-->

الفصل الحادي والثلاثون - مشاعر مهشمة


 الفصل الحادي والثلاثون 

بعد مرور ما يقارب الشهر من استفاقة "رفيف" من الجراحة وسمح لها الأطباء بمغادرة بالمشفى لتحسن حالتها بشكل ملحوظ وامتثالها في الشفاء ولكن أمروها بالمجي للفحص كل خمسة عشر يوما كمتابعة دورية على حالتها الصحية لاطمئنان على سريان تعافيها بشكل تام والتأكد من اتباعها لتعليماتهم لكي يتم استرداد الجرح خلال الإطار الزمني المطلوب


تجلس رفيف نصف جلسة على فراشها وجالس بجانبها والدها الذي يقضي اليوم كله رفقتها للتحدث معها لكي لا تشعر بالضجر من بقائها بغرفتها طوال اليوم وتتأثر نفسيتها من الأمر، وأثناء تبادلهما الحديث في بعض الأمور غير المرهقة لعقلها، طرق "جاسم" على باب غرفتها المفتوح طرقتين لكي ينتبها لحضوره، انتقل بصر "رفيف" له والتي ما إن رأته متوجها نحوهما حتي تقوست شفتيها بابتسامة صافية وقد اشرق وجهها فرحا فمنذ تعبها وهو لا يفوت يوما واحدا في المجيء إليها والإطمئنان على صحتها بل ويذهب معها للمتابعة عند طبيبها لكي يتأكد بنفسه من التقدم في تعافيها


جلس على مقعد قريب من فراشها بعدما ألقى التحية على والدها وأردف بابتسامة حانية مطمئنا عليها :


- عاملة ايه النهارده ؟


ردت عليه بابتسامة صغيرة مرتسمة فوق شفتيها وبصوت هادئ رقيق :


- احسن بكتير 


ابتسم لها بملامح مرتخية بدا عليها الإطمئنان والقليل من الراحة، ثم وجه نظره تجاه "هشام" وتنحنح بخفه لكي يجلي صوته ثم قال بصوت جاد :


- عمي بعد إذنك كنت حابب اتكلم معاك في موضوع، ممكن نتكلم فيه في مكتبك تحت ونسيب رفيف تستريح شوية


أومأ له بالموافقة بينما كانت نظرات الأخرى له يندلع منها القلق، ليبتسم لها وأشار لها بيده محاولا طمأنتها أنه لا يوجد شيء سىء وغادر بعدها الغرفة خلف "هشام"


بالأسفل بغرفة المكتب ..


بعدما جلسا قبالة بعضهما أردف "هشام" متسائلا باهتمام حول الشيء الذي جعل الآخر يرغب بتحدثهما على انفراد :


- موضوع ايه يا جاسم اللي خليتنا نسيب رفيف ونتكلم فيه هنا ؟


سحب نفسا مطولا لرئتيه وزفره على عجالة ثم أخبره متكلما بهدوء ممزوج بالجدية موضحا له سبب تحدثهما بعيدا عن "رفيف" :


- بصراحة يا عمي أنا عايز اكتب كتابي على رفيف الأيام دي والفرح عادي يتأجل للوقت المناسب ليكوا ولما رفيف تبقى كويسة، وأرجوك مترفضش قبل ماتعرف اسبابي


زوى ما بين حاجبيه متعجبا كثيرا من طلبه المباغت وعقب على ما قاله بتفهم :


- أنا مش رافض يبقى في ارتباط رسمي بينكم بس ليه يبقى كتب كتاب على طول، اتخطبوا الأول وكتب الكتاب يبقى على الفرح


ظهر على ملامحه عدم التقبل لما تفوه به الآخر، واطنب متحدثا بإيضاح متزايد :


- عمي أنا تقريبا من وقت ما رفيف رجعت البيت وانا باجي كل يوم، ولما كانت في المستشفى كان نفس الكلام، فأنا حابب ابقى معاها علطول بعلاقة رسمية أكتر من الخطوبة عشان على الاقل ماحسش بحرج ويبقى ليا الحق في وجودي معاها في اي وقت


ابتسم له بوداعة وردد بكلمات لينة محاولا ابعاد الحرج عنه :


- مافيش حرج يا جاسم انت ابني وانت لما بتبقى موجود مع رفيف بابقى موجود معاكم وانا سامحلك بكده


تحرك في جلسته للأمام قليلا واستطرد بتصميم :


- عارف بس أنا حابب انها تبقى على اسمي مش مجرد خطوبة 


لم يكَد "هشام" يعلق على كلماته حتى استمعا لصوت "مجد" الدالف لتوه الغرفة مرددا :


- وانا موافق على فكرة


تخللت أسارير "جاسم" من موافقته والتي كان يحمل عبء إقناعه على عاهله، بينما تقدم "مجد" منهما وجلس على مقعد بجانبهما وهو يزفر بقليل من الأرهاق، ليجد والده مسلط نظره عليه وعلى وجهه تساؤلات عدة والكثير من الدهشة، ليبتسم هو بخفة فهو مدرك لسبب دهشته والتي لم تكن سوى موافقته على طلب "جاسم" وهو الذي كان معترضا على تزويجه لشقيقته بالأساس، ليتكلم بنبرة رخيمة شارحا له سبب موافقته :


- أنا شايف ان مالهاش لازمة الخطوبة هما عارفين بعض كويس ومش محتاجين يفهموا بعض يعني وهو ده سبب الخطوبة، والفرح متأجل اصلا عشان تعب رفيف، فمفيش مانع لو عملنا الخطولة عادي ومعاها كتب الكتاب وهتبقى على الضيق طبعا عشان مايبقاش في ارهاق لرفيف


ظل لبرهة يفكر فيما قاله "مجد" والذي نال استحسانه بدرجة كبيرة، ليوجه نظره تجاه ذلك الجالس بتوتر بالغ منتظرا رده على احر من الجمر وتكلم بانصياع لرغبتهما وهو يوجه حديثه ل"مجد" :


- خلاص طالما انت موافق انا كمان موافق، بس المفروض نعرف رفيف


تحفز "جاسم" في جلسته وأخبره بنبرة متحمسة للغاية والفرحة معتلية تعبيراته : 


- أنا هطلع اعرفها، بعد إذنك طبعا يا عمي


ابتسم له وغمغم بصوت مغلفه الطيبة التي لا يشعر بها سوى معه منذ وفاة والديه :


- روح يابني


كان عقل "مجد" شاردا بأمر آخر وقتها وهو الصور التي بحوزة عاصم لشقيقته و"جاسم" والذي ستصبح دون قيمة بعدما يعقد "جاسم" قرانه على شقيقته، وهذا السبب بالتحديد الذي جعله يوافق على الأمر دون تفكير مسبق، فهو حينهما سيتخلص من ذلك الطوق الملتف حول عنقه من قبل "عاصم" تخوفا من نشره لتلك الصور في وسائل التواصل الاحتماعية مثلما هدده، وسيستطيع  وقتها التفكير مليا في حل يردعه به عن محاولاته إيذائه هو أو أي فرد من أفراد عائلته، والذي إلى الآن لا يرى سببا وجيها في أفعاله الشيطانية التي تعبر عن شخصيته المرضية والتي يجب أيضا الحذر والإحتراز منها


❈-❈-❈


جالس قبالة "رفيف" على طرف الفراش بعدما غادر "جاسم" ينظر لها بنظراتٍ مبهمة لم تفهم منها الأخرى شيئا ولكنها سريعا ما فهمت معنى نظراته عندما بدأ بالتحدث بجدية مرددا :


- رفيف، انا استنيت لحد ما حالتك تتحسن عشان اعرف اتكلم معاكي، انسي كل اللي قولتهولك تقوليه للظابط اللي كان بيحقق في الحادثة بتاعتك وعرفيني كل اللي حصل يومها بالتفصيل


رطبت شفتيها قبل أن تنطق بصوت خفيض كعادتها في الحديث مؤخرا لعزوفها عن ارتفاع نبرة صوتها لكي لا يتأذى رأسها ويخلف عن صوتها ذي النبرة المرتفعة شعورا بالصداع أو ما شابه :


- مجد لو عايز تتأكد إذا كان عاصم هو اللي عمل كده ولا لأ، فهو اللي عمل


ثبت نظراته عليها بعد نطقها بتلك الكلمات التي استرعت كامل انتباهه لمعرفة ما ورائها وتساءل باهتمام بالغ :


- ازاي بقى !، ايه اللي مخليكي متأكدة كده ؟


تنهدت بأسى لتذكرها ما حدث والذي تسبب بجعلها طريحة الفراش لأكثر من شهر، وجاوبته بصوت مائلٍ للضيق :


- لما العربية اتقلبت سمعت صوت واحد مكنتش شايفاه بس واضح انه اللي كان في العربية اللي كانت بتحاول تخبطني


●●●


صدح صوت بنبرة خشنة بجانب سيارتها المنقلبة استمعت هي له والدماء تسيل من رأسها وهي تائهة وعلى مقربة من فقدان الوعي :


- ايه المصيبة اللي عملتها دي، الأوامر اللي وصلالنا خبطة صغيرة في عربيتها تعورها مش تموتها، ده عاصم بيه هيودينا في داهية 


رد عليه الآخر بصوت آجش في تذمر معترضا على تحميله الذنب في حادثتها :


- وانا عملت ايه !، مانت شايف العربية هي اللي اتقلبت لواحدها 


عقب الآخر بنبرة اخشوشنت على الآخير وهو يعنفه بزجر وغضب :


- انت ايه اللي موقفك دلوقتي مستني اما ييجوا يمسكونا !، يلا بسرعة من هنا


●●●


غامت نظرات "مجد" خلف شرارات غضبه، فهو كان يأمل لآخر لحظة ألا يكون "عاصم" هو المتسبب في الحادث، فما بينهما من صداقة قديمة ووعده الذي قطعه لوالدته أن يحاول أن يعودا صديقين أو أقله تتحسن علاقتهما قليلا، كانا شفيعين له عنده، نعم صداقتهما لن تعود ولو بعد ألف سنة، ولكن صداقتهما قديما مازالت ذكرياتها محفورة بعقله، وما فعله والده وأذية "عاصم" له بعمله لم تنسِه ما كان بينهما يوما، ولكن أن تصل أذيته لمحاولة قتل شقيقته -حتى وإن كان لم يرغب في قتلها- هذا ما لن يستطيع غفرانه بتاتا


فاق من شروده على يد "رفيف" التي وضعت فوق يده لينظر لها بانتباه، ليرى تعبيراتها تشبعت بحرج لم يدرِ ما سببه ولكن سريعا ما توصل لسببه عندما تكلمت وهي منكسة رأسها متحاشية النظر إليه :


- مجد انا آسفة على موضوعي أنا وجاسم، متزعلش مني


رفع "مجد" يدها واحتوى وجنتها وهو يقول بنبرة دافئة بمحبة أخوية :


- انسي يا رفيف خلاص، المهم عندي انك تقوميلنا بالسلامة


لاحظت تحفزه للنهوض للتذكر ما حدث اليوم عندما هاتفتها "داليا" لتهتف على عجل قائلة :


- في حاجة تانية عايزه اقولهالك 


بقى مكانه وعقد حاجبيه وهو يتساءل باستفسار :


- حاجة ايه ؟


زمت شفتيها لثانية ثم ردت بقليل من التردد الذي استشعره من نبرتها :


- داليا صاحبتي


حرك وجهه باستفسار وظهر على وجهه أمارات نفاذ صبره وهو يتساءل بإيجاز :


- مالها ؟


جاوبته دفعة واحدة وهي تنظر له متفحصة تأثير ما تقوله عليه :


- تبقى بنت خالة عاصم


ظهرت الصدمة جلية على ملامح وجهه، فهو على علمٍ بالصداقة التي تجمعها بشقيقته منذ الصغر، وخشى للحظة أن يكون لها سبب فيما حدث ل"رفيف" ليتساءل بتلهف قلق وهو فاغر العينين :


- وهي كانت عارفة ان هو اللي ورا الحادثة ؟


هزت رأسها بالسلب نافية وعقبت بتوضيح سبب إخباره بقرابتها من "عاصم" مرددة :


- لأ مكانتش تعرف حاجة، هي كانت كلمتني كام مرة تطمن عليا بس مكنتش قادرة اتكلم وقتها، بس لما كلمتني النهارده عرفتها وهو ده اللي كنت عايزه اقولهولك، أنا خايفة عليها وخايفة يأذيها وهي حام..


لاحظ بترها لكلمتها كما آثار ريبته حول وجود خطب ما تواريه شقيقته عنه، ليهدر مكملا ما قطعته من حديثها بتساؤل :


- وهي مالها ؟


ظهر التوتر جليا عليها فهي لا ترغب في إخباره بأمر حمل صديقتها ولكن كل ما ودت أن تخبره حوله هو صلة القرابة التي تجمعهما وتخوفها -بعدما أخبرتها بأنه هو من تسبب بحادثتها- من أن يفعل لها شيئا سيئا إذا ذهبت وتساءلت حول الأمر


ردت بعد برهة من الصمت الذي تأكد من خلاله "مجد" بوجود شيء تحاول إخفائه عنه :


- لا ابدا مفيش حاجة 


زفر بحنق وظهر الضجر على قسماته من مراوغتها وأردف بلهجة مائلة للأمر :


- اتكلمي يا رفيف، ايه اللي كنت هتقوليه ؟


ندمت على تسرعها في الحديث وزلة لسانها النزقة وعلقت بقليل من الضيق من نفسها :


- دي حاجة خاصة بداليا


بنبرة مائلة للإستجواب وبصوت غلفه الغضب من نطقه لاسم ذلك البغيض مدمدما :


- عاصم طرف فيها


هزت رأسه مومئة بالإيجاب ورددت بصوت خفيض :


- ايوه


احتدمت ملامحه بالسخط وقد ساورته الشكوك حول "داليا" وأنها لربما مشتركة معه في شيء، ثم قال بإصرار وتصميم :


- يبقى لازم اعرفها يا رفيف، بلاش حبك لصاحبتك يعميكي واتكلمي


احست من كلماته الأخيرة بشكٍ جال بفكره ناحية صديقتها لتتحدث سريعا بنبرة واثقة محاولة منافاة أي شك بداخله تجاهها :


- داليا صاحبتي من وانا صغيرة واستحالة تأذيني يا مجد وهي أصلا مأذية من عاصم يعني استحالة تتحالف معاه ضدي


أخذت تعابيرة المشدودة ترتخي بعد عبارتها الأخيرة وتساءل بنبرة مكترثة لمعرفة ما الأذية التي ألحقها بها هي الأخرى :


- مأذية منه ازاي ؟


آثارت "رفيف" الصمت غير قادرة على صوغ الكلمات وإخباره بتلك العلاقة المشينة بينهما والتي نتج عنها جنينين ينموان بأحشائها، بينما "مجد" قد وصل لذروة ضجره من صمتها ليردف بحدة بكلمات منذرة إلى حد ما :


- اتكلمي يا رفيف مش هينفع سكوت في اي حاجة متعلقة بالحيوان ده


تنهدت "رفيف" بقلة حيلة كما شعرت أنه من الممكن أن يفيد معرفته لذلك الأمر بطريقة أو بأخرى، وقالت بانصياع وامتثال أمام تصميمه :


- هقولك يا مجد، بس اوعدني ان الكلام ده يبقى بيني وبينك وميخرجش لحد


❈-❈-❈

تفاجأ وهو يبدل ثيابه بدلوف "داليا" غرفته ليتوقف عما يفعله وقطب جبينه وهو يردد :


- داليا، ايه اللي جابك ؟


تقدمت نحوه بخطوات مندفعة، بينما لاحظ هو غضبا بالغا معترٍ قسماتها وهي تقول بحدة مستفهمة :


- انت السبب في حادثة رفيف ؟


هذا سبب غضبها إذا، رمقها بنظرة ساخرة قبل أن يستدير متابعا خلع ثيابه وأردف ببرود :


- ملكيش دعوة، وخرجي نفسك برا الحوارات دي


تملك الغضب منها عندما تأكدت مما أخبرتها به صديقتها، وقبضت على ساعده وأدارت جسده إليها وصاحت به بصوت هادر :


- يعني انت اللي عملت كده !، صاحبتي كانت هتموت بسببك !


احتدمت ملامحه بعصبية بالغة على إثر صوتها الذي ارتفع عليه وقبض على جانب ذراعها ودمدم بانفعال جعل عروق رقبته تبرز بشدة زاجرا إياها :


- داليا، انتي هتنسي نفسك ولا ايه، صوتك ميعلاش عليا


نفضت يده بعيدا عن ذراعها، ورمقته بنظرات خيبة وتفوهت بنبرة مالت للبكاء متحاملة على تلك الغصة بحلقها :


- أنا ندمانة اني حبيت واحد زيك، ندمانة على كل لحظة سمحتلك فيها إنك تقرب مني، ندمانة على كل مرة سامحتك فيها على القرف اللي بتعمله معايا وعلى اسلوبك القذر اللي بتعاملني بيه وكأني واحدة من الزبالة اللي بتروحلهم اللي انت اصلا شبههم 


صفعة مدوية تهاوت على وجنتها وتهاوت معها دموعا حارقة من عينيها تبعها صراخها بنحيب وهي ترمقه بنظرات مليئة بالكسرة : 


- أنا بكرهك يا عاصم، بكرهك 


استدارت ودموعها مغرقة وجنتيها ليقطع طريقها للخارج "كمال" الذي دلف الحجرة عندما استمع لصوتهما المرتفع وهو متوجه لغرفته والذي استشف أنهما يتشاجران


رمق وجهها الباكي بتفحص وتساءل بتعبيرات خالية من أية مشاعر إنسانية وبصوت جامد :


- بتزعقوا ليه !، انتي حامل ؟


تساءل بالأخير بدهشة غير مصطنعة عندما وقع نظره على بطنها المنتفخ والبارز بوضوع من ثيابها، لترد عليه بتساؤل بصوت ضعيف إثر بكائها :


- حضرتك شايف ايه ؟


لمح بردها طيف سخرية عليه لتحتد نظراته وهو يتابع قائلا وهو يضع يديه في جيبي بنطاله :


- ومن مين اللي في بطنك ده بقى ؟، اللي اعرفه انك مش متجوزة


رمقته بنظرة كارهة فهي أضحت تعلم وجهه الآخر الذي يخفيه عن الجميع بعدما حكت لها "رفيف" ما فعله بوالدها وشقيقتها، وردت بثبات عكس ما يعتريها من حزن بالغ ورجفة بجسدها نتيجة لصفعة "عاصم" التي أشعرتها بالمهانة :


- انا فعلا مش متجوزة، انما من مين، فاسأل ابنك وهو يجاوبك


حدجت "عاصم" -الواقف يتنفس بتلاحق إثر غضبه العارم- بنظرة مزدرية وهي تقول الآخير ثم تابعت بتحفز بصوت جافٍ :


- عن إذنك


❈-❈-❈


كادت تدلف الحجرة بعدما عادت من جامعتها لتجد "عدي" ساددا عليها الطريق لترمقه بغرابة ثم تساءلت :


- ايه مش هتدخلني ؟


ابتسم لها ابتسامة صافية وأخبرها بخفوت بجانب أذنها بعدما انحنى بجذعه قليلا نحوها :


- في مفاجأة محضرهالك


انفرجت شفتيها بابتسامة في نعومة واستفسرت بتعبيرات متحمسة:


- مفاجأة ايه ؟


كادت تدلف الغرفة ليتحرك سريعا ساددا عليها الطريق مجددا وهو يقول لها بنبرة تحمل مزيجا من الأمر والمشاكسة :


- غمضي الأول


حركت وجهها بإنكار ولكنها امتثلت لما قاله وأغمضت عينيها، بينما جذبها هو برفق حتى وقفا في مكانٍ معين وأخبرها بهمس في أذنها :


- فتحي


ما إن فتحت عينيها حتى تفاجأت بوجود سرير لطفل رضيع خشبي أبيض اللون بجانب فراشهما، تقوست شفتيها بابتسامة متسعة بارزة نواجذها وهي تنظر له بنظرات إعجاب وشعرت بوجيب قلبها ينتفض من مجرد تخيل رضيعهما وهو غافٍ عليه


لتلتفت ل"عدي" الواقف يتابع تعبيراتها بتحفز بالغ وقالت بصوت ملئ بالسرور :


- حلو اوي، جيبته امتى ؟


دنا منها وأردف بصوت هادئ وهو يضع خصلات شعرها المتمردة خلف أذنها :


- وانتي في الكلية


فرحت كثيرا لاهتمامه بكل التفاصيل الخاصة بطفلهما غير اكتراثه لمواعيد أخذ أدويتها وذهابه معها للطبيبة باستمرار في متابعتها، لتتقدم منه واحتضنته شاعرة بامتنان بالغ لوجوده في حياتها، بينما هو مسد على ظهرها بحنان وعاطفة


انتبهت وهي بين أحضانه لعدم ذهابه للعمل لتبتعد قليلا عنه وتساءلت باهتمام :


- انت صحيح مروحتش الشغل النهارده ليه ؟


جاوبها "عدي" بلطافة وهو مازال محاصرها بين أحضانه محاوطا خصرها بذراعيه :


- مفيش حاجة مهمة النهاردة، هتابع من اللاب، وبعدين انا عايز اقضي اليوم كله مع حبيبتي، ومع الباشا اللي اللي جوا اللي مطلع عيني ده من قبل ماييجي 


لكزته بصدره بمرح ورددت باستنكار وعلى محياها ابتسامة مغرية :


- هو عمل حاجة !


رفع حاجبيه لها وهو يتكلم بضيق مصطنع بكلمات عن إيحاء مقصود :


- لا معملش خالص


ضحكت "أسيف" بصفاء بعدما توصلت للمغزى من وراء كلماته، فحملها متسبب في إقصاء "عدي" الفترة الماضية من التقرب إليها بأية علاقة حميمية، وعلى الرغم من عدم منع طبيبتها الأمر بشكل تام وأخبرتهما أن يكن هناك تقنين فحسب أثنائها إلا أنه عزف عن الأمر لكي لا يتعبها بعدما لاحظ إرهاقها والدوار الذي يتمكن منها بآخر مراتٍ تقربا فيها، لذا أرادت هي أن تعوضه قليلا اليوم 


اقتربت منه وعلى حين غرة في استحياء احتوت شفتيه بين شفتيها، بادلها هو بعاطفة لا تجدب بمرور الأيام بل تتفاقم، فهم ما توده وعلى الرغم من أنه لا يريد لتلهفه في الاستجابه لها أن يرهقها ولكن أمام رغبته وإلحاحها خنع وترك العنان لمشاعره الثائرة ووجدانه المتلهف لها أن ينغمس معها فيما يتوق له 


بعد مضي الوقت كانت نائمة على ظهرها وهو بجانبها نائما على أحد جانبيه جسده مواجها لها، يعبث بخصلاتها وهو ينظر لها بنظرات حالمة كما لو أنهما لتوهما يتقربان لبعضهما ذلك التقرب الذي يخلق عاصفة من مشاعر محمومة تتوغل بوجدانه


توقفت حركات أصابعه فوق خصلاتها وأخفض يديه يمسد بطنها بحنان لينتبه لها عندما أدارت رأسها نحوه وأردفت بتلقائية موضحة له شعورها :


- عارف اني معدتش خايفة زي الأول، وبقيت بحسب الأيام اللي فاضلة عشان اشوفه


زفر بارتياح بالغ لسماعه تلك الكلمات منها واقترب منها قليلا حتي يتنعم بدفء جسدها وهمس :


- عارفة اني فرحان اوي وانا سامعك بتقولي الكلام ده


رمقته بنظرات حانية وهي تتابع بكلمات موضحة امتنانها له :


- الفضل ليك انت في كده، لولاك مكنتش وصلت للمرحلة دي وكان زماني لسه خايفة ومتوترة من الحمل والولادة، بس كل حاجة اتغيرت بسببك وبقيت فرحانة كل ما احس بيه بيكبر جوايا، انت بجد اجمل حاجة في حياتي يا عدي


رفع جسدها وقبل جبهتها ثم عاد بظهره على الفراش وجذب جسدها لتتوسد صدره، لتتكلم بعد برهة بشيء من الندم من تفكيرها سابقا :


- عارف ان انا كان ممكن يجرالي حاجة لو كنا فضلنا اخوات زي ماكنت عايزه واتجوزت واحدة تانية غيري


شعر بحزن اعترى كلماتها من ذكرها لشيء كانت توده في الماضي وكان سيضيع عليها كل تلك الفرحة التي تتنعم بها معه، ليعلق على ما قالته بعبث حتى ينتشلها من أي شعور حزن وشيك من التغلل لقلبها متمتما :


- لا مكانش هيجرالك حاجة، عارفة ليه ؟


رفعت نظرها إليه لترى ابتسامة متسلية فوق ثغره لتتظاهر بعدما ملاحظتها وتساءلت باهتمام لمعرفة ما يود قوله :


- ليه ؟


اتسعت ابتسامته مظهرة غمازتيه وهو يجاوبها بصوت خفيض يشوبه الضحك جعلها تكركر ضاحكة فهو يعرف كيف يوصلها بكلماته العابثة إلى سعادة لا توصف :


- عشان كنت هتجوزك عليها، مانا مش هسيب القمر ده يروح لحد غيري


❈-❈-❈

بينما كان جالسا على الفراش يعمل على حاسوبه كان يختلس النظرات إليها وهي متوسدة الفراش بجانبه تنظر للفراغ بشرود لفت انتباهه وجهها الشاحب على عكس العادة فهو كان يعهد على بشرتها النضارة دائما والبادي أيضا على وجهها الإرهاق بدرجة قريبة، ليصدح صوته بهدوء بعدما عاد بنظره للحاسوب متابعة ما يقوم به :


- انتي بترهقي نفسك كتير اليومين دول ومبتروحيش المتابعة


انتبهت له وفاقت من شرودها في اللاشيء وابتسمت ابتسامة صغيرة وهي تعقب على ما قاله :


- هروح المرة الجاية


أغلق حاسوبه بعدما انتهي ووضعه جانبا ثم دنا منها وصحح كلماتها قائلا بصوت دافئ وهو يتحسس وجنتها بظهر كفه :


- هنروح المرة الجاية


اتسعت ابتسامتها وكاد يقترب ليلثم شفتيها، ليصدح صوت هاتفه معلنا عن استقباله اتصالا من احدهم، ابتعد عنها والتفت بجسده ملتقطا الهاتف من فوق الكومود ليجد المتصل "رفيف" عقد حاجبيه بغرابة من اتصالها وخشى ان يكون أمر ما سيء قد حدث وأجابها سريعا : 


- ايوه يا رفيف


استمع لنبرتها الباكي وهو تردف ببكاء وصوت متقطع :


- مجد، جاسم..


استقام "مجد" في جلسته عندما استمع لصوت بكائها ولم يفهم ما به "جاسم" ليقول مستفسرا :


- بتعيطي ليه اهدي، جاسم ماله ؟


سحبت نفسا لرئتيها وحبسته لهنيهة ثم حررته على مهل في محاول للتحكم ببكائها، ثم أخبرته بصوت مازال ظاهرا به آثار بكائها موضحة بكلمات متلهوجة :


- أنا تعبت من شوية دماغي وجعتني وفضلت أعيط، اخدت مسكن عشان يخفف الوجع بعدها لقيت جاسم اتعصب جدا ومشى وهو بيشتم في عاصم، انا حاسة انه هيروحله وخايفة عليه ومش بيرد على الموبايل


أغمض عينيه بحنق من تصرفات الآخر الهوجاء وعلق على ما قالته بهدوء :


- طب اهدي خلاص انا هتصرف


جاءه صوتها الباكي متوسلة بتخوف بالغ :


- عشان خاطري يا مجد شوفه فين بسرعة وطمنني


أردف بحنوٍ وقد نهض عن الفراش :


- حاضر يا رفيف، بطلي عياط وأنا هشوفه واكلمك، المهم تهدي دلوقتي، الدكتور منبه انك تبعدي عن اي انفعال


استجابت لكلماته وردت في خنوع يشوبه بعض القلق الذي لن يخبو حتى تطمئن على الآخر :


- حاضر يا مجد، بس عشان خاطري خليه يرد عليا


رد بإيجاز لكي يستطيع إنقاذ الموقف ويلحق بذلك الأخرق قبل أن يفعل أي فعلة غير صائبة :


- طيب، اقفلي دلوقتي


وضع الهاتف فوق الكومود بعدما انهى المكالمة واستدار متوجها نحو غرفة الثياب، لتتبعه "طيف" التي استرابت مما استمعت له ولكن لم تفهم الأمر بشكل تام لتتساءل في قلق :


- في ايه يا مجد ؟


جاوبها وهو يبدل ثيابه بنبرة صوت حانقة للغاية :


- في ان جاسم معادش عنده عقل خالص ولا بيفكر في الحاجة قبل مايعملها


دنت منه وهي لا تفقه بعد معنى كلماته وتابعت في التساؤل على نفس المنوال :


- ليه ايه اللي حصل ؟


وهو يرتدي قميصه جاوبها بسخط واستهجان لفعلة الآخر :


- الاستاذ شكله رايح لعاصم


شعرت بتوتر بالغ من أن تؤول الأمور لمصيبة أخرى وهي تتساءل :


- رايحله ليه ؟


أنتهى من ارتداء ثيابه، ليجيبها وهو متحفز للمغادرة بتجهم بالغ :


- مش عارف بس أكيد هيعمل مصيبة، هروح ألحقه قبل مايضيع الدنيا 


تخطاها متحركا نحو باب الغرفة لتتبعه وهي تقول بتلهف ممزوج بالقلق :


- طب طمنني يا مجد


علق على عبارتها وهو واقف أمام باب غرفتهما قبلما يخرج مشيرا لها بيده :


- حاضر، ارتاحي انتي وانا مش هتأخر


❈-❈-❈


صف سيارته أسفل بناية "عاصم" وقبض على سلاحه الموضوع على المقعد بجانبه وعينيه تطلقان شررات غضب ساحق، ترجل من السيارة والدماء تغلي بعروقه، عازما على إطلاق رَصاص سلاحه برأسه، ليجعله يشعر بذلك الوجع الذي يستبد من "رفيف"، ليعترض صعوده البناية يدا قبضت على ساعده، ليلتف سريعا ليرى من ذلك الشخص الذي أوقفه، ليجده "مجد" الذي لاحظ احتدام نظراته ليقع عينيه على المسدس بيده الأخرى، عاد بنظره إليه وهو يردف بصوت جاد متسائلا :


- رايح فين ؟


حاول "جاسم" جذب يده من يد الآخر وهو يصيح به بحدة :


- سيبني يا مجد


كان طابقا بإحكام على يده حتى لا يندفع للصعود للآخر، وتساءل من جديد بإطناب وهو يضغط على نطق الكلمات موحيا عن نفاذ صبره :


- بقولك رايح فين يا جاسم


تشنجت تعبيراته على الآخير وازداد احمرار عينيه بكم هائل من الشعيرات الدموية وهو يجيبه بانفعال أهوج :


- رايح أوجعه زي ماهي موجوعه، هفتحله دماغه عشان يحس باللي هي فيه


نظر له نظرات غضب من تسرعه النزق وتكلم بتجهم واستنكار بالغ في صيغة تساؤلية :


- هتفتحله دماغه بمسدس، ولا رايح تقتله ؟


علق على ما قاله باستهجان وعدائية لم يرَها عليه قبلا :


- وهو مايستاهلش الموت ؟


تخلى "مجد" عن طور هدوئه وثباته المصطنع وهدر باحتجاج :


- مش على ايدك، لما تقتله وتتسجن انت ولا تتعدم، رفيف كده هتخف !، بالعكس حالتها هتسوء أكتر وممكن تتسبب في انها يجرالها حاجة ونخسرها كلنا


شعر بوخزة مريرة عصفت بقلبه مما قاله، بينما تابع "مجد" -عندما رأي تعبيراته التي تأثرت- بكلمات جادة تتشبع بالكراهية لذلك الشبيه بالأبالسة :


- هو انا مقدرش اطلع دلوقتي واجيبه تحت رجلي، بس كده هيبقى احنا اللي بنتعدا عليه في بيته، ويتحول هو ساعتها من جاني لمجني عليه، اهدي وخلينا نفكر بالعقل


تواترت الدموع من عينيه وهو يهتف بثورة معقبا على الآخير من كلماته :


- أنا معادش فيا عقل ومعدتش متحمل أشوف رفيف موجوعة قصاد عيني وانا مش قادر اعملها حاجة


شعر بمدى تألمه فهو الآخر يتوجع كلما رأى "رفيف" على تلك الحالة الواهنة، ولكنه مسئول على حياة أفراد آخر غيرها ويجب أن يفكر بحنكة دون تسرع لكي لا يطول أحد آخر من عائلته أي أذى


وضع يده فوق كتفه وأردف بهدوء محاولا تهدئة روعه وطمأنته :


- وجودك جنبها أكتر حاجة بتهون عليها وسبب كبير في تحسنها، والدكتور قال الوجع اللي بتحس بيه عادي ومع الوقت هيروح


حدق به الآخر بعينيه الدامعتين وبداخله يشعر بثقل جاثم على صدره، بينما تابع "مجد" كلماته بجدية شديدة :


- رفيف كلمتني وهي منهارة وعارفة انك جاي للحيوان ده وأعصابها بايظة وانت عارف ان ده غلط عليها كلمها وهديها وقولها انك معايا ومروحتش في حتة


أومأ برأسه وهو يشعر بتخوف من أن تسوء حالتها وأن ينتج عن فعلته الهوجاء تلك نتائج وخيمة عليها، بينما تابع "مجد" بصلابة منتشلا إياه من زوبعة أفكاره :


- وقفتنا دي مالهش لازمة يلا بينا من هنا



يُتبع..