-->

الفصل التاسع عشر - ظلام البدر - دجى الليل

 


الفصل التاسع عشر

دلف منزله ثم تفقد بهو الفيلا فلم يلاحظ أن الكاميرات ليست ظاهرة للأعين ليبتسم بداخله على ما فعله فمن الآن سيعرف كل ما تخطط له وتوجه نحو غرفته مُصيحاً

" غيري وطبقي هدومك واستنيني قدام بابي زي الكلبة وأنتي ماسكة الهدوم بإيـ ــديكي الاتنين" 

نظرت للطريق الذي ذهب به وزرقاوتاها لا تكف عن متابعته حتى اختفى تماما وهي تحت تأثير الصدمة مما أخبرها به.. ألم يقل أن زواجهما كان صوريا ليس إلا؟!

تفقدت المنزل حولها لتجد كل شيء يبرق كالماس، كل شيء مُرتب بعناية.. تذكرت عندما تناولا الطعام بمكتبه وكم كان منظماً بشدة حتى وهو يتناول طعامه وعندما وقع على قميصه الكاتشب تركه تماماً واستبدله بآخر نظيف.. وعندما لمس دمائها أخذ ينظف يداه كمن لامسه أبشع الأوساخ!! ماذا به هذا الرجل ليفعل كل ذلك؟!

توجهت لتفعل ما آمرها به في إنصياع وهي تتجرع بداخلها الذل والإهانة البالغتان وهي لا تدري إلي متى سيفعل بها ذلك؟ لماذا يُعذبها بتلك الطريقة؟ إهانات مستمرة وصفعات لا نهائية وغضب دائم!! متى سيصدق أنها لم تفعل أيا مما يدور برأسه وما صدقه عليها؟!

تنهدت وهي تطوي ملابسها بعناية ثم أنتظرت أمام الغرفة التي عرفت أنها له وأنتظرت وهي تُعيد كل ما حدث بينها وبين الجميع من محادثات ومواقف لا نهائية..

لف حول خصره منشفة قصيرة ثم توجه ليدلف غرفته وهو يجفف شعره الفحمي الذي قد نما ليدرك أنه عليه أن يُقصره قريباً ولعن داخل نفسه فتلك الفتاة قد استحوذت على وقته بالكامل وجعلته يغرق بدوامة لا يعرف كيف ينجو منها!

"أما نشوف وراكي ايه" تمتم متحدثاً وهو يتفقد بريده الإلكتروني على حاسوبا موضوع بغرفته ليجد أنه قد وصله منذ ساعة بعض المُرفقات ليجد أنها تسجيلات مكالمات كريم الهاتفية قد وصلته بعد أستطاعة أحد من كلفهم الولوج لشركة الهاتف والحصول على تلك المكالمات..

ابتلع وهو يشعر بالتردد ولكنه طرد هذا الفكر بعيداً عن عقله تماماً ثم كبس بإصبعه ليستمع للمُرفقات التي لم تكن كثيرة على رقمه الذي لم يعرفه بالسابق ليندهش للغاية مما يسمعه..

--

"اسمع.. نور كانت مع بدر ومكانوش مسافرين وكان بيحسس عليها قدامي في العربية.. "

"نعم يا اخويا؟ دي اللي أنت عايز تتجوزها؟ جاي تقولي أنا الكلام ده.. أنا ماليش دعوة.. اتفاقنا زي ما هو.. انا سبتهالك وقولتلي لما تتجوزها هتديني ٢ مليون جنيه.. لو هو بقا لهفها منك فـ دي مش مشكلتي.. أنا ماسك نفسي عشان ماجيش اخدها واجرجرها من شعرها بالعافية. اتفاقنا زي ما هو"

"اكيد اتفاقنا زي ما هو.. واكيد أنا هاعرف اجيبها.. بس محتاج مساعدتك.."

"لا أنا مليش دعوة بـ.. "

"متقلقش.. حاجة بسيطة اوي بس هتساعدنا احنا الاتنين، قولي تعرف حد من أهل أبوها؟" قاطع كريم يُسري

" آه أعرف بس هما مكانوش قابلينها هي وامها من زمان!"

"حلو اوي.. أنا بقا هقولك هتعمل ايه معاهم!.. كلمهم وعرفهم إن من ساعة ما أمها ماتت وهي رايحة تعيش في بيت ناس غريبة وفيه شابين مش متجوزيين وبتلف على حل شعرها مع واحد فيهم وهتجبلهم العار، أكيد بقا لو عندهم ذرة رجولة هيتحركوا!!"

"يا ابن الكلب!!" تمتم بدر في غضب "للدرجادي عايز تتجوزها.. رايح تتفق مع الكلب التاني ده.. ده أنت وقعتك سودا معايا" تحدث في غضب لنفسه ثم تفقد المُرفق الثاني ليستمع لآخر مكالمة بينهما

"فين أهلها.. ماجوش ليه عشان ياخدوها.. كده مفيش اتفاق ما بينا وكل حاجة هلغيها.." صاح كريم بعصبية

"نعم يا اخويا!! أنت عايزني أكلم الناس امبارح يجوا النهاردة.. أنت عارف الناس دي مبيسألوش عليها هي وأمها بقالهم كام سنة؟! ده زي ما يكونوا ارتاحوا انها ماتت لما عرفوا.."

"أنت أتأخرت عليا، واهي الزفتة دي اتجوزت النهاردة!!"

"ايه؟!! اتجوزت!!" صاح يُسري في صدمة والغضب يتآكله "أنا ماليش دعوة بيك تاني واعتبر إن كل حاجة ما بينا اتلغت.. وأنا هاعرف اتصرف معاها كويس ما دام أنت مش عارف تتصرف.. وابقى اقعد بقا اتفرج على اللي لهفها منك.. سلـ"

"استنى بس.." أوقفه عن الكلام عندما شعر بأنه سيخسر كل ما خطط له "الكلام اخد وعطا مش كده.. احنا اتفاقنا زي ما هو.." تحدث كريم له بهدوء "واعتبر اتفاقنا زي ما هو وأنا لسه عند كلمتي والاتنين مليون هتاخد فوقيهم بوسة كمان.. بس قولي انت قولت لأهلها ايه؟!"

"قولتلهم إن بنتهم ماشية على حل شعرها وقاعدة في بيت ناس غريبة"

"حلو اوي.. عايزك بقا تزود حاجة بسيطة جداً مش هتاخد منك حاجة.."

"لا لأ الكلام ده مينفعنيش.. ولا ازود ولا انقص وأنا هاجي اخدها واجرجرها من شعرها واجوزها للي يدفع أكتر منك.. وحتة عملية هبلة تحل كل مشاكلي وترجعها صاغ سليم بدل ما أنا في وجع القلب ده.. انسى بقا اتفاقنا خالص و.."

"طب يا سيدي عشان خاطرك هتلاقي بكرة الصبح تلتمية آلف جنيه في حسابك كعربون محبة بينا واهو حق المكالمات اللي بتكلمها لأهلها وحق المشوار الجاي اللي هتعمله عشان بردو فلوس البنزين" قاطعه كريم في خبث ليرى تريث يُسري "ها قولت ايه؟!"

"عايز تقولهم ايه؟!" صاح يُسري على مضض متسائلا ليبتسم كريم في خبث

"أبداً، هتزود حتة صغيرة أوي.. هتقولهم إن بدر الدين بيستر عليها بعد ما نامت مع أخوه.. لغاية ما تولد وهيرميها بعد ما ياخد منها ابنه"

"بس كده ممكن ميجوش خالص.." صاح يُسري في قلق

"مش أنت قولت صعايدة وبيتجوزوا من بعض.. أبسط ما فيها هيبقوا عايزين يغسلوا عارهم ويموتوها وساعتها أنا هتصدر وهتجوزها.. وكل حاجة هتمشي زي ما اتفاقنا.."

"ولو كلامك ده محصلش.."

"هتبقى طلعت بمبلغ كويس.. بس أهم حاجة أشوف أهلها وهم عندها وبيتخانقوا مع بدر" تنهد كريم براحة وهو يتصور ذلك المشهد يحدث أمام عيناه

"بس لأ.. مش هقدر أقولهم كده بعديها بيوم.. لازم أصبر شوية وبعدين ابقا اروحلهم عشان يصدقوا"

"ماشي يا سيدي.. شوية قد ايه؟!"

"لو معملوش حاجة لشهر كده ولا شهر ونص هبقا اروحلهم"

"وأنا هستنا الشهر ولا الشهر ونص!!"

"ما أنا لو كلمتهم كده بسرعة هيعرفوا إن ليا حد من جوا بيعرفني كل اللي بيحصل.."

"طيب ماشي.." زفر كريم بضيق "اما نشوف"

"لا أنا اللي لما ابقى اشوف التلتمية آلف بكرة ساعتها هنقدر ناخد وندي مع بعض.."

"تمام، اقصاها على نص اليوم هيكونوا عندك.."

--

"يا ابن ميتين الكلب.. ده أنا هابهدلك بهدلة.. افوقلك بس بعد ما اخلص من الوسخة التانية" تمتم متحدثاً ثم أجرى اتصالاً هاتفي

"يسري راتب.. تجبلي كل مكالماته وتراقبهولي وكل حاجة توصلني بالحرف.." أوصد مكالمته في غلٍ شديد ليفكر بكل ما سمعه.

ألهذا الحد يستميت ليتزوجها؟! يا تُرى ماذا أخبرته ليفعل كل ذلك؟ ومتى أخبرته وهو معه هاتفها ولم يغادرها منذ أن رآهما معاً؟ وبماذا قصد زوج والدتها عندما قال

"حتة عملية هبلة تحل كل مشاكلي وترجعها صاغ سليم بدل ما أنا في وجع القلب ده"

أحقاً هي ليست عذراء؟ أحقاً عاشرها كريم؟ أنسيّ زوجته وأولاده ليركض خلف فتاة لم تُكمل عامها الواحد وعشرون بعد فقط لمجرد رغبة في جـ ــسد مستغلة مثلها؟

وتلك المخادعة البارعة التي قد تتلقى جائزة نوبل كأفضل كاذبة، ألهذا الحد هي ممثلة محترفة استطاعت أن تخدع الجميع ببرائتها وجعلتهم يصدقون كل ما تفوهت به بتلك السهولة؟ لقد وصفت تماماً ما حدث عندما لامــس يـ ــديها وشعر به ولكن كيف لها أن تترجم ذلك الشعور بمنتهى السلاسة كما شرحته هي لشاهندة أخته؟ كيف لها أن تتصنع الكذب بتلك الإحترافية عندما صدت زياد وأخبرته أنه مجرد صديق لها وهي من كانت تخطط حتى تحصل عليه وما إن وجدت كريم فرت لمن هو أكثر منه مالاً وذكاءاً ومركزاً؟

هي أفعى.. تلتف حول فريستها بكل إتقان وتمكن دون أن يشعر بها لتلدغه ويخر هاوياً بفعل سُمها الذي يستحيل لأحد أن يُشفى منه، لقد وقع لها أمه، أخته، زوج أخته، أخيه، وبعد كل هذا لا يستطيع أن يُثبت عليها كل ذلك الخداع والكذب.

إذا فكر بيوم ما أن يواجه كريم بما فعله فلديه مكالماته، لديه إثبات أنه خائن ولكن ماذا عنها هي وهو لا يملك أي دليل ضدها وقد يظن الجميع بعد ذرف دموع التماسيح خاصتها أنها صادقة وأن كريم هو من تعرض لها وليس لها بالأمر يداً.

ولكن سيكتشف كل مكائدها الماكرة، يعرف جيداً كيف يتعامل معها، وحتى ولو لم تعترف سيطوعها، سيخضع ذلك اللسان المراوغ على الإعتراف بكل شيء..

ود لو قطع ذلك اللسان الذي يبخ بسمه وشره إلي الأبد حتى لا يستمع لصوتها ثانية، ود لو اقتلع تلك العينتان اللعينتان اللتان تجبرا الجميع على الخضوع التام لها، هكذا وبمنتهى السهولة تفعلها وتمكر بالجميع ولكن هو فلا!!

لن ينخدع بالبراءة الزائفة والزرقاوتان المُغريتان، لن يقع أسيراً لها ولا لذلك الكلام الذي تستعطف به الجميع، لا جـ ــسدها ولا رقتها ولا ذلك اليُتم الذي تلجأ له بين الحين والآخر سيجبرونه على الإشفاق عليها..

سيعلمها ماذا يعني أن تعبث معه، مع عائلته، سيعيد برمجة ذلك العقل، سيريها ماذا يعني أن تقع في ظلامه إلي أن ينتهكها روحاً وعقلاً.. لم ترى ظلام بدر الدين بعد..

لم يخطر بباله أنها قد تكون بريئة حقا.. أن روحها الطيبة لم يمسها شر الإستغلال مثل وفاء الإستغلالية.. لقد تم صُنع عقله على يد ابيه الخبيرتان بالعذاب الشديد حتى اصبح مدمرا لا يُفكر إلا بكل الشر ولا يثق بنوايا أحد أبدًا

أرتدى بنطاله الجينز الأسود ثم أخرج من احدى الأدراج عصابة للعينان ووضعها بجيبه الخلفي ثم أمسك بعصا رفيعة للغاية من الخشب ثم توجه ليوصد الأنوار وبعدها فتح الباب لتفاجأ هي بالظلام لم ترى سوى يداه التي امتدت لتجذب شعرها لتحاول ملاحقة خطواته وهي مجبرة تابعة اياه في ظلام حالك لا تعرف متى سينتهي.

لم تعد تراه ولا تشعر أين هو، لا تعرف هل توقف عن أخذ الخطوات أم لا يزال يتجول حولها، صوت أنفاسها المتهدجة المرتعدة لم تعد تسمع غيرها، ماذا يريد أن يفعل بها الآن؟

أتناديه أم سيغضب؟ سيجلدها ثانية أم سيصفعها؟ لماذا هذه المرة لا تراه؟ أهي حقاً تشعر أفضل لأنها لا ترى قتامة عيناه الثاقبتان، أم أن الحُلكَة التي هي بها أفضل؟

لم تكن يوماً بمثل هذا الموقف.. لم تكن هي تلك الفتاة التي تعشق الظلام أبداً بل كانت تكرهه، كانت تشعر بالخوف من الظلام دائما.. لم يدري أنها نورسين، اسمها يعني نور القمر، كانت دائماً تلك التي تضيء حول الجميع بإبتسامتها، لقد وقع الجميع لها، ولكن ذلك الظلام التي هي به ليس لها، لا تستحقه، لا يناسبها تماماً، لم يكن لها يداً حتى تعذب هكذا وبتلك الطريقة.. ألا ترى مُهلكك في ظلامٍ دامس اشتدت ظُلمته وعتمته أشد العقوبات التي قد تقع لك يوماً.. أن تقع ببراثن الظُلمات دون أن تستطيع رؤية ما يحدث لك ولا حتى تشعر بما حولك ويتملكك الذعر قد يفتك بعقلك حتى قد يتوقف تماما عن العمل!

لقد تركها لعقلها في ذلك الظلام علها تُجن، علها تبكي أو تصرخ، يريدها أن تُناديه حتى يبدأ عذابه، يريدها أن تبكي حتى يشمئز من صوتها ويعاقبها على فعلتها، يريدها أن تفعل أي شيء ولكن بلا جدوى.

ماذا يحدث له؟ أبدر الدين فقد صبره؟ أفقد قوة تحكمه بأعصابه من تلك الفتاة المخادعة؟ ألهذا الحد يريد لساديته الضارية أن تنعكس على شكل دموع وصرخات ويريد أن يُخرجها معها وعليها؟!

هو فقط لن يشعر باللذة أو المتعة لما يريد أن يفعله، هو يعاقبها، نعم يعاقب تلك التي نبثت سمومها بعائلة مُحبة هادئة ولسوء حظها كان هو المسئول عن تلك العائلة..

بمنتهى السلاسة أقترب منها في الظلام الذي اجتمع فيه بكل نساءه المُشوهات على يده ليهمس بأذنها بنبرة مخيفة قد يرتعد لها الرجال

"نمتي معاه كام مرة؟!"

لم تدري من أين آتى صوته، هو بالتأكيد خلفها طالما همس بأذنها، ارتجفت وسرت القشعريرة بجــ ــسدها لتلتف وأخذت تستشعر بيداها اي شيء ولكنها لا تلامس غير ذلك الفراغ الموحش، ودت فقط لو لمست قدماه، يده، أي شيء في تلك الظُلمة حتى لو عدوها وقاتلها ولكن لم تستطع أن تجده ووجدت فراغ مجددا..

"محصلش.. ولا مرة" همست بأنفاس متقطعة وانعكس الخوف على نبرتها المُهتزة في ارتباك من كثرة الذعر الذي يُحيط بها وأخذت تتحسس المزيد من الفراغ وبدأ الفزع في التملك منها بالكامل

"كدابة" همس لها مجدداً لتجهش هي بالبكاء لا تدري لماذا؟ هل لخوفها من وجودها معه بتلك الظلمة أم لإتهامها الباطل بتلك الفجيعة التي لا ينفك عن توجيهها لها..

"هشششش.. مش عايز اسمعلك نفس" شعرت بأنفاسه الساخنة وبعدها شعرت بالفراغ مجدداً بعد أن همس بأذنها لتجلس بتلقائية على ركبتيها في انهيار تام وهي تحاول أن تكتم أنفاسها وبكائها الذي تحول لشهقات لا نهائية ارتجف لها كيانها بالكامل.

سمعت صوت غريب فجأة يلوح بالهواء لتُفزع من ذلك الصوت وفجأة شعرت بيدها تؤلمها من قوة وصلابة العصاة لتصرخ في الظلام وأجهشت بالبكاء لتستمع لصوته الرخيم ولكن دون همس

"أنا قولتلك تتحركي.." حدثها بنبرة جامدة طغت ظُلمتها على ذلك الظلام المحيط بها "بس ما دام نزلتي بقى على الأرض تبقى ايدك كمان تنزل عليها زي الكلبة"

أنزلت يدها في انصياع لتلك النبرة المرعبة منه بمنتهى القهر وهي تبكي وتشعر بالفزع من كل ما يحدث معها ولو سمعها أعتى العتاة وهي تبكي بتلك الطريقة التي كادت أن تُقتلها لأشفق عليها ولكن ليس بدر الدين من سيفعلها!! ليس ذلك الرجل والطفل الذي طُعن بقسوة لسنوات عدة، ليس ذلك الذي قهره عذاب مرير منذ نعومة أظافره.. ظلام قلبه وعتمته الحالكة لم يعد بين طياتها أي شعاع من نور قد يدفعه للشفقة على حالها!

وضع حول عيناها عصابة العينان ليزداد الوجل بداخلها وخفقات قلبها تزايدت بشدة حتى كاد أن يتوقف وعقلها لا يتوقف عن السؤال، يا تُرى ماذا سيفعل بها أكثر من ذلك وهل ستتحمل أم لا؟

ذهب ليضيء احدى المصابيح الصغيرة بجانب سريره ولمح سكين الجيش السويسري الذي لا يدري لماذا لا ينفك أن يجمع منها أشكالاً وألواناً فحملها ثم توجه ليجذبها من شعرها لتحبو هي مُجبرة حتى توقف بها أمام الأريكة التي جلس هو عليها وأخذ ينظر لتلك الشـ ــفتان اللاتي دائماً تنطق بالكذب والخداع لتنبث بسمومها بمنتهى السهولة والإستغلال الذي بدمائها لا يتوقف أبدا!!

لا، لن يشعر بالرغبة بسبب تلك الكرزيتان، لن يتذكر تلك الإبتسامة التي تتفارق بهما شـ ــفتاها لتكشف عن أسنانها ناصعة البياض، لن تخدعه بتلك الرعشة التي ترتعش بها تلك الشفاة التي تُجبر الزاهد على تقبليها، هي أمامه وهو يملكها الآن لفعل كلما أراده ولكنه لن يتأثر بكل هذا!

"نمتي معاه كام مرة؟!" سألها بهدوء وهو يفتح تلك السكين ويختار منها الشفرة الحادة التي لطالما مكث ساعات ليجعلها حادة بمثل تلك الطريقة ليرى أومأتها بالنفي

"ولا مرة واللـ.. آه" شعرت وكأنما سكين تشق شـ ــفتها السفلى لتبكي بمرار على كل ما يحدث لها على يده

"كام مرة؟" أعاد سؤاله لتبكي مجدداً بحرقة على ما يفعل بها

"عمري ما نمت معااه" صرخت وهي تشعر مجدداً بنفس الآلم ولكن بمكان مختلف للجرح الأول وشعرت بالرعب ما ان تحركت قد يؤلمها أكثر

"لآخر مرة هسألك.. عشان معايا الدليل.. نمتي معاه كام مرة؟!" تعالت شهقاتها وعصابة العينان التي وضعت على عيناها كادت أن تقطر دموعاً

"أرجوك صدقني.. عمري ما...آه.." صرخت مرة أخرى بعد أن فاجئها بجرح آخر في شـ ــفتيها لينهض تاركاً اياها تبكي وجـ ــسدها يهتز في ارتجافة آلم وأخذ يطهر السكين ثم وضعها مكانها وأحضر احدى سجائره وقداحه ثم عاد ليجلس أمامها وهو يشاهدها في استمتاع..

تلك الدماء التي تقطر من الشـ ــفتين المخادعتين التي يظن الجميع أنهما تقطران عسلاً وليس سُماً مميتاً كما هي الحقيقة التي تُخفيها وراء مظهرها البريء بمنتهى الإحتقار..

ابتسم ابتسامة رضاء وهو يرى جـ ــسدها يهتز اثر بكاءها الشديد وانسياب الدماء على ذقنها جعل عيناه تلمعان بشدة، هي تتآلم، مثلما فعلت به، كما تآلم هو لظنه بأنه قد يفقد عائلته ولكن قد ربح هو وخسرت هي!!

انتقلت عيناه بسائر قوامها الذي يرتجف من شدة البكاء ليشرد بفتنتها التي لم ير مثلها من قبل وأنو ثة جـ ــسدها التي لم ير في لونه ولا تفاصيله قط ولم يتمن بشدة في حياته أن يتلمس إمرأة كما يتمنى الآن!!

طرد هذا التفكير من رأسه زاجرا لنفسه وأعاد نظره لقطرات الدماء التي تساقطت على ذقنها وامتزجت بدموعها التي تهاوت دون توقف ليبتسم نصف ابتسامة خبيثة والقى سيجارته بالمنفضة ثم توجه نحوها مُخرجاً احدى المحارم من جيبه ثم جفف به شفاهها وجذبها من شعرها يرفعها للأعلى حتى أُجبرت أن تجلس على ركبتيها لتشعر بأنفاسه المُحملة برائحة دخانه قريبة منها للغاية.

أقترب بشدة منها ثم توقف أمام شـ ــفتيها ليلتقمها بين أسنانه بقسوة ليذيقها المزيد من العقوبة وكادت هي أن تبتعد خوفاً وآلماً ولكن استطاع أن يُثبت رأسها جيداً بين يـ ــديه القويتين.

افترس تلك الشفاة بأسنانه وهي تصرخ متوجعة ولم تعد تحتمل كل ما يفعله بها، تريد أن تبتعد عنه بأي طريقة، تشعر بالتقزز والغثيان مما يفعله، لم يقترب منها أي رجل من قبل مثل ما يفعل هو الآن.. ليلقيها بالشوارع حتى سيكون أهون مما يفعله بها، لقد شعر بدموعها تلامس كفاه ولكن لم يكترث لأي من آلامها.. هو المهيمن عليها، ستتعلم هذا عاجلاً أم آجلاً.. أحقاً يظن ذلك؟! لقد كان حُلماً جميلاً تبدد برياح يوم عاصف..

لم يدري بنفسه وهو يوصد عيناه ويستنشق تلك الرائحة التي آتت من بستان ورود قد خُلق منذ زمان بعيد لم يُسمح لأحد قبله سواه أن يتلذذ بعطوره وكان من حسن حظه أن يتلذذ بتلك الرائحة وحده..

هو يكره الدماء، يتقزز منها، ولكن مذاق شـ ــفتاها الممتزج بتلك الدماء سلباه القدرة على أن يُكمل افتراسه لها، لقد نسى ما يفعل، نسى من هي، ما فعلته، نسى أنه يعذبها، وتذكر أنه سيعذب نفسه إن لم يرتوِ من رحيق تلك الكرزيتين لينضم لسانه فجأة وآخذت تلك القُبلة المفترسة لوناً أخر تماما من هدوء واستمتاع بما يفعل..

لا يدري كيف مر لسانه على تلك الدماء، ولا يعرف متى سمح لنفسه بفعلها، ذلك الشعور الذي يشعر به كلما لمسها وتناغم برفق بقبلتهما وكأنه يذهب لعنان السماء..

عمّق من قُبلته أكثر وجذبها نحوه، يستنشق عبير ورودها وكأنه لآخر مرة يتنفس، أقبلة ما قبل الموت تلك أم ماذا يحدث له؟ لماذا لا يستطيع أن يُنهي تلك القبلة؟ لماذا عيناه موصدتان؟ لماذا لم يجد تلك الرغبة الجامحة بداخله من قبل ليقبل سوى تلك الفتاة؟ لما اجتمعت كل إرادته في أن يُقربها نحوه في عنف بيـ ــديه ليزيد من تلثيمه لتلك الشفاة المجروحة؟ أين ذهب بدر الدين؟ ماذا يحدث له؟ أنسيَ من هو ومن هي وما فعلته بأخته وزوجها؟ فليستيقظ.. قُم وانظر لمن أمامك.. هي تلك المخادعة التي تخدع الجميع، من أوقعت كل من قابلته ببراثن كذبها.. تحكم بنفسك أيها اللعين!! ما الذي تفعله؟ صرخ عقله ليدفعها فجأة لتسقط أرضاً وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها التي ظنت أنه لن يُعطيها الفرصة لتفعلها..

"غوري امشي اطلعي برا" همس بأنفاس لاهثة وهو لا يعرف ما الذي حدث منذ قليل كالمخمور تماماً ليراها تحاول أن تحبو لتتحسس الطريق وصوت بكائها جعل غضبه يتزايد لينهض نحوها بمزيد من لهيب الغضب الذي انفجر بعروقه ثم جذبها من شعرها ليلقيها خارج غرفته وهي تصيح متأوههة أسفل يده التي تقتلع شعرها بعنف

"اتخمدي ومش عايز أشوف وشك للصبح!" صرخ بها وهو يحاول أن يُسيطر على أنفاسه التي لا يدري أكانت بسبب غضبه أم من تأثير تلك الكرزيتان عليه!

يُتبع..