الفصل الثاني عشر - أشواك وحرير
الفصل الثاني عشر
بعد مرور يومين
دلف "محمود" إلي منزله في الساعات الأولى من الليل بعد إنتهاء عمله؛ وقد تمكن منه الإجهاد الشديد ونال منه التعب بعد مرور يوم عمله الشاق...سارع بالجلوس على الأريكة في صالة الإستقبال، لتدخل عليه شقيقته التي ابتسمت له بحنو ثم حدثته بلوم :
_حمد الله علي سلامتك يا أخويا...مش آن الأوان بقي ترتاح من شغلك ده.
فتح جفنيه بإرهاق وسألها بإستنكار :
_أنتي عوزاني أسيب شغلي يا سهير؟!...لا طبعًا.
_يا أخويا وهو يعني كان عملك؟! إيه غير التعب، وبعدين ما أنت بسم الله ماشاءالله كل شهر بيدخلك إيرادات المحلات، وإيرادات الشقق، فلحد امتي هنفضل نجري ورا الشقى برجلينا؟!
سارعت "ريهام" القادمة من الداخل قائلة بنبرة لوم طامعة جشعة :
_جرا إيه يا سهير زيادة الخير خيرين يا أختي والبحر يحب الزيادة!
لم تلقي جملتها أيًا من الرضا من جانب الأخيرة فهتفت بعدم رضا :
_بس مش علي حساب صحته يا ريهام.
كان كل ذلك تحت أنظار "محمود" الذي لم يتفوه بكلمة بينهما ولم يكن من الغريب عليه فلقد أعتاد طوال العشرين سنًة الماضية علي عدم توافقهما في الرأي بالإضافة بعلمه بعدم إستساغة شقيقته لزوجته وكراهية الأخري لها ولإبنتها...فهم يتعايشون مع بعضهما البعض بمجرد سلام ظاهري فقط لكنه كان كافيًا للتعايش! وبالرغم من معرفته بكل ما يدور بينهما، فلم يتدخل بينهما إلا في الأمور الهامة فقط...فبالنسبة له أمور النساء لا يحلها سوي النساء ولا مجال لتدخل الرجال بينهم!....لاحظ نظرة الإمتعاض التي علت ملامح قرينته عقب جملة الأخري فردت عليها بود مصطنع :
_ طبعًا يا سهير صحته أهم بس إحنا برضه مصاريفنا كتير..جامعة رنا وجوزاها، وتعليم سما، وأنا وأنتي كمان.
وكأنها أرادت أن تذكرها دائمًا كعادتها الخبيثة بأنها عاله عليهم في بيتهم ينفقون عليها!...لاحظ "محمود" وجه شقيقته الذي أصابه الشحوب واختلفت ملامحه بمئة وثمانين درجة...فتدخل هذة المرة موجهًا حديثه بجدية نحو شقيقته حتي يُنهي ذلك الأمر :
_أنا بشتغل علشان بحب شغلي يا سهير.
ثم وجه نظراته نحو زوجته ثم أكمل مستطردًا بنبرة أكثر صرامة :
_مش علشان كتر المصاريف يا ريهام...أنا بصرف علي لحمي ودمي سواء أنتي وبناتي أو أختي!...مفيش حاجه مفروضة عليا، ومش بشتغل علشان واجب عليا إني أزود دخلنا ولا حاجه!
تهللت ملامح سهير وابتسمت بحبور بعدما شعرت بأنه اقتص لها من تلك الحرباء التي يقتنيها في منزلته تحت مسمي زوجته.
بادلها الإبتسام...أسفل نظرات "ريهام" التي لم تدري بما ترد فأكتفت فقط بالدعاء له بخفوت ثم صمتت...تذكّر "محمود" أمر إبنه شقيقته التي سألته الرد عليها بعجل، فأخرج مجموعة من الورقات المالية مادًا بها إلي زوجته قائلاً ببعض المرح :
_شوفتلك بقي يا ريهام شوية فساتين جديده عند الولد اللي في العمارة اللي قصادنا هيجننوا عليكي...خدي دول وانزلي اشتريلك كام حاجه حلوه.
تهللت أسارير "ريهام" واختطفت منه الأوراق المالية بلهفة...ناظرة إليهم بفرحة شديدة، ثم أستطردت بإمتنان حقيقي :
_شكرًا يا حبيبي ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
بادلها الإبتسام وحثها علي النزول بسرعة إلى ذلك المحل قبل أن يغلق للذهاب لصلاة العشاء، فتأففت "سهير"، ولوت شفتيها بإمتعاض لا تعلم لِمْ يحبها كل ذلك الحب! انتظر "محمود" بعض الدقائق حتي تأكد من مغادرة زوجته للبيت ثم سأل شقيقته بجدية :
_وبعدين؟
رمقته بعدم فهم وجعدت حاجبيها بإستغراب بسبب سؤاله المبهم فردت عليه بسؤال آخر :
_وبعدين إيه؟!
_موضوع روان...إيه رأيك فيه؟
تجهمت ملامحها ،واعتلي الضيق وجهها :
_مكنش ليه لزوم تنزل مراتك...أنا قولت إني مش موافقة...مش بنتي الوحيدة علي آخر الزمن أجوزها لراجل شايب كان متجوز قبل كده وعنده عيلين!
شعر "محمود" بحزن شقيقته حقًا تلك المرة وبكم الضغوط التي توضع عليها بسبب أمر زواج ابنتها الذي لم ولن ينتهي أبدًا بسهولة...دمعت عينيها فسألها بحنان :
_طب أنتي مش موافقه ليه؟!...مش يمكن لما نقعد معاه يطلع إنسان كويس ويصونها!
ازداد تدفع الدموع نحو عينيها وتحشرج صوتها بالبكاء؛ فردت بنبرة مختنقة وقد سالت دموعها بحزن :
_نفسي افرح بيها...نفسي افرح بيها زي باقي الأمهات...مش من حقي يعني؟!
رفعت أنظارها إليه وقد غطت الدموع حدقتيها ثم أكملت نحيبها مستطرده :
_دخلت كلية بمزاجها ومشت كلمتها علينا كلنا، وفي الآخر إيه؟!...مغربه نفسها من وهي عندها عشرين سنة حتي الإجازة مش بتنزلها، جالها عرسان مكنتش تحلم بيهم...كان حجتها إيه ده معندوش طموح ده أمه حربايه وطمعانين في مرتبي ده متسلط ده معندوش شخصيه...ماله اللي معندوش شخصيه علي الأقل هي تمشيه علي كيفها!!...وفي الآخر عاوزه تتجوز واحد عايش حياته قبل كده، وكل اللي هيديهولها البواقي منه!...أنا تعبت معاها فيه حد خاب خيبتها كده؟!
تعجب من حالة شقيقته فبالرغم إنه يعلم بصحة حديثها بشأن ذلك العريس إلا أنا كثرة إيلامها لإبنتها أشعرته بالضيق؛ زفر أنفاسه برتابة حتي يهدأ من روعه ولا ينفعل هو الأخر من حديثها الذي لم ولن تكف عنه بسهوله، وأردف بنبرة حكيمه هادئة ولكنها تحمل العتاب بين طياتها :
_بنتك مش خايبه يا سهير...بنتك لما غربت نفسها زي ما تقولي وهي عندها عشرين سنة؛ لأنها عزيزة النفس، مكنتش قابله إني اصرف عليها...أنا مش عبيط، وفاهم كويس اوي إنها اشتغلت علشان مصرفش عليها! ،وبالنسبة للي أنتي بتقولي عليهم عرسان دول فأنا مرضاش بواحد فيهم لبناتي، فبطلي بقي تقولي عليها خايبه لأنها هتكرهك زي ما كرهت أبوها!
رفعت أنظارها الذاهلة إليه فلم تستوعب حقًا جملته الأخيرة "أتكرهها ابنتها لأنها تريد مصلحتها؟...هل هذا حقًا ثوابها الأخير؟! "...هز "محمود" رأسه إليها بمعني "نعم" وأكمل بنبرة مستعطفة راجية :
_بنتك بتحبك...علشان خاطري بلاش تكسري قلبها ووافقي علي الأقل نقعد مع الولد، و يا ستي ممكن يطلع إنسان كويس؛ ولو مش كويس نرفضه، و ربنا يبعتلها اللي أحسن منه.
مسحت دموعها بظاهر كفها وأردفت بتحشرج :
_ماشي...هوافق إنك تقعد معاه، ولو معجبنيش مش هوافق.
❈-❈-❈
جلس "مالك" يتوسط ولديه علي أرضية غرفة نومهما
يلعب معهما إحدي الألعاب المناسبة لسنيهما، كان يتناوب عليهما بالمساعدة فناداه أحد الصغيرين مما جعله يرفع رأسه إليه بإهتمام :
_فيه حاجه يا كريم؟!
فأشار الصغير إلي ذلك المجسم الذي انتهي من صنعه للتو وأردف بهدوء :
_أنا خلصت البيت.
تمعن "مالك" في المجسم الماثل أمامه ثم أطلع صافرة إعجاب وصفق بيديه لولده قائلاً بسعادة :
_بريفكت يا كريم.
رفع الصغير عينيه نحوه، وسأله ببراءة طفل غير مصدق الثناء عليه :
_بجد حلوه؟!
هنا صرخ "زين" وعينيه تلمع بوميض الإعجاب مشجعًا أخيه :
_روعه...عملتها إزاي؟..علمني.
اومأ "مالك" برأسه مؤيدًا لحديث إبنه الصغير :
_أيوه حلوه اوي...ألوانها متناسقه، والشكل Creative مش مجرد بتعمل لعبه وخلاص.
نكس "كريم" رأسه لأسفل، وابتسم في خجل بينما رفع "زين" وجهه عن المكعبات الصغيرة، ويبدو أنه تذكر شيئٌا ما فسأل والده بإهتمام :
_بابي..هي ميرا مبقتش بتيجي هنا، ولا بتكلمني ليه؟!..هي زعلانه؟
مسح الأخير علي رأسه بإحراج لأنه لا يعلم عنها أي شئ منذ يوم مولدها، ولم يحاول حتي الإتصال بها والسؤال عن أحوالها بالرغم من معرفته بسفر جدها وابن عمها الفترة الماضية، مط شفتيه للأمام ولم يدري بما يجيب علي ولديه اللذان يتمعنا النظر إليه في ترقب، فلمعت في رأسه إحدى الأفكار وأردف بحماس :
_إيه رأيكم نتصل بيها ؟
حرك "زين" رأسه بلهفه بينما الأخر اكتفي بإيمائه بسيطه من رأسه، فضغط " مالك " علي بعض الأرقام وانتظر بضع ثوانِ ليأتيه رد الطرف الآخر متمثل في صوت الحاسوب " الهاتف الذي طلبته غير متاح "...تعجب "مالك" فهو يعلم تمام المعرفة أنها لا تغلق هاتفها إلا في حالة نومها فقط "فهل خلدت للنوم في الثامنة مساءًا ؟! "...رأي الإحباط يخيم على ملامح الصغيرين حتي "كريم" المنطوي!...فطمأنهم ببعض الكلمات الهادئة، وبأنه سوف يهاتفها من جديد في وقت آخر :
_يلا علشان تغسلوا سنانكم وتجهزوا شنطكم علشان تناموا .
تحرك الصغيران ببطأ نحو الحمام الداخلي للغرفة فتردد "كريم" قليلاً وأخذ يفكر بضع ثوانِ؛ مما جعل "مالك" يلاحظ ذلك التردد فسأله بإهتمام :
_فيه حاجه يا كريم؟!
هز رأسه "بنعم" وسأل بتلعثم بات لا يغادره في الفترة الأخيرة :
_هو أنت تعرف طنط بتاعة النادي؟
لم يكن من الصعب عليه فهم مَنْ المقصودة بالسؤال، ولكنه بالإستغراب قليلاً من سؤال الولد، فراوغ بسؤالٍ آخر :
_ليه؟!
لم يدري الأخر بما يجيبه فظهرت عليه علامات الإرتباك خوفًا من رد فعل والده، ولكنه تذكر إحدى الدروس الدينية التي تأمر الناس بالتحدث بالصدق مهما كانت العواقب :
_كنت عاوز أشكرها... لأن المس قالتلنا لازم نشكر اللي بيساعدنا.
ابتسم "مالك" بحبور وشعر بأن مهمة دخول "روان" بينهما لن تكون بتلك الصعوبة التي يتخيلها...فرد بإبتسامة واسعة :
_أيوه أعرفها، ولو عاوز تقابلها ok معنديش مانع.
_مين طنط بتاعة النادي؟!
كان هذا سؤال "زين" الذي ظهرت علي وجهه إشارات بعدم الفهم، فأجابة والده بتوضيح :
_إسمها طنط روان، وكانت بتدافع عن كريم لأن فيه ولد كان بيضايقه، واديتله شيكولاته...يبقي كده هي حلوه صح؟!
اومأ الصغير برأسه بإيجاب، ولكنه سأل ببراءة :
_يعني حلوه زي ميرا؟!
ولكنه عاد من جديد قائلاً بعناد متسرع :
_لا ميرا أحلي واحده.
تعالت ضحكات "مالك" في أرجاء الغرفة علي هذا الدنجوان الصغير كما أطلق عليه، فرمقه الأخر بإمتعاض بينما "كريم" اكتفي بالمشاهدة في صمت، وبعد بضع ثوانِ هدأت ضحكات قليلاً "مالك" واردف من بينها :
_الأتنين حلوين يا سيدي كل واحده وليها جمالها، ويلا بقي روحوا ناموا علشان اشوف شغلي!
تحركا من أمامه بسرعه متجهين نحو حمامهما فأرتسمت إبتسامه سعيده علي وجهه من قبول أحد أبنائه لها مما سيسهل خطته قليلاً، ولكن سرعان ما شعر بضيق حينما تذكر بأنها لم تخبره بردها إلي الآن...مما جعل التحدي يزداد بداخله بكونها لن تصبح إلا له!!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي
جلست "هالة" تحتسي قهوتها بملامح متجهمة؛ لا تدري حقًا كيف وافقت على كلام ابنتها بعد تهديد ابنها لا...لا تستوعب حقًا كونه وضعها في مقارنة حقيره مع فتاة الريف مهددًا إياها بالإبتعاد عنها هو وأبنائه، حتي بعد تهديدها له بحرمانه من ميراثها؛ لتضطر في نهاية الأمر للرضوخ له حتي لا تظفر به تلك الجرباء بعيدًا عنهم..." وافقي يا ماما أحسن ما الجربانة دي تلاقيه بقي لوحده وتلف عليه وتاخد فلوسه، وأنتي عارفه قد إيه ابنك نحنوح وهيسلم لها "...هكذا أخبرتها ابنتها لتقلب " هالة " تلك الكلمات البسيطة في رأسها علي مدار اليومين الماضيين فلم تجد بدٌ من الموافقة فـ لإبنتها كل الحق في ما تفوهت به "هوريكِ أيام سوده يا روان استني بس عليا"
_صباح الخير.
قالها "مالك" بملامح متهلله بعدما جلس بجانبها علي طاولة الطعام مما جعلها تبتسم له إبتسامة بسيطة لم تصل لعينيها وردت التحية بإقتضاب :
_صباح النور....شايفه إنك مبسوط!
اومأ برأسه في حرج وابتسم لها بإمتنان حقيقي مما جعلها تتفوه بكبرياء :
_أنا البنت دي متفرقش معايا، المهم ساعدتك أنت عندي، والباقي يهون.
شكرها مجددًا بإمتنان حقيقي وأردف بنبرة دافئة :
_صدقيني روان كويسة جدًا مش زي ما حضرتك فاهمه، ولو عرفتيها هتحبيها.
لم تأبه لأي من حديثه واكتفت فقط بإيمائه من رأسها بدون أن تفكر حقًا بما يقول، وأردفت بلامبالاة :
_قولتلك إن اللي يهمني راحتك.
استقام في وقفته، وقبّل رأسها بحنان :
_أنا همشي.
_استني...هي هترد عليك امتي؟
حرك كتفيه لأعلي ولأسفل بعدم معرفه، وشعر بداخله بالضيق لكونها وضعته في ذلك الموقف الحرج أمام والدته؛ ولكن سرعان ما رد عليها بنبرة مبهمة :
_هكلمها النهارده اشوف ردها إيه.
اومأت له برأسها بهدوء، ولكن سرعان ما اشتعل الغيظ برأسها، وشعرت بتدفق الحمم الساخنة لرأسها فرددت بنبرة خافتة لم تصل لمسامعه " والله عال كمان البشوات اللي هيستنوا رد الشحاتين "
❈-❈-❈
قاد سيارته بسرعه نسبيه متجهًا نحو مقر عمله فقاطع انغماسه في القيادة رنين هاتفه الذي تعالي بالضجيج فضغط علي زر الإجابة بدون معرفة من المتصل فأتاه رد الطرف الآخر قائلاً بخفوت :
_آلو..مالك.
تعالت ضربات قلبه في صخب، وقد راودته مشاعر مختلطة من الحماس، والخوف والترقب فأجابها بنفس الخفوت :
_معاكي.
_أنت فاضي ساعة دلوقتي؟
تنهد بإرهاق، وشعر بوجود ثقل علي قلبه :
_رايح الشغل ولو مش فاضي افضالك.
تسارعت نبضات قلبها هي الأخري بتوتر وأردفت بهدوء :
_خالي هنا جاي يزورني، وحابب يقعد معاك شوية ،ياريت تيجي الشقة عندي؛ هبعتلك اللوكيشن.
شعر قليلاً بالإستغراب، وسألها بغباء :
_عاوز يشوفني ليه؟!
تحرجّت قليلاً من إجابته وعادت لنبرتها الخافتة الأولي ثم أجابته ببساطة :
_علشان موضوعنا.
_يعني انتي موافقه؟!
أتاه نبرتها عبر سماعة الهاتف قائلة بهدوء :
_المهم موافقة أهلي...باي.
أغلقت الهاتف سريعًا قبل أن يعاجلها بسؤالاً آخر، وقد شعر بالإرتياح قليلاً، ونبهه هاتفه برساله من أحد تطبيقات المراسلة فطالعها بسرعه ليجد أنها أرسلت إليه عنوان شقتها القديمة في مدينة نصر؛ مما جعله يغير وجهته عائدًا إليها وابتسامة بلهاء تزين ملامحه الوسيمة...مؤكدًا علي نفسه بضرورة إقناع ذلك الرجل المسمي بخالها بأي شكل كان!
❈-❈-❈
طرق "مازن" علي باب غرفتها بهدوء فلقد شعر بالقلق حيالها في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد مكالمة خالها له بأنها لم تعد تأتي للجامعة بالإضافة لحديثه مع "مجد" الذي أكد له بأنها غير متزنة، وربما تعاني من أمر ما خاصة بعد ما حدث بينهما في المكتب المرة الأخيرة...خشي "مازن" من التدخل في أمرها فيُقابل منها بالرفض، وظن أن حالتها تلك فقط بسبب حالة جدهما الصحية، ولكنها لم يعد يحتمل ذلك الوضع خاصة بعد سهرها الدائم وعودتها في أوقات متأخرة من الليل بالإضافة لإنطوائها بداخل غرفتها طوال اليوم...أتاه صوتها من الداخل يأذن له بالدخول...تفحص حالة الغرفة الغارقة في ظلام تام إلا من بعض خطوط الشمس الهاربة من خلف الشرفة ، فسألها بإستهجان، وقد لاحظ إرتدائها ثياب مشعثه يبدو أنها قد غفت بها! :
_إيه اللي أنتي عملاه في نفسك و في الأوضة ده؟!
ارتعشت قليلاً خوفًا من إكتشاف أمرها، وردت عليه بتلعثم :
_مفـ...مفيش بس لسه صاحيه كنت مجهده ونمت ولسه صاحيه.
اومأ لها برأسه في تفهم واتجه لفتح كل ستائر الغرفة تحت أنظارها المرتعشة، ثم وقف أمامها مباشرة متفحصًا إياها من أعلي رأسها حتي أخمص قدميها :
_مبتروحيش كليتك ليه؟!
تعجبت من معرفته بالأمر، وظلت تفكر بضع ثوانِ حتي فهمت أنه خالها مَنْ أخبره فردت بلامبالاة :
_معنديش محاضرات مهمه.
_تمام.
قالها بإقتضاب ثم عاجلها بسؤالٍ آخر جديد لم تحسب حسبته فلقد يأست الفترة الأخيرة من لا مبالاته معها فتملكها الإحباط :
_مالك؟!... حالك مش عاجبني الفترة دي احكيلي!
اندفعت الدموع نحو حدقتيها حتي كونت سحابة كثيفه حجبت الرؤية أمامها...فكرت بالإرتماء في أحضانه و إخباره بما يدور معه في الفترة الأخيرة...فكرت بإخباره بأنها أصبحت وحيدة من جديد!...فكرت بإخباره بكونها أدمنت ذلك المخدر اللعين في فترة قياسية!... كادت أن تتفوه بما يدور بعقلها، ولكنها زجرت نفسها بقوة حتي لا يشمت بها إذا بدت أمامه مثيرة للشفقة، ولكن سرعان ما وبخت نفسها من جديد بأنه ليس ذلك الشخص الذي يحقد علي من أمامه، ولكنها لا ينبغي عليها إخباره فهو لا يستحق منها أي خيبة أمل من جديد بالإضافة لكونه يستحق كل ما هو أفضل...فهي الآن لا تليق به!
_شوية ضغوطات بس.
فهم جملتها بشكلٍ خاطئ وفكر بأنها علمت بخطبة صاحبه الوشيكة، وذلك سبب حالتها التي لم يراها عليها منذ تسع سنوات!...مما جعل اليأس والإحباط يتملكاه، كما شعر بنصلٍ حاد غرز في منتصف قلبه...تجاهل ذلك الشعور الذي داهمه، وامسك كتفيها بذراعيه ناظرًا في عينيها بقوة، وأردف بنبرة دافئة ناعمة :
_إحنا هنفضل ولاد عم مهما حصل...لما تحبي تحكيلي عن حاجه في أي وقت أنا موجود!
اومأت له برأسها وشكرته بإمتنان حقيقي، فأبعد ذراعيه عنها وحدثها بنبرة مشجعه :
_يلا خدي شاور وانزلي التدريب بتاعك!
وافقت على حديثه ليخرج هو من غرفتها مسرعًا في اتجاه عمله بينما هي فرت دمعه خائنة من أحد عينيها حينما عادت لإخراج ذلك المخدر من أسفل غطائها من جديد، وأردفت بنبرة اتضح عليها الألم "ياريتك رجعت بدري شوية يا مازن"
❈-❈-❈
جلس "محمود" وبدا وكأنه يفكر في مقابلة روان التي طالعته بصمتٍ وترقب لحديثه القادم فسألته بإستفسار :
_إيه رأي حضرتك فيه؟!
أجابها بنبرة متحيرة :
_مش عارف يا روان...يعني هو شاب باين عليه ابن ناس ومحترم، وقالهالي كده بالنص "أنا شاريها وكل طلباتكم مجابه، ولو عاوزه بيت لوحدها أنا هجيبلها".
ضيقت عينيها في إستغراب وسألته بعدم فهم :
_طيب إيه اللي مخلي حضرتك مش عارف؟!
حرك كتفيه لأعلي ولأسفل بقلة حيلة :
_موضوع ولاده دول يا روان...أنتي هتقدري تتحمليهم وتحسسيهم إنهم ولادك أنتي كمان؟...بلاش ولاده هتقدري تعيشي مع راجل وأنتي عارفه إنك مش أول واحده في حياته ويمكن يكون لسه متأثر بيها؟!
أصابها حديثه بالخوف، وابتلعت بإرتباك ثم ابتسمت له بتوتر :
_حضرتك بتخوفني ليه؟!
_مش بخوفك يا روان أنا بفهمك اللي أنتي داخله عليه، هو باين عليه شاب كويس فكري في كل كلامي ده ولو هتقدري تتحملي كلنا هنفرح لفرحك.
اومأت برأسها في تفهم، وقاومت ذلك الشعور بالثقل الذي وضع علي قلبها ثم وردت مبرره شعورها :
_هو...هو أنا بقول يعني إنه عادي يكون كان متجوز...يعني فيه رجاله كتير بيكون في حياتهم ستات من غير جواز لكن ده كان علاقته في الحلال، وكمان مش هخسر حاجه يعني وأنا بساعده في تربية ولاده دول حتي أيتام يعني هعتبرهم ولادي.
اقترب في جلسته منها وربت علي يديها بحنان في حركة لم تعتاد عليها من قبل فأرتعشت بمكانها :
_أنتي زي بنتي يا روان، وأنا اللي مربيكي تقريبًا وعارف إنك مايله ليه، وده مش عيب أبدًا فلو إحساسي صح قوليلي نعمل خطوبة؛ وساعتها اتعرفوا علي بعض أكتر براحتكم وفكري ألف مره واوعك تيجي علي نفسك...أنتي لسه صغيره.
ابتسمت له بإمتنان حقيقي فذلك الرجل لم تري منه سوي كل خير على العكس تمامًا من زوجته المصون!...فاقت من شرودها وأخبرته بإصرار :
_حضرتك هتتغدي معايا النهارده، ومفيش أعذار.
هز رأسه بإزعان ثم أخبرها بنبرة لا تحمل سوي الجدية الصريحة :
_بعد ما تقابلني والدته ياريت تعرفيني باللي حصل ما بينكم.
❈-❈-❈
جلس "مجد" يتصفح حاسوبه المحمول في غرفة مكتبه ليجد إحدى المكالمات الدولية عبر تطبيق Skype فأجاب بسعادة ليأتيها صوت والداته قائلة بعتاب :
_أنا لو حملت في كلب كان افتكرني أكتر منك.
كرر كلمتها بتعجب :
_كلب!...ألفاظك تدنت خالص يا كامي ولا كأنك عايشة في حواري!
تدخل والده في المكالمة هو الأخر وجلس بجانب زوجته :
_الشغل عامل إيه ياض؟
ابتسم "مجد" إبتسامته الجذابة التي أظهرت صفاء أسنانه ثم حياه بنبرة سعيدة مبتجهة :
_إزيك يا حاج؟!
_أحسن من عشرة زيك يا *
أصدر "مجد" أحد الأصوات المستهجنة من فمه ثم هتف بإستنكار :
_لاحظ يا حاج إني بقيت عريس علي التهزيق ده.
قالها بضيق مصطنع ثم أخرج من جيبه إحدى العلب المخملية وفتحها أمامهم بسعادة...مما جعل والداته تغمغم بإحدى العبارات الفرنسية معبره عن سعادتها جعلته يبتسم لها هو الأخر هاتفًا بمشاكسة :
_شوفتي إنك هانم، ومش لايق عليكي دور رمزية جلابيه ده!
لم ترد على مشاكسته ولكنها رمقته بضيق ثم هنأه والده قائلاً بسعادة :
_ألف مبروك يا حبيبي، ويارب دايمًا أشوفك مبسوط كده.
نكس الأخير رأسه ببعض الحرج ورد بخفوت :
_حقيقي أنا مش عارف أشكركم إزاي، وخصوصًا انتي يا ماما... التصميم حلو اوي تسلم ايدك تعبتك معايا.
رمقته بحنان أمومي وردت بنبرة حنونه دافئة :
_يا حبيبي أنا محلتيش غيرك أنت وأختك...ربنا يبارك لي وفيكم واعيش واتعب لكم.
قطع ذلك الدفئ العائلي صوت "كامل" الذي تهكم قائلاً بإستهجان :
_وأنا يا ابن الكلب أنت مفيش شكرًا يا بابا...ده حتي فلوسي يا بجح!
نفي "مجد" قائلاً بمرح :
_وأنا أقدر يا حاج؟!...ده أنت الخير والبركة.
_أيوة يا أخويا كل بعقلي حلاوة كل، وحيات أمك لما تتجوز ما أنا سايب لك السايب في السايب كده.
رمقته "كاميليا" بضيق ولكزته في ذراعه بقوة :
_سيب ابني يفرح يا كامل، ومتنكدش عليه.
طالع الأخير "إثنيهما" بإمتعاض ثم هتف بإستهجان مصطنع :
_طيب يا أختي أنتي وابنك افرحوا بفلوسي!...مع السلامة يا أخويا وابقي سلملي على البت ياض.
قال جملته الأخيرة واتبعها بغمزة من إحدى عينيه ليبتسم له "مجد" وانهي تلك المكالمة المرئية التي مدته بمزيدٍ من الحماس، وزادته سعادة فوق سعادته ثم طالع ساعة هاتفه ليجد اقتراب موعده معها في المساء، فأغلق حاسوبه حتي يستعد لذلك اللقاء الذي انتظره كثيرًا منذ سبع سنوات!
❈-❈-❈
أنهت "روان" زينة وجهها البسيطة، وارتدت ذلك الفستان الذي ابتاعه "مجد" لها يوم حفل تكريمها...لا تعلم لِمْ أصر عليها بإرتدائه بالتحديد، ولكنها طاوعته في الأخير...سمعت قرع أبواق سيارته بالأسفل ليعلن عن وصوله في ذلك الوقت الذي حدده بالثانية مما جعلها تبتسم بسعادة لأنه يحترم مواعيده هو الأخر...أخذت حذائها العالي في إحدى يديها وهبطت إليه مسرعة، فطالعها بإبتسامته الجذابة ولكنه سرعان ما انفجر ضاحكًا علي هيئتها مما جعلها ترمقه بغيظ :
_إيه؟!... حضرتك شوفت بلياتشو؟!
نفي برأسه وأردف من بين ضحكاته :
_آسف مش قصدي بس منظرك يضحك أوي وأنتي بتجري وشايله الشوذ تحت دراعك.
رمقته بنصف عين وأردفت بنبرة ماكرة :
_ماشي ما هو حقك تضحك عليا، وأنت بمنظرك ده!
ضيق عينيه سائلاً إياها بإستغراب :
_ليه ماله منظري؟!
حركت كتفيها لأعلي ولأسفل بلامبالاة ثم أجابته بعدم معرفه :
_ريحتك جايبه آخر الشارع، وشكلك مختلف كده النهارده...باين عليك مبسوط.
أومأ برأسه في تفهم، واتجها للسيارته ثم سألها من جديد بجديه :
_يعني باين عليا.
_جدًا...لو مكنتش أعرفك كنت قولت إنك خارج من مجلة أزياء والله...النضافة دي غريبة جدًا!
طالعها بإمتعاض ثم هتف مغيظًا إياها :
_وأنتي زي القمر بس لسانك عاوز قطعه.
ضحكت علي حديثه بإصفرار ولم تعقب فسألها بفضول :
_وأنتي شكلك مبسوط...مش هتقوليلي في إيه؟!
لمعت عينيها بفرحه ثم أجابته بنبرة غلفتها السعادة :
_لما نوصل هقولك!
أومأ لها برأسه في تفهم وعاد من جديد بأنظاره نحو الطريق فدسألته هي الأخري :
_وأنت مش هتقولي إحنا هنقابل مين؟
فحرك كتفيه بلامبالاة، وأمال رأسه ناحيتها ثمرد عليها بنبرة مشاكسة كنبرتها :
_لما نوصل هقولك!
بعد بضع دقائق
خطا معا نحو الداخل لتلمح "روان" أركان المحل الفاخرة والذي يبدو أنه لا يرتاده إلا أصحاب الطبقة المخملية فأطلقت صفيرًا بإعجاب حينما علمت بأنه قد حجزه لحسابهم فقط وتمتمت ببعض الكلمات المازحة :
_باين عليها صفقة القرن.
استدار للجلوس أمامها مباشرة بعدما عدل لها من وضعية مقعدها فأبتسم لها بود وسألها ببعض الفضول :
_مش هتقوليلي مالك النهارده؟!
هزت رأسها بنعم وارتسمت ابتسامه صغيرة زينت ثغرها المطلي بالأحمر القاني فلم تجد أفضل من تلك المناسبة حتي تخبره بخطبتها فهي تعلم تمام المعرفة بكونه سيفرح لفرحها!...تناولت نفسًا عميقًا ثم لفظته بقوة، و تفوهت بساهمها السامة التي لم تدري أنها ستشطر قلبه لنصفين :
_أنا هتخطب لـ مالك نصار!
يُتبع..