط بين ماضيه اللعين، وما فعله به .. فعلى غِرار تلك الأيام، راودته ذكرى من نوعٍ آخر .. قبضة يده التي سبق واقتلعت جديتها آنذاك، وجردتها من كل شيئًا بعدها .. ألا يشبه هذا ما فعلوه به؟! .. الشعور ذاته ربما؟!
بربك أدهم، كم أن العقل لهو عضوٍ لعين!!


سحقًا، ها هو يرى نفسه مجددًا، يذيقها من علّقم ماضيه، وقد استنارت جذور الصِلة اللاإرادية بين كل شيء .. فقط لو كان يدرك هذا مبكرًا أكثر، لما كان هنا!!


 افاقه من غفلته على فرقعت أصابع فريدة التي بدى أنها استاءت كعادتها من تحديقه السافر بها .. سألته بعينها إذا كان هناك شيء، لينفي على الفور مشيحًا بوجهه عنها .. شحذ صوته بعدها ليبتلع أفكاره بمرارة، ومن ثم أكمل ببحه خشنة:
- منذ أول يوم، يتم تلقينك ثلاث قواعد أساسية هي الالتزام، الانضباط، والمسؤولية .. هذا ظاهريًا، لكن ما يلبث أن تكتشفي الترجمة الضمنية لهذه القواعد اللعينة .. الواحد للجميع .. السـيء جيـد .. المسؤولية هي العقاب!! .. ولِنقُل أن هذا ما لم أطيق تحمله دقيقة، وانفك زمام هدوئي الزائف، فور أن أدركت الكابوس الذي صِرت به .. أسميه هلع، صبيانية، غضب مكبوت، أو عصيان أوامر كما قِيل لي وقتها .. لكنه سيبقى أغبى شيء فعلته!!


استوقفته فريدة متسائلة باستغراب:
- ثانية قبل أن تكمل .. ماذا تعني بأن السيء جيد؟!


ابتسامه قبيحة تشكلت على محياه بينما يمرر أصابعه ببطيء متريث على شفتيه:
- ستعرفين الآن، لا تتعجلي!! .. انظري، هذه المدرسة لا يدخلها سوى فئتين؛ الأولى، وهم أنجال القادة والضباط الحربيين .. فكما أخبرتك، هي مصنع الرجال، هدفها الوحيد تخريج أجيال، كل واحدٍ منهم يصلح أن يكون جيشًا بمفرده!! .. وغالبًا، أصحاب هذا النوع يلتحقون تطوعًا، وفق إرادتهم الحرة، واقتداءً ببطولات العائلة العريقة .. وبالطبع لم يكن هذا حالي؛ لأنني -وبكل فخر- كنتُ انتمي للفئة الثانية .. فئة السيئين والمغضوب عليهم .. وإذا سبق وأسميتي ما فعلته معك بـ(غسيل المخ)، فانظري كيف يتم عن حق!!


تجهمت ملامح فريدة على الفور باغتمام مسبق، ليعاجلها أدهم بنبرة متهكمة:
- قبل أن يذهب ذهنك بعيدًا، لم يفعلوا بي شيء، لم أُعَرّض للضرب ولم يلمسني أحد بأي شكلٍ من الأشكال .. لم يكن اسلوبهم في العقاب على كل حال، بل كان لديهم أساليب أخرى أكثر فاعلية من ذلك!! .. وصدقًا، كانوا رحماءً معي، واستخدموا أكثرها رقة..!!


We're not in love
نحن لسنا واقعين في الحب
We share no stories
نحن لا نتشارك القصص
Just something in your eyes
مجرد شيء ما في عينيك
Don't be afraid
لا تخف
The shadows know me
فالظلال تعرفني


Let's leave the world behind
دعنا نترك هذا العالم ورائنا
Take me through the night
خذني خلال الليل
Fall into the dark side
لنسقط في الجانب المظلم


Beneath the sky
تحت السماء
As black as diamonds
انها سوداء كالألماس
We're running out of time
الوقت ينفذ منا
Don't wait for truth
لا تنتظر الحقيقة
To come and blind us
كي تأتي وتعمينا


Believe it
أنا اصدق هذا
I see it
انا أرى هذا
I know that you can feel it
أعلم أنك تستطيع الشعور به
No secrets worth keeping
لا يوجد أسرار تستحق الاحتفاظ بها


So fool me like I'm dreaming
لذا اخدعني كأنني أحلم
Take me through the night
خذني خلال الليل
Fall into the dark side
وأسقط في الجانب المظلم
❈-❈-❈

يتبع