الفصل الخامس - أشواك وحرير
الفصل الخامس
"الحب"..ليس فقط إتحاد هوي،تفاهم،تلاؤم ،اندماج عقلين....بل هو أيضاً ارتياح الفطرة إلي فطرة أخري تأنس بها وتكتمل بوجودها.
"د.مصطفي محمود"
❈-❈-❈
يجلس كلاً من مازن ومالك في بهو المكتب يطالعون كومة من الأوراق بتركيزٍ تام وكأنهم في وسط إختبارات البكالوريا...بينما ميرا تطالع حاسوبها المحمول بإنبهار تام فقاطعها رنين هاتفها بالضجيج لتخرج إلي الشرفة بصمت تام حتي لا تقطع وصلة تركيزهم الشديد فتتعرض للتوبيخ من أي منهما...ضغطت علي زر الإجابة :
_آلو!..خالو عامل إيه؟
أجابها دكتور مصطفى بإستعجال شديد وطلب منها الذهاب لإصطحاب روان إلي منزلها لأنها تجلس في الشارع بسبب أعمال الصيانة في شقتها...فردت ميرا بسخط :
_وأنا مالي أنا!..ما تقعد في العربية وتقفل الـ lock أو تنزل في hotel أو تروح عند حد من أهلها...لكن أنا وهي no way ده يحصل!
ضجر خالها من كراهيتها لروان فوبخها بشدة كما أعطاها درس أخلاقي عن الشهامة..فلم تجد بدُ للرفض خاصة بعدما أشعرها كلامه بالإحتقار الشديد تجاه نفسها..فردخت في نهاية الأمر وطلبت منه عنوان شقة روان.
❈-❈-❈
دخلت ميرا إلي داخل المكتب من جديد تتمتم بعض الكلمات بسخط فسألها مازن بمزاح :
_ايه يا بنتي أنتي اتهبلتي ولا ايه ؟
فردت عليه بحنق :
_لا بس ست زها حديد دي خالو كلمني وطلب نروح نجيبها أنا وأنت لأنها دلوقتي في الشارع.
فسألها مالك بلهفه :
_ليه مالها ؟
خللت شعرها بيديها للخلف وزفرت بعمق :
_مفيش..بس الشقة بتاعتها تقريباً فيها صيانه بصراحة مفهمتش أوي.
فرد مازن بتعجل :
_طب يلا مستنية إيه تعالي نروح نجيبها.
تعلم أنها وعدت خالها بالذهاب إليها بسرعة..لكن ماذا تفعل فلقد أستعصيت عليها كرامتها بشدة كلما تذكرت طردها المهين لها أمام الطلبة...فترددت قليلاً في إخبارهما بعدم ذهابها إليها ولعنت نفسها علي غباءها في إخبارهما منذ البداية.. ولكنها حسمت أمرها بالرفض القاطع فأردفت بتردد :
_بس أنا مش هروح لها.
تبادل كلاً من مالك ومازن النظرات المتحيرة عقب جملتها الأخيرة...فظن مازن إنها لا تريد الذهاب إليها لإنشغالها بشراء فستان عيد ميلادها عبر مواقع التسويق الإلكتروني فرد متفهم :
_خلاص..مفيش مشكلة هاتي العنوان وأنا هروح أجيبها.
أغتاظت ميرا من إهتمامه الشديد بأمر تلك الغريبة فردت بثقة :
_لا ما هو أنا مش هدخلها بيتي فمفيش داعي تروحلها!
صاح مازن بها في إنفعال شديد فهذا ليس وقت عنجهيتها..فالفتاة تجلس وحيدة في الشارع بعد منصف الليل ولا أحد يعلم شئ عن حالتها :
_يعني إيه مش هتدخليها ؟!..أنتي شكلك اتجننتي أساساً .
حاول مالك تهدئة صديقه حتي لا يتسبب بمشكلة سخيفة مع ابنة عمه :
_اهدأ يا مازن.. الكلام ميبقاش كده!
فرد مازن بعصبية مسرعاً :
_أومال يبقي إزاي يا مالك ؟!..أنت مش سامع اللي بتقوله .
أردف مالك ببساطة :
_بيتها وهي حره فيه... خلاص متضايقهاش علشان موضوع فارغ!
كاد مازن أن يعترض فقاطعه مالك مسرعاً :
_يلا كفاية شغل كده النهارده...سلام
ونظر لصديقه وأغمض عينيه بمغزي "لا تقلق"..فتفهم مازن إشارته...كاد الأول أن يتحرك للخارج فأسرعت ميرا تمنعه بلهفه بقولها :
_بس إحنا لسه مقعدناش مع بعض ،وكل ده كنتوا بتشتغلوا .
فأجابها مالك بعفوية :
_مره تانيه يا حبيبتي لأن الوقت اتأخر.
خرجت الكلمة بعفوية محضة منه ،ولكنها تركت اثران متغايران تماماً علي كلاً من مازن وميرا...فميرا بات قلبها يقرع كالطبول فرحاً بتلك الكلمة البسيطة فيتنامي الأمل بداخلها ،بينما مازن اعتراه الضيق الشديد...هو أبداً لا يشك بصديق عمره لكنه يعلم تمام المعرفة ما يدور في رأس ابنة عمه الآن!
❈-❈-❈
جلست روان تتلاعب بهاتفها في سيارتها أسفل العمارة القاطنة بها ،وأخذت تفكر هل أخطأت حينما رفضت عرض دكتور مصطفى بالمبيت مع إبنة شقيقته؟...لكنها سرعان ما نفضت تلك الفكرة جانباً..حتي وأن نامت في الشارع فهو أفضل لديها من أن تصبح مدينه لأحد لأنها تعلم تمام المعرفة أن النفوس تتغير ،وربما تتعرض في يوماً ما للذل والإهانة...فيكفيها ما عانته من القريب...فكيف إذن بالغريب! ،كما ما تحمله علي عاتقها لمجد... ذلك الشقيق الذي لم تنجبه والدتها والذي لم يتركها للحظه خلال الست السنوات الماضية!
لمحت أضواء سياره بدت لها مألوفة تقترب منها..فصُدمت حينما علمت هوية قائدها...إنه مالك!...ما الذي آتي به إلي هنا في هذا الوقت...أيُعقل أن يكون دكتور مصطفى من أرسله إليها؟!..يبدو كذلك اللعنه!
تمتمت لنفسها بضيق باللهجة مسرحية :
_بقي الراجل اقوله ميبعتش ميرا يقوم باعتلي اللي أسخن منها!
ادعت الإنشغال سريعاً بهاتفها المحمول حينما وجدته صف سيارته بجانب سيارتها... ثم توجه إليها مباشرة قائلاً بهدوء :
_يلا... علشان نمشي!
أدعت الجهل بإرتباك لم يخفي عليه هو :
_نمشي نروح فين؟....ثم سألته مباشرة بضيق مصطنع "وبعدين أنت إيه اللي جايبك دلوقتي؟"
إبتسم بإصفرار علي جهلها المصطنع الذي يظهر للأعمي...ثم أجابها مكتفاً ذراعيه أمام صدره :
_دكتور مصطفي قالك إنه هيبعت ميرا...بس أنتي شايفه الوقت متأخر فقولتلها إني أنا اللي هاجي... معلش بقي مضطره تتحملي واحد قليل الذوق زيي مسافة الطريق!
تعمد أن يذكرها بسبتها له في مكتبه من باب المرح..حتي تعتاد عليه ،لكنها شعرت بحرج بالغ وأندفعت الدماء الساخنه نحو وجنتيها فأطرقت رأسها بخجل وشكرته بإمتنان حقيقي :
_أنا متشكره جداً.. أنا تعبتك معايا بس والله أنا رفضت إن ميرا تجيلي أصلاً وقولت كده لدكتور مصطفى بس هو أنا مش....
كان بالفعل متأكد من رفضها للذهاب معه فقاطعها بنفاذ صبر قائلاً :
_أنا مش جاي كل ده علشان تشكريني وتقولي إنك مش هتيجي معايا ،وأياً كان السبب اللي خلاكي لدلوقتي في الشارع بس أنا مش هسيبك هنا..أنتي بنت وكده مش أمان!!
تيبست رأسها بالعناد ثم رفعت رأسها بكبرياء :
_شكراً...بس أنا هعرف أحمي نفسي كويس!
حدثت مشادة كلامية بينهم إستمرت لبضع دقائق...كان مالك يسخر من ثرثرتها عن شجاعتها المزيفة تارة وتارة أخرى يحاول إستمالتها بينما هي تقابله بصلف وكبرياء شديد يأبي الإنحياز له...كل ذلك تحت أنظار شابين تحت تأثير الكحول وحينما ارتفع صوت روان ومالك ظن الشابين أنها بائعة هوى تأبي الذهاب مع الآخر فقرروا إصطحابها بدلاً منه ...أقترب منهما الشابين وقاما بالتلميح بالكلمات البذيئة الجارحة في حقهما...فلم يلتفتت إليهما أياً منهما...حتي حاول أحدهما سحب روان من ذراعها...فغلت الدماء بعروق مالك وبدأ معهما في مشاجرة بالأيدي جرح أحدهما بها ذراع مالك بمديته لكن مالك إستطاع أن يتغلب عليهما خاصة أن الخمر قد لعبت بعقلهما فأفقدتهما إتزانهما ...
كانت روان تتابع المشهد بقلق بالغ.. خوفاً على أن يحدث له أي مكروه بسببها ،ولكنها تنفست الصعداء حينما ضرب الآخرين حتي أفقدهما وعيهما...إتجه مالك نحوها وعينيه يقدح بهما شراراً نارياً لوهله أخافها فصاح بها بغضب :
_اركبي.
تسمرت في محلها بصدمة وكأنها لم تستمع إليه...فأتجه نحوها وسحبها بقوة نحو سيارته...صاحت به في عنف :
_أنا مقدره إنك ساعدتني لكن ده ميديلكش الحق تمسكني كده ولا تجبرني إني اركب معاك!
أمسك بعجلة القيادة وبدأ في القيادة بملامح غاضبه بسرعه نوعاً ما خاصة مع خلو الطريق في هذا الوقت المتأخر من الليل...ثم ألتفت إليها بنفس ملامحه الغاضبة وتحدث وكأنه من سنوات يعرفها وليس فقط من أسبوعين :
_شوفتي أخرة حركاتك المتهورة؟!...أنتي عارفه كانوا هيعملوا فيكي إيه...كانوا هيغتصبوكي!!!
أشاحت وجهها للطرف الآخر بخجل شديد وقد إندفعت الدماء لوجهها فتلون بالأحمر القاني...بعد مرور دقيقة تقريباً أنتبهت لـ نزيف ساعده الأيمن فأردفت بقلق وعفوية بالغة خوفاً من خطورة إصابته وتفاقمها :
_مالك!..دراعك بينزف!
كانت هذه المرة الأولى التي تتلفظ فيها بأسمه فكان وقع إسمه عليه من بين شفتيها كموسيقي عذبة خاصة مع قلقها الواضح عليه...لا يعلم لماذا سره بشده إهتمامها به فظن بسبب إفتقاده بشدة لأن يهتم به أحد خاصة بعد وفاة زوجته الحبيبة وابتعاده الشبه دائم عن والدته وأخته في الفتره الأخيرة فرجح ذلك السبب وأستدرك نفسه سريعاً ملتفتاً لها بإبتسامة مطمئنة :
_متقلقيش...ده جرح بسيط.
ردت بسخط :
_بسيط!..أنت مش شايف إيدك؟!..ممكن تكون المطوة ملوثة.
أختطفت بعض المحارم الورقية من العلبة المتواجدة أعلي تابلوه السيارة وبدأت في تجفيف الدماء...كانت أصابعها تتلامس مع ذراعه بدون قصد منها مما جعله يتوتر من حركتها العفوية تلك...فنظر إليها بجانب عينه وجدها منحنيه بإتجاه ذراعه بتركيز تام :
_سيبي المناديل علشان بتشتت كده ،ومتقلقيش...ده جرح بسيط.
هزت رأسها بالموافقة وعادت لكرسيها من جديد منكمشة علي نفسها فألتصقت بالباب الآخر للسيارة.
❈-❈-❈
في نفس الوقت بلندن مدينة الضباب...أقتربت سيده بملامح أرستقراطية في أوائل الخمسينيات من عمرها من ذلك الشاب الموليها ظهره منهمك في ترتيب حقيبته...ربتت كاميليا علي كتفه بحنان وأردفت بعتاب :
_برضه مصمم تسافر عالطول كده؟!
ألتفتت إليها مجد ببسمه هادئة وتنهد :
_اعمل إيه؟!..الشغل وحشني أوي.
فلكزته في ذراعه قائلة بمشاكسة :
_الشغل برضه!..ولا المزة اللي بتدير الشغل؟
مسح علي رأسه بإحراج من كونه بات مكشوفاً لوالدته هكذا ،وفي الوقت نفسه لم يصدق حقاً ما قالته والدته فهي دائماً ما تتحدث برقي وتحضر وانفجر ضاحكاً بعدم تصديق علي حديثها :
_كامي هانم بتقول مزه؟!...جبتيها منين دي يا كوكي؟!
_ولد!..متغيرش الموضوع ويلا عيني في عينك كده..أنت لسه جاي امبارح من الصين هترجع مصر ليه؟
ضحك ورفع يديه بإستسلام :
_وحشتني أوي وعاوز أشوفها.
فمسحت بباطن كفها علي وجنته بحنان أمومي وأقترحت بعاطفة :
_طب ليه مش بتقولها؟!
_خايف!
قالها ببساطة...فسألته هي بحذر :
_هي ممكن ترفضك؟!
حرك رأسه بمعنى "لا" :
_مش موضوع ترفضني...هتوافق لأنها أوهمت نفسها إني صاحب فضل عليها...بس في نفس الوقت هي رافضة الموضوع حالياً وخايفة من اللي حصل لهم من أبوها زمان يعني هتكون بتسدلي الدين!
فعادت كاميليا تقترح من جديد :
_بس على الأقل تكون حاولت.
قبل رأسها وتمتم :
_سبيها لله والمهم إنها حالياً موجوده في حياتي تحت أي مسمى.
ثم عاد يسألها بترقب :
_لو رفضتني..هتكرهيها؟
أجابته بإستنكار :
_ايه الكلام الفارغ اللي بتقوله ده؟!.. كل شئ نصيب هكرهها ليه؟!.. صحيح هكون زعلانه عشان ابني الوحيد بس ده مش معناه أبداً إني اكرهها ،الجواز مش بالعافية.
احتضنها بمحبه فبادلته هي ولفت ذراعيها حول خصره وأخذت تمسح على ظهره بحركات متتالية ،وكان هو أول من بادر بالحديث :
_لما بابا يصحي سلميلي عليه وقوليله إني زعلان علشان مصحاش يسلم عليا.
❈-❈-❈
تقلبت ميرا في فراشها عدة مرات بتذمر لعدم قدرتها على النوم"ولا هعرف أنام في الليلة السودة دي"...تشعر بتأنيب الضمير علي تركها وحدها في الشارع وعدم تنفيذ وعدها لخالها فأستقامت من نومها تجلس على الفراش ،وتقوم بترتيب خصلاتها بإنزعاج لا تعلم لما يعتريها!..ثم حدثت نفسها بتبرم "وأنا مالي بيها..هو أنا كنت خلفتها ونسيتها؟!"
لكنها عادت من جديد تشعر بالقلق خوفاً من أن يُصيبها مكروه أو يتعرض لها أحد...فمهما حدث تظل فتاة مثلها وتستطيع أن تشعر ولو قليلاً بشعورها الآن!...زفرت بحنق "يوه أنا هقوم اروح لها"...همت بإرتداء ملابسها ولكن عاد جرح كبرياؤها يأن عليها من جديد..فألقت الثياب بعنف علي أرضية الغرفة، واتجهت لفتح أحد أدراج مكتبها وأخذت صورة لوالدها...ثم قامت بتقبيلها وتمتمت بحزن "الله يرحمك يا بابا من يوم ما مت ،وأنا لوحدي بعاني...وهي عايشه حياتها ولا علي بالها بنتها!"
أخذت الصورة في أحضانها وعادت من جديد للنوم في محاولة لإخماد صوت ضميرها!
❈-❈-❈
فتح مالك باب الشقة للتفاجئ روان من إمتلاكه لمفتاح شقة صاحبته ثم دلفت ورائه بخطى متردده وأخذت تطلع لملامحه المبهمه ثم سألته بتوجس :
_أومال فين ميرا؟!
استمر في حالة غموضه وأجابها بثبات زائف :
_ميرا مش هنا..دي شقتي!
رمشت بأهدابها عدة مرات في محاولة بائسة منها لفهم إلي ما يعني بقوله شقته ثم سألته بهدوء زائف :
_وايه اللي جابنا شقتك...مش المفروض كنا نروح شقة ميرا؟
كان ينتظر هذه المواجهة ببعض التوتر فكان متردد أيخبرها بالحقيقة أم لا..؟..خاصة وهو يعلم انها وصديقته غير متوافقتان...ثم قرر عدم أخبارها بالحقيقة حتي لا يجرحها لأنه قد علم سابقاً بـ حساسيتها الشديدة كما لا يريد أن يُظهر صديقته بالسيئة أمامها... فأقترب منها بثبات وأردف بهدوء :
_ميرا بره القاهرة...هترجع بكره وهي اللي طلبت مني اجاي اخدك علشان مش هينفع نسيبك في وقت زي ده ،ومتقلقيش الشقة هنا أمان مفيش حد هيتعرض لك.
أومأت بتفهم ونكست رأسها لأسفل بإحراج واضعة بعض خصلات شعرها خلف أذنها :
_بس..بس كده ممكن المدام تضايق يعني من وجـ...
قاطعها مبتسماً بهدوء يشوبه بعض الحزن و التوتر أيضاً خوفاً من القادم :
_لا أبداً..هي اتوفت من أكتر من سنتين!
_نعم يا أخويا؟!..ولما هي متوفيه أنت جايبني هنا ليه فاكراني ايـ...
قالتها بنبرة ممطوطة وصاحت في وجه بإنفعال..فقاطعها بنفاذ صبر مسرعاً تجنباً لإفتعالها المشاكل :
_اهدي بس وافهمي...أنا مكنش قدامي غير إني اجيبك هنا..ادخلي الأوضة اللي قدامك دي واقفلي بالمفتاح علي نفسك ومتقلقيش مش هاجي ناحيتك ولا هكلمك غير الصبح.
انتظرت لتفكر قليلاً ثم سألته بتردد :
_وأنت هتنام فين ؟
_في الأوضة اللي جنبك..هنام فين يعني.
ثم تابع حديثه "لو جعانه التلاجه فيها أكل..كلي وادخلي نامي ومش هزعجك"..وأشار إلى المطبخ والحمام.
ترددت في قرارها بشده.."فهل حقاً ستبيت في منزل رجل غريب؟! "..ستصبح كارثة إن علم أحد بما تكاد توشك علي فعله وربما تسرب الخبر إلي أهل بلدتها بالإضافة أنها لا تأمن ذلك الغريب!...حسمت أمرها واتجهت نحو باب الشقة للخروج منها فسمعته :
_أنا مش همنعك إنك تمشي بس خليكي فاكرة إحنا الساعه كام دلوقتي وإن حد اتعرض لك تاني أنا مش هكون موجود!
أرادت الذهاب حقاً لكن حديثه أشعرها بالوجل فهو معه كل الحق حسناً ستبيت في شقته وهو غريب تعرفه أفضل بكثير من غرباء لا تعرفهم!...إستدارات إليه وسألته علي مضض :
_هو الحمام فين؟..أنا عاوزه أغسل وشي.
نبتت علي شفتيه بسمه رضا سرعان ما أخفاها بداخله بعدما فهم إستسلامها للواقع وأشار إلي الممر الجانبي مره أخري :
_اتفضلي من هنا.
اتجهت روان للإتجاه الذي أشار إليه..بينما مالك استلقي علي الأريكة واضعاً إحدى ذراعيه علي وجهه والذراع الآخر مدده علي الطاولة بجانبه فصدم بيده حقيبتها وتناثرت محتوياتها علي أرضية الغرفة..فهب من مضجعه سريعاً حتي يعيد محتويات حقيبتها قبل خروجها من الداخل وهو لا يعلم حقاً لمَ تركتها مفتوحه ،ولكن سرعان ما شعر بالصدمة حينما وجدها تحمل صاعق كهربي!!..سمع صوت باب دورة المياة فأسرع بترتيب الحقيبة بمكانها واتجه للجلوس بعيداً عن الطاولة .
❈-❈-❈
قضي كلاً منهما الليل بأكمله مستغرقين في دوامة أفكارهما...روان لا تستسيغ النوم في أماكن غريبه وهو ما يُشعرها دائماً بالقلق فدائماً ما يُجافيها النوم ولا تنام أبداً خارج منزلها فكيف بها الحال وهي بداخل شقة شاب أعزب!!...إلي هنا وبدأت تتعجب بشدة من كونه أرمل في مثل هذا العمر بل ويبربي طفلين بمفرده!..يال ولديه من مساكينان فلم ينالا شيئاً من حنان والدتهما...ثم فكرت بتوجس "هل من الممكن أن يعاملهم بجفاء وأن يفكر في التخلص منهم رغبة في الزواج من أخري؟! "...نفضت تلك الفكرة من رأسها "لا لا يا روان هو شكله طيب وشهم مع الغريب يبقي هيكون وحش مع ولاده ؟!..لا مستحيل!"..فرد عليها عقلها بسخريه " ما تسيبك من المظاهر دي بقي..ما هو أبوك أهو اللي يشوفه يفتكره السير مجدي يعقوب.. مش أي حد ضحك في وشك يبقي مفيش منه.. بلاش غباء بقي!"..هزت رأسها بنفي محاولة طرد هذه الأفكار من رأسها فهي تحب إفتراض حُسن النية إلي أن يثبْت العكس "فلماذا تحكم عليه بالسوء وهي لم تري منه إلي الآن سوي الخير!!"....أمسكت هاتفها المحمول تحاول تنظيم أوقاتها حتي تقرر هل ستقبل بعرض دكتور مصطفى أم لا ؟
أما عن مالك فلم يكن بأفضل حال منها فلقد اعترته راحه غريبه من تخليها عن عنادها ومكوثها معه بمنزله ولا يعلم لم أسعده ذلك الأمر حتي وأن كان بقدر يكاد يُذكر لكنه برر لنفسه بأنها فتاة ولا يأمن عليها مكر شياطين الإنس فهذا أفضل حتي لا تتعرض لشئ فيشعر وقتها بتأنيب الضمير ثم تذكر حملها لصاعق كهربي...الأمر غريبٌ حقاً...هو يعلم أن بعض الفتيات يحملن ذلك الجهاز لأنهن يتعرضون للتحرش ونهش أرواحهم من قِبل ذئاب دَنسه لا ترحم...أصابه القلق من تعرضها لتلك الأمور خاصة وهي تعيش بمفردها وحيده في بلد غريب بداخل مجتمع شرقي...فكيف تواجه كل ذلك بمفردها وهذا الأمر ما زاد من إعجابه الشديد بها كونها لا زالت تحافظ على نفسها ،وتواجه كل هذه القذارة بمفردها حتى وإن بدت له شجاعتها زائفه في بعض الأحيان لكن هذا لا يقلل من إمتلاكها لقوة التظاهر بها علي العكس من الملايين مما يسموا أنفسهم بالرجال.
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي من كاڤتريا الجامعة...جلس مالك مقابل روان علي أحد الطاولات وقد ظهر علي الأخيرة التوتر من جلوسه معاها في مقر عملها فسألته بفظاظه :
_هو أنت مش عندك شغل تروح له بقي ؟
فهم رغبتها في التخلص منه ،ولكنه ابتسم لها وأردف بهدوء :
_أكيد عندي طبعاً بس مستني ميرا علشان عاوزها في موضوع ،ويا ستي لو متضايقه إني قاعد معاكي فهقوم اقعد على ترابيزه تانيه لغاية ما تيجي.
تفوه بجملته الأخيرة وهم بالوقوف ليخبرها بعدم رغبته في التطفل عليها فسارعت هي بإحراج :
_خليك قاعد...أنا مش قصدي حاجه...أنا بس عندي مقابله بعد ربع ساعة مع العميد وكمان مش عاوزه أعطلك عن حاجه.
هز رأسه بنفي ولا زالت الإبتسامة العابثة تزين ملامحه الوسيمه فقد نجحت خطته :
_ما قولتلك مفيش عطله أنا مستني ميرا ،ولما الميعاد بتاعك ييجي تقدري تتفضلي.
اومأت روان في صمت...بينما أمسك هو بهاتفه المحمول يدعي النظر إليه تاره وتاره أخري يُلقي بأنظاره ناحية الباب الرئيسي مستمراً في خطته المزيفة بإنتظار صديقته التي لا يعلم حقاً هل ستأتي أم لا!..استمر الصمت بينهما إلي أن قطعته روان بأمتنان حقيقي فأنتبه لها مالك بكل جوارحه :
_ أنا مش عارفه اشكرك ازاي علي اللي عملته معايا امبارح.
هم بالرد عليها ولكن منعه ميرا التي هتفت بإسمه بإندهاش من وجوده في جامعتها بل والأغرب جلوسه مع "زها حديد" كما أطلقت عليها في رأسها ولكنها تنهدت بإرتياح حينما وجدتها سالمة لكنها لم يخطر ببالها ولو لحظه كونها باتت في منزله ، إبتسمت بسعادة وسألته بإستغراب :
_إيه المفاجأة الحلوة دي ؟!..مش إحنا كنا....
قاطع حديثها خوفاً من إكتشاف كذبته ،فستأذن من روان وسحب الأخري من ذراعها متجهاً إلي أحد الأركان فطالعتهم روان بلامبالاة نوعاً ما ،وهمت بمغادرة المكان فلمحت مازن الذي كان يحاول اللحاق بإبنة عمه فلوحت له بكفها حتي يراها....أقترب منها وحياها برسميه وبعد تبادل السلامات والسؤال عن الأحوال سألها بإهتمام :
_شوفتي ميرا؟
أشارت بيدها في إتجاه معين فلمح صديقيه ويبدو عليهما بعضاً من التحفز ،وقد فهم أن صديقه كان جالساً معاها بعدما قام بتوصيلها...رن هاتف روان فستأذنت من مازن للرد عليه فأومأ بتفهم وصافحها مودعاً.
بينما علي الجانب الآخر هتفت ميرا بتفأفف :
_طب وأنا أعزمها ليه..كانت من بقية أهلي؟!
رد عليها مالك بتحذير :
_ميرا !..أنا أول مره اطلب منك حاجه فلو أنا وضيوفي تقال عليكي عرفيني علشان محضرش.
توسعت عيناها بذهول وصاحت مستنكرة :
_إيه اللي أنت بتقوله ده يا مالك؟!..أنت إزاي تحط نفسك عندي في مقارنة واحده معاها ؟!
_أنا طلبت منك طلب وأنتي رفضتي تنفذيه..لا وكمان إهانتك للضيفة بتاعتي معناها إهانة ليا ودي حاجه أنا مش هقبلها.
ألقي حديثه الجاف في وجهها وهم بالرحيل فسارعت هي بإمساك ساعده وسألته بإستعطاف :
_طب بس قولي أنت عاوز تعزمها ليه ؟
لم يكن يعلم بين جنبات نفسه إجابة سؤالها..فالأمر الوحيد الذي يعلمه فقط أنه يريدها بجانبه لوقت أطول ولا يعلم لمَ.."هل من الممكن لأنه رأي كم هي وفيه ومخلصه لصديقها الغائب؟..أم لأنها صلبه شجاعه ذات عنفوان مثير؟!..أم لتقلب شخصيتها فأحياناً ما تندفع في تصرفاتها وتتأهب للشجار كما لو كانوا في معركة وأحياناً أخري تصبح هشة رقيقه كأجنحة الفراش...عشرات الأسئلة دارت في مخيلته في تلك الثوان المعدودة...فاق من شروده علي يد ميرا التي تضغط ذراعه وتنادي عليه بإهتمام :
_بتقولي حاجه؟
_ده أنت مش معايا خالص..كنت بقولك عاوز تعزمها ليه ؟
_مش عارف..بس إحنا بقينا شركاء ،وكمان علشان ننهي الخلاف بينا وبينها متنسيش إنها معيده في القسم بتاعك برضه.
هزت رأسها بالموافقة على مضض وبداخلها لم تقتنع بأياً من الأسباب التي أخبرها بها فأذعنت إليه بغعدم رضي :
_بس كل ده مش سبب علشان أعزمها..فأنا مش هعزمها غير علشان خاطرك أنت ومازن.
_ها..هتعزمي مين علشان خاطرنا؟
كان هذا سؤال مازن الذي سمع جملتها...فتبادل ثلاثتهم النظرات ثم أخبرته بإنزعاج طفيف بأنها ستدعو لروان لحفلة عيد ميلادها...فهم مازن علي الفور من أن مالك السبب فلم يخفي عليه الحالة التي اعترت صديقه مؤخراً بسبب المدعوه روان وقد أصابه شعور بالسعادة من أجل صديقه الذي أوشك علي تخطي عقبات ماضيه الأليم...ثم اتجهوا ثلاثتهم ناحية روان التي كانت تضب أغراضها في حقيبة يدها فبادرت ميرا بإبتسامه مصطنعه بعد أن حثها مالك :
_باشمهندسه!..أنا حبيت أعزمك علي عيد ميلادي هيكون بعد أسبوع...هكون فرحانه لو جيتي.
شعرت روان بالغرابه لكون الحديث موجه إليها ومن مْن.."ميرا !!...ياله من صباح غريب"...فوزعت أنظارها بين كلاً من مازن ومالك...ثم بادلتها الإبتسامة المصطنعة وأردفت بود :
_كل سنه وأنتي طيبه.. إن شاء الله هاجي.
أقترب منهم شاب طويل نوعاً ما ويبدو في الثلاثين من عمره يرتدي ملابس شبابيه أنيقه ذو ملامح بشوشه فوقف خلف روان مباشرة وهمس في أذنها بحب :
_وحشتيني !
#يتبع
❈-❈-❈