الفصل الحادي عشر " إنه معجزة " 

أغمضت عينيها ليشد علي يديها فوراً جاعلاً إياها تفتحهم قائلا بجدية وسرعة: متفكريش.. متخليش أي فكرة تيجي في دماغك سواء حلوة ولا وحشة.. لأني هتكلم مش هسيبلك مساحة دماغك تاخدك وتوديكي وتتخيل حاجات ممكن تكون محصلتش.

تلجلجت وهي لا تعلم ماذا تقول: أنا.. أنا..

أكمل لها هو: أنا هسألك تاني، في حاجة عايزة تقوليلهالي المفروض أكون عارفها.

همست بتقرير وهو كله يؤكد لها أنه علي علم: أنتَ.. أنتَ عارف!..

ثم شهقت شهقة بكاء مكملة: أنتَ عارف اللي..

جذبها لأحضانه قائلاً بلين: متعيطيش.

وكأنه يخبرها أن تبكي لذا بكت بالفعل وهي تفعل ما قاله لا تود أن تفكر.. كي لا تخطئ التفكير لذا همست له: طيب اتكلم.. اتكلم.

ربت علي ظهرها قائلاً وهو يقف من مكانه ويساعدها علي الوقوف معه: هتكلم يا رنيم هقولك اللي أعرفه وهتقوليلي اللي حصل معاكي بالظبط.

أجلسها علي أريكة ما ثم أحضر لها ماء لترتشف منه القليل قبل أن تنظر له بحيرة.. ما لبثت أن تحولت لدهشة وهي تراه يفتح هاتفه علي التسجيلات الصوتية ليسمع معها التسجيل المسجل لها بصوتها "مدام زهرة لو سمحتِ نتكلم بهدوء ومن غير أي حدة.. أنا ميهمنيش كرم أبداً.. أنا عايزة فلوس كرم"

كان يراقبها وكما تصور وكما كان متيقناً عينيها توسعت بغير تصديق لما سمعته بأذنها.. انتظرها حتي رفعت عينيها لعينيهِ.. وكأنها مذنبة.. وكأنه سينتقم منها مثلاً.. يعلم أين قد يودي تفكيرها رغم ثقته هو بها.. رآها تهمس بعجز ودموعها تتسابق لخديها مجدداً: محصلش.. أنا مقولتش الكلام ده.. مقولتش كدي.. أنا.. أنا مقولتش والله والله ما قلت كدي أبداً.

ثم شهقت ببكاء ليخبرها بمساندة ولكن بجدية نبرته: رنيم قلت متعيطيش وأنا عارف أن التسجيل ده متجمع من كلام كتير انتِ قلتيه.

نظرت له بدهشة وملامحها تسأله.. حقا!!.. رأته يعبث بهاتفه مجدداً قبل أن يخرج لها صورها التي تجمعها مع المحامي ويديها التي كانت علي حقيبة الأموال.. قبل أن يقف تاركاً الهاتف بين يديها مُتجهاً لأحد الأدراج الذي أخرج منه العقد الذي وقعت عليهِ.. والذي أصبح قطعاً متناثرة أرضاً بعد أن أراها إياه وكأنه لم يكن من قبل..
كل هذا قبل أن يأخذ مكانه جوارها مجدداً قائلاً بضيق صدره: تعرفي أمي قالتلي ايه عنك أكتر من كدي.. قالتلي انك اللي روحتيلها تساوميها.. تتنازلي عن حقوقك بس مقابل كدي هتاخدي مبلغ محترم.. عارفة كمان مسمية جوازتنا ديه ايه.. جواز تسلية.. أنا هتسلي بيكِ لحد ما أزهق وأرميكي.. ما أنتِ ملكيش حاجة عندي بقي.. ومعاكي المبلغ اللي يأمنلك عيشة كويسة.

حاولت الحديث ولكن صدمتها وبكاءها منعاها ليهدر هو بحدة أخافتها: ما قلت متعيطيش.

شهقت وهي تيجبه بصدق: أنا والله ما أخدتش الفلوس ديه.. أنا مطلبتش فلوس.. والله مش عايزة منك جنيه واحد.

لم يحتمل دموعها أكثر من هذا ولم يحتمل كونها في موضع تدافع عن نفسها هكذا بعجز وكأنها ترجو أن يصدقها وفاقدة للأمل لأنها والدته.. ولكن ما لا تعلمه أنه يُصدقها من قبل أن تتفوه بحرف.. يُصدقها ويصدق قلبه ويكذب كل العالم دونها.. لذلك جذبها لصدره قائلاً برفق وهو يقبل رأسها ويمسد علي وجهها: رنيم يا حبيبتي أنا عارف كل حاجة.. كل حاجة يعني مش محتاج تبرير.. يعني واثق فيكِ.. يعني اليوم اللي قابلتي في المحامي أنا كنت موجود في المكان وعارف أن المحامي مشي بشنطة الفلوس وأنك مأخدتهاش.. عارف لأني سمعت ماما وهي بتكلمه وبتجيب اسمك في الموضوع.. عارف أن تسجيل صوتك اللي ماما سمعتهوني ده مقصوص من كلام كتير ومتركب علي بعضه علشان أنا وريته لحد متخصص وقالي كدي.. بس اللي مش عارفه أنا ليه معرفش كل ده منك أنتِ.

وأصر أن يقسو عليها بحديثهِ قليلاً رغم رؤيتهِ لتشبثها القوي بثيابه وكأنها لا تصدق أنه يعلم كل هذا بالفعل ولكن ما لبثت قسوته أن لانت بالنهاية: اللي مش عارفه أنتِ شيفاني مش قد أني أدافع عنك عشان بتتصرفي كدي لوحدك.. ولا مش واثقة أني هختارك لو عرفت أن ماما معارضة الجواز.. مش عارف ومش فاهم فاتكلمي أنتِ بقي يا رنيم لأني مش هحط أي تحليل في دماغي من غير ما تتكلمي.. وعشان تتطمني اللي في دماغي أنك بريئة.. بريئة أوي يا رنيم.. بريئة لدرجة أنك تستحملي اللي نسمة عملته فيكِ وتسامحيها عادي.. لدرجة أنك تستحملي رفض ماما ليكِ لوحدك من غير ما تفكري تقوليلي.. ليه يا رنيم.. ليه يا حبيبتي أنا معرفش منك كل ده ليه!!؟.

لا يعلم هل أخطأ بما قال؟!.. لأنها احتضنت جزعه كله وهي تبكي ب صدرهِ بعنف حتي خشي عليها فقال وهو يحاول رفعها عن صدره ولكنها آبت: يا رنيم.. بالله عليكِ بس.. أنا مش زعلان يا حبيبتى.. أنا بس حبيت تعرفي أني عارف كل حاجة من دلوقتي لأنك لو عرفتي بعدين ساعتها هتفكري فعلاً أنى بتسلي وكمان عشان مسبش فرصة لماما تقولك أو تذرع أي فكرة في دماغك وعشان نبدأ حياتنا صح ومنخبيش حاجة تاني علي بعض... رنيم ردي عليا بقي وبطلي عياط.. رنيم والله ه..

لم يكمل كلمته بل فعلها مجبراً.. قرص خصرها بقوة لتشهق متألمة مبتعدة عن صدره كما رغب.. تأوهت: أه.

مسد موضعها قائلاً بجدية: معلش ما كان لازم ترفعيلي وشك اللي بقي شبه الطماطم ده.

ثم ناولها المياه مجدداً قائلاً بحدة: امسكي أشربي ولو مبطلتيش المناحة ديه حالاً مش هقرص بس هعمل حاجات متتخيليهاش.. خلينا بقي نخلص من الموضوع ده الليلة هتضيع.

تحولت حدته لعبث ولين مجدداً.. وكأنه لا يستطع أن يقسو عليها حتي لو لمصلحتها.. ورغماً عنها ابتسمت..وشهقت بقوة وأخذت تنظم أنفاسها لأجله.. ثم استلمت هي دفة للحديث لتخبره بنبرتها الشجية: أنا.. أنا فعلا  عرضت علي مامتك التنازل عن حقي.. عشان، عشان تصدق اني بحبك أنتَ مش فلوسك.. بس مكنتش أعرف أن كل ده هيحصل وأنها بتضحك عليا.. مكنتش أعرف أنك عارف كل حاجة بالصورة المعكوسة ديه.

عبث بذقنه وهو يسألها باستفسار: ماما بينتلك امتي انها معترضة علي جوازنا؟ عشان تعرضي عليها عرض زي ده!.

نظرت له بارتباك وصمتت.. ماذا تخبره.. هو لم يتحدث أبداً في وسط حديثه عن هذا الأمر.. قبل أن تفكر قاطعها بجدية: رنيم.. أنا بتكلم كل ده ليه ولسة بقول ايه.. من الواضح أن في حاجة معرفهاش وانتِ بتفكري لسة.. بتفكري بجد يا رنيم.. بعد كل اللي قلته ده بتفكري هتقولي ولا لا.

عضت شفتبها وهي تنزع حجابها عن رأسها ليري لأول مرة خصلاتها القصيرة منذ أشهر عديدة.. ورغماً عنه ابتسم وهو يتذكرها بشعرها البرتقالي الطويل الذي لم يفارق خياله لأوقات كثيرة ثم تلمس خصلاتها القصيرة الأن قائلاً بعبث ساخر: ده أغراء ده يعني عشان أقفل علي الموضوع ولا ايه.

أجابته تلقائياً: كنت خايفة.. علي.. علي أهلي.. وكنت عيزاك في حياتي برده.. عشان بحبك يا كرم.. وعارفة أني مش هلاقي زيك تاني أبداً.. بس مامتك، مامتك هدت كل سعادتي.. أنا كنت طايرة.. طايرة من الفرح بيك.. وب حبك ليا.. بشوفتك كل يوم.. بهزارك وحنانك وشخصيتك اللي حبيتها أكتر من نفسي.. لحد..

شهقت مجدداً ببكاء ليُحدثها محاولاً المرح: هتعيطي تاني هقرصك بس المرة ديه في مكان مش هتنسيه.

ولكن نظرة عينيها محت كل مرحه وهي ترسل له خوفها وكأنها تستنجد بهِ وهي تكمل ببكاء متلمسة شعرها: في نفس يوم قراية فتحتنا،، نمت.. نمت فرحانة.. فرحانة أوي بس صحيت.. صحيت لقيت نفسي مش في بيتي.. مش في سريري..

نظر لها قاطباً حاجبيهِ لتُكمل بقهر: كنت في بيتك أنتَ يا كرم.. كنت بهدوم البيت.. بشعري.. كنت.. كنت.. مربوطة علي كرسي ومامتك قدامي..

رأت نظراته المعتمة بذهول.. ولكن دعماً تسلل من بين العتمة ليحاوط وجهها بكفيهِ الكبيران، يدعمها ألا تنهار وهو يحثها أن تكمل، فأكملت: هددتني وقالتلي أبعد عنك.. قالتلي أنها قدرت تجبني من وسط بيتي لهنا من غير ما حد يحس.. من غير ما أنتَ تحس أني تحت في نفس البيت.. لما قلت اني بحبك ضحكت.. لما قلت اني مش عايزة منكم فلوس مصدقتش.. شعري.. شعري انا.. هي.. هي.. مش انا.. انا.. انا تعبانة.

أغمضت عينيها بألم ليجذب رأسها لصدره مقبلاً إياها بعجز وعينيهِ تكاد تنفجر إحمراراً.. يُصدقها نعم.. لا يعلم لماذا؟، ولكنه يعرف ان والدته تكذب.. ويعلم أن رنيم نقية.. لأبعد حد هي بريئة ونقية لذا يصدقها.. احتضن جسدها كله بحنان مرسلاً أماناً تحتاجه لها قائلاً بهمس في أذنيها: عارفة أني بحبك صح.. وعارفة أني مش هسمح لأي حد يمسك بأذي لا أنتِ ولا أهلك حتي لو الحد ده أمي.

تشبثت بهِ بقوة أكبر ليدعم جسدها بذراعيهِ التي كادت إدخالها لأضلعه وهو يهمس بحب: نامي، نامي وارتاحي.

ثم أكمل بعبث لتضحك رغماً عنها: هي الليلة باظت خلاص.. تحبي أحكيلك حدوتة.

لم تستطع أن تغفو داخل أحضانه كثيراً.. فقط نصف ساعة أججت الدوار برأسها أكثر، قبل أن تفتح عينيها مستوعبة أنه ما زال يُداعب رأسها وبدا عليهِ الشرود فقد كانت حركة يديهِ رتيبة مكررة.. وهي تعلم تماماً بماذا يُفكر؟.

رفعت رأسها عن صدره لينظر لها باستفسار لتخبره بصدق: هدخل البلكونة شوية حاسة اني مخنوقة.

التمعت داخل رأسه فكرة.. ليست فكرة تماماً انما لهفةً ودها منذ أن رآها ليخبرها بلطف وهو يحاوط وجهها بكلا كفيهِ: طيب وايه رأيك نودي الخنقة مع بعض مش لوحدك في البلكونة.

عيناه كانت تلمع ونظرهِ كان واقعاً علي ثغرها الصغير فأخبرته بخجل وهي تفهم مغزي حديثه: أقصد عايزة هوا مش قصدي ابقي لوحدي.

رفع حاجبيهِ بغيظ قائلاً: أه يعني بتقوليلي متعملش اللي في دماغك يعني.

ضغطت شفتيها بخجل لتغمض عينيها تعبيراً عن موافقتها لما يريده.. لعله هو الراحة.. ولا تعلم ما تلكَ الكهرباء التي سرت بجسدها ما إن حطت شفتيهِ علي خاصتها.