-->

الفصل التاسع والعشرون - ظلام البدر - دجى الليل

 

الفصل التاسع والعشرون


أهذا صوتها يناديه أم أنه يحلم بشيء ما؟ لماذا لا يستطيع النهوض والنظر لها؟ لقد شرب كثيراً الليلة الماضية واحتسى الكثير ويشعر بتهشم رأسه، متى سيتوقف عن كل ذلك؟

"اصحى.. هو.. حضرتك.. انت سامعني؟"

همهم لها ولكنه لا يستطيع التحدث، يشعر بإرهاق شديد، أحقاً ظل بغرفة مكتبه إلي الآن؟ كيف له أن يُنهي ذلك الصداع اللعين وذلك الذنب الذي كان السبب في ثمالته أكثر من تلك الخمر؛ تفكيره بكريم ويُسري وبم سيفعل معهما، احتياجه لليلى، تفكيره بمواجهة تلك البريئة التي لم يكن لها ذنب بأي شيء، خوفها منه الذي لا يزال جلياً في طريقتها معه، لقد لجأ للخمر علها تساعده في النسيان ولكنه تذكر كل التفاصيل!!

"أنت كويس؟" همست بجانب أذنه ليشعر بالقلق في نبرتها ليلتفت لها بصعوبة وهو يفتح عيناه في إرهاق ثم تطلع هذا الوجه الملائكي القريب منه وهو يتمنى بداخله أن يستيقظ كل يوم على وجه تلك الجميلة التي لا يستطيع التوقف عن النظر لها..

لم يكن عليها الإقتراب منه لهذا الحد.. لقد ارتبكت الآن وبدأت خفقات قلبها في التزايد والعصف بها داخلياً فخاولت آخذ خطوات للخلف حتى تبتعد عنه ولكنه أمسك يدها ليوقفها وهو يحاول أن يطرد هذا النعاس عن عيناه.

"هي الساعة كام؟" همس بعد أن حمحم بصوته الرخيم لتتوتر هي من نبرته تلك التي لازالت تحمل آثار النعاس ولمسته له بتلك الطريقة

"تتمانية وربع" همست في ارتباك ثم شهقت عندما وجدته يجذبها بغتة لتسقط هي جالسة رغماً عنها على ساقاه ووجدته يحاوط خصرها ويدفن رأسه بعنقها وتعجبت من كل ما يفعله وشعرت وكأنه سيعيد معها كل ما فعله عندما سافرا سوياً منذ أيام فارتفعت أنفاسها في توتر وازداد ارتباكها

"عايزة تروحي فين النهاردة؟" همس بالقرب من أذنها ثم شعرت به يستنشقها بطريقة غريبة للغاية وأنفاسه الدافئة تلك بعثرتها ولم تستطع فهم كل ما يحدث بداخلها بسبب اقترابه الشديد هذا "ها.. مش هتردي؟" همس مجدداً ثم اشتم تلك الرائحة بالقرب من شعرها التي تُميزها عن الجميع

"ممم.. ككنت.. كنت وعدتني، إنك هتوديني ازور ماما، يوم ما كنا مسافرين مع شاهي" لا تعلم لم عيناها توصدت تلقائياً وشعرت بالسخونة في سائر جسدها وتسارعت أنفاسها لتتحول للهاث

"طيب.. هوديكي.. بس بشرط!" همس في أذنها ثم مرر أنفه على عنقها المرمري وهمهم مجدداً وهو يستنشقها "تقومي تعمليلي الفطار.."

"حاضر.." همست مجيبة لتبتلع لتجده يقربها له أكثر.. لم يعد يريد الابتعاد عنها ولولا أنها لازالت فتاة لكان آخذها أسفله على تلك الأريكة ولم يتركها أبداً ولكنه لا يريد أول مرة لها معه أن تكون بمثل هذه الطريقة.. كما أنه لا يعلم ما الذي تعرفه عن علاقة المرأة والرجل، فقدان الذاكرة ذلك يبدو أنه سيُصعب العديد من الأمور بينهما ولكن لربما هذا من حسن حظه! ربما لن تتذكر أبدا ما حدث بينهما بالسابق!

لماذا لا تغادره وتنهض لتفر من ملامسته اياها؟ لماذا لا تريد الإبتعاد عن ذلك الدفء الذي ينبعث من جسده؟ لماذا هي مستسلمة ومستكينة هكذا؟ عليه أن تصرخ، أن ترفض ولكن هناك شيئاً ما يُجبرها على ألا تتركه!

"يالا قومي" همس بأذنها لتزدرد هي وتحدثت بين أنفاسها اللاهثة

"طب.. طب.. سيبني.." تحدثت له بخفوت شديد لينظر لوجهها الذي رآى حُمرته الخجولة ليبتسم وبمنتهى الخبث أراح يده بعيداً عن خصرها رويدا رويدا وظل ينظر لها ويبتسم على تلك الطريقة التي بدت إثارتها جلية على وجهها وشتتها دون أن تترك لها الإختيار.

"نوري.." همس بأذنها لتحمحم هي مجيبة "أنا مش ماسكك.. أنتي اللي قاعدة على حجري، عايزة تفضلي قاعدة كده؟!" تحدث بصوته الرخيم بأذنها وابتسامته لا تغادر شفتاه

"ايه؟!" اتسعت زرقاوتاها في دهشة ثم نظرت ليداه لتجدهما بعيدان عنها ثم رفعهما في استسلام لتنهض هي في ذعر وخجل "أنا.. أنا هاروح احضرلك الفطار!" تحدثت مسرعة ثم فرت مهرولة خارج المكتب ليضحك هو على مظهرها الطفولي وخجلها الذي بات يعشقه..

--

"ايوة يا شاهي.."

"صباح الخير يا بدور.. فينك كده؟!"

"لا أنا النهاردة مش جاي"

"ايه؟! طب والـ Audit هنعمل فيه ايه؟!" صاحت سائلة في لهفة لتشعر بتنهيدته التي دفعتها للقلق على أخيها

"اتصرفوا أنتو بقا المرادي، أنا كام يوم كده واخدهم اجازة"

"بدر أنت كويس؟" همست سائلة لتسمعه يتنهد مجدداً

"تمام"

"طب ونور كويسة؟"

"آه هي كويسة.. على فكرة هابقا ابعتلك رقمها الجديد.."

"ياااه أخيراً.. مجتش متأخر دي شوية؟"

"متأخر فعلاً.." همس بعد أن ذكرته تلك الكلمة العفوية بكل ما فعله مع نورسين ليرى أن كل ما يعوضها به الآن قد آتى في غير وقته بل آتى متأخراً كثيراً

"أنت قلقتني عليك.. صوتك مش مطمني.. فيه ايه بجد؟" تأكدت شاهندة بوجود خطب ما فتلك ليست طبيعة أخيها بل تريثه هذا وعدم إجابته لها تكاد تجن له

"فيه حاجات كتيرة اوي يا شاهي.. بعدين هابقى احكيلك بس ارجوكي متضغطيش عليا دلوقتي لأن اللي فيا مكفيني" اجابها بنبرة امتلئت حُزناً لتشعر هي الأخرى بالحزن لأجله

"ماشي يا بدر.. براحتك يا حبيبي.. لو احتاجت اي حاجة كلمني.."

"حاضر.. بصي.. عايزك تاخدي بالك من كل حاجة، اعتبري نفسك بدالى وحاولي تتعاملي انتي.. أنا بجد مش قادر المرادي ولا فايق لحاجة"

"متقلقش.. بس أرجوك ابقا طمني عليك.. وحاول تيجي أنت ونور تقعدوا معانا كام يوم"

"هنيجي قريب.."

"ماشي يا حبيبي.. أنا هاقوم أروح دلوقتي أنا وحمزة اهو.. لو احتاجت حاجة كلمني"

"تمام"

أنهى مكالمته مع شاهندة وهو لا يدري لماذا أخبرها بكل ذلكّ كاذا لو عرفت حقيقة كل ما حدث؟ هل ستسامحه؟ هل ستتفهم لما فعل كل هذا أم ستكرهه للأبد؟

شرع في إجراء مكالمة أخرى ليطمئن أن كل ما خطط له يسير على وجه الصواب فهو لن يخاطر بالمزيد من الأمور الغير متوقعة التي قد تحدث من كلاً من يُسري وكريم ليبتسم في انتصار مُتخيلاً ما أوشك على فعله معهما..

"ايه الأخبار؟"

"تمام يا بدر باشا يُسري اهو مرمي من امبارح بليل.. وكريم يادوب لسه طالع بعربيته وهنقطع عليه الطريق وهنجيبه يترمي معاه"

"متنسوش موبايلاتهم، تجبهالي وتسيبهالي مع أي حد من حرس الفيلا.. وعايزك تركز في اللي هقولهولك ده كويس وتنفذهولي بالحرف، بس بعد ما تكلم المحامي بتاعنا وتفهمه كل اللي حصل ده وتاخد رأيه إذا كان ده يلبسهم تأبيدة ولا لأ!!"

"تحت أمرك.. كل اللي أنت عايزه هيتم.."

"أول حاجة يُسري..." ظل يُخبره بما يريد فعله معه ثم تلك الخُطة التي رسمها لكريم وهو يشعر بالقليل من الراحة لمجرد تخيله لما سيفعل بهما.

--

شعرت بوجوده خلفها بعد أن استنشقت رائحة عطره التي باتت تعلمها وحتى ولو من بُعد ستعرف بقدومه بمجرد شم تلك الرائحة.. التفتت لتراه يرتدي ملابس غير رسمية حتى بدا مختلفاً تماماً وذراعاه تلك المفتولتان بالعضلات جعلتاها ترتبك ولكنها لا تدري لماذا. أما شعره الفحمي هذا الذي لا يزال يحمل آثار استحمامه وانعكست رطوبة المياة عليه ودت لو ذهبت وداعبته بأصابعها فهي لا تستطيع إنكار كم يبدو وسيماً به بتلك الطريقة.

أشاحت بنظرها بعيداً عنه وهي تُعد الطعام في الأطباق أمامه لتجده يتلمس يدها فرفعت تلك الزرقاوتان لتقابل ثاقبتاه في توتر شديد وتعجبت من كثرة ملامسته لها تلك الأيام ولكنه لم يعد مخيفا مثل السابق فاقنعت نفسها أنها لم تكن تتعرف عليه بسبب فقدانها لذاكرتها وبما أنهما متزوجان ربما قد كانت تُحبه بيوما ما لذلك تزوجا!

"هنروح فين بعد ما تزوري مامتك؟" نظر لها ولا زال يلامس يدها بينما بدأ في تناول الطعام وشعرت بنظرته الجديدة عليها تماماً فهو لم يعد يخيفها بتلك النظرة المُرعبة مثلما كان يفعل دائماً

"مش عارفة.." جذبت يدها وحاولت أن تنظر في غير اتجاه عيناه وتظاهرت بالإنشغال بتناول طعامها هي الأخرى ثم ضيقت ما بين حاجبيها في تعجب ونظرت له مجدداً "هو احنا هنخرج تاني النهاردة؟"

أومأ لها بالإيجاب وهو ينظر لتلك السماوين المتسعتان في براءة وإندهاش لترتسم ابتسامة على شفتيه ثم ترك الطعام واستند بذقنه على كفه وهو يُحدق بها وبروعة تلك الفتاة التي قد آسرته دون أن يدري متى فعلتها!!

"هو.. هو ممكن أقولك حاجة؟!" سألته ولكنه لاحظ الخجل جلياً على وجهها فأومأ لها في هدوء وابتسامة هادئة لها لتبل هي شفتيها ونظرت له "خليك كده على طول.. لبسك كده أحلى، وشعرك كمان متقصروش زي الصور المتعلقة في كل حتة دي!" لا تدري لماذا أرادت أن تخبره بذلك، لربما يظنها غبية الآن ولكنها أرادت أن تخبره على كل حال.

"اشمعنى بقا؟!" أطلق ضحكة خافتة بصحبة نبرته الرخيمة العميقة لتهز هي كتفاها

"معرفش.. أنت كده أحلى وخلاص"

"ماشي.. هو ممكن أقولك حاجة أنا كمان؟"

"ايوة طبعاً ممكن"

"شعرك مترفعيهوش كده ونزليه.. شكلك بيبقا أحلى.." أخبرها ليجدها تتصرف بمنتهى التلقائية لتحل رباط شعرها الحريري ثم هزت رأسها لينسدل شعرها حول وجهها البريء ليبتسم هو لها وظل مُحدقاً بها وهو لا يدري ما الذي تفعله به تلك الصغيرة.

"وآدي شعري.. يالا بقا كمل أكلك عشان نلحق ننزل" هز رأسه لها بالموافقة له ثم تناول طعامه وهو لا يستطيع أن يُشيح بنظره عنها وتلك الإبتسامة على شفتي كلا منهما لم تتوقف عن الإرتسام.

--

"..بس عارفة يا ماما.. أنا مستغربة اوي كل حاجة بتحصل معايا، أنا مش عارفة ليه هو فجأة كده مبقاش بيتعصب عليا بعد ما فوقت وعرفت إني نسيت كل حاجة، كنت بحس إني خايفة منه أوي، أنا لسه بخاف منه شوية، بس في نفس الوقت مش خايفة، أنا حاسة إني متلخبطة اوي.. وساعات برضو بكون عايزاه يكون جنبي.. كريم الحيوان الغبي ده جالي امبارح وحاول يعمل معايا حاجات قلة أدب، بس لولا إن هو.. يعني مش عارفة أقول عليه Mr. بدر ولا عمو.. بس هو قالي اننا اتجوزنا.. المهم لما جه البيت وكريم ده معايا مكنش هيسبني.. بردو يُسري كان هيعمل زي كريم بس Mr. بدر جه ضرب يسري وخدني ومشينا.." تهاوت احدى دموعها ولم تكن تلاحظ ذلك الذي استمع لك ما تتحدث هي به

"أنا حاسة إني مش عارفة أعمل ايه، أنا محتجاكي اوي يا كوكي جنبي.. أنا مش عارفة أفتكر أي حاجة ولا فاكرة يوم ما سبتيني وجيتي هنا من غيري.. وآه صح نسيت أقولك.. معلش أنا امبارح روحت متأخر شوية بس Mr. بدر كان معايا وقالي انك كنتي بتخافي عليا وإني دلوقتي بقيت متجوزة يعني ينفع ارجع متأخر طول ما هو معايا.. وكمان جابلي موبيل جديد الغالي ده احدث واحد النوكيا ده ولونه سيلفر ووداني السينما وأكنا burger سوا وكان طعمه حلو اوي.. أنا كنت مبسوطة أوي امبارح.. بس.. بس في نفس الوقت بحس كده إني خايفة" تنهدت في حيرة ثم جلست بالقرب من قبر والدتها وتحدثت مجدداً في همس

"أنا وعدتك يا كوكي إني عمري ما هاعمل قلة أدب مع حد.. بس.. بس.. Mr. بدر عمل معايا حاجات من دي.. وأنا.. أنا.." تلعثمت وهي لا تدري بما تُخبر والدتها "هو المفروض جوزي بس في نفس الوقت مش عارفة اتجوزنا ازاي.. يعني هو قالي اننا اتجوزنا بس شكلنا اتجوزنا من شوية صغيرين.. وانتي يا كوكي قولتيلي اني ينفع اعمل الحاجات دي مع جوزي وساعتها مش هيبقا اسمها قلة أدب ووعدتيني إنك هتقوليلي على كل حاجة لما آجي اتجوز.. بس.." وضعت أظافرها في فمها وهي لا تدري ماذا تقول

"أنا بكون متلخبطة أوي لما بيقرب مني.. مش عارفة اللي بعمله ده صح ولا غلط.. يعني هو جوزي بس في نفس الوقت حاسه إنه مش جوزي كتير.. يعني متجوزناش بقالنا كتير ومش عارفة أنا زمان كنت بعمل معاه الحاجات دي ولا لأ.. يا كوكي أنا الموضوع ده زهقت منه اوي وخايفة أكون بعمل حاجة غلط" تساقطت دموعها رغماً عنها

"بس مش عارفة ليه مبحسش إنه غلط مع Mr. بدر، يعني لما كريم قرب مني هو ويُسري لما افتكرت إنه قرب مني بطريقة قليلة الأدب كنت بحس إن ده غلط وكنت عايزة ابعدهم عني.. لكن Mr. بدر لأ.. مش عارفة ليه مش بعرف أمنعه وابعده عني.."

"عارفة كمان يا كوكي" توقفت عن البكاء وهي تجفف دموعها وعيناها اتسعت في حماس "هو الوحيد اللي بيقولي يا نوري زي ما أنتي كنتي بتقوليلي.. بيفكرني بيكي، أنا أصلاً اتبسطت اوي لما لقيته فجأة بيقولي كده.." تنهدت بإبتسامة "بصي أنا هاحكيلك على كل حاجة بعد كده.. هو بيوافق إني آجيلك.. المرة الجاية أكيد مش هيرفض.. أنا بس مش عايزة أتأخر عشان ميضايقش، بس المرة الجاية أوعدك إننا هنقعد سوا كتير.. وهاجيلك تاني قريب" قبلت قبر والدتها بينما غادر بدر الدين مُسرعاً للسيارة وهو حقاً لا يُصدق أن براءة تلك الفتاة قد وصلت لهذا الحد..

دلف السيارة وتظاهر بأنه يفعل شيئاً ما على هاتفه حتى لا تعلم أنه كان يستمع لكل ما قالته بينما كانت آلام الندم الشديدة لكل ما فعله بها تعصف بداخله دون هوادة أو تأني!

"أنا ممكن أطلب حاجة؟ حاجة واحدة بس ومش هاطلب منك حاجة تاني!" نظر لها وهي تدلف السيارة بجانبه

"اطلبي براحتك يا نوري.." ابتسم لها لتتعجب هي من أنه الشخص الوحيد بعد والدتها من يناديها بهذا الأسم

"ممكن تبقا تجبني هنا مرة كل اسبوع.. او حتى كل اسبوعين" أومأ لها بالموافقة في إبتسامة

"ممكن اجيبك هنا زي ما تحبي.. بس اشمعنى؟" حدق بملامحها التي باتت تسرق خفقات قلبه وكأن قلبه بات ينبض لها هي فقط دون الجميع.

"أصل فيه حاجات كتيرة بتحصل وأنا مكنتش بحكي حاجة غير لماما.. ده كل اللي فاكراه ومش عارفة كان عندي اصحاب في السنتين اللي فاتوا دول ولا لأ.. لما سافرنا مع شاهي حسيت إنها صاحبتي.. بس أنت مش عايز توديني عند شاهي وقولتلي محكيش لحد حاجة بس كوكي أصلاً مش هاتحكي لحد حاجة علشان هي مش بتروح لحد.. وأنا ببقا محتاجة أتكلم معاها!" أخبرته ليرى الحزن بادياً على ملامحها فمد يده ليقترب منها لتبتعد هي في تلقائية ليشعر هو بالكراهية تجاه نفسه

"طيب هاوديكي لمامتك ولشاهي وهخليكي تعملي كل اللي نفسك فيه، بس على شرط" أخبرها لتنظر له ببراءة

"ايه هو؟"

"لما آجي أقرب منك مش عايزك تخافي مني.. أتفقنا؟!" حدق بزرقاوتيها ليجدها تبتعد عنه ثم أشاحت بهما بعيداً عن عيناه "نوري.." همس منادياً اياها ومد يده ليرفع خصلاتها التي انسدلت بسبابته خلف اذنها حتى لا تحول بينه وبين وجهها الملائكي

"ما هو بصراحة أنت اللي خوفتني.. لما فوقت لقيتك كده بتبصلي بطريقة غريبة، ولما حاولت أفهم منك انت مين واتقابلنا ازاي وكنت مشغول زعقتلي واتعصبت عليا.. ولمـ.."

"هشش" قاطعها ثم لامس أسفل ذقنها ليجبرها على النظر له "أنا أوعدك إن الحاجات دي اللي حصلت مش هتحصل تاني" نظر لها وعيناه ينهمرا منها الندم والآلم الشديد وهي لم تدرك لماذا نظرته تلك قد تغيرت كثيراً عن السابق لتجد نفسها تبكي رغماً عنها

"أنا مش عارفة أنا ليه دايما بخاف منك، ومش عارفة اللي أنت عملته معايا وأنا يمكن أكون ناسياه وساعات بفتكرك وأنت بتبصلي وبخاف منك بس مش فاكرة أي حاجة من اللي حصلت" أخبرته بين بكاءها ليسحق هو أسنانه وهو يرها تبكي هكذا بسببه ليجذبها معانقاً اياها

"مش قولتلك متعيطيش تاني.. ومتخافيش أنا مش هاخوفك وأكيد انتي بتفتكري حاجات تانية علشان لما صحيتي مكنتيش عرفاني" أخذ يُربت على ظهرها في حنان وهو يكاد يقتل نفسه على كل ما فعله وتلك الحالة التي أصبحت بها بسببه ولكنه شعر بالعجز الشديد تجاه كل ذلك

"اهدي يا نوري وقوليلي.. أنا دلوقتي كويس معاكي ولا بعمل حاجة تخوفك؟" سألها وهو يبحث بعينيها عن الصدق لتنظر هي له بين دموعها التي تباطئت قليلا

"أنت كويس وبتفرحني وبتجبلي حاجات وبتخرجني.. بس أنـ.."

"وأنا هافضل على طول كده وهافضل دايما كويس معاكي" قاطعها ثم حاول أن يُشتت انتباهها عن ذلك البكاء وحالة الحزن "بطلي بقا عياط عشان عاملك مفاجأة"

"مفاجأة ايه؟" ابتعدت عنه لتتوقف عن البكاء وهي تتطلع وجهه في براءة وعفوية لما أخبرها به للتو

"وتبقا مفاجأة ازاي بس لو قولتلك" لمس وجهها بأنامله ليجفف آثار دموعها "بطلي انتي بس عياط وكلها ساعة وهنوصل" ابتسم لها لتومأ له هي وبالرغم من شعورها بالحماس ورغبتها بمعرفة إلي أين هما ذاهبان شعرت بالخوف ما إن سألته مجدداً عن أي شيء فهي لا تدري متى سينتهي شعورها بالخوف منه وما الذي حدث ولا تعلمه هي يدفعا للشعور بمثل تلك المشاعر!

--

نظر لها وهو لا يكاد يُصدق عيناه، أليست هذه الطفلة أمامه الآن هي من تثيره وتؤجج شهوته؟ كيف لها أن تفعلها؟ تبدو وكأنها بالعاشرة من عمرها، لم يُصدق أنها حقاً ستسعد هكذا بمجرد إحضارها لمدينة الملاهٍ تحولت لتكون طفلة مجدداً، تجري أمام عيناه بحيوية وطاقة كالأطفال تماماً..

تذهب هنا وهناك، تتسلق تلك اللعبة وهي تُمسك بيده، تبتسم وتضحك أمام عيناه ليتشتت هو أكثر بتلك الطفلة ويشعر بضياعه ووله التام أمام تلك الزرقاوتان، تجعله يختبر أشياء لم يختبرها مع سواها من قبل، هو حتى لا يتذكر أنه فعل ذلك بطفولته، تجعله يتشبث بأشياء جديدة لم يكن يعرف عنها شيء من قبل، لم يظن أنها موجودة بالحياة حوله ويتمتع الجميع بها.

شعر بالثناء قليلاً لحديثها مع أخته شاهندة عندما حدثتها يوم إعلانه لزواجهما، تذكر أنها أخبرتها بأنه قد ذهب معها لمدينة ألعاب بلندن، لا يعرف عنها الكثير ولربما لا يريد أن يعرف.. فقط البساطة التي تُسعدها لا تحتاج سوى القليل، لا تحتاج سوى العفوية والتلقائية..

"تعالى نركب اللعبة دي.. شكلها حلو اوي.." صاحت في حماس وهي تشير بيدها ليومأ لها بإبتسامة لتذهب هي مهرولة أمامه وهو يتبعها في غير تصديق لكل ما يفعله بسببها..

ظلت تضحك منذ أن بدأت تلك الأفعوانية بالتحرك وهي تضع كفيها الصغيران تغطي بهما تلك الملامح التي لا يريد التوقف عن التحديق بها وشعرها الحريري يلمحه وهي جالسة بالقرب منه ليتطاير حول وجهها وهو لم يتوقع كل تلك السعادة التي أصبحت بها، لقد ظن أن عليه طريقاً شاقاً وعراً بإصلاح كل ما بدر منه ولكن أحقاً تلك الأمور البسيطة قد غيرتها تماماً؟!

"ياااه.. أنا حاسة إني ممكن آكل عشرة بيتزا لوحدي" أخبرته وهي تنظر له في براءة ويبدو عليها الإرهاق الشديد بعد هذا اليوم الذي بدت أنها استمتعت به كثيراً والذي فاجئه أنه أستمتع هو الآخر بكل ما فعلاه.

"ولو جيبتلك عشرة بيتزا هتخلصيهم.." ابتسم لها مُضيقاً عيناه ثم عقد ذراعاه لتتوسع زرقاوتاها في دهشة

"أنا بحب البيتزا أوي.. بس مش لدرجة عشرة.. ممكن تلاتة كفاية" ضحك لتشرد هي بضحكته وذلك البروز بعنقه يتحرك وعندما رآت أن عيناه تلمع بشكل جديد لم تعهده من قبل، لمعان عيناه ليس مُخيفاً كما كانت تراه، بل يبدو وكأن هناك شيئاً جديداً بعينيه، يبدو وكأنه سعيداً..

"تعرف إن شكلك حلو أوي وأنت بتضحك.. أنا لازم أرسملك صورة جديدة بقا وأنت بتضحك كده.." حدثته بعفوية ليضيق عيناه مجدداً

"لا مش مهم.. أنا عندي واحدة.. فاكراها؟" نظر لها ليلاحظ ارتباكها وازدرادها ونظرتها تحولت للتوسل فجأة

"أنا مقصدتش.. أنا بس كنت.. بس.."

"بلا بس بلا مبسش.. قوليلي هتاكلي بيتزا بإيه" قاطعها ثم أمسك بيدها ليراها تنظر له في تعجب

"بيبروني.. Extra Cheese"

"طيب يالا بينا"

--

<

ظل يلمحها بين الحين والآخر وهي نائمة بالكرسي جانبه بينما هو يقود سيارته شارداً بكل ما جمعهما اليوم.. لا يستطيع نسيان تلك النسمات التي أجبرت شعرها الحريري على التطاير لتتآفف هي بطفولة شديدة ولم تستطع تناول البيتزا ليجد نفسه يضحك ثم مد يده وهو يحاول جمع خصلاتها خلف أذنها حتى تستطيع أن تتناول الطعام..

أفقط تلك الأشياء البسيطة التي فعلها ليومان استطاع أن يرى ابتسامتها وسعادتها؟ أهناك أحد بتلك الحياة لا زال بتلك السذاجة والطيبة؟ أحقاً تلك الصغيرة استطاعت إسعاده دون فعل شيء يُذكر وبمنتهى العفوية والتلقائية استطاعت جعله يضحك ويبتسم ويتجول معها وكأنه عاد صبياً مرة أخرى؟

لماذا لم تكن بدايته معها مختلفة؟ لماذا لا يُمهله القدر أن يبدأ بأي شيء بطريقة صحيحة ولو لمرة بحياته؟ حتى ليلى لقد حكم عليه القدر بمنتهى القسوة أن يفقدها! لماذا يحدث له كل ذلك؟ لم يظلم أحد بحياته سوى تلك الفتاة بجانبه، لم يأذي أحد من قبل، لم يكن يتمنى الكثير ولكن لماذا يتعنت القدر معه بتلك الطريقة؟!

مجرد التفكير بأنها قد تستعيد كل قسوته معها وعذابه إليها جعله يشعر بالإحباط والرعب من فقد تلك الحياة التي ينعما بها سويا منذ أيام ليتنهد في حيرة وآسى شديدان ثم نظر لجسدها المتكور بذلك الكُرسي ليبتسم لبراءتها الزائدة ثم ترجل من السيارة ذاهباً في اتجاه المقعد الآخر ليفتح وحملها لتهمهم هي

"أنا ممكن أصحى.. نزلني" صاحت له ليومأ لها بإنكار

"لأ خليكي نايمة" همس لها ولم يستطع منع نفسه عن تقبليها من مُقدمة رأسها لتومأ بالموافقة وحاوطت عنقه في نُعاس وتوجه ليدلف منزل عائلته وهو يحملها بتلك الطريقة وبعد أن رن الجرس فتحت له زينب التي تعجبت لما تراه فأشار لها أن تفسح له الممر حتى يدخل وما أن فعلها وجد أنظار الجميع تتحول نحوه ليهمس لشاهندة بشفتاه

"هنيمها وأجيلكوا"

لم يستطع هو أو أي أحد منع تلك الإبتسامة التي ارتسمت على ثغرهم جميعاً ولكن شعر زياد بالضيق مما رآه فتوجه مغادراً للخارج، بينما توجه بدر الدين معها للأعلى حتى يضعها بسريره ودثرها بالغطاء وقبل رأسها مُجدداً وتوجه للخارج.

يُتبع..