-->

الفصل الثلاثون - ظلام البدر - دجى الليل



الفصل الثلاثون


هبط الدرج الداخلي للمنزل وهو ينظر للجميع بينما لاحظ اختفاء زياد لتهرول شاهندة نحوه في لهفة كي تتفقد حاله فنبرته صباح اليوم لم تنبأ بالخير أبداً "بدر أنت كويس؟"

"أنا تمام اهو مالي.." ابتسم لها ثم توجه حيث الجميع لتتعجب شاهندة لتلك الإبتسامة بل ولاحظت أن نظرة عيناه أيضاً قد تغيرت ليبدو سعيدا بطريقة جديدة لم تعهدها عليه من قبل

"يا خبر دلوقتي بفلوس.." تمتمت وهي تتبعه بينما جلس بين الجميع لتنظر له نجوى بإبتسامة ولكنها تحدثت له بلوم

"بقا كده كل الفترة دي متجيلناش ولو مرة؟!"

"معلش يا أمي.. ادينا جينا أهو.."

"ماشي يا حبيبي.. عذرك بس إنك عريس.." لم يُصدق بدرالدين تلك المناقشة التي سيبدأها لتوه مع والدته بسبب نظرات عينيها ونبرتها التي يحفظهما عن ظهر قلب وكلتاهما تُنبأ بمناقشة لا يحبذ أن يخوضها أبدا

"زينب لو سمحتي اعمليلي قهوة.." حاول أن يُغير الموضوع

"حاضر يا بدر بيه"

"وأنا يا زينب كمان وهاتيهوملنا المكتب" صاحت والدته هي الأخرى ليعلم أنها ستنفرد به الآن

"حاضر يا نجوى هانم"

"الله يا ماما!! ده لسه جي.. ما تسيبيه قاعد معانا شوية.." تحدثت شاهندة وعبست ملامحها

"لأ أنا الكبيرة يبقا أنا الأول.. يالا يا بدر تعالى عايزة أكلمك شوية" ابتسمت نجوى لتشعر شاهندة بالضيق بينما زفر بدر لينهض تابعا اياها

"متقلقيش يا شاهي هنقعد سوا.. وهديل أنا عايزك، متناميش غير لما أكلمك" أخبرهما لتومأ كلاً منهما له بالموافقة ثم توجه تابعاً نجوى لغرفة المكتب.

"عامل ايه يا حبيبي؟"

"أنا تمام"

"ممم.. شكلك كده مبسوط!" ضيقت عيناها وهي تتفحصه

"آه تمام.. مبسوط.." اجابها بإقتضاب وهو يحاول أن يبتسم

"ممممم.. بس شكل الإنبساط كده مش كامل، شكل فيه حاجة ناقصة ومعكننة عليك.. فيه ايه بقا، احكيلي.." عقد حاجباه وهو ينظر لها بإستغراب.. كيف عرفت هكذا بمنتهى السهولة؟ ربما شاهندة أخبرتها بمكالمته لها هذا الصباح أمّا أنها لا تزال تستطيع أن تفهمه وتدرك ما به كما هي العادة؟!

"يالا انطق.. العضلات دي أنا اللي كبرتها وربيتها شبر شبر" ضربته بأحدى كفيها على احدى اذرعه برفق وهي تبتسم له ليطلق ضحكة خافته وللحظة شعر بالخجل منها "فاكرني مش هاعرف من أول بصة، ومتخافش شاهندة مكلمتنيش في حرف" نظر لها بأعين متوسعة لنطقها بما يُفكر به في ثوان هكذا "أنا عارفة كويس ابني بيفكر ازاي، يالا بقا احكيلي"

لا يدري دون وجود نجوى طوال تلك السنوات بجانبه ماذا كان ليفعل؟! حياته بأكملها لولا تلك المرأة لكانت أصبحت حياة رجل عصابات أو ربما رجل مريض نفسي بشدة أكثر مما هو فيه! كيف تفهمه هكذا وبإبتسامتها وحنانها معه يُصبح كالطفل الصغير أمامها! زفر بعمق وهو لا يدري من أين يبدأ، لن يستطيع إخبارها بكل شيء قبل التحدث لهديل أولاً..

"أبداً يا أُمي.. أنا مبسوط بس هي صغيرة أوي، حتى تفكيرها وعقلها محدودين، وأنا ساعات مبعرفش أتعامل معاها، يعني بحس كده إني بـ.."

"بتتعامل مع بنوتة صغيرة مش فاهمه ولا عارفة أي حاجة في الدنيا مش كده؟ وطبعاً ابني حبيبي قاسي بطبعه وعصبي ومجنون.. ولما حنيتك بتبان بتكون عكيت أصلاً وبتصعب عليك وبتكون عامل زي المتكتف اللي مش عارف يعمل ايه.. صح ولا أنا غلطانة؟!" توسعت عيناه في دهشة بعد أن قاطعته بتلك الكلمات التي وجدها غاية في الصدق وتصف تماماً كل ما يمر به معها

"متبصليش البصات دي.. مش نجوى اللي مش هتاخد بالها من التفاصيل الصغيرة دي.. بس أنا هاقولك تتعامل معاها ازاي.." ابتسمت له بينما دلفت زينب لتضع فنجاني القهوة أمامهما ثم غادرت

"أوعى تفتكر إني ملاحظتش بصاتك ليها ولا لما كان زياد بيقرب منها كنت بشوفك متنرفز اوي ولا لما كانت بتغيب عن عينك كنت بتبقى هتتجنن، ولا لما فجأة رجعت تقعد معانا في البيت أول ما هي جت.. وموضوع بقا شغلها معاك ده كنت عايزة مبطلش ضحك عليك بس عملت نفسي عبيطة عشان كنت متأكدة إنك حبيتها وعايزها تكون قدام عينك في الشغل والبيت وبقيت تاخدها بعربيتك وتجيبها بعربيتك.. وكله بقا كوم وموضوع لندن اللي أنا شاكة فيه ده لغاية دلوقتي كوم تاني.. بس هاقولك بقا بعد الحب ده كله نور دي ايه.."

"نور دي عاملة زي حتة القطنة البيضا اللي لسه متشكلتش، قلبها أبيض اوي، طيبة بزيادة، اللي حصلها في حياتها مكنش سهل أبداً، تعيش يتيمة الأب وبعدين يتيمة الأم وجوز أمها ده شكله راجل مش كويس.. لازم تكون حنين معاها، زي ما تكون بتربي بيبي صغيرة من أول وجديد.. مينفعش شخصية زي دي تتعصب عليها كل شوية، عرفها الصح من الغلط، عرفها يعني ايه حياة راجل وست مع بعض، وريها حنيتك بزيادة الفترة دي عشان لو لا قدر الله حاجة حصلت في حياتكوا قدام يكون ليك رصيد عندها.. سيبك من أي حاجة حصلت وأي عصبية طلعتها عليها، أنتو لسه في الأول ومعداش عليكوا كتير سوا ولسه معاك وقت تصلح فيه كل اللي حصل لو كان ايه.." ابتسمت ثم ربتت على كتفه في حنان وهي تنظر له بحب وأمومة لم يجدهما سوى بها هي وحدها دونا عن سائر نساء العالمين

"أنا مش هافضل عايشة يا بدر الدين قد اللي عيشته.. لازم يا حبيبي تطمني عليك، أوعى تكون فاكر إن أنا مستهونة اللي حصلك بعد ليلى.. بس الدنيا دلوقتي جيالك وفاتحالك دراعاتها، لازم لمرة بقا في حياتك تتبسط وتعيش وتنسى كل الوحش اللي عدا وتركز في اللي جاي.. مراتك جواها عاملة زي الدهب الخام، عليها شوية تراب بس عشان لسه مظهرتش ولمعتها بانت، بينها أنت واظهرها وشكلها زي ما تحب، في الأول وفي الآخر هتفضل دهب ومعدنها أصيل وعمره ما هيتغير.. عايزة أشوفك سعيد يا بدر.. اوعدني يا حبيبي إنك هتعيش مبسوط معاها.. اوعدني انك هتفضل جنبها طول عمرك"

"اوعدك يا أمي حاضر.." ابتسم لها ثم شرد بحديث والدته الذي أدرك من خلاله كيفية التعامل مع تلك الصغيرة، فبالرغم من أنه رجل بالثالثة والثلاثون من عمره إلا أنه لا زال يجد تلك الحلول لدى نجوى دائماً التي لطالما فتحت عيناه على الكثير وأيقظته ليرى حقيقة الجميع والآن هي تُفيقه أيضاً من شروده

"مش عايزاك كمان تحط زياد في دماغك.. لو كان بجد بيحبها كان زمانه متدمر، إنما اهو قدامنا بياكل ويضحك وبيخرج وعايش حياته ولا كأن حاجة حصلت.. حاول تفهمه وتاخده براحة، ومتحاولش تتعصب عليه عشان متحصلش مشاكل في البيت ونور لسه أول مرة تيجي هنا وهي مرات ابني مش مجرد بنوتة صغيرة جاية تعيش معانا" أومأ لها في تفهم لتبتسم هي له "الدور على مين؟ هديل ولا شاهندة؟!" ضحكت بخفوت وتهللت ملامحها وهي تخبره سائلة ليهُز رأسه في انكار ثم اجابها

"هديل.."

"هو كده قاعدة الستات مبتخلصش أبداً ولازم تدي لكل واحدة دورها وتسمعها وتكلمها.. يالا هندهالك وتصبح بقا على خير"

"وأنتي من أهله" ابتسم لها بإقتضاب ثم حاول أن يستجمع شجاعته فيما سيفعله بعد لحظات.

دلفت هديل لينظر لها وشعر بالخوف للحظة، فهو لا يتوقع ردة فعلها، قد تنهار، قد تُكذبه وتُكذب عيناها بعد ما ترى كل ما لديه من دلائل على حقارة ذلك الوضيع الذي لا يستحق حتى نظرة شفقة منها.

"ازيك يا هديل عاملة ايه.."

"تمام يا بدر.. مبروك.. معلش الوقت اخدنا واديك شايف الشغل والبيت والولاد مش مخليني مركزة في حاجة"

"الله يبارك فيكي.. ولادك كويسين؟"

"آه الحمد لله تمام" ابتسمت بإقتضاب لتتلاقى أعينهما وكان كل واحد منهما عقله يصور له الكثير..

يشعر بدر الدين بالخوف على أخته، مهما كانت فهي بالنهاية إمرأة قد خُدعت من قبل شخص حقير، وهو زوجها واالد أطفالها الخمس بالنهاية!..

أمّا هي فلقد شعرت بأن النهاية بينها وبين كريم قد أقتربت، لا تدري لماذا تُفكر هكذا ولكن غيابه منذ صباح اليوم لا يبشرها بالخير!! تشعر بأن أخيها هو من وراء كل ذلك! لا ندري أحيانا يكون احساسنا وشعورنا بحدوث المصائب أبلغ وأوثق من كل ما يحدث حولنا حتى ولو لم نملك أية إثباتات بين ايدينا..

"هديل معلش عايزك تمسكي نفسك وتسمعيني لغاية الآخر" تحدث في هدوء لتومأ له هي بإبتسامة مُنكسرة

"متقلقش يا بدر.. أنا عارفة كل حاجة.. بس قولي أنت الأول فيه ايه وأنا هاعرفك أنا عارفة ايه متقلقش" ابتلعت في آسى وهي تنتظر تلك اللحظة الفارقة بحياتها مع الرجل الذي أحبته ولطالما أعطته العديد من الأعذار والحجج ولكنه دائماً ما سقط من نظرها ولم يكن عند حُسن ظنها به ولم يُقدر تلك الفرص اللانهائية التي أعطتها له!

--

"أنتوا بتعملوا فينا كده ليه؟ احنا معملناش لحد حاجة" صاح يُسري في ذعر وهو لا يستطيع تحمل كل ذلك الضرب المُبرح الذي لا يزال يتلقاه منذ الليلة الماضية

"هو بدر الكلب مفيش غيره" صاح كريم بلهاث وهو يبثق بعض الدماء من فمه بينما تعلق كلاً منهما بسلاسل حديدية عاريان وغابت ملامحهما وسط الدماء وما إن نطق بتلك الجُملة حتى لكمه احدى الرجال الذين لم يتوجهوا لهما بكلمة واحدة وتركوهما لتلك الكلمات الواهية التي يتحدثان بها

"أنا.. أنا ماليش دعوة.. أنا عايز أمشي.. أنا هانفذله كل اللي يقول عليه" آتى احد الرجال لينهال على ظهره بأحدى الهراوات الضخمة ليصرخ هو ثم تحدث في وهن "أنا معملتش حاجة"

"ورحمة أمي لأخليه يندم" تحدث كريم بين أسنانه المتلاحمة لتنهال الهراوة أيضا على ظهره ليصيح كاتما صراخه وهو يشعر وكأنما شيئاً بداخله قد تكسر..

ظلا يتجرعان ذلك العذاب في ظُلمة شديدة، لا يران أي شيء أمامهما، فقط صوت السلاسل التي لا يستطيعان التحرك بها تبعث الفزع بأنفس أعتى الرجال، يشعران برهبة من كل ما يحدث لهما بفعل تلك الدماء التي تنهمر على وجه كلا منهما كالشلال وكأنها لن تتوقف أبدا.. وأجسادهما العارية لا تنفك عن تلقي الضربات التي لا يتبينا من أين آتت! يصرخان بشدة، لا تستطيع قدماهما على حملهما، أصوات أدوات العذاب التي يتعذبان بها بدأت تُشعرهما بخوف وذعر ولكنهما لا يزالان صامدان..

سويعات قليلة لن تستطيع فعل ما أراده بدر الدين بكليهما، لا يزال الطريق أمامهما وعراً شاقاً مليئاً بالأشواك التي تلوثت بدمائهما القذرة بسبب أفعالهما، سيكسرهما جيدا حتى لا يستطيعان القيام ولا الوقوف على قدماهما مجددا..

سيستمر في عذابه لهما، لربما عشرة أيام كما أخبر هؤلاء الرجال وبعدها سيرى إن كان هذا كافيا لهما أم عليه أن يُريهما ظُلمته التي حولت روحه من قبل لعتمة حالكة لم يستطع أحد في إنارتها أبداً..

سيذيقهما تلك الظُلمة التي لمست تلك البريئة التي لم يكن لها ذنبا بأي من تلك القذارة التي لواثاها بها.. وحتى لو لم ترهما ولو لم تعرف ما يحدث لهما، يكفيه فقط أنه ينتقم من تلك الأيدي التي فكرت في أن تمسها بسوء..

--

"يااه يا بدر فكرك مكنتش عارفة.." ابتسمت في تهكم لتتهاوى دموعها في حزن "ومن قبل نور ومن قبل الجواز ومن قبل الخلفة ومن قبل الخطوبة، وبعد الجواز وبعد الخطوبة وبعد الخلفة، كل مرة كنت بحاول اديله في مبررات، كنت بقول إن أنا بضغط عليه ومخلياه يركز في مستقبلنا زيادة عن اللزوم، طب يمكن عشان مسئولية الأولاد، طب يمكن الجواز خانقه وحتة الجواز بتخنق رجالة كتير، يمكن عشان هيخسر لمة البنات حواليه بعد الخطوبة، طب لما يحس بالولاد بيكبروا حواليه هيعقل!!" تآثرت ملامحها وهي تحاول أن تتريث لتجفف دموعها وصمدت قدر المستطاع من هول ما رآته على ذلك القرص المُدمج الذي سجل حقارة كريم!!

"مش أنا اللي هتفضل تتكلم كتير" استعادت رباطة جأشها ثم نهضت في غرور أنثوي يتأبى تقبل الرفض وخسارة رجلها بتلك الطريقة وهي تحاول أن تتماسك

"أنا عندي شغلي وأنا ست ناجحة، عندي ولادي اللي ربنا ما يحرمنيش منهم، شوف عايز تعمل فيه ايه وأعمله" تحدثت بقوة شديدة لينظر لها بدر الدين في تعجب لتبتسم هي له

"أنا كنت ملاحظة كل حاجة ومستنية اللي يفتح عينيا أكتر .. أو يمكن مش عارفة أنا كنت مستنية ايه.." همست بقليل من الإنكسار ثم سرعان ما استعادت قوة شخصيتها

"أنت يا بدر ضهرنا اللي دايماً بنتسند عليه.. سيبك من مشاكل الأخوات.. بس أنا وأخويا على ابن عمي.. أنا عارفة إنك كنت أنت أول واحد هيكون في ضهري.." نهض بدر الدين ليعانقها ويُربت على رأسها في حنان

"متخافيش يا هديل.. دايماً هتلاقيني في ضهركوا كلكوا.. وولادك عمرهم ما هينقصهم حاجة، ولو حد فكر يقربلكوا أنا هموته" ا تسمت له بإقتضاب وهي تهز رأسها علامة على الموافقة على كلامه بينما تأثرت ملامحه في حزن على ما آلت إليه حياة أخته التي لا زالت صغيرة.

"ناوي تعمل فيه ايه؟!" سألته لينظر لها وحاول ألا يُفصح لها عن الكثير

"هبهدله وبعدين هرميه في السجن.."

"بهدله، موته، ولع فيه، مش عايزة أعرف حاجة عن الكلب ده تاني.. بس بلاش السجن.. يرضيك ولاد أختك يبقا أبوهم مسجون؟ تخيل كده واحدة من بناتي جاي يتقدملها واحد يسأل عن أبوها ولا علينا يلاقيه مسجون؟ ولا ابني وهو بيتقدم لبنت يسألوه فين أبوك يقولهم مسجون.. ده حتى بابا الله يرحمه مسجنش وفاء مع إنه كان سهل اوي عليه يعملها.." أومأ لها في تفهم وهو عاقداً حاجباه متنهدا

"ولادي يا بدر آخر حاجة بقيالي عشان اتسند عليها.. بعدك طبعاً.. مش عايزاهم يعيشوا مكسورين.. كفاية اللي هافكر فيه عشان اداري بيه حقيقة ابوهم القذرة.."

"خلاص يا هديل مش هاسجنه.. واوعدك متشوفيش وشه تاني.. وعايزك يوم ما تحتاجي حاجة تقوليلي" نظر لها بخوف وآسى على حال أخته لتومأ له في تفهم

"شكراً يا بدر.." تركته وهي تتوجه لخارج غرفة المكتب وهو يتابعها بعينيه ويشعر بالشفقة لأجلها ليُقسم بداخله أن يعذب كريم بأشد وأعنف الطرق التي عرفها يوماً ما..

لم تمر ثوان حتى رآى شاهندة تدلف الغرفة بعد هديل لتنظر له في قلق ثم صاحت في لهفة لمظهره الذي يبدو حزيناً ولمظهر أختها الذي أخافها كثيراً "ايه يا بدر مالها هديل طالعة شكلها عامل كده ليه؟!"

"شاهي.." همس لها لتقترب هي منه وتلمست ذراعه في رفق وملامحها مذعورة من تلك الطريقة التي ترى بها أخيها "أنا محتاج أفضفضلك عن حاجات كتيرة أوي.. أنا محتاجك يا شاهي"

--

"يا نهار أسود.. كل ده حصل وأنا معرفش يا بدر؟!" صاحت شاهندة في غير تصديق ومفاجأة

"أنا بهدلتها.. مش هاقدر أنطق وأقولك أنا عملت فيها ايه، مش عارف يا شاهندة ابتدي معاها ازاي وبعد ما نسيت كل حاجة حاسس إني مرعوب.. بس كنت خايف على هديل وولادها لو حياتهم اتدمرت، كنت خايف عليكي من بنت منعرفهاش، كنت فاكر إن جوز أختي راجل محترم وهي اللي شدته ليها، أنا كنت شايف فيها وفاء، فاكرها إستغلالية زيها.. بس.. بس أنا كنت بحبها اوي..

من أول ما شوفتها وأنا كنت حاسس بحاجة ناحيتها، كنت عامل زي اللي في دوامة مبتنتهيش ويوم ما طلعت منها لقيت اللي بيجبني يمين ويوديني شمال ومكنتش عارف أعمل معاها ايه.. كنت لما بشوفها بتعيط ببقا زي المجنون وجوايا حاجة بتولع فيا كل ما دموعها بتنزل قدامي وببقا مستعد أعملها أي حاجة عشان تبطل عياط.. عشان كده وديتها لجوز أمها، مكنتش عارف اسمع لعقلي ولا اللي سمعته وداني وشافته عنيا ولا اسمع لقلبي!! كنت عايز أخلص من العذاب اللي أنا فيه ده بأي طريقة، لا كنت قادر ابهدلها أكتر من كده ولا قادر أقربها ليا وأنا شايف أنها بتسرق جوز أختي من ولاده ومراته.. بس بعد ما شوفت بعيني اللي كان هيحصلها من يسري الكلب وأنا فيه حاجة جوايا صحيت والله حتى من قبل ما تنسى كل حاجة كنت قررت إني مش هامد ايديا عليها تاني..

ومن ساعة اليوم ده بقيت بحاول أعاملها أحسن.. حتى من غير ما أعرف حقيقة اللي سمعته بينها وبين كريم.. بقيت أحاول أكون كويس عشانها وأنا أصلاً عمري ما كنت راجل سوي ولا انسان طبيعي، حاجة جوايا كانت بتخليني استنى عليها وأفضل أشوف هي بتعمل ايه طول النهار عشان أتأكد من علاقتها مع الوسخ ده، بس غصب عني كنت بسرح فيها وبحبها أكتر.. لغاية.. لغاية آخر اجتماع لما.. لما وريتك اللي عمله.. والكاميرات صورته" تساقطت دموعه وهو يشعر بالإنكسار

"تعرفي إني مقدرتش أدخل وأشيل كريم عنها وأمسكه أموته بإيدي، تخيلي إني مكنتش راجل كفاية إني أعمل كده وأواجهها وأبص في عينها وأعترفلها إني غلطت في حقها؟" ابتلع دموعه وهو يشعر كم كان حقيرا وجبانا مرتعدا بتصرفه هذا

"كنت عامل زي العيل اللي خايف لا يبص في عين أبوه وهو عامل حاجة غلط.. كنت هقولها ايه؟ هقولها إن ظلمتها ولا أبوس رجليها وأقولها سامحيني؟ مش هاقدر أعمل كده، عمري ما عملت كده يا شاهندة، أنا أبويا كان بيبهدلني وعمري حتى ما تذللت تحت رجليه عشان يبطل اللي بيعمله فيا، مش قادر أواجهها وأقولها على الحقيقة، مش عارف ممكن يكون رد فعلها ايه بعد ما تفتكر كل حاجة.. دي، دي حتى عرفت عني حاجات كتيرة وشافت مني بلاوي محدش فيكو يتخيل إني ممكن أعملها.. أنا تعبان أوي وحاسس إني بموت بالبطيء.." شهق بين دموعه وأكمل بصعوبة

"أنا بحبها وعايزها بس.. بس مش قادر أ.. مش عارف حتى أ.."

"كفاية.." قاطعته أخته لتعانقه وهي تمرر يدها على ذراعه ولا تستطيع تحمل ذلك الآلم الذي اندفع بداخلها عندما رأته بذلك الإنكسار "بس يا بدر متعملش كده.. كل حاجة هتكون كويسة إن شاء الله.. اهدى بس عشان نعرف نفكر.."

"نفكر في ايه.. أنا حاسس إني تايه أوي ومش لاقي حل" همس بصعوبة وإنكسار جليان عليه

"استنى بس يا بدر.. براحة يا حبيبي كل حاجة هتتحل.. مش أنت بتحبها؟" أومأ لها بالموافقة وهو ينظر لها كالطفل الصغير الخائف "وهي بتحبك؟!" سألته بعفوية ليبتسم هو في تهكم

"ده أنا لو حد عمل فيا ربع اللي عملته فيها هموته بإيدي.. قال أحبه قال.. ده لسه ساعات لغاية دلوقتي بتتخض مني وبشوف الخوف في عنيها"

"استنى بس.. أنت كل اللي بتحكي عليه ده كان قبل ما نسافر سوا وقبل ما تنسى كل اللي حصلها مش كده؟" أومأ لها بالموافقة على كلماتها من جديد لتُكمل هي "بس كل بصاتها ليك وكل تصرفاتها بتقول إنها بتحبك يا بدر!" زفر هو في ضيق غير موافقاً على ما يسمعه

"يا شاهي انتي مش فاهمه، استحالة بعد كل ده تكون بتحبني.. يمكن بس علشان شافت مني وش تاني بعد ما نسيت اللي حصل.. بس يوم ما تعرف استحالة هتحبني.. انا ساعات بحس إن خوفها مني لسه جواها وعمره ما هينتهي أبدا"

"لا يا حبيبي أنت اللي مش فاهم.." ابتسمت له بلين ثم أكملت "نور عامله زي البيبي، عارف الأطفال اللي قلبهم أبيض اوي وحتى ساعات لو زعقتلهم أو ضربتهم وبعدين جيبتلهم حاجة حلوة بينسوا أنت عملت معاهم ايه؟!" شابهت كلماتها ما فعله أبيه معه منذ سنوات عديدة عندما تركه بالعراء حتى كاد أن يتجمد ثم آتى له بالطعام الساخن ومشروب الشوكولاته الذي يُحبه فأومأ لها في حزن

"عارف.. عارف يا شاهي كويس اوي.."

"اهي يا سيدي هي دي نور، لسه قلب أبيض.. لسه بعد كل ده مشالتش منك.. على قد ما أنت جرحتها وبهدلتها بس هي طيبة، وابقا مفهمش حاجة لو مكانتش هتحبك وهتموت فيك.. بس أنت لازم تسعدها وتنسيها كل اللي عملته فيها! وحتى يوم ما تفتكر حاول تكون اتغيرت في كل حاجة معاها علشان تقبلك ولما تقارن تلاقيك اتغيرت" نظر لها وهو لا يكاد يُصدق ما تقوله ويشعر بداخله أنها مجرد حفنة كلمات فقط من أخته لتواسيه

"صدقني كل حاجة هتكون كويسة.. عارف لو كانت بتكرهك مكنتش قعدت معاك ثانية بعد موضوع يُسري اللي أنت قولتلي انها افتكرت شوية منه، كانت أول ما شافتني جريت عليا وحكتلي على كل حاجة هي فكراها أو حتى كانت طلبت تعرف مني حاجات كتيرة، طب استنى كده اوريك حاجة" ابتسمت له بينما ذهبت لتُحضر شيئا من حقيبتها وأخرجت تلك الصورة التي التقطتها لهما بالطائرة أثناء سفرهما

"بقى بذمتك ده منظر واحدة كارهة واحد ولا واحدة بتتحامى في واحد وماسكين ومتبتين في بعض؟!" أعطته الصورة ليشرد هو بها وهي نائمة على ذراعه ومتمسكة به

"شوفت بقا؟ عرفت إن كلامي صح؟!" نظر لها بينما تناولت الصورة منه وتنهدت هي بإبتسامة

"أنا عارفة إن حياتك كانت صعبة، وعارفة إن نور ملهاش ذنب بس هي طيبة وهتسامحك.. ابتدي معاها يا بدر بداية جديدة، حتى لما ترجع تفتكر خليك هادي معاها ونسيها كل حاجة حصلت وحببها فيك أكتر.. أنا عارفة إنك حنين وبتخاف على اللي بتحبهم اوي خليها تشوف ده فيك، بس إياك تزعلها تاني ولا تتعصب عليها.. احسن المرة الجاية أنا اللي هقاطعك ومش هاكلمك تاني.." نظر لها بإنكسار وهو يتنهد في حزن

"يالا أطلع نام جنب مراتك.. وبطل تحمل نفسك فوق طاقتك.. احنا مش ملايكة يا بدر، كلنا بشر وبنغلط وربنا بيسامح.. ومتقلقش أنا هافضل جنبك وجنبها وإن شاء الله كل حاجة هتتصلح وهتكون كويسة.. تصبح على خير" عانقته ثم تركته وتوجهت للخارج ليتمتم هو داخل نفسه

"بس هي كانت ملاك قدامي وأنا ظلمتها" شعر بالندم يتآكل دماءه ليترك الآلام بدلا منها كي تجري بعروقه وتوجه بخطوات بطيئة ليصعد غرفته التي نامت بها منذ قليل..

خلع ملابسه في إرهاق وتوسد السرير بظهره ثم التفت لينهل من تلك الملامح البريئة بقتامة عيناه واستند على جانبه وهو لا يزال يتذكر كلمات نجوى وشاهندة له!! كما أنه أدرك أنه عليه أن يعرفها على جميع أفراد الأسرة ويقنعها بالتظاهر أنها تعرفهم كي لا يرتاب أحد بفقدانها لذاكرتها حيث أنه لم يُخبر سوى شاهندة بالأمر!

أحقاً يُمكن أن تسامحه؟ أيُمكن أن تكون طيبة للغاية هكذا؟ أستتوقف يوماً ما عن خوفها منه؟ متى ستفعلها؟ هل سيستطيع أن يبدأ بأخذ خطوات نحوها ليقترب منها وهل ستسمح له بذلك؟!

أقترب منها ليستنشق أنفاسها التي ماثلت عبير ورود الربيع ليوصد عيناه وهو يتذكر ابتسامتهما وضحكهم الذي لم يتوقف سويا وذلك الوقت الذي مرحا به كثيراً ليقرر بداخله أنه سيفعل لها كل شيء حتى تسامحه حتى ولو تذكرت ما حدث لها سيبدد تلك الذكريات السوداء بكل ما أوتي من قوة، تلك الطيبة البريئة لن تُخيب خفقات قلبه التي باتت تخفق من أجلها هي فقط دون غيرها، سيُبدل خوفها ذلك اشتياقا له، ستفعلها عاجلا أم آجلا ولن يتوانى في أخذ تلك الخطوات نحوها مهما طال الطريق إليها حتى يجعلها تذوب في عشقه وتتمنى كل يوم ألا تبتعد عنه ولو لثانية واحدة..


يُتبع ..