الفصل الثالث - Eleven Eleven
الفصل الثالث (ذاكرة كاذبة)
ليلة أمس رأيت حُلمًا بدا وكأنه ذكرى،
لمحة عما كان يمكن أن يكون..
إشارات متداخلة من حياة أخرى،
حيث بدلًا من كل هذا،
كُنتَ ليّ ..
الحياة كانت بسيطة بشكل مدهش..
وكنا سعداء للغاية!!
-لانج لييف-
•¤•¤•¤•
كالحمم البركانية، اندفعت داخل قسم الشرطة بينما لقطات مما حدث تُبث دون انقطاع أمام عيناي بشكلٍ عكسي كإحدى أفلام السينما .. ذلك اللعين وهو يقتل حبيبي، ومن قبلهِ كل الأحداث تِباعًا بإيقاعٍ بطئ .. وهو يُمسك بي، يُكمم فمي، حتى عراكي معه الذي انتهى بكشفي لوجهه..
وجهه اللعين..
الآن أصبحت أذكر تفاصيله جيدًا .. أجل، تنشطت ذاكرتي بشكل غير مسبوق وعَصفي لتُعيّد عليّ ملامحه الدميمة، وكأنها تخشى أن تُنسى مجددًا!! .. انشٍ انش منه تذكرته .. تذكرته بالكامل، ولن اسمح لنفسي هذه المرة بالنسيان حتى لو صدمني قطارًا غاشم!! .. وحتى إن حدث، فالعاهر صورهُ تملئ الاعلام والشوارع أكثر من نجمات هوليوود!!
- أنتِ تقصدين السيناتور "جولدنبرج"؟!
مجددًا، سألني ذلك الشرطي داكن البشرة للمرة الثانية عشر تقريًا بنوعٍ من الاستهزاء والاستنكار .. لألعن بداخلي زُمرة الأغبياء التي هو منها ثم سحقت أسناني لأجيبه متخطية رغبتي بسّبُه:
- أجل، هو!!
تابع بسخرية أكبر:
- قتل زوجك؟!
قلبت عيني وأنا أُعيد عليه الحديث دون فائدة:
- أوه، كلا!!
- إذًا؟؟
سألني بجهل وكأنني لم أقف أمامه ثلث ساعة أشرح له ما حدث، وكأنه سيمتحن به:
- قتل حبيبي توماس إليجين!!
- مَن قتله؟؟
لم أتمالك نفسي ونفخت متمتمه بعصبية:
- اللعنة على الغباء!!
- ماذا تقولين؟!
نفرت ملامحه وانتفض واقفًا أمامي خلف مكتبه لاستشعر تضخم الأمور .. فأغمضت عيني واستكنت بيني وبين نفسي لثانية قبل أن أتأنى القول مُفصله كل كلمة عن التي تليها:
- هاك مجددًا، ما اقوله هو أن.. السيناتور.. جوزيف.. جولدنبرج ..
- جوزيف جولندبرج الذي نعرفه؟!
لم أتحمل غباءه المرة واختفيت من أمامه بسرعة، لانتشل من الخارج مُلصق ورقي رأيتُه مُعلق وانا أعرج القسم .. كان عبارة عن صورة للعين كُتب تحتها عبارة..
"انتخبوا السيناتور جولدنبرج"
وبكل غضب وغليل العالم حملتها لأضعها بعين الضابط الغبي:
- واللعنة هذا هو .. ذلك المجرم اللعين قتل حبيبي .. توماس .. إليجين .. قتله أمامي .. ليلة الهجوم على مطعم ادريانا .. كان أول موعد حب لي .. لكن ذلك المجرم .. افتعل هذا الحادث ليقتل توماس أمامي .. لقد احتجزني وخبأني حتى عن زملائه .. وعندما اشتبكت معه محاولة الفرار رأيت وجهه .. رأيته أيضًا وهو يطلق الرصاص على.. على توماس.. ورأيته ثانيةً وهو يقف فوق جثتي يتبين إذا كنت قد مُتْ أم عليه قتلي .. وعندما استيقظت علمت أني فقدت الذاكرة لكن ما إن رأيته منذ قليل، أقسم أني تذكرت كل شيء، لقد كان هو .. ذلك العاهر هو المجرم!!
كَرِرت كل الأحداث في نفسٍ واحد لتهتاج مشاعري بعدها وانخرط في نوبة بكاء هستيري أنتفض جسدي له وكأنه يُعاصر الحادثة من جديد، حتى شعرت أني مستنفذه تمامًا .. خرجت من تلك الفقاعة الكئيبة على صوت الضابط:
- أوه .. يا لها من قصة حزينة!!
حدقت الضابط الذي يبرز شفتيه الغليظة بتأثر لأكتشف أن الحقير كان يسخر مني ويستهزأ بمشاعري حينما تابع:
- سيدتي، هل أنتِ ثملة؟؟
فار الدم برأسي، بحق الجحيم لمّ الجميع يراني ثملة اليوم:
- ماذا؟! .. واللعنة لا!!
نفيت بعينٍ متسعة وقبل أن أتلفظ بكلمة زائدة، خاطبني بلهجة جامدة وهو يعود لكرسيه:
- حسنا، إذًا من الأفضل أن ترحلي الآن وحالًا قبل أن احتجزك بتهمة ازعاج السلطات!!
- أتمازحني؟؟
زعقت به قبل حتى أن أشعر، ليخبط المكتب بحدة فالتفت لنا كل العاملون:
- هل أبدو لكِ كذلك؟! .. غادري الآن!!
أغمضت عيني لأبتلع الإهانة لأن غايتي أهم بكثير من مشاعري الآن .. ومن ثم حاولت مرة أخرى تتسرب نوبة حدة داخل كلامي:
- أنظر .. سأكون كريمة ولن أتقدم بشكوى اتهمك فيها بالعنف اللفظي معي، ها!! .. فقط كل ما أرجوه منك هو أن تتعامل مع الأمر بجدية!!
- وأنا بالفعل أتحدث بجدية!! .. اذا لم ترحلي الآن، سأحتجزك!! .. ولكن، هذه المرة ليست بتهمة الازعاج، بل لأجل الخرف الذي أراه عليكِ!! .. ما رأيك؟؟
وهكذا خرجت من المخفر وصدري يمتلئ على آخر بالحريق .. حريق لا أعرف طريقة لإطفائه .. كنتُ مشتتة وداخلي تعمّ الفوضى، أفكار غريبة اقتحمت عقلي دون رادع وجميعها تأمرني بالسوء .. إما مُوَجه لنفسي أو للآخر .. والآخر هنا لا يعني سوى شخصٍ واحد ..
تعيس الحظ ذلك الجولدنبرج!!
❈-❈-❈
”الخطة بسيطة بيك.. ستذهبين.. وتصرخين أمام العامة بأن السيناتور المحترم هو قاتل وإرهابي“
- كلا، لن يسمحون لي بالمرور من الأساس .. وعندها سيأتي ذلك الضابط اللعين ويقول أنني مخبولة ويحبسني كما هدد!!
”إذًا .. تقفين من بعيد وترفعي لافته مُعلنة انه قاتل توماس!!“
- كلا أيضًا، سيأتي ذات الضابط اللعين ويخبرهم أنني مخبولة وينتهي أمري!!
”وجدتها .. ستذهبين لمنزله وتتسلقين السور وااا“
- اللعنة، مستحيل، هكذا سينتهي أمري حتى قبل أن يأتي الضابط اللعين ويخبرهم أنني مخبولة!!
صرخت بذلك وأنا أنتف شعر رأسي، وبالفعل شعرتُ بأنني سأفقد عقلي في الأخير، إذا بقيت على هذا المنوال أُحدث نفسي كالمخابيل منذ أن رجعت مكتبي بالمجلة!!
نظرت حولي بحرقة وقلة حيلة أبحث عن حل فإذا بي أصطدم بصورته أمامي، لاتزال تحتل شاشة الحاسوب، لم أُغيّر الفيديو بعد .. وببؤس سمكة يتيمة تعيش في كأسٍ وحدها، جعلتُها مَطاف وصرتُ أطوف حولها دون توقف .. أفكر في طريقة أقتنص بها منه، بينما أحدق بخِلقته القبيحة علّ الأفكار تنهال على رأسي .. وهذا ما حدث، لكنها لم تكن أبدًا بالأفكار المنطقية أو حتى السلمية كالسابقة، بل جميعها كانت شيطانية إجرامية تليق بفعلته السوداء، لا يعيبها سوى شيئًا واحد هو أنني سأفقد حياتي في سبيل التخلص منه!!
”الحقير .. سيُخرج روحي لكي أأخذ بحقي وحق توماس منه .. دميم، مخنث، عاهر ابن عاهرة...“
ومن جديد، أصابتني حُمى السباب ما إن أتعثر في كيفية حل معضلته .. العاهر ابن العاهرة لا يكفيه أنه سرق مني نور حياتي على حياة عيني، ليأتي بعدها ويسرق حياتي ذاتها .. واللعنة، ما هذه اللعنة التي حلّت عليّ؟!
”تبا بيك، ما هذا النحس يا فتاة؟! .. أيمكن أن يكون هناك شخص يمتلك هذا الكم من الحظ السيء؟! .. من بين آلاف القتلة بالعالم، يكن قاتل حبيبك من كبار ساسة الدولة!! .. في مؤخرتك إذًا، إن استطعتِ إثبات انه الفاعل!!“
رُحت من جديد أشد شعري كمجنونة أصلية، وأنا أرمق صورته التي خِلت للحظة أنها تحدجني بشماته .. وفي ذروة تَحوّلي كدتُ أفتك بالحاسوب المسكين، لولا دخول أحدهم بَغتةً ومقاطعته لذلك..!!
لم تكن سوى "ساشا" مساعدة إيما المسخ، والتي تخشبت ما إن رأتني على حالتي الشنيعة تلك .. ابتلعت ريقها مرتين وهي تقيمني من قدمي وحتى شعري المَنْكُوش قبل أن تتقدم مني بريبة:
- من الواضح أنكِ تمُرين بيومٍ سيء .. لكن لنكن صرحين، متى لم تكوني هكذا؟! .. وأحزري؟! .. أنا أيضًا على شفا أن أكون كذلك، إذا لم تقومي بتسليم هذا الثوب بدلًا مني للسيدة سميث وأنتِ بالتأكيد لا يُرضيكِ أن أكون مثلك، أليس كذلك؟!
رمقتُها وعلى وجهي العلامات التسعة للتعاسة وتقدم السن معًا، يتوسطها كلمة منحوسة المكتوبة بالبُنْط العريض على جبيني.. رائع، انقلب حالي لشيء يُؤخذ منه العبرة، ولم تعد إيما المسخ وحدها!! .. عذرًا، ليست مسخ، أعني هي بالفعل كذلك، ولكن لن أتنمر عليها في سري مجددًا، أقصد سأحاول قليلًا .. تبًا لهذا، لقد بدأ الأمر يغدو كارثيًا!!
”يا إلهي، أتوسلك إن كان ذنبًا يلاحقني فاغفره لي، لقد تُبت أقسم!!“
زمت ساشا شفتيها تقترب مني بشفقة وكانت أطول مني، وإحقاقًا للحق، هي أكثر شخص يُعاملني بلطف هنا، فطالما كانت تدعمني في الخفاء ضد إيما المسخ .. وحين يمكنها تقوم ببعض المهام بدلًا مني إن استطاعت؛ لذلك التزمت الصمت أفكر في كلامها الذي كان على حق .. فصدقًا متى لم أكن أمر بيومٍ سيء، سحقًا لحياتي التي كل أيامها على هذا المنوال!!
كنت على حافة البكاء حينما تابعت كلامها وهي تضع أشيائها فوق ركام الورق الذي يغطي مكتبي دون أن تبلي اهتمام .. تبا لذلك، لقد ظننت للحظة أنها تقترب لتحضنيني شفقةً عليّ!! .. أين المشاعر يا ناس!!
- حسنًا .. سأعتبر صمتك دلالة على الموافق .. عذرًا بيك حقًا، ولكن عليّ أن اتجهز لتغطية المؤتمر الذي سيبدأ في غضون ساعة؛ لأن إيما لن تحضره، ستذهب مباشرةً على ميعاد المقابلة الشخصية مع السيناتور بعده!! .. انظري، هاك الثوب الذي سترتديه، احرصي عليه جيدًا .. انا وأنتِ نعلم ماذا ستفعل بنا إن أصابه قطرة مطر..!!
”هكذا كان دومًا .. عندما يتعلق الأمر بـ إيما المسخ، لا مجال للشفقة هنا!!“
وفجأة فزعتُ حينما تذكرت المهمة التي طلبتها مني ولم أنجز منها حرفٍ واحد .. اللعنة، تلك المسخ لن تتردد لحظة في توجيه الادارة ضدي ورميّ خارج المجلة، وسأفقد مصدر دخلي الوحيد .. وحينها سأضطر للبحث عن عملٍ جديد وهذا في حد ذاته مجهود لستُ على استعداد لبذله .. لذا الجحيم للسيناتور الآن، لن يحدث شيء لو أخرّت انتقامي منه اليوم!!
عادت ساشا لتُضيف بعد أن كادت تغادر دون حتى أن تسمع مني كلمة، وكأن تقبلي للأمر شيء مفروغ منه:
- أووه، كدتُ أنسى إعطاءك هذا .. المفتاح الممغنط الخاص بغرفة المقابلة..
رمقتها بعدم فهم وهي تضع بيدي المفتاح، لتثرثر شاكية وهي تغادر دون أن تنظر لي:
- لا تهتمي، فقط اعطيها إياه ولا تنسى رجاءً كي لا تُخرج أرواحنا!! .. لقد ظلت تُهلوس بهذا اللقاء منذ أن ترشح السيناتور للرئاسة، تخيلي؟! .. فليُمرئ الرب فقط هذا اليوم على خير، آمين!!
عبرت الباب للخارج ولم أكن أتأمل طيفها كالسابق، بل كنت أتأمل المفتاح بين يدي والثوب المسدل على المكتب، بينما أشعر بشرارة لامعة تنبض في عيني كأشعة شمس تسقط على سطح نهر (هدسون) .. إذًا هذا هو الثوب الذي دفعت إيما فيه الغالي من أجل المقابلة .. وهذا هو المفتاح الخاص بغرفة المقابلة؟!
”يبدو أنه يوم حظنا توماس!! .. سأسقيه من كأس بؤسي .. رشفه رشفه!!“
❈-❈-❈
فندق انتركونتيننتال
بينما كان المصعد يأخذني إلى أعلى الأفق في طوابق الفندق الأشهر على الاطلاق في نيويورك .. وقفت أحدق بنفسي في المرآة، أتأمل الثوب الأسود الضيق الذي أرتديه بعنقه الطويل، وكل ما أفكر به هو..
”أي نوع من المقابلات الشخصية التي نحضره بثوب مكشوف الساقان كهذا، إيما؟! .. تبًا، اتضح أنكِ لستِ فقط مسخ، بل عاهرة أيضًا!!“
تنهدت بتروي لأُهدئ من توتري وأذكر نفسي بأن آخر همي هو كشف حقيقة العاهرة.. أقصد المسخ .. تبا لها عاهرة كانت أم مسخ، لن تفرق كثيرًا!! .. كنتُ أود أن أتركها تغرق في حب السيناتور المجرم فكم كانا يشكلان ثنائي متناغم .. عاهرة ومجرم .. ولكن ماذا أفعل بقلبي الذي احترق وحياتي التي دمرها عاهرها؟! .. ماذا عن توماس الذي حرمني منه، ومعه أفضل سنوات حياتي؟!
”لذا، عذرًا إيما لسرقتي لثوبك الداعر وبطاقة الحظ تبعك وليوم تألقك .. الأمر ليس شخصي صدقيني“
نعم، عليّ أن أرسل لها برقية شكر فور أن انتهي من أمر هذا الخسيس!! .. هل قلت شكر وليس اعتذار؟! .. لا يهم، هذا سيتوقف على نتيجة تلك المقابلة..
”تذكري بيك أنتِ لن تقتليه .. فقط ستسجلين له اعترافًا .. لا قتل، ها!!“
أومأت لنفسي بالمرآة لأرخي من توهج عيني وأذكر نفسي بالغرض الذي أتيت من أجله .. ”لا للقتل بيك“ .. أغمضت عيني بعدها لأستوعب الكلمة وأجعلها تترسخ بذهني، قبل أن أفتحها من جديد وأتمم على زينتي والمكياج الصارخ الذي وضعته لأواكب أجواء إيما في تلك المناسبات .. شعرتُ قليلًا بأنني أجد صعوبة في التعرف على نفسي البائسة بسبب أحمر الشفاه القاني ومُخطط العين الذي يبرز لونها .. صحيح، يمكن للزينة أن تُخفي أحيانًا الكثير من الحزن بداخلنا .. بل تُخفينا أنفسنا!!
طنين المصعد وصوت انفلاج أبوابه جعلني أدرك أخيرًا حجم الورطة التي أوشك على وضع نفسي بها .. بل وضعت نفسي وانتهيت!!
”مهما حدث بيك لا تجعليه يستفزك وتقتليه .. رغم أن الداعر يسحق، لكن توماس لن يكون سعيدًا بهذا!!“
بتلك الكلمات، تقدمت بخطوات مرتعشة وأصابني ضيق تنفس بينما أعيّ أنني على وشك مقابلة قاتل توماس وجهًا لوجه .. الخوف الذي حضرني تلك الليلة عاد ليّ دفعة واحدة، وعيني تنظر للرقم المدون على البطاقة بين أصابعي لأراها أمامي .. كل ما يفصلني عن هذا الخسيس هو باب .. فقط باب لعين ولكني تخشبت أمامه .. لا أعرف ما أصابني وقد أصبحت أسيرة ذكرى الدمار الذي خَلّفه بظهوره في حياتي تلك الليلة .. دماء توماس أصبحت تلون كل ما تقع عيني عليه، لتهز كياني بقوة وتستدعي بذلك شعور القهر ذاته، ووجهه الغالي ينطفئ رويدًا أمامي لأواجه كل هذا بعجز... نقطة، وانتهى المشهد!!
فجأة كل الغضب الذي خامرني من قبل، لم يكن شيء مقارنةً بما أشعره الآن، لكن بحق السماء لمّ أنا على حافة البكاء؟! .. تبًا لتلك الدموع اللعينة لن أسمح لها بأن تُظهرني بهيئة الضعف تلك!!
أزحتها جانبًا وكدت أفتح باب الغرفة، لتظهر من العدم أمامي امرأة تحمل ابتسامه من الأذن للأذن وتناديني..:
- سيدة سميث.. أليس كذلك؟!
التفت لها آخذه كل وقت العالم بينما أدعو بداخلي ألا تكون تعرف الأخيرة شكلًا، وإلا سينتهي أمري قبل أن أحقق أي انتقام .. وهذا غير عادل بالمرة!!
ابتسمت بتوتر، ابتلع ريقي على دفعات كيلا تشعر بهذا .. كانت امرأة في عقدها الرابعة باهية الطلّة، ترتدي زي أسود رسمي كلون شعرها القصير شديد الاناقة .. وحينما نظرت بعينها البنية قرأت أنها لم تتعرف عليّ، إذ كانت لاتزال تحمل الابتسامة المذهلة ذاتها .. عندها فقط ترسب لي الراحة، لتقترب مني بألفة وتخاطبني بتلقائية معرفة نفسها بينما تسحب البطاقة من يدي وتتولى فتح الغرفة عني:
- اسمحي لي، أنا "ساره" المساعدة الثانية للسيناتور .. عذرًا أنكِ توقعتِ مقابلة السيد "أندرو" المساعد الأول، لكنه في مهمة عاجلة، وكلفني باستقبالك، اتمنى أن هذا لم يزعجك، سيدة "سميث"!!
- أووه .. إطلاقًا!!
أخبرتها مذهولة من كم المعلومات التي ألقتها عليّ دفعة واحدة، وعيني أخذت جولة سريعة بالغرفة، والتي بالمناسبة لم تكن غرفة بالمعنى الأدق، بل كانت جناح .. أرشدتني سارة إلى غرفة الاستراحة به لتسألني بعملية:
- رجاءً تصرفي على راحتك .. السيناتور سيكون هنا في غضون ٨ دقائق، وكما حددنا مدة المقابلة لن تتجاوز ال15 دقيقة .. ماذا أحضر لكِ لحين يأتي؟! .. يوجد هنا نبيذ فاخر إذا شئتِ سيدة سميث؟!
قالتها وابتسمت لي فتحرجت منها لأنها تذكرني كل ثانيتين أنني السيدة مسخ .. لذا، ولكي أتقن الدور، ابتسمتُ لها بامتنان:
- ناديني إيما فقط .. ونعم، سأكون ممنونة إذا تذوقت من هذا النبيذ..
نظرت لي ببعض الغرابة لتعلق:
- أووه .. ظننتُ أنكِ تفضلين هذا اللقب كما اخبرني السيد أندرو .. لا عليكِ، سأرسل لكِ النبيذ حالًا..
ثم ابتسمت لي بلطف وانصرفت، لأتقلب على جمر نار .. ما هذا واللعنة، هل السيد اندرو ذاك يعرف الغبية إيما شخصيًا أم ماذا؟! .. تبًا، لابد أن أُنهي هذه المهمة سريعًا قبل أن أنكشف!! .. احتضنت قلادتي الأثيرة أعتصرها بين أصابعي واستمد منها القوة وكأنها تميمة حظي الوحيدة .. فلتأتي أيها السيناتور الحقير عليك اللعنة!!
وكأن دعوتي قد استجابت، فبلحظة وجدت الباب يُطرق ليدخل منه متقدمًا بخطوات واسعة نحوي، شعرت وكأنها تسير على وقع ضربات قلبي لتزيد صداها بأذني، فأصبحتُ على شفير الصمم .. إنه هو أمامي واللعنة!!
توقف على بُعد متر مني يُحدث مساعدته سارة، بينما كانت عينه القاتمة تتركز عليّ، يرفع جانب ثغره بنصف ابتسامه دبلوماسية ويشملني بنظرة تقييمية من قدمي لرأسي، بعد أن وقفت دون أن أشعر متى فعلت!!
كنتُ أشعر بضباب يُغشي عيني، بالكاد أراه، لأني في الحقيقة لا أري أمامي سوى المجرم ذو القلنسوة، وليس الذي يقف أمامي الآن يحدق في وجهي وملامحه شبه مطموسة بالنسبة لي .. خاصة بتلك الهيئة الراقية والبذلة الأنيقة التي لا تحمل غبار المجرمين!! .. تمتم لي بشيء تعثر عليّ سماعه وسط ضجيج حواسي الصاخبة .. ففجأة شعرتُ باندفاع الدماء بوجهي، وكأن حمى قد اصابتني، ومن قوتها فقدت النطق وصرتُ كالبكماء أفتح شفتي أمامه دون صوت!!
لا صوت؛ ذلك لأن صوت الرصاصة التي اخترقت جسد توماس لايزال يطن بأذني فيُرديني معه!!
بعد ثانية وأكثر اكتشفت أنني أثرتُ ريبته بتأخري في مُصافحتي له .. وفور أن أفقت مددت يدي مُكرهه على ذلك، لتنفرج شفتيه من جديد بابتسامة من جاذبيتها تُغوي الراهبة:
- سيدة سميث، تشرفت بلقائك!!
سحبت أصابعي الباردة من بين يديه بسرعة لأدسها بحقيبتي وأشغل المسجل متمتمه بخبث غير متقن:
- أنا كذلك رغم أنها .. ليست الأولى!!
جلس أمامي وقد بدأت تتشكل على وجهه ذو البشرة الشاحبة علامات الاستفهام:
- عفوًا، هل تقابلنا مُسبقًا؟! .. أنا بالفعل أشعر بالألفة نحوك، لكني لا أذكر أين رأيتك!!
سؤاله ذاك الذي ألقاه بعفوية أصابني في مقتل .. ذلك الحقير، كيف أمكنه قوله هذا بسهولة؟! .. كظمت غيظي منه لأرى نادل يتقدم منا ويُقدم لنا كأسين من النبيذ لتسقط عيني على شيء مميز في يده التي شرعت تحمل كأسه .. تحديدًا في أصابعه .. أصابعه التي أطبقت أسناني عليها تلك الليلة بينما أدافع عن نفسي لأترك بها ندبات تبدو لي الآن سيئة، بدليل أنها قد تحولت لعدة نقاط متفرقة داكنة اللون!!
”رائع بيك .. ها قد حصلتي على دليل مادي ضده .. يتبقى فقط اعترافه!!“
تناولت بالمقابل كأسي لأردف بنبرة ذات مغزى:
- هذا مؤسف لي .. أعني، كيف لا تتذكرني بعد كل ما جرى؟! .. مع ذلك أنا أعذرك، فالسياسة كافية لتُنسي الواحد نفسه!!
- أنتِ .. عمّ تتحدثين بالضبط؟! .. أظنننا قد انحرفنا عن غرض المقابلة، سيدة سميث .. من فضلك أدخلي صُلب الموضوع، فكما تعرفين لا أمتلك متسع من الوقت!!
اعتدل بمقعده بعدما كان مسترخيًا ويضع قدمًا على الأخرى، وسألني بنبرة شك بينما يُرخي رابطة عنقه عنه قليلًا .. عينه القاتمة تثقبني وكأن بإمكانه سبر أغواري، إلا أن تعابير وجهه -وللغرابة- بدت وكأنه لا يفهم حقًا عما أتحدث!!
”اللعنة عليه ذلك الحرباء، للحظة كدتُ أصدقه لولا ما حدث قد حدث لي!!“
كان محترفًا، عينه لاتزال تتفحصني، وملامحه خالية من أي تعبير .. وتبًا لملامحه، عليّ أن أعترف أنها كانت بريئة!! .. حقًا ماذا انتظر من رجل سياسية يتنافس على كرسي الحُكم!!
وتلك اللحظة فقط بدأت أتساءل في نفسي؛ ما علاقة شخصية مرموقة مثله بسطو إرهابي أو عملية اغتيال شخصي؟! .. أعتقد ان أن أمثاله لا يقومون بتلك المهمات بأنفسهم، بل يملكون من الأموال لجعل أيديهم دائمًا نظيفة!!
ودون أن أدرى قفز السؤال من فمي قبل أن أعي هذا:
- ما علاقة منصب الرئاسة بقتلك لتوماس؟!
انقلبت خِلقته في ثانية لأخرى متجهة، نعم، هذه السَحْنة أعرفها، أخيرًا خرج من قشرته!! .. ومع ذلك أكملت بينما أحلل الأمر بيني وبين نفسي:
- لا بد أن توماس قد اكتشف فضيحة ما تخصك لكن.. ما لا أفهمه، لمّ قمت بقتله بنفسك؟!
سألت وكان صوتي أعلى من اللازم لدرجة أفزعته فانتفض واقفًا وهو يرمقني باحتراس:
- لا أعلم عما تتحدثين ولكن اخفضي صوتك رجاءً إذا أردتِ ألا أطلب الحرس!!
ضحكت، ومن فرط ضحكي هززت رأسي بسخرية من الوضع بأكمله .. بالطبع سـيُنكر، ماذا انتظر من لعين مثله؟! .. نظرت له باللحظة التالية وبعينٍ شرسة هاجمته:
- أدائك مقنع الصراحة، لكن جِدْ أحدًا غيري يصدقه!! .. مجددًا تُحاذر من صوتي العالي، ماذا تنتظر، هيا أطبق فمي كما فعلت تلك الليلة، أم أن بَذلتُك الثمينة لا تُمكنك!!
أومأ لي وهو ينكس رأسه لأسفل، يزم شفتيه بفهم ثم دني يغمغم بصوت خافت:
- الآن أصبح كل شيئًا واضحًا، وسأهتم به بطريقتي!!
- تبًا، ما الذي أصبح واضحًا؟!
- كما هو واضحًا أنكِ لستِ السيدة سميث، أليس كذلك؟! .. حسنًا، اهدئ، يمكننا تسوية الأمر، فقط أخبرني مَن أرسلك لتشوهين سُمعتي؟؟ .. لصالح مَن تعملين؟؟ .. الاستخبارات الفيدرالية؟؟ .. الحكومة الروسية؟؟ .. أم لصالح (بوش) نفسه؟؟
عُدت للخلف خطوتين أضع يدي بخاصرتي، وأقضم على شفتي بغيظ هادرة:
- توقف عن التمثيل عليك اللعنة، لا كاميرات هنا على حسب ظني!! .. أخبرني وحسب لمّ قتلت توماس تلك الليلة؟!
توسعت عينه من انفعال لينفعل بالمثل وهو يجمع يديه أمام فمه:
- مَن توماس هذا؟! .. انظري، أيًا كان ما دفعوا لكِ، سأدفع الضعف، فقط انهي هذه المسرحية وإلا سأستدعي الحرس!!
- كفى، سحقًا لك كم أنت قذر!! واللعنة كف عن هذه الألاعيب والتمثيل وإلا سأقتلك ولن ينفعك حينها حتى حرسك!!
زعقت به في اللحظة التي انهى حديثه بها، ودون تفكير كنت أُلقي بكأسي ليرشق بالحائط خلفه وقد مر على بُعد سنتيمترات من وجهه .. ليجفل ويشحب بينما يتحاشى عدائي بالتراجع خلفًا، لكنني بثانية كنتُ أتخلي على وعودي لنفسي واحمل بواقي الزجاج في الأرضية وأصددها له، ولم أهتم وقتها لكم الحرس الذين اقتحموا الغرفة على أصوات تهشم الزجاج .. الأمر بيني وبينه، لا طرف ثالث هنا .. وسأفصلها اليوم، يعني سأفصلها، لقد فارق السهم القوس وانتهى!!
طوحت بحز الزجاج جهته لينتهي به الأمر مُحاصرًا في زاوية تحاشيًا لجنوني .. تمامًا مثلما حاصرني تلك الليلة .. كم أن الحظ عاهرة أيها السيناتور المخنث!!
- ابعدي تلك الزجاجة عني وإلا سيتم ارداؤك!!
أمرني بينما لا يزال يحافظ على ثباته الانفعالي ولا أعرف كيف، يدفع بيده للأمام كيلا أشوهه وجهه .. هززت رأسي له وعيني تلمع بمزيج من الجنون ودموع اليأس وقد أدركت وقتها أنني قد لا أخرج من تلك الغرفة:
- لا يهمني .. هل تعرف لماذا؟! .. لأنني سأصطحبك معي بذات اللحظة بعد أن أحقق أمنيتي الوحيدة بهذا العالم وانتقم لتوماس!!
- بحق السماء مَن توماس؟!
- حتى وأنت تواجه الموت ما زلت تتلاعب؟!
زعقت به وقد طفح بي الكيل دناءته، لأدفع يدي للأمام ناوية اخذ روحه القذرة واشفاء غليلي .. ومن وفرها سمعت اصوت شد أجزاء الاسلحة من حولي لتنزل دموعي بحسرة وأنا أستشعر الموت خلفي..!!
”هذا سيء جدًا، بيك .. ليس هذا ما أردتِ .. كله بسبب ذاك الوغد اللعين!!“
هددت بصوتٍ مرتعش كمَن ليس لديه ما يخسره:
- لا أحد يقترب ها سأقتله، أقسم!!
- الكل يتراجع .. لا أحد يطلق النار!! .. سيدتي، أقسم أني لم أرى توماس هذا ولا أعرف عن أي حادثة قتل تتحدثين!!
أمرهم بصوت غليظ ليتابع من بين أسنانه وقد تبدى من عينيه الداكنة مسحة تعاطف معي لم أستسيغها مطلقًا، ليجن جنوني وبثانية لا أعرف كيف فعلتها، كنتُ قد غزوت مساحته الآمنة وصار نصلي على بُعد بوصة من رقبته:
- توماس الذي قتلته أيها اللعين بمطعم أدريانا وأردت قتلي أنا أيضًا!!
على الفور كان قد رفع ذراعيه بتسليم كضبع خسيس، بينما يحدق بقاع عيني يتبين جديتي من عدمها .. وعندما ثبت له الأمر، انطلق مغردًا بالحقيقة التي أحرقت قلبي قدر ما انتظرتها:
- حسنًا لقد تذكرتك تذكرتك!!
بنبرة أهدئ من المهدئ العصبي نفسه خاطبني هكذا يكرر كلماته باستكانة وكأنه يربت عليّ، وعينه لا تحيد عن عيني، ورغم كل غضبي وانفعالي تلك اللحظة، إلا أن كل شيء قد اختفى إثر تلك الجملة .. العاطفة التي كانت تنبعث منه نحوي جمدت حواسي لثانية لتتداخل كل مشاعري ولم أملك حينها إلا البكاء .. نعم، بكيت ودون أن أشعر تراخت يدي عن تهديده وصرتُ أسيرة نبرته التي صدقتها، واسترحت .. استرحت وكأنني حققت انتصارًا ما، ولوهلة -لا أعرف كيف- شعرت أن هذا كل ما أردته وقتها، ليس لذكرى ما حدث فحسب، بل لشيءٍ آخر لم أميزه!!
وكل هذا بلحظة قد اختفى حينما شعرتُ بشيء صلبي كالحجر يخبط مؤخرة رأسي، وقبل أن أسقط على ركبتي كنتُ قد فقدت الوعي!!
هناك مئات اللحظات الفارقة في حياة كلٍ منا، لكن دائمًا ثمة لحظة بعينها تتمنى لو لم تعيشها من الأصل..!!
أجل، انها هي
لحظة الانهزام..!!
❈-❈-❈
حينما استفقت بعد مدة لا أعلم مداها، وجدتني مكبلة في سيارة الشرطة، وفي طريق.. لا ليس لقسم الشرطة، بل لمكتب الاستخبارات الفيدرالي .. ولتتحقق نبوءتي كـبومة أصلية كان الضابط اللعين هو مَن يتولى لإيصالي هنا رفقة أثنين من الحرس، يجلس بالمقدمة ويرمقني عبر المرآة بنظرات متوعدة بكل شرور العالم .. رائع بيك، حقًا رائع، فشلتي في مهمتك الوحيدة في الحياة وستتعفنين في السجن!!
- لما تقبضون عليّ؟! ..اقبضوا عليه هو .. هو المجرم!! .. لقد قتل توماس .. وذبحني!!
سألت بكل تعاسة وقهر العالم بينما رأسي يؤلمني كاللعنة .. لأجد ذلك البغيض يزغرني بعينه ولا أعرف حقًا ماذا فعلت لأمه العاهرة هو الآخر:
- يفضل ألا تسمعينا صوتك حتى نصل لأن أي كلمة ستُؤخذ ضدك في التحقيقات .. ومن حقك أن تحتفظي بصمتك لحين تعيين محامٍ لكِ!!
أدرت عيني عنه وقد بدأ يدرك عقلي أبعاد واقعي الجديد .. ما إن وصلنا، كانت كاميرات الاعلام في كل مكان تسجل الحدث، والصحفيون يتكاتلون من جميع الجهات كالذباب، مع هذا تكفل رجال الشرطة بإبعادهم عني .. ولأن بالأساس حظي عفن، كانت إيما من بينهم، بل وزاحمت لتصل وتضع الميكرفون الخاص بها في فمي متمتمه بتشفي:
- ويردك بيك، منذ وأنتِ تخططين لاغتيال السيناتور عليكِ اللعنة لم أتوقعك بهذا الخبث!! .. بل ومهووسة سرية بي، كنتُ أعرف هذا، ولن أرحمك سأقاضيكِ لسرقة فستاني وانتحال شخصيتي أيتها المهووسة!!
لم أرد عليها حقًا لأن مصيبتي تكفيني، مع ذلك فعلت الشيء الذي طالما تمنيت أن أفعله كلما رأيتها .. بصقت بوجهها .. ورغم دفعات رجال الشرطة الغليظة لم أحرم نفسي من اخبارها كم هي مسخة بشعة، لا سوى سوى منشفة حمام انجيلينا جولي!!
كنتُ متوترة وعصبية جدًا ولدي ميول انتحارية تدفعني نحو تدمير كل شيءٍ حول قبل الهلاك!! .. لا أستطيع أن أفكر في شيء، لذا أجل، تبا للجميع لا أهاب أحد!!
وبعزة نفس عالية ورأس تبلغ عنان السماء دخلت المبنى رغم اخفاقي في تحقيقي مرادي، داريت كل شيء بداخلي كيلا يشمت بي اللعين .. كلا لن أمنحه تلك الفرصة ولن أظهر أبدًا في موضع ضعف .. كنتُ أعرف أن القادم لن يكون لطيفًا، لكنني كنتُ قد حسمتها بيني وبين نفسها .. لن أسمح لأحد بإذاقتي المزيد من الشقاء، سأنهي حياتي بيدي وألحق بتومي أخيرًا!!
أدخلوني غرفة بيضاء صغيرة، ذو زجاج عاكس، ولا تحتوي سوى طاولة ومقعدان .. قيدني الضابط الحقير بالطاولة ومال عليّ يهسهس بتنمر:
- نظرتي بكِ لم تخيب من للوهلة الأولى تبدي لي جنونك .. لكن لم أتوقع أبدًا أن يصل لهذا الحد .. مع ذلك لا أعدك أنه سينفعك هنا أيتها المختلة:
- ضاجع نفسك!!
- كلا أيتها العاهرة، أنتِ مَن ستعتاد على مضاجعة نفسها من اليوم وإلى 30 سنة!!
❈-❈-❈
بعد ساعتان وأكثر تركوني بتلك الغرفة الغربية وهم كالعواهر يقفون خلف الزجاج يراقبوني، لم أجد شيئًا أفعله هنا سوى النوم .. لا أعرف كيف، ولكنني بطمأنينة الدنيا سقطت بالنوم العميق الهادئ، الذي أحلف بحياة توم لم أذق مثله منذ وفاته!!
وكعادة كل شيء جميل بحياتي لا أهنأ به أبدًا، طالما وجدت مَن يعكر صفوي كمطاردة الذباب!! .. استيقظت على شخصٍ أربعيني مكفهر الملامح يصفع العديد من الملفات على الطاولة فتسبب في افزاع .. رمقته بامتعاض هو والمرأة الخمسينية التي دخلت معه وقبل أن يجروا في أي تحقيق معي سارعت بقول الجملة المشهورة في مثل تلك المواقف:
- لن أتحدث سوى في وجود المحامي الخاص بي!!
بملامح مصمته تأملني الرجل ليمرر عينه على زميلته قبل أن يعود لي ويسألني بعملية:
- لم يخبرنا أحد عن المحامي الخاص بكِ .. ومع ذلك، أخبرني عن اسمه لنستدعيه لكِ!!
زممت شفتي بإحباط و أردفت على استحياء:
- اممم .. في الحقيقة لدي محامي!
لم يبدي أي رد لتجيب زميلته بدلًا عنه:
- ستُعين لكِ المحكمة واحدًا، لكن هذا سيأخذ وقت لذلك من الأحسن أن نبدأ في التحقيق، ما رأيك؟! .. أنا أدعى "أندريا لافيريا" محققة فيدرالية وكذلك زميل "ديفيد ماسون".. ما أسمك؟؟
كنتُ في وضع لا يسمح لي بالرفض، ولا كذلك بالقبول، لكنها بالأساس لم تكن تسأل، فبسرعة شرعت في فتح أحد الملفات وأخرت مذكرة صغيرة لتدون بها .. وهكذا بدأ التحقيق الذي استمر لـ ١٤ ساعة كانوا يتناوبون التحقيق معي خلالها حتى سارت عيني تُقفل وحدها دون إرادة مني، وكل مرة كانوا يعيدون الأسئلة ذاتها بأساليب وطرق مختلفة ليختبروا مدى صدق حدثي!!
وباليوم التالي، تم استدعائي مجددًا وكان هناك عدد أكبر من المحققين إضافة إلى مختص في علم النفس لتقييم نفسيًا حسبما فهمت .. ومن جديد فُتح التحقيق مجددًا لكن هذه المرة أخذ طور أكثر جدية من السابق..
بدأت الحديث المحققة:
- آنسة بيك، هل حسب سجلات المشفى التي نُقلتي لها ليلة السطو على مطعم أدريانا، تم تشخيصك بفقدان صدمي للذاكرة..
- نعم..
- واستمر هذا طوال خمس سنوات بالتمام؟؟
- أجل..
- هل ثمة مؤشرات للاستعادة الذاكرة راودتك مؤخرًا، أنسة بيك؟؟
سأل المختص النفسي، لأعقد حاجبي بعدم فهم:
- مؤشرات مثل ماذا؟؟
- ومضات للحادث، كوابيس، نوبات فزع؟؟
- لا .. حسبما أتذكر؟؟
أومأ لي ثم تابع:
- سبق وأخبرتنا أنكِ تتابعين علاجك النفسي مع طبيب المشفى بانتظام، وحينما رجعنا له بتصريح قضائي أكد أنكِ لم تُحرزي أي تقدم معه لأنك غير منتظمة في المتابعات من الأساس .. هل هذا صحيح؟؟
- بلى، أنا آسفة، ظننت أنه ليس بالشيء الهام لقضيتنا!!..
أجبته بإرهاق بالغ وأن أفرك جبهتي، ليوضح لي محقق من الحاضرون:
- كيف؟! .. كل شيء نسألك عنه هو للغاية، بإمكانه أن يُبرئك وبإمكانه أن يدينك .. فمن فضلك كُوني حريصة لأجلك!!
لم أكن أملك سوى أن أومئ له، ليستأنف المختص النفسي:
- طبيبك أخبرنا أيضًا أنكِ تداومين على تناول الكحول بإفراط، ولديك جنوح لمضاجعة الغرباء أوقعت في عدة مشاكل من قبل .. ما رأيك في هذا؟؟
كان هذا تدخل سافر في أموري الشخصية لا أقبل مطلقًا ولم أتردد في التعبير عن هذا:
- أنا أرفض الرد على مثل هكذا أمور!!
- حقك .. لكن عندما حصلنا على ملف تقييمك في مدرسة جورجيا، تبين أنكِ كنتِ تتصفين بسلوك اجتماعي غير سوي من عزلة وعدوانية تجاه زملائك خلال سنوات دراستك بالصفوف الأخيرة .. فبمّ تفسرين هذا التناقض؟؟
فتحت فمي ولم أجد ما أجيب، كان بمثابة الضربة القاضية لي .. هل يتحدثون بجدية؟! .. مررت عيني بين الوجوه لعلّي أجد أي أثر للمزاح، كنتُ عاجزة عن التصديق، هل حقًا رجعوا لسجلاتي في مدرسة الثانوية .. أردفت بعد تفكير سريعة بصوتٍ ساخر بالكاد يُخفي ارتعاشه:
- انفتاح..
- انفتاح؟! .. عذرًا أنستي، لكننا لا نراها هكذا .. تلك مؤشرات خطيرة للإصابة بالمرض العقلي، وهناك احتمالية كبيرة أن الحادثة كانت بمثابة المُفجر لذلك المرض، ومع افراطك في تناول الكحول فمن الجائز أنه خلق لديك نوع من الهلاوس والضلالات، قد صورت لكِ القصة بأكملها، وأفضت بكِ لذلك السلوك العدائي!!
خاطبني الطبيب بلهجة جدية وكأنه يشرح لي في محاضرة عن علم النفس .. حسنًا، حدسي البائس الآن بدأ يخبرني أن هذا لن ينتهي على خير:
- مهلاً .. هل تقصدون أنني..؟؟
- نحن لم نوجهك لكِ أي ادعاء حتى الآن، فقط نأخذ أقوالك
جاوبتني المحققة بمنتهى البساطة بعد أن كانت ملتزمة الصمت منذ البداية .. لأهتف بانفعال:
- حقا؟؟ .. إذا هذا غير صحيح .. لستُ مختلة أو اختلق القصص .. أنا أعي جيدًا ما أقوله وأفعله!! .. وكما أخبرتكم أن تذكر بالتفصيل ما فعله هذا المجرم ليلة الحادثة!!
- حسنًا .. ماذا لو أخبرتك أن السيناتور لم يكن موجود في مطعم أدريانا تلك الليلة؟!
لم استغرب مثل هذا السؤال وجاوبتها بنبرة ساخرة:
- بالطبع، سينكر ويأتي بمئة شاهد يثبتوا وجوده بعيدًا عن الحادث!!
- هذه هي النقطة بيك، السيناتور لم يحتاج لشهود لإثبات هذا، لأن سجلات مستشفى هامبورغ في ألمانيا أثبتت أنه كان في غيبوبة آنذاك ومن قبلها بـثمانية وأربعين يومًا، واستفاق بعد الحادثة بـخمسة أيام!! .. يعني لم يكن متاحًا بأي شكل لارتكاب الجريمة!! .. أما عن تلك الندوب التي ذكرتيها بأصابعه فهي مجرد وَحْمات قد وُلد بها!!
هل حدث وسقط عليك مبنى بسُكانه، وأمتعتهم، وحيواناتهم؟! .. حسنًا، كان هذا شعوري وقتها، فبلحظة اعتزل عقلي وظيفته في التفكير والادراك، وتركني كالجماد لا أفقه شيء مما يقولونه!! .. ويبدو أن هذا كان واضحًا عليّ، إذا أنهم ولأول مرة يشفقون عليّ..!!
عاد المختص النفسي ليحدثني من جديد شارحًا الوضع بطريقة أبسط:
- أنظري بيك .. هذا تقرير من قبل طبيبك وموقع منه، يفيد بأنك غير مستقرة نفسيًا، ولا يصح الاعتماد على كامل حديثك!! .. وحسب هذا التقرير يُفسر لنا ما قد حدث من تشوه في الذاكرة لديكِ، بمعنى أدق أن ما ذكرتيه هي ظاهرة معروفة علميًا بالذاكرة الكاذبة تحدث لدى الحالات التي تتعرض لحوادث صدمية مثلك!! .. وأكبر دليل في حالتك، أن قد فقدتي الوعي بعده الحادث مباشرةً، وهذا أكثر عرضه لحدوث التشويه!!
- ما هذا الهراء؟! .. عن أي تشوه تتحدث، مستحيل أن أكون قد اختلقت تلك القصة من بدايتها لنهايتها وبالتفاصيل أيضًا!! .. بربكم، كيف لي أن أعرفه حتى؟!
صوتي اليائس ودموعي الخائبة كانت آخر ما أملكه لأجعلهم يصدقوني .. نظرت للورقة التي تحمل توقيع الطبيب وكل ما فيّ يرفض التصديق، كل شيء وارد إلا أن أكون مختلة، أو اختلق الامر كما يدعون..!!
أكمل الاختصاصي النفسي بطريقة عملية:
- هذا ما عليه الأمر .. عقلك قد قام بزراعة ذاكرة خاطئة، ليملئ الفراغ الذي خلفه فقدان الذاكرة .. وذلك حسب أغلب الظن كان مادةً خصبة لتنشيط أعراض فصام الارتياب (البارانويا) من هلاوس بصرية وضلالات اضطهاد زاد من حدتها الكحول!!
ما يقولوه كان الجنون بعينه .. أن تنكر جزءً من عقلك وتصدق أنه مجرد وهم وهذاءات .. إنها خمسة سنوات .. التي يشككون بها هي خمسة سنوات لعينة سُرقت من حياتي وقضيتها في عذاب وقهر!! .. ليس من السهل أبدًا أن يأتوا هكذا ويخبروني أنني كنتُ مختلة، وسيكملون خاتمتي التعيسة عندما يخبروني أن توماس من المحتمل أيضًا أن يكون من وحي خيالي؟!
سخرتُ بعقلي وأنا أستمع لأحد المحقق يتلو عليّ التالي الذي كان أقوى الناهية:
- بيك .. إليك ما سيحدث الآن .. سيتم تحويلك لمستشفى الطب النفسي، لفحص قواكِ العقلية، وتحديد مسؤوليتك من عدمها على الجرائم التي ارتكبتِها!!
يتبع