NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الخامس عشر (الجزء الثاني)
الفصل الخامس عشر ج2
تعال..
بكل جروحك
بكل امرأة أحببتها
وكل كذبة كذبتها
بكل ما يقلقك ليلًا
بكل فم لكمته
وكل دم تذوقته
وكل عدو صنعته
بكل من دفنتهم من عائلتك
بكل فعل قذر ارتكبته
بكل شراب أحرق جوفك
وكل صباح استيقظت فيه وحيدًا بلا هدف
تعال بخسارتك
وندمك
وخطاياك
وذكرياتك
وأسرارك
تعال بعارك كله..
تعال بقلبك المثقل
فأنا لم أر أبدًا من هو أجمل منكَ..!
-وارسان شاير-
•¤•¤•¤•
- خُذه إلى غرفة التأديب!! .. ربما يفهم أين هو!!
هكذا أمـر أحد المسؤولين بصياح خشن، ليفزع أدهم وأحد العساكر يسوّقه من ذراعه بالقوة .. صرخ، عافر، وتمزقت أحباله الصوتية من الصراخ .. كان شيء جنوني بالنسبة له .. وكل ما علّق على لسانه ويردده بهستيرية فاجعة:
- أين أبي؟! .. دعني، أريد أبي .. أين ذهب وتركني؟! .. أبي..!
وهل ظن أنه سيستميل قلب أحدهم له؟!
الحقيقة، لم يكترث لأفعاله الصبيانية أحد، ولم تتحرك له رفة جفن، وكأن الصدمة التي يُعانيها هي أكثر شيء طبيعي في الكون .. كيف لا، وهذه الحالة شبه متكررة مع حديثي السن أمثاله، خاصة ممَن يوّدعون رغمًا عنهم، أو رغبةً في تهذيبهم وتحويلهم لرجال عن حق!! .. حسنًا، أولئك هم بالأصل المَعنيّون بالتوصية في المعاملة الأمثل!! .. لذلك مرة أخرى، لم يُعيّره أحد أي لعنة، وكل ما حصل عليه في المقابل، عدة دفعات غليظة مُدججة بعبارات فظة يسمعها لأول مرة!!
كان كل شيء هنا يعيشه لأول مرة .. وهنا تكمن المعاناة!!
ومع آخر دفعة تلقاها، وكادت تُبرحه أرضًا، لم يدري أين هو إلا وباب حديدي مصقول يُغلق عليه .. لتبدأ أولى لعناته!!
ليلة .. كانت ليلة واحدة فقط، ولكنها أبادت بجفاوة كل شيء عاشه قبلها!! .. ذلك لأن ما حملته في كل ثانية منها، فاق وتخطى عمره كله!! .. وأين عمره هذا؟! .. أنها فقط عشرة سنوات يحملها، لم ير بهم شيئًا كهذا!! .. صحيح، قد خاض ما هو مرير، وربما يكون قد ظن أنه الأسوأ، لكن تلك الليلة أثبتت أن مازال أمامه المزيد .. ليعلم أن السيء ليس له حدود!!
تلك الليلة كانت غيّر بكل الأحوال!!
أن تُولد كـطفلٍ وحيد، وتنشأ في بيت يعُج بالرفاهية، بالتأكيد ستكون غرفة مظلمة لا تعرف ما يُسمى بالنافذة، ألفت جدرانها الرطوبة، وأدفئت أركانها الجرذان، لهي بيئة قاتلة بالنسبة لك!!
بل هي التعريف الإجرائي للموت!!
وقد كانت كذلك بالنسبة له .. فبذلك السرير القديم، تكنف الصغير على نفسه، وبمرور بضع ساعات، كان قد تحول بُكاؤه إلى نواح وتضرع لمَن له الأمر .. ثم ما لبث أن أخذ منحنى هابط نحو الإعياء، وقد انهكت بدنه الشهقات، ليسقط بعدها في عِدة غفوات متقطعة، انتهت جميعها بالكوابيس والفزع اللانهائي!! .. خاصة، وصرير تلك الجرذان لم يتوقف أبدًا عن بث الرعب ببدنه، وخياله يتحيّن بين لحظة وأخرى انقضاض أحد تلك الأشياء عليه لتفتك به .. وشيئًا فشيء، كان يفقد أنفاسه بين هذا الجو المقبض .. بل يفقد شيئًا أكبر من هذا..
كان يشهد احتضار الطفل الذي بداخله!!
وانقضت الليلة .. ومـر من بعدها يومٍ كامل، ولم يسأل أحدًا به!! .. كان يسمع أصواتهم وهم يعبرون بابه، دون أن يلتفتوا له، رغم صوته الذي تمزق من التضرع لهم والتوسل المدمغ ببكاء جاف، إلا أن كل ما حصده، لا شيء!! .. لم يجبه أحد، وكأن صراخه لم يشق صرير أذنهم .. وكأنه غير مرئ .. ليس له وجود!! .. أجل، أحسنت التعبير، هذه هي الرسالة التي سعوا لإيصالها له..
"أنت غير موجود .. أنت لا شئ!!"
أوليس هو كذلك؟! .. متى آخر مرة كان بها موجود أو مرئ من أحد؟؟ .. ليس من قريب حسبما يتذكر .. لم يكن شيئًا لأباه، ليست بعد دخول سمر بحياتهم، فها هو قد ألقاه بالجحيم ورحل ولم يعبئ، وكأنه وجد حُجته أخيرًا ليتخلص منه ويتفرغ لزوجته وطفلته الجديدة!! .. تركه هنا وبالتأكيد كان يعلم أي مصير سيلقى، ولم يلتفت خلفه!! .. لم يعد له قيمة لديه، لم يعد له مكان، ولم يعد يستحق الحب .. هذا لم يخذله فقط، قد ذبحه!!
أي حب هذا كان يحمله له؟؟ .. وأي حب راهنت أنت أدهم عليه؟!
مريم، أجل، هي آخر شخص كان يراه ويشعره بوجوده .. لكنها لم تعد موجودة، وعلى الأغلب لن تعرف أين هو .. كيف لها أن تعرف وقد عمل والده على ترتيب كل شيء وإبعادها من البداية، لذلك ليست بحلٍ محتمل لمعضلته، والده سلبه هذا أيضًا .. لذلك، لم يبقى له بالنهاية سوى "نور" .. من وقت فقدها، وقد أُظلمت حياته ولم يعد يراه أحد!!
هذا هو الشعور الذي ترسخ بداخله، لذا أين أنتِ نور، وأين الدفء الذي كنتِ تحمليه ليبدد ما أستشعره برد .. برد يرج عظامي من الخارج، وبرد آخر يعتصرني بالداخل .. وهو الأسوأ!!
نعم، بالوقت الذي من البديهي أن يشتهي أي طفل موضعه، طعام أو شربة ماء .. أشتهى هو حُضنها، وهلّوس بدفئه .. صار أقصى أمنياته أن يعود فراشه الصغير، وذراعيها تلفه من الخلف بالأمان .. أين الأمان، وأين صار هو؟! .. ليل أم نهار، لم يعد يدرك، فقد حِسه بالوقت .. الوقت الذي اعتاد أن يلهو به بالخارج كيفما يشاء، وسط رفقته بين هزل وأشياء سخيفة .. بلى، بدى له كل هذا منتهى السخف أمام ما يعانيه الحين .. الحرمان من كل ما كان يملكه بوفرة مترفة، جعله يتحسر حتى على أبسط الأشياء!!
وليس هذا فقط، بل خُيل إليه أن أيام العاهرة جحيم العاهرة لم يكن شيئًا أمام كل هذا .. بل كان نعيم خالص .. تمنى بصدق أن يُفتح الباب بأي لحظة، ويدخل والده ليخلصه من كل هذا، وتعهد له في رأسه كثيرًا أنه لن أشتكي عاهرته أبدًا .. لن يفعل ما يغضبه، لن يعصيه مجددًا، فقط يعيده للبيت!! .. ليس بالضروري أنت تكون نور هناك، يعرف جيدًا هي لن تعود، لا مزيد من الولّدنة .. تكفي مريم .. البيت ومريم فقط، ولن يُسمع له صوت بعدها .. لن يعترض مجددًا على شيء تفعله سمر، لو كان هذا العقاب الذي خبأه له، فها هو قد تعلم الدرس ولن يعيدها .. لا مزيد من الهرج، وحركات الانفلات .. لا سرقة، لا خمور، ولا سجائر .. سيعود لسالف عهده، أدهم الولد المهذب .. لقد حفظ الدرس، وأقسم على هذا بحياته!!
حياته التي يشعر بها تتسرب من جسده الآن .. إلى متى سيتحمل؟؟ .. لن يتحمل، لن يصمد طويلًا، كان ضعيفًا جدًا لينجو في بيئة مميتة كهذه .. لذلك، أجل، سيموت، وهذا الجيد بالأمر .. حينها، ستنتهي عنه كل الآلام، وسيذهب هو عندها .. عند "نور"..
لكن كم سيستغرق هذا؟!
وفي غمرة هواجس عقله الصغير، تحقق حُلمه وفُتح الباب، لكن لم يدخل منه والده كما تمنى .. بل كان شخصًا آخر، شخصًا لم يستطع تبين ملامحه بسبب انعدام الضوء، وحتى لو كان هناك ضوء، فهزال جسده كافي ليعميه .. لكنه أنصت جيدًا لحركته حوله، بالأخص عندما توقف على مقربة من فراشه، ليصله صوته الأجش من هذا المستوى:
- كيف حالك أيها الصغير اليوم؟؟ .. "أدهم"، أليس كذلك؟! .. تأديب من أول يومٍ لك، أدهم؟! .. أتمنى أن تكون قد نفعك هذا وكبرت قليلًا لتفهم أين أنت!! .. بالمناسبة، هل تريد أن تخرج، أم أحببت غرفتك هنا؟؟
❈-❈-❈
- ومن كان هذا؟؟
بنبرة جاهدت لتخرج بحروف سليمة، طرحت فريدة سؤالها، وهي تتوجس الإجابة .. صارت متيقنة الآن، هي لا تريد أن تعرف .. شيئًا يعبث بداخلها الآن تضامنًا مع كل كلمة تخرج من فمه، ليستدعي أنينٍ جارف من أعماقها، وها هي روحها تسبح في تياره من جديد!! .. شعور مُدبب بالألفة لكل ما يحكي، فيُغلف ذاكرتها وكأنها شاركته ما حدث .. وكأنها كانت هناك، خاضت التجربة ذاتها .. الأمر كان غريب حقا لها، ولا تجد له تفسير سوى انها على الأغلب بدأت تنفصل ذهنيًا عن الواقع، ذاكرتها تخونها وتعبث معها .. كل إدراكها الآن يتداخل، وينسج الأوهام كيفما يشاء، ليخلق لها فيلمها الأخير، قبل انقطاع البث!!
- القائد..
زفرها أدهم، ليُفرج بعدها عن تنهيدة سقيمة تُسمم صدره، ومن ثم أراح رأسه إلى مسند الاريكة بالخلف ساهمًا بنظره للأعلى وهو يستطرد بوجهٍ مُثقل بقيود الماضي:
- هكذا كان يدعوه الجميع .. كان قائد المدرسة ومديرها والمسؤول عنها .. المسؤول عنا جميعًا .. يمكنك القول أنه كان أبـًا لنا جميعًا .. طوال فترتي هناك نادرًا ما وجدت أحد يدعوه باسمه الأول، "تميم" .. فقط القائد، حتى أني من سذاجتي المفرطة بالبداية خِلتُ أن هذا هو اسمه!!
حاولت فريدة خنق قهقه ليست بوقتها، لكنها فشلت .. شرّ البلاء ما يُضحك حقًا!! .. هزت رأسها بسخرية، في حين وَارَى هو زفير مهموم خرج من جوفه بضحكة استخفاف، تخلل بعدها هِيـّنة من الوقت، قبل أن يستفيض بما لديه عن هذا:
- هو الوحيد الذي عاملني بلطف آنذاك .. أمر حينها بنقلي لواحدة من غُرف السكن والاعتناء بي .. وللحق، كانت جيدة، ليست كغرفتي بالقصر بالتأكيد، ولكن مجرّد مقارنتها بغرفة التأديب تكفي لأراها كالجنة، إلا أنها كانت تحوي عيبًا واحد، سريرٍ آخر فارغ أثار رَيبَتِي لأول مرة .. وعرفتُ فيما بعد، أن نظام السكن هناك مزدوج، ومن غير المسموح قطّ أن ينفرد أحدنا بغرفة كاملة وحده، ولاحقًا سأخبرك عن المقصد وراء هذا!! .. ولذا نقلي لغرفه بمفردي يُعد امتياز لم ينبغي للكثير، وحصلت عليه انا في مقابل تلك الليلة المريرة .. هذا ما ظل يُلّوح له مَن قاموا بنقلي، وبالتالي حريٌا بي أن أكون ممنونً لمَن حبسني بيومي الأول!! .. خاصة بعد أن استدعى القائد المسؤول عن حبسي ووبخه بطريقة مُهينة لرتبته أمامي وكل مَن كان شاهدًا على الواقعة .. وبصباح اليوم التالي استدعاني لمكتبه الخاص، وطلب لنا الفطور سويًا، وفيما بعد، عمل على تلقيني أول دروسي في مدرستي الجديدة.. والتي أشيّد بأنها تختلف البتّة عما سبق وتعلمته في مدرستي القديمة !! .. الحقيقة هي تختلف عن أي شيئًا قد تعلمته في حياتي!!
❈-❈-❈
- أدخل، أدهم، واغلق الباب خلفك!!
هكذا أمره القائد من خلف مكتبه فور أن طرق الباب بحِيّطة شديدة .. ثم رفع هاتف المكتب وضغط رقم واحد، ليأمر مجددًا بصوتٍ أكثر صرامة:
- احضر الفطور لفردين حالًا!!
ورمق الصغير الذي اتخذ لنفسه مكانًا بالأريكة المقابلة له بنظرة تقييمية ليضيف:
- من خزانتي الخاصة، لا تنسِ..!
أغلق الهاتف ما إن فرغ من أوامره، ليصب اهتمامه على أدهم:
- ما رأيك أدهم؟؟ .. أول فطور لك هنا سيكون معي، لا تستهن بهذا، ففطور القائد لا يُعلى عليه!!
أنهى جملته بمزاح وهو يغمز للصبي بعينه ذو الزُمرة الزرقاء الزجاجية، إلا أن هذا لم يحرك ساكنًا في ملامح الآخر .. فمازالت تلك النظرة التي وجدها عليه تحتله منذ الأمس .. حتى بعد أن أمر بنقله إلى إحدى غرف السكن، وتم الاعتناء به واستدعاء طبيب المُجمع من أجله .. لكن كل هذا لم ينجح قطّ في مداواة التصدّع التي ترسخ داخله!!
نظرة عينه المنكسرة لم تكن لتليق مطلقا بطفلٍ لم يبلغ الحادية عشر بعد!!
حك القائد ذقنه الحليقة إلا من شارب داكن منمق، قبل أن يحاول مجددًا استقطاب أي تفاعل معه .. بحنكته وسنوات خبرته هنا يعلم ما يمر به، ويعلم أيضًا ما عليه فعله بهذه الحالة .. لذا شرع في سؤاله باهتمام حقيقي:
- أخبرني.. هل نمت جيدًا بالأمس؟ .. أعجبتك غرفتك؟ .. هناك أي شيء تحتاجه؟ .. لا تخف أدهم، سأتكفل بهذا! .. ما حدث بالأمس كان خطأ، ومَن أخطأ أخذ عقابه كما رأيت، لن يتكرر هذا، أعدك!! .. وبالمناسبة، لقد اوصيت لكِ بهذه الغرفة وحدك كترضية مني عما حدث، ولا تقلق، لن تحصل على شريكًا بها قبل أن تألف المكان .. لكن لا اضمن لك هذا طويلًا، فها أنت ترى، كل يوم لدينا وافدًا جديدًا .. لذا عليك أن تكون أكثر تفاعلًا وتعاونًا من هذا!!
ضغط على الحروف الأخيرة من الجملة بنظرة عين مُحمّلة بتنبيه ضمني، لكن أدهم كان بعيدًا جدًا ليلتقطه .. فبمشقة أمكنه أن يومئ له بامتثال دون حديث، وهذا لم يعجب الآخر وهذه المرة جعل التنبيه مباشر بنبرة هدوءها مزيف:
- استخدم الكلمات، أدهم .. لا أجيد التعامل بالإيماءات!!
ابتلع الصغير ريقه بوجلّ خافت، فذلك فاجئه بكل الأحوال:
- شكرًا لك، لا أظنني أحتاج شيئًا..!
منحه القائد نظرة استحسان، قبل أن يُطرق الباب، فأشار لأدهم أن يقترب ويتخذ مقعدًا مقابل له على المكتب .. ثم أذن للطارق بالدخول، فكان عسكري يحمل صينية طعام وضعها بصمت ثم انتصب في وقفته مؤديًا التحية العسكرية بصرامة قبل أن ينصرف .. وهذا فقط أوجلّ الصبي أكثر، أي حركة من هؤلاء العساكر أصبحت تصيب معدته بالاضطراب وتعيده لحالته السيئة .. ليس فقط الاشخاص، بل الجو السائد بالمكان، والرائحة التي تفوح منه، كل هذا يصوّره كالقبر في عينه .. فقط يتمنى ألا يطول مكوثه هنا، لا يريد أن يتحول يومًا لتلك الآلات المتحركة، بضغطة زِر من صاحبها تفعل ما تريد!!
- الواحد للجميع..!
بادره القائد بهذه الجملة التي سبق وأن سمع الطلاب القدامى يتهامسون بها في طابور الصف الأول، ولم يسعه الصبر لأن يفقه معناها .. وها هو يسمعها من جديد لتستفز داخله شعور غير محبب، لكن هذه المرة كان مصاحبًا لها قطعة خبز شطرها القائد بينهما، ثم منحه أحدهم مردفًا بود:
- كُـلّ ولا تخجل!! .. هذا تقليد لدينا أدهم لابد أن تتعلمه قبل أي شيء!! .. هنا نتقاسم الطعام معًا .. نتقاسم كل شيءٍ معًا، لأن جميعنا واحد!! .. أنت وسط عائلتك الجديدة الآن .. تلك الجملة تعني هذا .. الواحد للجميع والجميع للواحد .. هيا كُل، ورددها!!
حسنًا، أهذا ما تعنيه فقط؟! .. كم الغرابة التي ترسبت داخله لا يمكن وصفها .. عائلة؟! .. أي عائلة؟؟ .. ما هذا الجنون!! هو لديه عائلة بالفعل!! .. لكن أين هي عائلته بحق الجحيم؟!
ابتلع ريقه بصعوبة؛ فحلّقُه لازال يؤلمه بعد حرمانه من الطعام والشراب لأكثر من 28 ساعة .. وقطعة خبز ليست بالخيار الأمثل له كفطور، لكن لسببٍ لا يعرفه، وجد نفسه يتقبلها منه ويتناولها مرددًا تلك الجملة الغريبة .. ربما لِلطف الآخر معه حتى الآن!!
ابتسامة رضا ارتسمت على محيا القائد وهو يربت على يده الصغيرة التي يلتقم بها قطعة الخبز ببطيء وعلى دفعات .. وعلى هذا المنوال، شرع في تبادل الطعام معه حتى تسربت الألفة داخل صدره وبدأ يتصرف بأريحية جعلته يفكر بقليل من الأمل مجددًا .. فحينما تحدث القائد الآن عن غرفته ومشاركة أحدهم له، وأن عليه الاعتياد مع هذا، شعر بأن كل هذا الهراء بالنسبة له كابوس آخر يتوعده .. كان ساكنًا، نعم، لكن عقله لم يتوقف ابدًا عن التفكير في طريقة يغادر بها الجحيم الأكبر المسمى بالمدرسة العسكرية!!
عينه الباهتة كانت تتفحص المكان حوله باستغراب جليل، وكأنه يفتش عن مخرج .. ولم يجد خيرًا من هذا الغريب الذي ظهر له من العدم أمس وأوقف معاناته بمحضّ كلمة .. كان ينظر له وكأنه منقذه، فهو الشخص الوحيد الذي تلقى منه معاملة حسنة، لذلك كان يرمقه بامتنان .. وبالمقابل، يفيض بالحقد والغضب على والده أكثر .. ذهنه لا ينفك عن طرح هذا منذ ان استعاد عافيته .. فكرة أن الذي أخرجه من هناك لم يكن والده .. الذي أنقذه لم يكن والده .. الذي أعاد له أمنه لم يكن والده .. والده ليس هنا، وليس بقريب أن يكون هنا .. لذا اعتمد على نفسك، وفكر في حلٍ آخر وحدك .. وكُن ممنونًا فقط للشخص الذي أنقذك، وحاول أن تستغل هذا لصالحك!!
توقف عن الطعام مُعربًا عن اكتفاءه فور أن هداه عقله لهذه الفكرة .. فسأله القائد باستغراب:
- هل هذا كل ما يمكنك آكله؟!
- نعم..
اجابه أدهم على استحياء وهو يمسح فمه بواحد من المحارم أمامه .. فعقب القائد بنبرة غير راضية:
- لن ينفع هذا .. لابد أن تهتم بوجبتك أكثر .. لأن ستحتاج لبنية جسد قوية حتى تتحمل التدريبات اليومية .. لديك ثلاثة فقرات تدريبة يوميًا، إضافة لليوم الدراسي المعتاد، خذ الأمر بجدية!!
انبسطت شفتي أدهم بالكاد لتشكل ابتسامة لتغطي على التوتر والخوف الذي انبثق داخله بينما يؤّمن على كلامه .. لحظة، ولم يمكنه أن يحتوى هذا التوتر أكثر حتى ظهر جليًا على ملامحه وفركه الطفولي لأصابع يده .. فتنبأ القائد بما لديه:
- أخبرني ماذا تريد ادهم؟؟ .. تحدث دون خجل .. أنت رجل، والرجال لا تخجل!!
تبا لِحظُه!! .. تلك الكلمة اللعينة تطارده مجددًا!! .. كان مَطلّع غير مبشر مطلقًا، إلا أنه تغافل عن هذا وسارع بما لديه تعشمًا بالآخر .. عسى أن تفلح معه لمرة!!
بلل شفتيه معًا، واستجمع كلمته متمتمًا بتردد خافت:
- أريد أن اا .. أقصد هل يمكن أهاتف بابا؟؟
لفظ كلماته دفعه واحدة بسرعة وهو يرمق القائد بترقب وأمل عتيّد .. ليرتجع الأخير في كرسيه وينبسط في جلسته أكثر، ومضت ثواني لم يفعل بهذا شيء سوى التحديق مطولًا في الصغير وعينه مرتكزه عليه بطريقة أوجسته .. قبل أن يسأله ببساطة:
- ماذا تريد أن تسأله؟؟
رن الصمت داخل الصبي فلم يتوقع هذا الرد، فحاول مرة أخرى أن يلتف حول السؤال .. فقد كان يحتاج بشدة لأن ينجح في هذا، علّه بنجح بعدها في استجداء والده كي يأتي ويخرجه من هذا السجن:
- أحتاج منه شيء..
- ما هو؟؟
جاءه السؤال صارم مباشر، وذو لهجة آمره .. فبلحظة تلبكت الأجواء من حوله وبدأ يتأتأ في الحديث:
- آمم .. ألا يمكنني اخباره بنفسي .. في الهاتف؟!
- لا !!
رمى له الكلمة بنبرة قاطعة وجافة قبل أن يضيف موضحًا:
- ألم يخبرك أحد أنه غير مسموح بمكالمات أو زيارات خلال الفترة التمهيدية، إلا في أضيق الحدود؟؟ .. ومن خلالنا!! .. يعني لابد أن أعرف هذا الشيء الذي تحتاجه منه أولًا، ثم أقرر إن كان يستحق أن أجرى لك مكالمة لأجله!! .. هاه، ماذا تحتاج؟؟ .. أخبرني، قد أوفره لك، دون أن نزعج والدك!!
تحدث بهدوء شديد وهو يدلك قصبة أنفه المستقيم مرارًا وتكرارًا بحركة عصبية ازدادت حينما لم يصله رد من أدهم، الذي شحبت ملامحه أكثر وفاض وجهه بالعرق:
- أدهم .. هل انصت لما أملّيته عليك في بداية طعامنا؟
- بلى.. ان..
انتصب بوقفته فجأةً، وقد اندثرت ملامحه اللطيفة وأخذت طور متجهم غير مسبوق:
- لا .. لم تكن مُنصت!! .. ويبدو كذلك أن تلك الليلة لم تكن مجدية .. لذا دعنا نحاول مجددًا بطريقة أخرى!!
تقارعت دفقت قلبه الصغير ما إن استشعر الخطر في تحول لهجة الحديث .. لم يسعه الوقت ليفهم فبسرعة مربكة، الّتف القائد حول المكتب ليصبح خلف كرسيه، جرب أدهم حينها أن يستدير له لكن الآخر كان ثبته في موضعه بثقل يديه التي وضعها على كتفيه بطريقة ضاغطه مستدعية للألم .. ومن ثم هسهس فوق رأسه بنبرة جافة مُحتدة:
- انصت لي هذه المرة أدهم، لأنك إذا نسيت حرفًا مما ستسمعه، صدقني عقابي سيكون أسوأ من غرفة التأديب، فانا أكره أن أكرر كلامي، وأكره الاغبياء!! .. وعندما رأيتك توسمت فيك أنك فتى ذكي، لذا لا تخيب ظني!! .. ها؟!
حلقه أُقّحَت، لا يُمرّئ به ذرة لعاب تُرطب الفزع الذي يندلع داخل صدره .. كان أمانًا واهيًا، زائف!، مع أول رجاءً منه تبخر، ولم يبق منه سوى الحقيقة!! .. حقيقة أنك أصبحت وحدك أدهم، فماذا أنت بفاعل؟!
بعقلٍ ينقسم من قساوة ما يسمع، والأفظع أن عليه تقبله أن هذا واقعه، حاضره، ومستقبله أيضًا!! .. لا فكاك منه، سيحيّق به أيّان فعل!! .. صوته المُرهب يصله من موضع تهديد، وكأنه يزلزل كيانه، يُعرّيه من الداخل، ويُجرّده من أي أحقيه في الحياة!! .. بل ينتزع منه الحياة .. كان الفزع داخله أكبر من أن يتم تحجيمه، ذلك لأنه كان كالتنور، يفور فتصل نيرانه عنان ما طالت .. إلا أن ثمة شيء جديد قد طرق على ملامحه .. ملامحه فشلت هذه المرة في محاكاة ما يعتريه .. ملامحه كانت ميتة، شاحبة بمبالغة، انقسمت شقان فلا تصف شيء!! .. لنكن أكثر دقة، العفوية هي الشيء الذي مات!! .. ماتت أمس رفقة احتضار الطفل الصغير بداخله، لتترك لديه محضّ ذات مزيفة حديثة الولادة .. صفحة بيضاء لم يُخط بها من قبل، وها هي جاهزة لتمتلئ بـأيّما شاء صاحب الأمر!!
ولم يكن القائد بمعزل عن رؤية جليًا، بالعكس، كل شيء كان يسير وفق خطة محكمة من البداية .. والحين، سيضع قالب آخر في بناء أعظم انجاز سيفتخر به لاحقا في حياته .. انحنى عليه أكثر حتى صارت الكلمات تنفذ كالرصاص بأذن الصغير:
- لمّا دعوتك اليوم لتتناول معي الفطور رغبتُ أن أكرم معاملتك كرجل، كصديق، وليس كطفل مازال متشبث بسخافة بأبيه ويتأمل قدومه حتى بعد ما عاناه تلك الليلة!! .. للمرة الثانية، بُني، نحن عائلتك هنا، ولا عائلة لك سوانا!! .. لا يوجد بابا، لا يوجد ماما، ولا يوجد نانيّ (جليسة) تحكي لك حكايات ما قبل النوم!! .. انضج، ودعك من النواح كالفتيات لأنه لن يفلح هنا، وأنت رأيت هذا بعينك!! .. إذا كنت ذكي ونفذت هذا، أعدك، ستمضي فترتك بيننا في سلام، وستجد منا فوق ما تتمناه .. أما إذا عُدت للتصرفات الولوديَّة المقيتة، فصدقني حتى أبيك الذي لازلت متشبثًا به، لن يفعل لك شيئًا!! .. هل تعلم لماذا، أدهم؟؟ .. لأنه بالأساس قد جلبك هنا لأجل هذا السبب .. أن نصنع منك رجلًا، بطريقتنا التي يعلمها، فلا تظن أنه جاهل بما يحدث هنا!! .. هنا، لا يوجد سوى الرجال!! .. ضعها بعقلك جيدًا!! .. لذا سواء رغبت أم لا، فأنت أصبحت واحدًا منا .. ويوجد طريقتان لتقبل هذه الحقيقة، إما بالحُسنى، أو بالمهانة .. لأن مَن ليس منا، سيكون عدونا بالتأكيد، ونحن لا نتهاون مع عدو!! .. أفهمت هذا؟؟
صمت الضجيج داخله بنفس اللحظة التي انهى بها القائد كلمته، وكأنه عاد لواقعه اللعين من جديد .. خامره هذا الشعور، لم يكن هو الذي يجلس أسفل ذلك الضغط التي يمارس بقوة 2 رطل من العضلات على اكتافه الواهية .. لا، ليس هو!! .. أدهم، الذي يعرفه، يقف الآن بمكان بعيد تمامًا عن هنا .. بعيد وآمن كفاية ليسمح له بمشاهدة كل هذا والخوض داخل الألم، دون أن يتألم!! .. ما يحدث له، يحدث للآخر .. وكأنه يشاهد هذا من خلف شاشة تلفاز .. بل من خلف زجاجٍ آمن، زجاج على ما يبدو أنه سيكون بيته الجديد!!
بيته وملجأه الوحيد الذي سمحوا له بالمكوث به!!
إلا أن جملة واحدة نجحت في النفاذ من هذا الزجاج، فتصيب موضع الصغير الواقف هناك، لتنتزع منه دمعة قهر كانت آخر ما بحوزته ..
"لا تظن أنه جاهل بما يحدث هنا!!"
صحيح .. هذا صحيح .. هذا كان جليًا للأعمى، لكنه كان أغبي من أن يسلم بهذه الحقيقة، لأنه كما وصفه القائد .. طفل أحمق، بطيء الفهم .. لذلك جديرًا به ما يحصده الآن!! .. هز رأسه بعدم اهتمام كإجابة على الحديث السابق .. فزجره الأمر الخشن على الفور:
- الكلمات، أدهم .. أسمعني صوتك!!
ابتلع الحنظل في فمه بصدرٍ رحب هذه المرة وهو يجيب:
- أجل، فهمت!!
ربت الآخر بقوة على كتفه وقد عتقه أخيرًا من حِمل عضديه الغِلاظ، ثم استدار ليجلس بالكرسي المقابل له وهو يضع ساقًا على أخرى، إلا أن تعابيره أخذت بسطة من التساهل، وكأنه أتمّ مهمة ما:
- جيد .. الآن نأتي للجزء الخاص بقواعد ونظام المدرسة .. أهم قاعدة هنا؛ ما يحدث خلف أسوار المدرسة يبقى بالمدرسة .. يعني أنت أولاً ستقضي فترة إعداد لمدة 45 يوم قبل أول إجازة تقضيها في بيتك، وفيما بعد سيُسمح لك بإجازة اسبوعية .. ولا أحتاج أن أخبرك، أنه من المحظور تمامًا الافصاح عن أي شيء يتم هنا، سواء شيء تعلمته أو يحدث هنا!! .. فليس هناك أحد يُفشي أسرار عائلته، أليس كذلك أدهم؟؟ .. هذا ما يُسمى بالانتماء، طالما أصبحت واحدًا مِنا، فعليك الالتزام بواجبك تجاه العائلة، حمايتها وحماية أسرارها كأي رجل ذو بأس .. الواحد للجميع، أم نسيت؟! .. انتمائك لابد أن يكون لعائلتك، وعائلتك بالتأكيد هي نحن!! .. يعني عليك أن تفكر في مصلحة الجميع .. ولا تمدّ عيناك بعيدًا عنا .. وأن تنصت فقط لما يُطلب منك أدهم، وليس عليك أن تجيب سوى بثلاثة كلمات .. (حاضر .. عُلِم .. يُنفذ) .. وأي اخفاق سيصدر منك، لا تلم سوى نفسك!! .. هل هناك شيئا غير واضح؟؟
هذه المرة لم يأخذ وقتًا في الإجابة كالمرة السابقة، بل علم ما عليه قوله الآن، وإلى أمد ليس بقصير .. رددها بشكل آلي، وعقلًا غائب:
- بلى .. فهمت كل شيء!!
شمله القائد بنظرة تفوح منها الارتياب وكأنه يمسح عقله من الداخل، قبل أن يعطيه نظرة فيما يعني "ليس سيء .. لا بأس" .. ثم حك ذقنه ونهض من جديد يشد حزام خصره لأعلى، قبل أن يعود لمقعده خلف المكتب متحدثًا دون أن ينظر له:
- يمكنك أن تنصرف الآن .. لديك بقية اليوم إجازة، ومن الغد ستبدأ دوامك الدراسي والعسكري مع دفعتك!! .. باقي التعليمات ستعرفها من (الصول) المسؤول عن توزيعك!!
- حاضر!!
هكذا نجا بنفسه من يومٍ لعينٍ آخر .. ورغم صِغر سِنه آنذاك، إلا أنه أقسم إذا تمكن من النجاة من ذلك السجن المسمى بالمدرسة، لن يسمح لأحدٍ أن يقم بإذلاله على هذا النحو مجددًا!!
هذا ظل يردد بين جانبيات نفسه حتى لا ينهار أمامها أيضًا، إلا أن صوت ذلك البغيض أبىَّ أن يسمح بهذا، عندما أوقفه على عتبة الباب يحذره وكأنه يعلم بما يدور في خُلده:
- أدهم .. أتمنى ألا تخنث بوعدك معي، لا أضمن لك أن تراني حينها بهذا اللطف!!
❈-❈-❈
تأملها لدقيقة كاملة يتذوق تلك اللحظة التي وافقت بها .. أخيرًا، تم ما أراده .. وأخيرًا فريدة أصبحتِ ملكي!! .. أمسك بقلمه ووقع تحت الطرف الأول من العقد، ثم أداره جهتها، وسلمها القلم، فالتقطته منه بيد مترددة مرتجفة .. تعلقت عينها بعينه، قبل أن تنظر للعقد وتفحصه بعدما أعاد كتابته علي باحتراف، وغيّر لقبُها الثاني من "المهدي" إلى "الشاذلي" .. تأكدت من أن الشروط التي وضعتها لازالت مكتوبه بنفس الصياغة، ومن ثم نزلت بالقلم الي خانة الطرف الثاني، وبيدٍ مرتعشة وأنفاس مكتومة، خطت اسمها .. ثم سلمت له الورقة، ولم تفُـتّها نظرة الانتصار التي ومضت بعينه!!
تسلم أدهم منها الورقة ثم طواها ووضعها بجيب سترته، وهو ينتشي من السعادة التي تسري بداخله ويكافح ليُخفيها .. قام حتي أصبح أمام كرسيها فرفعت رأسها لتتأمله وهو يضع يديه في جيوبه، متحدثًا بصوتٍ رجولي رخيم:
- أعلمي فريدة، أنكِ من الآن أصبحتِ لا تملكين في نفسك شيئًا!! .. أنتِ بالكامل صرتِ ملكًا لي!! .. كل إنش بجسدك، كل ذرة تفكير بعقلك، كل نفس تأخذيه، وكل نبض يهدر بقلبك أصبح ملكًا لي!! .. لي وحدي!! .. وأعلمي أيضًا، أنكِ من هذه اللحظة قد وُلدتِ من جديد، وعلي يدي، لا أريد لأي شيئًا قد تعلمتيه بالماضي أن يزعجنا من الآن .. أريدكِ أن تتعلمي وتعرفي فقط ما أراه مناسبًا .. يجب أن تتعودي أن تري بعيني، وتفكري بما أريده، وتسمعي ما آمركِ به وتنفذيه دون أي تردد!! .. أتفهمين فريدة؟؟
❈-❈-❈
- أظن أن هذه كان نقطة التحوّل الثانية .. لا تلك الليلة!!
حالما تناهى لسمعه تعقيب فريدة، رُدت له روحه العالقة بتلابيب الماضي، حيث بدأ كل شيء، بذلك العَقد!! .. كل شيءٍ يُعاد الليلة بأثر رجعي، ومضاعف!! .. ها هو يواجه نفسه، ويواجه أفعاله، للمرة الثانية بعد العلاج .. ومع ذلك، هذه المرة تحمل وقعًا آخر عليه، فهو يُعيد معها كتابة الأحداث، ليتقصى أين يكمن الخطأ بالتفصيل، لعلّه لم يكن حِصرًا عليه فقط!!
فتح فمه ليجاريها فيما قالت، ثم أطبقه عندما لم يجد شيئًا لديه .. راقب تعابيرها الخاملة، ترمي برأسها للخلف مثله، لا تكترث بتبعثر غِرتها على وجهها بفوضى، جديلتها ترتمي بدلال على كتفها، وحدقتيها متعلقة به .. نظرتها أخذت طور مختلف، ثمة بريق شجن يُداعب سفحها .. كانت ترمقه فقط بصمت، ولأول مرة لم يزعجه صمتها!! .. كذّب الشعور الذي اعتراه حينها، وكأنما عينيها تلحظ وجوده من جديد، تحديدًا تلحظ به شيئًا لم تراه من قبل .. حتي تحدثت، وليتها لم تفعل!!
تابعت فريدة وقد صارت عينها ساهمة مغطاة بغشاوة واهية، بينما صوتها أحتقن ببحة وجّع:
- أنا أعرف هذا الشعور .. تلك اللحظة التي تقرر بها التخلي عن ذاتك الحقيقية، وتصبح ما ارتأوا لك أن تكون، فقط لأن مرارة الخذلان وصلت لمرحلة سامة بجوفك!! .. وعندها يكن عليك أن تختار، إما أن تتشبث بهويتك الحقيقية فتموت معها، أو تعيش بذات مزيفة لا تمتّ لك بِصِلة!!
ارتعش صوتها بالحروف الأخيرة قبل أن تدقق بعينه، وهي تجعد جانب شفتها بابتسامه ناقمة:
- لدي اعتراف .. هذا أسوأ شيء سمعته الليلة!!
”أجل، أعرف، فريدة .. أعرف أنكِ تألفيّن هذا الشعور!! .. فإن لم يكن لمّا خَبرّتيه في طفولتك، فسيكون لما حَضُضتِك على فعله فيما بعد!! .. نفذت منيّ التبريرات!! .. الخطأ كان بعيدًا جدًا، فريدة .. جذوره تضرب طويلًا بكياني، لدرجة لم تُبصرها عينايّ من قبل!! .. ولأجل هذا أنا آسف مجددًا ومجددًا .. صار جليًا، أننا نُعيد كتابة ما تمّ برمجتنا عليه من البداية، وليس لكِ أن تتخيلي إلى أي مدى هذا يؤلم!!“
يُؤلم أن يكتشف المرء بعد عُمرٍ، أنه لم يكن سوى محضّ آلة، تسري لعملها الذي صُنعت لأجله، بمجرد كبسة زِرّ!!
كانت تجلده بحديثها دون أن تدري، تمنى فقط أنها لو ظلت صامته للنهاية!! .. تراجع عما يخاطره، وقرر أن يغالب مشاعره التي تسوقه نحوها بسرعة تفوق سرعة الضوء، متشدقًا بسخرية كعادته:
- لا تقولي هذا!! .. مازال لدينا الأسوأ .. فالسيء، ليس لِسَقفِهِ حدّ!!
وما لبثت أن عاد بعدها ليُعاين صفحة وجهها، علّه يطمئن أن هذه الكلمات نابعة حقا من داخلها، لا شفقةً عليه!! .. أو حتى ادعاء شفقة، فتوسعت اندهاشه حالما بدالته النظرات بصدق وعاطفة .. رغم ملامحها المتعبة، إلا أنها تتفاعل معه على سجيّتها المُسبقة، تفتح فمها بخفة لتدعي الصدمة، وثم تُشرق عليه ببنت ضحكة هي الأقرب إلى قلبه، لتمسح على وجهها وهي تهز رأسها مستنكرة أن هناك الأسوأ من هذا!! .. بدى حقا الإرهاق ينال منها، وأنها تكافح لتبقا واعية مُنصته قدر الإمكان .. إلا أنها كانت أصدق اللحظات التي ظهرت له فريدة على حقيقتها .. بعفوية روحها، وتلقائيتها في الحديث!! .. تَجلّت له بذاتها الحقيقية، لا المزيفة التي حَضّها عليها!!
ثار صدره واستعرّ، ما إن تذكر الأيام التي أعلن فيها الحرب على هَويّتها وشخصِّها .. فرغم شغفه بها وبكل ما بها، إلا أنه كان يندفع بالاتجاه المعاكس نحو إبادتها .. كرّث جهوده لأجل محوّ العفوية والبراءة التي تحملها .. أين كان عقله واللعنة وهو يحاول بشتى السُبل تشويه الطفلة التي نجت ومازالت تنبض بداخلها، ليكتشف بالنهاية أن خلاصه لم يكن سوى بين يديها!!
والسؤال الأجدرّ هنا؛ كيف يُجبر عقله اللعين على التوقف عن بثّ ما جمعهما في السابق؟؟ .. كيف عساه يوقف عينيه عن تخيلها بين ذراعيه حيث بإمكانه لمسها دون أن تذعر!! .. أنّى له النجاة من ذلك الصوت الذي لا ينفك أن ينكز قلبه سائلًا بإلحاح وكأنما لا يعلم الإجابة .. أليس هناك دروب تقودنا حيث البداية، حيث بإمكاننا سرد الأحداث من جديد؟!
”لا فريدة .. بربك، لا تفعلي هذا بي مجددًا!! .. كفِ عن التلويح لي بالاحتمالات!! .. لا تعطني أي أمل في أنكِ قد عُدتِ، فمنذ أمدٍ طويل قد كَفرتُ بالآمال فيما يخصك!! .. لذا، أتوسلك، لا مزيد من السراب اللعين، قد أصدق!! .. وعندها، لا أضمن لكِ أي فعلٍ أحمق قد أقدم عليه كي أظفر بهذا الأمل!!“
وبهذه اللحظة، كم تحرّق جسده لينهض ويغمرها بحبور!! .. يحتضنها فيعتصرها بالكامل كما لو أنه يراها لأول مرة منذ ما حدث!! .. كم يريد أن يطيل مدة مُكوثها معه، لينعم بكل ما تمنحه إياه، قبل أن تعيّ هي أنها تمنحه للشخص الخطأ!! .. مع هذا، لم يستطع هذه المرة أن يتصرف معها بأنانية لما تراءى له من انهاك يتآكلها .. دلك صدغيه وهو يشملها بعينه ليحفر ملامحها عميقًا ثم همهم لها بحنو:
- أظن أن هذا يكفي لليوم .. دعينا نكمل بالغد..!!
- ماذا؟! .. آوه، لا تفعل .. ليس وأنت تقف في هذه النقطة من الأحداث!!
انبعج فمه من الدهشة، لم يتخيل ردة فعلها هذا، ولم يتخيل أن تكون مهتمة حتى لهذا الحد!! .. بدت منفعلة للغاية مما قاله، حتى انها اعتدلت في ثانية بجلستها، ورفعت غِرتها عن وجهها كي تبدو له في أوجّ تركيزها، الذي هو منعدم بالمناسبة!!
حسنا، ما هذا واللعنة!!
تمتم بها من بين أنفاسه وهي تندفع في الحديث بجدية لتحثه على التكملة بينما تحتضن وسادة بين ذراعيها لتسند إليها رأسها الذي يميل لاإراديًا بين الحين والآخر:
- أريد أن أعرف حقًا كيف تصرفت بعدها؟؟ .. خاصة أول إجازة لك مع والدك .. كيف كان اللقاء؟؟ .. لا أعرف لما أتخيل انه امكنه النظر بعينك كالسابق وكأنه لم يفعل شيء!! .. آه، تبا .. انس الأمر .. أعذرني، أبدو درامية جدًا الليلة!! .. تصبح على خير!!
طَفِقت فريدة تُلملم شتاتها بعد أن وعيّت للهراء الذي تتفوه به، والأهم أنها تتفوه به مع مَن؟! .. وبخت نفسها على تدخلها السافر في حياته، لعنت تعبها الذي يؤثر على سلوكها بهذا الشكل المخزي .. الآن، العزلة ومحاولة النوم ستكون خيارًا أفضل قبل أن يزداد الوضع سوءًا!! .. وبالفعل كانت أن تفر هاربة كعادتها، إلا أنها فوجئت بيده التي تشد معصمها برفق وتعيدها للجلوس ثانيةً، ولكن هذه المرة كانت تجاوره .. ثم شرع في الحديث دون استباق:
- لم يكن هناك أيّة إجازات، فريدة..!!
حبست أنفاسها ما إن رأت النظرة التي احتلت محياه .. كانت ألمًا خالصًا يكافح لتحجيّمه .. تعترف، لم تتوقع هذا أبدًا!! .. لكن على ما يبدو أنهاض ضغطت بقوة على جرحًا لا ينبغي أن يُفتح!! .. حركت فمها لتمنعه عن الاسترسال، إلا أنه فعل دون أن يترك لها فرصة:
- أذكر أن بعد مرور الأيام الأولى، تغيرت أشياء كثيرة بداخلي، وكنتُ بالكاد استطيع مواكبة هذا التغيير أو حتى انتبه له .. كل يوم أستيقظ، أنظر بالمرآه، لأرى واحدًا آخر لا يشبهني، لا أستطيع التعرف عليه .. واحد يرتدي نفس الزيّ الغبي كل يوم، يتصرف بآلية، يتجنب الاندماج مع الجميع هناك، سواء كانوا لطفاء معه أو متنمرين .. يحتمي بعزلته وغرابته من جديد من الأسوار التي حاصرته من كل الجهات، .. يقضي يومه من بزوغ الفجر وحتى التاسعة مساءًا في دوام متتابع ومهلك بين طوابير، دروس، تدريبات، لا مذاق له، وساعة واحدة فقط للراحة .. كل يوم على هذا المنوال الطاحن، حتى يصل لفراشه فينام دون أن يشعر بشيء .. لا شيء سوى التعب الذي يفكك أوصاله!!
وابتسم، ابتسم بتعبير لم يمكنها فهمه، ليُخفي ابتسامته السيئة عنها بأطراف أصابعه قبل أن يُبيّن لها سبب هذه الضحكة بتأني شديد وكأنه يُفصِل لها لحظة بلحظة:
- نعم، هذا التعب، أنا ممنونًا له كثيرًا، لولاه، لكنتُ غرقت ببؤسي وقهري حد الموت وانا أفكر في العالم خارج هذه الأسوار كيف يمضي بدوني؟؟ .. صدقًا هذا ساعدني كثيرًا على تحمل واقعي، والعيش تحت وطأته .. في البداية، خِلت أنني لن أصمد طويلًا في هذا، اليوم الواحد هناك كان يمر عليّ بشق الأنفس .. كم الرهاب الذي دُفع بي داخله تلك الفترة كان مريع .. جرعات مفرطة من الضغط النفسي المستمر!! .. وهذا جعلني اكتشف أنني -وبكل العبث الذي ارتكبه من قبل- لا أزال مجرد طفل مدلل، معتاد على الراحة وخدمة الأخرين لي .. ولكِ أن تتخيلي الوضع عندما يكون يومي بالكامل عبارة عن أوامر وعقاب .. عقاب على أي تقصير، على أتفه فعل، عقاب حتى على تعبير وجه قد يصدر بالخطأ .. فهكذا هو ضبط النفس، والمسؤولية التي أوُلى توابعها العقاب .. ورغم محاولاتي المُضنية للالتزام التام بتلك القواعد اللعينة، إلا أنني لم أسلم من العقاب بالكامل، ليس تمامًا .. بالأصل هذا كان المقصد من نظام العقوبات العلّنية في المدرسة في طابور كل صباح .. عملًا بالمثل القائل؛ أضربّ المربوط يخافك السائِب..!!
ابتلع ابتسامة سوداء مع غصته وعينه تضيع عنها بين كلمة وأخرى ليلتقط التفاصيل الساقطة .. ليضم اصابعه معًا امام فمه متابعًا بوجهًا مُصمت:
- ولهذا، لم يكن بالأساس هناك أحرار .. جميعنا، فريدة، كنا مربوطين .. إما برباط الخوف أو رباط الانتماء .. ومن هنا، تمركز داخل جمجمتي هدف وحيد في كل صباح، هو أن أنجو ليومًا آخر!! .. ذلك لأنه ليس هناك أحد سيحميني من أن ألقى هذا المصير سوى نفسي، ولأنني أدركت بالتجربة أن اليوم الذي أصيب فيه أثناء التدريبات، تطنّ به عظامي من الألم، أو تختنق فيه روحي من عقاب أو إهانة .. لن يواسيني أن أحد أو يربت عليّ .. لن يهتم من الأساس!! .. هناك، جميعنا متساوين في هذا، لكن كل واحد لديه طريقته الخاصة في المداواة!! .. جميعنا تسريّ علينا القواعد ذاتها، نرتدي زيّ مُوحد حتى للنوم، ونتشارك الطعام ذاته .. لذلك، كنا حقا عائلة واحدة بطريقة ما .. وعلى الواحد منا أن يكون للجميع..!!
سحب نفس عميق وكأنه تخطى حاجز الخطر في الحديث، لتنبسط ملامحه نوعًا ما بعدها ويعود لسيرته اللامبالية في السرد .. تلك الجزئية من حياته، طالما كانت محرمة على الحديث عنها، محاطة بأسلاك شائكة في بقاع نفسه، حجر أجدب يصعب استخراجه من القاع أو حتى محاولة زحزحته؛ ذلك لأنها تلتحم بشكل عتيد مع شخصيته، فلا يفرّقها عنه سوى الموت .. أما الآن، فيشعر بها ها هي تنشطر جزئيًا، تذوب رويدًا، مصحوبة بقدر ضئيل من الألم، إلا أنها خلفت ورائها زوبعة من الاختلاجات والفوضى الغير محببة .. ذلك لأنه لا يعرف إذا كان ما يفعله الآن هو الصالح أم قد يحلّ عليه العقاب لما فرط به من مسؤولية الآن؟؟ .. وكل تلك الاختلاجات كانت تجوبه الآن رغم ملامحه الساكنة..
هكذا ضبط النفس..!!
ولم تكن فريدة بحالٍ أفضل منه، فظلت تسمعه بموضعها كتمثال .. تنصت فقط وعينيها تجوب وجهه بعاطفة متضاربة، كتضارب تلك الأفكار التي تطحن أركان عقلها في الوقت الراهن وتزيد من نخر رأسها .. ورغم تشوش الارسالات بذهنها كمحطة بث متهالكة، استطاعت استخلاص حقيقة واحدة يمكن أن تكون شافية كإجابه للتساؤل الذي صَدّعَ رأسها…
التعابير المستفزة التي يصدرها لها منذ بداية الجلسة، يعيد سرد تاريخه الأسود لأول مرة على حد قوله بينما يبدو لها ساخر ببزخ، فاقد للحس كما لو كان مخدر .. وهنا يكمن السؤال، تلك ليست انفعالات شخص يحكي كل تلك الخبرات المريرة لأول مرة!! .. أم أنه يختلق كل تلك الخبرات من الأساس؟؟ .. لكن شيئًا فيما قاله مؤخرًا رحمها ورحمها من ظنونها، عندما ذكر الكيفية التي عملوا بها على تدريبه ضبط النفس!!
أو لنكن أكثر دقة، قمع النفس!!
قتل الفطرة..
خنق العفوية..
وكل شعور قد يبزغ تلقائي...
هكذا هو ضبط النفس خاصتهم!!
تلك التعبيرات مزيفة بالكامل، ليست حقيقية .. لا تعرف كيف خفىّ عن بالها أن 80% من تعبيرات الشخص الضاحكة بالأساس، ليست إلا ميكانزم دفاعي (آلية دفاعية) يُحَجِمّ بها الألم من الظهور، وهذا ما يفعله هذا الوغد منذ أن بدأ يحكي .. تحريك انفعالاته والتحكم بها، استبدال شعور بشعور مغايّر، استخدام التعبيرات العبثية السخرية للتهوين من حدة المشاعر التي بالتأكيد تثيرها الذكرى داخله الآن .. كل تلك الحيل جعلوه يتقنها لسنوات، تعلمها منذ الصغر حتى سارت تسري في دمه، ويفعلها دون أن يدري .. بل إذا شاء، يتخذ منها قناع ليتخفى أسفلها من حقيقة أنه يشعر بالحزن، أو ربما الضعف!! .. ولابد أن هذا القناع بدأ يتصدّع الآن!!
تبا، ماذا يحدث لها؟؟ .. تشعر بنفسها وهي تتماهىّ معه أكثر، وتنصهر في معاناته كلما مرّ بها الوقت .. وهذا سيء .. ليتها لم تسأله التكملة .. إلا انه هذه كانت أمنية بعيدة، فقد اندفع يحكي الآن كالسهم النافذ:
- لهذا لم أكن متفرغًا للتفكير فيما سُرق مني أو تركته خلفي، كان لدي أشياء أكثر أهمية من هذا .. اشياء ستسحقني لو غفلت عنها .. حقا فريدة، كانت تلك طريقة فعالة في شفائي ذلك الوقت .. ولهذا أخذتها قاعدة في حياتي وسِرت عليها للأبد، إذا أردت التخلص من ألمٍ يزعجني دومًا، عليّ أن أقحم نفسي فيما هو أشد معاناة!! .. حينها، لن انساه فقط، بل سأنسى حتى نفسي!! .. وهذا ما حدث معي آنذاك .. تناسيت، وتجاوزت، حتى صار كل شيء بعيدًا إلى أقصى مدى عن تفكيري طوال تلك الأيام .. إلى أن حان موعد أول زيارة!!
وسكت .. ولم يكن سكوته إلا لصفعة أخرى تلقاها من قاع نفسه السقيمة .. تراءت له تلك الأيام التي كان يعتقد فيها بإيمان راهب في هذه القاعدة اللعينة .. الألم لا يمحيه سوى الألم!! .. هذه حقيقة اختبرها بنفسه طوال حياته، لكن الغباء كان يكمن حينما اختبارها على فريدة!! .. يوم أراد ان يمحو ألم حبها بألم قتلها .. فكلما تأذى من إيذائه لها، يزداد يقينًا بأن الخلاص سيحلّ إذا أحلّ عليها العذاب .. نعم، كان يعذبها، يتألم، فيعذبها مرة لأنها جعلته يتألم، ومرة أخرى قربانً للشفاء من ألمها!!
ذلك كان عين الغباء ذاتها!!
بل الجنون في أوجّ صوره!!
استدعت فريدة انتباهه حينما هسهست:
- دعني أحزر .. رفضت نزوّل الإجازة؟؟
أومأ بابتسامة باهتة وهو لا يستعجب كيف يمكنها استنباط ما حدث:
- ليس بالضبط..!!
❈-❈-❈
يتبع