الحلقة الثالثة - جزء ٥ - صائد المراهقات
الحلقة الثالثة - الجزء الخامس - صائد المراهقات
" لا شيء يشفي سِوي الزمن، لا بُد من مرور فترة زمنية معينة علي أي جرح نفسي حتي يُشفي، لا توجد نصائح ولا علاج ولا حقن يُمكنها أن تجلب الشِفاء فورًا، فقط مرور الزمن."أحمد خالد توفيق
❈-❈-❈
هدأت "زينب" كثيرا بعد خروج "حمزة" و لكنها ظلت تبكي و تنظر جهه الباب و والدتها تصرخ بأن ابنتها قد تلبسها الجن بينما والدها يحاول تهدئتها و ضمها إليه فترفع له وجهها مبلل بالدموع و تهمهم بكلمات لم يفهموا منها أو يسمعوا منها غير كلمة "صورني" حتي صاح الأب بأن تصمت الأم فسمعوها تقول بصوتٍ واضحٍ صم آذانهم :
- صو.. صورني عريانة.. صورني عريانة.. بيلمسني كل يوم.. بيلمس جسمي.
تعالت الأنفاس، و توترت دقات القلب، و تسربت ألسنة لهب القلق للصدور، تحرقها و تنهش فيها بنيران الشك و الحيرة. ابتلع والد" زينب" ريقه و قد اقشعر جسده بالكامل و كأن سرت بذرات دمه صاعقة كهربية أسقطت عالمه كله في قاع الجحيم. بمحاولة قاسية لجمع شتات نفسه بعد تلك الرصاصة التي اخترقت قلبه قبل سمعه، استقام والد "زينب" مبعدًا إياها عنه و وقف يلتقط أنفاسه لدقيقة و كأنه كان يجري في سباقٍ لا ينتهي و انتهي به الحال بالخُسارة، بينما والدة "زينب" فقد فقدت كل ذرة مقاومة في جسدها و سقطت جالسة علي السرير تشعر بشلل أطرافها. سحب والد "زينب" ابنته من ذراعيها بعنف سيطر عليه بدون قصد منه، و عندما استقامت أمامه بقدمين كحقيبتي الرمال الثقيلتين، حدثها بخفوت و وجه و أعين حمراء مبتلعًا ريقه أكثر من مرة متمنيًا أن يكن حديثها مجرد هلوسات لا أكثر :
- زينب.. اسمعيني كويس و ركزي كدة.. هتعيدي اللي قولتيه تاني ماشي؟
فأومأت "زينب" بدموع و هي تعض شفتها السفلية التي نزفت بالفعل من قسوة الضغط عليها.. اغمضت عينيها بشدة و حررت شفتها السفلية أخيرًا من بين أسنانها و قالت بنبرة متردد و صوت مبحوح من البكاء و هي تشير بأصبعها للباب :
- بي.. بيلمسني.. و.. و صورني و انا من غير هدوم.
لطمت والدتها علي وجهها مولولة فصاح فيها الأب لتصمت ثم امسك "زينب" من كتفيها و هدر بقسوة ناسبت هلع عِرقه النابض في جبهته رغبًة في الثأر بإنكارٍ تامٍ لإشارة يدها :
- مين اللي بيعمل فيكي كدة انطقي؟
مالت برأسها و لفظت حروف الاسم و هو ترتعش مع خروج كلاً منهم غير مصدقة هي الاخري أن تلك هي الحقيقة ، و تسارع سيل دمعاتها علي وجنتيها دون شعور منها :
- ح.. حمزة.
صفعة.. ما قابلته من والدها كانت مجرد صفعة مُنكِرة للواقع.. صفعة تزامنت مع هجوم "حمزة" علي الغرفة بتوتر غلفه العصبية. صاح "حمزة" بغضب لاذع غير مهتم بوقوف والديه و هو يبتلع ريقه اكثر من مرة بخوف لم يلاحَظ بسبب الأجواء :
- انتي هتستعبطي يابت.. روحي شوفي هببتي ايه و مع مين بس متجيش تلزقيها فيا انا يا **.
بأنفاس متلاحقة ،امسك والد "زينب" شعر ابنته في قبضته و بأعين تكاد تخرج من محجريها نظر لها فامسكت يده بكلتا يديها تخفف من شدة قبضته و هو تتمتم بنواح يمزق القلوب :
- حمزة.. والله حمزة.. والله ما بكدب.
خرجت أنفاس الأب بصعوبة و كأنه يشعر بسهامٍ تغزر في صدره مع كل كلمة تخرج من فاهها، و سأل ما لم يتوقع أن يسأله لصغيرته يومًا و الخزي ينهش جسده :
- انتي لسه بنت بنوت ولا لا ؟
بمجرد استيعابها للسؤال تعالت شهقاتها و أومأت بسرعة عدة مرات و هي لا تصدق أن هذا ما نالته منهم.. أفلت الأب قبضته دافعًا إياها علي السرير خلفها، و أردف موجهًا حديثه لزوجته و ابنته، و حركة حنجرته المرتعشة ظاهرة في نبرة صوته :
- إلبسوا.. ورانا مشوار مهم مينفعش يستني للصبح.
قبض حمزة علي يده حتي غُرزت أظافره في باطن كفه و هو يضغط علي أسنانه محاولًا حجز الكلمات في فمه، و قد خمن وِجهتهم.
❈-❈-❈
سعلت "دلال" و هي تضع أحمر الشفاه علي المنضدة بعد أن استخدمته ثم نظرت في المرآة تتأكد من إكتمال مظهرها الانثوي الفاتن بهذا الثوب الأحمر القصير الذي يعانق منحنياتها، و مستحضرات التجميل القليلة التي تزين وجهها الأبيض، و شعرها البني المنسدل حتي منتصف ظهرها. برغم من شعورها ببداية إصابتها بدور حُمي طفيف إلا أنها قررت العمل بنصيحة صديقتها "سناء" لعلها تؤتي ثمارها. ها هو الوقت قد قارب علي منتصف الليل والفتاتان نائمتان و "ناير" مازال خارج المنزل.. يبدو في مزاج سيء من صوته في الهاتف فقد إتصلت به لتطمئن علي حاله في منتصف اليوم و كان يتحدث بنبرة جافة للغاية، أكثر جفافًا من علاقتهما و تعاملاتهما اليومية معًا.
سمعت صوت الباب يُفتح فعدلت بسرعة من هندامها و فستانها الذي يبرز الكثير من مفاتنها و فتحت باب الغرفة فرفع "ناير" وجهه من النظر أرضًا و ألتقطتها عينيه و هي تقترب منه، تقيمها من أعلها لأسفلها.. قالت و هي تأخذ منه حقيبته و تساعده في خلع سترته بهمسها بكلمات رتبتها قبلًا بإسلوبٍ مغرٍ نجحت في إفتعاله بعد عناء تدرُب يوم كامل؛ علها تخفف عنه جهد اليوم و ما عكر مزاجه قليلًا :
- وحشتني اوي.
فابتسم رافعًا حاجبيه بتعجب من هذا الوجه القديم من زوجته الذي كان يفتقده في الفترة الماضية بالفعل، أما الان فقد أيقن بداخله أنه لا فائدة حتي من رجوعه، فلقد اتخذ القرار بداخله ألا يصارع وحوشه التي تُجبره علي الانسياق خلف اكتئابه، كما قرر الاكتفاء بالبحث عن علاقات جديدة لكسر هذا الحاجز الذي احاطه بسبب سِنه و سَلك طُرق حديثة لتجديد شبابه بدلًا من التفكير في إنجاح ذلك الزواج الذي علي وشك الانتهاء، لذلك أيًا كانت الألاعيب الانثوية التي ستمارسها ، فهي لن تفي بالغرض ابدًا و سيبقي الحال كما هو عليه.
وضعت "دلال" السترة و الحقيبة جانبًا متجاهلة عدم رده عليها فقد قررت ألا تستسلم اليوم، و سحبته من يده إلي المطبخ فطاوعها فهو يحتاج لما تفعله الان بالفعل، و توقف مذهولًا أمام الطاولة المُزينة بالشموع و سطحها مغطى بأشهي الأطعمة التي يفضلها، ثم تتابعت المفاجأت بحركتها التالية و هي وقوفها خلفه و إحاطتها خصره و إسنادها وجنتها علي ظهره، و لكي ينجح في تشتيت نفسه عن أحداث اليوم قرر مجاراتها و أحاط يديها بيديه يمسدهما ببطيء.. همست بدلال بعد أن قبلت رقبته من الخلف :
- رغم إنك راجع من يوم طويل مليان شغل و تعب.. بس زي القمر برضو.
فابتسم و ها هي الخطة تنجح و الأداة تعمل بكفاءة، ها هي قد بدأت أداته في إلهائه بالفعل عن ما يشغل ذهنه و لكنه ينشد أكثر من ذلك، فرفع كفها يقبل باطنه قبلة متريثة في حركة يعلم أنها تثيرها و قد نجح بالفعل فقد أغلقت عينيها من شعورها بدغدغة في معدتها و قد زاد احساسها بذلك عندما مرر أصابعها علي شفتاه يُقبلهم واحدًا تلو الأخر.. همست باسمه فقرر هُنا أن يغرق فيها ليشغل رأسه و لو لمدة قصيرة عن ما يدور فيها من أفكار، و سحبها من يدها لتقف أمامه فضمها إليه مقتنصًا شفتيها في قبلة اذابتها هي بينما ذكرته هو بفتاته المشاغبة الجسورة؛ فتعمقت قبلته أكثر و هو يمرر يده علي جسدها بشراهة جعلتها غير قادرة علي مواصلة الوقوف و شعر هو بذلك فابتعد عنها ثم سحبها لغرفتهما ليكمل ما بدأه.
بعد قليل استقام "ناير" بهدوء تاركًا "دلال" غارقة في نومها، و ارتدي بنطاله المنزلي و خرج من الغرفة، ثم امسك هاتفه يتصل علي تولين اكثر من مرة و في كل واحدة يجد الهاتف مغلق ففتح ليرسل لها رسالة علي أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي فوجدها قد حظرته فقذف الهاتف علي المنضدة و تأفأف و هو يخلل شعره بأصابعه.
❈-❈-❈
ابعد "سيد سيكا" كما يلقبه اصدقائه يد "علي" عنه أثناء وقفتهم بأحد الشوارع ليلًا وسط اصدقائهم الذين يحاولون فض الشجار بينهما، و قال بعدم اتزان جراء ما يتعاطاه من مواد :
-متمدش ايدك بس و اتكلم بالأدب.
هدر "علي" بانفعال و هو يحاول الفكاك من أصدقائه الذين يقيدوه :
- طب يا زميلي ما اتكلمنا بالأدب و منفعِش.
قال أحد أصدقائهم بصوت عالي :
- خلاص يا جدعان بقي اهدوا و قولوا هدينا كدة و فهموني.
تكلم "سيد" بنبرته الغريبة موضحًا :
- ياسطا دلوقتي الباشا واخد مني عشر تذاكر و مش عايز يحاسبني.
ابعد "علي" ايدي الشُبان عنه بلين و قال بمهاودة :
- ياسطا قولتلك استني عليا اسبوعين.
رد عليه "سيد" بإنفعال :
- يا عم انا مالي استني عليك ليه.. دي فلوس ناس يا عم علي.
اقترب "علي" من "سيد" بسرعة فظن اصدقائه أنه سيضربه فأمسكوه مجددا فابعد يد احدهم عنه صائحًا :
- اوعي ايدك دي يا عم.. سيد قولتلك استني عليا مش هيجرا حاجة.. هوزع التذاكر و هجيبلك حقها.
سأل احد الشباب بفضول :
- تذاكر ايه يا جدعان بس عشان مش فاهم؟
قال "علي" و هو يتأفأف من مسكتهم إياه :
- بيسة يا عم.
قال "سيد" بترنح :
- طب ده انا مجاملك حتي ياسطا و منزلك في كل واحدة مبلغ محترم اعمل ايه تاني.. صحاب الفلوس عايزينها و انا مش معايا أكَيشهم.
- و انا معرفك إن مش كله هيتباع و فيه حاجات بمسي بيها علي ناس حبايبي فلسه هلملك فلوسك و هديهالك.
دفع "سيد" صدر "علي" بيده و هو يصيح :
- مش مشكلتي يا عم بقي تتصرف.
حاول "علي" الاقتراب منه بينما اصدقائه يجذبوه للخلف و قال بنبرة تهديدية :
- طب خلي ايدك جمبك بس كدة عشان مزعلكش.
ابعد "سيد" اصدقائه عنه و قال و هو يخلع ملابسه :
- طب انا عايزك تزعلني بقي.
فدفع "علي" اصدقائه بقسوة و تشابك مع "سيد" بالايدي بينما حاول الشباب الفصل بينهما.
❈-❈-❈
- نامي علي السرير و افتحي رجليكي.
قالتها الطبيبة التي تنظر بإشمئزاز ل"زينب" بقلة صبر و هي ترتدي القفازات الطبية، بينما كانت الصغيرة يكاد وجهها ينفجر من انتفاخه أثر البكاء و الشعيرات الدموية قد غزت عينيها و اخفت عتمة قمريها، تنام على السرير شاعرة بتشقق قلبها أثر الزلزال الحادث في عالمها. ليتها لم تخبرهم، ليتها قطعت شرايينها و أنهت أمرها بيديها دون أن تتعرض لذلك الموقف الذي تقشعر له الأبدان، فإذا كانت قد تم انتهاك حُرمة جسدها مرة فهذه هي الثانية و لكنها أبشع و أثرها في نفسها أسوء فهي الآن مستلقية علي سرير الكشف في غرفة باردة، عارية تقريبا في وجود أبيها و أمها و طبيبة غريبة لمعرفة هل مازالت تصون شرف عائلتها أم سُلب منها، و لو لم يجدوا ذلك الغشاء الجلدي الذي يثبت عذريتها ستُعاقب سواء سُلب منها قصدًا أو قسرًا. و كم قهرها ذلك و ألمها و أشعرها بضعفٍ و برودة كأنها ذات ظهر مكشوف بلا أمن أو أمان، بلا حماية أو دفء ، أين تذهب؟ و لمن تشكو؟ أين الملجأ يا الله؟
- لسه بنت يا فندم.
زفر الأب والأم أنفاسهم التي بقيت لدقائق مكتومة خوفًا و لو علي والدها لخر ساجدًا و لعلت أصوات الزغاريد من أمها فرحةً بعرضهم الذي مازال محفوظ و لكنهم أجلوا احتفالاتهم حتي عودتهم للمنزل ليناموا قريري الأعين، و كأنهم نسوا أو بالأحرى تناسوا ما قالته لهم عن اغتصاب أخيها لحُرمة جسدها و إبتزازه لها، هل هذه هي قيمتها عندهم بالفعل؟ مجرد غشاء؟ ليس هذا ما كانت تنتظره! ليست هذه هي المؤزارة التي كانت تنشدها! أو هذا الكنف الذي بغيت الاستكانة بداخله خوفًا من العالم، ليحميها! اللعنة عليهم و عليها و علي المجتمع، اللعنة على الواقع!
قامت زينب من مكانها و قد أبتل السرير من دموعها الشاكية البكماء و عدلت من ملابسها و قبل أن يخرجوا من غرفة الطبيبة لأخيها حمزة الذي ينتظرهم في الخارج شدت "زينب" كُم قميص والدها لتلفت إنتباهه لها و عندما نظر إليها همست له بدموعٍ تقطر من قلبها لا عينيها :
- ح.. حمزة.
جحظت عينا والدها و قال بتحذير خافت أسرى صاعقة كهربية بجسدها :
- ششش.. مش عايز اسمعلك حِس لحد ما نمشي من هنا و نروح بيتنا سمعاني.
و دفعها للسير أمامه و عندما خرجوا من الغرفة ابتلع "حمزة" ريقه و استقام ليسأل والده بشيء من الجدية :
- طمني يا بابا.
ابتسم والده و همس بعد أن قبَّل ظهر كفه و باطنها :
- الحمدلله سليمة زي الفل.. يلا نروح و انا بكرة هفهم منها قالت كدة ليه بس لما ترجع من المدرسة عشان تهدي شوية.
خرجت "زينب" خلف والدها ببطيء لا تشعر بقدميها، مازالت تشعر بلمسات الطبيبة علي جسدها، و مازالت تأتيها تلك الرجفة التي تسرى في عمودها الفقري كلما أحست بتلك اللمسات. تشعر بالانهاك و أنها علي حافة الهاوية و توشك علي السقوط و لن يلحقها أحد فمنذ لحظات اكتشفت انها وحيدة لا ملجأ لها سوى الله.
اقترب "حمزة" منها ليضمها إليه و قبل أن يقبل رأسها همس لها :
- ولا حركة.. اوعي تنسي اني لسه معايا الفيديو بتاعك.. و أظن انا في السليم و اللي قولتيه جه علي دماغك إنتي فالاخر.. مع إننا كنا بننبسط سوا يعني.. المهم يعني لينا حساب تاني لوحدنا عشان اللي انتي عملتيه ده.
فانهمرت دموع ظنتها نضبت و سقطت مغشيًا عليها فكل ما يحدث كانت أكثر بكثير من طاقة تحمل طفلة في الخامسة عشر من عمرها.
❈-❈-❈
- ندي؟.. يا ندي!..أنتي يابنتي؟
فاقت "ندي" من شرودها علي نداء "لورا" ثم ابتلعت ريقها في توتر خوفًا من أن تكون صديقتها قد قرأت أفكارها.. قالت "لورا" بتعجب من شرود صديقتها الذي يتكرر كثيرًا مؤخرًا :
- ايه يا بنتي روحتي فين؟
قالت "ندي" بارتباك و حركة حنجرتها تفضح توترها :
- مف.. مفيش انا هنا أهو.
- طب ها هتيجي معايا كورس الايطالي نجربه ولا ايه؟
تحمحمت و قالت و هي تبتلع ريقها للمرة التي لا تعرف عددها و هي تعبث في أشيائها التي أمامها حتي لا تواجه عين صديقتها :
- لا مش فاضية.. ما أنا قولتلك إني بدأت كورس ال French فيدوبك وقتي يكفيه plus مذاكرة المواد اللي علينا و تدريب السباحة.
رفعت "لورا" حاجبيها بتعجب و قالت بإستنكار :
- كورس French ايه اللي قولتيلي عليه؟! انتي مقولتليش علي الموضوع ده خالص.
- ما.. ما مسيو ناير هو اللي قالي عليه.. عشان يحسن مستوايا في المادة و كدة.
عضت "لورا" شفتها السفلية بعصبية و هي توميء ببطيء؛ فقد علمت الان ما هو سبب هوس صديقتها بتلك المادة، إنه أبيها كالعادة يتفنن في إفساد حياتها. أولا بتصرفاته المخزية تلك و أخيرا بمحاولاته لسحب صديقتها لطريق تجهله. و لكنها لا تعرف حل لذلك لذا ستبقي في دور المشاهد مؤقتًا حتي تتضح كل خطوط لعبته.
في نهاية طابق اخر بالمدرسة كانت تقف "لوچين" ممسكة هاتفها تتحدث ل"علي" و سألته بنبرة حزينة و هي تمط شفتيها بطفولية :
- يعني مش هشوفك الاسبوع ده؟
تأوه "علي" بدون إصدار صوت و هو يطهر جروح وجهه نتيجة شجاره مع صديقه و أردف :
- لا يا Babe مش هعرف والله.. بس هحاول برضو أشوفك مش هيأس.
عضت علي شفتها السفلي و قالت بحزن تحول لدلال و هي تشير لحدثٍ ما :
- امم طيب.. اه علي فكرة اللي عملته معايا و احنا مع بعض في الشقة.
توقف عن ما يفعله و ابتسم بخبث و همس :
- اه.. ماله؟
اغمضت عينيها بشدة غير مصدقة لقولها هذا ثم قالت بسرعة :
- مفيش حبيت بس اقولك انه عجبني اوي.
سرعان ما اغلقت الهاتف بينما علي الناحيه الاخري كاد "علي" ان يسقط من الضحك أرضًا و لكنه تمالك نفسه ليتصل بها مجددا و لكنها لم تجيب. كما أراد بالضبط و الآن يبقي خطوة اخيرة حتي تصبح تلك الغبية تحت سلطته.
في فصلٍ اخر كانت "تولين" تجلس بمِقعدها و تستند بخدها علي كفها تفكر في تلك الفتاة التي رأتها تبكي أمام "ناير" و لا تعلم لماذا تشعر بشيء اتجاهها أو أن تلك الفتاة تحتاج للمساعدة. بالرغم من علاقات "ناير" المتعددة بالفتيات بالمدرسة و التي يعلم عنها كل من في المدرسة بالفعل إلا انها كانت لا تتصور أن بإمكانه أذي إحداهن.. لا تعلم لماذا كانت مشاهدته مع الفتاتين كأنها ايقظتها من ثُبات اسقط هو عقلها به، و رُغم أنها لم تعطي له مساحة ليتعدي حدودها الشخصية إلا أنها تشعر نوعًا ما بالندم لأنها أعطت شخصية كهذه بعضًا من وقتها. ابتسم جزءٌ ما في داخلها بخُبث قائلا لها "كاذبة فقد أحببتي الأمر كثيرًا يا مهووسة الاضطرابات" فارتفعت الابتسامة إلي شفتيها حتي خرجت ضحكة قصيرة منها، و قد تذكرت أيام هوسها الشديد بالقراءة عن الاضطرابات الشخصية و الأمراض النفسية حتي كانت تتمني مقابلة أحد تلك الشخصيات التي تقرأ عنها، و ها هي قد قابلت أحدهم بالفعل. ربما في الوقت الخطأ و لكنها فرصة في النهاية ستستغلها لبناء شخصية في إحدي رواياتها الجديدة.
قاطع حديثها مع نفسها و فزعها ضرب "ناير" بيده علي المنضدة المتصلة بيد مقعدها قائلا بتهكم :
- ما أنتي كويسة أهو و بتضحكي يعني مش زعلانة مثلا ولا مكتئبة فمبترديش عليا.
تأفأفت و هي تستقيم دون رد و كانت ستسحب حقيبتها و لكنه امسكها قبلها فنظرت له ببرود و هي تمد يدها له ليعطيها أيها فابتسم نصف ابتسامة ثم علق الحقيبة علي كتفه و تحرك متجهًا لباب الفصل فركضت خلفه عاقدة الحاجبين و نادت عليه بغيظ :
- إنت!! .. مسيو لو سمحت!
و وقفت أمامه عند باب الفصل و هي تنهت من الغضب فضحك ضحكة قصيرة ثم سألها ببرود و ابتسامة :
- نعم؟
أجابته بامتعاض :
- بعد إذنك عايزة شنطتي.
أوما لها بالنفي و تأتأ بلسانه و هو يبتسم ببرود كومة ثلج فزفرت بحنق و ابتسمت ابتسامة صفراء و قالت بأخر ذرة خلوقة تمتلكها :
- بعد إذنك يا مسيو عاوزة شنطتي.
ضيق عينيه بتفكير ثم حرك رأسه مستفهمًا و هو يسأل :
- مقابل ايه ؟
- يعني ايه مقابل ايه.. بقول لحضرتك عايزة شنطتي.
مط شفتيه مفكرًا و همس بتساؤل :
- وانا بقول لحضرتك مقابل ايه.. بوسة مثلا؟
صاحت به "تولين" من جراءته :
- انت اتجننت ولا ايه.
- خلاص تسمعيني للاخر و هديهالك.. تمام؟
تنهدت و قالت بقلة صبر و هي تشبك يديها أسفل صدرها :
- تمام.. اتفضل.
أوما و زفر أنفاسه ثم أردف بجدية :
- البنت اللي شوفتيها معايا.
ضحكت بتهكم قائلة :
- اني واحدة فيهم؟
- اللي كانت بتعيط.
توقف قلبها عن العمل لثانية ثم عاد يخفق بسرعة من ذِكر تلك الفتاة ،بينما تابع هو بهمس متحيرًا :
- مكنتش بتعيط بسببي.. انا لما لقيتها بتعيط روحت اشوفها و بمجرد ما ناديت عليها هي اتخضت.
قاطعته بسرعة سائلة :
- اسمها ايه ؟
فحرك رأسه مستفسرًا و قال و هو يلمس شفته العليا بطرف لسانه :
- ليه ؟
قالت باستهزاء من مراوغته :
- شكلك متعرفش اسمها اساسا و كنت بتشوفها لله و للوطن كدة.
ابتسم ابتسامة جانبية خبيثة و اجابها بإيماءة :
- لا عارف.. بس هل إنتي متأكدة إنك فعلا مش بتغيري عليا.
قالت و هي تبتسم و تحرك رأسها بتهكم غير مصدقة تصرفاته المراهقه :
- الشنطة بعد إذنك.
اعطاها الحقيبة و هو يرحل و يقول مشيرًا بسبابته بتهديد :
- اتفضلي.. و ياريت تفكي ال Blocks اللي انتي عملاها عشان هعمل تصرفات هتزعلك مني و انا مبحبش ازعلك.
❈-❈-❈
في اليوم التالي لاحظت "تولين" تغيُب "ناير" من بداية اليوم و قد قررت البحث عن تلك الفتاة الصغيرة طوال فترة الاستراحة و في نهاية اليوم و لكنها تبدو متغيبة أيضا مما أثار الشك عند "تولين" أن يكن "ناير" كاذبًا و أن تكن تلك الفتاة متغيبة بسببه و لكنها فضلت الانتظار رغم احتراق روحها حزنًا علي تلك الفتاة بدون سبب وجيه فهي لا تعرف اسمها حتي.. جلست في دوامة تفكيرها علي كرسيها الهزاز المفضل بمنزلها حتي شعرت باهتزاز في جيب تنورتها المدرسية فاخرجت هاتفها لتجد رقم غريب أرسل لها رسالة علي أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي و مكتوب بها :
- مش تسألي عليا كنت غايب ليه يعني؟.. عموما هطلع انا اجدع منك و اقولك اللي كنتي عايزاه ،البنت اسمها زينب و في فصل 2A.. مستني المكافأة بتاعتي.. باي.
تأفأفت "تولين" من تصرفات هذا السيد المزعج، و لكنها في داخلها شكرت ربها فهي تمتلك معلومتين الان عن تلك الفتاة.. زفرت "تولين" و هي تطرق بأطراف اناملها علي ظهر هاتفها وقالت بصوت مسموع :
- ماشي يا ست زينب.. أما نشوف فيكي ايه!
❈-❈-❈
اقتربت "دلال" من ناير لتضع له الكمادات علي جبهته و هو نائم.. و بعد دقائق فتح عينيه ببطيء و هي تجس درجة حرارة جبهته بشفتيها فسألته بهمس و هي تمسد وجنته :
- عامل ايه دلوقتي يا حبيبي.
تمطى بجسده في مكانه و همس لها بخفوت و بغمزة خبيثة :
- تمام.. شكلك إنتي اللي عديتيني ليلة امبارح.
نظرت "دلال" خلفها تتأكد من أن "لورا" الجالسة معاها تمسك كتابها و "لوچين" نائمة علي الاريكة الملحقة بالغرفة، ثم همست و هي تعض علي شفتها السفلي بتحذير و تكتم ابتسامتها :
- بس عشان البنات.
أمسك يدها التي تمسد وجنته و قال قبل أن يضعها علي فمها :
- حاضر سكتنا اهو.
فضحكت "دلال" ضحكة قصيرة سعيدة بإستعادتها زوجها و طبيعته المرحة و المشاكسة، رفعت يدها من علي فمه و قالت و هي تداعب خصلات شعره بأناملها :
- اجهزلك الاكل؟
أومأ بالنفي و قال و هو يضع يدها علي حنجرته :
- لا زوري واجعني مش قادر اكل.
أشار لها أن تقترب و تابع بهمسٍ في أذنها :
- بس لو كنت قادر يعني كنت حليت بيك يا قمري
تلك المرة ضحكت ضحكة عالية ايقظت "لوچين" و نبهت "لورا" فنظر كلتا الفتانين لبعضهما بتعجب حيث حركت "لوچين" بعيون ناعسة، رأسها بإستفهام فمطت أختها شفتيها علامة علي عدم الفهم.. بينما قالت "دلال" من همس "ناير" المشاكس لها و هي تضحك :
- بس بقي
ضحك "ناير" ثم سعل فربتت "دلال" علي كتفه بحب فقال لها بمشقة و هو يعدل وضع رأسه علي الوسادة و هي تساعده :
- بس الفستان الأحمر كان تحفة عليكي.
ابتسمت بخجل ثم همست له و هي تمسد باطن كفه بيديها :
- لبسته عشان أنت بتحب اللون ده انا عارفة.
ابتسم لها "ناير" و رفع كفها التي تمسك بها بكفيها ليقبّل كلتاهما قبلات طويلة ممتنة قائلا :
- ربنا يخليكي ليا ياحبيبتي
❈-❈-❈
في اليوم التالي استمر غياب "ناير" عن عمله لمرضه و الذي أقلق ندي مما دفعها للذهاب إلي "لورا" لتسألها عنه بصراحة فأخبرتها الأخيرة بسبب تغيبه فتجرأت "ندي" و طلبت أن تحادثه في الهاتف مما أثار حفيظة "لورا" و لكنها لم تمانع أيضًا فاتصلت به و قالت :
- الو يا بابا.
ترك "ناير" الكتاب الضخم الذي يقرأه بجواره علي السرير، و خلع عويناته و هو يرد علي الهاتف :
- ايوه يا لولو.. انتي كويسة ياحبيبتي ؟
قالت "لورا" ببرود و ملامح ثابتة :
- انا تمام بس ندي عايزة تكلمك.
ارتسمت ابتسامة جانبية علي فم "ناير" و سرعان ما كان سينطق بأنها تحمل رقمه بالفعل لكنه رجح أنها ربما فقدته فأردف بنبرة عادية و هو يخلل شعره للخلف :
- طيب اديها رقمي تتصل عليا.
لا تعلم لماذا تعبيرات الخجل علي وجه صديقتها اثارت اشمئزازها فأضافت و هي تحدق ب"ندى" التي قضمت شفتها السفلية مما قالته صديقتها :
- حاضر.. وعلي فكرة سألت عليك إمبارح كمان.
قال "ناير" و هو يتمطع رغم بسمة الزهو التي لا تغادر فمه :
- ماشي ياحبيبتي.. انا هكلمها.. عايزة حاجة؟
- لا شكرا.. باي
أغلقت الإتصال مع والدها و اعطت "ندي" الرقم فذهبت "ندي" إلي ساحة فارغة و اتصلت علي الرقم و هي تعض شفتيها بتوتر و بمجرد أن أجاب قالت بسرعة :
- أسفة الرقم ضاع مني و اتكسفت اسأل بابي عليه.
فضحك "ناير" و هو يغلق باب الغرفة عليه حتي سعل و شعر بالألم في حنجرته مما اشعرها بالحزن فسألته بصوت خافت و هي تقضم شفتها السفلية :
- روحت للدكتور؟
جلس علي السرير و اجابها بتأتأة من لسانه و بسمته تتسع أكثر فأكثر.. فقالت بإنزعاج :
- ليه بقي؟
فضحك وقال بخفوت و بنبرة ظهرت بها ابتسامته :
- عشان مبحبش الدكاترة.
- طيب هتفضل تعبان كدة يعني و...
قاطعها بسرعة قاطعًا أنفاسها :
- وحشتيني.
تسارعت أنفاسها حتي استطاع هو سماعها بينما حل الصمت من جهتها فنادي عليها فهمهمت فسألها مجددا :
- سمعتي بقولك ايه؟.. بقولك وحشتيني.
ابتلعت ريقها و قالت بتقطع :
-مهو.. مهو انا مش عارفة اقول ايه.
- قوليلي وأنت كمان مثلا.
رطبت شفتيها بلسانها و قالت بسرعة لتوترها :
- طيب.. وحضرتك كمان وحشتنا كلنا هنا.. في الفصل يعني.
تأتأ بلسانه و قال و هو يمط شفتيه بحزن :
- لا كدة هزعل منك.
- ليه؟
همس لها بنبرة خبيثة تسللت لدواخلها :
- عشان انا مش هاممني باقي الناس.. انا عايز اوحشك انتي بس.
ابتلعت ريقها مغمضة العينين و زفرت أنفاسها و اسندت رأسها رأسها و يدها علي الحائط لتستجمع كل ما تبقي من ذرات الطاقة بجسدها لتستطيع مواصلة الوقوف و قالت لتنهي الحديث الذي سيفتك بها لا محالة :
- طيب أنا كنت بطمن علي حضرتك بس و..
- و ايه؟ عايزة تقفلي ولا ايه؟
أومأت بسرعة بالنفي و همست :
- لا مش عايزة انا مضطرة أقفل عشان الحصة.
- طيب يا حبيبتي مش هعطلك.. أشوفك بكرة.. باي.
- باي.
اغمضت عينيها و هي تشعر بالأرض تدور تحتها و أن قدميها كالهُلام لا تحملانها.
❈-❈-❈
نزلت "تولين" من فصلها لتبحث في فناء المدرسة عن "زينب" للمرة الثانية و استمرت في البحث حتي وجدتها بالفعل تجلس في ركنٍ ما معطيه ظهرها للجميع و متقوقعة علي نفسها.. يبدو أن "ناير" كان لا يكذب و يبدو أيضًا أن تلك الفتاة انطوائيه مثلها.. اقتربت "تولين" من "زينب" و علي بُعد مناسب منها نادت علي اسمها حتي لا تفزع و بالفعل انتفضت الفتاة نفضة صغيرة و التفتت بسرعة فاقتربت منها "تولين" علي مهلٍ و قالت بصوت خافت :
- انا اسمي تولين.. في سنة تالتة.. متخافيش مني انا مش هعملك حاجة.. انا عايزة أعرف بس مالك؟
فسالت دموع زينب في طريقهما المخطط علي وجنتيها و قالت بتشتت :
- انا انا مش عارفة.. انا..
اقتربت "تولين" منها اكثر حتي صارت المسافة بينهما نصف متر تقريبًا و أردفت بنبرة حانية أمومية لم تخرج من شفتيها سابقًا :
- انتي عايزة مساعدة مني صح؟.. قوليلي اقدر اساعدك ازاي؟
و كأن "تولين "ضغطت علي زر الإفراغ لمشاعرها المكبوتة فقررت البوح بحثًا عن المساندة، فهمست و الدموع تفيض من مقلتيها و قلبها :
- أخويا.. أخويا بيضايقني.. محدش مصدقني.
رطبت "تولين" شفتيها بقلق و قالت و هي تشير بيديها لتهدأ :
- اهدي.. اهدي و احكيلي بيضايقك بيعمل ايه.
فاض بها الكيل، و تغلب عليها اليأس فعزمت علي إخراج الكلمات التي نهشت صدرها و قلبها و هي تلفظها، و حررت الآلام والدموع من جديد :
- بيتحرش بيا.. أخويا بيتحرش بيا كل يوم.. و صورني و هيوري الفيديو لصحابه و هيفضحني.. بابا مش مصدقني.. بابا مش..
فتحت "تولين" فمها من الصدمة و سقطت ماساتها و قد كان ظنها صحيحًا؛ فليست تلك أول حالة تقابلها من زنا المحارم، فقد قراءت عن الأمر في المتصفحات مرات عديدة و لكن الواقع كان أكثر صدمة و ألم. كانت ستغوص في تفكيرها حتي لفت انتباهها تلك الصغيرة تكاد تنهار و هي تهمهم بكلمات غير مفهومة فاقتربت حتي جلست بجانبها و ضمتها إليها هامسة بأذنها :
- بس بس اهدي خلاص.. انا مصدقاكي.
شكت "زينب" إليها آلامها حتي شعرت بنغز في قلبها و هي تقول :
- بابا خدني و كشف عليا و لقاني بنت و..
وضعت "تولين" يدها عن فمها و تدفقت الماسات أكثر ليس من شعورها بالألم الذي غزا صدرها لكن من شعورها بأن ألم "زينب" لا يُحتمل.. كيف لتلك الصغيرة أن تتحمل كل ذلك وحدها!.. كيف يظلم المجتمع تلك الورود البريئة بعاداتهم المقيتة و أعرافهم السخيفة!.. ضمتها أكثر إلي حضنها و همست بتماسك حاولت جمعه من كل ذرات جسدها الذي يرتعش بالفعل الان :
- ششش انا مصدقاكي والله.
فبكت "زينب" بشهقاتٍ و أنينٍ و آهاتٍ عالية، بكت لعلها تفرغ من شحنات الحزن المخزنة بمُضغتها النقية العفيفة.. حكت لها علي ممارسات أخيها الشاذة و كم تشمئز منها و كم تؤلم قلبها، قصت عليها أقصوصة حزينة قصيرة تحكي عن معاناتها و خزلانها من أهلها الذين لم يكونوا أهلًا للدفء و الأمان. ربما ما قضتاه سويًا كانت مجرد دقائق و لكنها أخرجت معاناة شهر كامل تقريبًا. بعد أن هدأت "زينب" قليلا و سكنت في حضن "تولين" و هي تربت عليها بحنان و تحكي لها عن حياتها هي الأخري و عن الروايات الخاصة بها حتي حازت علي اهتمامها و استطاعت إشغالها قليلا، لمحت"تولين" ندي تسير وحيدة في الحديقة فأخرجت مفكرتها الصغيرة و كتبت ل"زينب" رقم هاتفها و أخذت رقمها و أعطتها اسم فصلها، و أستأذنتها في الرحيل لأمرًا هام فابتسمت "زينب" لأول مرة بصدق و شكرتها و توسلتها أن يظل الأمر بينهما و بالطبع وعدتها "تولين" بذلك.
توجهت "تولين" ل"ندي" ركضًا و عندما اقتربت منها خففت من سرعتها و وقفت أمامها حتي لاحظتها الأخيرة الشاردة.. قالت "تولين" بود حاولت إخراجه بصعوبة بسبب ما رأته سابقًا بين" ناير" و "ندي" و لكنها حاولت ألا تكون سطحية فهي علي علم بالاعيب ذلك المخادع و إستطاعته السيطرة علي عقول الصغيرات بالكلمات المعسولة :
- هاي.. انا تولين.
سلمت عليها "ندي" بيدها و قالت بابتسامه حلوة :
- هاي.. و انا ندي.
فجأة تغيرت ملامحها المبتسمة لأخري قلقة و سألت و هي تبتلع ريقها :
- مش إنتي.. ؟
قاطعتها "تولين" قائلة بجدية :
- ايوه انا اللي شوفتك مع مسيو ناير في ال Garden.
رطبت "ندي" حلقها ثم أردفت بسرعة و هي تحاول الفرار :
- طب عن إذنك.
وضعت "تولين" يدها كحاجز أمامها و قالت بنبرة جامدة :
- استني بس انا هقولك حاجة و همشي علي طول.
أخذت "ندي" نفسًا عميقًا و قالت بتردد :
- اتفضلي.
سحبت "تولين" بعض الأنفاس لصدرها ثم زفرتها و قالت شابكة يديها :
- ناير شخص مش كويس.. ابعدي عنه أو أقلها خلي فيه حدود بينك و بينه.
رفعت "ندي" حاجبيها و شبكت يديها أسفل صدرها قائلة بتعجب :
- تمام ممكن أعرف ليه؟
تنهدت "تولين" قائلة محاولةً لإقناعها :
- ما انا بقولك اهو.. هو شخص مش مظبوط و بتاع بنات و حوارات.
عقدت "ندي" حاجبيها ثم أردفت و هي تلوي شفتيها بوقاحة :
- انتي بتعملي كدة عشان يروق ليكي الجو معاه لوحدك يعني؟
ضحكت "تولين" بتهكم ثم أردفت هي الاخري :
- لا بعمل كدة عشان مصلحتك.
- ايوه اشمعنا انا يعني اللي بتقوليلها
زفرت "تولين" بسئم قائلة و هي ترحل من أمامها و تعلق حقيبتها علي كتفها كعادتها :
- بقولك ايه دي نصيحة عملتي بيها أهلا وسهلا معملتيش براحتك المهم إني عملت اللي عليا.
❈-❈-❈
بعد انتهاء اليوم الدراسي ذهبت "زينب" إلي بيتها فوجدت أبيها و أمها في استقبالها فتخطتهم و أغلقت باب غرفتها و بدلت ملابسها و استلقت علي السرير محاولة النوم ثم ابتسمت فجأة ابتسامة صغيرة متذكرة محاولة "تولين" لتهدأتها.. طرقات علي باب غرفتها محت تلك البسمة عندما تذكرت أنها مازالت حول هؤلاء القوم.. دخلت أمها إلي الغرفة و اغلقت الباب خلفها فتقلبت "زينب" علي جانبها و أعطتها ظهرها و سقطت ماساتها قهرًا متذكرة تلك اللمسات التي ذبحتها من الطبيبة.. جلست "أمها" خلفها علي السرير و وضعت يدها علي ظهرها فإبتعدت "زينب" بجسدها أكثر و فلتت شهقة من بين شفتيها سمعتها أمها فسحبتها من يدها إلي حضنها حتي طاوعتها "زينب" ثم تعالت شهقاتها و هي تشد علي ملابس أمها فسالت دموع الأم و ظل تمسد ظهرها قائلة لها :
- ششش بس محصلش حاجة.
تذكرت "زينب" لوهلة "تولين" و استمدت من ذكراها تلك القوة فابتعدت عن أمها بحركة خاطفة و جلست أمامها علي ركبتيها تحدثها و الدموع تسيل من قمريها المعتمين ،كالامطار الغزيرة.
- أنتو ليه مش عايزين تصدقوني؟.. ها مش سامعين أنا بقول ايه ليه؟
مسحت أمها دموع ابنتها بإبهاميها و أردفت برأس مائلة قليلا و قلب مكسور من حالة ابنتها :
- عشان اللي أنتي بتقوليه ده مش حقيقي يا حبيبتي.
أمسكت "زينب" يدي أمها تقسم لها و تستعطفها بدموع هاجرت وجهها من كثرتها :
- والله ما بكدب عليكو.. والله ما بكدب.
مسحت الأم علي شعر ابنتها بحنان و همست لها و عينيها تدمع بعدم تصديق لما تتفوه به صغيرتها :
- يا زينب يا حبيبتي انتي فهمتي غلط طبعا.. مستحيل حمزة يكون عايز يؤذيكي ياروحي ده اخوكي.. انتو ولاد بطن واحدة.
شددت "زينب" علي يدي أمها و تجاهلت كلامها كأنها لم تقله، ثم قررت البوح بما حدث لها مرة اخري لعلها تجدي و دموعها تتسابق.. و عندما لم تستجيب أمها أمسكت يديها تقبلها بنواح :
- ح.. حمزة معاه فيديو ليا مصورني فيه.. عريانة و ماسكه عليا.. أبوس ايديكو ابعدوه عني.. ابوس ايديكو.
سحبت أمها يديها بسرعة و كوبت وجه ابنتها و هي تشعر بأن الألم في قلبها يتزايد و أنه سيقف عما قريب و قالت و هي توميء بالنفي :
- لا يا زينب.. لا يابنتي.. مش حمزة ابني اللي يعمل كدة.. فوقي يا زينب.. فوقي يا قلب امك
فجأة دخل والدها و اقترب من السرير بسرعة و امسك كلا كتفيها يقول بنبرة قاسية :
- قوليلي مين اللي بيعمل فيكي كدة و متخافيش هجيبه.. والله لأجيبه و اجيب أجله.
أمسكت "زينب" يديه و قالت و هي تشعر بتشوش في رؤيتها :
- والله ما بكدب.. والله بقول الحقيقة.
رجها والدها بعنف فازدادت شهقاتها كأنها تختنق و لكنه لم يهتم و قال بنبرة تهديد :
- مش عايزة تقولي اسمه ليه انطقي؟.. طيب انا عارف انتي هتنطقي ازاي.
تركها و ذهب إلي غرفته ليأتي بحزامه من علي المشجب و عاد إليها قابضًا علي حزامه الجلدي فاستقامت امها بسرعة و اقتربت من تحاول منعه فدفعها علي الاريكة ثم اتجه ل"زينب" التي تكومت حول نفسها في وضعية الجنين و بدأ بجلدها.
قبل دقائق في غرفة "حمزة"...
- ايوه يا علي.. بابا بيزعقلها يا علي.. انا مش عارف اتصرف.
نفض "علي" رماد سيجارته ثم قال و هو يضعها في فمه مرة اخري :
- امسك نفسك كدة يا حمزة احسن هيشكوا فيك ياض.. ما قولتلك سيبك منها و خليك مع اي واحدة من برا.
سالت دموع "حمزة" و قال بحشرجة :
- انا بحبها يا علي.. بحبها اوي و عايزها.
ضحك "علي" بتهكم ثم قال بسخرية من ذلك الفتي الهاش :
- و اديك هتتقفش قبل ما تطول منها حاجة يا **.. اركز كدة عشان متروحش في داهية.. انت عارف طبعا اهلك لو عرفوا هيعملوا ايه.
سمع "حمزة" فجأة صوت صراخ والدته و أخته و قد خمن ما يحدث فقال بسرعة بقلق :
-علي اقفل دلوقتي.. بابا بيضربها.. سلام سلام.
- ولا استني اوعي تنطق بحاجة.. مش هيرحموك.
- حاضر ياعم سلام دلوقتي.
ركض "حمزة" حتي غرفة اخته فوجد ما خمنه، والده يجلد أخته بالحزام الجلدي خاصته و أمه تصرخ و تولول و تلطم علي خديها فأحاط والده من الخلف بسرعة فحاول والدها الفكاك منه بفرد ذراعيه و هو يصرخ عليه بأن يبتعد :
- ابعد يا حمزة.. ابعد بقولك.. أختك اتجننت خلاص.
- خلاص يا بابا عشان خاطري.. يمكن من ضغط المذاكرة بس.. ارجوك كفاية بقي.. يا بابا كفاية.
توقف الأب لاهثًا بينما الصغيرة تتكوم علي نفسها كجنين وافته المنيه قبل ولادته و لكن اهتزازها و انينها هو ما يثبت انها علي قيد الحياة.. نظر لها الأب بعينان مشبعتان بالخزي من حالها ثم ترك الجميع و خرج، فزفر "حمزة" اخيرا أنفاسه المكتومة ثم اكتشف ان وجهه مبلل بالدموع فمسحها ثم قرر الخروج من الغرفة غصبًا حتي لا تظهر لهفته عليها فيثبت كلامها.
❈-❈-❈
صعد ذلك الشخص الغريب الذي سبق زيارته لتلك الشابة التي تعيش بمفردها فاتصل الحارس ب"تامر" ليبلغه بحضوره :
- ألو.. تامر بيه نفس الراجل جه لتولين هانم تاني.
زفر "تامر" بعصبيه و قد عُكر مزاجه، فقال للحارس :
- تمام يا صلاح انا هتصرف.
في بيت تولين...
دقات علي باب شقتها جعلتها تجفف يدها و تترك المطبخ لتذهب لفتح الباب و عندما فتحته كانت صدمتها حيث السيد المزعج متوقف أمامها شابكًا يديه أسفل صدره ثم قال ببسمة :
- قولتلك هعمل حاجة هتزعلك و انا مبحبش ازعلك.
ثم دفعها برفق ليدخل لكنها وقفت أمامه لثانية ثم ادخلته حتي لا يراه أحد من سُكان المبني.. اغلقت الباب ثم دخلت خلفه لتجده يجلس بأريحية علي أحد مقاعدها الوثيرة و يشير لها بيده أن تجلس بجانبه فشبكت يديها أسفل صدرها و قالت بتهكم و هي ترفع خصلتها خلف اذنها :
- اتمني تكون الخدمة هنا عجبتك.
تعالت ضحكاته اللزجة ثم قال بنبرة ذات مغزي و هو يغمز بعينيه :
- تحفة.. انتي مش متخيلة عجباني ازاي.
ثم استقام و وقف أمامها فلم تغير موضع وقفتها و ظلت ثابتة بجسارة يعشقها فمد يده يرفع خصلتها التي تستمر في استفزازه و السقوط علي وجهها الحليبي البشرة فنفضت يده و ابتعدت للخلف و صاحت به و هي تشير بسبابتها بتهديد :
- انت اتجننت ولا ايه.. اوعي تفكر تلمسني تاني انا بحذرك.
فاقترب منها بسرعة ثم امسك رسغها يرفع يدها لفمه ليقبل إصبعها فصرخت به و ابتعدت عنه متجهه لباب الشقة لتنادي علي الحارس لكنه قيدها من ظهرها فحاولت الافلات لكنها فشلت و ظلت تقاوم حتي قرب فمه من اذنها يهمس لها و هو يضحك :
- بتهربي مني ليه.. انا مش بحب البنات المقفلة اللي بتتكسف علي فكرة.. و اظن انتي مش منهم.. انا عارف انتي حاسه ناحيتي بإيه، و المفاجأة اني ببادلك نفس المشاعر علي فكرة.
ضحكت بتهكم و هي تخدشه بأظافرها و تحاول الفرار من قبضته قائلا :
- ايه بتكرهني زي ما بكرهك، ولا مش بتطيقني و بتحتقرني زي ما بحس اتجاهك؟
تغيرت ملامحه فجأة و دفعها للأمام تاركًا إياها تكاد تسقط ولكنها تحاملت و تماسكت فاعتدلت في وقفتها و نظرت له بعينين يطل منهما شرارة الكراهية، و في ظل تحدي النظرات هذا فُتح باب الشقة و دخل "تامر" الذي بمجرد دخوله شمر ساعدي قميصه و قال و هو يقترب من "ناير" :
- ايه اللي جابك هنا؟
تخصر "ناير" باحدي يديه و أجاب بصراحة و بسمة جانبية انقلبت لعقدة حاجبين :
- جاي اشوف تولين.. انت اللي مين؟
وصل "تامر" ل"ناير" و بمجرد سماع سؤاله اجابه بفمه و قبضته التي سقطت علي وجه "ناير" و كانت مزينة بخاتم كبير تسبب في جرح شفتاه :
- انا اخوها يا **
سقط "ناير" ارضًا فانقض عليه "تامر" يكيله اللكمات في وجهه حتي كسر انفه تقريبا و ناير يحاول دفعه بكل طاقته و لكن اختلاف بنيه كلا منهما لم تكن في صالحه.. فأحاطت "تولين" ظهر اخاها تحاول تهدأته و هي تهدر قائلة :
- تامر لا.. بس يا تامر.. هيموت في ايدك كفاية.
قامت و ضربت أخيها بجانبه بقدمها كما تدربت سابقًا فسقط علي جانبه متألمًا ثم سحبت ناير من يده تساعده علي الوقوف و تدفعه ليخرج و لكنه كان يريد العودة لرد ما أخذه من لكمات لكنها صرخت به ليذهب و عندما ذهب اغلقت الباب و عادت بسرعة لتطمئن علي أخيها و تساعده ليستقيم.. بداخلها تريد شكره لأنه و لأول مرة يكون ذو فائدة في حياتها و لكنها مع ذلك تستطيع تخمين القادم الذي ما كان إلا صفعه إياها و دفعها لتسقط أرضا قائلا بسخط :
- اجهزي عشان رايحين لأبوكي.
❈-❈-❈
أسفل بناية "تولين" كانت تقف "لوچين" خلف احد السيارات و خلفها "علي" يحيط خصرها و يقبل رقبتها و هي تحاول إبعاده و الاستمرار في مراقبة أبيها بتركيز فقالت له بهمس و هي تبعد يديه الذي تريد تلمس مفاتنها :
- علي اتلم.. انت جاي معايا عشان تساعدني علي فكرة.
ذم شفتيه بطفولية ثم قال مفسرًا :
- بس انا بحبك علي فكرة.
- و انا كمان والله بس مش وقته.. ركز ماشي يا حبيبي.. ركز بقي.
نزل "ناير" من المبني و ركب سيارته و جلس داخلها يمسح الدماء عن أنفه و فمه فشهقت "لوچين" عندما رأت أبيها بهذه الهيئة المزرية فكمم "علي" فمها حتي لا يسمعها أحد ثم قيدها حتي لا تذهب لأبيها كما تريد و قد دمعت عيناها حتي سالت دمعاتها علي كفه المكمم لفمها غير مصدقة لما يحدث لأبيها و لا تعلم أنه الجاني و ليس المجني عليه.
❈-❈-❈
- درجات ال Maths وحشة اوي يا نودي و بقيتي مش بتصلي زي الأول و مشغول بالك علي طول.
قالها السيد "عزمي" لندي التي تجلس بجانبه علي الاريكة، فشبكت أصابعها و قالت بلجلجة :
- انا.. فيه حاجة كنت عايزة احكي لحضرتك عليها.
ابتسم السيد "عزمي" من صدق ظنه فصغيرته أتخذته ملجأ كالعادة و ستقص عليه ما تخفيه من مشاعرها، جذب يدها و ضمها إليه قائلا :
- تعالي بس الأول كدة اقعدي في حضني و احكيلي كل اللي أنتي عايزاه.
ابتلعت "ندي" ريقها لترطب حلقها الجاف و همست بتوتر و خجل :
- انا بحب مسيو ناير.
قبل أن يبدي السيد "عزمي" اي رد فعل نادت عليهما زوجته من أجل الغداء فقال السيد عزمي بهمس و هو يغمز :
- طب بصي نتكلم في الموضوع ده بعد العشا تمام.
فأومأت "ندي" بابتسامة صغيرة سعيدة بتفهم والدها، و هي تنظر في الارض فقبل السيد "عزمي" رأسها ثم قام و سحب كفها ليذهب كلاهما لغرفة الطعام.
❈-❈-❈
دخل "ناير" من باب شقته فخرجت "دلال" لاستقباله فشهقت عندما رأت وجهه و أسرعت إليها تحاول لمس وجهه بأصابعها فأبعد يدها عن بعنف و دخل بدون حديث لغرفة النوم و منها لحمام الغرفة الداخلي ليخلع ملابسه فدخلت خلفه و أغلقت الباب و سألت بجمود :
- ايه اللي حصل.
أجابها ببرود و ثقل قائلا :
مفيش.. اتخانقت مع شباب كانوا داخلين عكسي بالعربية.
زفرت الهواء من فمها شاعرة بأنها علي وشك البكاء و أنهم عادوا للخلف مجددا و قالت بتلجلج :
- تمام.. تحب اساعدك في حاجة.
- لا شكرا.
دخلت من باب الشقة "لوچين" باكية و عندما قابلتها أختها اخبرتها أنها تشاجرت مع "علي" ثم دخلت لغرفة نوم أبيها و أمها بعد طرق الباب فوجدت أبيها فقط بالغرفة فأغلقت الباب خلفها فنظر "ناير" الذي كان يطهر جروحه في المرآة للخلف لثانية ثم تابع ما يفعله فقالت "لوچين" ببكاء و رأس مائل مستفسر :
- حضرتك كنت فين يا بابا؟
يُتبع..