-->

الفصل الخامس عشر - وكر الأبالسة - Den of Devils

 



الفصل الخامس عشر


❈-❈-❈

" إصنع الجميل للشيطان يعطك الجحيم مكافأة"

مثل تشيكوسلوفاكي

❈-❈-❈



تفقدته بثبات هائل وابتسامة ساخرة ولكنها كانت مُندفعة من تلك الإهانة التي صفعتها، أو ربما ليست الإهانة اللفظية بإقراره بأنها في نظره فتاة تفتقر للشرف، بل كان الشعور بالذنب بداخلها يُمزقها لأشلاء وأشلاء ولكنها هي من فعلت ذلك بنفسها، وبالرغم من ذلك ثبتت بصلابة، فهي ليست مرتها الأولى أن ترى هذه النظرة على وجه رجل..


اتجهت نحوه مقتربة منه بخطوات مليئة بالثقة وعينيها لا تفارق خاصتيه الغاضبتان الرافضتان لجرأتها التي يبدو وأنها بدرت منها بتلك الليلة منذ أيام ثم أمسكت بربطة عنقه الرسمية وهي تتخلص من محاولاته في عقدها ثم وضعتها حول عنقه بجرأة وتوسعت ابتسامتها ثم قالت بهدوء مقتبسة من كلماته:

- واحدة محترمة تسكر وتقرب منك وتعرض نفسها عليك! تمام! 


زفرت بين ضحكتها وهي تحكم من عقد ربطة العنق وهو يتابع أناملها في تحفز شديد ونظرات الرفض تنهم من عينيه ثم رفع وجهه لها فأردفت هي:

- طيب خلينا نكون واضحين، انت فاكر واحدة زيي بتشرب لغاية ما تسكر وعايشة لوحدها مجربتلهاش في الميت راجل واتنين وتلاتة وأربعة! ومش بوس واحضان واعرض نفسي.. لأ ده الموضوع بهوق اوي!


تسمر بمكانه وهو يُحدق بملامحها ليجدها تستطرد بجرأة لاذعة وهي بداخلها تتحامل ألا تدمع عينيها أو تتغير نبرتها:

- أحب أقولك إني جربت، ومش واحد بس ولا اتنين ولا هقولك غلطت.. لأ أنا أصلًا كده، شمال زي ما بيقولوا، وأيًا كان اللي قولتهولك وأنا سكرانة فأنا مش فاكراه ومش من حقك أصلًا تاخد جنب من واحدة سكرانة مش واعية هي بتقول ايه.. بس خليني اديك أسبابك الكاملة إنك تتجنبني بقى خالص.. ومتبُصش في وشي تاني أبدًا..


لانت ابتسامتها وتفحصته مليًا لجزء من الثانية وأخفضت يدها بعد أن انهت عقد ربطة عنقه ثم سرعان ما رفعتها لتحتوي وجهه وقبلته بإندفاع هائل وبالرغم من تلك المُدة التي لا تتعدى جزءًا من الثانية وما شعرت به وما شعر به هو الآخر ابتعدت عنه سريعًا بأنفاس تثاقل على رئيتيها أن تنظمها ليس من أثر القُبلة بل بسبب هذا الجرح الغائر بداخلها!


لم تكن ردة فعله مُختلفة عن الذي تخيلته وهو يدفعها ووجدته سيصرخ بها بحنجرته التي يتردد صوته الجهوري بداخلها فرفعت يدها في استسلام وهي تنظر له بآلم بعينيها بالرغم من ابتسامتها التي تُحافظ عليها وبادرت هي بالكلام:

- دلوقتي وأنا واعية كده تقدر تتجنبني بجد وتقول عليا واحدة شمال ومش تمام ومستحقش المعاملة الحلوة ولا إنك تبص في وشي اصلًا.. سلام يا عم جاد! 


❈-❈-❈


انعطف واصلًا بجوار المرأب وهو يتنفس الصعداء بعيدًا عن الصخب الذي كاد أن يفتك برأسه ويُضاعف الصداع اللعين الذي لا ينتهي ليجد احدي الفتيات الواقفات ليلعن داخل نفسه، فلقد ظن أنه سيحصل على المكان بمفرده ولكن عندما أمعن النظر بهذا الرداء الذي لا يصنعه سواه وتذكر سريعًا أنه من أرسل هذا الثوب إلي "رحمة" فأقترب نحوها والتفتت هي عندما استمعت لخطوات خلفها لتتلاقى أعينهم فحدثته بإبتسامة:

- مبروك.. ربنا يتمملك بخير..


بادلها الإبتسامة ثم عقب بتلقائية اعتاد عليها في الآونة الأخيرة معها:

- ميرسي.. مالك واقفة لواحدك كده ليه؟ ليه مش قاعدة معانا؟


سرعان ما تناول احدى سجائره التي أشعلها وهي تجيبه:

- عادي يعني، معرفش حد تقريبًا فقولت اخليني هنا.. وبعدين شوف مين بيسأل، ما انت شكلك مزوغ اهو..


أضافت غمزة من عينيها المرحتان ليضحك بخفوت ثم رد بتنهيدة:

- أنا مصدع بس شوية كان عندي شغل الصبح وحاجات كتيرة ومنمتش كويس، بس سيبك، الفستان طلع حلو اهو ومش زي الحاجات اللي مش بتحبي تلبسيها..


اتسعت ابتسامتها له ثم أردفت بإمتنان:

- بجد شكرًا، هو حلو فعلًا..


قلب شفتاه وهو يتمعن بمظهرها وتفاصيلها الهادئة البسيطة ثم نفث دخانه على مُكثٍ وقال بإطراء:

- شكلك فعلًا حلو.. بطلي بعد كده ترفضي علشان مبدأ العناد والرفض وخلاص..


أومأت له بأعين تلاقت أهدابها بها الكثير من المرات وإيماءاتها متتالية ثم هزت كتفيها بعفوية مُعقبة:

- ما أنا بعد اللي شوفته وأنا بقيس الفستان الأولاني كان سبب كفاية إني أرفض.. بس يالا حصل خير..


استنشق من سيجارته مرة أخرى وهو يُتابع ملامحها بأعين مُسبلة لم يدرك أنها تحولت فجأة ثم نفث زافرًا المزيد من الدخان وحدثها بنبرة لينة مُقترحًا:

- حاولي تيجي، اقعدي مع نانسي أو حتى جاد..


تنهدت بعُمق ولاحظ تغير ملامحها عندما آتى على ذكره لترد هي بإقتضاب:

- ربنا يسهل..


قطب جبينه وملامحه تحولت للإستفسار ثم سألها:

- انتو لسه مش بتتكلموا؟


قلبت شفتاها واجابته ببعض اليأس بنبرتها:

- عادي يعني، لو حصل كلام صدفة بحاول اتعامل عادي..


ألقى سيجارته أرضًا ودهسها بحذائه ثم اقترب لها قليلًا بملامح داعمة وأخبرها رابتًا على ذراعها بعفوية:

- حاولي تشيلي الموضوع من دماغك وتتعامي عادي علشان تكوني احسن، ده كان الحل مع رُفيدة في يوم من الأيام..


سرعان ما تراجعت من لمسته وتحولت نبرته في نهاية جُملته للتردد من فعلها ولم ير أيًا منهما والدته التي اتبعته وهي تراقب ما يحدث ولكنه سرعان ما قال مُعتذرًا:

- أنا آسف، بس اتعاملت عادي.. مكونتش اقصد اضايقك.. متضايقيش مني مش هاكررها تاني..


ابتسم بإقتضاب لتحدقه هي بإنزعاج صرخ بملامحها واقتربت والدته التي هتفت منادية:

- سلمان، فينك الناس بتسأل عليك..


حولت بعضًا من نظراتها الدبلوماسية إلي "رحمة" التي اختلفت ملامحها سريعًا لمجرد تلاقي أعين كلتاهما فهي لا تكره أكثر من هذه المرأة التي لا تليق سوى بكونها الساحرة الشريرة بأفلام الكارتون ليلتفت هو نحو والدته وحدثها بإبتسامة:

- قولت اجي خمس دقايق time out من كل الدوشة، تعالي نروح ونقعد معاهم يالا.. 


التفت ليودعها بينما وجد أنها بالفعل انشغلت بعد أن صدح هاتفها بالرنين وبدأت في التحدث بالفعل مولية اياه ظهرها فذهب مع والدته ليلتحق بحفل خطبته.. 


شعرت بالريبة من نبرة أخيها الذي يُهاتفها ويبدو على صوته القلق واجابته:

- معرفش أصلًا مشوفتوش من ساعة ما الخطوبة ما بدأت.. هروح ادور عليه.. 


تنهد بضيق ثم أخبرها بنبرة حاسمة:

- طيب لما تشوفيه خليه عندك، متخليهوش يمشي لغاية ما اجيله.. ابعتيلي العنوان بتاعكو


تعجبت من قدومه هكذا فجأة ولكنها لا تعلم فقد تكون هناك مُشكلة، فما تعرفه أن "سعد" ليس مندفعًا مثل "جاد" ولابد من أنه هناك أمرًا قد حدث يدفعه للقدوم فردت مجيبة اياه:

- حاضر هبعتهولك.. وكمان هاروح اشوف جاد فين..


❈-❈-❈

وقف أمامها واضعًا يداه بجيبيه وهو يُحدق بملامحها بإنزعاجٍ هائل ثم تحدث بصوت خافت كي لا يستمع لهما أحد:

- نانسي، احنا مش صغيرين على اللي بيحصل ده.. ليه مصممة متدينيش فرصة تانية! قولتلك تعالي نحاول، لو عايزاني حتى اروح لدكتور نشوف المشكلة فين أنا معنديش مانع..


تفقدت الجميع بإبتسامة امتهنت احترافها من والدتها ثم نظرت إليه مباشرةً وحدثته بنفس الإبتسامة الرسمية التي تُحافظ عليها أمام الجميع:

- سوري.. مش وقته يا راغب، الموضوع جه متأخر جدًا.. مش هاقدر احاول تاني.. وأنا كلمتك في الموضوع كتير بس دلوقتي مش هاقدر اقبل!


عادت من جديد تنظر نحو الجميع بعينيها ولاحظت وصول "رُفيدة" التي شعرت بالشفقة الشديدة بداخلها من أجلها في تعاطف لتتابعها أعينها وبالرغم من إرادتها بأن تذهب لتواسيها ولكنها تعرف من هي ابنة خالتها جيدًا، لذا كان من الجيد أن تتحاشى التحدث في أي أمرٍ معها، هذا هو عهد كلتاهما منذ زمن بعيد، فلا هي تحبذ طيبتها، ولا الأخرى تطيق عجرفتها وبأسها، فظلت كلتاهما على وفاق بأن تبقيا مجرد جارتان تحملا صلة قرابة تمكثان في منزل واحد!


تفقدته بجدية متمعنة بنظراتها إليه ثم قالت:

- تعرف، يمكن وقفتك دي معايا علشان نظرة الناس ملهاش لازمة والمفروض تكون جنب أختك بعد اللي حصل.. وأنا مش قادرة اعيد نفس كلامنا تاني.. يا ريت توفر مجهودك لرفيدة أو سيلا.. الاتنين تقريبًا ملهومش حد غيرك!


تركته لتغادر مبتعدة عنه ليوقفها صوت والدتها المُنادي بتساؤل:

- نانسي، انتي كويسة يا حبيبتي؟


التفتت نحوها وهي ترى أن "سلمان" لتوه يذهب مبتعدًا عنها لتومأ لها واجابتها:

- ايوة تمام.. 


ادعت نظرات الإهتمام المستتر خلفها فضولها الذي لا تنتهي عنه ولكن بعد سنوات من دراسة تصرفات والدتها قد نجحت بالفعل في معرفة ملامحها بدقة وانتظرت لتستمع للمزيد منها:

- طيب مالك انتي وراغب حساكو مش تمام، وكمان كنتي الكام يوم اللي فاتوا مش في البيت، فيه حاجة يا حبيبتي؟


كانت اجابتها عبارة عن مجرد ابتسامة طبق الأصل وتلك الشهقة الراقية بإندهاش كما تعلمتها من والدتها وردت مُجيبة:

- مامي أنا تمام، وكوني في البيت أو مش في البيت حاجة خاصة بيا، وجوازي أنا وراغب شيء خاص بينا احنا الاتنين، يا ريت الأمور متتعداش أكتر من كده.. ولو يعني بتطمني عليا فأنا كويسة جدًا.. بعد اذنك..


تركتها وغادرت سريعًا لتشعر هي بإحتقان دمائها بالغيظ وهي لا تدري من أين هذا الرفض الهائل من ابنتها فهي بهذه الآونة تلتمسه كثيرًا، ولكنها لن تترك لها الفرصة في أن تستكمل حالة العصيان التي يبدو وأنها ستصرح بها أمام أعين الجميع عن قريب.. على كلٍ فلقد تحدثت إلي "راغب" وتعلم أن كلماتهما معًا منذ أيام قد تُسفر عن شيئًا.. سترى إذن حينها ما الذي سيحدث، وإن استمرت الأوضاع كما هي لن تسمح أبدًا أن ترى زواج ابنتها ليس بخير!


❈-❈-❈



قلبت عينيها وهي يتم استجوابها من قبل هذا الفضولي الذي لم تعد تطيقه وحاولت التمسك بذرات صبرها الأخير وهو يُتابع أسئلته:

- ما تنطقي وتبصي عِدل بدل الوش الخشب اللي مصدراه ده كل ساعة والتانية، انتي عملتي ايه اليومين اللي فاتوا؟


تأففت زافرة وهي تومأ لإحدى النساء التي تعرفها وابتسمت لها بشجاعة متناسية ذلك الآلم الذي عانته منذ قليل ثم حدثته بنبرة هادئة:

- عملت اللي عملته، أنا هاتصرف ومتشكرة لمجهوداتك أوي على كده..


احتدم غيظه بداخله وهو يزم شفتاه بغضب ليُردف متسائلًا:

- يعني هي دي اخرتها، اسيبه يطلع من البيت وامشيه ويا دار ما دخلك شر ومالية ايدك من انه مش هينشر حاجة؟


تنهدت وهي تنظر له بطرف عينيها بغطرستها المعهودة ثم اجابته بإقتضاب:

- اديني اسبوع واحد بس وبعدين ابقى مشيه ولا موته ولا اعمل اللي أنت عايزه..


زفر بلهيب غيظه الغاضب وعلت نبرته قليلًا:

- هو ايه المغزي من الطلاسم بتاعتك دي.. ما تنطقي وتقولي ناوية على ايه، هو انا هبوس ايديكي علشان تتكلمي..


تأفف وهاتفه لا يتوقف عن الرنين ليغمغم:

- وده وقتك انت كمان..


اجاب بنبرة حانقة:

- ايوة يا سعد!


بدأ في أخذ خطوات بعيدًا عنها لتتنهد في راحة بتخلصها منه بينما وجدت "راغب" يتجه نحوها بملامحه الباردة المعهودة لتشعر بالضيق مرة ثانية فهي للتو تخلصت من أخٍ، لماذا عليها مواجهة آخر الآن! ولكن على كلٍ التحدث مع "راغب" سيكون أفضل من التحدث مع هذا الفضولي ذو الصوت المُزعج!


انتظرت أن تستمع لتساؤله بعد تلك الملامح التي سيندفع منها احدى الأسئلة وقد فعل:

- ايه يا رُفيدة، موضوع الفيديو ده انتي اللي وراه؟


عقدت ذراعيها وهي تطرق بأناملها على شفتاها المزمومتان واكتفت بأن تومأ بالموافقة ليتسائل:

- وياسر، عرف إنك عملتي كده، وهو فين اصلًا؟


اجابته ببرود شديد والحسم والإصرار ينطلقا بكل حرفٍ تنطق به:

- متقلقش، ياسر في مكان محدش يعرف عنه حاجة، كلها كام يوم وهخلعه!


تنهد متفقدًا اياها وأومأ بالتفهم ثم حدثها بجدية شديدة واقترب منها اكثر لتصاعد صوت الموسيقى فجأة:

- رفيدة لو محتاجة مساعدة قولي.. احنا مش ناقصين شوشرة خالص في الفترة دي.. 


هزت كتفيها وأردفت ببرود رافعة صوتها قليلًا كي يسمعها:

- كده كده الشوشرة حصلت، بس من ناحية ياسر، لو احتجت لحاجة هقولك..


أومأ لها ثم غادر، علاقة أخوية غريبة من نوعها لتتابعه بعينيها وهو يوليها ظهره ويغادر باحثًا عن زوجته، لا تدري كيف عليها يومًا ما أن تستعيد علاقة طفولتهما التي كانا يمتازا بها لترتجف شفتاها بقليل من اليأس ولكن افاقها من متابعتها اياه "سلمان" الذي وضع يده بظهرها رابتًا عليها لتبتسم له ثم تصافحا واقترب ليُقبلها على وجنتها ثم حدثته هي بالإنجليزية ورفعت صوتها كي يسمعها من أثر صوت الموسيقى:

- مبارك لك، اتمنى لكما حظ سعيد..


أومأ لها وهو يبتسم متنهدًا وهو لا يُصدق أنها أخيرًا بات يتعامل بتلقائية في كل ما يتعلق بها وسألها بجدية متحدثًا بالإنجليزية:

- هل أنتِ بخير؟ اقصد بعد ما حدث و..


قاطعته بإبتسامة وقالت بتأكيد:

- لا تقلق، أنا اهتم بالأمر، سأحصل على الطلاق عن قريب.. 


أومأ لها بينما قاطعتهما "رغدة" التي آتت وصافحت "رُفيدة" وتبادلت كلتاهما الإبتسامات كما عبرت الأخيرة عن تمنيها السعادة لها بمنتهى الرسمية الشديدة واللباقة بينما وقفت "رحمة" تتابع هذا العالم الغريب.. هو يُقبل ابنة خالته على مرآى من المرأة التي سيتزوجها، يبدو أنه كان مُحقًا بأمر عادتهم الغريبة.. 


بحثت بأعينها عن "جاد" الذي تحدثت مع اخيها عنه كي تُبلغه بأنه يُريد التحدث له ووجدته يتجه نحو "رُفيدة" وكذلك "سلمان" وخطيبته التي تستقر رأسها مباشرةً على صدره وهو يُحيط جسدها بذراعه ولكن هذا ليس شأنها على كل حال.. 


اتجهت نحوهم ولكنها لم تر "إيناس" المُتجهة صوبهم هي الأخرى، فلقد كانت حاجتها لتطمئن على "رُفيدة" لا تندثر، بينما حاجتها بأن تُخرج القليل مما يجعلها تغلي بداخلها لا نهائية.. فمواجهتها مع "جاد" منذ قليل وما فعلته بإرغامٍ من عقلها الغبي الذي حثها أنها عليها المحافظة على تلك الصورة الصلبة وكأنها لا تكترث إلي شيء، جعلها تود الصراخ أو البُكاء.. ايهما أقرب.. 


رفعت اعينها نحو "سلمان" ثم اخبرته:

- انا بحب الأغنية دي اوي.. 


أخبرته عندما تصاعدت تلك الأنغام التي توالت بصوت المغنية الفرنسية المُضاف إليها توزيعًا حديثًا ليُحدثها مُقترحًا وهو يُقدم يده لها:

- تحبي ترقصي..


ابتسمت له وهو تومأ بالموافقة ثم رفعت يدها لتضعها بيدها واتجها سويًا ليتراقصا أمام الجميع لتتوقف "رحمة" وهي تتفقد تلك الأجواء الجديدة عليها تمامًا وأُخذت تتابع تلك الحركات الجريئة وتلاصق جسديهما، ولوهلة لم تُصدق أن هذا الرجل الذي باتت تتقاسم ثرثرتها الليلة معه وهو يبدو متألمًا ممزقًا من ماضيه يتراقص الآن كواحدًا من نجوم السينما العالمية التي تشاهدهم بالأفلام المُترجمة..


ابتلعت وحاولت أن تنهى نفسها عن متابعته بأعينها المبهورتان بالفعل واتجهت نحو "جاد" الذي لاحظته ينظر بطريقة غريبة إلي "إيناس" لتحتقن دمائها بالقليل من الغيرة بينما رآت الغضب يلوح على تقاسيم وجهه الذي تحفظ كل ما به عن ظهر قلب  وهو مُتجمد بمكانه لتتيقن أنه يلومها بتلك الأعين ورآت الأخرى ترمقه بنظرات جريئة وكأن هناك حديثًا بينهما لا يعلم عنه أحد.. 


اكملت طريقها نحوهم بينما جذبت "إيناس" يد "رُفيدة" ولم تكترث لمتابعة عراك النظرات بينها وبينه فذهبت نحوه لتخبره بما اخبرها اخيها:

- جاد.. سعد بيحاول يكلمك ومش عارف يوصلك..


هز رأسه وعينيه متعلقتان بكلًا من اخته و "إيناس" حيث قاربتا على الإختفاء بداخل المنزل ثم أردف بنبرة عالية نوعًا ما حتى تستطيع سماعه:

- كلمته.. كلها شوية وهيجي..


عقدت حاجبيها وسألته مُتعجبة:

- سعد هيجي! ليه فيه حاجة ولا إيه؟


اجابها بإقتضاب:

- علشان حوار رُفيدة.. 


تركها وغادر لتتابعه بأعين مُحتقنة بخليط من الغضب والحزن حيث ذهب في نفس اتجاه اخته و "إيناس" لتزفر بضيق وأخذت أنفاسها تتصاعد غضبًا إلي أن غاب عن عينيها بينما عادت من جديد لتتفقد "سلمان" الذي استمر بالرقص مع "رغدة" بمنتهى الرشاقة..


تابعتهما وهي تحيط جسدها بكلتا ذراعيها بينما سُلبت أنفاسها من تلك الطريقة التي يتحركا كلاهما بها، أو لتكون أكثر تحديدًا، خطواته وتحركاته وابتسامته السعيدة الآن تجعل افكارها تختلط بشدة، لا تعرف من هو، الآن يبدو مختلفًا كثيرًا عن كل تلك المرات التي تحدثا بها، رجل من عالم آخر، يتحرك برشاقة، يداه التي تتحكم بهذه المرأة أمامه، خصره، ذراعيه التي تعانقها بخطوات راقصة، ذلك الهواء الذي يحرك ثوبها أمامه، حقًا الأمر يبدو وكأنها تُشاهد فيلمًا من تلك الأفلام الكارتونية التي يتراقص بها الأمير والأميرة سويًا بحفل المملكة الراقص..


ارتسمت ابتسامة على شفتاها وهي تتابع بقية هذه الرقصة وشردت بما تراه لأول مرة في حياتها يحدث أمام عينيها حقيقة وليس وكأنها بحلمٍ سعيد ثم شهقت فجأة عندما وجدته يُقبل وجنتها قُبلة مطولة برومانسية جعلتها هي نفسها تخجل ثم تعانقا بشدة وقبلها من جديد على جبهتها أمام مرآى من الجميع لتستيقظ محمحمة من متابعتها لهما ولم تر تلك النظرات المصوبة نحوها من والدته التي لا تترك هفوة دون ملاحظة!


تحولت نظراتها نحو ابنتها التي كانت للتو تُشارك زوجها هذه الرقصة أمام الجميع واقتربت لتستمع لهما وبالكدا استطاعت تبين حديثهما المتبادل:

- راغب.. الموضوع مش هيتصلح برقصة.. please كفاية.. أنا مرضتش اكسفك قصاد الناس علشان بحاول لغاية الآخر نحافظ على صورتنا وسلمان مالوش ذنب يحصل حاجة يوم خطوبته.. 


تنهد وهو يقربها إليه وتلعثم لوهلة ثم اندفع بالحديث:

- نانسي ارجوكي.. اخر محاولة، لو منفعتش ابقي اعملي اللي انتي عايزاه..


تفقدته بنظرة مطولة لتلتوي شفتاها بإنكسار بما يُشابه ابتسامة ثم أومأت له ببطئ شديد بأنه لن يستطيع إصلاح الأمر وأنها هي الأخرى لن تحاول ثم تركته وغادرت لتبتعد عنه..


❈-❈-❈


وقف يحوم أمام غرفة "رُفيدة" وهو بداخله لا يريد مواجهتها أمام "إيناس" بعد ما حدث بينهما منذ قليل ثم فجأة استمع لصوتها وهي تصرخ:

- معرفش يا رفيدة، معرفش ليه عملت كده وقربت منه وبوسته.. يمكن بموت أي حاجة جوايا بتتحرك ليه علشان اعقد الموضوع ومخليش لينا فرصة!


تجمد مكانه بعد أن استمع لصوتها الذي تبعه اجهاش بالبكاء شديد للغاية منها ليعقد حاجباه مُتأثرًا بما يستمع له، فهو لم يكن يومًا رجل قاسي القلب ولكن أن يقترب من فتاة مثلها، حتى ولو كانت أصدق من تعامل معهم بالأيام الأخيرة، ولو كانت مرحة، ولو كانت تجعله يشعر بهذا التردد الطفولي بداخله، ولو تصاعدت خفقات قلبه كلما رآها، ولو سيطرت الإبتسامة على ملامحه كلما تفقدها.. كل هذا ليس بكافي كي يتهور بالإقتراب من إمرأة مثلها لا تُناسب أبدًا ما تربى عليه.. فيبدو أن كل واحدًا منهما لديه حياة وافكار مختلفة تمامًا..


اقتربت نحوها لتعانقها في دعم وتركتها كي تهدأ من نوبة بُكائها قليلًا إلي أن فعلت ثم نظرت لها بقليل من المرح لتتسائل بهمسٍ:

- جاد يا ايناس؟!


قضمت شفتاها وهي تنظر لها واعينها لا تتوقف عن ذرف الدموع ثم اجابتها ببكاء:

- اعمل ايه، مش بمزاجي.. مكونتش متخيلة اني الاقي راجل بسيط بيفرق معاه اخته ولا حتى بيتعامل بإحترام ولا بيبصلي بنفس وساخة الباقيين.. بعد سنين لقيت اللي بيبصلي بصة كأني انسانة مش مجرد واحدة شمال!  


تنهدت وهي تنظر لها ثم حدثتها بنبرة داعمة مُستفهمة:

- طيب اهدي واحكيلي.. انتي يعني بعد اللي حصل ده حاسة بإيه؟ شايفة إنكو مستحيل تتكلموا تاني؟


زفرت متهكمة وهي تجفف دموعها واجابتها بحسرة ونبرة ارتفعت بتلقائية منها لتنهاها عن التفكير بهذه الطريقة: 

- سيبك من حاسة بإيه، جاد عمره ما هيقبل واحدة نامت مع رجالة.. انتي مش شايفة بيفكر ازاي.. ده يوم ما عرف الموضوع بتاعك اتجنن! 


عقدت حاجبيها ولم تُدرك أيًا منهما أنه استمع لهذه الجملة التي صاحت بها "إيناس" وتسائلت بتعجب:

- انتي فعلًا عملتي كده ولا كنتي بتقوليله كده وخلاص علشان شايفة إن كل واحد فيكوا من background مختلفة؟


ابتسمت بإنكسار وتوجهت لتجلس على الأريكة واشعلت احدى سجائرها وهي تتأنى في الإجابة عليها وحدقت بالأرضية ثم انطلقت بإندفاع ولكن بنبرة يُمزقها الآلم نافثة دخانها بعصبية:

- آه عملت كده! اكتر من مرة!


نظرت لها صديقتها بصدمة ثم اقتربت لتجلس بجانبها وهمست لها:

- ازاي.. احكيلي اللي حصل يا ايناس!


استنشقت المزيد بعصبية شديدة واجابتها ودخانها يتفلت من بين شفتيها المتحدثتين:

- أول مرة كان فيه واحد مستقصدني.. كنت لسه يادوب داخلة عالم الـ night clubs والشرب وبابي مات وانتي بعدتي وفي يوم سكرت اوي وهو استغل الموضوع! وبعدها بقى الموضوع اتكرر معاه، خلع مني.. استنيت شوية.. وبعدين يعني..


ترددت قليلًا في الاعتراف بالأمر والتهمت المتبقى من سيجارتها التي تستنشقها بشراهة ثم نفثت داخنها بينما امسكت "رُفيدة" بذراعها بدعمٍ شديد لتخلل هي شعرها رافعة اياه:

- جم بقى ورا بعض، اغلب المرات كنت سكرانة.. أول مرتين بعد الأولاني ده، وفي المرة الرابعة.. كان واحد شكله حلو ومش مصري.. I was too high.. حشيش يعني متقلقيش مش حاجة تانية.. فنمت معاه وبعدها مشوفتوش.. 


انهمرت احدى دموعها وهي تشعل سيجار أخرى ببقايا الأولى وأصابعها ترتجف وهي تنفث هذا الآلم بها وبداخلها هي على يقين أن كل ما تفعله لا يُفيد لتهمس بحرقة:

- أصل صعب اوي تاخدي الوساخة بالحضن وفجأة تبقي نضيفة.. وأنا ملقيتش ساعتها غير القاعدة في البارات والـ night clubs بدوشتها والـ drinks والرجالة اللي بيغرقوني كلام حلو وكل واحد مستني دوره في رقصة، وبقى عندي شلة وسخة.. mix كان بيلهيني عن ان بابي مش جانبي وإن انتي فكراني خاينة وان أهلي مبقيتش فارقة معاهم! 


رطبت شفتاها وتواترت دموعها بقهرٍ شديد ليهتز جسدها بعنف اثر ما تشعر به لتضيف:

- صدقيني المُشكلة مش مُشكلة حتة جلدة واتقطعت وإن الناس تعرف أو متعرفش.. المُشكلة إن بيفضل فراغ جواكي بإنك مش فارق معاكي تفرطي في جسمك تحت كل راجل شوية.. علشان كده أنا كنت ضد كل اللي انتي بتعمليه.. طظ في كلام الناس، اهم حاجة اللي انتي حاسة بيه مش اللي همّ بيقولوه! وصدقيني احساس إنك dirty cup اوسخ من أي احساس تاني..


قاطع كلماتها تلك الطرقات على الباب لتزفر "رُفيدة" بضيق بينما جففت "إيناس" دموعها سريعًا فهي لا تكره أكثر من نظرات الشفقة بينما اتجهت الأولى لتفتح الباب بملامح منزعجة لتتلاقى أعينها بأعين "جاد" الذي سألها:

- انتي ازاي بعد كل اللي سعد بيعمله معاكي سيبتي الأمن اللي معاكي يتعرضوله، وكنتي فين اليومين اللي فاتوا؟


ربما كان يسألها، وهو لا يزال يُكمل في تلك الخُطة التي رسمها هو و "سعد" ولكن عينيه ذهبت تلقائيًا لتتابع "إيناس" التي سرعان ما نهضت كي تولي له ظهرها كي لا يرى ضعفها الذي ارتسم على ملامحها، ولكنها تأخرت فلقد سمع بعضًا من حديثها عندما ارتفعت نبرتها ببعض الكلمات، وقد رآى كذلك ذلك الحُزن والآلم الذي ارتسم على تقاسيم وجهها.. 


❈-❈-❈

بعد مرور ساعة..


شردت بالأرضية في ذهول وهي لا تستطيع نسيان كل ما رآته وعايشته الليلة جالسة بالمرأب كما هي عادتها كي تحتمي بجدرانه من شدة الهواء الشتوي ولكن بنفس الوقت تستمتع بهذا السكون بعد انتهاء الحفل، وبالرغم من كل ما حدث ولكن لا تزال تلك الصور و"سلمان" يراقص "رغدة" تأبى بشدة أن تغادر رأسها، فهي كفتاة لم تختبر اقتراب رجلٍ منها قط اختلطت مشاعرها بين تمسُكها بالعادات، اكتراثها بما تربت عليه من والدتها، وبين الإنبهار الذي يمنعها إلي الآن أن تركز فيما يحدث حولها بتحركاته وأناقته ورقصه ومعاملته لها مما جعل شعورها الفطري بأن ترغب في اختبار مثل نفس الإحساس والشعور يومًا ما!


توسعت عينيها وهي تستمع لخطوات مُقبلة لتخفض من جسدها على ذلك المقعد وهي تدعو بداخلها أن جسدها فارع الطول لن يظهر للأعين وسيختفي خلف تلك السيارات المصفوفة وابتلعت بإرتباك.. 


فضولها جعل أعينها تتابع مصدر الصوت ليتعالى بداخلها الفضول من جديد بعد أن وجدت "سلمان" يودع خطيبته لتبتسم بعفوية ولكن سرعان ما غلف وجهها الحُمرة وقضمت شفتاها عندما رآته يُقبلها قبلات متتالية وحاولت الإنخفاض بجسدها اكثر إحراجًا من أن يراها تُشاهد ما يحدث بينهما ولكنها لم تتنبه لتجد نفسها تسقط أرضًا بعد أن أدى انخفاض جسدها للوقوع بعد أن اصبح لا يُلامس مقعدها.. وقد تفرقت كلتا ساقيها الطويلتان بهرجلة مؤدية إلي التوائهما!


تفلت صياحها بتآوه فطري مفاجئ لم تقصده وبنفس الوقت آتى السائق لتحلق كلًا من اعينهما نحو مصدر الصوت وسألته:

- انت سمعت الصوت ده؟


أومأ لها بالموافقة وعندما لاحظ مكانها خلف احدى السيارات تأكد أنها هي من لون ثوبها الذي اهداه اياها فلم يُرد أن يجعلها تشعر بالخجل أمام "رغدة" ليلتفت لها وهو يبتسم وقال:

- انا هاروح اشوف فيه ايه، وانتي طمنيني لما توصلي..


أومأت له لتبتسم بسعادة ثم همست بإمتنان:

- أوك.. اشكرلي طنط تاني بصراحة اليوم كان حلو اوي، وأنا لولا إن عندي تصوير من بدري مكونتش مشيت وكنا روحنا كملنا السهرة برا..


قبل جبهتها واحتوى وجهها بين كفيه وهو ينظر لها ثم حدثها متفهمًا:

- أنا عارف إنك مشغولة، وبحب قد ايه انتي dedicated في شغلك.. مش مشكلة تتعوض.. تصبحي على خير يا حبيبتي.. 


طبع قبلة رقيقة على شفتاها فبادلته اياها ثم اتجه نحو السيارة التي تنتظرها وقام بفتح الباب لها وودعها وانتظر إلي أن غادرت ليلتفت نحو مكانها الذي لاحظه ولم يعلم بعد انها تحاول الوقوف مرارًا ولكن كاحلها التوى دون أن تشعر عندما سقطت وصعُب عليها أن تطأ بقدمها أرضًا خصوصًا بسبب هذا الحذاء المرتفع عن ما ترتديه عادةً.. 


اقترب بخطوات هادئة لينظر لها أرضًا ثم انفجر ضاحكًا وهو يُبادر بمساعدتها على الوقوف ثم همس بين ضحكاته:

- انتي بتعملي ايه بس هنا.. 


رمقته مُضيقة عينيها نحوه بتحفزٍ شديد بينما آنت بتوجع لتستند ممسكة بيده بقوة لتتحدث قائلة:

- ثانية بس رجليا مش قادرة اقف عليها.. الظاهر اتلوت جامد!


هدأ من ضحكاته وهو ينظر لها بإهتمام ثم سألها بجدية:

- تحبي اكلملك دكتور؟


أومأت له بالرفض ثم همست:

- لأ دكتور ايه بس علشان لوية رجل، أنا هاعمل كمادات ولا هدهنها والفها وهاكون كويسة.. 


هسهست متحملة على آلمها وحاولت السير في حذائها الرسمي الذي لا تعتاد السير به لتتوجع كثيرًا ثم هتفت به:

- ثانية بس اقعد، مش قادرة امشي..


ساعدها على الجلوس وهو يتفقدها بإهتمام جلي ثم تكلم مقترحًا بإكتراث:

- رحمة، انتي فعلًا شكلك تعبان، تحبي نروح مستشفى حتى لو مش عايزة دكتور يجيلك هنا..


أومأت له بالإنكار واخفضت من رأسها لتخلع حذائها وحاولت تفقد كاحليها لتجد أنه سرعان ما اتضح الورم بإحداهما بينما الآخر كان يبدو وأنه بخير ولم يظهر عليه الورم لتزفر بضيق، فالورم ليس جيدًا أبدًا في مثل هذه الحالات لتستند بيداها على المقعد كي تحاول النهوض وبمجرد محاولتها على تحميل ثقل جسدها على قدماها شعرت بالوجع من جديد..


نكست رأسها لتغطي خصلاتها الطويلة وجهها ليتنهد هو بإرهاق وتلك الصغيرة أمامه لا تتوقف عن العبث ليقترب حاملًا حذائها لتتابعه بإستغراب ثم اقترب نحوها ليحملها رغمًا عنها..


توسعت عينيها وهي تصيح به:

- ايه ده انت بتعمل ايه؟


هز رأسه بإنكار من هذا السؤال السخيف الذي استمع له ثم نظر لها بجدية واجابها:

- عندك حل تاني علشان تعرفي تطلعي اوضتك؟ وانتي رفضتي اني اكلملك دكتور او نروح المستشفى.. على الأقل ادخلي اوضتك وبعدين شوفي عايزة تعملي ايه!


اكمل خطواته دون اكتراث للعاملين أو من يراهم فبداخله هو مُتيقن أنه حقًا يُساعد فتاة ولو من أمامه رجلًا سيساعده هو الآخر لتتفقده هي وهي تلتفت حولها بإرتباك لتتلعثم بإحراج:

- طيب بلاش قدام الناس يعني.. يعني لما يشوفونا.. خليك من الباب اللي ورا احسن!


رفع احدى حاجباه ورمقها بغير تصديق ثم تسائل متعجبًا:

- انتي عايزاني اشيلك اربع ادوار بحالهم واحنا فيه في بيتنا اسانسير؟ بتهزري مش كده؟


زمت شفتاها وهتفت به:

- لا.. طيب خلاص نزلني وأنا هتصرف.. اصل يعني ميصحش.. وأصلًا فيه ناس بتنضف وهيشوفوني.. بص أنا مش مرتاحة كده!


توقف عن أخذ الخطوات ليتنهد وهو يتفقدها بحيرة ثم همس لها:

- الرياضة كويسة وانتي مش تقيلة خالص! جسمك خفيف!


تصريحه بأنه يحمل جسدها جعلها تبتلع بإحراج أكثر ولفت نظرها للشعور بذراعيه وهي تلتف حول جسدها وقبل أن تبادر بقول المزيد توجه بالفعل صاعدًا بهذا الدرج الداخلي للعاملين كما أرادت هي فتابعته بمزيج من الإرتباك والإحراج وهي لأول مرة بحياتها تكون قريبة من رجل بهذا التلامس الشديد الذي لم يحدث سوى معه هو وحده!


ابتلعت وهي تتفقد ملامحه من أسفل اهدابها كي لا تبدو فتاة وقحة وزجرت نفسها أن تفعلها لتتسلط نظرتها على صدره الذي بدأ في العلو والهبوط وبدأت في الشعور برائحة عطره الجذابة لتتوتر أكثر بينما هو يُتابع ملامحها دون قصد أو نية مُبيتة بداخله أن يفعلها ولأول مرة يُلاحظ عن قربٍ تفاصيلها بهذا الوضوح الشديد.. 


لقد كانت رحلتهما شاقة نحو الأعلى لتحمل كلاهما تلك اللحظات فهي شعرت بتوتر لم تختبره قط وهي تشعر وكأنها تفعل شيء خاطئ ولكنها حقًا تتألم ولا تدعي الأمر، وأما هو فحمله لها من الخارج حيث المرأب ليصعد بها أربعة طوابق متتالية كان صعبًا عليه للغاية! 


انخفض قليلًا بمستوى جسده وتحولت أنفاسه المتسارعة للهاثٍ من المجهود وفتح باب غرفتها التي تمكث بها ثم اقترب نحو السرير دون أن ينتظر ليضيء الأنوار ثم اخفض جسدها وجلس هو الآخر على نهاية الفراش ووضع حذائها أرضًا مُلتقطًا أنفاسه وهو يُغمغم:

- واضح أن شهر من غير gym أثر عليا.. دي كانت اشارة اني المفروض ارجع تاني! 


هز رأسه بسخرية على حاله ليزداد ارتباكها وهي تتفقد ملامح وجهه بتعجب في ظلمة الغرفة لترى جانب وجهه الجذاب الذي انعكست عليه هذه الأنوار البسيطة المُنعكسة من الشرفة فسرعان ما أضاءت المصباح الجانبي لسريرها ونظفت حلقها ثم همست مترددة:

- سلمان شكرًا أنا.. أنا تعبتك.. 


أومأ بالموافقة تأكيدًا على كلماتها والتفت لها وقد هدأت انفاسه:

- دي حقيقة فعلًا.. واعتبريه وعد مني اني عمري ما هحاول اكون gentle-man تاني واعمل الجنان ده! 


جعلها تبتسم رغمًا عنها لتهز كتفاها بعفوية واخبرته:

- قولتلك والله نزلني انت اللي صممت! 


قطب جبينه مبتسمًا بسخرية ثم تكلم قائلًا:

- غبي، اول واخر مرة اعملها في حياتي.. وعد!


لانت ابتسامتها وهي تنظر إليه ليعم الصمت للحظات فحمحم وهو يشعر أنه بات يتفقد ملامحها أكثر من اللازم ثم سألها بعد أن همهم بتردد:

- تحبي اجيب دوا أو اساعدك في اي حاجة؟


ارتفع حاجباها بقليل من الإندهاش ثم أخبرته بإمتنان:

- لا لا تمام أنا هتصرف.. شكرًا..


اخفضت نظرها نحو كاحليها لتجد أن الورم قد زاد بالفعل بواحدًا والآخر حاولت تحريكه لتجد أن الآلم به ليس بشديد ليباغتها متسائلًا وهو ينظر نحو كاحليها:

- انتي كنتي بتعملي اي في الجراج؟ وايه اللي وقعك الوقعة دي؟


رفعت عينيها إليه بصدمة ثم ابتلعت والوجوم يسيطر على ملامحها ثم اجابته بأحرف متأنية محاولة أن تكون جُملة صريحة:

- كنت قاعدة عادي.. يعني.. عادي.. ووقعت عادي.. مكونتش واخدة بالي عادي..


ضيق عينيه نحوها ثم همهم بغير اقتناع وأضاف:

- ولويتي رجليكي عادي وانا شيلتك عادي وادي رجليكي اهي وارمة عادي مش كده! 


قلب شفتاه وهو يومأ بالتفهم بينما هي خصلاتها تحجب بقية ملامحها عنه ولا يظهر خلفها سوى عينيها المُرتبكتان لينهض متنهدًا وهي تتابعه بعينيها ثم حدثها قائلًا:

- لما تبقي موجودة في الجراج تاني ابقي اخرجي عادي وسلمي علينا، مالوش لزوم تبصي من ورا العربيات.. مش اول مرة يعني تعمليها!


تصنعت البلاهة وهي تنظف حلقها لتسأله بإرتباك:

- وأنا هابص من ورا العربيات ليه يعني؟


ابتسم لها نصف ابتسامة ورمقها بنظرة اخيرة واخبرها بلين:

- لو محتاجة حاجة ومعرفتيش تجيبيها ابقي كلميني على موبايلي، تصبحي على خير..


تركها وتوجه لخارج غرفتها ليُغلق الباب وهي لا تزال تتابعه بعينيها لينمو بداخل كلاهما شعورًا جديدًا بعد تقاربهما الذي حدث دون تعمد من أي منهما.. فبدلًا من أن يقضي ليلته مُفكرًا بتلك المرأة التي سيرتبط بها بدأ في التفكير بتلك الملامح التي كانت قريبة منه للغاية على بُعد إنشان قليلة منه وما فعله لأجلها، وبدلًا من أن تنام هي أجرت بعض الإسعافات الأولية لكاحليها وصوره من احداث اليوم منعت النوم أن يتسلل لجفنيها..


❈-❈-❈



نزل كلاهما بينما تقهقرت "إيناس" التي فضلت أن تمكث بالغرفة بدلًا من أن تواجه "جاد" وهذا كل ما تتجنبه الآن وكان "سعد" بإنتظارهما وبمجرد رؤيتهما تحفز بمكانه وهو ينظر نحو اخيه بلومٍ شديد ورمق "رُفيدة" بنظرات غاضبة على الرغم من تلك العاصفة التي تسري بداخله كلما رآها..


نظرت له بتعجرف شديد ولولا أنه هو الوحيد الذي يُجالس "ياسر" الآن لما كانت قبلت أن تُلاقيه وتوجهت لتجلس بأريحية وملامحها يعتريها البرود الذي تبرع به وقبل أن يتحدث "جاد" بادر هو لائمًا اياها:

- مكنش يصح يا مدام رفيدة انك تبعديني بالأسلوب ده.. بس يالا معلش.. مظنش إن ده غريب عليكم يعني! 


رفعت احدى حاجباها لتهكمه المُستتر بينما حول وجهه وكامل جسده نحو "جاد" ليُخبره:

- مدام رُفيدة اختك مصممة تدخل محاكم في موضوعها هي وجوزها، حقها طبعًا.. بس حقي وحقك إننا ميتقالش اننا خاطفينه، واحد زيي وزيك سوابق مش هيطلعوا منها بالساهل!


التفت نحو أخته التي فكرت بعقلها الشيطاني أن تكسب تعاطف الجميع أولًا خلال مواقع التواصل الإجتماعي والإعلام وثانيًا فكرت بنفوذ "راغب" الذي سيضمن لها سهولة إجراءات طلاقها ولم تُفكر أبدًا بما قد يفعله "جاد" أو بما قد يؤثر عليه فواجهته بنظراتٍ ثابتة بينما سألها هو بغضب:

- انتي فعلًا كنتي عايزة تعملي ده؟ 


هزت كتفيها بمنتهى الهدوء واجابته:

- شيء طبيعي الجأ للقانون ما دام ياسر مش عايز يطلق، زي ما أنت ما عملت مع بابي ومعانا.. أظن إن ده تصرف أي واحدة مكاني..


شعر بغليان دمائه بعروقه وقد قارب على الإنفجار بوجهها بينما استمع لصوت "سعد" الذي تدخل بهدوء هو الآخر:

- بكرة يا مدام رُفيدة هتيجي تمضي على ورقة طلاقك.. من غير قضايا، من غير شوشرة، وبمنتهى الهدوء وهيتنازلك عن كل حاجة.. 


رفعت نظرها نحوه بإستهتار فهي لا تظن أنه سيستطيع فعلها، فما الذي يقدر على فعله سجين مثله لا يملك دهاء "رُفيدة الشهابي" ولا تستطيع فعله هي..


نهضت متفقدة اياهما ثم حدثت كلاهما ببرود وعجرفة:

- يا ريت متبوظوش كل اللي بيحصل، لأن محدش هيوقفني عنه، ولو فاكرين انكو علشان مقعدين ياسر عندكم في البيت يبقى هيزهق مثلًا ويطلق يبقى انتو لسه مفهمتوش دماغه!


انطلق صوت اخيها زاجرًا اياها بنبرة جهورية تعج بالغضب:

- رفيدة!! انتي اللي بتبوظي كل حاجة باللي بتعمليه.. ده مالوش غير معنى واحد.. إنك عايزة توديني أنا وسعد في داهية! 


قلبت شفتاها بقلة حيلة مُزيفة استطاع كلاهما قرائتها على ملامحها ثم ردت بتعقيب سخيف:

- ده كان حلي الوحيد! 


ضحك "سعد" بخفوت وهو ينظر لها ثم قال بصوت خافت وملامح ساخرة:

- فعلًا! ما أنا قولتلك هطلقك منه..


ابتسمت له بنفس ابتسامته ثم قالت بغطرسة:

- مظنش حد زيك هيقدر على حاجة أنا مقدرش عليها!


تفقدت كلاهما متنهدة ثم أردفت ببرود:

- بعد اذنكم، الوقت اتأخر، تصبحوا على خير.. 


التفتت وتركتهما لتصعد نحو الأعلى حيث غرفتها وكاد "جاد" أن يذهب خلفها بعد أن صفعتهما بإهانة شديدة لم يتوقع أنها بعد كل ما مر ستبدر عنها ولكنه منعه "سعد" بيده هامسًا:

- استنى.. سيبلي أنا الطالعة دي


هتف بصوتٍ عالٍ نسبيًا كي يتهادى إلي مسامعها بسؤالٍ واحد ليس إلا:

- ولو بكرة خليتك تمضي على ورقة طلاقك؟


التفتت له بملامح هاكمة واشارت بإصبعها بغرور:

- أنت مصدق نفسك!


أطرق برأسه إلي احدى الجوانب ثم قال بتحدٍ شديد ومنتهى الثقة:

- آه، تحبي تجربي..


ضحكت بخفوت ساخرة منه بينما قالت بسخرية:

- أوك.. تمام.. معاك لغاية بُكرة السعة سبعة بليل، لو ممضتش على ورقة طلاقي أنا وياسر هامشي في كل الإجراءات..


ابتسم بخيبة أمل لم يستطع قرائتها سوى "جاد" ليساومها متسائلًا:

- ولو مضيتي؟


تعجبت وهي تقرب ما بين حاجبيها لتعقد ذراعيها وهي تطرق بأناملها على شفتيها في توالي كما هي عادتها عندما تُفكر بينما صفعته بمزيدٍ من الإهانة:

- إيه يعني لو مضيت، عايز فلوس مثلًا حق اللي أنت عملته؟


احتقنت دماء "جاد" وشرع في آخذ خطوات نحوها ليجذبه "سعد" وواجهها بدلًا منه ناظرًا لها بتحدٍ مساوٍ لتلك الثقة بعينيها الفاتنتين ونظراتها القاتلة ثم اجابها صافعًا اياها بالإهانة التي كان يحاول أن يمنع نفسه عن التفوه بها:

- لا.. اللي بيفكر بالماديات دايمًا ده بيبقى قليل الأصل، من وجهة نظره الفلوس هي كل حاجة، وأنا متربتش على كده، أنا عايز حاجة تانية خالص!


ثبتت أمام تلك الإهانة وبدأ الغضب في الإرتسام على ملامحها وقد نجح في استفزازها ببراعة وقلبت شفتيها الممتلتين كعلامة عن استفهامها ليبتلع ولكن لم تلحظ هي ذلك ليتحدث بهدوء:

- لو حصل وطلقتك منه، جاد خط احمر، لو اذيتيه في حاجة مش هتلاقي غيري يوقف قدامك، وطول ما انتي عايشة أيًا كان الحاجة اللي هتخلي ياسر يطلقك هتفضل معاه! ومش هتطوليها يا مدام رُفيدة!


 رفعت حاجباها متعجبة وهزت رأسها بإستنكار لتتركهما وغادرت إلي الأعلى غير مُصدقة أن رجل لا يملك شيئًا مثله سيستطيع فعلها ليلتفت له "جاد" بوجوم وسأله بنبرة خافتة:

- انت ناوي تعمل ايه؟


تابعها بعينيه إلي أن اختفت عن انظاره ليلتفت إليه هامسًا:

- ده شغل مساجين، رفيدة الشهابي ملهاش فيه.. أنا بس عايزك تاخد بالك من رحمة لأني بعد اللي قولتهولها مش بعيد تؤذيها زي ما كانت هتؤذينا.. وأهم حاجة قولي، اخبار البيت اللي انت بتجهزه ايه؟ فرشته ولا لسه؟ ولو مفرشتوتش تعرف تتصرفلنا في حاجة ايجار مفروش حلوة؟


❈-❈-❈

صباح اليوم التالي..


تعجبت من تواجد "راغب" بمثل هذا الوقت بالمنزل ولكنها لم تكترث لتواجده من الأساس وأكملت متابعتها لحاسوبها الذي ترى به بعض التقارير الأولية التي ستبني عليها مشروعها بالكامل ليُرغمها على التشتت بينه وبين ملامحه عندما سألها:

- بتعملي ايه؟


تعجبت من أنه قد يسألها عن شيء واجابت بتحفز:

- ارجوك سيبني اركز في اللي قدامي.. وبعدين مش المفروض عندك شغل دلوقتي.. غريبة.. من امتى يا راغب وانت بتبقى في البيت لبعد الساعة عشرة الصبح!


هز كتفاه وهو يأخذ خطوات حولها بغرفتهما ثم عقب قائلًا:

- عادي يعني.. عايز اقعد معاكي..


همهمت في تفهم ثم ارتشفت من كوب قهوتها واعادتها من جديد على المنضدة بجانب حاسوبها الذي اغلقته بضيق ثم نهضت لتواجهه:

- صدقني كل الحاجات اللي بتعملها دي جاية متأخر.. بعد اذنك خلينا نمشي في اجراءات الطلاق في أسرع وقت..


أومأ لها بالإنكار واقترب نحوها ثم تحدث بمصداقية:

- نانسي، أنا عمري ما هاخسرك.. عندي استعداد نعمل اي حاجة علشان نرجع كويسين..


ابتسمت له بحسرة ثم قالت بهدوء:

- احنا عمرنا ما كنا كويسين.. أنا حتى مش فاكرة اخر مرة كنا كويسين كان امتى


تنهد متألمًا ثم أخبرها بصوتٍ متردد:

- للدرجادي كنت وحش في كل حاجة ولا كأننا كان بينا حب، ولا حتى كأن بينا سيلا.. أنا يمكن آخر مرة اعصابي فلتت مني بس اوعدك مش هتحصل، وعمري ما قللت منك في حاجة او عاملتك بدون احترام.. ده كله ميدنيش فرصة تانية معاكي.. 


زفرت بضيق وهي تهز رأسها ثم خرجت مغادرة اياه وهي تشعر وكأنما الحديث معه اصبح ميؤوس منه وتوجهت للخارج وتبعها هو ليهتف مناديًا:

- نانسي.. استني احنا مخلصناش كلامنا..


لم تتوقف وأكملت طريقها نحو الخارج والغضب يتملك كل ذرة بدمائها وعقدت ذراعيها وهي تقف بأحدى الأركان حيث تصبح مكشوفة أمام أعين الجميع فهي تعلم أنه لا يكره أكثر من أن يتم الحُكم عليه بنظرات من حوله ليقف هو خلفها ثم حدثها بإلحاح:

- نانسي أرجوكي خلاص.. كفاية كده.. حاولي تسامحيني على اللي عملته، أنا آسف.. 


التفتت وكادت أن تصيح به بينما استمع كلاهما لصوت ابنتهما الصارخ فجأة فتوجه كلاهما نحو مصدر الصوت لتقع اعينهما على "جاد" الذي يهرول خلف ابنتهما وهو يُلاعبها وهي تضحك وتحاول الفرار منه لتنظر له بلوم ثم همست:

- اهو منظر زي ده عمري ما شوفته بينك وبينها.. تقدر تقولي امتى كنا كويسين؟ متحاولش يا راغب تقنعني بحاجة عمرها ما كانت موجودة! بعد اذنك..


تركته واتجهت في طريقها نحو الداخل لينظر نحو أخيه بغيظٍ هائل ثم قرر بداخله أن يوقفه عن افعاله تلك، فهو لا ينقصه المزيد من هذا المُزعج فتوجه نحوه وصاح به:

- بقولك ايه، متلعبش مع سيلا تاني.. 


رفع حاجباه إليه ثم حدثه متعجبًا:

- يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، خير على الصبح.. الناس بتقول صباح الخير الأول..


رمقه بعجرفه ودمائه تحتقن بالغيظ ثم قال بنبرة غليظة:

- مش هاكرر كلمتي.. سيلا دي تنساها، سمعتني ولا اكرر كلامي، ولا تحب تشوفني بنفذ الكلام بطريقة تانية..


نظر له بإستغراب فهو كان مداومًا على جلوسه وملاعبته لتلك الصغيرة منذ أيام، لماذا هكذا فجأة يتغير معه ويمنعه عن ملاعبتها ويرفض هذا بل وهناك غضب جديد من نوعه على ملامحه لم يعهده منه فقال:

- جرا ايه يا راغب ما أنا بلاعب البنت كل يوم..


تفوه بنبرة عالية جعلت ابنته تبكي بخوفٍ منه:

- هو كده وإذا كان عاجبك كفاية مستحملينك في البيت ده..


اندهش مما يستمع له وكاد أن يصرخ به ولكن بُكاء "سيلا" جعله يربت عليها مُطمئنًا اياها:

- بس يا حبيبتي ده بابا متعصب شوية.. روحي لماما دلوقتي..


نظرت له وهي تشعر بالخوف بعد أن تفقدت والدها وأمسكت به بينما قاطعتهما "نانسي" بتواجدها واقفة بالمنتصف بينهما وقد كانت تستمع لكل ما حدث منذ أن استمعت لنبرة زوجها المتعالية التي لا تستمع لها سوى نادرًا ثم صاحت به غير مُكترثة أن أخيه يستمع لهما بعد أن اطمئنت أن ابنتها ذهبت مع المُربية:

- أنا مشوفتش بجد أسوأ من كده.. علشان شدينا في الكلام تروح تعمل كده قدام البنت! أنت بجد اتجننت خلاص! ولعلمك أنا اللي قايلة لجاد يلاعبها لأنها للأسف مبقتش تقعد غير معايا أنا أو الناني.. حرام عليك تضايق البنت كده.. دي مش طريقة ابدًا.. واللي أنت عملته ده يخليني عند كلامي.. هتطلقني يا راغب لأن انت مبقتش خلاص ينفع حد يعيش معاك!

❈-❈-❈


ظهيرة نفس اليوم..


ابتسمت لها بإمتنان وحدثتها بطيبة زائفة لم تفهمها الأخرى ثم قالت:

- بجد كنتو حلوين أوي سوى امبارح.. بجد مبسوطة إن سلمان اختارك.. 


بادلتها الإبتسامة بسعادة وهي تضع كوب العصير جانبًا وعقبت بإمتنان:

- حضرتك تعبتي اوي يا طنط في كل حاجة، الحفلة كانت حلوة اوي وبجد اتبسطت..


ربتت على يدها بحنان مصطنع ونظرات تبدو سعيدة ولكنها لم تعلم ما تخفيه خلفها:

- أنا بس لو متعبتش لسمان هتعب لمين


أردفت بلباقة وامتنان شديدان:

- ربنا يخليكي لينا يا طنط، سلمان معندكيش فكرة بيحب حضرتك ازاي..


تنهدت بحزن اصطنعته ثم نظرت لها مُدعية قلة الحيلة وأخبرتها بنبرة مُحبطة:

- أنا عارفة انه بيحبني.. بس مش عارفة هيفضل لغاية امتى بيختار غلط وبيقرر غلط، أنا مش فاهمة هيفضل لغاية امتى بياخد قرارات مفاجئة كده..


اختلفت ملامح "رغدة" لتتسائل بقلق:

- خير يا طنط فيه ايه؟


تصنعت اليأس ثم همست لها:

- بصراحة يا دودو أنا كنت قاصدة إن سلمان ميعرفش عن مقابلتنا علشان عايزة اصارحك بكل حاجة..


تريثت لوهلة لتجد أنها تنتبه لها تمامًا وفي انتظار هائل لكل ما ستقوله فتابعت بنبرة غلب عليها الهموم:

- فجأة يقولي انه عايز يسيب البيت ويشوف بيت تاني ليكو وهو كان واعدني انه هيفضل معايا في نفس البيت لما يتجوز، فجأة يبلغني بقرار خطوبتكم، في الفترة الأخيرة دايمًا تعبان ومصدع ومش مركز، وكمان في البيت بشوفه مع البنت الممرضة دي ويفضلوا قاعدين مع بعض بالساعات ويضحكوا وامبارح بعد ما مشيتي شالها لغاية اوضتها.. حاسة إن سلمان فيه حاجة مش مظبوطة.. ازاي مبسوط معاكي وبيعمل كل ده، أنا بجد قلقانة وعايزة اتطمن عليه، متعرفيش فيه ايه بالظبط؟

❈-❈-❈



قبل غروب الشمس بقليل..


تنهد وهو لا يدري ما الأمر الجلل الذي استدعى "جاد" أن يمكث فجأة مع اخيه  كما أخبره بالهاتف ولكنه على كل حال سيُنهي هذه المهزلة عما قريب فبعد رد "رُفيدة" الذي سمعه أمس كان دليلًا واضحًا على أنها لا تكترث لها نهائيًا..


توقف المصعد بالطابق المؤدي لغرفة مكتبها ثم مشى آخذًا الخطوات كي يصل إليها ولقد انتهى من أمر "ياسر" بأكمله وأمسك بأدلة قاطعة مُسجلة بتصوير مرئي أنه رجل شاذ! 


هذا كان الحل الوحيد أمامه، أن يأتي بواحدًا من اعتى السجناء المشهورين بسمعتهم القذرة وشذوذهم كي يصور معه هذه اللقطات التي لا تُظهر سوى وجه "ياسر" المُستسلم تمامًا لما يفعله به، ولكن الأمر كان مُلفقًا بأكمله فلقد قام بحقنه بإحدى عقاقير الهلوسة لجعله مستمتعًا أثناء تحرش هذا الرجل به!


هو حقًا لم يُجبره على ممارسة ولكن الأمر كفيل بهذا التصوير أن يتم فضحه.. وفضيحة أمام أخرى من هذا التصوير الذي يملكه على زوجته سيكون جيد للغاية كمساومة على الطلاق التي فاز بها بالفعل، لم يترك له حلًا آخر بعد أن هدده بنشر الأمر أمام عينيه بعد أن قام بالفعل برفع التسجيل المصور على صفحات ثلاث من مواقع التواصل الإجتماعي الشهيرة وكان ينقص فقط الضغط على نشر، وهذه المرة ليست خيانة زوجته، بل شذوذ! والشذوذ في مجتمع كهذا يُنظر له بطريقة مختلفة تمامًا.. 


وكما يُقال في المثل الشهير - خبطتين في الراس توجع - فضيحة خيانة يتبعها فضيحة شذوذ جنسي وبعدها طلبٌ من زوجته أن تحصل على الطلاق، هذا سيُمهد لها كثيرًا أن تحصل عليه.. الأمر سيكون مسألة وقت ليس إلا! 


لم يكن هذا هو الأمر فحسب، يبدو أنها ثلاث خبطات متتالية، لقد آتى بواحدة من العاهرات التي تتناول أموالًا، جعلها تضاجعه، قامت بجرح نفسها وإظهار علامات الضرب عليها بعد أن فعلتها بنفسها ولو رفض التوقيع وقتها ستذهب لتحرر له محضر بالإغتصاب وتستطيع سريعًا أن تتقدم للطب الشرعي لإثبات آثاره من تحليل بسيط سيُجرى لها وسيتقين وقتها المسئولين أنه بالفعل قام بالإعتداء عليها، بالإغتصاب! لذا إما التوقيع اليوم بالتنازل عن كل ما يساوم عليه زوجته وإما هذه قضية جديدة عليه أن يستعد لها! 


كان عليه أن يغدو شيطانًا ليظفر بهذا النزال مع تلك الشيطانة الفاتنة، ولسوءء حظها هي لا تعلم بعد ما اختبره بين جدران سجن ظُلم به بسبب والدها.. الآن عليه فقط أن ينتظر لحين زوال مفعول ما اعطاه له من دمائه بالكامل وسيتركه ليذهب وشأنه بعد أن يوقع كل الأوراق اللازمة التي ستوثق فور توقيعهما عليها..


أشار لسكرتيرة مكتبها ألا تخبرها فلقد رآته قبلًا أكثر من مرة بالشركة بينما طرق الباب وانتظر بعدها أن تُجيبه فلم يحدث فدخل بنفسه لتتعجب من تواجده ولكنها رفعت وجهها عن حاسوبها ليحدق هو بملامحها التي تصيبه دائمًا بزلزال شديد يهز كيانه بأكمله ثم حدثها بثقة قائلًا:

- لو مستعدة وورقك جاهز، ياسر هيتنازلك عن كل حاجة ويطلقك دلوقتي حالًا.. اتفضلي معايا لو تحبي!


يُتبع..