الفصل الحادي عشر- أشواك وحرير
الفصل الحادي عشر
حسمت روان أمرها بالخطبة "لمالك" حتي تخرس الألسنة، وقررت إعطاء نفسها فرصة للتعرف عليه بعد الخطبة ، فطالعت "ريهام" بتحدي ثم تفوهت بنبرة متزنه :
_ماما أنا جالي عريس النهاردة!
عادت الحيوية من جديد على وجه "سهير" وتهللت أساريرها ثم سألت بعدم تصديق :
_بتتكلمي بجد يا روان؟!
ألقت "روان" بأنظارها تجاه زوجة خالها فوجدت الأخيرة وجهها يغطيه علامات الذهول والإستغراب فأبتسمت بداخلها وأومأت "بنعم" لوالدتها :
_أيوه والله بجد.
زاد وجه "سهير" إشراقًا فعادت تسألها بحماس شديد :
_اسمه إيه وبيشتغل إيه؟!..ومين أهله؟
أسرعت "ريهام" بسؤال متوجس :
_أوعي يكون المهندس اللي بتشتغلي معاه؟!
هزت "روان" رأسها بنفي ووجهت حديثها إلي زوجة خالها التي دائمًا ما تتهمها بخبث بكونها علي علاقة سرية بصديقها فردت بنبرة ذات مغزى حتي تنفي عن نفسها تلك التراهات العالقة برأس الأخرى :
_لا أنا ومجد أصحاب وأخوات...العريس إسمه مالك نصار صاحب شركة.
كان لجملتها آثران متغايران علي كلاً من والدتها وزوجة خالها التي تجهمت ملامحها بشكل كامل بينما ازدادت ابتسامة سهير إتساعًا وتملكها شعورًا داخليًا بالفخر ثم أردفت بنبرة معاتبة :
_هو أنا بشحت منك يا بنتي ما تقوليلي تفاصيل أكتر عنه وعرفك إزاي :
ابتسمت "روان" لسعادة والدتها التي استطاعت أن ترسمها علي محياها لأول مرة منذ زمنٍ طويل وردت بصراحه يشوبها بعضٍ من الخجل :
_خلصت معاه صفقة الأسمنت بتاعة مجد، ومن بعدها اتكلمنا كذه مره، والنهاردة قالي إنه عاوز يطلب إيدي.
_طب هيتقدم امتي؟
سألتها "سهير" بنبرة أكثر تلهفًا ،وملامح مبتهجه...ترددت "روان" قليلاً خوفًا من الحديث القادم والذي بالتأكيد لن يعجب والدتها، وستختفي تلك الإبتسامة البلهاء التي زينت وجهها..فردت بنبرة هادئة مصطنعه يغلب عليها بعض الصمت والتلعثم :
_لما اديله رقم خالي، بس..بس هو..كان متجوز قبل كده وعنده ولدين.
ضربت الصاعقة والدتها بسبب جملة الأخيرة التي ألقتها بسرعه، فتوسعت أعين "سهير" ورمشت بعينيها عدة مرات في محاولة لإستيعاب صدمتها فيبدو أن ابنتها أصابتها الوحدة بالجنون!...اتجهت بأنظارها نحو زوجة أخيها التي ابتسمت لها بسخرية، فتخلت عن صمتها أخيراً وهتفت بإستنكار :
_أنتي اتجننتي يا روان؟!..عاوزه تتجوزي واحد متجوز!
تملك الأخيرة الإحباط ونفت مفسره بتوضيح :
_مش متجوز يا ماما...هو أرمل من سنتين.
_هتفرق في إيه إذا كان مطلق أو أرمل!...الجوازة دي مش هتم واقفلي الموضوع.
لمعت الدموع في مقلتيها وصاحت بنفاذ صبر :
_وهو أنتي مش كنتي هتجوزيني واحد كان متجوز قبل كده؟!...اشمعنا اللي أنا بجيبه بقي ولا لازم دايماً تحسسيني إني متخلفه ودايماً اختياراتي غلط؟!
_ما هو علشان أنتي فعلاً متخلفة ودايماً بتخذليني...شوفي اخرتك إيه دلوقتي؟!...عايشه لوحدك في بلد غريبه بعيد عن أهلك علشان طمعك وجشعك!...رفضتي شغل في بلدك بمرتب مكنتيش عمرك تحلمي بيه علشان تجري ورا الفلوس، ويتقالك يا هانم، ودلوقتي جيبالي عريس ساحب وراه ديل وعوزاني أوافق؟!
تسربت دمعه خائنة من عينيها مسحتها بعنف وأردفت بكبرياء زائف :
_أنا منستش أصلي كان إيه فمش كل مره لازم تفكريني، ومتنسيش إني اختارت أهرب بعد ما حسستوني إني عاله عليكم.
_أنتي مش هتبطلي بقي حساسيتك الفارغة دي؟!...أومال لو كنتي سمعتي الكلام اللي كنا بنسمعه من أهالينا ولا العيشة اللي كنا عايشينها...بس الظاهر أنا اللي دلعتك بزيادة، والواد ده تنسيه.
_يعني إيه انساه؟!...هو أنتو هتجوزوني غصب عني؟!
_أنا شايفه إنه كويس بالنسبالها.
قالتها "ريهام" بكثيرٍ من التشفي..فطالعاها إثنيهما والشرار يتقاذف من عيونهما، وصرخت "روان" في وجهها بفظاظه :
_وأنتي مالك أنتي؟!...هو كان موضوع يخصك؟!
_سامعه بنتك بتقول إيه يا سهير؟!..وأنا الحق عليا إني بقف في صفها!
لم ترد عليها "سهير" ونظرت لإبنتها قائلة بصرامة :
_الموضوع انتهي،حياتك هنا انتهت إحنا هنقول لـ أكرم ابن أخت ريهام إننا موافقين.
_لو أجبرتوني علي حاجه ههرب بره البلد.
أمسكت "سهير" بحقيبتها وهمت بالذهاب لإحدى الغرف لتسمع جملة ابنتها الأخيرة، فطالعتها من فوق كتفها وردت بنبرة حزينه قاسية شطرت قلب "روان" إلي نصفين :
_لو عملتيها لا أنتي بنتي ولا أعرفك!
❈-❈-❈
تكومت علي سريرها في وضع الجنين، تحتضن الوسادة بين ذراعيها حتي تمدها ببعض الدفاء والإحتواء اللذان عجز البشر عن إشعارها بهما...انتحبت عاليًا ببكاء يمزق نياط القلب "لمَ عليهم دائماً إجبارها؟!...أتتم معايرتها الآن بسبب توجهها للعيش بمفردها؟!...ألم يطردها أبيها ؟! "...لقد ذهبت للعيش مع خالها وزوجته..تلك الحرباء التي جعلتها تعمل في البيت مقابل لقمتها، والإنفاق علي تعليمها، وبالرغم أن خالها لم يجرحها يومًا ولو بكلمه إلا أن زوجته لم تتواني في قذفها بالكلمات السامة كل يوم بالإضافة لتذكرتها دائمًا بكثرة الأموال التي ينفقوها هنا وهناك، مما جعل "روان" تطالب خالها بحقها في العمل حتي تساعده في المصروفات أخبرها بنبرة تحمل تلالاً من الضيق "بأنه لم يمت بعد حتي تخرج للإنفاق على نفسها" ثم أمرها بغلق الموضوع لأن هذا الأمر يعد جرحًا لكرامته...كان هذا الحديث تحت أعين زوجته التي رمقته بنظراتها الحانقة والجازعة، فأنصتت إليه علي مضض ولكن ما زاد الطين بلة طلاق والدتها بعد عدة أشهر...مما جعلها تتمرد علي حديث خالها وتعمل بجانب جامعتها...فتقوم بإعداد الطعام لبيعه لزملائها الطلاب المغتربين حتي تحظي ببعض الوريقات النقدية المعدودة في كل يوم لتساهم في مصروفاتها الشخصية؛ وتعيش علي الفتات...ظلت تعمل بتلك المهنة طوال عامها الدراسي الثالث بالجامعة بشكلٍ سري، حتي تقابلت بمجد...ذلك الصديق العزيز الذي لم ولن يُعوض أبدًا...قابلته في إحدى المسابقات الطلابية، وقد قام بالتعرف عليها أثناء المسابقة عندما أخذ يتجادل معاها حول صحة معلومتها، ثم في نهاية المسابقة وتوديع الطلاب لبعضهم البعض...وقف مجد محييًا الجميع قائلاً بزهو :
_زي ما انتو عارفين يا شباب دي كانت آخر سنه ليا، فهنزل تدريب في شركة بابا...وهو كان طلب مني اسأل أصحابي لو حد منهم محتاج التدريب معايا...إيه رأيكم؟
تهللت أسارير "روان" فهذه تبدو لها فرصة ذهبية من الصعب الحصول عليها مره أخري، ولكنها سرعان ما وأدت تلك السعادة وكتمتها بداخلها حينما قارنت حالتها بحال السبعة طلاب الواقفين حولها...فهي تبدو كخادمة بالنسبة لهم "فكيف سيتم قبولها؟!... بالتأكيد سيقبلوا الأخرين ممن لديهم واسطة ،وهي لن تنال فقط سوي الإحراج!"...ففضّلت ألا تحرج نفسها أمامهم، وبالكاد سيطرت على دموعها من الهطول أمامهم، ولكن سرعان ما اتسعت عينيها بصدمة وتدلي فكها لأسفل حينما هتفت يارا بنبرة متحمسة :
_روان يا مِجز في عمارة وشاطرة اوي انكل هيوافق عليها.
أصاب الأخيرة التلعثم والصمت بالتتابع فبدت لهم مثيرة للشفقة:
_ايوه...بس...بس آآ...
قهقه مجد عاليًا بمشاركة أصدقائه ثم أردف من بين ضحكاته :
_أنتي هتبسبسي؟!...خدي الكارت ده فيه عنوان الشركة هستناكي بكره الساعة تسعة علشان اعرفك علي بابا، ونروح مع بعض متتأخريش..سلام.
أعطاها عنوان شركتهم وأختفي من أمامها مسرعًا حتي لا تعترض عليه فهو لاحظ كم أن رأسها يابس...لم تدري في تلك اللحظة كيف يمكن أن يكون شعورها الآن؟!..."فهل تبتهج أساريرها كما يبدو عليها الآن لأنها أخيرًا ستحصل علي قوت يومها بدون إذلال أو شقاء بالإضافة أنها ستعمل مع ذاك الوسيم؟!...أم تُؤجل سعادتها قليلاً حتي تري هل سيتم قبولها أم لا؟! "...بعد عدة أشهر من تدريبها في الشركة سمعت حديث يارا ومريم شقيقة مجد والذي نحر قلبها بقسوة، وعلمت أن يارا من اخبرت مجد بشأن عملها في بيع الأطعمة من أحد الطلبة؛ مما جعله يقوم بتدبير تلك الحركة السينمائية معها حتي لا يقوما بإحراجها!... وبالفعل لم يكن أيًا من الطلاب الستة الآخرين يصلح لذلك التدريب!...شعرت بالكثير من الشكر والإمتنان لهما وإزداد شعورها ناحيته بالإعجاب!، ولكنها وأدت تلك المشاعر النقية التي بدأت تنبت بداخلها له مُذكرة نفسها دائمًا حينما تضعف تجاهه بأنه رب عملها فقط وولي نعمتها!، الذي أنتشلها من الشارع...ذكرت نفسها مرارًا وتكرارًا ،وكذّبت مشاعرها بأنها فقط إمتنان له وعُرفًا بالجميل طوال الست سنوات الماضية حتى أقنعت نفسها بتلك الحقيقة البائسة ،وأصبح لها مجرد صديق عزيز فقط لا تستطيع رفض أي طلبٍ له!...حدثت نفسها ودموعها مازالت تهطل من عينيها "لم أهرب من القليل يا أمي..بل هربت من الذُل وخدامة البيوت، ولن أُضيع أبدًا ما وصلت إليه "...جففت دموعها، ونهضت بعزيمة شديدة ممسكة بهاتفها حتي تضع حدًا لوالدتها!
❈-❈-❈
دلف "مالك" إلي بهو منزله في ساعة متأخرة من الليل... يمسك بسترته خلف كتفه، ويطلق صفيرًا عاليًا بسعادة فلاحظ وجود شقيقته تشاهد التلفاز، والتي اندفعت إليه مباشرة تقبل وجنته متحدثه بعتاب :
_إيه اللي آخرك كده؟!
تعجب من حالة شقيقته الغير مألوفة بالنسبة له فعلم أنها تخطط لشئ، فأبتسم إبتسامة جانبية هادئة وسألها بإستفسار :
_ها يا ستي قوليلي عالطول عاوزه إيه؟!
ابتسمت بخبث بسبب فهمه لها مما سهل عليها مهمتها القادمة بدون أي مقدمات مما كانت تخطط لها :
_أنا عاوزه فلوس.
ضيق عينيه مستفسرًا وسألها بإستغراب :
_الكريدت خلصت ولا إيه؟!
هزت رأسها بنفي، وأردفت بترقب :
_أنا عاوزه خمسة مليون علشان هفتح البيوتي سنتر اللي نفسي فيه.
_نعم؟!...خمسه مليون إيه؟!
هدر بها مالك صائحًا في وجهها بإنزعاج وقد تغيرت ملامحه كليًا للتجهم...ليحتل الضيق ملامحها هي الأخري، وهتفت بإستنكار :
_وفيها إيه لما تديني الخمسة مليون؟!...دي حقي!
تحدث بفحيح من بين أسنانه، وقد ظهر بهيئة مختلفة تمامًا عن التي حضر بها :
_متنسيش إنك خدتي ورثك و ادتيه للواد الصايع اللي اتطلقتي علشانه، ونصب عليكي وخلع، وبعدين بيوتي سنتر إيه اللي هيحتاج خمسه مليون؟!
تكومت الدموع في عينيها حينما تذكرت أمر انفصالها بسبب مراهقتها المتأخرة سعيًا خلف شهوتها...فلقد تسببت في طلاقها من "طارق"...ذلك الجراح الشاب المكافح بحجة أنها لا تحمل له أي مشاعر خاصة حتي بعدما أنجبت منه ابنتها تمارا ذات الإثنتا عشر عاماً حينها...فوقع الطلاق بناءًا علي رغبتها لتفاجئهم بعد إنتهاء العدة مباشرة برغبتها في الزواج من"هيثم" الذي يكبرها بعامٍ واحد ويعمل كموظف في أحد الشركات الناشئة، فأضطر أهلها للموافقة على مضض بعدما أخبرتهم بأنها تحبه بالإضافة لكونه شابً مكافح وسيشاركها في مشروعها الجديد، وقبل عقد القرآن أخبرتهم بأنه سرق أموالها وفر هاربًا للخارج...حتي بعد بحثٍ طويل لم يتوصلا إليه!...تخلت عن صمتها أخيراً وتحدثت بعتاب :
_مش كل شوية تفكروني إني اتنصب عليا، ومتنساش إني مخدتش كل فلوسي...أنا مش بشحت!
طالعها بندم بعدما شاهد دموعها تأبي الهطول والتمس الضيق الشديد يغلف نبرتها، فأمسك بكتفيها وأردف بحنان :
_يا حبيبتي هي فلوسك وأنتي مش بتشحتي...بس أنا خايف عليكي، وبنتك كانت أولي بالفلوس اللي اتسرقت دي، وأنا عرضت عليكي كتير تيجي تشتغلي معايا.
رمقته بتحدي وأردفت بعناد :
_أنا مش هشتغل معاك...أنا من حقي يكون ليا دخل يخصني اصرف منه علي نفسي وعلي بنتي.
_وأنا معترضتش علي ده...أنا اعترضت إنك بتضيعي الفلوس.
تملكها الغيظ من كثرة المماطلة معه في ذلك الحديث الأخوي ،وردت بضيق مكتوم :
_مالك!..متنساش إن أنا الكبيرة وزي ما قولتلك دي فلوسي وأنا مش بشحت منك، وفلوسي هعرف كويس احافظ عليها ولا إن شا الله أحرقها حتي ده شئ يخصني.
أومأ برأسه في تفهم وإستسلام فهو لا يريد خسارتها خاصة في الفترة القادمة...ثم أردف بموافقة :
_ أنا آسف...بس المهم إنك تحافظي علي نفسك...بكره هكتبلك شيك بـ اتنين مليون، والباقي بعد شهرين لأننا حاليًا داخلين شراكة في قرية سياحية.
شكرته بلطف مصطنع ليقبل هو رأسها والقي بتحية المساء، وتركها بمفردها صاعدًا لأعلي بعدما عكرت صفو مزاجه.
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي
أنكبت "ميرا" علي مكتبها تحيط رأسها بكفيها...يكاد يفتك بها الصداع الشديد...لم تتوقع أن يصل بها الألم لذلك الحد بالإضافة إلى ذلك الشعور بتشوش الرؤية أمامها وعدم التركيز مما جعل المهندس المسؤول عن تدريبها يقوم بتوبيخها عدة مرات أمام البقية...مما أشعرها بالضيق الشديد...رجحت تلك الأعراض بكونها لم تأخذ قسطً كافيًا من النوم، وفتحت حاسوبها المحمول لتراجع أحد التصاميم المقرر عليها تسليمها في نفس اليوم لذلك المهندس الغليظ...نبهها رنين الهاتف الأرضي فرفعت السماعة لتجيب علي الطرف الآخر، والذي لم يكن سوي السيدة "سلوي" سكرتيرة مدير الشركة...تخبرها بأنه يريدها في مكتبه في الحال!...وضعت سماعة الهاتف، وتمتمت بضيق :
_عاوز إيه ده دلوقتي؟!...هو باينه يوم أسود!
بعد بضع دقائق
وصلت إلى مكتب "مجد الدويري"...فأدخلتها السكرتيرة مباشرة بدون أن تطرق الباب مما أشعرها بجدية الموضوع، ابتلعت ريقها بتوتر ودلفت للداخل لتجده مستغرقًا في الحديث علي الهاتف...أشار لها بالإقتراب فدنت منه ببطء شديد....انهي حديثه علي الهاتف وتمعن في ملامح وجهها ليلاحظ اختلافًا كليًا علي كامل ملامحها مقارنة بأول يوم عرفها به حيث ظهر الإجهاد علي وجهها وأحاطت الهالات السوداء عينيها...أشار لها بالجلوس مما جعلها تجلس على مضض، ثم سألها بإقتضاب :
_خير؟!
ضيقت عينيها بذهول، ورمشت بأهدابها عدة مرات ثم رفعت خضراوتيها إليه وأخبرته بإستغراب :
_حضرتك اللي طلبتني.
اومأ برأسه بتأكيد مما زاد من استغرابها، والذي لم يدم طويلاً حيث أخبرها بنبرة هادئة :
_باشمهندس إيهاب بيشتكي منك...إيه اللي يخليه يعدل عليكي النهارده خمس مرات؟!
صمتت قليلاً حتي تستجمع شتات نفسها، وحاولت استحضار تركيزها حتي ترد عليه بلباقه لكنها لم تستطع وأصابها التلعثم :
_آآ...آآ.....
استشعر إرتباكها للمره الأولي منذ أن رأها في الجامعة مما اشعره بالذهول وخمن بأنها تعاني أحد نوبات القلق والتوتر....فـ رجحها بسبب قلقها علي جدها الذي سافر لتلقي العلاج في الخارج، قاطعها قائلاً بجدية وحزم :
_شوفي ياباشمهندسه....إحنا في رقبتنا أرواح ناس وأنا مش مستعد أضحي بيهم ولا أضيع سمعتنا في السوق بسبب إن حضرتك جايه هنا تلعبي...ده أول وآخر تحذير ليكي...أنا عارف إن الظروف اللي بتمري بيها صعبه وعلشان خاطر ابن عمك أنا قدرت ده وحذرتك بنفسي!
رفعت خضراوتيها إليه بتساؤل وكأنها لم تستمع من حديثه سوي علي جملته الأخيرة وتسألت في نفسها بقلق "أي ظروف؟...هل من الممكن أن يكون علم بسر والدتها؟! " ثم سألته بترقب وقد تمكن الصداع منها بشكل مفجع فلمعت عينيها بالدموع :
_ظروف إيه؟
سألها بإهتمام :
_مش جدك سافر يتعالج؟!
تنفست الصعداء واومأت إليه بتأكيد فأجلي صوته مره أخري بتحذير آخر :
_ده آخر تحذير ليكي، وياريت لو تاخدي إجازة علي ما تريحي أعصابك وترجعي!
لم يعجبها نبرة التهديد في صوته ولا حديثه بأنه قد صبر عليها مجاملة لإبن عمها وليس لشخصها هي! ، واستشعرت رغبتها في البكاء خاصة بعد إنقلاب مزاجها مئة وثمانون درجة عن ليلة أمس بعدما استنشقت ذاك المخدر مفكره بأنها الفترة التي تسبق دورتها الشهرية، فتمتمت بعض الكلمات بضيق شديد...مما استرعي إنتباهه لحديثها المتهكم ففرت من أمامه مسرعة بدون أي حديثٍ آخر، وصفعت الباب بقوة ليتأكله الغضب من فعلتها الوقحة.
❈-❈-❈
لا تعلم أبدًا كيف تعاملت معه بتلك الطريقة الوقحة...فهي أبدًا لم تكن طريقتها في التعامل مع الآخرين، ولكنها نفضت شعورها بالضيق جانبًا وقامت بإخراج هاتفها المحمول لمهاتفه صديقتها...انتظرت لبضع ثوانِ حتي أتاها رد الطرف الآخر فأجابتها بلهفه :
_ميرنا!...أنتي فين؟...أنا عاوزه أقابلك دلوقتي حالاً.
في مكانٍ آخر
جلست روان في مقابلة خالها في أحد المطاعم في مدينة صغيرة تقع منتصف المسافة بين القاهرة وبلدتها...ارتشف "محمود" من كوب الشاي الموضوع أمامه ثم سألها بقلق :
_خير يا روان قلقتيني لما قولتي إني لازم أقابلك علشان موضوع مستعجل.
ردت عليه معتذره ثم أخبرته مباشرة قائلة بهدوء :
_أنا جايلي عريس من القاهرة وأنا موافقة عليه.
حرك كتفيه لأعلي ولأسفل وسألها بإستغراب :
_طب وفين المشكلة؟!
كسى الإحباط معالم وجهها وردت بقلة حيلة :
_هو يبقي أرمل وعنده ولدين وماما مش موافقة عليه.
مط شفتيه للأمام، وصمت قليلاً ثم استدرك حديثه قائلاً بعد تفكير :
_مش يمكن أمك عندها حق؟!
تنهدت في إرهاق ثم أشاحت بوجهها للطرف الآخر ،وردت عليه بإيضاح متمسكه برأيها :
_هو شخص كويس، وابن ناس وقالي إنه بيحبني ودخل البيت من بابه بالإضافة إنه هيعيشني في مستوي كويس زي ما أنتو عاوزين....
قاطعها "محمود" قائلاً بجدية :
_الموضوع مش مستوي مادي وبس يا روان...أنتي بتقولي إنه عنده ولدين...هل أنتي هتقدري تتحملي مسؤولية الولدين دول؟!...ولا هتقوليله يبعدهم عنك؟!
كادت أن تقاطعه فرفع يديه في وجهها حتي يكمل حديثه واستطرد قائلاً :
_هتقدري تعيشي مع شخص وأنتي عارفه إن مشاعره معاكي استهلكها قبل كده مع واحده قبلك؟!
أصابها حديثه بالخوف والإرتباك فلم تفكر في هذا الأمر مسبقًا...ثم أبتلعت لعابها بصمت ولم ترد...استشعر تخبطها فسألها بهدوء "أنتي بتحبيه؟!"
حركت رأسها بنفي وأردفت بحرج شديد :
_مش عارفه بس أنا بدأت أحس ناحيته بمشاعر...مش عارفه هل كده أنا بحبه ولا إيه... بس بفرح اوي لما يكلمني وبتوتر واتلغبط.
أومأ برأسه بتفهم ثم عاجلها من جديد بقذيفة آخري :
_بس الحب مش كفاية يا روان...أنا عارف إنك عاقله وبتفكري بعقلك...لو عاوزه خطوبه أنا معاكي في أي حاجة تريحك المهم فكري بعقلك واعقلي الأمور، ومتستعجليش في موضوع زي ده لمجرد العند، واظن أنتي فهماني كويس.
ابتسمت له بحرج من كونه اكتشف أمرها وأردفت بتوضيح :
_أنا قولت نعمل خطوبة وبعدها اتعرف عليه أكتر يعني.
_يعني جيباني علشان أقنع مامتك تعملوا خطوبه؟!
ازدادت ابتسامتها اتساعًا ومطت شفتيها قائلة بتأكيد :
_الله ينور عليك.
_طيب أنا هقنع مامتك، وهكلمك تبعتيله رقمي يكلمني ولو أنا شوفته مناسب هكلم عاصم ونعمل خطوبه علشان تتعرفوا علي بعض...بس المهم خدي وقتك أنتي في التفكير، ومحدش هيغصبك علي حاجه.
هزت رأسها بنفي شديد حينما ذكر سيرة والدها...فهي تبغض بشدة أن يتدخل ذلك الرجل في أمورها الخاصة وهمّت بالإعتراض فأخبرها خالها بحزم :
_مشاكلكم مع بعض حاجه يا روان، والجواز حاجه تانيه... مينفعشي أبدًا أبدًا إنه يعرف مشاكلك مع أهلك!
بدي كلامه مقنعًا بشكلاٍ كبير بالنسبة لها فقبلت بإقتراحه علي مضض ثم شكرته بإمتنان وودعته بأسف متعلله بأن لديها بعض الأعمال.
❈-❈-❈
في مساء نفس اليوم
دلف مازن إلي بهو ڤيلتهم يدعوه الحنين للتفتيش عنها بلهفه هنا وهناك علّه ينعم بطيف رؤياها فلقد أظناه شوقه إليها طوال الأسبوع الماضي حيث أبي كبرياؤه اللعين أن يهاتفتها ويسألها عن أحوالها...أسبوع بأكمله ولم يستمع فيه لصوتها، لم ينعم بدلالها ولا دفئ قربها...فكر قليلاً في الصعود لغرفتها حتي يشبع عينيه بالتطلع في عيونها الساحرة، ولكنه أمسك بزمام أمره في اللحظة الأخيرة مذكرًا نفسه بكرامته التي تأن عليه...جلس على الأريكة في صالة الإستقبال مفكرًا في إحدى الحيل التي تجلبها له بدون أي عناء أو مشقة ثم نادي علي مدبرة المنزل بلهجة مرتفعة قليلاً :
_ لو سمحتي يا مدام سيده قوليلهم يحضروا العشاء وحد يقول لـ مرات عمي وميرا إن العشاء جاهز.
طالعته السيدة بذهول شديد من عدم معرفته بأمور منزله، وتسمرت في محلها مما استرعي إنتباهه لحالتها فسألها مستفسرًا بتعجب :
_إيه اللي موقفك كده؟!...مروحتيش ليه ؟!
سألته بترقب :
_هو حضرتك متعرفش؟!
ضيق عينيه بعدم فهم وتسأل بجهل :
_أعرف إيه؟...هو فيه حاجه حصلت وأنا مش موجود؟!
لوت شفتيها بسخرية وأجابته بتهكم كعادتها :
_حاجه حصلت؟!...قول حاجات!
بدأ يشعر بالقلق بل والضيق أيضًا من أسلوب تلك المرأة التي لا تكف عن الثرثرة فزجرها بصرامة :
_ما تخلصي يا ست أنتي وتقولي فيه إيه؟!
جعدت حاجبيها وزمت شفتيها بعبوس من صياحه بها فقد تعجبت من ضيق أفقه لأول مره في الحديث معها وعادت تثرثر كعادتها بدون أن تأبه لذلك الذي يستشيط غضبًا :
_يالهوي علي اللي حصل أقول إيه ولا إيه... الست صفوه والأستاذ رأفت اتخانقوا مع الست ميرا وسابوا البيت ومشيوا.
_يعني إيه اتخانقوا معاها وسابوا البيت؟!...هو إيه اللي حصل لكل ده؟!
_ما هو أنت لو مهـ.....
قارب علي فقد أعصابه فصرخ في وجهها بإنفعال حتي تذهب ،لم يعد يحتمل تلك العجوز الثرثارة!...همّت بالذهاب من أمامه فنادي عليها في طريقها للرحيل :
_استني...فين ميرا؟!
هزت كتفيها بعدم معرفه وأردفت بنبرة ماكره :
_وأنا هعرف منين؟!...بقالها يومين بتخرج وترجع وش الفجر ربنا يستر على ولايانا !
❈-❈-❈
طرق "مالك" علي غرفة والدته حتي يُعلمها بشأن زواجه من"روان"...كان ينوي تأجيل تلك الخطوة مؤقتًا حتي ترد عليه، ولكنه لا يدري لماذا أصبح شبه متأكد من موافقتها علي عرض زواجه...أذنت له والدته بالدخول قائلة بنبرة يشوبها النعاس :
_تعالي يا مالك...عاوز إيه؟
وقف قبالة سريرها واضعًا كفيه بداخل بنطاله قائلاً بهدوء :
_أنا قررت أتجوز؟!
سألته مستفسره بدون أن يظهر علي وجهها أي مشاعر :
_واحده إحنا نعرفها؟!
أجابها بكلمة واحدة فقط كانت كافية لإشعال النيران في عينيها :
_روان.
استقامت من مكانها واتجهت إليه مباشرة، وهدرت في وجهه بجنون وقد تخلت تمامًا عن ملامحها الهادئة :
_روان مين؟!...الشحاتة؟!
_ماما لو سمحتي متقوليش عليها كده...دي بنت ناس ومتحترمـ.....
قاطعته بإهتياج تملك منها :
_ناس إيه؟!...تقدر تقولي أصلها إيه دي؟!...أنا مش موافقة.
تجمع العاملين علي أصواتهم العالية في ذلك الوقت المتأخر من الليل، فتذمر الأخير بضيق مكتوم :
_ماما...أنا قولت اللي عندي، وأول ما روان ترد عليا هنعمل خطوبه ساعتها ابقي اتعرفي عليها وأنا أوعدك هتحبيها.
_ده أنت بتحطني قدام الأمر الواقع بقي، وكمان عامل للهانم بتاعتك قيمة ومستني رأيها؟!...ده علي جثتي!
شعر بالسخف من حديث والدته التي يبدو أن رغبتها في النوم جعلتها تهذي بكلامٍ غير مرتب فأستطرد بهدوء :
_كده يبقي هقسم الميراث وأخد ولادي واسيب لك البيت.
بدأت تهدأ ثورة هياجها فرمقته بسخط شديد وردت بعتاب أمومي :
_بتتحداني علشان واحده من الشارع يـ....
تملكه الحزن من حالة العناد التي وصلا إليها فقاطعها قائلاً بصرامة هشه :
_لو سمحتي يا ماما روان مش من الشارع وأنا مقبلش عليها حرف يمس كرامتها، ولو علي الجواز فأنتي اللي اضطرتيني لكده....تصبحي علي خير!
ألقي بقنبلته في وجهها وسارع بالتوجه خارج غرفتها؛ ليسمع أصوات تكسير صادرة من غرفتها...أما هي فقد جافها النوم، وشعرت بالفواق عقب المصيبة التي يوشك وحيدها علي إيقاعهم بها بسبب مشاعره المراهقة!...أمسكت بهاتفها حتي تري أين ابنتها الكبري علّها تجد لها حلاً في تلك الكارثة!
❈-❈-❈
ظل يدور في أرجاء المنزل كالليث الحبيس لا يعلم أين هي إلي الآن ولا ماذا تفعل في ذلك الوقت المتأخر من الليل فقد اقتربت الساعة من الثالثة فجرًا...حاول الإتصال بها أكثر من مرة والنتيجة هي لا توجد إجابة!...هاتف جميع أصدقائها المعدودين فجميعهم أجمعوا أنهم لم يلتقوا بها أبدًا، رمي بهاتفه على الطاولة الموضوعة أمامه ثم جلس واضعًا رأسه بين كفيه يتأكله القلق...يشعر كأنه مكتوف الأيدي، سمع طرقات كعب حذائها علي السلم الخارجي للڤيلا فرُدت روحه المسحوبة إليه، وبعد ثوان وجدها أمامه، ومن الواضح أنها لم تشعر بوجوده...فتراقص قلبه بعنف لرؤيتها وكم تمني في تلك اللحظة أن يأخذها بين ذراعيه حتي يبث لها أشواقه، ويخبرها كم أضناه الشوق وجافه النوم في بعادها...ولكنه رسم الجديه علي ملامحه، وسألها بترقب :
_كنتي فين؟!
قاطع صوت غناءها بسؤاله مما جعلها تشهق بمفأجاة، ولكنها سرعان ما استدركت الأمر واقتربت منه بدلال ثم أطلقت صوتًا من فمها يدل على الإندهاش :
_أوه!...مازن بيه..حمد الله على السلامه، وأخيرًا حنيت علينا!
لم يلقي لجملتها الساخرة بالاً وأردف بفحيح مرعب من بين أسنانه :
_بقولك كنتي فين لغاية دلوقتي؟!..وليه مش بتردي علي الزفت؟!
كانت في أشد لحظات سعادتها الواهية وقد تلاعب الدوبامين في عقلها فقابلت سؤاله ببرود وأكملت غناء إحدى الأغاني الشعبية...مما جعل شعوره بالدهشة والإستغراب يزدادا...فأقترب منها ممسكاً بساعديها يتأملها عن قرب؛ فلاحظ الإجهاد العام يحتل جميع وجهها والهالات السوداء تحيط بعينيها في لقطة عجيبه لم يعهدها منها من قبل، وسألها بإستنكار :
_أنتي سكرانة؟!
هزت رأسها بنفي ولم تعقب فأقترب منها بوجهه أكثر من السابق محاولاً سبر أغوارها :
_افتحي بؤقك.
طالعته بعدم فهم ليرد عليها ببرود :
_علشان اتأكد إذا كنتي سكرانه ولا لا!
حاول فتح فمها عنوه فنفضت ذراعيه عنها بقوة، وللمره الأولي صاحت في وجهه بشراسة وكأنها أرادت أن تعاتبه ولكن الأمر انقلب منها لمشاجرة :
_وأنت مالك بيا اصلاً؟!...غايب أكتر من عشر أيام من غير سؤال واحد وجاي دلوقتي عاوز تعرف أنا كنت فين!...تعرف إيه أنت عن اللي حصل في العشر أيام دول؟!...ده أنت بجح!
فرت من أمامه مسرعه متجها نحو غرفتها حتي لا تبكي أمامه فتظهر كمثيرة للشفقة، واحتضنت حقيبتها بين ذراعيها بقوة وكأن بداخلها كنزٌ ثمين تخشي عليه من الضياع!...بينما هو حدق في أثرها بمشاعر مختلطة من الذهول والشفقة لم يدوما طويلاً حيث قاطعه رنين هاتفه ليأتيه صوت الطرف الآخر في مكالمة هاتفية لم تستمر لبضع ثوان...اتجه خلفها مسرعًا فأدركها أمام غرفتها قائلاً بإقتضاب :
_جدك دخل العناية المركزة!!
يتبع